وكان أرسطو - كما نعلم - هو واضع «المنطق» كما عرفه عصره والعصور التالية لعصره حتى عهد قريب، فكيف كانت «العقيدة» عندئذ فيما يختص بطبيعة الوجود؟ كانت «الطبيعة» عندهم طبيعتين: إحداهما هي هذه الأشياء التي تظهر من حولنا وتختفي، هي هؤلاء الأناسي، وأفراد الحيوان والطير، هي هذه الشجرات والصخرات والأنهار والبحار، هي هذه الشمس وهذا القمر وتلك الكواكب والنجوم ... تلك هي إحدى الطبيعتين، ولما كانت كائناتها - كما ترى - متغيرة متحولة، فهي طبيعة لا تصلح أساسا لعلم ثابت مكين؛ إذ العلم الثابت لا بد أن يكون علما بما هو ثابت كذلك.
وهنا يأتي تصورهم لطبيعة أخرى، قوامها «الأفكار» لا مفردات الأشياء، والأفكار إنما تتعلق ب «الأنواع» لا بالأفراد الجزئية، ففكرتنا عن «المربع» ليست مرهونة بمربع يرسمه تلميذ على ورق؛ لأن الرسم - مهما دق - فلن يبلغ حد الكمال في استقامة الخطوط واكتمال الزوايا، وإنما ترتهن فكرتنا عن المربع بتعريف عقلي له، نحدد به جوهره، وهكذا قل في كل شيء، فكرتنا عن «الإنسان» لا ينبغي أن ترتكز على ما نشاهده في فلان أو فلان؛ لأن هؤلاء الأناسي قد يتفاوتون كمالا، لكن ليس فيهم واحد نستطيع أن نقطع بأنه هو فكرة الإنسان في غاية كمالها، وإذن ففكرتنا عن الإنسان قائمة على تعريف عقلي له، نحدد به جوهر حقيقته، وهلم جرا.
وعلى هذا الأساس - أساس «الجوهر» - أقام أرسطو «منطقه»؛ لأنه هو نفسه الأساس الذي أقام عليه العلم عندئذ بناءه، وتستطيع أن تدرك الفرق بين ما هو «فرد» متغير وبين ما هو «جوهر» للنوع، بأن تقارن الأسماء التي نطلقها على الأفراد بالأسماء التي نطلقها على الأنواع، قارن بين قولي «معاوية» وقولي «إنسان»؛ الأول اسم لفرد، ولذلك لم يكن يمثل عندهم «فكرة علمية»، وأما الثاني فاسم لنوع، ولذلك فهو يتضمن فكرة علمية لأنه يتضمن تعريفا محددا لنوع بأسره.
من نقطة الابتداء هذه انطلق أرسطو يبين لنا كيف تتحد في أذهاننا تصوراتنا الذهنية عن الأنواع، ثم كيف تتدرج الأنواع في سلم هرمي تحت أجناس أعم منها، وهذه تحت أجناس أعم ... وهكذا، فإذا نحن أحكمنا هذا البناء الهرمي الذي يشمل جميع «الأنواع» وأجناسها، كنا بمثابة من أحاط بعلم الطبيعة كما هي قائمة في عالم الثبات العقلي، لا كما هي منظورة في جزئيات العالم الحسي، ومن تصوراتنا الذهنية عن الأنواع نستطيع أن نبني أحكامنا على حقائق الوجود، بأن نربط بين تصورين منها ربطا يثبت أحدهما للآخر أو ينفيه عنه، وكلما انتهينا إلى حكم صادق من تلك الأحكام، كان لنا أن نستدل منه أحكاما أخرى، وهكذا دواليك.
الذي أكسب المنطق الأرسطي قوته الجارفة التي مكنته من البقاء أكثر من عشرين قرنا، هو أنه يساير إدراكنا الفطري للأشياء، فنحن بالفطرة أميل إلى الاعتقاد بأن ما تقع عليه أبصارنا، أو أية حاسة أخرى من حواسنا، كالكرسي والقلم والفنجان والنافذة والسمكة والطائر والسحابة والشجرة، إنما هو ذو كينونة مستقلة قائمة بذاتها، وما علينا بعدئذ إلا أن ننتقل من الكرسي الفرد إلى الكرسي بالمعنى العام، ومن القلم الفرد إلى القلم بالمعنى العام ... وهكذا، فتكون لدينا «التصورات» التي نبني عليها علمنا بالوجود، وحتى إذا وجد الإنسان بين يديه ألفاظا تسمى كائنات مجردة، كالحرية والجمال والفضيلة وغير ذلك، فلن يرى في الأمر بعد ذلك عسرا حين يجريها في الطريق الاستدلالي الذي رسمه المنطق الأرسطي؛ لأنه لن يطالب ب «تحليل» هذه المعاني بحيث يردها إلى عناصرها الأولية، فما عليه - مثلا - سوى أن يقول: إن كل ما في الكون قد جاء على نظام جميل، وهذا الواقع الفلاني هو جزء من الكون، وإذن فلا بد أن يكون على نظام جميل، فإذا لم تكن عيني ترى فيه النظام الجميل فلأنها عين عشواء، أما أن يحلل المتكلم معاني «الكون» و«النظام» و«الجمال» فليس ثمة ما يحتم عليه ذلك في منطق الفكر القديم.
فماذا - إذن - عن المنطق الجديد؟ أرجو ألا يكون القارئ قد نسي الجانب الذي ركزنا عليه القول في الفكر الجديد، وهو أننا نلتمس حقائق الأشياء في طرائق بنائها، لا في «جوهر» أنواعها، أعني أننا نلتمس تلك الحقائق في «العلاقات» الرابطة بين الأطراف، أكثر مما نلتمسه في الأطراف نفسها المرتبطة بتلك العلاقات، وذلك نفسه هو شأن «الرياضة»، فأنت حين تقول أن: «2 +3 = 5» تقولها ولا تدري ما هي «الأشياء» التي سترتبط بهذه العلاقة الرياضية؟ هل هي برتقالتان وثلاث برتقالات؟ أو هي كتابان وثلاثة كتب؟ ولم يبعد برتراند رسل عن الصواب قيد شعرة حين قال بطريقته الخاصة في التعبير: إن الرياضي هو الرجل الذي لا يعرف عم يتحدث. وكذلك الشأن في المنطق الجديد: هو منطق ل «العلاقات» لا لحقائق الأشياء المتعلقة بها، وإذا أحكمنا بناءه، كان لك أن تملأ إطار تلك العلاقات بأي شيء أردت.
إنها لم تكن مصادفة عمياء في تاريخ الفكر المعاصر، أن ظهرت فكرة الوحدات الذرية في أكثر من ميدان، وعلى فترة قصيرة، ففي وقت واحد تقريبا ظهرت النظرية الذرية في الفيزياء، كما ظهر كذلك تحليل الكائنات العضوية إلى «خلايا »، كأنما الخلايا في البيولوجيا هي المقابلة للذرات في الفيزياء، ثم ظهرت بعد ذلك بقليل نظرية برتراند رسل في «الذرية المنطقية» وهي ما نعنى به بصفة خاصة في هذا الحديث.
فلقد كان معظم الخطأ في التفكير، ينشأ عن خلط الإنسان بين ما هو «فرد» وما هو «مجموعة» حتى كاد ألا يفرق بين قولنا «هذه الشجرة» و«الشجر» أو بين قولنا «عباس العقاد» و«إنسان»؛ لذلك كان إذا ما صادف جملة تتحدث عن مجموعات (والأكثرية العظمى مما يقوله الناس أو يكتبونه هو عن مجموعات لا عن مفردات) ظن أنها تتحدث حديثا مباشرا عن الأشياء الواقعة، مع أن هذه الأشياء الواقعة لا تكون إلا مفردات، فإذا جاء كلام المتكلم عن مجموعات، كان معنى ذلك أن كلامه هذا يحتاج إلى خطوة وسطى ترده أولا إلى صورة لفظية تشير إلى مفردات، قبل أن يتوافر لنا إمكان التقابل بين البناء اللفظي وبناء الواقع الخارجي، فافرض - مثلا - أني قلت لك جملة كهذه: «العرب روحانيون.» وأردت أن تفهم عني القول فهما علميا دقيقا، فأول ما تصنعه هو أن تحلل هذه الجملة التي يدور فيها الخبر حول «مجموعة» هي «العرب»؛ أي أن تحللها إلى قائمة من جمل يكون موضوع الحديث في كل منها شخصا عربيا واحدا يقع لك في مشاهداتك، وبعد أن تحلل المقصود من لفظة «روحاني» إلى عناصرها المكونة لها، عندئذ يكون بين يديك عبارات عن أشخاص بأعينهم يتصفون بصفات معينة، فيكون التقابل بين العبارة والحالة الواقعة تقابلا مباشرا، وبتعبير مختصرا: لا بد أن تحلل الكلام المجمل إلى «ذراته» لتتمكن من مراجعة كل ذرة فكرية على الواقعة المفردة التي جاءت تلك الذرة لتصفها، أما أن تترك الكلام على إجماله، ثم يخيل إليك أنك قادر على الحكم بصوابه أو ببطلانه، فذلك هو المنزلق الذي يؤدي إلى الضلال، وأهم ما نلفت إليه النظر هنا، هو هذا المعيار: إذا وجدت أن الكلام المجمل العام يستعصي على الرد إلى ذرات فردية في دنيا اللفظ وفي دنيا الواقع الذي يقابل اللفظ، فاعلم أن أرجح الرأي عندئذ هو أنك بإزاء كلام بغير معنى.
لعلك قد سمعت بما يسمى في عصرنا ب «المنطق الرياضي» (أو المنطق الرمزي)، بل لعلك قد سمعت كذلك بالاتجاه الجديد الذي بدأه رجال التعليم في أقطار كثيرة من أرجاء الأرض (وبينها بعض الأقطار العربية)، وهو أن يتخذ تدريس الرياضة صورة جديدة تختلف اختلافا واضحا عن الصورة التي ألفناها في المدارس، وهو اتجاه جاء نتيجة مباشرة للمنطق الجديد الذي نتج بدوره عن اللفتة الفكرية الجديدة في عصرنا الراهن.
وخلاصة هذا الاتجاه هي أننا قد كشفنا آخر الأمر عن حقيقة مهمة، وهي أن تفكير الإنسان في حياته العادية وعن الأشياء المألوفة، إنما يجري - في أساسه - على أسلوب الرياضة في جريانها، لقد لبث الإنسان قرونا، يظن أن الفكر في مجال الرياضة له طريقته ورموزه التي نعرفها جميعا، وأما في الحياة المألوفة الجارية فقد تقول مثلا: «البرتقال أصفر»، فيكون قولك من نوع آخر لا يمت إلى الرياضة ورموزها بسبب، ومن ثم جاء المنطق الأرسطي القديم ليواجه حالات الفكر التي من هذا القبيل، بعبارة أخرى، كان الظن أن الرياضة إنما تهتم بدنيا «الكم»، وأما «المنطق» فيهتم بدنيا «الكيف».
صفحة غير معروفة