وبعد ذلك فلأنتقل بك إلى فكرة أخرى مما يميز العصر، لترى مرة أخرى كم من الناس حولك يقبلها بفروعها الظاهرة وجذورها الخافية معا، وكم منهم تكفيه ألفاظها على طرف اللسان، وأما أن تورطه في مضموناتها فدون ذلك خرط القتاد، كما كان قدماؤنا يقولون، وأعني فكرة «التغير» في مقابل «الثبات»، والتغير نسبي، والثبات مطلق.
الحق أنه خلال ما يقرب من قرنين من الزمن، بادئا من أوائل القرن التاسع عشر، وإلى يومنا الراهن، ودنيا الفكر بأسرها تدور حول محور جديد لم تألفه بهذا الاطراد وبهذا الإصرار، فيما مضى، ألا وهو محور «التطور»، والفرق بعيد عن ثقافة تقيمها على افتراض وجود الثوابت الأزلية الأبدية، وثقافة أخرى تقيمها على تطور لا يلبث على حالة بعينها حتى يتحول بها إلى حالة أخرى، ولقد كان افتراض الثوابت هو مشغلة الفلاسفة جميعا منذ نشأت على وجه الأرض فلسفة؛ وذلك أن هؤلاء الفلاسفة، كسائر عباد الله، نظروا حولهم فوجدوا تيارا دافقا من ظواهر ما تنفك تتحول وتتبدل؛ فألوان يتبع بعضها بعضا، وأشكال وطعوم، وكائنات تجيء وكائنات تذهب، وفصول تتعاقب، ونهار بعد ليل وليل بعد نهار ، إلى آخر هذا الخضم الهائل من ظواهر متغيرة، فسألوا أنفسهم: هل يمكن أن تكون هذه المتغيرات هي البداية والنهاية، والظاهر والباطن جميعا؟ ذلك عندهم محال، إذن فماذا يا ترى تكون الأسس الثابتة وراء هذه التحولات؟ وأخذ الفلاسفة يجيبون، وما زالوا إلى يوم الناس هذا يجيبون! كل بجواب يقترح به ثابتا يراه، أو عددا من ثوابت بحسب ما يرى، ثم أسموا هذه الثوابت «جوهرا»، وأما ما يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة فهي «أعراض» لذلك الجوهر، بل هم لم يتصوروا كيف يمكن أن نقول عن شيء إنه تغير، دون أن يتضمن هذا القول افتراضا بأن له جانبا ثابتا هو الذي طرأ عليه ذلك التغير، كأنما هو ينضو ثوبا ويرتدي ثوبا، أما هو فهويته ثابتة لا تتغير بما نضا وما ارتدى، ولقد جعل أرسطو أسسا للتفكير الإنساني، بغيرها لا يكون تفكير على الإطلاق، وأولها ما أسماه «قانون الهوية»، الذي يتصور عملية التفكير أمرا محالا إذا لم يكن هنالك هوية ثابتة لكل شيء، هي التي ندير عليها عملية التفكير هذه.
ولست أطيل؛ لأنها قصة شرحها يطول، وحسبي الآن أن أقرر أمام القارئ بأن الخلفية الثقافية والفكرية كانت دائما وعلى امتداد التاريخ تفترض للأشياء حقائق ثابتة، ثم تجيء عليها موجات الظواهر المتغيرة، وتنحسر لتجيء سواها، فإذا استطعنا أن نعرف هذه الحقائق الثابتة بما يحددها ويعين قوانينها كنا بذلك قد أمسكنا بناصية الطبيعة كلها، في هذه الحالة - وأرجو من القارئ أن يتأمل ذلك على مهل لأهميته - في هذه الحالة يكون «الزمن» غير ذي شأن في علمنا بحقائق الأشياء؛ إذ ماذا يكون شأنه إذا كان الجوهر الثابت لكائن ما، هو بحكم تعريفه «ثابت» على حالة واحدة، فكان ماضيه كحاضره، وكما سوف يكون في مستقبله؟ ماذا يكون شأنه لو عمر ألف عام أو ألف ألف أو آلاف الملايين؟ إنه «ثابت» على جوهر واحد، ولا يتغير عليه إلا ما يطرأ من ظواهر، والظواهر ليست بذات موضوع في إدراكنا للحق كما هو قائم من أزله إلى أبده .. أو هكذا كانوا يقولون؛ ولذلك كانوا يؤمنون بأن لمحة واحدة تدرك بها إدراكا صحيحا لما هو قائم في هذه اللحظة الحاضرة من مجرى الزمن، كفيلة لك - إذا أحسنت الاستدلال - أن تكر بها راجعا إلى الماضي كله، وتجري بها قدما إلى المستقبل كله، فتعرف منها وحدها - عن طريق الاستدلال - كل ما مضى، وكل ما هو آت! ولم لا وامتداد الزمن، طال أو قصر، لا يغير من حقيقة الأمر شيئا؟
هكذا كانت الحال حتى جاء عصرنا بتصور جديد وضع «التغير» مكان الثبات، وجعل «التطور» أساسا وحيدا تفسر على ضوئه الأشياء، ولا يكون تباين بين شيئين أشد من التباين بين ثقافتين؛ إحداهما تجعل سكونية الثبات والدوام أساسها، وأخرى تجعل دينامية الحركة والتطور أساسا لها، ومصدر التباين بينهما كامن في فكرة كل منهما عن حقيقة «الزمن»: أهو خط أشبه بالخط الهندسي، ليس بين أي جزأين متساويين من أجزائه فرق جوهري؛ إذ لا فرق بين طول مقداره سنتيمتر في أول الخط وطول آخر بالمقدار نفسه في آخر الخط؛ أي إن الطول نفسه لا يدل بذاته إن كان قد تقدم في ترتيبه من التعاقب أو تأخر، وهكذا قل في «الزمن» على ضوء هذه الفكرة: فإذا كان القرن طوله مائة عام مما نعرف، فلا فرق في الجوهر بين قرن زمني جاء في قديم وآخر جاء في حديث، أم أن الزمن طبيعته ليست هندسية رياضية على هذا النحو، لكنها أقرب شبها بمخروط يتسع كلما استطال، وفي هذه الحالة يكون الفرق كل الفرق بين طولين متساويين تأخذهما من موضعين مختلفين؛ لأن أحدهما سيكون أغنى حصيلة من الآخر وأوسع أفقا.
هذا التطور المخروطي للزمن إنما يكون إذا ما تصورنا العالم متطورا ناميا، فهو الآن أغزر حياة منه في أي عهد مضى، وسوف يكون في مقبل الزمن أغزر حياة مما هو الآن، هذه واحدة، والأخرى هي أن الفكرة القديمة كانت تلازمها فكرة أخرى، هي أن الأشياء لا تتحرك بدفعة داخلية فيها؛ ولذلك فهي تحتاج دائما إلى محرك خارجي يحركها كيف شاء، وأما الفكرة التطورية بمعناها السائد في عصرنا (هي ليست بهذا المعنى عند دارون) فيلازمها أيضا فكرة أخرى، وهي أن العالم مدفوع متحرك من ذاته، كالكائن الحي حين ينمو بحركة ذاتية منبثقة من طبيعته، ولك على ضوء هذا القول أن تراجع فلاسفة التطور المعاصرين، من أمثال برجسون ومورجان وألكسندر ووايتهد، ومن شئت، لترى كيف انعكست هذه الفكرة الجديدة في فلسفاتهم، وإذن فأنت مساير لعصرك ظاهرا وباطنا، إذا وجدت نفسك على استعداد كامل لقبول هذا التصور بكل ما يقتضيه من نتائج، وأقل ما يقتضيه هو استحالة أن يكون الماضي أكثر رشدا من الحاضر وأخصب فكرا وأهدى سبيلا، أما إذا وجدت نتيجة كهذه لقمة عسرة الهضم في معدتك، لا تميل إلى الأخذ بها وأنت مطمئن؛ فلك الخيار، ولكن اعلم في يقين أنك معاصر باللفظة وحدها، عتيق إذا قيس أمرك بمضمونها وفحواها.
لعل موضوع الحديث لم يغب عن أبصارنا؛ فنحن نزعم منذ بدايته أن الناس كثيرا ما يظنون بأنفسهم المعاصرة، مخدوعين بما يحيط بهم من أدوات هي من نتاج العصر، حتى إذا ما حللنا مواقفهم الفكرية، لا من حيث ما «يقولونه» باللفظ عن أنفسهم، بل من حيث ما نكشف عنه في خفايا نفوسهم، وجدناهم لا ينتمون إلى هذا العصر إلا بأوهن الأسباب، وأخذنا نضرب الأمثلة؛ فمن خصائص هذا العصر إيمانه بالتقدم، وما أهون أن يصف الناس أنفسهم بأنهم من أخلص المناصرين للتقدم، فإذا ما بينت لهم على أي النتائج تنطوي هذه الفكرة جزعوا وأنكروا! ثم انتقلنا إلى مثل آخر يتصل بأسس الأخلاق، فهل تقاس أفضلية الفعل إلى مبدأ توارثناه جيلا بعد جيل على أنه النموذج الأسمى، أو تقاس تلك الأفضلية إلى هدف يتحقق أو لا يتحقق دون أن نكبل أنفسنا بأفكار مسبقة، ها هنا أيضا قد نجد من الناس من يظنون بأنفسهم عصرية الروح، حتى إذا ما واجهناهم بهذه النسبية الأخلاقية، التي هي من معالم العصر، أخذهم الفزع مما يسمعون، وبعدئذ عرضنا مثلا ثالثا، هو الانتقال من تصور الثبات المطلق لحقائق العالم إلى تصور التغير والتطور الذي يجعل كل حقيقة أمرا نسبيا مرحليا، ينسب إلى ما يؤدي إليه، وأوضحنا للقارئ بعض ما يترتب على هذه النظرة من رؤى عند مقارنة الماضي بالحاضر، على وجه الخصوص، وخيل إلينا أن هذا القارئ ربما أبت نفسه قبول هذه الرؤى. أمثلة تبين كلها كم منا لا يصلح لعصره بحكم تكوينه الفكري، مهما زعم أنه متجدد متطور مساير لحركة الزمن.
ولنضرب مثلا رابعا وأخيرا، هو تصور «الفردية» التي نود أن تتميز بها أشخاصنا وأوطاننا، فقد كانت الفكرة القديمة عن هذه الفردية أنها «ذات» مستقلة قائمة برأسها، حتى لو لم يكن في الدنيا سواها، وإنك لترى هذا التصور منعكسا في الفلسفة قديمها ووسيطها وحديثها على السواء (ولم أذكر المعاصرة منها لأنها تختلف)؛ فهذا هو سقراط يطالب الإنسان أن يعرف «نفسه» على ظن منه أن هذه المعرفة فيها مفتاح معرفته لسائر الأشياء؛ وذلك لأنك إذا أمعنت النظر في نفسك حتى عرفتها، عرفت بالتالي طرائقها في الإدراك، ومتى تظفر بالصواب، وكيف تزل في الخطأ، ومعرفة الإنسان لنفسه على هذا النحو لا تشترط أن يكون إلى جواره ناس آخرون، فهو وحده - كالجزيرة المعزولة - يمكن أن يستبطن ذاته من داخل، فيعلم ما يريد أن يعلمه، وذهب الزمان وجاء ديكارت بقولته المعروفة: «أنا أفكر، فأنا - إذن - موجود»، اكتفى بأن ينظر إلى دخيلة نفسه ليرى «الأنا» وهي تفكر، فجعل ذلك برهانا على وجوده، بل جعله أساسا لكل برهان سواه، ثم تبعه في ذلك ليبنتز، الذي أفاض القول في أن الذات الإنسانية - بل كل ذات مهما كان نوعها - هي كالذرة المصمتة، التي ليس لها نوافذ تطل منها على سواها، فهي في حقيقتها أقرب إلى شريط ملتف على نفسه، وما حياة الكائن الحي بعد ذلك إلا أن يبسط هذا الشريط شيئا فشيئا حتى ينتهي، وإذا خيل إلينا أن أفراد الناس يتبادلون الآراء وغيرها؛ ما قد يدل على أن بينهم صلات لا تكون إلا إذا كانت لديهم الوسائل التي يطلون منها بعضهم على بعض، أنبأنا ليبنتز هذا بأن ذلك وهم، فما التوافق الذي تراه بين فردين أو أكثر إلا كالساعات المضبوطة، كلها تدل على الزمن الصحيح دون أن يكون بينها «تفاهم»، ولا اتفاق بالتبادل.
صورة من فردية الفرد كان يسهل على الناس قبولها، وقد ظهرت في صورة أدبية أو فكرية كثيرة، فانظر - مثلا - إلى قصة روبنسن كروسو، وهو في فردانيته على الجزيرة المعزولة، وانظر في تراثنا الفكري العربي إلى ما تصوره ابن باجه في «تدبير المتوحد»، أو إلى ما تصوره ابن طفيل في «حي بن يقظان»، تجد تصويرا للفردية المستقلة بذاتها، بغض النظر عمن يحيط بها من آخرين، واتسعت فكرة الفردية هذه بعض الشيء لتشمل فكرة الإنسان عن قومه أو أمته، فكأنما هذا «القوم» أو هذه «الأمة» فرد ضخم متعدد الأعضاء، لكنه متميز كل التميز عن سائر الأقوام وسائر الأمم.
وجاء العصر الراهن بتعديل أساسي في هذا التصور لفردية الإنسان، وهو تصور انعكس بدوره في الفلسفة وفي الأدب، بل وفي مذاهب السياسة نفسها، وخلاصته أن الفردية القديمة ضرب من المحال؛ «فالأنا» لا وجود لها بغير «الأنت»، أعني أنك لكي تكون على علم بنفسك، لا مناص لك من مخاطبة سواك، فلئن قال سقراط «اعرف نفسك» فقد جاء عصرنا ليضيف إلى النفس سواها حتى يمكنها أن تعرف، فكان الأصوب أن يقال: «اعرف نفسك عن طريق معرفتك لسواك»، وإذا كان ديكارت يقول: «أنا أفكر فأنا موجود»، فقد قال له الفلاسفة المعاصرون (مثل هوسرل) تفكر في ماذا؟ فلا فكر إلا فيما عداه، وبالتالي فلا «أنا» إلا بسواها.
وسع هذا المعنى يكن لك اتجاه عصرنا في التصور «الجماعي» للفرد؛ فالفرد «عضو» لا مجرد فرد قائم بذاته، إنه عضو ينتمي حتما إلى جماعات مهما يكن نوعها، وبغير هذا الانتماء الضروري يفقد ذاته ويتيه في ضياع؛ ولذلك لم يعد انتماء الفرد إلى وطنه أو إلى أمته أمرا عرضيا له أن يختاره وله أن يرفضه، بل هو في صميم الصميم من وجوده، إذا تنكر له تنكر لحياته نفسها، وحتى إذا أصر على رفضه الانتماء لأمته، فعليه أن يبحث له عن مجموعة أخرى ينتمي إليها ، حتى إن كانت مجموعة غير مجتمعة في مكان واحد، كأن ينتمي إلى العلماء إذا كان صاحب علم، أو إلى رجال الفن، إذا كان منهم، أو إلى العمال إذا كان عاملا، أو إلى الشباب إذا كان في مرحلة الشباب ... وهكذا.
صفحة غير معروفة