أولئك هم علماؤنا، فما بالك بأبناء السبيل؟ ألا إن مضجع العلم الجاد خشن تحت جلودنا؛ ولذلك كان شرطا عليك إذا كتبت للصحف والمجلات ، أو أذعت في الناس حديثا، أن تكسو الحقائق العلمية التي تنوي عرضها على الناس بحشايا من ريش النعام؛ لئلا تتأذى أبدانهم اللينة، فعليك أن توهم الناس بأنك لم تقصد إلى العلم الجاف الكريه، وإنما قصدت إلى تسليتهم في أوقات الفراغ، وإذا لم تفعل ذلك فلا سبيل أمامك إلى صحافة أو إذاعة.
الرأي السائد فينا هو أن العلم يعوق مجرى الحياة، فليست وسيلتك إلى النجاح في أي ميدان تشاء: ميدان العمل، أو ميدان السياسة، أو غيرهما، هي أن تدقق، وإلا لما بلغت من الطريق أدناه، إن الساعات التي يصرفها الدارس العلمي في مشكلة واحدة من مشكلاته «النظرية» كفيلة أن يقفز بها «العمليون» إلى الذرى مالا وجاها وقوة .. أليس لكل شيء معيار يقاس به؟ والمعيار السائد بيننا هو: كم يعود هذا العمل المعين على صاحبه من نفوذ وسلطان وثراء؟ ولما كان الأغلب ألا يعود العلم على أصحابه من هذه الأشياء بمحصول وفير، كان لهؤلاء المنزلة الثانية في مجتمعنا، وذلك على أحسن الفروض.
الرأي الشائع فينا هو أن العقل بعلومه عدو للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة الوجدان، فسحقا للعقل ومناهجه ونتائجه، إنه إذا كانت المفاضلة بين رأس وقلب، فلا تردد في اختيار القلب، وهل هي مصادفة أن تجد منا ألف شاعر كلما وجدت عالما واحدا؟ إنه لما كثرت علوم الغرب وامتلأت الدنيا بأجهزته ومكناته، قلنا عنه إنه «مادي» لعين، وأما نحن بما نسبح فيه من ملكوت الوجدان، فروحانيون أنقياء وأصفياء، كأنما العلم من وحي الشيطان، وكأنما أجهزته ومكناته قد ركبها الأبالسة، وحذار أن تذكر أمامهم أن العلم الذي يتجلى في هذه الآلات هو «عقل» تجسد، أو هو روح ظهرت فيما أبدعته، ليصبح مشهودا، بعد أن كان كامنا خافيا، شأن كل خالق وخلقه، حذار أن تقول شيئا كهذا؛ لأن الروحانية في حسابهم يستحيل أن تتدلى إلى دنس الصفائح المعدنية، تنشرها المصانع، وتطويها طيارة أو سيارة، أو ما شاءت .. إن أغلب الناس حولنا هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء، قبل أن ينطق بها العلماء.
ذكاء العقل إذا توقد خشي الناس لعنته؛ لأنه نافذ إلى الأعماق، وهم يريدون أخذ الأمور ب «البركة» من أسطحها، لا من أعماقها، ولأنه يتشكك قبل أن يستقر على عقيدة، وهم يريدونها عقيدة خلصت من شوائب الشك والبحث، وكثيرا ما تسمعهم ينعتون مثل هذا الشك المتسائل المتقصي «خوضا» فيما ينبغي ألا يخاض فيه؛ إعمال العقل - عند الناس - مجلبة للشقاء؛ لأن الحياة - عندهم - تسلم زمامها إلى الذين يقبلونها كما ترد إليهم عن عمى وصمم؛ فذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم؛ لأن الشقاوة والنعيم يقاسان بمعايير البهائم؛ إذ هي تنعم أو تشقى بمقدار ما يصادفها من كلأ المراعي، إن كثرة الناس يؤذيها أن يكون الكون سائرا على قانون محكم، ويسعدها أن يكون هذا القانون ألعوبة يلهو بها أرباب القلوب الطيبة.
تلك وأشباهها هي الخصائص المألوفة في أوساط الناس من حولنا، وعلى غرار الأفراد تستطيع أن تتصور الدولة.
الفرق بين دفعة الغريزة (ونريد بالغريزة جانبي الشهوة والعاطفة اللذين أشرنا إليهما في التقسيم الأفلاطوني)، أقول إن الفرق بين دفعة الغريزة من جهة، وتخطيط العقل وتدبيره من جهة أخرى، هو أساس الاختلاف بين ما يسمى في الثقافة الغربية بالرومانسية من ناحية، والكلاسيكية من ناحية أخرى، وإني لأرانا - أعني الأمة العربية في حاضرها - على أساس هذه التفرقة غارقين إلى آذاننا في موجة رومانسية بكل ما في ذلك من خير وشر، لكني لا أدع هذا القول بغير تحفظ شديد؛ فأولا: قد شاعت لهاتين اللفظتين ترجمة عربية، فيقال عنها «الإبداع» (للرومانسية) و«الاتباع» (للكلاسيكية)، لكنني إذ أصفنا بالرومانسية فليس الجانب الإبداعي من معنى الكلمة هو ما أريد، وإنما أردت من معناها جانبا أساسيا آخر؛ هو الصدور عن العاطفة في الاتجاه وفي السلوك، لا عن العقل، وثانيا: أن من معنى «الاتباع» احتذاء الناس للأقدمين في الفكر وفي العمل، وليس هذا الجزء من معنى الكلاسيكية هو ما أردت نفيه بالنسبة إلينا؛ إذ إننا من ناحية اتباع الأقدمين كلاسيون إلى حد بعيد، ولكني أردت من الكلاسية جانبا أساسيا آخر؛ هو اهتداء الناس بالعقل وما يقتضيه من قواعد وقوانين.
نحن في حاضرنا الثقافي والعملي رومانسيون بمعنى الدفعة الغريزية والنفور من كل ما يحيط بالتفكير العقلي من ضوابط وحدود؛ فالرومانسية في جوهرها ضيق بالقواعد والقوانين، حتى لو كانت هذه القواعد والقوانين قد وضعت لضبط معايير الأخلاق ومعايير الفنون، فوسيلة الرومانسي في إدراك ما يدركه هي وجدانه لا منطق عقله، ما ينبض له قلبه هو الحق، واقذف في جهنم ما قد يمليه عليك منطق العقل إذا جاء مخالفا لما قد مالت إليه العاطفة، المنظر الريفي متروكا على طبيعته هو عند الرومانسي خير من مدينة تعج بظواهر الحضارة؛ وذلك لأن الريف هكذا جاء انبثاقة فطرية، وأما المدينة بحضارتها فمن نتاج العقل وعلومه، ولما كان المنظر الريفي أكثر ملاءمة للشاعر، وكانت المدينة الصاخبة أكثر ملاءمة للباحث العلمي، كان للشاعر عند الرومانسي أسبقية على رجل العلوم، وحسب الشاعر قيمة عنده أنه هو - دون الباحث العلمي - الذي يعبر عن الذات الإنسانية وما تختلج به من عاطفة وانفعال ورغبة؛ فذلك عند الرومانسي أهم من قوانين الفيزياء والكيمياء، ومرة أخرى أريد أن أتحفظ ببعض القيود على ما أوردته الآن؛ فما قد أوردته إنما يصف الرومانسي المخلص، الذي يصدر عن عقيدة صادقة لا يشوبها الرياء، الذي كثيرا ما يباعد بين القول والعمل، وأما الرومانسي العربي فهو قادر على هضم التناقض بين أن يكون شاعرا يتغنى بالطبيعة وهو على فطرتها، وبين أن يسكن في قلب الصخب الحضاري من المدينة.
وليست هذه أولى المفارقات التي يعيشها راضيا مطمئنا ولا هي آخر المفارقات، إنه لما حدث الانقلاب الصناعي في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأخذ الناس رويدا رويدا يهجرون الريف إلى المدن؛ استدبارا لعصر سادته زراعة، واستقبالا لعصر جديد تسوده صناعة، غضب الشعراء لهذه الظاهرة المحزنة في حياة الإنسان، وراحوا يصورون المصانع والآلات والمدينة بهوائها الخانق، وكأنهم يصفون شيئا أقامه الشيطان لغواية الإنسان، لكن هؤلاء الشعراء - في رومانسيتهم تلك - قد اتسقوا مع أنفسهم ورفضوا حياة المدن، وتشبثوا بالعيش في ريفهم الهادئ الجميل، وجئنا نحن اليوم - أعني المثقفين العرب - وأردنا لأنفسنا حركة رومانسية من ذلك القبيل نفسه؛ لنعبر بها عن شيء من الرفض الذي نحسه تجاه الحضارة الغربية الجديدة، لكننا لم نستطع التوفيق بين القول والعمل - شأننا في سائر جوانب الحياة حتى أصبح ذلك طابعا يميزنا تمييزا واضحا عن عباد الله الآخرين - فأشدنا سخطا على «مادية» الحضارة الغربية ربما كان أكثرنا انتفاعا بنتاجها، وأعلانا صوتا في الدعوة إلى جمال الريف وسكونه؛ قد يكون أعمقنا انغماسا في حياة المدينة بكل صخبها ووهجها.
وليس هذا التعارض بين العاطفة والعقل مقصورا على أصحاب الفن والأدب، ولا على عامة الناس في حياتهم اليومية، بل إنه ليظهر كذلك على مستوى الفكر الفلسفي، فترى كلا من الطرفين المتنازعين يكبح جماح الآخر إذا ما طغى وجاوز حدوده؛ فقد يوغل الناس ذات عصر في تحكيم العقل حتى ليذهبوا إلى حد عبادته وإنكار كل ما عداه، فعندئذ يظهر الفلاسفة الداعون إلى أولوية العاطفة، كما حدث حين ظهر جان جاك روسو، إبان القرن الثامن عشر ليقاوم عباد العقل من أعلام حركة التنوير في فرنسا، وكما حدث أيضا حين ظهر برجسون في عصرنا الحديث هذا، داعيا إلى أولوية الوجدان، ليصد موجة عارمة طغت على أوروبا خلال القرن الماضي، لتحمل الناس على الإيمان بالعلم وحده، والعقل وحده. والعكس صحيح كذلك؛ فقد يوغل الناس في التنكر للعقل، حتى تراهم لا يحتكمون إلا لما جاء عن غير مصدره من عاطفة أو عرف وتقليد، فعندئذ ينهض الفلاسفة الداعون إلى الحد من هذه الدفعة اللاعقلية بضوابط العقل ومناهجه، كما حدث حين ظهر ديكارت في فرنسا، وفرانسيس بيكون في إنجلترا، على مشارف التاريخ الحديث، وكما حدث أيضا عندما ظهر أوجست كونت في أواسط القرن الماضي ليصد تيار الرومانسية الذي أعقب الثورة الفرنسية، وشمل بأمواجه كل ميدان من ميادين الفكر والفن والأدب.
على أن طريقة العاطفة أو الغريزة في إدراك حقائق الأشياء، قد تأخذ عند الفلاسفة صورة يسمونها بالمصطلح الفلسفي «حدسا» ويقصدون به رؤية الحقيقة رؤية مباشرة كأنما هي تحدث بنور إلهي، أو بلمعة من الوحي، فإذا «حدس» الفيلسوف - أو أي إنسان من عامة الناس - حقيقة ما على هذا النحو المباشر، لم يكن من حقنا مطالبته بإقامة برهان على صدق ما يزعمه؛ لأن إقامة برهان تتضمن اعترافا بوجود فكرة أخرى ذات أسبقية منطقية، هي التي نستند إليها في إقامة البرهان، فإذا كان الزعم عن فكرة ما هو أن رائيها قد رآها بلمحة من وجدانه لمحا مباشرا، كما يحس المتألم الألم، أو كما يحس النشوان نشوته، تبع ذلك ألا تكون الفكرة المرئية موضع شك عند صاحبها بأي وجه من الوجوه، وألا يكون هنالك عنده ما هو أوثق منها يقينا، فيرتد إليه يقيم به الدليل على صدقها.
صفحة غير معروفة