رأيتها مرة في الحلم وفي يديها نسر ميت تقص جناحيه، فسألتها ما هذا النسر؟ قالت: هو قلبك أقص جناحيه اللذين يسعدانه على الطيران. لقد طالما سما هذا القلب إلى آمال في الحياة بعيدة كالنجوم، فما زال يعلو وجناحاه يساعدانه على الطموح حتى لمس بهما حاجب الشمس، لفحته النار فاحترق، فهوى إلى الأرض صريعا. أيها النسر، قد كان لك عن تلك الآمال مغنى ومنأى. لقد كنت في وكرك آمنا لفحات الحب، فلاحت لك الشمس بحاجب مضيء، فعزك منها ما عز اليهودي من ديناره فأصابك مصرع أهل الغرور.
رأيتها مرة وفي يديها زهرة زابلة تقطف أوراقها، فقلت لها: ما هذه الزهرة قالت: هي آمالك في الحياة قد خانها الحب كما يخون الخريف الزهور، ضننت بها على الشتاء فقطفت أوراقها واحدة فواحدة، تلك أوراق الربيع الفائت.
أيتها الزهرة، قد كانت لك في الربيع أيام كنا نستضيء فيها برونق منك غض، فالآن إذ ذهب الربيع لا معتب على الدهر فيك. هذه يد إليك حبيبة ضنت بك على غير رفيق، فنثرت أوراقك وفاء لذلك الزمن الفائت والعهد القديم. رأيتها مرة وفي يديها عقدة تحاول حلها فقلت: ما هذه العقدة؟ قالت: هي إيمانك بالحياة، عقدة لم تعقدها العزيمة فلا غرو إذا حلها اليأس.
إن بين الحب واليأس صلة، مثل الصلة التي بين الحب والأمل، فليس الأمل أقرب من اليأس إليه. الحب مثل الخمر، فالخمر حلوة مرة وكذلك الحب. أليس للخمر نشوة وللحب نشوة؟ أليس للنشوان صحو وللمحب صحو، فإذا أفاق المخمور من خماره، أحس ألما يذكره بسكرة أمس، وإذا أفاق المحب من خمار الحب بقيت في قلبه حسرة تذكره بالعهد الفائت والحب الذي مضى. الحب حيوان نصفه الأعلى حسناء كاعب، ونصفه الأسفل ثعبان.
رأيتها مرة في النوم كأنها نجمة الفجر تطل من سماء أحلامي، أو كأنها قبلة لذيذة طويلة صارخة ذات نغمة، مثل ضحك الحسان، أو كأنها قطرة من قطرات الندى، نائمة على أوراق زهرة ذابلة. أيتها القطرة الطاهرة إذا شئت كان لك من قلبي فراش، فإن قلبي زهرة الحب الذابلة الدامية. رأيتها مرة تحوك لي كفنا من الآلام وهي تنظر إلي نظرة أسف وحزن، وكأنها تقول: لا تلزمني جناية القضاء، أنا أمة القضاء، أتبع أمره ولا أرد له حكما. غير أني قد أخذت طرفة من الحكمة فتبعت قول أولئك الحكماء الذين يزعمون أن التسليم لحكم القضاء من شيمة العبيد. فينبغي أن تكون رغبة المرء وحاجته فيما يجيء به القضاء فيكون هو والقضاء سيان، لا لأنه قدير كالقضاء ولكن لأنه جعل إرادة القضاء إرادته.
فقلت لها: لا معتب عليك، إني أحبك حتى ولو كنت غير فاهمة ما تقولين، فضحكت كما تضحك الشمس فوق القبور، وكانت قد فرغت من نسيج ذلك الكفن، فوضعتني فيه وقبلتني - قبل أن تطويه - قبلة جمعت بين حلاوة النعيم ومرارة الشقاء، فكانت كالحياة حلوة مرة.
تركتني يا حبيبتي بين ضحكة قاسية ودمعة قاسية، أردد نفسا أعمق من الأبد، أدفع الشكوى في نحر الهواء، لا أنيس لي غير سكون الفضاء وأنين الصدى، وذلك القلب الواهن الخفوق الذي أذوته الحوادث العاصفة كما يذوي الحر أوراق الغصون.
لم أنس إذ قبلتني وأنت في ساعدي فامتصصت روحي في قبلتك، كما يمتص الرضيع اللبن من ثدي أمه، ونظرت إلي وقد انعقدت في وجهك ابتسامة كلها حنان ودعابة، فوقعت لحاظك المصقولة علي وقوع قطرات الرحمة على النفس الصادية المجدبة، وفي عينيك هالة يرقص الحسن فيها، كما يرقص القمر على صفحة الماء، ثم تزايلت في الفضاء وقد بسط الليل أجنحته السوداء وصبغ الهواء بمداده، فبقيت - كما قال رختر: أنا والليل، ثم سمعت في القلب ضربات لم أدر أدقات الساعة أم نبضات قلب الدهر، أم هي ضحكاته من غرور الإنسان، أم هي تنعى إلى المرء نفسه، أم هي تذكرة بالموت وحث على التقوى ...؟
يا عدو الرحمة ما وقعت لحاظك علي إلا لتهيج للقلب شجوا، قد وأدت الحب في ريعان شبابه، ووقفت ترقص على قبره مرحا ودلالا، لا عتاب، أنت الذي أسلفتني الأمل وأنت الذي سلبتنيه، والأمل كالحرباء كثير الألوان.
الذكر والأماني
صفحة غير معروفة