أحلام الشباب
الذكر والأماني
وقع الأقدام
كلمة
نظر الشاعر إلى الطبيعة
رسول الأمل
الإيمان بالحياة
الذوق
رداء ولا رداء
تقديس النجاح
صفحة غير معروفة
الحياة واليأس
أغلاط الحقائق
المثل الأعلى
الصيف
جنة الأدباء
قتلى المظاهر
عصور الانتقال
على ظهر البحر
وصف البحر
أحلام الشباب
صفحة غير معروفة
الذكر والأماني
وقع الأقدام
كلمة
نظر الشاعر إلى الطبيعة
رسول الأمل
الإيمان بالحياة
الذوق
رداء ولا رداء
تقديس النجاح
الحياة واليأس
صفحة غير معروفة
أغلاط الحقائق
المثل الأعلى
الصيف
جنة الأدباء
قتلى المظاهر
عصور الانتقال
على ظهر البحر
وصف البحر
الثمرات
الثمرات
صفحة غير معروفة
تأليف
عبد الرحمن شكري
أحلام الشباب
احذر أن يكون أملك في صلاح الحب كبيرا، فإنه بقدر أملك من صلاحه يكون يأسك من فساده، وبقدر يأسك من فساده يكون جهلك جمال الحياة، فإذا أردت أن لا يغيب عنك جمال الحياة فاجعل أكثر حبك حنانا وعبادة للجمال، واحذر أن تجعله غاية، فليس الحب آفة، ولكن الاغترار به آفة الشباب.
وقصة الحب الخائب تمثل زوال آمال الشباب، فإن الشباب باب يطل على الأبد، إذا قربه صاحب النفس الظامئة إلى الكمال شم منه ريح الخلد، فأصابه داء الأبد فكان من مرضى الخلود، وإن إبلال المرء من ذلك الداء أشد على النفس منه، فإذا أصيب امرؤ بذلك الداء ثم أبرأته التجارب منه كان برؤه أوجع في النفس منه؛ لأن الحب يترك مكانه يأسا لا يمحوه شيء غير تعاقب الأيام، وقد لا يمحوه تعاقبها.
كل إنسان إذا بلغ الشباب وبلغ من التهذيب مبلغا زعم أن الحب فرض على كل مخلوق، وأن فيه برءا لما في هذا الوجود من الشر، ولا يزال يلتمس صلاح الكون بصلاح الحب، حتى إذا أكلت التجارب قلبه ونهشت لبه عاد ذلك الحب يأسا بعد أن كان أملا، فيفيق من حلم الشباب وكأنه ذلك الرجل الذي رأى أنه يعانق خيال حبيبته، فلما عانقه ذهب عن ذلك الخيال بهاؤه ورأى المسكين أنه يعانق رمة بالية.
إن عبادة الجمال تمنح المرء سعة في الذهن وتطلقه من رق التعصب لجانب من جوانب الحق، فإنها تريه أن للحق جوانب كثيرة، وأن أكثر الناس لا يرون إلا جانبا من جوانبه، ولكن واسع الروح الذي امتلأ روحه من حب الجمال وإجلاله، وامتلأ ذهنه من صور الجمال والملاحة، لا يقيد رأيه بجانب واحد من جوانب الحق.
إن عبادة الجمال تطلق المرء من عقال التحيز والغباء وضيق الذهن، وتفيض على روحه نورا يضيء له أسرار الحياة، وتفتح أبواب القلب لكل طارق من حسنات الطبيعة.
ورب أمة كان أفرادها يغذون أبصارهم برؤية الجمال ويغذون قلوبهم بعبادته، فكان للجمال بينهم سلطان على التناسل، فكانت تولد لهم أبناء حسان، وقد أذكرني هذا ما تفعله نساء الفلاحين في مصر، فإنهن يضعن في غرفة الحبلى صورة السفيرة عزيزة أو صورة خضرة الشريفة، ويزعمون أن الحبلى إذا أكثرت من النظر إليها أتى الوليد حسنا، ويقلن إن نظر الحبلى إلى الصور الجميلة يكسب الجنين شيئا من الحسن.
رأيت مرة في الحلم أني أحببت فتاة روحها واسعة كبيرة، فهي كالغابة سمت فروعها وأشجارها حتى أضللنا أعاليها في أعماق السماء، وإن من النفوس نفوسا غير محدودة بحدود الفكر، نفوسا لا نهاية لها، نفوسا يضل المرء أعاليها في أعماق الأبد، هذه النفوس مثل نفس من أحببتها، ثم صحوت من النوم فلم أر حولي غير نفوس أحقر من البق.
صفحة غير معروفة
رأيتها مرة في الحلم وفي يديها نسر ميت تقص جناحيه، فسألتها ما هذا النسر؟ قالت: هو قلبك أقص جناحيه اللذين يسعدانه على الطيران. لقد طالما سما هذا القلب إلى آمال في الحياة بعيدة كالنجوم، فما زال يعلو وجناحاه يساعدانه على الطموح حتى لمس بهما حاجب الشمس، لفحته النار فاحترق، فهوى إلى الأرض صريعا. أيها النسر، قد كان لك عن تلك الآمال مغنى ومنأى. لقد كنت في وكرك آمنا لفحات الحب، فلاحت لك الشمس بحاجب مضيء، فعزك منها ما عز اليهودي من ديناره فأصابك مصرع أهل الغرور.
رأيتها مرة وفي يديها زهرة زابلة تقطف أوراقها، فقلت لها: ما هذه الزهرة قالت: هي آمالك في الحياة قد خانها الحب كما يخون الخريف الزهور، ضننت بها على الشتاء فقطفت أوراقها واحدة فواحدة، تلك أوراق الربيع الفائت.
أيتها الزهرة، قد كانت لك في الربيع أيام كنا نستضيء فيها برونق منك غض، فالآن إذ ذهب الربيع لا معتب على الدهر فيك. هذه يد إليك حبيبة ضنت بك على غير رفيق، فنثرت أوراقك وفاء لذلك الزمن الفائت والعهد القديم. رأيتها مرة وفي يديها عقدة تحاول حلها فقلت: ما هذه العقدة؟ قالت: هي إيمانك بالحياة، عقدة لم تعقدها العزيمة فلا غرو إذا حلها اليأس.
إن بين الحب واليأس صلة، مثل الصلة التي بين الحب والأمل، فليس الأمل أقرب من اليأس إليه. الحب مثل الخمر، فالخمر حلوة مرة وكذلك الحب. أليس للخمر نشوة وللحب نشوة؟ أليس للنشوان صحو وللمحب صحو، فإذا أفاق المخمور من خماره، أحس ألما يذكره بسكرة أمس، وإذا أفاق المحب من خمار الحب بقيت في قلبه حسرة تذكره بالعهد الفائت والحب الذي مضى. الحب حيوان نصفه الأعلى حسناء كاعب، ونصفه الأسفل ثعبان.
رأيتها مرة في النوم كأنها نجمة الفجر تطل من سماء أحلامي، أو كأنها قبلة لذيذة طويلة صارخة ذات نغمة، مثل ضحك الحسان، أو كأنها قطرة من قطرات الندى، نائمة على أوراق زهرة ذابلة. أيتها القطرة الطاهرة إذا شئت كان لك من قلبي فراش، فإن قلبي زهرة الحب الذابلة الدامية. رأيتها مرة تحوك لي كفنا من الآلام وهي تنظر إلي نظرة أسف وحزن، وكأنها تقول: لا تلزمني جناية القضاء، أنا أمة القضاء، أتبع أمره ولا أرد له حكما. غير أني قد أخذت طرفة من الحكمة فتبعت قول أولئك الحكماء الذين يزعمون أن التسليم لحكم القضاء من شيمة العبيد. فينبغي أن تكون رغبة المرء وحاجته فيما يجيء به القضاء فيكون هو والقضاء سيان، لا لأنه قدير كالقضاء ولكن لأنه جعل إرادة القضاء إرادته.
فقلت لها: لا معتب عليك، إني أحبك حتى ولو كنت غير فاهمة ما تقولين، فضحكت كما تضحك الشمس فوق القبور، وكانت قد فرغت من نسيج ذلك الكفن، فوضعتني فيه وقبلتني - قبل أن تطويه - قبلة جمعت بين حلاوة النعيم ومرارة الشقاء، فكانت كالحياة حلوة مرة.
تركتني يا حبيبتي بين ضحكة قاسية ودمعة قاسية، أردد نفسا أعمق من الأبد، أدفع الشكوى في نحر الهواء، لا أنيس لي غير سكون الفضاء وأنين الصدى، وذلك القلب الواهن الخفوق الذي أذوته الحوادث العاصفة كما يذوي الحر أوراق الغصون.
لم أنس إذ قبلتني وأنت في ساعدي فامتصصت روحي في قبلتك، كما يمتص الرضيع اللبن من ثدي أمه، ونظرت إلي وقد انعقدت في وجهك ابتسامة كلها حنان ودعابة، فوقعت لحاظك المصقولة علي وقوع قطرات الرحمة على النفس الصادية المجدبة، وفي عينيك هالة يرقص الحسن فيها، كما يرقص القمر على صفحة الماء، ثم تزايلت في الفضاء وقد بسط الليل أجنحته السوداء وصبغ الهواء بمداده، فبقيت - كما قال رختر: أنا والليل، ثم سمعت في القلب ضربات لم أدر أدقات الساعة أم نبضات قلب الدهر، أم هي ضحكاته من غرور الإنسان، أم هي تنعى إلى المرء نفسه، أم هي تذكرة بالموت وحث على التقوى ...؟
يا عدو الرحمة ما وقعت لحاظك علي إلا لتهيج للقلب شجوا، قد وأدت الحب في ريعان شبابه، ووقفت ترقص على قبره مرحا ودلالا، لا عتاب، أنت الذي أسلفتني الأمل وأنت الذي سلبتنيه، والأمل كالحرباء كثير الألوان.
الذكر والأماني
صفحة غير معروفة
الذكر والأماني صنوان، لزا في قرن. غير أن باعث الذكر التعلق بما مضى، وباعث الأماني الرغبة فيما يستقبل، ومن أجل ذلك كانت الأماني أقرب إلى خاطر اليافع وأحب إليه من الذكر؛ لأن عيشه مقتبل، ولم يزعجه - مما تقع به الحوادث الكارثة - ما يخفض من غلواء طموحه وتعلقه برغائبه. أما الشيخ الهرم فقد لقي من الطارقات ما تركه فقير الأماني غني الذكر، والأماني إذا استثيرت كانت كالنار يتبع شبوبها خمودها، وإنما يستثيرها الطموح.
إن كل أصناف النعيم الزائل تثير الذكر الغر فينبعث اللسان بالكلم الرقيق، فهو تارة يناجي الزمان الخالي وينشد فيه لذاته، وتارة يتوجع من فقدانها، وتارة يسألها الرجوع إلى ما عهد منها، ألا يجول بخلدك إذا قرأت قول ابن زريق:
بالله يا منزل القصر الذي درست
آياته وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه؟
أن تلك الليالي وذلك الزمان الذي عمرته لذاته، قد صار جزءا من نفسه وشيئا من حبة قلبه، فهو لا يستطيع أن يكون بمنأى عنه، وليس هو براغب في ذلك، ولكنه لو رغب ما وجد إلى رغبته سبيلا، وكيف يمل صحبته وهو خلاصة حياته وأحق شيء منها أن يفدى من سلطان النسيان.
على أن الذكرى لا تكون إلا بعد سطوة من سطوات النسيان، فإذا كان النعيم الخالي حاضر الذكرى في ذهن المرء، لم تكن ذكراه خليقة أن تدعى ذكرى، وفي مثل ما نعني يقول الشريف الرضي:
وقال تذكر هذا بعد فرقتنا
فقلت ما كنت أنساه لأذكره
صفحة غير معروفة
وهناك نوع آخر من الذكر لا يكون إلا إذا كان المرء في حال بينها وبين تلك الحال التي وقع له فيها النعيم الزائل صلة، فإذا أسعده في ليلة الاثنين مثلا ذكر هذه الليلة حين تعود في كل أسبوع، وفي مثل ما نعني يقول ابن المعتز:
يا ليلة نسي الزمان بها
أحداثه كوني بلا فجر
باح الظلام ببدرها ووشت
فيها الصبا بمواقع القطر
ثم انقضت والقلب يتبعها
في حيث ما وقعت من الدهر «يعني بقوله: وشت فيها الصبا بمواقع القطر؛ أن القطر إذا وقع على الأزهار ذات الرائحة الطيبة أخرج تلك الرائحة، فتأتي ريح الصبا تحملها إلى كل مكان، فكأنها تشي بالأزهار وتبيح سرها المعطار.»
الذكر نوعان: ذكر النعيم الزائل، وذكر الشقاء الزائل. أما ذكر النعيم الزائل فإنه يبعث ابتهاجا في النفس؛ لأن ذلك النعيم كان من نصيبها، ويبعث أسفا لأنه لم يدم لها، ويختلف مقدار الابتهاج ومقدار الأسف. أما ذكر الشقاء الزائل فإنه يبعث الابتهاج للخلوص منه، والأسف لأنه حدث والخوف من أن يعود.
الذكر أشباح وأرواح تعمر الخاطر الخرب فتثأر لذلك العهد الميت. أيها الزمان الخالي، أشد ما نعاني من ذلك الحجاب المنوع الذي تضعه بيننا وبين لذاتنا البائدة، وأحبابنا الألى ذهبت بهم حوادث الأيام كل مذهب، ولكنك لا تعلم أيها الغصوب أنك تحجب عنا أجزاءنا وأشياء من حنيات قلوبنا. على أننا نستعين بالذكر والأماني في إزاحة حجابك، وهي قديرة على إسعادنا.
متى إن تكن حقا تكن أحسن المنى
صفحة غير معروفة
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
الطموح يثير الأماني، وقد تثيرها الأشياء التي تذكر المرء رغبته كما قال الشاعر:
ولما نزلنا منزلا طله الندى
أنيقا وبستانا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه
منى فتمنينا فكنت الأمانيا
إن الذكر تثير الأماني، والأماني تثير الذكر؛ لأنك إذا ذكرت النعيم الزائل وددت أن تقع على مثله، فتهيئ لنفسك أسباب الطموح والبلوغ إليه. ثم إذا كنت تناجي الأماني كانت تلك المناجاة عاملا في تذكيرك بمثل أمانيك؛ أي بالنعيم الزائل.
إذا عمرت الذكر والأماني نواحي الخاطر كان كأنه معبد مقدس يبعث الإجلال والوقار والخشوع في النفس. أليس الذكر موصولا بالنعيم البائد وهو ميت، وأي نفس لا تخفض من جماحها وخلاعتها عند ذكر الموت؟
إن الإنسان إذا مات أقيم له تمثال يجعله متردد الحضور في الذهن كلما رآه الرائي، وكذلك الحادث إذا مات كان الذكر تمثاله الذي يستجلبه من قبر النسيان.
قال الشاعر شلي:
صفحة غير معروفة
النعيم إذا مضى استحال إلى ألم
يعني: أن الذكر يبعث الحسرة على فواته، ولكنها حسرة لذيذة رقيقة معسولة، تتمشى في الخاطر كما يتمشى النسيم البليل على وجه التعب.
ولم أجد أحدا شعر بتلك الصلة المتينة التي بين الذكر والأماني مثل ما شعر بها الشاعر العربي عنترة؛ حيث يقول:
ألا قاتل الله الطلول البواليا
وقاتل ذكراك السنين الخواليا
وقولك للشيء الذي لا تناله
إذا أبصرته العين يا ليت ذا ليا
لم يحمد الشاعر الطلول؛ لأنها تذكره بمن كان يعمرها، وبتلك الليالي والأيام التي قضاها في أحسن حال حين كان الخطب مأمون الطروق، مخفوض الجناح، ولم يحمد ذكرى السنين التي مضت؛ لأنها كانت لباس لذاته أيام كان وفاء الأصحاب والأحباب يسعده، أيام كان النعيم مضروبة قبابه عليه، أيام كان الحسود متعبا من حمل ثقل الحسد. ثم إن الشاعر لم يحمد في البيت الثاني الأماني لأنه يحسبها خدعة وعناء، ولكن من النفوس نفوسا تسكن إليها، وتتخذها علالة. أما جمع الشاعر بين الذكر والأماني فسببه عرفان أن الأماني تثير الذكر، والذكر يثير الأماني.
وقع الأقدام
وقع الأقدام هو شعر (بكسر الشين) الأرجل، فإن فيه من بلاغة التعبير ولطف التفهيم ما في نبضات القلب، ووقع الأقدام هو للأرجل بمنزلة تلك النبضات للقلب، فتارة يخفق القلب فرحا وتارة يأسا أو أسفا أو أملا، وكذلك الخطى؛ تارة تنم عن جزع وتارة تنم عن فرح أو أمل أو ندم أو جبن. أليست خطى الجبان في الميدان دليلا عليه؟ أليست خطى العاشق قصيدة من قصائد النسيب؟ أليست خطى الجازع تبين عن جزعه؟
صفحة غير معروفة
أرقت ليلة فجلست قرب النافذة وجعلت أتسمع وقعات أقدام المارة، وكنت أجد في سماعها لذة تلهيني عن الأرق، وكانت تحدثني أحاديث شتى عن يأس اتخذ الليل لباسا يضرب برجليه الأرض كأنه يريد أن تسكت وقعات خطى ضجيج اليأس في صدره، وعن العربيد الذي تحكي وقعات أقدامه أنشودة هوجاء مثل أناشيد الريح وقد أمالت الأغصان، والمجنون الذي تحكي وقعات أقدامه نبضات قلب المحموم، أو كأنها غلام أخرق، يضرب بالطبل، والآمل الطموح الذي يكاد لا يلمس الأرض، فتحكي خطاه خطى الراقص المرح.
والشاعر صاحب الخيال المستفز يكاد يسمع صدى وقعات أقدامه في عالم الخيال، ويخشى أن يخرق صداها قبة السماء، وصاحب الخيلاء الذي يحسب أنه يتصدق على الناس بخيلائه، والزمن الذي يسعى برجل عرجاء فلا تسبقه الريح، والأيام التي تحكي وقعات أقدامها دقات الساعة، وخطى الغيد تتلو على سمعك لحنا مهذبا شجيا كأنه أوزان الغزل والنسيب. أوما سمعت أيها القارئ وقع أقدام الموت في دار جارك، وقد حل به القدر المتاح فحكى لك قصيدة في الرثاء؟ أو أنين الريح، فقل لمن يرى ظلام الموت ولا يرى جماله: إن هذا الظلام الذي تراه هو لون أستاره، ودون هذه الأستار الجمال الجم؟
إن هذا الكون العظيم ليتلو على المرء في كل حادث من حوادثه الصامتة الناطقة نغمة من نغماته، هذا الكون قلب عظيم، نبضاته وقع أقدام الحوادث، كل نبضة منها تبلغ أقصى نواحيه فتخفق لها جوانبه كما تخفق الضلوع، والوجود دائرة ليس لها محيط، فإذا لمست أية نقطة منه كان لك أن تقول إنك لمست مركز الدائرة.
وأنت أيها القارئ، فيك تلتقي الحوادث الماضية من قديم الزمن، فيك تلتقي الدول والأمم، فيك يلتقي الشرق والغرب، فيك تلتقي الأنظمة والآراء، فهي طرق كثيرة تؤدي إليك. أنت أيضا مركز دائرة الوجود. أنت لولا الحوادث الماضية من سياسية واجتماعية وطبيعية، لولا الحوادث التي حدثت في هذا الوجود الذي لا حد له لما كنت كما أنت الآن.
أما سمعت أيها القارئ خطى الغيب يطرق من وراء حجاب فراعك سماعها، ولجأت إلى عمل ساعتك كي يلهيك عن سماع ذلك الطارق المهيب. الأقل لمحتقر الحياة الراغب عن عمل يومه، المشرئب بعنقه ليسمع وقع أقدام الغيب، أيها الراغب عن ساعتك ويومك وحاجة عمرك لم تتعرف ما لم يأتك به الغيب، أليس ذلك السحاب الذي وراءه الغيب والقدر إذا قاربك كان هو الغيب والقدر؟ لم يروعك المجهول من الحوادث. أليس المعروف منها أدعى إلى الروع من المجهول؟
إني ليخيل لي في بعض أحلام اليقظة أن الآخرة في مكان قريب من هذه الدنيا. فأكاد أسمع ضجيج أهلها، ووقع أقدامهم، فأرمي الفضاء باللحظات، كالمشوق الذي يحسب أن حبيبه على كثب، فأحسب أني أرى الآخرة بلحظاتي، فلا أرى غير هذا الناس.
ألم تنصت إلى الربيع القادم وقد بلغ الشتاء مبلغه؟
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
فسمعت وقع أقدامه وكأنه حسناء في ساقيها الخلاخيل، تسمع رنة أجراسها في تغريد العصافير، والصباح ألم تسمع وقع أقدامه؟ إنما الصباح أخو الربيع الأصغر قد عني به الربيع فعلق في ساقيه من خلاخيله تحببا إليه. ألم تسمع رنات أجراسها وقد صدحت الطيور في الفجر، وقد هب النائم من مضجعه، ورأى مطلع الشمس فحسب أن الكون يخلق مرة جديدة.
صفحة غير معروفة
زرت المقابر في ليلة من ليالي الشتاء، فخيل لي أني أسمع أقدام الموتى، فصرت أتلفت لأرى تلك الأقدام التي أسمع وقعاتها، ثم عوى الريح في زوايا القبور فحسبته أنين الموتى، فجعل الخيال المشبوب يملي علي وأنا أكتب:
ألا إن للموتى لصوتا كأنه
خرير المياه الجاريات على الصلد
ويحكي حفيف الغصن في لين وقعه
وطورا كأصداء الطبول على بعد
ويعول أحيانا كأعوال ثاكل
رمتها صروف الدهر في الولد الفرد
إنه ليخيل لي أن الأطفال يسمعون وقع أقدام الملائكة. ألم تر طفلا يصغي إليها فحسبته يصغي إلى غير شيء؟
ألم تسمع وقع أقدام الأفلاك في دوراتها؟ هل سما بك الخيال مرة بين الشمس والقمر والنجوم، فسمعت تلك النغمات الفضية التي تطلقها خطى الأفلاك في دوراتها؟ أم هل غبت مرة عن هذا الكون وجعلت ترخي للتفكير عنانه، حتى حسبت أنك كائن في غير هذا الكون، وقد خيل لك الوجود الذي لا جد له وهو يخطو في الفضاء فسمعت وقع أقدامه؟ آه! ما ألذ تلك السويعات التي يطلق المرء فيها من رق هذا الوجود، فيصير وجودا كائنا بذاته!
كلمة
صفحة غير معروفة
في الضحك والبكاء
قال الشاعر بيرون:
المرء أرجوحة بين البكاء والضحك
وإنما المرء ضحكة ودمعة، والحياة دمعتان، دمعة تراق عند البكاء، ودمعة تراق عند الضحك، والعاقل من جعل حياته ضحكة واحدة أو دمعة واحدة يريقها عند الضحك ويضن بها على البكاء، فيسكن البيت الضاحك المشمس، ويرغب في الصديق الضاحك.
الضحك عدو الهم، وكما أن القنبلة تبعث الوجل في قلب الجيش؛ كذلك الضحكات تفزع الهموم.
وأوجع البكاء بكاء الرجل. أما بكاء الغلام فقد لا يحز في قلبه، فإنه دامع العين ضاحك القلب. حدثني صديق قال: «بكيت مرة وأنا صغير، ولكني كنت مشغولا عن بكائي بالتفكير في غير شيء، ولقد بلغ بي ذلك التفكير الطائش منزلة لم أكن أعرف فيها أني أبكي.» أما الرجل فإنه إذا بكت عينه بكت عواطفه وبكى قلبه.
كل شيء في الوجود يضحك، فالرعد يضحك، والريح الهوجاء إذا أتت ضحكت، والخرير يضحك، والضوء يضحك، واللون يضحك، والحسن يضحك، والصديق يضحك، والزهر يضحك ، والربيع يضحك، فقد قال البحتري:
وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
والمشيب يضحك، فقد قال دعبل:
صفحة غير معروفة
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك المشيب برأسه فبكى
والأرض تضحك، فقد قال الشاعر:
تضحك الأرض من بكاء السماء
وإني أكاد أقول: إن الضحك بكاء والبكاء ضحك. ألم يضحك الإنسان في الشقاء؟ ألم يبك في النعيم؟ أما ضحكه من الشقاء فادعه - إذا شئت - الضحك المر، أو الضحك الباكي، أو الضحك الحزين، أو الضحك العابس، أو البكاء المتنكر، وأما بكاؤه من النعيم فادعه - إذا شئت - البكاء المشرق، أو البكاء الضاحك، أو البكاء العذب.
وللمعاني والأحوال ضحكات؛ فلليأس ضحكة، وللحقد ضحكة، وللأمل ضحكة، وللظفر ضحكة، وللحب ضحكة، ومن العظماء من نبه ذكر ضحكته وذاع صيتها، فإنهم يقولون في ضحكة الاحتقار: ضحكة مثل ضحكة بيرون، وفي ضحكة الأمل والاستبشار: ضحكة مثل ضحكة جيتي.
الغناء ضحك والموسيقى ضحك، غير أنه ضحك موزون مهذب شجي.
وإن لأحوال الحياة ضحكات، فالنعيم يضحك لأنه يخدعنا، والشقاء يضحك لأنه يشمت بنا، كذلك للحرارة ضحك وللبرودة ضحك، غير أن ضحك الحرارة مثل ضحك الشبان، وضحك البرودة مثل ضحك الشيب. ضحك الأطفال مثل تغريد العصافير، وضحك النساء مثل صوت الحلي، وضحك الرجال مثل صوت الرعدة، فالأول ينم عما يكنه من الطهارة، والثاني ينم عما يكنه من الرقة واللطف والحنان، والثالث ينم عما يكنه من الثبات والعزم. الرجال يلتذون الضحك أكثر من الأطفال لأنهم زاولوا مصائب الحياة، وكما أن الراحة أحسن ما تكون بعد التعب؛ كذلك الضحك أعذب ما يكون بعد مزاولة أمور الحياة، والرجال أقرب إلى الضحك من النساء لغلظ إحساسهم ورقة إحساسهن، فإن رقة الإحساس ثغرة يهجم الهم منها على الإنسان.
الضحك العذب خير من البكاء، وكذلك الضحك المر أفضل من البكاء المر؛ لأن في عنصر الأول شيئا من احتقار المصائب، وهذا أليق بالعزيز النفس وبه أبر، وإن في الناس من يضحك فتحسبه يبكي، ومن يبكي فتحسبه يضحك، وهذا أشقى الناس؛ لأنه لا يقدر أن يخلط نفسه بنفوسهم وشعوره بشعورهم، وإن من الناس من يستجلب منظره لآخر الضحك. كما قال المتنبي في كافور:
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
صفحة غير معروفة
ليضحك ربات الحداد البواكيا
ومن رحمة الله؛ أن المرء مهما كرثه الشقاء قادر على الضحك، فإذا تكلف الضحك خرج ضحكه سقيما فاتر الصوت مكذوبا، ولكنه إذا لج في هذا الضحك المكذوب الحزين انقلب ضحكا مجنونا غالبا لا سبب ولا حد له. هذا من رحمة الله بالناس.
نظر الشاعر إلى الطبيعة
في النعيم والشقاء
إذا كان لك من المقدار سلطانه الذي يصول به لم تقدر أن تمنع الشاعر من أن يفرغ ما يثور به صدره. أتحسب أن الغريد إذا ضمته أسلاك القفص كانت مانعة إياه الغناء العذب، أو أن الشقاء إذا حنيت عليه أضالع الأديب أسكته. إن البلبل إذا أطلق نغماته وهو آخذ بأطراف النعيم بين الأشجار والأنهار كساها الجلال جلبابه، ونشرت حولها الطلاقة هالتها. أما إذا جاد بها وهو في سجنه كانت كأنها لابسة حدادا، أو كأنها صوت المريض المودع عواده، فتثير عواطف الرحمة والخشوع، ويكون جمالها في هذه الحال مثل جمال السحب التي طرزت أطرافها أشعة الشمس الذهبية، فكأنها البرد الأسود المزركش، الذي يجمع بين اللون العابس واللون الضاحك.
قد ضمن المتنبي في نفسه من المرارة وسوء الظن بالناس ما يضمره كل من قصر عن إدراك آماله وأطماعه، ولكن تلك المرارة لم تكن داعية إلى إضعاف لذة التغريد، فإن من قيد البحث بنفوس الشعراء علم أن المرارة لا تمحو تلك اللذة، وإنما تكسبها ألما لذيذا، ولو أننا أردنا أن نصف جمال شعر الأديب البائس لما وصفناه بأبلغ من قولنا: الجمال الحزين أو البهاء العابس، فإنك إذا رأيت حسناء بلغ منها المرض مبلغا عرفت أن ماء الحسن جائل في أنحائها، ولكن الألم يكسبها رقة ولطفا غير رقتها ولطفها. كذلك نغمات الشاعر الذي تملكه الشقاء.
أليس عجيبا أن ذلك الشاعر الأبي ذا الأماني الضخمة الذي يقول:
وكل ما قد خلق
الله وما لم يخلق
محتقر في همتي
صفحة غير معروفة
كشعره في مفرقي
يعرف كيف يتودد ويتحبب إلى الأسد حيث يقول:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم
فتسكن نفسي أم مهان فمسلم
ورائي وقدامي عداة كثيرة
أحاذر من لص ومنك ومنهم
فهل لك في حلفي على ما أريده
فإني بأسباب المعيشة أعلم
إذن لأتاك الرزق من كل وجهة
وأثريت مما تغنمين وأغنم
صفحة غير معروفة
ألا يجول بخاطرك أيها القارئ أن قائل هذه الأبيات قد استعار براعة السياسي المدرب والسفير الحكيم رسول الصلح؟
إذا سمع الشاعر الحزين غريدا يرسل النغمات العذاب التي يخفق لها القلب خفوق الثوب في مهب الريح، زعم أنه ينوح من أجل شقائه، وإذا رأى الورد يقطر بالندى حسب أنه يبكي عليه، وإذا رأى النهر يتدفق قال: إن خريره من أنينه وماءه من بكائه، وإذا سمع الريح الهوجاء قال: إنها خلست هياجها وقلقها من هياجه وقلقه، وإذا عانق النسيم أوراق الغصن الزاهي حسب أنه استعار حنينه، وإذا رأى السحب ترخي على السماء سترا قال: إنها مقدودة من همومه وأحزانه. أما القطر فهو من آماقه والظلام حداد الليالي عليه، والنجوم جمرات أشجانه وأشواقه، ثم لا يبقي شيئا من أعضاء الطبيعة حتى يجعله من خدامه وأتباعه، مثل ذلك قول الشاعر الأندلسي:
علي وإلا ما بكاء الغمائم
وفي وإلا ما نواح الحمائم
وعني تطير الريح صرخة طالب
لثأر ويبدي البرق صفحة صارم
يا ابن آدم، أكثر أنانيتك وإعلاءك لشأن نفسك وإعجابك بها، وما أكثر غرورك وأنت الضئيل الحقير. إن للطبيعة وأجزائها لشئونا إذا استعرضتها لحق الهزال شأنك. تقول إن الطير يبكي على مصرعك وهو يتغنى بالغزل الرقيق، وتقول إن السحب مقدودة من همومك، وهي تملأ وجه السماء لترضع بناتها الأزهار من لبانها، فإذا شئت رأيت أن أجزاء الطبيعة ملؤها الجلال والحب والحسن والرقة، فكيف ترضى لنفسك أن تكون ملؤها الدناءة والقساوة والطمع، إذا كنت لا تستمد شرف النفس وجلالها من الطبيعة فدع هذه العروس مطمئنة في خدرها، ولا تفسد هواءها بأنفاسك الخبيثة ونظراتك اللئيمة، ولا تدنس أرضها المقدسة بقدمك التي لا تسعى إلا إلى إرضاء شرهك أو بغضك أو دناءة نفسك، فأنت كالحشرات التي ترود في جنباتها.
لقد كان القدماء أصدق منا نظرا في الأمور؛ لأنهم لم تتملكهم الأنانية كما تملكتنا، فزعمنا أن الطبيعة ليس لها حياة مثلنا. ألا يرى المرء في كل ورقة من أوراقها من المعاني أشياء كثيرة؟ أليس ذلك لأن لها حياة أجل من حياتنا التي ليس فيها من المعاني سوى الإحساس بعبثها؟ وسبب ذلك أن حياتها - بالرغم من تغاير أطوارها - مطمئنة، وأما حياتنا فهي أسيرة البغض والحسد واللؤم. انظر إلى الطبيعة ترى الأرض تعانق الضياء، والضياء يغازل الماء، والغصن يميل على الغصن، والموجة تتسرب في خلال الموجة. فهما أولى ببيت إسماعيل باشا صبري:
كأن صديقا في خلال صديقه
تسرب أثناء العناق وغابا
صفحة غير معروفة
ثم انظر إلى الناس تر كل فرد يرمي الآخر بعين من تلك العيون التي يقول فيها أبو تمام:
يرمونني بعيون حشوها شزر
نواطق عن قلوب حشوها مرض
أو التي يقول فيها البحتري:
وفي عينيك ترجمة أراها
تدل على الضغائن والحقود
لقد صدق البحتري، فإن العين لا تخفى معانيها، فهي تارة حشوها أمل وتارة يأس، وتارة حشوها حب، وتارة حشوها بغض، وغير ذلك من المعاني.
قلنا: إن القدماء كانوا أحسن منا نظرا في الأمور؛ لأنهم كانوا إذا نظروا إلى الطبيعة نظروا إلى حي جليل ملؤه المعاني البليغة، ومن أجل ذلك كانت تبعث في نفوسهم الإجلال والخشوع، أو الصبابة والاستعبار والحب، وكل هذه معان من معاني العبادة. فما أخلقهم بعرفان ما نجهله من أسرار العقيدة الصحيحة!
وقد اختلف الشعراء في نظرهم إلى الطبيعة، فكان الشاعر شلي يرى أنها وعاء للحب والعواطف الرقيقة.
أما وردز وارث فقد كان ينظر منها إلى تغير حالاتها واختلاف أنواعها، حاسبا أن ذلك صادر عن حسن تفكير. أما هومير الشاعر اليوناني فقد كان يرى في جلالها ما هو جدير بالتقديس والعبادة.
صفحة غير معروفة
وكان ولتر سكوت يرى في حياتها استقلالا عن حياتنا، وإنك لتجده في شعره يلحقها بغيرها من الأشياء ذات الحياة، وقد سلك البارودي في هذا الباب مسلكا حسنا حيث قال:
وإن مررت على الروحاء فامر لها
أخلاف سارية هتانة الديم
من الغزار اللواتي في حوالبها
ري النواهل من زرع ومن نعم
ألا ترى أنه جمع بين الزرع والنعم جاعلا شرب الحيوان مثل شرب النبات، وفي ذلك من شرف الخيال ما يستعصي على أولئك الشعراء الذين يتضاءلون أمام العظماء تضاؤل أعقاب لفائف التبغ في عين الشمس.
رسول الأمل
يقول الناس: إن رغبة المرء في الحياة تعظم إذا عظم النعيم وتقل إذا تضاءل، زاعمين أن النعيم هو الذي يربط المرء بالحياة ويرغبه في البقاء، ولكن هذا وهم، فإنه يربط المرء بالحياة روابط تختلف حسب اختلاف أزمان الحياة وأحوالها. ففي الصبا يربط المرء بالحياة روابط الأماني، فإذا تملكه الشقاء كان غير مباليه طموحا إلى ما يستقبل وانتظارا لمؤاتاة النعيم، وفي الرجولة يربط المرء بالحياة روابط السعي والعمل وانتظار نتيجة مساعيه والتذاذها، وإن المساعي لتكاد تشغل الرجل عن لذات الحياة، وهي التي تلتمس في الأهل والأصحاب والشعر والجمال والغناء. فيكون حاله مثل حال الرجل الذي يسرع في طريق ينبت على جانبيه الغرس الكريم والثمر الطيب والزهر البهي، فإن سائقا من الأمل يعجله عن أن ينعم بها رغبة أن يصل إلى ما هو خير منها. حتى إذا بلغ من الطريق غايتها لم ير غير أرض خلاء، ولو أحسن الإنسان نظره في أمور الحياة علم أن أفضل لذاتها ما يكتسب من الأهل والأصحاب والشعر والجمال والغناء، وغير ذلك من الموارد ذات اللذات الشريفة التي تعلو بالنفس عن الفناء في عبادة درن الحياة.
إني لست ناصحا للرجل أن يهجر مساعيه، وإنما أريد منه أن يقصر من غلواء اندفاعه فيها، حتى يقدر أن ينعم بلذات الحياة. أما إذا بلغ المرء من حياته منزلة الشيخ كان التذكر هو الذي يجعل له في الحياة رغبة؛ لأن كل شيء مضى منها قد صار جزءا من نفسه.
مثل هذه النفس مثل الطفل ذي الخلق الجامح، لا يهدأ حتى تضع في فمه قطعة من الحلوى، وكذلك النفس لا تروضها بأحسن من أن تغذيها بالأمل، ولو كان ممنوعا مصدره مخلوفا أكثره. غير أن أبهى وأعظم ما يكون الأمل إذا كان المرء في حال من أحوال الشقاء، فهو كما قال البحتري:
صفحة غير معروفة
كالكوكب الدري أخلص ضوءه
حلك الدجى حتى تألق وانجلى
قال الفيلسوف باكون: «الأمل يطيل الحياة إذا لم يكن مخلوفا في كل حادثة.» على أنه مثل الجلد إذا كنت في حال لا يتسع لها قدره أمكنك أن تطيله، وهو مثل الحبل الذي يربط السفينة إلى جانب المرفأ، والنجم الذي يهتدي به السائح، والأثر الذي يقفوه العربي، والسراب الخلوب، والدرع الحصين.
ويقول العامة: إن أولاد يعقوب لما رموا أخاهم السيد يوسف في الجب بعث الله له ملكا من الملائكة الكرام يتلقاه في أسفل الجب، وإني لأحسب أن ذلك الملك هو الأمل.
لم يجتمع في شيء من الأضداد ما اجتمع في الأمل، فهو جليل حقير، كبير صغير، قوي ضعيف، قادر عاجز، بل هو الطبيب الذي عنده لكل داء دواء، بل هو الحديقة التي تنبت أنواعا شتى من الأزهار والفواكه، بل هو البرق في السحاب، بل هو مقذاف في يد الغريق، والأمل مثل حجر الفيلسوف الذي يغير عناصر الأشياء، فإذا مس الحديد صار ذهبا، وكذلك الأمل إذا مس الشقاء جعله نعيما، وهو مثل المصباح ذي الدهن المعجون بالطيب يبعث نورا يستضيء به العقل، وحرا تصطلي به الضلوع الباردة من اليأس، ورائحة زكية تسري في أنف الناشق التعب، فكأنها أنفاس المسيح التي كان يحيي بها الموتى.
ولكن خليقا بالمرء أن يحذر الأمل من حيث يأمنه؛ لأنه إذا علق آماله بالمستحيل كان مثل الرجل الذي بنى بيتا على أساس ضعيف، فلما احتواه البيت تهدم فوقه فصار قبره.
على أن تأثير اليأس في النفوس يختلف حسب اختلاف طبائعها، فإنه يبعث الألم والشقاء في بعضها ويبعث الراحة والكسل في بعض.
إن بعض الناس ينصب لنفسه الأماني وهو يعرف أنها علالة، حتى إذا أخذت بلبه خادع نفسه، وجعل يتطلب تحقيقها ويذل عقله لسلطانها، فهو في هذه الحال مثل الوثني الذي ينصب صنما من عمله ثم يعيده، أو كالأمة التي تضع فوقها ملكا من صنعها حتى إذا استبد وطغى استذلت أنفسها له زاعمة أن له حق الاستبداد بها. على أنه لو لم يكن في الأماني إلا أنها إذا تعلل بها المرء الذي نزل به الشقاء خلقت لشقائه أجنحة يطير بها، لكفاها ذلك مقرظا لها.
إن الإنسان ليستضيف الشقاء بأن يأمل السعادة الكاملة؛ لأن مساعيه المهزومة تفتح عليه أبوابا وتجلب إليه ضروبا من الهموم، وإن رجاء المرء السعادة الكاملة مثل رجاء الغلام أن يقفز فوق ظله إذا رآه منبسطا أمامه.
على أن سعادة الإنسان موقوفة على سياسة الإنسان للأحوال التي تحوطه، قال أنطونينس: «إذا أردت أن تعيش سعيدا فكن أكثر شبها بالمصارع منك بالراقص، فإن ثبات الأول ينفعك من حيث تضرك خفة الثاني ورشاقة وقفته.» ولكني أقول: إن المرء في حاجة إلى الوقفتين - وقفة المصارع ووقفة الراقص - فينبغي له أن يتعرف الحال التي هو فيها ثم يلتمس الوقفة التي تنصره عليها.
صفحة غير معروفة