فتحابا وأنها حجبت عنه فداخله جنون وعلى كل الطرق لما عرف كل منهما ما عند الآخر وتمكنت المحبة منهما جعل يأتيها نهارًا قبل الحجب ويذهب ليلًا وفي ذلك يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني بالليل والهم جامع
قلت وقد تقدم أن البيتين لقيس بن ذريح وصرح في نزهة العشاق بذلك وقال أن المجنون كان يتمثل بهما وهذا هو الصحيح فإنهما كان متعاصرين حتى نقل في الأغاني أن قيسًا مر بالمجنون وهو في مبادي مخالطة العقل والانفراد وكان كل منهما يشتهي لقاء صاحبه فسلم عليه فلم يرد فعرفه بنفسه فقام إليه واعتنقه وتباكيا واشتكى كل إلى الآخر ما عنده فقال المجنون لقيس أن حي ليلى قريب فهل لك أن تبلغها سلامي فمضى حتى وقف بها ونسب نفسه فتعارفا وبلغها فأخبرته أن وجدها به أعظم، ولكن قالت أنا عاتبة عليه حيث يقول:
أتت ليلة بالغيل يا أم مالك ... لكم خير حب صادق ليس يكذب
إلا إنما أبقيت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
فأي ليلة كانت ومتى اختليت معه بالغيل أو غيره فقال لها لا تحمليه على ما تقول الناس فلم يرد سوأ وانصرف قيس ليخبره فلم يجده وكان المجنون عند أبيه أعظم منزلة من اخوته وكان أبوه ذا ثروة فدفع له خمسين بعيرًا وراعيها في مهر ليلى فلم يقبل أبوها مع أنه دونهم لما مر من أن العرب كانت تكره تزويج اثنين انتشرت أخبارهما بالمحبة فخيروها بينه وبين رجل اسمه ورد وهددوها على أن تختاره ففعلت كارهة وفي ذلك يقول المجنون:
ألا يا ليل إن ملكت فينا ... خيارك فانظري لمن الخيار
ولا تستبدلي منا دنيا ... ولا بر ما إذا حث القتار
يهرول في الصفير إذا رآه ... وتعجزه ملمات كبار
فمثل تأيم منه نكاح ... ومثل تموّل منه افتقار
وأبصر يومًا في طريقه إلى زيارتها جارية عسراء فتطير وأنشد:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جرى ... بجد القوى من ليل أعسر حاسر
صريع العصا جدب الزمان إذا انتحى ... لوصل امرىء لم تقض مه الأواطر
وشكا ذلك إليها فقالت لا بأس عليك والله لا اجتمعت بغيرك إلا كارهة وكانت قبل هذا القول قد امتحنته لتنظر ما عنده من المحبة لها فدعت شخصًا بحضرته فسايرته أو صرفت وجهها عنه إلى غيره ثم نظرته قد تغير حتى كاد أن يتقطر فأنشدت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضًا ... وكل عند صاحبه مكين
وفي رواية وكل مظهر في الناس وبعده.
وأسرار الملاحظ ليس تخفى ... وقد تغري بذي اللحظ العيون
وبهذين البيتين تظافرت الروايات وجاء في رواية:
وقد تغري بذي اللحظ الظنون
وبعده:
وكيف يفوت هذا الناس شيء ... وما في الناس تظهره العيون
فسر بذلك حتى كاد أن يذهب عقله فانصرف وهو يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضى إليه وصيتي ... ولا صاحب إلا المطية والرحل
محا حبها حب الأولى كن قبلها ... وحلت مكانًا لم يكن حل من قبل
وفي رواية ولا وارث المطية والأولى أصح وأنسب لأن المطية لا ترث وتستصحب كما جاء في كلام العرب:
إن الحمار مع الحمار مطية ... وإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأصل ذلك أن الصحبة في الأصل مجرد الاجتماع وأما شدة المخالطة والمداخلة فصداقة. وخرج يومًا في سفر مع قوم فأفضت به الطريق إلى مسلكين أحدهما يمر برهط ليلى ولكنه يزيد مرحلة فتقدم إلى القوم وسألهم أن يسلكوها أو يمكثوا له حتى يرجع فأبوا عليه فقال أنشدكم الله لو أن شخصًا تحرم بكم فضل بعيره أكنتم تسعفونه قالوا نعم فقال إن ليلى لأعظم من ذلك وأنشد:
أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذن لصبور
هبوني امرأ منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير
وللصاحب المبرور أعظم حرمة ... على صاحب من أن يضل بعير
1 / 45