{ إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا } أى الذى آتيتكم به { صراط مستقيم } آية أنه طبق ما قالت الرسل قبله، وقد هداه الله للنظر فى العقلية حتى انتج إن الله ربى وربكم الخ.. والساحر لا يقول بذلك، وليست بمعنى معجزة، وأما إذا قلنا جئتكم بآية بعد أخرى فمن العطف، روى الترمذى ومسلم وغيرهما هم سفيان الثقفى،
" أن رجلا قال: يا رسول الله، مربى بأمر فى الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم ".
[3.52]
{ فلما أحس } حصلت له ببعض حواسه المعرفة بكفرهم، أو تحتقاه كالمحسوس المشاهد كذبوه وأرادوا قتله، قيل: اشتد غضبهم عليه حين مر بامرأة تبكى عند قبر فيه ابنتها، فقال لها: ما لك؟ قالت: فى هذا القبر بنتى لا ولد لى سواها، فصلى ركعتين، فدعا، فنادى، يا فلانة، فتحرك القبر، ودعا فانشق، ودعا فخرجت، وقالت: اصبرى يا أماه، ما دعاك إلى أن أموت مرتين يا روح الله، ادع الله أن يوهن على الموت، فدعا، فاستوى عليها القبر، وهذا من كلام الله وقيل من كلام الملائكة، وفى الآية استعارة ما وضع لإدراك بإحدى الخمس، وهو الإحساس للعلم، استعارة أصلية واشتق على الاستعارة التبعية، أحس بمعنى علم، ولا يخفى أن ما أحس بإحداهن قد علم ولا بد فاطلق الملزوم وأراد اللازم، فيكون بهذا الاعتبار مجارا مرسلا، والمعنى على كل حال، فلما علم { عيسى منهم } من بنى إسرائيل، اليهود { الكفر } به حتى أرادوا قتله، إذ عرفوا فى التوراة أنه المسيح المبشر به فيها، وأنه ينسخ بعض دينهم، وأظهر دعوته فاشتد عليهم وشرعوا فى إيذائه بقذف أمه كما قذفوها إذ ولدته، فكانوا يقولون ابن الزانية، حاشاهما { قال من أنصارى إلى الله } من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله فى نصرى، ينصروننى كما ينصرنى الله، أو ذاهبا إلى مربتة من إقامة دين الله، أو موضع اتجرد فيه لعبادة الله، أو ضاما نفسى إلى أولياء الله فى نصرة دينه، ومحاربة عدوه، أو ملتجئا إلى الله معتصما به، أو من أنصارى مع الله، أو فى دين الله، أو لله، وإلى متعلق بأنصارى فى جميع الوجوه إلا إذا قدرنا داها، أو ملتجأ فبمحذوف جوازا لأنه كون خاص، والمفرد نصير كشريف وأشراف { قال الحواريون } المفرد حوارى، وهو خالصة الرجل، من الحور، وهو البياض الخالص، والألف زائدة فى النسب، سموا لأنهم ملوك يلبسون البياض، أو قوم يبيضون الثياب للناس بالغسل، أو بشىء اثنا عشر رجلا، استنصر بهم على من عاداه من اليهود، أو لصفاء قلوبهم، أو لما فيهم من نور العبادة { نحن أنصار الله } أنصار أهل الله، أو أنصار دين الله، روى أنه مر بجماعة فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا يصطادون السمك ويلبسون الثياب البيض، فقال اتبعونى نصطد الناس للجنة، قالوا: من أنت؟ قال عيسى بن مريم عبد الله وسوله، فطلبوا المعجزة، وكان شمعون قد ألقى شبكته لك الليلة فما صاد شيئا، فأمره عيسى بإلقائها فامتلأت حتى كادت تتمزق، واستعانوا بأهل سفينة أخرى نملأوها فآمنوا، وروى أن ملكا صنع طعاما للناس، وكان عيسى على قصعة يأكل ولا تنقص يأكل الناس، فقال له: من أنت؟ قال: عيسى بن مريم، فترك ملكه وتبعه مع أقاربه، وقيل تبيض الثياب للناس بعد صحبتهم عيسى إذ جاعوا أو عطشوا أخرج لكل واحد رغيفين، أو الماء بضرب الأرض بيده، وقالوا: من أفضل منا؟ قال: من يأكل من كسبه، فكانوا يغسلون الثياب بأجرة، وقيل: سلمته أمه لصباغ، فأراد الخروج لهم وعلم له على ثياب بألوان يصبغها بعلامتها، فجعلها فى لون واحد، وقال: كونى بإذن الله كما أريد، ولما رجع أخبره أنه جعلها فى لون واحد، فقال: أفسدت على ثيابى، قال: فانظرها، فإذا هى على أحسن ألوان، علامتها أحمر وأخضر وأصفر، وهكذا، فأمن هو والحاضرون، وعلى كل قوله هم اثنا عشر، ولا مانع من أن يكون بعض صيادا وبعض مبيضا، وبعض صباغا، سموا مبيضين لصفاء قلوبهم أو لنور العبادة، وفى صحيح البخارى ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم،
" لكل نبى حوارى حواريى الزبير "
، أى خالصى، وقيل : هم تسعة وعشرون، ولعل الاثنا عشر أكابرهم أو الأسبقون، ونقول بجميع ما مر من الأقوال، فيجمعهم بياض القلوب القصاثرين وغير القصاثرين للملوك وغير الملوك، ولم يطلب النصر للقتال، بل النصر بالتصديق وإعانته، ورد من يقتله ولو بقتله، فإنه يجب على الإنسان الدفع عن نفسه { ءامنا بالله } إخبارا لا إنشاء، لتقديم إيمانهم على قولهم هذا، إلا أنه لا مانع من تعدد الإنشاء، ويجوز أن يكون إنشاء أولا { واشهد } لنا يوم القيامة يوم تشهد الرسل لأممهم وعلى أممهم، فإن غرضنا السعادة الأخروية، واشهد لنا فى الدنيا والآخرة، وهذا أعظم فائدة وتأكيدا للمخلص، قالوا ذلك بلا عطف فى وقت واحد، أو متعدد وذكره الله بالعطف، وليس فيه عطف إنشاء على إخبار، لأن المعنى قالوا آمنا، وقالوا أشهد، ويجوز أن يكون ذلك من كلامهم، والعطف لأن أشهد بمعنى إنشاء إيمان، وآمنا وإنشاء أول، كقولك بعت { بأنا مسلمون } هذا تكرير لما فى المائدة فسقطت نونه تخفيفا عن أصله، والمعنى مذعنون للعمل بمقتضى الإيمان.
[3.53]
{ ربنآ ءامنا بمآ أنزلت } من الإنجيل أو من التوراة والإنجيل أو من التوراة مصدقة للإنجيل أو منهما، ومن غيرهما، وهذا استنزال رحمة من الله واستعطاف له وعرض لحالهم عليه، وهو عالم بها بعد عرضهم إياها على عيسى. { واتبعنا الرسول } عيسى عليه السلام { فاكتبنا } أى أسماءنا { مع الشاهدين } أى مع أسماء الشاهدين الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق فى التوحيد وغيره، وامتثلوا أمرك ونهيك، ولا يلزم من المعية فضل، ما بعدها، ولو كان كثير أصلا، ويجوز حمل ما هنا على هذا الأصل، بأن نقول، المراد بالشاهدين محمد وأمته صلى الله عليه وسلم، فإنه يشهد لأمته وتشهد أمته للرسل بالبلاغ، وشهادتهم شهادة له، لأنه أنزل عليهم الوحى، أو المراد الأنبياء، لأنهم شاهدون لأممهم، طلبوا أن يكونوا مع الشاهدين فى الجنة أو فى الشهادة للناس، قيل أو الملائكة، المقربون، أو من العابدين الذين استغرقوا فى شهود جلالك، والكتب تأكيد واستيثاق وقيل، كناية عن التثبيت.
[3.54]
{ ومكروا } حاول من أحس عيسى منهم الكفر إهلاكه باحتيال وخفاء، بأن وكلوا من يقتله كذلك، أو مكروا بقتله كذلك، وكلهم قصدوا قتله بإيديهم، لأنهم أمروا من يقتله بيده { ومكر الله } عاقبهم على مكرهم، سمى عذابه مكرا للمشاكلة، أو لأن عقابه مسبب مكرهم، أو لازمة، أو شبه فعله بهم بفعل الماكرين، وأورده بطريق الاستعارة، والله عز وجل منزه عن حقيقة المكر، لأنه فعل العاجز، ووجه الشبه الخفاء إذ آل أمرهم إلى قتال بينهم بسبب قتل قاصد قتله، وإلى قتل قاصد فقد يستعمل المكر فى حق الله تعالى بلا مشاكلة، كقوله تعالى:
صفحة غير معروفة