98
وفي مواجهة هذه النظريات الطبيعية يكشف فهم التاريخ حضور الآخر، ويصبح التاريخ بعدا للإنسان.
وفلسفة التاريخ كما هي الآن في الحضارة الأوروبية مادة خصبة لكل بحث عن الحقيقة؛ فبعد رفض أي مصدر قبلي للحقائق المعطاة سلفا في بدايات العصور الحديثة، أصبح البحث عن الحقيقة بالطريق الإنساني وحده هو المصدر الوحيد، لكل عصر حقيقته، وروح العصر نتيجة للعمل الحضاري، وباكتشاف مفاهيم الفكر، الفكرة، العقل، البداهة، الحدس ... إلخ، والتي أنقذت حرية الوعي الأوروبي، انتهت قوة الاكتشاف إلى المبالغة. ولما كان لكل فعل رد فعل، وقع الفكر في الصورية، والعقل في التجريد، ثم أتى اكتشاف حديث؛ الحياة، الوجدان، الشعور، الوجود، كرد فعل على رد الفعل السابق؛ فلسفة التاريخ إذن هي محاولة لاكتشاف مسار تطور الحقيقة التي تتكشف وهي تبحث عن نفسها، وتتبع توالي العصور، ونكوصها، وظهور الأفكار واختفائها ... إلخ. تكشف فلسفة التاريخ في الحضارة الأوروبية إلى حد كبير عن القصدية الحضارية، وهي غائية الحقيقة.
وبسبب هذه الظروف كانت لفلسفة التاريخ في الحضارة الأوروبية أهميتها؛ ففي العصر الوسيط لعب التاريخ من قبل دورا في تكوين العقائد، واعتبر التاريخ عاملا إيجابيا، منبعا للتراث الحي، وبعد عصر النهضة لعب التاريخ نفس الدور كمصدر للحقائق، موضوع البحث، بالطريق الإنساني. وتستطيع فلسفة التاريخ في الغرب أن تبين مصادر الوعي الأوروبي وبنيته وتطوره، وتستطيع أن تحدد بدايته ونهايته، وتعتبر الظاهريات نفسها اكتمال القصدية المشتركة للحضارة الأوروبية، لم يعد للتاريخ هذا الدور الإيجابي الذي أعطاه إياه اللاهوت العقائدي أو فلسفة التاريخ، في الظاهريات اكتملت الحقيقة، وأصبحت مستقلة عن التاريخ، وموجودة بذاتها، ومن ناحية أخرى للتاريخ دور في تطور الوحي؛ فقد تجلى الوحي في التاريخ، مرحلة بعد مرحلة، والتاريخ هو مجموع هذه المراحل السابقة حتى المرحلة الأخيرة، فقد اكتمل الوحي أيضا، لم يعد للتاريخ إذن دور بهذا المعنى، يظل مجرد ذكريات، باكتمال الوحي يستقل الوعي، ويبقى التاريخ كنماذج سابقة يحتوي على تجارب النجاح والفشل في الماضي وكميدان للفعل في الحاضر، ومساهمة في تحقيق مساره في المستقبل. لمشاكل التاريخ إذن حلها في تاريخ تطور الوحي. (4) حدود الظاهريات التطبيقية
99
لقد تم دائما نقد الظاهريات أثناء تطبيقها، ولم يكن النقد داخليا من أجل تطوير الظاهريات إلى علم محكم كما أرادت هي لنفسها، بل خارجيا طبقا للافتراضات الفلسفية أو العقائدية المسبقة، قيل مثلا إن التوقف عن الحكم غير قادر على اكتشاف جذرية القصدية.
100
وتعني الجذرية هنا خطوة تمهيدية من أجل الهروب من «الرد» لإعادة تأكيد الواقعية المدرسية، وقيل نفس الشيء ضد مفهوم «الحامل الأخير»، فهو غير كاف لأنه منفصل عن سياقه الواقعي الخام.
101
وقد نقدت الظاهريات بأنها غامضة في «الرد»، ينقصها التمييز بين المستويات. وكيف ينقص الظاهريات التمييز مع أنها تبدأ بتمييزات أصلية؟ والمستوى المطلوب هو مستوى المفارقة الذي يدافع عنه اللاهوت العقائدي أو الفلسفة المدرسية،
صفحة غير معروفة