حاول جاهدا أن يفهمني أن هذا ليس «قلة الأدب»، وأنه سيتزوجني وليس الآن، وأنه ... وأنه ... إلا أنني أصررت على إخبار أمي أولا بأول ... فقال وهو يغلق الأطلس ويجمع بقية كتبه من على المنضدة: إذن سأذهب للداخلية ولن أحضر أبدا إلى منزلكم طالما كنت تصرين على إبلاغ والدتك.
فنهض ...
وعندما نهض تراجعت وقلت باستسلام: لن أخبرها. - إذن اتفقنا! - نعم ...
حينها أخذ يدي في يده، شمها وضمها إليه بشدة فأحسست أن تيارا سريا كان يسري من كفه إلى شراييني دافئا وحلوا.
قال: إذن سنتزوج!
قلت كالمنومة: نعم. - هل سنذهب إلى هولندا معا؟ - نعم.
منذ ذلك اليوم لم أستطع أن أفهم ما كان يشرحه لي من حساب ولغة إنجليزية، فقط كنت أفهم لغة يده في يدي تحت الأطلس، أو بين صفحات الكتاب، وكنت أفهم لغة قلبه ينبض في صدري، ولغة قلبي يدق.
فتخمرت في مخيلتي فكرة أن يتزوجني، أن ينام معي في حجرة واحدة وعلى فراش واحد، كما يفعل أبي مع أمي، وأنا أعتني بشئونه، أغسل ملابسه، أكويها، أرتب كتبه، أطلسه، ومجلاته المصورة، أعد له الطعام، وعند المساء أجلس على خمرة الدخان استعدادا للنوم معه.
إذن ... أن يتزوجني، أن يصبح مثل أبي لأمي، وأخذت أتخيله في صورة أبي وأخذت أغسل ملابسه، أكويها، وأخذت أرتب كتبه وفراشه وأحتفظ بكل مستلزماته، بدءا من صابون الحمام، انتهاء بمصروفه المدرسي الشهري.
ولا أطيق غيابه عن البيت ولو للحظة، وأغار عليه ... ليس من بنات الجيران فحسب، بل من أمي أيضا، أما هو فكان يشتري لي الحلوى والبسكويت والأقلام الجميلة والألوان من مصروفه المدرسي الخاص، وفي أيام العطلات عندما يفرغ المنزل من أبي الذي يذهب للصلاة منذ الحادية عشرة ولا يعود إلا عند الثانية ظهرا، وأحيانا الثالثة حيث يتغدى في كثير من الأحايين في منزل جدي، وأمي تنتهز غياب أبي فتزور جاراتها اللائي يذهبن للعزاء والمناسبات، تأخذ أخي الصغير معها، ونبقى، محمد آدم وأنا، بالمنزل ...
صفحة غير معروفة