إهداء
ملكة الحرية
المحراب
الأصدقاء
الروح ... الغابة هادئة ولا ...
في الروح ... في قطيتي الخاصة خلعت
في الرغبة ... الصيف يحمل
القديسة
العاشق البدوي
العاشق البدوي
في قلة أدب
الموت غرقا
في الخلاص
الصوت
مايازوكوف
في الروح
في البيت
في البيت
في بلادنا
وجه المختار
عرق
احذروا الأنبياء الكذبة
الوحدة الوحدة
تفحص وجهي
ما يشبه صديقتين
في السياسة
في الأشياء الأخرى
مايا العزيز
سألاني
في الحكاية
في الذهاب بعيدا
رسالة
رسالة
الحدأة تحلق عاليا صوب الحزن
حدثتنا
في الإنسان
في الغابة
وداع الطائر
البنت الجميلة
أمين محمد أحمد
شهوة
حزين وباهت
غونار الحليف
أجيف
الغاردينيا
الأشياء
أبي
جلسنا
ثلاث بنات
الجارات الطيبات
أبي
يدور فيه
تحكي
تحكي
الغريب
في الخلاص
في الريح
في السياسة
في الغضب
الطين
في الموت
من
إذا شربوا ...
ثلاثة رجال
ضد البعوض والفئران
سارة
في الروح
أما مايازوكوف
وصف لها بلادا وجاء بها إلى أخرى
زارنا في الغابة
في الخلاص
المستشفى
أعدته سابا
وشرسة كنمرة
النهايات
زوجته المغنية
الرسائل
من ممكن
الخبز خير من الشعر
أنا أيضا
رسالة
رسالة
رسالة
رسالة
سابا تخلي
والحوار أيضا
في الجسد
الرسائل
إلى المصلى
رسالة
من
في الروح
قال السجان
عندما يجف هذا العفن
فتح
حافظ
في الهواء
نحن
المرسم المفتوح
في النهايات
المريض
ابتسامة
وقد
النهاية
إهداء
ملكة الحرية
المحراب
الأصدقاء
الروح ... الغابة هادئة ولا ...
في الروح ... في قطيتي الخاصة خلعت
في الرغبة ... الصيف يحمل
القديسة
العاشق البدوي
العاشق البدوي
في قلة أدب
الموت غرقا
في الخلاص
الصوت
مايازوكوف
في الروح
في البيت
في البيت
في بلادنا
وجه المختار
عرق
احذروا الأنبياء الكذبة
الوحدة الوحدة
تفحص وجهي
ما يشبه صديقتين
في السياسة
في الأشياء الأخرى
مايا العزيز
سألاني
في الحكاية
في الذهاب بعيدا
رسالة
رسالة
الحدأة تحلق عاليا صوب الحزن
حدثتنا
في الإنسان
في الغابة
وداع الطائر
البنت الجميلة
أمين محمد أحمد
شهوة
حزين وباهت
غونار الحليف
أجيف
الغاردينيا
الأشياء
أبي
جلسنا
ثلاث بنات
الجارات الطيبات
أبي
يدور فيه
تحكي
تحكي
الغريب
في الخلاص
في الريح
في السياسة
في الغضب
الطين
في الموت
من
إذا شربوا ...
ثلاثة رجال
ضد البعوض والفئران
سارة
في الروح
أما مايازوكوف
وصف لها بلادا وجاء بها إلى أخرى
زارنا في الغابة
في الخلاص
المستشفى
أعدته سابا
وشرسة كنمرة
النهايات
زوجته المغنية
الرسائل
من ممكن
الخبز خير من الشعر
أنا أيضا
رسالة
رسالة
رسالة
رسالة
سابا تخلي
والحوار أيضا
في الجسد
الرسائل
إلى المصلى
رسالة
من
في الروح
قال السجان
عندما يجف هذا العفن
فتح
حافظ
في الهواء
نحن
المرسم المفتوح
في النهايات
المريض
ابتسامة
وقد
النهاية
الطواحين
الطواحين
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى مريم بنت أبو جبرين
أمي
عبده بركه
ملكة الحرية
أخذ الريش ينمو على ساعدي اللذين أصبحا فيما بعد جناحي.
كان في البدء زغبا ناعما، ثم نمت الأرياش العصفورية الصغيرة البيضاء الرمادية بكثافة مذهلة، وهي تطول وتقوى، مكونة جناحين ضخمين، لهما ألوان زاهية قوية.
كان صوته يأتيني مكثفا من عمق لأسبر أغواره: ركزي، ركزي، ركزي، ركزي، ركزي.
راقدة كنت على لحاف من الأخشاب الرطبة، مفترشة أرض المحراب بغير وسادة، رجلاي ممدودتان، مستقيمتان، يداي موضوعتان في تواز مع جسدي، أنا أرتدي ملابس القطن الدافئة ...
كنت عاريا تماما، كالشمس في ظهيرة ذلك اليوم ... - ركزي ... ركزي ... ركزي.
ثم أضاف الصوت العميق السهل الساحر: أفرغي العظام ...
خففي وزنها حتى تصير كعظام الحدأة، خفيفة كالريح؛ تصير ريحا.
الصوت المكثف العميق الواسع، يغوص في لب عظامي فينخرها، يتجول بين مسام لحمي، تتبخر الشحوم والعضلات، والإرادة في الهواء، هواء المحراب المعطر، يكهربني، الصوت السهل المنساب في دمي يسحرني.
والآن، الآن، الآن، الآن: طيري، طيري ... طيري، طيري، طيري ...
كان صوته محددا واضحا ولا شك في ما يعنيه، ولكن كيف؟ - حركي جناحيك بقوة نحو الأعلى.
نحو الأسفل.
نحو الأعلى.
نحو الأسفل.
نحو، نحو، اركضي.
حركي ارك ... والآن طيري.
طيري، طيري.
كان صوته ملحا واثقا، كلما هتف في: طيري، يخف وزني تدريجيا، تتبخر أحزان الجسد، لحمه وشحمه، ترهف عظامه وتتحرر أجنحتي، ثقل العقل والحقيقة، ثم، ثم.
بدأت العدو، كحدأة رشيقة انطلقت في الفضاءات، فوق، فوق، فوق الأرض.
ارتفعت فوقه، كان منتصبا بمحرابه يكرر: ركزي.
ارتفعت فوق مبنى المحراب.
فوقه قطياته الثلاث ... فوق ...
فوق دوماته الباسقات ...
فوق ...
فوق أزهاره المتوحشة العشوائية ...
فوق.
فوق الغابة كلها، فوق النهر، مزرعتنا الخضراء وأشجار عرديبها، فوق الوابور الشفاط النائم على الشط، حلقت عاليا.
صوته السهل الواثق ينساب حلوا ولذيذا دافئا: ركزي، ركزي، ركزي.
حلقي يا حدأة الله الجميلة، يا زهرة النار التي بقلب الريح، حلقي.
أيتها الريح ...
حلقت عاليا إلى أن رأيت جبل المرسم الطبيعي.
مرسم مايازوكوف، فلادمير وتلاميذه المجانين.
حلقت فوقه.
فوق كهوفهم المبهرجة الألوان المائية الزاهية.
حلقت فوق تمثال الحرية الذي بناه ونحته مايازوكوف في شكل حدأة ...
حدأة تحلق عاليا في أحشاء الفضاء.
رأيتهم ينحتون الحجارة الجيرية ويصنعون من الجرانيت دنيا، عالما ودنيا.
رأيتهم يرقصون.
حفيف الأرياش الناعمة الرقيقة يزرع في سلاما وطمأنينة، كما لو كنت في حلم، كان التحليق سهلا وممتعا.
كان لذيذا، كالحب لا.
ليس كرعشة الحب عندما يبلغ تكامله الروحي والعضوي ...
كلذة الميلاد لا.
ليس كلذة الميلاد التي تحسها الأم وهي تهب الحياة لروح الله، للإنسان، كلذة النصر ...
لا.
ليس كلذة النصر التي هي شعور الطفل عندما ينظر لعضوه وهو ينتصب رافعا سرواله متحديا أباه.
كلذة الموت.
لا.
ليست كلذة الموت المريح الشهي عندما تبلغ روح الناسك نيرفانا.
فقط كلذة التحليق، لا كمثلها لذة.
أن تحلق عاليا متجاوزا الأشياء ونفسك، متجاوزا نيوتن والجسد، غازيا سماوات الله مدهشا أطياره، برقه والسحاب.
مدهشا ملائكته ذات السؤال البريء ...
أن تمزج المادة بالروح، والروح بالدهر، والدهر بالرغبة الحرة المنفكة من عقال الأشياء.
أن تطيري.
طيري يا حدأة الله الجميلة ... طيري ...
الصوت يتبعني، كان في، في ذاتي، يسافر معي مدنا وقرى، مفازات وناس، يتخطى وإياي السحابات، ارتفعت فوق الهواء.
فوق الهواء ...
حينها نظرت إلى الأرض؛ كرة بيضاوية، تنبعث منها أرواح الموتى وهي راجعة إلى روح الله، خضراء كاللوسيانا.
جمرة تنحرف فيها الأجساد المشتهاة المرغوبة الطينية بالدماء الدافئة ، حلقة من الذهب لها جناحا نسر.
جلة صفراء من الليمون والبنيات والصبايا.
وردة.
شعراء.
وردة لشعراء.
كهنة، لعلماء وعصافير مسجونة في الوحل، صرخة لها هيئة دائرية كفراشات تنام على فراشات، ريح ترى وتضحك، مغنون وأنبياء كذبة.
أنبياء «بين بين».
أنبياء أطفال يرضعون أصابعهم، يلوكون كلمات الله كالحليب المجبن، مغنون ومغنون.
ثم نظرت، نظرت، نظرت.
فهتف في صوت لا أدريه، صوت يدريني، لكني تميزت لونه البرتقالي الباهت الذي تسيل على جانبيه شحوم السيارات، حاول الصوت الهادر اليدريني، حاول الغوص في، حاول أن يبقى وصوت المختار جنبا لجنب، حاول أن يبشرني بنبوءة سوداء، نبوءة ساحرة كجوهرة.
إذن ...
يريد أن يقنعني بأن تواصلا قريبا سيكون بيني واللا ... متناهي، حاول الصوت، حاول اليدريني أن يحبلني، أن يقذف في أشياءه، إذن كان الصوت برتقاليا جدا، كان باهتا، كان مشحونا، وأيضا كان داعرا مثل كلبة مقدسة لها فرجان.
ثم نظرت، نظرت، نظرت.
ركزي، ركزي، ركزي، ركزي.
كان الصوت اليدريني يبشرني بأشياء هي كالحلم، لا، ليست كالحلم.
كالحلم لا.
ليست كجنون الخصوبة وغيبوبة اللذة.
كان يحاول أن يبيض في مستلقيا بين أرياشي، لذيذا وممتعا كأول قبلة، لا.
ثم اختفى فجأة، ثم عاد فجأة محلقا في مدائن سماوية عالقة في الهواء، بها قبور لها قباب عالية بيضاء شامخة، بها بشر يطيرون عالقين في الهواء كبذور العشر، وآلهة من الحصى والطين والماء: من الحبشيات، من البرتقال من الصحو.
حلقت في مدائن أخرى، بها أناس حلقوا حولي في الهواء السماوي البرتقالة، ثم تلاشوا، تلاشوا في أغبرة اجتاحتهم فساء أطفالهم لذة التحليق.
كان الصوت مبشرا ممتعا عميقا، ينساب في دمي وهو يراقص الذي في، بينه ودمي كان بشري.
كان زنبقة لملاك طفل.
ركزي، ركزي، ركزي.
ثم انفجر الصوت بالغناء.
ثم انفجر الصوت بالغناء.
الصوت المكثف العميق العارف الداري السهل، ال طيري ال ركزي العميق المختار، طيري، طيري يا حدأة الله الجميلة.
طيري، طيري يا حدأة الله الجميلة، طيري ...
ثم مثل صلاة تائهة ما بين ناسك وربه، ترجحت في فضاءات اللذة الربانية الشجرية الهواء.
كنت أحمل جمالي، نعومة العشق، الشهوة الأبدية لما ينتظر، وهو، لا يأتي.
لما ينتظر وهو لا يأتي.
كنت أتشهاه وأعشقه، أنام في ذهاباته ومجيئات غيره، أستيقظ في غيابات هي لا.
لا تسرف في الغياب.
لا.
لا تسرفي في الغياب.
لا ...
يا ...
لا.
يا لا إتيان له: لا.
يا له لا إتيان.
يا لا، يا لا، يا لا، يا.
له يا.
كانت روحه نور ونار ...
شجرة مسكيت خضراء، عليها طفلان عاريان حالمان نائمان جائعان.
عليها طفلان جائعان ومعزة.
حينما أتى صوته السهل يقول: الآن، الآن.
عندما سمعت صوته السهل يقول: الآن عودي إلى المحراب، للعشب الطري، للغاردينيا.
عودي أيتها الملكة إلى العرش، فلقد شئناك، شئناك ملكة للديمومة ...
م
ل
ك
ة
للحرية.
ملكة للحرية.
المحراب
بعد المحاضرة الأولى تسللت.
بعد المحاضرة الأولى تسللت خارجة من المدرج، مررت أولا بمكتبة الجامعة.
اشتريت محبرتين، ثم خرجت من الباب الخلفي؛ حيث الطريق السريعة، تفحصتها للحظات، كأنني أبحث عن شيء ما، ثم مشيت نحو موقف الباص، لكنني تذكرت فجأة أنه ليس بالمحراب إلا قليل من العسل، ولا شيء من الخبز، فعدت أدراجي إلى حرم الجامعة مرة أخرى، إلى سوق التعاون، اشتريت صفيحة صغيرة من العسل وأخرى من الجبن، كيلو أرز، خبز طازج، ثم قفلت راجعة لألحق بباص العاشرة.
بالباص قليل من الطلاب كالمعتاد، هم طلاب كلية الفنون الجميلة، رسامون ومجانين، نحاتون يذهبون في هذه الساعة إلى المرسم المفتوح بالجبل، الذي ابتكره وشيده بأفكاره وماله الفنان الروسي مايازوكوف فلادمير، أو مايا العزيز كما يسميه طلابه، لكثرة ما استقللت هذا الباص عرفت جميع طلاب كلية الفنون وأساتذته، بل أصبحت صديقة قريبة أشاركهم أحزانهم، حيث ليس لديهم ما أشاركهم فيه غير الحزن، هذا الحزن قد يكون مهرجانا صاخبا بالغناء، الأناشيد، الرقص والموسيقى، قد يكون مجرد: لا شيء إطلاقا.
يسمونني القديسة، فما إن توقف الباص في المحطة حتى أطلت وجوه من النافذة هاتفة في وقع واحد مجنون: القديسة ... القديسة.
في الباص حافظ آدم، أيضا سارة حسن، وأستاذ الفنون مايازوكوف فلادمير وكانت امرأة، بل وجه جديد لفتاة، لم أرها من قبل، كانت فيما فوق الأربعين من العمر، أو فيما فوق الثلاثين، لها عينان ضيقتان، لهما رمش أعترف أنه أجمل من رمشي (وأجمل من رمش أية امرأة خلقها الله في الآونة الأخيرة، إن رمشها أحلى من أذني فان جوخ.)
كما قال ذات يوم أمين محمد أحمد.
اتسعت عيناها الضيقتان قليلا لاستقبالي أو ... لدهشتها من هتاف الطلاب أو ...
ثم ضاقتا مرة أخرى في سحر أسطوري شحن المرأة في بالغيرة.
كانت نحيفة تجلس على أول مقعد يسار الباب، تمد ساقين طويلتين رشيقتين في غاية الرقة والنظافة، تمدهما أمامها بزهو وثقة، شعرها منظوم في ضفيرة واحدة مسدلة على كتفها، وبشفتيها أحمر شفاه مرسوم بدقة وأناة، بوجهها غموض وسحر، فتحت فمها الصغير لتقول بصوت ناعم: أهلا تفضلي، وأفسحت لي مكانا قربها، تعانقت والآخرون، أما مايازوكوف العزيز فمد يدا مشيعة بابتسامة: أهلا بك القديسة الحلوة.
ابتسم مرة أخرى ثم أضاف: هل لا تزالين تحتفظين بلوحتي أسفل السرة؟
كان دائما ما يسألني هذا السؤال كلما التقينا، وكنت كثيرا ما أرد إليه: لقد التهمتها الأسماك.
كأنه يصر على تذكيري بذلك اليوم المرعب المثير، الخبيث ...
الرحلة مرحة وصاخبة، الطلاب المجانين في قمة جنونهم يغنون ويلعبون، يضحكون وينصبون الفخاخ لبعضهم في مكر وخبث وفوضوية جامحة، بعد دقائق من جلوسي قربها فاجأتني قائلة: هل تحبين شخص ما؟
دهشت قليلا في بادئ الأمر وارتبكت، لكنني تماسكت وأنا أتذكر وجودي وسط حقل من فعاليات جن موقوتة، مشاريع لسفادور دالي، هنري ماتيس، فان جوخ، أو أخيلة بابيلو بيكاسو، أو كما يحلو لمايزوكوف القول: الفنانون - وأنا واحد منهم - خراء الشيطان مثلهم في ذلك إخوتهم الشعراء. أجبتها قائلة: نعم، أحب شخصا، ولكنه ليس ما، بل يمكن تحديده وهو المحراب.
فاتسعت عيناها الضيقتان الصغيرتان قليلا قبل أن تقول: المحراب؟! غريب أيوجد شخص بهذا الاسم؟
هنا تدخل آدم ليقطع حوارنا المجنون طالبا منا أن ننضم إلى الثلة بالمؤخرة حيث حافظ وسارة ومايا العزيز وبقية الطلاب، ثم عرفني بها قائلا: نوار، نوار سعد، الدكتورة نوار سعد، أستاذة النحت، ومحاضرة في تاريخ الفن المرئي، ثم أشار إلي وقال: القديسة.
حاول أن يتذكر اسمي الحقيقي أو اسم أبي ولكنه لم ...
ثم حاول ولكنه لم ...
لأنه لا يعرف عني شيئا سوى الاسم الذي أطلقه علي هو وأصحابه، غير مقاسمتهم حزنهم وجنون حزنهم، بدأ قليل من الخجل، خجل المجانين يرتسم على وجهه، فجأة ضحك، وبجرأة المجنون المخبول السكران قال: ما هو اسمك؟ ما هو أبوك؟ من هو؟
يعرف الجميع أنني أستقل باص العاشرة الذاهب إلى المرسم الطبيعي أو المعمل المكشوف، أنزل في خلاء قبل المرسم، بميل أو أكثر أختفي في الغابة، وقد أظهر في الطريق فجأة عند عودتهم، وقد لا يرونني إلا بعد أسبوع أو شهر، وقد يسألون: ماذا تفعلين في الغابة؟
وقد أجيب: أتعبد.
وقد أجيب: لا شيء.
وقد أجيب: أطير.
وقد أجيب: أتعلم أسرار النيرفانا والنقاء الإنساني من المختار.
وقد يمضون في استجوابهم وقد يكتفون، وقد لا يسألون ولكن كنا نستمتع ببعضنا، نغني، نقرأ الشعر، نتحدث عن المهاتما غاندي أو فان جوخ، فاسيلي كاندنسكي والكردي شيركو بيكه س. عن الخطر النووي، نهاية الحرب الباردة وبداية عصر البنقو كما يسميه حافظ أو عصر اللاتاريخ كما يسميه فكومايا الياباني المندهش عن مايكوفسكي، عن الديمقراطية أو ناظم الغزالي عن مصطفى المغني، أو صامتين مثل حنظلة ناجي العلي معطين ظهورنا للكارثة ووجوهنا للآتي الذي ربما لن يأتي.
ذات مرة استضفتهم بالغابة ولكن ليس بموقع المحراب، بل قريبا من المزرعة على ضفاف النهر، حدث هذا قبل أعوام؛ أي في بداية علاقتي بهم، كانت هذه الاستضافة هي الفرصة الأولى لي للغوص في متاهات جنونهم وصخبهم، وعرفت فيها مايازوكوف عن قرب.
وقف طلاب الفنون العشرون صفا واحدا على طول الشاطئ الرملي، أمامهم صعد مايازوكوف على صخرة ملساء من الجرانيت، أخذ يغني باللغة الروسية التي لا يفهم منها أحد منا شيئا، ثم بعد ما خلص غناؤه، أو نشيده، أو مدائحه قال بصوت عال: من منكم يستطيع أن يحدثني عن الله، عندما كان وحيدا؛ أي قبل أن يخلق هذا العالم، وقبل أن يخلق أمريكا؟
فأجابه أحدهم وقد ادعى النبوة ذات مرة بحديقة مايازوكوف يوم الاحتفال بوفاة مداح المداح. - ولكنا نبعد عن المدينة كثيرا وأيضا عن الكهوف قرابة الميل، ألا تلاحظ ذلك؟ قد لا يأتي الباص العام إلا بعد غروب الشمس.
فانفجر الطلاب بالضحك والتصفيق والصفير، وقد رقص بعضهم، قال آخر: سأحدثك عن ما تشاء وأيضا عن لحوم البشر المخمرة تحت الشمس في انتظار من يضع منها العرق، على شرط أن ترينا كيف أغوى الشيطان الرجيم ذو السبعة رءوس وسبعة أذناب، كيف أغوى نعجة التقوى؟ فضحك قائلا: إذن طالما أردتم ذلك، وأنتم بكامل إرادتكم وحرياتكم المدنية فلا ... لا بأس، هنا على ضفاف نهر القديسة الجميلة ذات الفم المغري بالتقبيل، الفم الصدفة.
ثم وجه إلي حديثه قائلا: أتعرفين أن فمك الحلو الصغير هذا بإمكانه أن يغوي طنا من القديسين ورجال الله؟ قال: هنا على ضفاف هذا النهر سترون كيف أغوى الشيطان نعجة التقوى، ثم خاطبني قائلا: هل تسمحين لي بأن أشغل فضاءك كله؟
في الحق لم أفهم ما قال، أو أنني لم أك منتبهة تماما لما يقول. كنت أتخيل كيف بإمكان فمي أن يغوي ولو صعلوكا واحدا، لم أك أعلم أن لفمي كل هذا السحر، لكن قد أكدت لي نوار سعد فيما بعد قائلة: هل قبلك المختار كثيرا؟ على قدر علمي بالرجال أعرف أن لفمك إغراء قاتلا، ليته فمي وليتها شفتاي. قلت وأنا شبه منومة لمايازوكوف: لك ذلك.
هنالك انفجر الطلاب بالضحك، الطلاب المجانين وهم يهربون في عمق الغابة أو يتخفون في عشبها وبين شجيراتها.
ولم ... أيضا أفهم شيئا، وقفت كالمأخوذة أرقب الموقف، كان مايا يجري هنا وهناك محاولا القبض على هذا أو هذه، فتهرب من بين مخالب جنونه، إلى أن انقض علي كما ينقض نسر مسن على سنجاب صغير، وأخذ يجردني من ملابسي، قطعة قطعة؛ كان في البدء متوترا منفعلا، كنت في البدء أصرخ أقاوم لكني انهرت أخيرا، استسلمت تماما فاقدة المقدرة في الدفاع عن النفس ساقطة على الأرض.
هدأ هو، أصبح متماسكا وهو يخرج من بين ثيابه فرشاة صغيرة وعلبة ألوان، ثم أخذ يرسم علي تحت السرة بقليل، بكل هدوء وبرودة أعصاب، بل كان يترنم بلحن بدوي سوري رشيق، رسم حدأة، حدأة لها جناحا فراشة ومخالبها أظافر سيدة جميلة، في مكان منقارها فمي.
ثم بعد أن فرغ قال بصوت عال جهوري، وكأنه يخاطب شعبا بأكمله: إن الذي حطم الاتحاد السوفيتي ليست أمريكا، وحربها الباردة، وليسوا هم الجواسيس، ولكن الجينز، ولكن الحشيش، ولكن اللواط. والبعض يتهم الفنانين سرا وهو دافنا رأسه في الرمال، فالفنانون أخطر من مليون من الرءوس النووية، ثم خاطبني قائلا - وكنت أرتدي ملابسي على عجل وخوف: أليس كذلك؟
قلت غضبانة: أنت شرير ولئيم.
فرد مبتسما ابتسامة خبيثة: أنت جميلة ومغرية، أنت موحية بأخبث الشعر.
الأصدقاء
لحقنا بالأصدقاء في ...
لحقنا بالأصدقاء في خلفية الباص، كانت سارة حسن تغني وترقص في آن واحد، كأنها دمية في فيلم كرتون، البقية يصفقون ويعزفون بأفواههم موسيقى صاخبة، أما نوار فكانت تلاحقهم بالأسئلة الغريبة الجريئة، تحدثني عن فنان أعجبت به وأعجب بها، كان ولا يزال يجانسها كلما زارت متحف مسيو دل برادو بمدريد، قالت: إنها أول امرأة سوداء يعشقها هذا الفنان، ثم أخذت تحدثني بالتفصيل عن أسلوبه في المجانسة، أسلوبه الخاص جدا، قالت إنه يستطيع أن يمتع أية امرأة كانت، ولو أنها صنم من الجليد.
كانت دائما ما تحاول إقناعي بأنه في إمكانه أن يصبح في شموخ جويا العظيم وشهرته، بإمكانه أن يثور الفن الإسباني ويمجده أكثر مما فعل بيكاسو وبول كلي، بإمكانه أن ...
ولكنه لا يرغب في ذلك، وأنه يفضل الجنس على الشهرة. وحدثتني بأنها تعد دراسة مطولة عن لوحة رسمها لها خوان بيدرو وهي نائمة، قالت: إنها لا تقل قيمة وأهمية عن لوحة الغجرية النائمة للفنان هنري ماتيس، واللوحة الآن معلقة في حجرة نومها.
قالت: إنه يعمل كإداري في مسيو دل برادو العريق، وإنه قبيح الشكل وهذا يزيد من قيمته كفنان له أسلوبه الخاص في الحياة، وأيضا ملامحه الخاصة، قالت: معظم العباقرة لهم أوجه قبيحة، أشبه بملامح القردة، فإنهم قبيحون بطرقهم الخاصة. قالت: الجاحظ، بشار بن برد، طه حسين، نيتشه. قالت: فان جوخ، كافكا، برنارد شو، المهاتما غاندي. قالت: حتى المقنع الكندي نفسه كان رجلا قبيحا، قبيحا جدا ... حاولت أن أتزوجه، لكنه رفض قائلا: إن الزواج رومانسية زائدة عن اللازم. قالت لي: إن لها صديقة حبشية جميلة كان آرثر رامبو عشيقا لجدتها، وإنها - أي الحبشية - تقيم معها منذ أمد بعيد. قالت: إنها تحب الرقص، الرقص الفلامنكو الإسباني، كرنق التيرة، وإنها تعشق الرجل وتعتبره من أهم قضايا وجودها، الرجل المؤدب الفنان المثقف. قالت: إنها أعجبت بي لأول نظرة ... قالت وهي تغمض عينيها الصغيرتين فترتعش قليلا رموش عينيها الساحرة، واللتين كما أكد أمين لاحقا أنهما أجمل من أذني فان جوخ، قالت: ألديك عشيق؟ إن لك جسدا شهوانيا جنسيا كفمك! ثم قبل أن تسمع إجابتي أضافت: لكنهم ينادونك القديسة، هل أنت كذلك؟
هل أنت محرومة من الحب الجسدي؟
المجانسة؟
أيضا أضافت: أنا أرى فيك غير ذلك بل العكس، أو ربما إذا أتيحت لك ظروف ملائمة تكونين مثلي هبة الرجل، تقدسين الحب، ألست صائبة في قولي؟
توقف الباص فجأة أو خيل لي أنه توقف فجأة، لاحظت أنني قد تخطيت غابتي بقليل، فأسرعت هابطة وبيدي حاجياتي، قلت لها: سنلتقي كثيرا، فرصة سعيدة يا نوار.
مدت لي يدا رقيقة نحيلة بها خاتم ذهبي له بريق أخاذ، في فمها ابتسامة حلوة وأسئلة شتى. قالت: سنلتقي كثيرا، فرصة سعيدة.
ثم ترددت قليلا قبل أن تقول: يا القديسة!
قالتها بطريقة معقدة جعلتني أسمعها عكس ذلك، عكس ما قالت تماما.
الروح ... الغابة هادئة ولا ...
الغابة هادئة ولا أقصد بالهدوء الصمت، فهي صاخبة بأناشيد الأطيار وغنائها، أو بكائها على فراق البجعات المهاجرات إلى الشمال، فالفصل صيف، صيف طويل وحارق، وليس بين الشمس والأشياء إلا صدر الشمس الحنون الحارق، فالغابة هادئة، بها صخب هو جزء من الغابة ذاتها، بل قلب الغابة النابض وإيقاع غموضها وجمالها، ما بين المحراب والموقع الذي نزلت عنده من الباص مسافة الميل، لكن وعورة الطريق دائما ما كانت توهمني بأن المسافة أطول، أطول، وأن المحراب هنالك في عمق الغابة يمعن في البعد، لكن الخيط السحري الذي يشدني إليه له تأثير عكسي، أجدني ألتهم المسافة في لحظات ولا أحسني أمشي، بل أطير طيرانا حلوا نحوه، نحوه. أما في الخريف - الفصل الجميل المتعب - فالمسافة معقدة لدرجة يصعب معها أحيانا الوصول إلى المحراب، تهطل السحابات الجنوبيات السوداوات بغزارة مالئة الوديان والخويرات وجحار الثعابين والفئران، وكل هوام المكان تخرج من خنادقها بحثا عن ملاذ آمن جاف مشمس، فلا تجد غير الطرقات، طرقات الغابة الخالية من الأعشاب والشجيرات، طرقاتي التي أسلك، فكم لدغتني عقرب وكم طاردتني حية، وكم توهتني عاصفة وأوحلتني سحابة، وكم، وكم، وكم؟!
ولكن رغم ذلك يظل الخريف أجمل الأشقياء وأحلى الفصول؛ حيث تصبح عنده الغابة وردة كبيرة خضراء، تحوم فوقها السحابات مثل فراشات ضخمة مثل عشيقات، ويصير اليوم حلما جميلا، نشيدا تموسقه الضفادع والصراصير وأطيار السقد والقبرات؛ أما المحراب ودوماته الباسقات، عروس الغابة لأن أزهار الخريف النابتة عشوائيا حول المحراب وداخل حديقته المتوحشة العرضية تعطي المكان براءة الطبيعة البكر وسلامها العفوي، وفي ذات اللحظة تجعلها شيئا متميزا متفردا.
غابة لا تشبهها غابة، حديقة لا تشبهها الحدائق.
فالمحراب جنتنا.
والمحراب عزلتنا.
والمحراب أغنية الروح ...
حديقته الصغيرة وسياج البرتقال واليوسفي، أطيار المساء تلوذ بالدومات كمخدع آمن من القطط البرية والثعالب، المحراب مكون من ثلاث قطيات: المحراب، أو مخدع الروح كما نسميه، قطية المختار، وأيضا يوجد مصلى خلف المحراب وحمام، يطل المصلى على النهر وأشجار اللوسينا الشامخة، والعرديب وبعض الأشجار النادرة، التي ربما أتت بذورها بواسطة العصافير والحيوانات والريح، في الغالب عن طريق مياه النهر المنحدرة من هضبة الأحباش، أما اللوسينا والقولد مور فلقد قمنا بزراعتها بشكل غير منتظم على طول الشاطئ الممتد من المحراب حتى الطريق العام، الذي يعبر الغابة، رابطا مدن ما بعد الغابة بمدن ما قبل الغابة.
بيني والمحراب خطوات ، لكن تحجبني عنها أشباح شجيرات السنط والهشاب الشائكة الرمادية، ثم فجأة وجدت نفسي مثل كل مرة أمام حديقة المحراب المتوحشة، أمام الدومة الأولى، أمامه مباشرة.
المختار.
يجلس في هدوء عميق وطمأنينة نادرة، على فراء أبيض من جلد العجل، قربه على الأرض عصا ذات شعبتين، عصا الأبنوس السوداء، أعلم أنه أحس بوجودي، لكنه لم يلتفت ليراني، بل ظل مكانه كتمثال الجليد، باردا هادئا غير مبال، في ذات اللحظة التي بدا فيها كصنم الجليد كنت أشعر به متوهجا كالجذوة، منفعلا بما حوله، لم ألق عليه التحية.
ليتجلى ما شاء له.
لم أثر، صوتنا يكدر صفاءه.
ليتأمل ما شاء.
حاولت ألا أهتم به، أن ألغيه، إلى أن يفيق من تأمله العميق فلا يشغله نشاطي الذهني، فيخسر ساعات قضاها ليدخل في الحال، ولجت المحراب، ألقيت نظرة على زهرة الغاردينيا برقة وحيوية.
تذكرت نوار سعد حينها، نوار سعد، كانت تحدثني عن عودة الإنسان إلى جذوره، إلى أمه الشجرة؛ حيث كانت تؤكد لي أن الإنسان أصله شجرة، وتقول: إن شجرة مسكيت واحدة وعصفور ود أبرق أكثر أهمية من عشرة مصانع للغذاء، ومليون من الجنود المدججين بالسلاح، وترسانة الأسلحة الأمريكية لا تساوي في أهميتها ريشة فنان، فنان فقير بائس كهنري رسو، قالت: ولو أن المدينة هنا ما زالت طفلة، وأنها مثل قرية بإسبانيا إلا أنها مملة وملوثة ورديئة كمرحاض عام، فهي ليست كبراءة الريف.
فهي ليست كتعقد المدينة، هي شيء مشوه.
فأنتما سعيدان بعودتكما لله، للشجرة والنسيم، أنتما سعيدان. وقلت لها: ننشد التأمل والعزلة لا أكثر. قالت: ولو أن الغابة ليست منعزلة تماما ... وهنالك الأشجار والخيران والثعالب، هنالك الطيور والأرض.
الأرض الطينية السوداء ...
حاولت تحريك الأصيص من مكانه، قائلة: فلأغير قليلا من مرأى المحراب، قطية الروح، ولكني عجزت تماما، كانت هناك قوة طاغية تجذبه للأسفل، وفي نفس اللحظة التي هممت فيها بتركه وشأنه دخل الحجرة المختار.
طويل كعادته ومبتسم، وعلى رأسه شال نظيف، لفني بساعديه الطويلتين وهو يضحك من أعماقه قائلا: لقد جاء زوجك هنا، اليوم ... - هل قال شيئا مهما؟! - لا شيء سوى بعض السخرية المرة.
قلت متجاهلة الأمر ما أمكن: إذن دعنا نتناول الغداء في هدوء، لقد أحضرت معي عسلا ومحبرتين وخبزا وهربت من محاضرة الباطنية، فالمحاضرة الجديدة متعالية ومتكبرة كأنها أول من تخصص في الباطنية، لكنني وجدت نفسي أسأله عن زوجي: من أين جاء؟!
قال إنه في طريقه إلى المدينة الأخرى عابرا الغابة، رأى أنه من الأحسن والذوق أن يزور زوجته وحبيبها - على حد قوله - فأوقف عربته بالطريق العامة، مستأجرا بدويا لحراستها، جاء، قال إنه سيزورك في المدينة الجامعية. - لكني لم أذهب إلى المدينة الجامعية طوال شهر! - لقد حاولت أن أقول له ذلك، لكنه ضحك ساخرا كعادته متجاوزا محنته بالسخرية المرة واللامبالاة.
ثم غير المختار من الحديث سائلا: هل كنت تحاولين تغيير موقع الغاردينيا، عندما دخلت أنا للمحراب؟ قلت: لكني عجزت.
قال مبتسما: يبدو أنها عمقت جذورها في الأرض.
لقد حققت حلما نادرا، هل نقتلعها؟
في الروح ... في قطيتي الخاصة خلعت
في قطيتي الخاصة خلعت ملابسي كلها واستبدلتها بملابس البيت أو «غيار الغابة» كما نحن نحب أن نسميها؛ جلباب من التيل الأبيض، حذاء من الإسفنج خفيف، وشال أسود حول العنق، ثم ذهبت للحمام وجدت الطشت مليئا بالماء البارد؛ فغطست فيه وأخذت أدلك ظهري بتلذذ ووجدتني فجأة أغني:
وحيدا تغني
وحيدا تموت
وحيدا صمدت
وحيدا نجوت.
فجأة انتبهت، كنت كثيرا ما أردد هذا الغناء، ولكنني فجأة كررت بغير لحن: وحيدا تغني، وحيدا تغني، وحيدا تموت، وحيدا نجوت.
حاولت أن أجعل لهذا الغناء معنى أفهمه أو أحاول تأويله، إنه غناء المختار المفضل في لحظاته الخاصة، سرحاته، وشروداته، أحسست أن هنالك معاني أخرى لم أك أدركها قبل اللحظة، وحتى عندما أحسست بأكلان خفيف في العانة، لم أنتبه للجندب الصغير الذي اصطادته شعيراتها التي أصبحت غابة متشابكة، لكن عندما تحرك مرة أخرى خمشته بأناملي في رعب وذعر حقيقيين، ووجدتني ألوم نفسي، لقد أهملت: عيب ... عيب ...
استحممت.
ثم لاحظت أيضا وأنا أجمع ملابسي الداخلية بأن هنالك بقعة دماء باهتة على النايلون الذي أرتديه فابتسمت، لست أدري لماذا؟! لكن ربما لأنني تذكرت أنني امرأة، ولو لأول مرة أسأل نفسي: ماذا لو راودني المختار؟
وكنت أعرف - أو أقنع نفسي - بأني أعرف أن هذا أكثر من المستحيل، ولكن ظل السؤال قائما: ماذا لو؟
زجرت نفسي زجرا شنيعا ... كيف لي أن أنحو هذا المنحى؟ كيف سمحت لسؤال مثل هذا؟
أن ...
أعاد جندب الرغبة خربشاته في العانة، الجندب الصغير؛ كيف لجندب إثارة كل هذه الغرائز؟ حقيقة كنت أحتاج أحيانا كثيرة حقيقية وأصيلة، كنت أحتاج لرجل، لكني كنت أتحايل على هذه الرغبة بالصلاة والتأمل، بالقراءة.
تغدينا، كان شعره أشيب، وعلى ذقنه شعيرات بيضاء، أما شاربه فلا يزال بسواد الشباب، عيناه ذكيتان مشعتان كأنهما شمعتان أبديتان تأخذان نورهما من نور الله، كان يرتدي جلبابا من التيل الأبيض تحت الركبة، قليلا.
في الرغبة ... الصيف يحمل
الصيف يحمل تفاصيله وينسحب قليلا، كما ينسحب جندي جريح من ميدان المعركة، ثم يأتي الشتاء بأغنياته الباردة؛ فصلان في هذه المدينة: خريفها هو صيفها، كان يرتدي التيل الأبيض، التيل الرمادي أو الأسود في الشتاء، وأنا مثله.
قبلني قبلة سريعة، وكأنه يهرب من شفتي، ثم خرجنا للحديقة المتوحشة للقراءة وتبادل التجارب، حكى لي عن حلم قال: كانت الشمس في قبة السماء ضخمة وهائلة، لونها لون الدم ثم انقسمت بدوي هائل إلى نصفين، امتلأت البلاد كلها بحمرة الدم، البلاد الكبيرة ...
تصدعت الشمس، أخذ كل جزء يتجه إلى جهة، وهو يزداد حمرة ...
حمرة وصغرا.
حمرة وصغرا.
حمرة وصغرا.
حتى أصبحت خريزات حمراء، قبل أن تنفجر دخانا أسود قاتما عم الأمكنة.
أمكنة البلاد الكبيرة ...
فاستيقظت وأنا أرتجف من الخوف، فتحت النافذة، أغلقتها، فتحت الباب، أغلقته، توضأت وظللت متيقظا إلى الصباح، حكيت له عن امرأة التقيتها في باص العاشرة، نوار سعد، أستاذة تاريخ الفن المرئي والنحت بالجامعة، وقلت له: إنها مختلفة عن مايازوكوف، ومختلفة عن أصدقائنا، ولو أنها خليط منا جميعا، مذهبها الرغبة، ثم قرأ علي فقرات من كتاب «الطواسين»، ثم فقرات من كتاب آخر، ثم مادة كاملة من كتاب «المواقف والمخاطبات»، ثم بدأنا الحوار حول النيرفانا.
كان يحاول أن يؤكد لي أن النيرفانا هي غاية كل الأشياء، حتى الأنهر والأشجار.
ثم تحدثنا ...
ثم قال: أنا لا أكره زوجك. ولا أحبه أيضا.
القديسة
يستحيل لمثلي أن
يستحيل لمثلي أن تتخيل مجرد تخيل؛ أنها ستنتقل بين ليلة وضحاها من خزينة والدها محكمة القفل، المؤمنة برعبه الذي يبديه حينا، أو الذي يضمره في معظم الأحايين، لكنه دائما ما كان يصيبنا في الصميم، يستحيل لمثلي أن تتحور من قملة سجينة بذقنه يستلذ بدغدغتها لمنابت شعيراته، وإذا شاء فقأها، وإذا شاء اقتلعها بالمشط، وإذا شاء.
أن تتحور هذه القملة سجينة اللحية المقدسة إلى فراشة، تمد جناحيها فتصل النهر بالسحابة ...
الوردة بالنحلة.
الشجرة بالعصفور.
تصل الملائكة المنعمين سفراء السماء بالشحاذين والصعاليك ...
فراشة لا تحدها الأرض كلها.
حدث ذلك فعلا، وبغير مقدمات كما تغني يمامة أو يموء قط؛ هكذا تدور بي الطواحين، تدور الطواحين بالمصائر، آلات المصانع والمجانين هكذا تدور السواقي في أطراف المدن بالسنابل والأغنيات، بإحباطات الحاكمين.
خرجت من بيت أبي كما يلقي.
خرجت كما يرمي.
كنت دائما أحلم بالسفر في الدروب الطويلة، الدروب الطويلة السفر.
ما حلمت بالبحار الميتة أبدا، بالسلاحف ما حلمت.
إلا بالدروب الطويلة، قطارات من الريح بيوت وسحابات وفراشات، أنهر تجري نحو البدايات، وأشجار تطير نحو الله، أسماك تسبح كالعاصفة.
كنت أحلم به.
كنت أحلم به تماما كما كان في الماضي، طفلا في الثالثة عشرة أو دونها، يسافر معي عبر المدن والبلاد المسحورة، التي كنا نراها في المجلات المصورة في الأطلس والكتب المدرسية، في صحونا كنا نؤكد حتمية ذهابنا إليها عندما نكبر ونتزوج، ونعيش فيها إلى الأبد، كنا نحفظ أسماءها: أوسلو، جنيف، ديزني لاند، كاليفورنيا، نيروبي، بيروت، وغيرها من البلاد الجميلة.
لقد دارت به طواحين الموت الصدئة، طواحين الموت البليدة، كان أبي مبرمجا لزمن ماض متخشب ورطب، وكنت حلما طليقا.
حدأة.
وما بين الآلة الحاسبة والطائر خواء مسحور.
إذا تجنبته، مت.
وإذا قصدته، مت.
وإذا لم تسمع به، أيضا ، مت.
كما يموت الجراد.
العاشق البدوي
عندما أتى به والده في ذلك
عندما أتى به والده في ذلك المساء ليلتحق بالمدرسة المتوسطة بالمدينة، كان في الثالثة عشرة من عمره، يلبس كالبدو جلبابا وصديري أزرق، شعره كث، نعله من البلاستيك، وعلى رأسه طاقية بيضاء وبيده عصاه، يبدو كأنموذج مصغر لبدوي، عيناه مستطيلتان بريئتان كعيني خروف، تفوح منه رائحة الشياه والروب، كان قصيرا ووسيما، له جسد رياضي ممشوق.
أبوه صديق أبي؛ لذا طلب منه أبي أن يبقى معنا في المنزل بدل من السكن الداخلي الخاص بالمدرسة؛ لأنها - كما أكد أبي لأبيه - ليست صالحة إلا لسكنى الضب والسحالي، وببقائه معنا أصبح - أو شاءت الأشياء أن يصبح - محطة كبرى وحاسمة في حياتي، كنت أصغره بسنوات ثلاث، ولأنه ذكي ومبرز في دروسه كلفته أمي بمساعدتي في الاستذكار، فكنا بعد شرب شاي المغرب نأخذ كتبنا وكراساتنا إلى حجرة المطبخ نضع بيننا منضدة صغيرة تستخدم للشاي، نضع عليها كراسات وكتب المدرسة ونستذكر، وكان طفلا مرحا يحفظ كثيرا من الأحاجي وقصص الفروسية وبعض من الشعر الدارج، وأيضا كان يعرف أسماء الطيور كلها، ومواسم ظهورها ونوع طعامها وكيف يصطاد كل صنف منها ومتى وبأي وسيلة؟ كان يعرف أسماء الحشرات والحيوانات والنجوم ومدلولاتها وفقا للمواسم، وكان إذا رأى نجما ما يقول يجب أن يزرع القمح اليوم أو سيكون هذا الخريف رديئا، كان يعرف كيف يحلب الأبقار والماعز، ويمتلك حاسة شم لا مثيل لها في المدينة كلها، فكنا نغمض عينيه ثم نضع قرب أنفه جلباب أحدنا قائلين: جلباب من؟
فيقول دون تردد: إنه لأحمد ... إنه جلباب الحاجة ...
وأبدا لم يخطئ إلا مرة واحدة عندما أتينا بجلبابه هو نفسه ووضعناه على أنفه فسكت مليا ثم قال بعد أن حرك أنفه كالكلب الذي يتحسس رياح ما، قال: هذا ليس جلباب لأحد؛ لأنه لا رائحة له، أهو ملاءة؟
العاشق البدوي
كنا وأطفال الجيران في ...
كنا وأطفال الجيران في أيام القمر نستمع لأحاجيه وأخبار «السحاحير» والأموات الذين يتركون قبورهم في اليوم الثالث من دفنهم ليعودوا لمنازل ذويهم، أو ينتقمون من أعدائهم وخصومهم، وعن الشياطين الذين يسكنون على شاطئ النهر والقناطر، وكان يحدثنا بذلك وهو شديد الإيمان بما يقول وكأنه حقيقة رأى السحار، الشيطان أو البعاتي، ولا يقبل إطلاقا أن يجادله أحد في صحة ما يقول فيبادر بالقول: أستغفر الله، أستغفر الله ...
في الحق لم نكن نحس أن ما يقوله يجانب الصواب، لقد كان جادا وصادقا، وكنت أقلده في كثير من ممارساته؛ لإيماني بأنه يعرف أسرارا عن الجن والسحاحير لا أعرفها، فكان إذا أراد النوم دار حول سريره سبع مرات؛ قارئا آية الكرسي حتى إذا دخلت الشياطين - شياطين الظلام - الحجرة فإنها تضل عن سريره، فلا تراه، وبذلك لا تستطيع أن تؤذيه، أخذت أفعل مثله فأدور حول سريري وسرير أخي الصغير، الذي ينام معي بالحجرة، أخبرت أمي بهذه الفكرة مرة ونصحتها بأن تقرأ آية الكرسي سبع مرات وهي تدور حول سريرها حتى تتجنب شياطين الظلام التي تضع الأمراض - بيضها - في أجساد النيام ... قالت سائلة: من أخبرك بذلك؟
قلت: إنه محمد آدم.
فلم تقل شيئا غير أنها ابتسمت ابتسامة غامضة ما زلت أذكرها إلى اليوم.
في قلة أدب
ذات مرة جاء
ذات مرة جاء بأطلس مصور قال: إن خاله أرسله له من دولة الإمارات العربية، كان الأطلس مدهشا، به البلدان مصور ناسها وحيواناتها وسهولها وجبالها، بألوان زاهية ساحرة، أكثر ما تعجبه من البلدان هولندا وطواحينها الهوائية، قال لي وهو يشير لبيت ريفي يقع وسط أرض خضراء تتجول في عرصاتها أبقار الفرزيان والأرانب البرية: أيعجبك هذا المنزل؟
قلت: إنه جميل يعجبني جدا.
ولا يزال إصبعه على البيت الريفي الجميل المدهش ذي البقرات الفريزيان. - سوف نذهب أنا وأنت إلى هنالك.
قلت مندهشة: إلى أين؟
قال: هولندا ... وسنبني مثل هذا المنزل. - كيف ذلك؟
قال بثقة وجدية: لقد أخبرت أبي ... أريد أن أقرأ الجامعة بهولندا، وعندما أتخرج سآتي لأتزوجك، آخذك معي إلى هنالك، ولن نعود إلى البلاد الكبيرة أبدا.
قلت وقد أحسست برعب لم أدرك كنهه: تتزوجني ... أنا؟!
قال مبتسما في غموض : نعم، أنت ... هل ترفضين؟!
قلت: سأخبر أمي.
قال بسرعة: ليس الآن، ولكن بعد أن أتخرج في الجامعة، بعد عشرة أعوام إن شاء الله.
قلت في إصرار وعناد: ولكني أيضا سأذهب وأخبر أمي؛ لأنها قالت إذا تحدث معك أي شخص في مواضيع قلة الأدب فأخبريني أولا بأول.
حاول جاهدا أن يفهمني أن هذا ليس «قلة الأدب»، وأنه سيتزوجني وليس الآن، وأنه ... وأنه ... إلا أنني أصررت على إخبار أمي أولا بأول ... فقال وهو يغلق الأطلس ويجمع بقية كتبه من على المنضدة: إذن سأذهب للداخلية ولن أحضر أبدا إلى منزلكم طالما كنت تصرين على إبلاغ والدتك.
فنهض ...
وعندما نهض تراجعت وقلت باستسلام: لن أخبرها. - إذن اتفقنا! - نعم ...
حينها أخذ يدي في يده، شمها وضمها إليه بشدة فأحسست أن تيارا سريا كان يسري من كفه إلى شراييني دافئا وحلوا.
قال: إذن سنتزوج!
قلت كالمنومة: نعم. - هل سنذهب إلى هولندا معا؟ - نعم.
منذ ذلك اليوم لم أستطع أن أفهم ما كان يشرحه لي من حساب ولغة إنجليزية، فقط كنت أفهم لغة يده في يدي تحت الأطلس، أو بين صفحات الكتاب، وكنت أفهم لغة قلبه ينبض في صدري، ولغة قلبي يدق.
فتخمرت في مخيلتي فكرة أن يتزوجني، أن ينام معي في حجرة واحدة وعلى فراش واحد، كما يفعل أبي مع أمي، وأنا أعتني بشئونه، أغسل ملابسه، أكويها، أرتب كتبه، أطلسه، ومجلاته المصورة، أعد له الطعام، وعند المساء أجلس على خمرة الدخان استعدادا للنوم معه.
إذن ... أن يتزوجني، أن يصبح مثل أبي لأمي، وأخذت أتخيله في صورة أبي وأخذت أغسل ملابسه، أكويها، وأخذت أرتب كتبه وفراشه وأحتفظ بكل مستلزماته، بدءا من صابون الحمام، انتهاء بمصروفه المدرسي الشهري.
ولا أطيق غيابه عن البيت ولو للحظة، وأغار عليه ... ليس من بنات الجيران فحسب، بل من أمي أيضا، أما هو فكان يشتري لي الحلوى والبسكويت والأقلام الجميلة والألوان من مصروفه المدرسي الخاص، وفي أيام العطلات عندما يفرغ المنزل من أبي الذي يذهب للصلاة منذ الحادية عشرة ولا يعود إلا عند الثانية ظهرا، وأحيانا الثالثة حيث يتغدى في كثير من الأحايين في منزل جدي، وأمي تنتهز غياب أبي فتزور جاراتها اللائي يذهبن للعزاء والمناسبات، تأخذ أخي الصغير معها، ونبقى، محمد آدم وأنا، بالمنزل ...
وحدنا.
ندخل حجرة أمي المعبقة ببخور الصندل، نخلع أحذيتنا ونرقد على سريرها الزوجي بكامل ملابسنا، ونحن نحتضن بعضنا مثل دجاجة وفرخها الوحيد ... وأحيانا يدخل كفه بين ملابسي متحسسا جسدي وثديي الناميين، وهذا الفعل غالبا ما يصيبني بالخدر، ويفقدني الوعي، ولو أنه كان خدرا لذيذا وممتعا.
وحدث أن نمنا.
نمنا بحجرة أمي ويده تقبض على ثدي ولم ندر أن وقت عودة أمي قد حان، حيث إنها تأتي قبل أبي بساعة أو قليلا من الساعة، فلم نستيقظ من خدرنا اللذيذ إلا على صرخة مدوية على رأسنا، ورأينا ونحن نفتح عيوننا بكل وسعها في لحظة رعب واحدة، رأينا أمي بدمها ولحمها، ويداها على رأسها وعيناها جاحظتان وفمها مفتوح، كان وجهها الجميل مرعبا ومخيفا، قالت: ماذا تفعلان؟!
نهضنا محاولين الهرب، ولكنها قالت بحزم: لا تذهبا ... ابقيا.
ثم صمتت لزمن مخيف طويل قبل أن تقول لمحمد آدم: اذهب أنت إلى الديوان.
فخرج وهو يرتجف رعبا وهلعا، وبقيت أمي وأنا، وحدنا.
الموت غرقا
أنا في الثالثة عشرة من ...
أنا في الثالثة عشرة من عمري في ذلك الحين، وهو في السادسة عشرة، كنت ممتلئة الجسد، رغم قصري، ولي عقل - كما كانت تقول أمي دائما - كبير ... أكبر من عمري.
تحدثت معي حديثا أبكاني، ثم هددت بأنها ستخبر أبي إذا ... وأظن أنها أخبرته لأنه بعد عام واحد من هذه الحادثة زوجني ابن خالتي، ولو أنني رفضت قائلة لأبي صراحة: سيتزوجني محمد آدم.
ضحك أبي حتى سالت أدمعه، ثم قال: من محمد آدم هذا؟ ذلك الولد الذي يدرس في الصف الثالث بالمدرسة المتوسطة؟ الولد الذي معنا في المنزل؟
قلت مدافعة: عندما يتخرج في الجامعة.
قال ساخرا: بعد عشرين عاما ... يتخرج ويبني بيتا ويعمل ثم يتزوج، حينها ستبلغين سن اليأس وسيتزوج غيرك، بنتا صغيرة في الرابعة عشرة من عمرها ؛ تزوجي ابن خالتك وهو رجل غني وطيب وتتمناه كل فتاة.
قلت وقد يئست من حجتي الأولى بعد أن تفهمها أبي: أريد أن أقرأ.
قال مبتسما: الزواج لا يمنع القراءة، وأنت بنت صغيرة في الرابعة عشرة من عمرك، وإن شاء الله ستواصلين الدراسة بعد الزواج، ولا أظن نور الدين سيرفض هذا الطلب، إنه رجل أعمال ومال.
دارت الطواحين بالريح، بالصراصير المختبئة بجوالات الحنطة، دارت الطواحين فحطمت أحلامي الصغيرة طحنا ... طحنا سريا بائسا ... طحنا.
وعندما رحلت إلى بيت الزوجية الكبير المرعب، أرسل محمد آدم مع أخي الصغير الأطلس المصور وسافر إلى القرية.
ذلك السفر الذي لم يعد منه إلى الآن ... إلى الأبد، حيث تلقينا وفاته في نفس اليوم، فاللوري الذي كان على متنه تصادم بوابور حرث وسقط على ترعة صغيرة؛ مات كثيرون من بينهم محمد آدم ... كان وقع الخبر علي كالصاعقة، وأحسست إحساسا قويا بأن أبي وزوجي نور الدين هما اللذان قتلا محمد آدم؛ لقد رميا باللوري وأغرقا محمد آدم.
فكرهتهما كراهية شنيعة، ومقتهما مقتا حامضا منذ تلك اللحظة ...
كرهتهما.
في الخلاص
كنا
كنا بحجرة المحراب نحيك ملابس التيل السوداء للشتاء حينما خطرت بي فكرة أن نتخلص منه، من زوجي، قال المختار سائلا: موضوعيا، أم ذهنيا؟
قلت: إنه رفض الطلاق.
وبدأنا طقوس صلاة الخلاص، التحرر الذهني، السلمي، قمنا بتمارين التركيز الأولية ثم قليلا، قليلا تسلل صوته في دمي بكل هدوء وسهولة، عميقا كحلم الفيلسوف، أو رؤية نبي.
ركزي. ركزي. ركزي.
ثم اخترنا شعيرة دموية تقود إلى الذاكرة، صنعنا مركبين صغيرين من الصفائح الدموية وانطلقنا نحو الذاكرة، ذاكرتي، كنا نحمل معنا طلاء لطمس معالمه، «كلور» أيضا لتشويهه، أخذنا معنا أدوات التنقيب أدوات حقيقية وفعالة.
كان صوته السهل الواثق العارف القوي يتسلل في مسامي، لقد هيأنا لك الذاكرة، ادخلي.
ادخلي.
ادخلي.
فدخلت ثم غصت، تعمقت عميقا ... عميقا.
كانت رطبة لكنها مضاءة بشكل جيد ومريح، كانت أضخم مما كنت أتصور وأضخم من جمجمتي، أضخم من دولاب ملابسي، أضخم من المحراب، كمن أدخل سوقا سحرية تمتد وتتنوع أشياؤها وتتعدد، وكان صوته السهل القوي الواثق العارف يتسلل في دمي حلوا عميقا.
ركزي.
ركزي.
ركزي ... والآن.
والآن، فلنبحث عنه!
الأشياء متراكمة في بهو الذاكرة، الأموال، الأشجار، الأجهزة، راديوهات، أنغام، طريق مستنيرة، طريق مظلمة، طريق ميتة، إماء، أطفال، محمد آدم، المختار، أبي، أزهار دفلي وشجيرات عرديب صغيرة، وكثير من الذي لا ندري له اسما، أسماك.
كنا نقلب ونرفع هذا وذاك، ونزيح قليلا الى أن وجدناه مختبئا في ركن من شتاء الذاكرة، في ركن ثلجي به كومة متجمدة من الحوادث، والأوراق والحقد، كان هزيلا، باردا ومتشائما وهو يحتضن أطلس محمد آدم وسط صقيع شتاء الذاكرة، عيناه غائرتان، التقطه المختار بملقاط أعد لهذا الغرض خصيصا، مصنوع من قوة الذهن وعناد العاطفة.
نعم.
صب عليه قليلا من الكلور المركز حتى طمس معالم المقاومة فيه وبدأت تحت جلده ملامح لذئب مريض، قال المختار: لنسرقه خارج الذاكرة كليا، ربما استطاع هذا الذئب المريض افتراس أشياء مقدسة بالذاكرة. - ركزي، ركزي ...
خرجنا بمسام في الظهر، قذفنا به في الرماد وانتظرنا نرمقه إلى أن أصبح ذرة غبار لا لون، لا رائحة، ولا وزن.
ثم.
سمعت الصوت الواثق الهادئ العارف يقول، أيضا: الآن عودي ... عودي أيتها الملكة الجميلة ...
عودي.
عودي.
عودي.
الصوت
هذا الصوت
هذا الصوت، هذا الرجل، هذا المختار، التقيت به أو أرسله لي القدر ذات خوف وحزن، ذات غربة، ذات يأس. زوجي نور الدين هو الذي أتى به من المستشفى العام، وهو طبيب نفساني غريب السلوك، يقضي وقته كله بميس الأطباء؛ ليقرأ كل شيء ويرتل القرآن ولا يذهب إلى المستشفى وليست له عيادة خارجية، وإذا ذهب إلى المستشفى فللحالات الطارئة جدا وحتى هذه الطوارئ، فكان غالبا ما يعلق عليها قائلا: هذا عبث.
ثم يأمر بتحويلها إلى طبيب مبتدئ بالمدينة ليعود إلى آياته وشعره. ولا أدري كيف تمكن زوجي من إقناعه بالحضور إلى المنزل ليفحصني، فلقد كنت أصاب بحالة من الهذيان والكوابيس من الرعب.
قلت له ونحن بالمحراب ذات يوم، ذات ضحى: كيف أقنعك نور الدين بالحضور إلى بيتنا لأول مرة؟
قال مبتسما: عيناه هما اللتان أفشتا السر. - أي سر؟
هذا السر الذي نعايشه الآن، ثم أضاف: اللغة ليست حكرا على اللسان، فبإمكان وحدات الجسد كلها القول، والعين كما يقول السيد المسيح: هي مصباح الجسد، هي نوره.
مايازوكوف
عندما خرجت من المدرج
عندما خرجت من المدرج كانت الساعة تشير إلى العاشرة إلا ثلثا، وأنا أتجه إلى محطة الباص، سمعت صوتا نسائيا يناديني: نحن هنا.
إنه صوت سارة حسن، الذي تميزه بحة خفيفة. - كنا ننتظرك منذ وقت طويل، ربما منذ بدء محاضرتكم مباشرة.
سارة حسن، آدم وحافظ ومعهم أيضا صديق يكتب الشعر، أعرفه منذ أن حضرت إلى الجامعة، وهو أمين محمد أحمد، كانت معهم أيضا نوار سعد، التي تشع جمالا وحيوية وهي تقفز هنا وهنالك كغزالة شاردة، ولم يكن بصحبتهم مايازوكوف أستاذ النحت المجنون والأكثر عقلا من الجميع، قالت لي سارة: لدينا مشوار مهم ونريدك معنا. قلت: لكني سأعود إلى الغابة، فالمختار في انتظاري اليوم وأنا لم أره منذ ثلاثة أيام.
قالت سارة في إصرار: لا ... اليوم هو يوم مايا العزيز، هل تعلمين أين مايازوكوف؟ - إنه في منزله يحتفل بالذكرى السادسة لوفاة صديقه المغني السوري مداح المداح، ألا تتشوقين إلى احتفالات مايا العزيز؟
وقبل أن تسمع رأيي في مسألة الذهاب زج بي الأصدقاء زجا في باص الجامعة، الذي كان ينتظرني مشحونا بالطلاب وأساتذة الفنون وآخرين من المجانين الذين انفجروا بالغناء والصفير، وأيضا الصراخ والزغاريد.
في الروح
في الحق احتفال
في الحق احتفال مايازوكوف السنوي بيوم صديقه مداح المداح؛ له إغراء لا يقاوم، فهو مهرجان للخبل والعته والجنون، مهرجان للانطلاق، مهرجان للروح، أو كما تقول نوار سعد: مداح المداح كان مغنيا سهل الروح، صعلوكا ومرحا، لا يعرف الحزن لقلبه سبيلا، وكان يحب كل شيء: المأزق، حرب حزيران، المرأة، السلام والخمر، ولو أنه كان يعشق جمال عبد الناصر إلا أنه كان لا يرى في الصراع العربي الإسرائيلي إلا سوء تفاهم، مجرد سوء تفاهم بين طفلين لأم واحدة وهي الأرض.
في الحق لم ير أي منا مداح المداح، ولكن من خلال الاحتفال السنوي بذكراه.
كان المحاضرون ومايازوكوف والمغنون والأصدقاء الذين يفدون من سوريا خصيصا لحضور مهرجان مايازوكوف، كانوا يحصرون كل شاردة وواردة في حياة مداح المداح بدءا من أسلوبه في الغناء، انتهاء بنسائه واستمنائه.
في البيت
بيت مايازوكوف الخلوي يقع ...
بيت مايازوكوف الخلوي يقع شرق جبل المرسم في مساحة شاسعة، مسور بأشجار الأركويت، ويبعد جبل المرسم زهاء الميل ونصف الميل، يصح أن يوصف بأنه غابة صغيرة من أشجار العرديب الضخمة تتخللها بعض التبلديات وقليل من أشجار الباباي التي توجد قرب السور في الأطراف، وهي طويلة.
تحمل ثمارها في صدرها كأثداء لبنيات أسطوريات في سنة المراهقة الأولى، وسط هذا المنزل الذي تبلغ مساحته ثلاثة أميال مربعة تقريبا، يوجد جبل صغير كان في الأصل بهذا الموقع وحوله التبلديات وكثير من العرديب وبعض أشجار الأكاسيا.
بنى مايازوكوف حوله بيته، بعد أن زرعه بالأشجار النادرة ومختلف نباتات الزينة، ثم صنع في قمة الجبل نافورة مياه تندفع مياهها في شكل زهرة لوتس كبيرة وتسقي الشجيرات، ثم تسيل في هيئة نهر صغير لتصب عند بئر تقع تحت الجبل؛ مصدرة خريرا ساحرا نتيجة لتساقط الماء على انكسارات صخرية مدروسة فعلها مايازوكوف بنفسه حول جدران البئر، وبساحة المنزل أيضا تنتشر الأرانب البرية المستأنسة والسلاحف وطيور الأوز والدجاج والنعام التي لا تخاف البشر.
أما المبنى، مبنى البيت فهو بسيط ويتكون من قاعة كبيرة للاستماع للموسيقى وتستغل كمحترف للرسم وقاعة اجتماعات، وهنالك أربع حجرات أخرى، وهي عبارة عن غرفة جلوس وغرفة نوم كبيرة، وغرفة أخرى أصغر حجما وصالون، بالإضافة إلى المعمل الصغير خلف المبنى لتقطير عرق العرديب.
ويوجد هذا المبنى المتداخل في بعضه في أول المنزل الكبير عند المدخل، وتقع الغابة ويقع الجبل خلفه.
حوى بيت مايازوكوف في هذا اليوم أشكالا من البشر والجنسيات العديدة: عرب، طلاب وأميين، صعاليك ورجال دين متطرفين، أساتذة وعسكريين، نساء ورجال مسالمين مسامحين كزهر البرسيم، صبيان، داعرات، مثقفات، شعراء وأنبياء كذبة، شحاذين ومحسنين، أوربيين آسيويين وأفارقة ولا موطئ لقدم؛ الجميع في ساحة المنزل تحت أشجار العرديب والتبلدي الباسقات وتحت الجبل يطعمون الأوز والأرانب وطيور الود أبرق، وبعض المجانين يركبون على ظهور النعام والسلاحف الضخمة، وقد نجد بنتا جميلة وولدا نزقا في أجمة من عشب المحريب عند أطراف السور تحت شجيرات الباباي يقبلان بعضهما البعض، أو يفعلان تحت الإضاءة الخافتة الآتية من بعيد جدا ومباركة المحريب.
وأيضا هنالك نفر كثير يجلس حول البئر للاستماع إلى موسيقى تساقط مياه نهير الجبل بين انكسارات الصخور في البئر، أو لإمتاع العين بمشاهدة زهرة الماء التي تخلقها النافورة، حيث لا يمكن تحديد مواقعها بالضبط؛ أشخاص يلعبون الشطرنج وهم يغنون بالقاعة الكبيرة، يشربون عصير العرديب، يشربون العرق وهم متكئون على سوق البابايات والياسمين والتمرهندي، يأكلون مربى العرديب، الذي كما يؤكد مايا العزيز أنه يضعف الذاكرة، بالتالي يجعل الشخص أكثر ميولا للخلق والإبداع.
في منصة قرب جبل الموسيقى يقف نصب مداح المداح مواجها نافورة المياه اللوتس مصنوعا من الجبص، يحمل عوده وهو يصدح بالغناء وكأني أسمعه يردد أغنيته الشهيرة:
يما مويل الهوى
يما مويلي
طعن الخناجر ولا
حكم الخسيس في.
أو لربما لأن الأغنية أصلا على مقعد التمثال بحبر ذهبي يجبرك على قراءته، قلت لنوار: لقد سمعت هذه الأغنية من قبل في غير هذا المكان، بصوت الشيخ إمام المصري، وقالت وهي تحرك شفتيها بامتعاض: العجوز الشيوعي ... ه ... هه ... أنا لا أحب أغاني الشيوعيين؛ لأنهم يقولون شيئا ويعنون شيئا آخر وقد يكون الشيء الأول. إنهم قد يقولون «بنتا» ويعنون ثورة مسلحة أو ربما جيفارا نفسه؛ ولكنهم كأفراد رائعون، لفتيانهم مقدرة غير محدودة في الإشباع الجنسي. - هذا شعر جميل وهو لمحمود درويش!
قالت في صورة حاسمة ونهائية أنا امرأة بسيطة أحب فاسيلي كاندنسكي وميشيل فوكو، والجنس أنا مخلوقة بسيطة.
بسيطة جدا ...
ثم ...
انفجرت بالضحك، الضحك ... الضحك، مما أثار حفيظة طالب بكلية دينية كان قد حضر الحفل لأشياء في نفس يعقوب، وكان قريبا فأخذ يصيح بأعلى صوته: قلة أدب وصعلكة فارغة، ثم أضاف بحرقة: لعنة الله عليكم يا بني إسرائيل.
وخرج وهو يسب ويلعن.
في البيت
بيت مايازوكوف الخلوي يقع ...
بيت مايازوكوف الخلوي يقع شرق جبل المرسم في مساحة شاسعة، مسور بأشجار الأركويت ويبعد جبل المرسم زهاء الميل ونصف الميل، يصح أن يوصف بأنه غابة صغيرة من أشجار العرديب الضخمة تتخللها بعض التبلديات، وقليل من أشجار الباباي التي توجد قرب السور في الأطراف، وهي طويلة.
تحمل ثمارها في صدرها كأثداء لبنيات أسطوريات في سنة المراهقة الأولى وسط هذا المنزل الذي تبلغ مساحته ثلاثة أميال مربعة تقريبا، يوجد جبل صغير كان في الأصل بهذا الموقع وحوله التبلديات وكثير من العرديب وبعض أشجار الأكاسيا.
بنى مايازوكوف حوله بيته، بعد أن زرعه بالأشجار النادرة ومختلف نباتات الزينة، ثم صنع في قمة الجبل نافورة مياه تندفع مياهها في شكل زهرة لوتس كبيرة وتسقي الشجيرات، ثم تسيل في هيئة نهر صغير لتصب عند بئر تقع تحت الجبل.
في بلادنا
يجلس مايازوكوف فلادمير على ...
يجلس مايازوكوف فلادمير على مقربة من نصب «مداح المداح» يتوسط رجل أجنبي أبيض الإهاب، له ذقن كبيرة شقراء، قيل إنه مستشرق قام بترجمة رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» إلى لغة الهوسا والفولاني، وهنالك امرأة عربية بدينة ذات وجه جميل أبيض، سورية وزوجة رجل بالقنصلية العراقية، وهي محاضرة المهرجان عن «مداح المداح» كانت تقوم بسرد تفاصيل حياته أيام دراسته بمعهد جوركي للآداب بروسيا، ثم تحدثت عن إصابته في حادث سير متعمد ببغداد، ثم اختطافه في بيروت بواسطة جيش لبنان، ثم كيف أنه هرب متخفيا في زي جندي إسرائيلي ثم غنت.
غنت خمس أغنيات من أحلى ما سمعناه من غناء لمداح المداح، ثم قدمت مايازوكوف؛ ليتحدث عن عادات مداح المداح الخاصة جدا، وذلك كدأبه في كل عام، ولو أنه كان حديثا شيقا وجديدا وممتعا. وفيما قال: كان المداح يعشق النساء إلا أنه كان دائما يفضل الاستمناء.
قال: إذا جاع مداح المداح شرب الزيت، أو أكل البطاطا نيئة، وقد يأكل كل ما يقع على يديه ... قال: حاول المداح أن يتزوج مرة ، ولكنه خاف على حريته وربابته، قال: كان يؤمن بأن حل القضية العربية الإسرائيلية لا يكمن في الرصاص والحرب الاقتصادية، ولكن في المعايشة السلمية بين العربي والإسرائيلي وفوق دستور غير عنصري وقانون عادل ونظام حكم ديمقراطي، قال: قبل موته بأيام كان يحلم مداح المداح بالقدوم إلى بلادكم - البلاد الكبيرة - ثم قال إنه يستطيع البقاء في سوريا بعد وفاة مداح المداح، ولكنه لم ينفك من حبه للشرق الذي زرعه فيه المداح فجاء إلى هذه البلاد الكبيرة.
ثم قال: علمني اللغة العربية ووجهني لدراسة القرآن الكريم والغناء العربي، وهو من قال لي ذات يوم: إن العالم أوسع بكثير من هذا المعهد، معهد جوركي، وإنه قد يساوي المعهد مضروبا في ثلاثة.
رقصنا على ألحان سورية، واستمعنا لمايازوكوف يغني لميادة الحناوي: حبينا واتحبينا.
ثم لم يتمالك نفسه من البكاء فانفجر بالضحك.
مما أبكى معظم الحاضرين.
وجه المختار
بصعوبة صدقت ...
بصعوبة صدقت عيني عندما ظهر فجأة وجه المختار من بين الحضور، سألته من الذي أخبرك بالاحتفال؟
قال: أرسل لي مايازوكوف، ولو أنني لم أنس تاريخ وفاة المداح لأنني كنت أنتظر مجيئك إلي بالغابة لنأتي معا، وعندما أسرفت في التأخر جئت.
هل فاجأتك؟
كنت أتمنى أن يقول لي: «لقد اشتقت إليك.» بدلا من ... «هل فاجأتك؟» وكنت أعرف أنه اشتاق إلي حقا، ولكنه لا يفصح عن مشاعره أبدا، وبحس المرأة في ذلك الحس المرهف الذي لا يخطئ أعلم علما باطنيا أنه يحبني، ولكن ...
لماذا علي أن أفكر هكذا؟ قلت له: إذن لقد التقيت مايازوكوف؟ - كنت معه قبل قليل، إنه شخص مدهش كلما ألتقيه أكتشفه من جديد، أين نوار سعد التي قلت لي عنها كثيرا؟ - هل تشتاق لرؤيتها؟
قال بتحفظ: لقد أخبرتني عنها كثيرا.
قلت: إنها كانت معي قبل قليل، ولكنها ذهبت في صحبة صديق إلى جهة ما داخل هذه الغابة، ولكنها ستحضر وستراها. قال: تقصدين البابايات والمحريب؟! إذن فلنذهب نحن إلى بئر الموسيقى نستمع لخرير المياه ونطعم طيور الود أبرق النعسانة المنزعجة بالضوء ... قلت: أحب أن ألتقط بعض ثمار الباباي على موسيقى البئر، كم يكون ذلك رومانسيا. - لا أدري لماذا في هذا اليوم بالذات كانت تتملكني شهية طارئة وملحة للغزل، ليس للتجانس تماما، ولكن لشيء قريب من ذلك، ولو قبلة عميقة على عشب المحريب، ولو همسة.
عرق
كان مايازوكوف ...
كان مايازوكوف يرى في المختار متصوفا من مدرسة قديمة في زمن حديث، وكان يعجبه أسلوبه في الحياة ويحترمه، ولو أنه يختلف معه في أمور شتى، إلا أنه كان دائما ما يكرر: إن المختار يشبهني كثيرا، ولحد ما نصفي الآخر.
قدم مايا العزيز للمحتفين عرق العرديب الذي قام بتقطيره بنفسه، فشربه البعض ولاذ بدينهم الآخرون.
احذروا الأنبياء الكذبة
صعد شاب ...
صعد شاب على شجرة تبلدي عملاقة نادى في الجمع أن يجتمعوا إليه؛ فتجمعنا قال وهو يمسك ثمرة تبلدي بيده: أنا شخص مثلكم شخص عادي، كأي صفصافة، كأي شجرة عرديب بهذه الغابة.
كالريح.
شخص عادي.
وأنتم، وأنتم أيضا أشخاص عاديون وطيبون، وعرفت ذلك من طريقة مشيكم وأسلوب تناولكم لعرق وعصير العرديب الذي حباكم إياه مايا العزيز.
فأنتم عاديون وطيبون ...
لكني إذا ادعيت النبوءة، بلا شك ستتحولون إلى ماكينات للأسئلة، ماكينات شرسة، وتراجعون ذقني ولبسي ورباط حذائي وتهمسون لبعضكم: أشرب كثيرا من عرق العرديب أم إنه لا يسكر؟ ولكني أعرف أن السيد المسيح عيسى بن الإنسان هتف فيكم قائلا: «احذروا الأنبياء الكذبة.»
وأنا واحد منهم، نبي كاذب فاحذروني.
ثم أخذ يأكل ثمار التبلدي بكل هدوء وطمأنينة، ويبصق البذور على رءوسنا، نحن الذين جئنا للاستماع إليه تحت شجرة التبلدي العملاقة!
سخر منه البعض، صدقه رجل مغرم بالنور عثمان أبكر، كذبه البعض وقال عنه آخرون: إذا صدقناه فإننا اعترفنا بنبوته الكاذبة، وإذا كذبناه نصبناه نبيا صادقا، وإذا ضحكنا عليه كأنما ضحكنا على أنفسنا.
ثم التقينا بأمين محمد أحمد، وكان في صحبة سابا تخلي الحبشية صديقة نوار سعد، قال إنه ناقش مدعي النبوة هذا من قبل، وطلب منه معجزة تبرهن بعثه إلينا، فرد ساخرا: لقد انتهى زمن المعجزات بعد أن خلق الله أمريكا وهيأ للإنسان الكمبيوتر، عدسات العيون اللاصقة والكوندومز.
قال أمين إنه وسابا سيزوراننا بالمحراب، قالت سابا للمختار: إذن أنت رجل الغابة الذي نعرفه ولم نره؟ قال مبتسما: أنا هو بالتأكيد، كما أنك سابا تخلي حفيدة عشيقة رامبو التي نعرفها ولم نرها.
أما أنا فقد قابلت سابا عدة مرات مع نوار سعد في منزلها الخاص «بالحلة الجديدة» فهي فتاة جميلة وذكية وحبشية.
الوحدة الوحدة
البيت الذي انتقلت إليه ...
البيت الذي انتقلت إليه بعد الزواج بيت كبير، به خمس حجرات ومطبخ كبير وسفرة، به ثلاثة حمامات، وبالتالي عدد لا بأس به من الشبابيك والأبواب، وخاصة إذا كانت مشرعة، فكنت أحس كما لو أن وحشا مرعبا سيقفز للداخل ليمزقني إربا إربا أو يبتلعني، وقد نما هذا الخوف منذ الطفولة الأولى إلى أن التقيت بمحمد أحمد، فاختفى ولم يظهر إلا عندما انتقلت إلى هذا المنزل، منزل الأشباح التي تطرق الباب وتفتح النافذة وتمشي في الغرفة ...
أسمع وقع أقدامها ولا أراه.
أسمعها تنادي ولا أراها.
كنت أصرخ كالملسوعة في وضح النهار إذا طرق الباب شخص أو إذا حط عصفور على النافذة، إذا غنى مغن بالطريق، أو داعب الريح شباكا أو ...
ولولا أن أهلي يعلمون خوفي من النوافذ منذ الصغر لم يترددوا في إيداعي المصحة، نما أيضا عندي الخوف من الظلام، ثم هاجمتني الكوابيس والأحلام المرعبة، قطط وبراغيث أموات تأكل أمواتا، حريق، جدري، وحمى شوكية، فئوس نارية تبتر أطرافي، طريق طويلة تؤدي إلى رجل قصير ميت، ناموس وأحشاء مكومة كالجبال، جنيات ترقص المانجي والمردوم على ضوء القمر وعروس تلبس كفنا عطش ... عطش ... عطش ... - طلقني أرجوك أو ...
اقتلني كما قتلت محمد آدم! - من قتل محمد آدم؟ - أنت وأبي أغرقتماه، وركبت أنت على ظهره إلى أن مات ... ثم حطمت صحف الحساء على رأسه، عضيته بصدره مرتين، فجاء بالمختار الطبيب النفساني.
تفحص وجهي
تفحص وجهي جيدا، حملق في عيني مليا، ثم طلب من زوجي ومن بالحجرة الخروج، وعندما غادر آخرهم قال لي بهدوء: اسمي محمد المختار، ما اسمك؟
ثم أخذ مجلسا قرب رأسي وأخذ يتلو:
سلام قولا من رب رحيم ، ثم تحدث بشكل متواصل عن أشياء عادية جدا ومتنوعة، وكان غالبا ما يسألني عن رأيي فيما يقول مرددا: أليس كذلك؟ ثم يواصل حديثه بحرفية وثقة وبيقين تام، مرة كنت أراه يعبث بعمق، ومرة كنت أحسه كنبي، قال: تحدثي عما تشائين.
حدثته عن السفر الطويل، الطويل نحو بلد بعيدة عن رجل قصير وسيم ينتظرني في نهاية الطريق لأهبه بنتا جميلة، رجل ميت.
حدثته عن طارق الباب الذي لا أحد! حدثته عن خطوات الأشخاص غير المرئيين، حدثته عن نور الدين زوجي وقلت إنه لا يطاق، وإني لا أحبه، وإنه وأبي قتلا محمد آدم. قال: ومن هو محمد آدم؟
داوم على زيارتي في البيت من حين لحين ...
اختفى ولم أره إلا عندما جاءني في الجامعة، وبعدها لم نفترق ...
ما يشبه صديقتين
علاقتي بنوار سعد
علاقتي بنوار سعد توطدت بشكل غير متوقع، وأصبحنا ما يشبه صديقتين، كان يعجبني فيها صدقها وصراحتها وثقافتها أيضا، ولكنها تزعجني عندما تبدي رغباتها الجنسية، ولا تتردد إطلاقا في أن تقول لرجل أعجبت به: أنا أريدك!
تقولها بأي أسلوب، وهي بارعة في استخدام الأسلوب المناسب مع الرجل المناسب، كانت تقول إن الرجال ثلاثة: رجل جريء يبدي رغبته بشكل مباشر وواضح، فهو مبادر.
رجل خجول لا يبدي رغبته بشكل واضح، ولكنه يلمح تلميحات تستطيع المرأة الذكية التقاطها والتفاعل معها دون أن تشعره بالحرج، فهو لماح.
رجل جبان مشحون بالرغبة إلى صوف رأسه، ولكنه ما في نفسه شيء، ولا يلمح ولو تلميحات غامضة مبهمة، بل يظل ساكنا كعلبة الكبريت وفي قلبه النار فهو متعب.
كانت نوار سعد تفضل الرجل النحيف المثقف، ويا حبذا لو كان برأسه قليل من الشيب، لا تستطيع أن تقاوم إغراء رجل عقب في ندوة بشكل جيد ينم عن ثقافة ووعي بالأشياء ونضج، وتكره نوار سعد رجلين: جاهل، وعلى حد تعبيرها: «لا يعرف كوعه من بوعه.» والرجل الآخر: العسكري، ولأنها تعتبره شخصا لا تكتمل فحولته إذا لم تكن بقربه آلة تحسم الحوار لصالحه بإسكات الآخر للأبد.
وهي دائما جميلة، جميلة جدا كروح فراشة، وهي دائما رقيقة بها أنوثة دافقة «وهذا سلطانها» كما يؤكد أمين محمد أحمد: «بها أجمل رمش رأيته في حياتي.» وكانت تقول بأن جمال الرجل ليس في شكله مثل المرأة، لا، فقد يمتلك الرجل القبيح الشكل جاذبية تتواضع أمامها جاذبية ووسامة المقنع الكندي، وبهاء طلعة يوسف النبي.
وكنت دائما ما أحرج عندما تجرني جرا لمخاطبة شخص لا نعرفه، وكل ما يصلنا به هو جاذبيته أو رائحة إبطه، لا أكثر، وبالرغم من ذلك كنت أجد فيها صديقة وفية، صادقة، صريحة وواضحة.
في السياسة
عندما استأذنتها سارة ...
عندما استأذنتها سارة للتحدث معي في أمر خاص، كنا أنا وهي نجلس أمام مكتبة الجامعة تحت شجرة فيكس شامخة وجميلة، همست في أذني: هل تحبين السياسة؟
قلت: لماذا هذا السؤال؟
قالت: سأخبرك عندما نلتقي غدا ...
قالت لي سارة - ونحن نمشي نحو معمل الأحياء: أنا وآدم وحافظ لدينا ما نناقشك فيه. - الآن؟ - لا ليس الآن، ولكن بعد العاشرة عند بيت مايازوكوف، حيث نذهب لدراسة الموسيقى بعد المحاضرة الثانية ... قلت: هل تذهب معنا نوار سعد؟!
هتفت سارة وبعينيها بريق قلق: لا ... لا إنها تذهب إلى منزل ميازوكوف ولكن لأشياء تخصها وحدها، وأما نحن فلدينا شأن عام.
في الأشياء الأخرى
بحديقة مايازوكوف ...
بحديقة مايازوكوف أشجار العرديب شامخة كنحت آلهة لمثال سكران ...
بحديقة مايازوكوف أشجار الصفصاف عليها البجعات والسنبر.
بحديقة مايازوكوف معمل عرق العرديب وأطيار الكلج كلج، والنعامات والحبارات، وأيضا ما يطير من أحلامه الكثيرة في فراغات الدنيا ...
بحديقة مايازوكوف الأرانب والسلاحف وأشجار الباباي تتوسط عشب المحريب العطري.
بحديقة مايازوكوف الشمس على هامات العرديب والتبلدي والجبيل المرح الحارس لبئر الموسيقى ونصب مداح المدح.
بحديقة مايازوكوف نصب مداح المداح والريح نائمة في ظل أناشيد الرعاة السوريين وأساطير الآشوريين.
بحديقة مايازوكوف الورد الإنجليزي ينتظم الممر إلى حجرة نومه والأرض نجيل البنذيما ...
بحديقته هو، وجدناه جالسا بالصالون وحيدا مشحونا بالأشياء مهموما. نهض من مجلسه مبتسما وقبض على أيدينا بحرارة وحب، قال له حافظ: إنك تبدو حزينا أليس كذلك يا سارة؟
قال مايا العزيز مبتسما: هذا صحيح إنهم يطلبون مني مغادرة البلاد.
قلت وسارة في آن واحد: لماذا؟! وماذا فعلت لكي يطردوك؟ - بالتأكيد لم أفعل شيئا، وإنهم لا يحتاجون لمبرر لطردي.
فلا حق لطائر بنخلة البستاني، ولو أنه بنى بها عشا من الذهب، قال الجملة الأخيرة بمرارة وحرقة.
لمايازوكوف أصدقاء وزراء وقضاة، شعراء شيوعيون وليبراليون ورجعيون أيضا، لمايازوكوف أصدقاء صعاليك، ولكنه أكد لنا أنه لن يذهب لأحد يحميه ... قال: لا أدري متى سأغادر؟
مايا العزيز
تخرج مايا ...
تخرج مايازوكوف فلادمير في معهد جوركي للآداب في 1953م حيث التقى بمداح المداح، وقد كان هو الآخر طالبا بنفس المعهد، وافدا من قبل حكومة بلاده سوريا لدراسة الآداب، درس الفنون بروسيا وباريس، وتخصص في النحت ونال درجة الدكتوراة بجامعة موسكو، ثم ترك وطنه لاحقا بصديقه مداح المداح في سوريا، فاحترف مداح الغناء واشتهر به، أما مايازوكوف احترف النحت والتصوير وعمل أستاذا لفنون ما قبل التاريخ المرئية بجامعة اللاذقية.
سألاني
سألاني عن علاقتي بنوار سعد؟
سألاني عن علاقتي بنوار سعد، وهل هي عميقة جدا؟ - إننا صديقتان. - بالتأكيد أنت لا تعرفين كل شيء عنها. - لحد ما؛ فهي لا تخبئ عني الكثير. ثم غير حافظ مجرى الحديث داخلا في الموضوع بوضوح ... - هل اشتركت في المظاهرات الأخيرة؟ - لا. - لماذا؟ ألم تهزك الأحداث الأخيرة؟ - لقد آلمتني كثيرا، ولكنني كنت بالمحراب لأن المختار مريض ولا أحد معه، فلم أستطع تركه طوال أسبوع، ضف إلى ذلك لا أميل إلى السياسة، فأنا مسالمة ولا أرغب في سلطة أو جاه! قالت سارة: ربما أثرت فيك نوار سعد، فقط لو كنت تقدسين فاسيلي كادنسكي وشاجال وأمور أخرى. قلت محاولة أن أكون هادئة: لكل منا أسلوب حياته، فهي تقبلني كما أنا، وأنا أقبلها كما هي!
والحرية كما يقول أستاذ البلاد الكبيرة محمود محمد طه: «لنا ولسوانا ...»
في الحكاية
حدثتني نوار سعد فيما ...
حدثتني نوار سعد فيما بعد عن سارة وحافظ آدم قائلة: إنهم ينتمون لتنظيم سياسي محظور نشاطه معارض للنظام القائم، ونصحتني أن أنتبه لدراستي، وأنا أصادقهم - كما تفعل هي - لأن بهم أشياء جميلة مفيدة، وأنهم بشر «من نوع جيد»، ولكن يجب ألا أصير واحدة منهم، أبدا، قالت: الأيديولوجيا ضد الحرية، والحرية فوق المصلحة الوطنية؛ لأن الوطنية ليست سوى عاطفة تثقلها الكبرياء الزائفة.
في الذهاب بعيدا
صوت المذيع المنفعل ...
صوت المذيع المنفعل يتحدث عن المؤامرة التي تقوم بها دولة أجنبية ضد شعب البلاد الكبيرة، وكان يصف قادتها بالخونة، حينها فهمت جيدا لماذا طرد مايازوكوف من جنته كما تقتلع نخلة من الأرض.
رسالة
مزقها أمين قبل أن يرسلها ...
الليل أيتها المرأة.
الليل الموجع الحامض، حيث استعصت علي كتابة الشعر وقد هيأت له الذهن والمحبرة والنفس، ولكن وجدتني أكتب إليك هذه الرسالة، منذ العاشرة مساء وأنا أقول إنني أحبك بمأساة، أحبك بصمت قدر فارغة على النار.
بصمت حجر.
بصمت ضجيج العالم كله.
موسيقى جسدك الجنسية التي طهرت روحي من كل النساء.
باركت نقائي ... جسدك الذي حررني من طفولتي.
أطلقني نحو أبدية هي: ما لا يدرك ... ويدرك.
عندما أخرج من المنزل كنت أقول لنفسي: ليس بينك ونوار سعد سوى الطريق، عندما ألتهم الطريق وألقاك أحس أني بيني وبينك ما كانت الطريق وحدها ... لكن ...
الصمت ...
الصمت ...
الخوف، البؤس ...
عندما أستمع إليك تتحدثين عن فاسيلي كادنسكي ومثلثاته وألوانه كان يعجبني تعبير جسدك، انكسارات صوتك وأنت تعمقين سلطة اللون والضوء.
لكن بما بي من جبن يمنعني من أن أقول لك.
الليل أيتها المرأة ...
الليل الموجع الحامض حرمانه.
ليلك أنت.
وحدك لعذاباتي ...
لحظة واحدة كنت - وما أزال - أمني النفس بها ... ولأموت بعدها ... هي: أن ألمس ولو ظفرك الإلهي، لمسة تجسد الشهوة بعمق.
لها سلطان الروح.
تسري بعروقي، ذرة ... ذرة.
تنتظم جسدي كله.
ثم تستقر عند سوداء القلب، لتحكي عن فاسيلي كاندنسكي وشاجال.
ما فائدة أن أكتب لك وأنت تنظرين إلي ولا ترينني ...؟
تتحدثين إلي ولا تقولين شيئا؟ تشتاقين إلي ولا تشتهينني؟
ما فائدة أن أقول لك منذ العاشرة أحبك بمأساة، هي أقرب لأذن فان جوخ منها إلى لوحة «تاجر المواشي» لبروجيل الفلاح، ما فائدة ذلك وأنت لا تسمعين؟
ضجيج فوران الدم في شراييني، عندما أبحث عنك فألقاك ولا أجدك ...
هذه الجميلة، هذه الحبشية سابا ... الحبشية التي تعرف كيف ترى وتسمع، تتهمني بالخبل، ليس إلا، لأنني طلبت منها أن أمتلك قطعة من ملابسك الداخلية؟
قطعة متسخة مرمية بسلة الملابس المتسخة بالحمام!
اسمعي، أيتها المرأة، نوار ...
أنا لا أحبك.
أنا لا أشتهيك ...
أنا لا أريد أن أقبلك!
آكل شفتيك!
أعتصر جسدك في صدري!
أتلاشى فيك للأبد، أنا أكرهك، أيتها القبيحة.
رسالة
الليل هنا ...
الليل هنا.
كابوس طويل دونك، عزيزي خوان بيدرو.
دونك يا سيد مسرتي، أمير أمسياتي.
الليل هنا كابوس طويل.
الحدأة تحلق عاليا صوب الحزن
وجدناه يرتدي ...
وجدناه يرتدي الجلباب الرمادي الغامق، جالسا على فراء من جلد العجل، ذهل في بادئ الأمر عندما رأى نوار سعد، فما كان يتوقع قدومي بصحبة شخص ما، قدم لنا القهوة بلبن الماعز، ابتسم، قدمت إليه نوار سعد، قال وفي فمه ابتسامة: بالتأكيد، لقد بحثنا عنها يوم مهرجان مداح المداح ولم نجدها.
كانت نوار سعد تحملق في وجهه بشكل مرعب، ثم تنظر إلي كأنها تسألني، ثم همست في أذني: إنه أشيب نحيف، هل لاحظت ذلك؟
نعم، كنت أعرف أنه أشيب نحيف.
لكنني لأول مرة أدري أنه أشيب نحيف، لقد استيقظت فجأة، أدركت خطورة الموقف، فها هي نوار سعد تجد فريسة جديدة لا يقاوم إغراؤها، ولو أنه من النوع المتعب، حسب تصنيف نوار سعد للرجال.
قالت بمرح، وتفاؤل: أنا دائما عندما أسمع برجل ولم أره - وإن لم يوصف لي - أعتبره شخصا نحيفا مثقفا أشيب، غالبا ما يصدق الحدس، فها هو المختار ...
قلت وكأنني أدفع عن نفسي: إنه رجل صعب، يعرف جيدا ما يريد.
قالت وفي فمها ابتسامة ماكرة: وأنا أيضا أعرف ما أريد.
ثم واصلت في القول دون اعتبار لما أبديته من ملاحظة، موجهة كلامها إلى المختار: هذا العالم رغم صغره، هذه المدينة رغم ضآلتها، يوجد بها أشخاص ذوو أهمية بالغة ، لم نرهم أو نقابلهم.
قال مبتسما: وقد لا تسمعين بهم.
ثم تحدث عن مزرعة المحراب قرب النهر، وكيف أنشأت، قبل أن تنفرد نوار سعد بدفة الحديث، وتتكلم بلباقتها المعهودة، عن الفن البوذي وأسلوب النحت الخاص بسكان التبت في لا سا وما حولها من جبال وأودية، عن إسبانيا بول كلي، جويا، سلفادور دالي، بيكاسو، ثم عن فنان أعجبت به يعمل في متحف مسيو دل برادو كان - ولا يزال - يمارس معها الحب كلما التقى بها، قالت: إن اسمه هو خوان بيدرو.
قالت: ممارسة الحب حق مشروع لكل من هو حري به.
قال بهدوء شديد: الحب غريزة لا يصح ابتذالها.
قالت منفعلة: نحن لا نبتذلها ولكننا نجعلها شيئا عاديا ... - ولكنك تحدثت عنه بحماس عجيب!
قالت: إنه حماس طبيعي يليق بدفء الموضوع.
ثم أضافت بمكر: ألا تريان ذلك؟
فهمت ما ترمي إليه، تمنيت لو صفعتها في وجهها، ولكني قلت لها بهدوء مفتعل: نحن لا نمارس الحب، وأنا متزوجة كما تعرفين، أما هو فتخلص من هذه الرغبة منذ زمن مضى.
فضحكت نوار كما لم تضحك من قبل، ثم قالت بشبه هستيرية: هل أنتم ملائكة منزلون؟ إذن كيف تظلان على قيد الحياة؟ ولماذا؟
قال بهدوء: الحياة أكبر مما تحصر في هذا المكان الضيق. - أنا لم أقل إنها مجرد ممارسة حب، لكن الحب أيضا يبقى عماد الحياة وسرا من أسرار بقائها. - لكن لا بد من التخلص منه لنقاء الروح.
حدثتنا
حدثتنا نوار سعد عن ...
حدثتنا نوار سعد عن أسرتها المقيمة بعيدا في شمال البلاد الكبيرة، في قرية على ضفاف النهر، يزرع والدها النخيل والبصل الأحمر ويربي الحمير والكلاب، وكان رجلا فقيرا سكيرا وغير مسئول قبل أن تقوم هي بمده بالمال اللازم لشراء الأرض والنخيل والحمير، أما الكلاب فكان غني بها منذ جدوده، كنا نأكل وجبتين أو وجبة واحدة، أو لا نأكل شيئا في اليوم كله. قالت: درست بمدارس القرية، ثم انتقلت إلى الداخلية بالمدينة في المرحلة الثانوية، ولو أنني وأختاي نورا ونور دخلنا المدرسة في يوم واحد ، إلا أنهما تزوجتا فور إكمالهما للمرحلة المتوسطة وبقيتا ببيتهما، وكنت ذكية وقبلت بالجامعة الكبيرة، وفي المدينة الجامعية خلقت للمرة الألف خلقت من الجوع الذي هو صديق الأسرة الوفي، ألم الجوع ألم مر، ألم السائل المحتاج واليد السفلى، تخيلا أن يصبح الإنسان هو السائل المحتاج واليد السفلى دائما.
قالت: لم تكن هنالك فائدة ترجى من وراء أبي، ولكن أخوالي، أخوالي أنفسهم الذين فررنا إليهم أيضا عجزوا لفقرهم عن تلبية ما أحتاج إليه وأنا بالمدينة الجامعية؛ ثم أضافت وهي تحسن من وضع ثوبها الأنيق غالي الثمن ذي الطاءوسات الثلاث المطرز عليه بالحرير الأصلي وخيوط الذهب ثلاثة طواويس، يصعب تحديد لونها الحقيقي لأنها تأخذ لون المكان المحيط بها مضافا الذهبي الخفيف، فهنا بالمحراب كان لونهم شجري ورملي عند النهر، وصخري عند مرسم مايازوكوف المفتوح.
قالت: وعندما أخجل من سؤال الطالبات الصابون، كنت أستاك بعود من النيم، ولكن القمل، ولا أنسى كيف كنت أقاوم جراحات الكبرياء وأنا أسأل زميلاتي الطالبات بعض الفازلين والجلسرين في الشتاء، وكم أحرجت ... وكم.
بعد أربعة أعوام من التشوي بمقلاة العوز تخرجت في الجامعة، وعملت بمنظمة أجنبية وسافرت لبريطانيا، وهناك تفتحت لي أبواب السماء واسعة، فأكملت دراسة الفنون ونلت درجة الدكتوراة؛ وسافرت لإسبانيا، حيث حضرت في النحت الفرعوني والنوبي القديم، وأقمت بمدريد خمس سنوات، عملت فيها كخبير مساعد في ترميم الآثار العربية، وفي إسبانيا اكتشفت ولهي بالجنس، وتعرفت على الحضارة العربية الأندلسية التي سادت إسبانيا لقرون طويلة، ولم تحقق سوى كراهية العرب، وبعض القصور والأشعار. تحدثت نوار سعد لساعات طوال، قالت: أنا لا أؤمن بالوطنية والوطن، فهي مثاليات وعواطف، وطنك هو المكان الذي يحتويك؛ عندما عدت إلى البلاد الكبيرة لم أستطع أن أتفاعل مع وحداته، وكأن الناس ليسوا أهلي، كانوا بعيدين وغريبين وغير مفهومين.
إلى أن التقيت مايازوكوف فلادمير وأصبحت صديقته، واستطاع أن يخلق لنا واقعا في بلادنا عجزنا نحن أبناء التراب من ابتكاره، وكان ذلك يوم الأربعاء في فصل الخريف، جاء حزينا مثقلا بأشياء فهمناها فيما بعد، وكان حرا وأبيض البشرة، خلال الاحتفال الذي أقامته له الجامعة ترحيبا بحضوره لأول مرة، قال بلغة عربية فصيحة: أنا مايازوكوف فلادمير، روسي، سوري. أو نحات ورسام.
فتعلقت به، كان ذلك الأربعاء لا أدري كيف ولماذا؟ اندفعت نحوه معرفة نفسي في آخر الحفل، وقد انفردت به عند مدخل القاعة. - اسمي نوار سعد، ناقدة ومحاضرة في تاريخ الفن المرئي.
ثم أضافت بسرعة وكأنه سيهرب إذا لم ... أنا أعرف كثيرا من الفنانين الروس: الإسكندر دينكا، آنا تولي زفريف، ناتاليا نيستروفا، آنا تولي اسلبشيف.
وأنت أيضا، فقد شاهدت منحوتاتك ولوحاتك، وقرأت مقدمة كتبتها أنت لرسومات الإسكندر دينكا بمجلة سوفيت لتريتشه في ربيع 1970م، وقابلت آنا أناتولي زفريف بإسبانيا قبل عامين في مسيودل برادو، وكان له «ون مان شو»، وقد استمعنا لمحاضراته عن الفن الروسي في عهد استالين.
قال لي: أنا سعيد بالتعرف عليك، نادرا ما ألاقي من له معرفة بالفن الروسي الحديث، وخاصة في مثل هذا الزمان وقد انهار كل شيء، فقد عصفت رياح الحرب الباردة بنا، دفنت لوحاتنا ومنحوتاتنا في رمال من الثلج.
في الإنسان
كان مايازوكوف يقول ...
كان مايازوكوف يقول ويؤكد: الإنسان هو الرب الفعلي لظروفه الموضوعية، وهو وحده القادر على خلق مناخ وبيئة تمكنه من العيش بكرامة وحب، وعندما خلق مايازوكوف واقعه وجدنا أنفسنا فيه وأصبح عالمه عالمنا.
إذن ...
استطاع مايا العزيز أن يسهل لنا الحياة في بلاد هي بلادنا بالفهم العاطفي؛ فأنشأ المرسم المفتوح ونحت به تلك الكهوف العجيبة التي أصبحت ملاذا لنا عندما تعصف بتاريخ الغربة، وبنى بيته؛ البيت، الغابة، الجبل، حديقة الأطيار والحيوان.
ومايا ذاته إبداع وعالم وحياة ... كما تعلمان.
في الغابة
تجولنا بالغابة ...
تجولنا بالغابة زرنا مزرعتنا على الشاطئ، تحدثنا عن أشياء متنوعة ومتعددة، وعن الحب والثورة والاستشراق وعن الهند وعن الجوعى والمشردين وظاهرة التسول بالعاصمة، وعن سعر الدولار وهبوط قيمة صرف العملة الوطنية بشكل مخجل أمام كل عملات الدنيا، وكانت نوار سعد بأناقتها ولباقتها وحريتها في التحدث؛ أكثرنا عطاء وثرثرة إلى أن اصطدمت أخيرا بالمختار، ذلك عند منتصف الليل ، نهضت من فراشها، شعرت بها فسألتها: أتودين الذهاب إلى المرحاض؟
لأن المرحاض كان بعيدا بعض الشيء، وربما احتاجت إلي كي أوصلها، ولكنها قالت: سأذهب إلى المختار ... - ماذا تفعلين؟! هو نائم في هذه الأثناء.
قالت وهي تخرج: أريده ... أريده ... ألا تفهمين؟
فتركتها وشأنها لأنني أعرف النتيجة مسبقا، ولكنني لم أستطع النوم إلى أن عادت وهي تجهش بالبكاء.
وعند الفجر ذهبت.
وداع الطائر
هذا اليوم لن ...
هذا اليوم لن ينساه واحد منا، نحن أصدقاء مايازوكوف وعصافير جنته، وهو يوم وداع الطائر الجميل مايا العزيز.
قيل إنه استيقظ عند الفجر حينما خرج إلى حديقته ليودع أشجار التبلدي والعرديب والبابايات، وأيضا أرانبه المنتشرة تحت أعشاب المحريب العطرية.
نعاماته وحباراته، سلاحفه المعمرة التي أتى بها من جبال أثيوبيا البعيدة، كان يحتضن أشجار الباباي والعرديبات الباسقات، يقبل سوقهن كأنهن نساء حبيبات ...
ويبكي.
كان مايازوكوف رجلا عاطفيا وإنسانا رائقا كالنسيم، عاش عمره عازبا، ولكنه يمتلك كل شيء ولا يمل، فقلبه شارع عام، وملك مشاع لا تحده جدران السياسة أو الفكر، وبيته كقلبه، بيت لجميع الناس، أبوابه مشرعة.
البنت الجميلة
كنت والمختار في ...
كنت والمختار في طريقنا إلى بيت مايازوكوف للمشاركة في حفل وداعه، حينما تذكرت قول نوار سعد عن مايازوكوف وكيف كان يستوعبها كطفلة كبيرة مدللة، أو كقطة مفترسة متوحشة، قال المختار: إنها جميلة كالعصافير.
قلت وبصوت حاولت أن يكون غير منحاز: هل أنت معجب بها؟
قال: ماذا تقصدين بالضبط؟
قلت - محاولة أن أكون موضوعية ما أمكن: أنت تعرف ماذا يعني أن تعجب بشخص، فهناك صفات كثيرة تأسرك فيه.
ابتسم وكأنه فهم ما وراء القول، قولا لم أقله، ولكني أقصده وأعنيه وأخاف من نطقه؛ لذا أضفت في ارتباك: أنا أيضا معجبة بها فهي صديقتي.
في الحق تأتي لحظات عابرات بحياتي أحس فيها أنني أحتاج أن أمتلكه تماما، وليس يعني هذا أني أرغبه كزوج مثلا، ولكن أن يكون لي وحدي قلبه وفكره، وأن أكون أنا المرأة المتكاملة في نظره ولا يجب عليه أن ينتبه - مجرد انتباه - لخصلة سيدة ولا لرقة أناملها عندما تصافحه ولا حتى لجمال ثوبها؛ هذا الإحساس الأناني كثيرا ما يعذبني وهو يعرف، وأظنه كان يعرف جيدا مقدار هذا الصراع، ولكنه يتكتم على معرفته، وربما هو الآخر يحس بشيء تجاهي ولكنه يكبته، ما كنت سأمتنع لحظة واحدة إذا طلب فراشي، ربما لأنني أعرف أنه لن يفعل، فالعلاقة بين وبينه هي علاقة - حتى هذه اللحظة - يمكن تسميتها بعلاقة روح، وهذا ما اتفقنا عليه ضمنيا، أو ربما هذا ما لم نتفق عليه إطلاقا.
ولكننا كنا ننشد الخلاص، ولو أننا نعلم أنه مثال طوباوي لا كابح لفرسات خيالاته، ولكنا على كل حال ماضون في سبيل الخلاص.
احتجت إليه كرجل أو لم أحتج إليه، تشهاني كأنثى أو لم يتشهني!
فأنا وهو آخر الأمر بشر من دم ولحم وأشجار في فناء محرابنا.
أمين محمد أحمد
استقبلنا ماي ...
استقبلنا مايا العزيز عند البوابة، كان يحاول أن يظهر رابط الجأش متماسكا لا ينخره سوس المصايب، راسما على فمه - من أجل ذلك - ابتسامة عريضة، إلا أنها فشلت في أن تخبئ جبل الحزن في عينيه، ثم التقينا طلاب الفنون: آدم، سارة، موسى، الأخضر، فاطمة، نور الدين، منى الصديق، الصادق حسين سلطان، وغيرهم، وكان هنالك أمين محمد أحمد، ولا أثر لنوار سعد، أو الحبشية الجميلة سابا، سألته عن نوار قال: لم أرها منذ أيام فهي كثيرة التسفار، ولكن صديقتها سابا بالمنزل، وهي لا تفارقها نادرا. قال له المختار: منذ زمن لم تحضر إلينا بالمحراب، ولا نعرف أين أنت من كتابة الشعر اليوم؟ قال بتواضع: محاولات ... هي محاولات للكتابة.
كان أمين في بداية حياته العملية شاعرا في مقتبل العمر؛ لذا كان دائما ما يحتاج لمن يؤكد على شاعريته، ولو أنه انطلق في الطريق بقوة وعشق حقيقيين، وكان شابا هادئا خجولا، ولو أن لسابا رأيا غير ذلك، وكان به خبث وإصرار أيضا به من العبط - كما تؤكد نوار سعد - ما يتعب شعبا بأكمله، وفوق ذلك هو شخص تتمنى أن تلتقيه كل لحظة، وكل حدث في حياتك . قرأ مايازوكوف قصيدة جميلة للشاعر الأمريكي شارلز بوكوفسكي
Don’t come round
ثم نظر بعيدا نحو جبل المرسم مستغرقا في التأمل، قال: هذا يكفي.
غدا سأنطلق إلى سوريا، وإذا عادت العلاقات الجميلة بين أقطار الوطن عدت. أهذا وعد حقيقي أم أنني أدفع عن نفسي الانهيار؟
سأل مايازوكوف عن نوار سعد ولم يستطع أحد أن يعطيه إجابة وافية، غير أنها لم تكن بالجامعة منذ يوم الأربعاء السابق، وأنها ربما كانت في سفر، ويوم الأربعاء هو اليوم الذي حضرت فيه معي للمحراب.
فقلت له ذلك. قال: إذن تمكنت أخيرا من زيارة المحراب فلقد كانت تحلم دائما بذلك، قلت له: طلبت مني أكثر من مرة أن آخذها، وفعلت أخيرا تلبية لرغبتها.
قال مايا: كانت تظن أنها إذا زارت المحراب ستجد شيئا يغير مجرى حياتها، فهي لا تدري كنه هذا الشيء ولكنها تؤمن به، إنها إنسانة غريبة، ألم تلحظا ذلك؟ ثم أضاف بعد لحيظات: ماذا وجدت عندكم؟
شهوة
قال لي زوجي وهو يهيئ ...
قال لي زوجي وهو يهيئ نفسه للانبطاح على صدري وممارسة الفعل: أنا أفعل ذلك فقط لأؤكد حقي فيك، فأنت امرأتي وترقدين تحتي، وأنا أضاجعك بقرف وبدون شهوة، ولا حتى ذرة من الميول، أضاجعك بالقانون، هل يغيظك ذلك؟
قلت من بين أسناني: بل يسرني جدا؛ لأنه يظهر مدى تفاهتك ويجعل الكلب أفضل منك. - اسكتي أيتها الداعرة الذئبة، عندما كنت تنامين مع المختار في الماخور هل كان يبدو ملاكا وأنت حورية من الجنة؟
كان فظا معي وعنيفا، وكنت كالميتة في مواجهة فورانه، وكان ينهال علي بالضرب والركل على جسدي. - لست أول النساء ولا آخرهن ولا أجملهن، ولكني سأرغمك على الحضور وقتما شئت ... فأنت زوجتي ... ولكي تكونين على علم، إنني في غيابك ألتقي بهذا المنزل وفي هذا السرير يوميا بامرأة ... - أنت حر.
قال مواصلا حديثه: وألبسهن قمصان نومك وأيضا أستعمل عطرك، وكل أشيائك كلها ...
قلت ببرود: لا شيء يهمني في هذا البيت، لا أنت ولا الأشياء ...
وكان قد فرغ تماما من خلع ملابسه، وقف عاريا وسط الحجرة كالتمثال وشيئه في انتصاب مرعب، هتف في آمرا: اخلعي ملابسك ...
وكنت أعرف أن تمزيقها على جسدي إذا لم أفعل، فخلعت ورقدت على السرير بكل هدوء وبرود، أطفأ النور ورقد علي بجسده كله في آن واحد، ثم أخذ يجهش بالبكاء.
أحضر إلى البيت بشكل منتظم مرة في الشهر، مرتين، مرات عديدة أبقى بالمنزل لأسبوع كامل أو أكثر، وذلك في أيام غيابه، فهو كثير السفر لظروف عمله التجاري، وأحيانا يجلس في هدوء قربي ويطلب مني بأدب ممزوج بالسخرية: أريدك أن تبقي هذا الأسبوع بهذا المنزل، ألديك مانع؟ فقط غياب أسبوع من الجامعة.
وأحيانا كان يقول ساخرا: لماذا لا يقبلني المختار «حوارا» بالغابة؟
إذن لا يستطيع أحد أن يتنبأ بسلوكه إطلاقا، ففي اللحظة التي يبدو فيها طيبا ووديعا، وقد ترى الشرر يتطاير من عينيه، أما الثابت الوحيد في شخصيته هو السخرية التي لا تفرز عن الجد.
حزين وباهت
للاحتفال ...
للاحتفال الأخير طعم مغاير، طعم أخير حزين وباهت، للاحتفال الأخير طعم الهزيمة الحنظل.
تحدث طلابه، قالوا: إنه أب لنا جميعا وصديق، وإنهم سيفتقدونه ...
تحدث زملاؤه قالوا: إن قدراته العلمية في النحت لا تحد، إنه ذو فلسفة خاصة، وإنه مرح ومجنون ومشاكس ...
ثم انتقل الاحتفال من الجامعة إلى المرسم المفتوح الذي بناه مايا من ماله الخاص وأفكاره، وكان يريد جامعة عالمية مفتوحة على الطبيعة، كجامعة طاغور بالبنغال، ودع مايا الحجارة المنحوتة الملونة والكهوف، والمغارات الصناعية التي هي مشاريع تخرج طلابه، وزار نصب الحرية المشيد أعلى الكهف الكبير الذي نحته بنفسه في شكل حدأة ضخمة، تحلق عاليا في الفضاء لها جناحا فراشة، مخالبها أنامل امرأة رقيقة بفمها شفتا سيدة فرغت للتو من قبلة عميقة، استمع المحتفلون للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن بالكهف الكبير.
قال المختار: إنه يشبهني كثيرا؛ لذا يختلف عني كثيرا.
قال مايا: إن هذه الجامعة أمانة في أعناقكم.
قال: هل تلومون عصفورا إذا بنى عشا بأشجاركم؟ هل تهدمونه إذا طار؟
ثم سأل عن نوار سعد، وقال إنه يريد أن يودعها قبل أن يغادر البلاد الكبيرة، ربما لن يأتي مرة أخرى. قال للمختار: أنت أنا هنا، وأنا أنت هنالك، ولكن برقص مختلف، ولو أن الموسيقى واحدة.
وابتسما ابتسامتين غامضتين، وفي نهاية الحفل قال مايا ...
مايا العزيز: لا أدري.
ولكني سأذهب بعيدا ... سأذهب عنكم.
غونار الحليف
«يا من لديك قوة أن تستسلمي.
لا للرغبة.
ولا للوجود.
من لا يحبك؟
أنت التي فككت إسارنا من الولادة، من الألم، من الموت؟!»
أجيف
مر عام ...
مر عام بهذه البلاد أجيف بكل ما تحاول أن تعنيه هذه الكلمة من تفسخ ونتانة، بكل ما تعنيه من موت وظلام.
سجن حافظ واختبأت سارة حسن من البوليس بكهوف مايازوكوف المهجورة، أما آدم فظل مطاردا إلى أن تمكن من مغادرة البلاد الكبيرة إلى البلاد المجاورة.
جمد العام الدراسي بعد تظاهرات عمت البلاد كلها بعد فوضى اغتيالات، إعدامات سرية، اختفاءات مفاجئة لمواطنين، بعد البندقية التي بقيت كشاهد القبر تعلن عن الموتى وتذكر بالموت وبخجل تعلن عن ديمومتها، بخجل وانكسار طفيف.
الفصل خريف جاف، الريح سموم حارقة تهب من جهة الشمال، محملة بالأتربة والرمل الأبيض الناعم، محملة بالنار.
إذن الفصل جحيم، القرى، المدن، الأطيار، هوام الأرض، الناس، الحيوانات، الغابات التي كانت، النهر، العشب الموسمي، كل شيء يتوقع هطول الأمطار، وأن يتغير اتجاه الريح أن تهب من الجنوب ولكن عبثا، الراديو يطمئن المواطنين الذين نفد صبرهم: «إن الريح الخيرة آتية، المطر آت، وسينجح محصول الذرة نجاحا منقطع النظير، وسترعى الماشية وستسمن؛ لأن البرسيم والتبر سينموان في فلوات الأرض كلها، حتى الجبال ستكسوها الخضرة، وسيصبح العام عام رخاء بفضل الريح والخير الذي سيصب من الجنوب محملا بالسحابات المعطاءة ...» وفعلا تهب الريح الشمالية، ريح جحيم ونار؛ فتيبس الأشجار هياكل الرماد الغبشاء الهشة التي تقاوم الريح بالسقوط؛ الراديو يؤكد أن الأمطار آتية، فقط تأخر الخريف قليلا، في كل أنحاء العالم يتأخر الخريف، حتى في أمريكا نفسها والبلاد الكبيرة، بلادنا ليست استثناء، والمؤمن مصاب.
مجد المغنون نبالة الحاكم، مجده الشعراء وقالوا: إنه يستطيع أن يأتي بالمطر، أكلت الأغنام العظام والجلود الجافة وأفرع الأشجار الناشفة ، باضت العصافير على الأرض كأنعام، نفقت الأبقار والضأن والحمير، نفق البشر.
الراديو يؤكد أن ... وأن الخريف ... تزايدت الأغاني الهابطة هبوطا، وعمت البلاد الكبيرة لغة نيئة وخلق بليد. أرسل مايازوكوف خطابا بعد سنة كاملة من سفره إلى سوريا كتبت له في الرد: أظنك تقصد بغابة العرديب أحطاب العرديب، عمال السكة الحديدية يطالبون بزيادة الأجور، ترفض الحكومة مطالبهم فيضربون.
ماتت الأغنام، تراها متكومة على قارعة الطريق وعليها جيوش الذباب عند المزابل والخيران.
وكان الأطفال يقومون بحرق الحيوانات النافقة، وإذا لم ينتبه لهم الكبار أكلوا منها، الراديو يؤكد أن الأمطار آتية ثم تعزف الموسيقى العسكرية، أخذ الكبار يحرقون الحيوانات النافقة، نفق الفقراء بالوا في سراويلهم، عملوا بالدعارة، سرقوا، كذبوا، جمد العام الدراسي، سرح المعلمون والطلاب، فلاذ الأطفال بالنهر الضحل يصطادون الأسماك والسلاحف.
زوجي نور الدين يحاول السفر لدولة غنية بالبترول وغنية بالعزلة، أخذ الكبار يحرقون الحيوانات النافقة، وإذا لم يرهم الصغار أكلوا منها، اقتسم الصغار والكبار الجيف المحروقة، الراديو يؤكد أن هيئات الإغاثة العالمية في طريقها للبلاد.
الريح الحارقة الصفراء تهب من الشمال كالجحيم، أرسل مايازوكوف خطابا: ماذا تأكلون؟
كتبت له: نحن لم نجع بعد، جاع الفقراء في الريف والمدينة أيضا، فما زلنا نستطيع شراء الأطعمة المعلبة، كما أن لدينا شفاطا نسقي به مزرعتنا الصغيرة المتداعية مما تبقى من مياه النهر، وما زال بإمكاننا شراء اللحوم والكتب، وبإمكاننا أيضا قراءة الشعر.
نوار سعد تظهر فجأة في المحراب، قالت: إنها كانت بقرية والدها الذي نفقت حميره ونفقت كلابه، الذي مات بالتيفويد، قالت: لقد اشتقت إليكم وسأبقى معكم لأيام، وقد أذهب للبلاد المجاورة، فهذه البلاد ما عادت تصلح وطنا لإنسان، ولا ندري ماذا بعد المجاعة؟ ولا ندري ماذا بعد هذا القحط؟!
الغاردينيا
كنا نستيقظ عند الفجر
كنا نستيقظ عند الفجر، نحتسي القهوة بلبن الماعز، ثم يختلي كل منا بنفسه لزمن يشاؤه الفرد نفسه، ثم نرتدي ملابس العمل، ونخرج إلى المزرعة خلف المحراب على ضفاف النهر، نمشي فوق العشب الجاف عبر الأشجار اليابسة الرمادية التي تموء في حزن عندما تصطدم بها فتسقط فريعاتها الصغيرة على أكتافنا ورءوسنا، وما تبقى من أوراق صغيرة عجفاء لم تسقطها الريح، وذلك كمقاومة أخيرة للصمت.
الأشجار والأعشاب على شاطئ النهر أحسن حالا، فبالإضافة إلى المسكيتات دائمات الخضرة هنا، الآيلانسس أيضا التي لا تتحمل العطش أوراقها الخضر باهية، وعلى الطمي ينمو كذلك بعض العشب وشجيرات أخرى. نقتسم العمل فيما بيننا؛ نوار دائما ما تفضل رش الأسمدة وإبادة الآفات، أما المختار فسقاية النباتات وتشغيل الوابور الشفاط، أما أنا أفضل العمل في تأهيل المجاري ونظافة الماكينة، وعند الثامنة نشرع جميعا في طهو الطعام وصنع الخبز، أنا للطبيخ، نوار للفرن، هو غسل الأواني وإعداد الشاي والقهوة. أكلنا، ثم تحدثنا عن تجاربنا وعن الزراعة، الجفاف، الزحف الصحراوي، والكساد الثقافي والسياسي، قال: إنه لمن المثير للتساؤل أن توجد دولة في هذا الزمان ولا توجد بها مجلة أدبية واحدة!
قرأنا ... ثم اختلى كل بنفسه، احتارت نوار في اليوم الأول عندما طلبنا منها أن تختلي بنفسها. - ماذا أفعل؟ - كوني مع نفسك، افعلي ما شئت، أو دعيها هي تفعل بك ما شاءت. - قولي لي ماذا تفعلين أنت؟ ما هي تجربتك الخاصة؟ - تجربتي الخاصة قد لا تفيدك كثيرا فاختلي أنت وستكتشفين أن ذاتك مخزن للعجائب.
قالت نوار سعد: فاختليت بالمحراب، وقفت قرب الغاردينيا، كانت أزهارها بيضاء ونقية، عليها نحلات صغيرات صفراوات، انحنيت لكي أشتم عطرها، كان عطرا حلوا، تفحصت منقولات المحراب، ودولابكم الخشبي الصغير مغلق جيدا، وقربه جرة كبيرة من الفخار أدخلت يدي في جوفها بحذر شديد، لم أجد شيئا، عندما كادت يدي أن تدرك القاع لقيت أناملي كيسا صغيرا تحسسته، لم أجد في ملمسه ما يثير فضولي، أعدته إلى مكانه؛ في اتجاه النافذة الغربية سجادة أنيقة مفروشة على البلاط، عليها مساند ناعمة وأثواب موضوعة بعناية تامة في أطراف السجادة، مغطاة بقطعة من القطن ناصع البياض.
وفي الجانب الآخر يقع ما تسمونه المرقد، أول مرة أتفحص فيها مرقدكم هذا بعناية ودقة! دائما ما يسرى بكم من هذا المرقد؟! - إنه المكان المناسب ، ولكن لا أحد يسري بنا، نحن نسري بأنفسنا عن طريق اليوجا.
أنا معجبة بأسلوب حياتكم وتفاصيلها، ولأقمت معكم العمر كله ولكن تنقصكم أشياء أراها مهمة جدا، فالعالم ليس الروح وحدها ولكن الروح والجسد، فالروح تجريد عبثي وغير منطقي، وبالتالي غير ممتع، والجسد وحده أيضا تجريد عبثي زائل. قلت لها: وكنا تحت شجرة مسكيت: نحن نحاول التخلص من رغبات الجسد، لكي نقبل بوضعيته الأخيرة نقيا من الرغائب!
لا أظن أن التخلص من رغبة الحب مثلا تجعل الجسد أكثر نقاء، ولكنها تجعله أكثر حرية وخفة، فالمركب كلما خف حملها كلما كانت أكثر أمانا وأسهل حركة.
بالتأكيد لم يذكر أحدنا شيئا عن محاولات نوار الفاشلة في مجاسدة المختار؛ تعلمت نوار كيف تستمتع بوجودها بالغابة، ثم تعلمت كيف تقضي فترة خلوتها، ولو أنها كانت تستثمرها في كتابة مذكراتها الخاصة.
الأشياء
كنا في تلك ...
كنا في تلك اللحظة بالمزرعة عندما رأيناه فجأة يخرج من بين الأشجار التي على الشاطئ، أشجار الآيلانسس والمسكيت، كان يرتدي جلبابا أبيض، وعلى رأسه عمامة ويحمل عصا صغيرة بيده، وقف بعيدا وألقى التحية، ثم شرع في الكلام مباشرة موجها حديثه للمختار: هل تقبل أن تبقى زوجتك مع رجل آخر وأنت حيا تمشي على الأرض؟
قال المختار بكل هدوء: ليس لي زوجة.
قال: إذا كانت لك؟
قال المختار: دعنا لا نحكم على الأشياء بالفرضيات، قل ما تريد مباشرة.
قلت أنا: نحن مشغولون.
حملق في بعض الوقت قائلا: أريدك في المنزل.
قلت: ليس لدي مانع في الذهاب إلى المنزل، لكن ليس الآن.
قال في إصرار: أريدك الآن.
قلت: أنت ترى أننا مشغولون بأمر هذه المزرعة، ولكني وقتما فرغت سأوافيك بالمنزل.
قال آمرا: أنت زوجتي ومن حقي أخذك وقتما أشاء، وبدون أي اعتبار لأي نشاط تقومين به. - كونك زوجي لا تستطيع أن تصادرني كإنسانة لي أهداف مختلفة في هذه الحياة، لي أشيائي الخاصة وحياتي الخاصة وأصدقائي بعيدا عنك، فأنت لم تتزوجني برغبتي ولا تعرف عني شيئا إطلاقا، وبالتالي ليس بإمكانك مصادرتي. هل تفهم؟
قال مفلسا: تزوجتك برغبتك ورغبة ولي أمرك وجميع أهلك. - أنت كذاب، ولم تتزوجني برغبتي، إن والدي لا يملكني ولا أحد في الكون يملكني غيري أنا، أنا إنسانة ولست كرتونة صابون! قالت نوار سعد ضاحكة: أنت رجل قديم، واسمح لي أن أقول أن لا أخلاق لك.
نظر إلى نوار سعد كأنه لأول مرة ينتبه لوجودها، بصق سعوطه ثم قال وفي ابتسامة ساخرة: أنت امرأة جميلة حقا، ولكن كيف استطاع هذا الرجل معاشرة امرأتين في آن واحد؟ وربما سرير واحد، ألا تغاران؟ مجرد غيرة، أنتما تذكرانني بداعرات راسبوتين. ألك زوج؟
قال له بأدب: أيها الرجل حاول بقدر الإمكان أن تكون محترما.
قال: بالتأكيد أنا رجل محترم، وإلا لما سمحت لذئب مثلك أن يدخل بيتي ويسرق امرأتي.
قالت له نوار: أنت رجل غريب، هل امرأتك هذه قطعة أساس حتى تسرق، أهي كرسي؟!
ثم ضحكت في مكر وهي تمضي داخل الحقل وعلى ظهرها طلمبة الرش ثم لحق بها المختار، وبقيت وهو وحدنا.
قال بهدوء: سأفعل كل ما تطلبين إذا عدت إلى البيت الآن.
قلت: أنا لا أريد منك شيئا إطلاقا، فقط لو تطلقني.
قال وهو يحاول جاهدا أن يخبئ ابتسامة خبيثة كانت تحاول الإفصاح عن نفسها: سأطلقك. - أيضا لن أذهب معك.
وأخذنا في نقاش يبرد حينا ويحمر جمره حينا إلى أن عاد مرة أخرى المختار، وعادت معه نوار، وحان وقت الرجوع إلى المحراب، قال المختار: أنا رجل قانون درست القانون أربع سنوات ... ولم أر في حياتي كلها مثل هذه الفوضى.
قلت له: أنت تاجر، ليس أكثر من تاجر، وكل شيء فيك تاجر ...
وقالت نوار مقاطعة: لنفترض أنك حمورابي نفسه بعينه ولسانه، أنت خطأ، أنت خطأ.
قال: سأذهب ولكني غدا سأعود ومعي عربة شرطة وسأريكم كيف تحترمون القانون، وسآخذك - مشيرا إلي - أنت بالقوة إلى بيت الطاعة. قلت: وستربطني في المطبخ بالجنزير؟ قال ساخرا: لا، ليس في المطبخ، فأنت أرقى من ذلك، سأربطك في مكان آخر تعرفينه جيدا ... ثم أضاف مؤكدا: غدا سترين كل شيء، وذهب.
أبي
اكتست أشجار الغابة ...
اكتست أشجار الغابة باللون الرمادي إلا شجيرات المسكيت واللالوبات والآيلانسس، اللوسيان والقولد مور، وبعض الأعشاب التي توجد على شاطئ النهير الصغير الواهن الذي ينخفض منسوب مائه يوما بعد يوم، غير أشجار وأعشاب النهر لا شيء أخضر، فقد حرقت أشعة الشمس العشب حتى أصبح مثل الرماد تحمله الرياح الشمالية، وترمي به ما بين الوديان وهياكل الأشجار، وعندما يهب الإعصار يدور به في الفضاء كأنه يقبل بواسطته السحابات البيضاء المنتشرة في السماء، كأنه يشهد الملائكة على القحط.
جلسنا
بعد العمل بالمحراب ...
بعد العمل بالمحراب بدأنا في حكي تجاربنا، برنامج يومي افتتحت الحديث أنا موجهة قولي إلى نوار سعد التي سألتني ذات مرة كيف تحولت من بنت سلبية تباع وتشترى إلى إنسانة تمتلك قرارها وتستطيع أن تقول: لا؟
قلت: إنها أفكار المختار التي زرعها في قبل أن يذهب ويتركني. أقصد بعد أن عالجني من الخوف، وانقطع عن زياراتنا.
قلت: أولا طلبت من زوجي أن يسمح لي بمواصلة الدراسة لكنه رفض؛ حانثا بالوعد الذي كان، فأخبرت أبي الذي قال لي بوضوح: أنت الآن زوجة رجل ولا يحق لي التدخل في شئونه، لقد كنت ابنتي قبل الزواج؛ أما الآن فأنت زوجة نور الدين. فقلت لزوجي نور الدين: إذا لم تسمح لي بالدراسة فإنني سأنتحر.
قال: لقد تركت المدرسة وأنت في المتوسطة، هل تلبسين ملابس بنيات المتوسطة وأصابعك مخضبة بالحناء وتفوح منك رائحة الدخان والدلكة، هل يصح ذلك؟!
قلت مؤكدة: لن أتعطر، وسألبس التوب، ولن أضع الحناء، ولا شيء من هذا أبدا. قال: ولكني أريد أن يكون لي أطفال يرثونني ويحملون اسمي، وبامتناعك عن الإنجاب ... تدمرين حياتك الزوجية.
قلت: في الأصل لا توجد لدي حياة زوجية، فكلها خوف ومرض وبؤس، ولم يفعل شيئا غير أنه وضع عجينة سعوط تحت شفته السفلى في قلق ثم خرج من المنزل إلى السوق، وعندما وجدني تناولت عشرين قرصا من الأسبرين، مغمى علي وقد شارفت على الموت، حينها فقط استأجر معلم لغة عربية ومعلم رياضيات وآخر للغة الإنجليزية ، ومعلمين آخرين لتخصصات مختلفة، وأخذت أتلقى دروسا في المنزل لمدة سنتين إلى أن جلست لامتحان الشهادة السودانية، وتحصلت على شهادة تم بموجبها قبولي بكلية الطب كما ترين.
ثم أخبرتها كيف التقيت بالمختار للمرة الثانية، وكان قد زارني في المدينة الجامعية، واقترح علي أن أزوره بمحرابه، الذي ما كنت أعلم به، فوجئت حين قال لي إنه شرع في تشييد هذا المشروع قبل خمسة عشر عاما.
كان يتابع أخباري عن كثب، هنا تدخل المختار مازحا: هل تقصدين ...؟ قالت نوار سعد: المقصود واضح ... إنك كنت مثل الولد روميو. قلت: إنني كنت أتوقع رؤيته دائما، بل في الحق كنت أنتظره دون أي ميعاد مسبق. قالت نوار مقاطعة: كنت تحبينه، أليس كذلك؟ إنها حالة لا أعرف لها اسما، أن تشتاق لشخص وتنتظره كل لحظات عمرك ولا تعشقه كزوج، أو ربما، في الحقيقة لا أدري. قالت نوار جادة: ولكني أدري ... قال المختار وهو يحمل خطاه بعيدا عنا، وقد بدا عليه بعض القلق: أنت يا نوار تحاولين أن تجعلي من علاقتنا هذه قصة حب رائعة. قالت في انفعال: وإنها لكذلك.
وبعد أن مضى قالت لي نوار: قولي لي بكل صدق كيف كان لقاؤكما الأول بالمحراب؟ قلت لها بصدق وعفوية: ارتميت على صدقه وأخذت أجهش بالبكاء ... بكيت ... ثم أحسست بالخجل من نفسي لحين ... ولكنه قال لي بصوته الدافئ: أظننا لن نفترق منذ اليوم ... أحسست بقوة تسري في كياني، أحسست بأني أطير، ثم أقمنا معا بشكل دائم، وعندما علم زوجي نور الدين وطلب مني عدم الذهاب للمحراب، رفضت وهددني بأنه سيخبر أبي، وأخبره، فعلمت أن أبي رد له بوضوح: إنها زوجتك، وتحت يدك وفي عصمتك، وبإمكانك قتلها إذن وصلبها بالشارع. ولا حق لي في التدخل بشئونكما الخاصة. - إن ما تفعله فضيحة للأسرة كلها.
قال أبي: طلقها ... أعيدها ... وأنا أعرف كيف أجعلها لا تفارق المطبخ إلا إلى المقابر أو بيت رجل يقدر عليها. على ما أظن أن نور الدين أحس بالحرج وأراد واحدا من اثنين: إما أن يسيطر علي سيطرة تامة، دائسا بحذائه على أحلامي وطموحاتي، أو إذا فشل ينتقم مني ولن يطلقني أبدا.
قلت: أسعد يوم في حياتي يوم أن حملت حقائبي من الداخلية ووضعتها هنا في قطيتي، حقيقة كنت أبحث عن مثل هذه الحياة، هذا المكان حياة مع رجل ليس هو زوجي، رجل صديق، حياة تحسين أنها حياة ضد وأنها حياة مع، وأنها حياة لأجل. بيني وبينه اشتياق دائم، بيني وبينه سر لا فك لطلسمه، بيني وبينه حب ليس كالحب.
قالت نوار - التي كانت تنظر إلي وهي دهشة وغير مصدقة لما تسمع أذناها وما ترى: إنكما عاشقان واثقة من أنه في ذات يوم، في ذات لحظة ستمارسان الحب مثلي تماما وخوان بيدرو.
وإذا لم تفعلي إنني أقول لك بصراحة: أنا التي ستفعل مع المختار، فهو رجل ... ورجل فحل، أنا أعرف الرجل الفحل، أعرفه جيدا لأن له رائحة خاصة تدل عليه، ولا فرق بين صعلوك ونبي في ذلك فقط ... حينها أرجو منك ألا تغيري عليه، وأن تتمسكي بمبدأ أن روحه لك ... روحه فقط، ولا شيء غير روحه، هل توافقين؟
وضحكت بمرح ملأني بالغيظ. في الحق حسدتها لكونها نوار سعد، ولأنني لا أريد أن أكونها أبدا.
وعندما عاد المختار لمجلسنا مرة أخرى وجدنا قد غيرنا مجرى الحديث، حيث هيأت نوار القول كله لأسرتها، قالت: سأحدثكم عن الجوع الكبير، ليس الجوع المقدس إلى المعرفة، لا، بل الجوع الهمجي الذي هو نتاج العوز والفقر والفاقة، أن تكون بطنك خاوية وتثور أمعاؤك وتحتج، وأنت عاجز عن فعل يشبعك. وكانت نوار سعد جميلة وأنيقة، مفرطة الحساسية في انتقاء ملبسها ومنعلها، تسريحة شعرها، وحتى جلستها، كانت تجلس على سجاد من نبات المحريب العطري قرب المختار في أدب جم، وكأنها قد فرغت للتو من الصلاة، وكان وجهها متوردا ومملوءا بالضوء، وعيناها الصغيرتان مرحتان كزهرتي غاردينيا عليها فراشتان ذات صباح باكر.
كانت جميلة لأنها جميلة وحسب.
كنت أتساءل في أحيان كثيرة: كيف لامرأة بهذا الجمال لم تتزوج حتى الآن؟ في الحق سألتها ذات مرة، فقالت: أنا لا أرفض الزواج ، ولكن لم يأت رجل ليخطبني، ليس هناك رجل عنده ما يكفي من الشجاعة ليقول لي: أريد أن أتزوجك يا نوار. بالرغم من أن المئات منهم يعشقونني، يعشقونني في صمت، كصمت البغال. قلت: أمين ... قالت مقاطعة: أنا قلت رجل وليس طفلا، رجل ... أتعرفين معنى رجل ...؟ وكنت أعرف أن أمين يصغرها بعشرين عاما، على أقل تقدير.
ثلاث بنات
قالت نوار ...
قالت نوار: كنا ثلاث بنات؛ نورا ونور، وكنت أنا أكبرهن، ونور هي أصغرنا، وكانت قصيرة وسمينة وشرهة أكول، وهي الوحيدة في المنزل التي لا تجوع أبدا، وهي ذاتها الوحيدة التي لا تشبع! وكان أبي يحبها جدا وكثيرا ما يصحبها مع كلابه إلى الإنداية، أو إلى مكان العمل بالسواقي؛ حيث يعمل في مزارع الآخرين باليومية، وإذا أخذ أجره حملها على كتفه، إذا كانت الشمس حارقة والأرض رمضاء؛ لأنها غالبا دون نعلين، أما إذا كان الجو معتدلا أو باردا في الشتاء جرت خلفه تتبعها الكلاب إلى الإنداية، يأكلان أولا الكوارع بالشطة والليمون، وهو بين الحين والآخر يمد إليها الكأس مشجعا: اشربي يا بت نور ... الله، اشربي يا دكتورة.
وكانت لا تشبع إلا أن تنتفخ بطنها ويغلبها النعاس، وترقد قرب رجليه على الأرض متوسدة مركوبه القديم، عليه بقايا عمامته المزيفة العجوز، حتى إذا انتبهت إليها صاحبة الإنداية التي كانت دائما ما تنتبه، سبت أبا سعد وجده ديك إبليس، ثم أخذتها لترقدها في بيتها إلى أن يكتفي سعد من المريسة أو يفرغ جيبه، يحمل بنته على كتفه وهي نائمة ويمضي بها مترنحا على الطريق يرمقه السابلة فكهين معلقين، وأحيانا يتبعه الأطفال من بعيد، يناونه مغنين: السكران ... وينو.
وبينهم وبينه عشرات الأمتار؛ لأن كلابه لا تدع أحدا يقترب منه، حتى إذا سقط على الأرض دائخا من الخمر، فإنها تحيط به ولا تترك إنسانا يرفعه أو يعينه على المشي، وإذا نام حيث سقط ظلت تدور حوله إلى أن يستيقظ أو يبلغ الخبر أمي في المنزل، فتأتي لتأخذ منه البنت، وتتركه على حاله على الأرض؛ إذن ما كان أبي يعود من عمله بقطعة خبز واحدة، يأتي مخمورا وعلى كتفه نور وخلفه كلابه، وإذا سألته أمي: أنت تسكر وأطفالك جوعى؟!
سبها بألفاظ بذيئة وحمل عصاه وحاول ضربها، فتحمل أمي عصاها، تحمل نور عصاها، أحمل عصاي، أما نور فإنها لا تتردد في أن تعض أول من يلمس أباها، ولكن غالبا ما يحتكم أبي للعقل، العقل المخمور فينام على أقرب عنقريب يجده واضعا عصاه تحته.
كنت ونور وأمي نذهب أيضا إلى العمل بسواقي الآخرين باليومية، حيث لا أرض لنا، نشتل البصل أو نقلعه، نجني الطماطم والبامية والشطة الخضراء، أو ننظف الحقول من الحشائش المتطفلة، وأحيانا نقوم برش الأسمدة والمبيدات، وكان العمل شاقا تحت الشمس والبطون شبه خاوية، خاصة نورا لا تزال في عمر الطفولة، فتشق الأسمدة أصابعنا وتجعلها تنزف، وقد يجرحنا منجل أو تلدغ أحدنا عقرب، هذا إلى جنب الآلام التي نحس بها في أطرافنا وعضلاتنا عندما نذهب للرقاد، وكانت أمنا ترى وتعايش وتتألم ولكن في صمت.
وقد لا نعود من الحقل إلا عند العصر، أو قبيل المغرب حاملين ما تيسر من رزق حسب الموسم، فإما لوبيا وفاصوليا وباميا أو بصل، وأحيانا لا شيء، ولكن بعض النقود نشتري بها الخبز، يأكل أبي إذا جئنا بالطعام، وتأكل نور أكثر مما نأكل أنا ونورا، ولا يسأل كيف تحصلتم على لقمة العيش هذه! فكان يعيش في عالم جامد خال من المسئولية، هادئا ومسالما طيبا، فقد يثور فينقلب وحشا أو كلبا سعرانا، هذا إذا سئل عن المصروف، أو إذا رفضت أمي فراشه، فلا يطاق ليل رفض فيه، فإذا احتجت أمي في أنه يأتي بأطفال لا يقدر على تربيتهم، قال: ربنا هو الذي خلقهم وهو قادر على إطعامهم. وإذا صرخت فيه قائلة: أنت والدهم، وأنت أبوهم، وأنت من يأتيهم بالخبز وليس الله!
قال غاضبا: أنت امرأة كافرة، ومن أجل كفرك هذا قطع الله عنا الرزق.
ويحمل عصاه ...
فتحمل عصاها ...
وقد يستيقظ الجيران وتفوح رائحة الفضيحة؛ لذا كانت أمي هي التي تتراجع، تخلع جلبابها وتستلقي قربه لاعنة إياه في السماوات والأراضي السبع، وكل كرامات شيوخ البلاد الكبيرة، وإذا غلبها الغيظ عضته في صدره أو كتفه إلى أن يصرخ من الألم، أو يشخر كالثور الذبيح، أو ...
بكت.
الجارات الطيبات
تقيأت أمي في الفجر شيئا ...
تقيأت أمي في الفجر شيئا أصفر، ورغم ذلك أخذت مقلاع البصل والسلة الكبيرة، وقالت لي ونورا: فلنذهب إلى العمل.
فقلت لها: ولكنك مريضة.
قالت: سأبلغ الصحة عندما نصل؛ آكل بصلة واحدة وأشرب عليها من ماء النهر، فضحكنا وتركنا أبي نائما وقربه نور وحوله كلابه.
كانت أمنا تقوم بقلع البصل من الأرض بالمقلاع، وكنت ونور ننظفه من التراب العالق بالجذور ونجمعه في كوم كبير إعدادا لتعبئته في الجوال، وبينما نحن في قلع وتنظيف وحلم بالأجر المرتقب ومصارفه المحتملة إذا بأذان العصر ينادي، يعني هذا عندنا الكثير الكثير؛ يعني أن يوم العمل انتهى وسيأتي بعده صاحب الجرف على حماره الأبيض الكبير؛ ليحسب الإنتاجية ويعطينا ما نستحق من الأجر، وقد يتكرم - دائما ما يفعل - بأن يسمح لنا بحمل ما يكفينا من البصل إلى البيت كرما. وكان - عندما أذن الأذان - قد بلغ التعب والإعياء بأمي أشده، ولكنها رغم ذلك استطاعت أن تبتسم قائلة: إذا تم اليوم إذن سنستريح! وحاولت أن تنهض لتقف على رجليها ولكنها تداعت، وهوت على الأرض كومة باردة من اللحم البشري، وأخذ وجهها يتصبب عرقا وأنفاسها تعلو وتهبط كالموج، كان مشهدا مروعا؛ فأخذت وأختي نورا نصرخ في هلع إلى أن أتى صاحب الجرف، فساعدنا على حملها إلى ظل شجرة سنط ضخمة، وطلب مني أن أذهب إلى بيته الذي يقع قرب النهر، وأن آتي بملح طعام وقرض وكمون أسود وحلة صغيرة، ففعلت، كانت نورا قد أشعلت بعض الأحطاب، فوضع صاحب الجرف عليه الماء إلى أن غلى، فسقاها مرة أخرى ثم ذهبنا، وفي الطريق لقينا جارا لنا كان عائدا من جرفه فحملها على حماره إلى المنزل، وما هي إلا لحظات حتى توافدت نساء الحارة إلى بيتنا زرافات ووحدانا، وامتلأ البيت بالجارات الطيبات وغير الطيبات أيضا، وكل من التقطت الخبر من الريح مباشرة، أو من أطيار الكلج كلج.
أخذن يسألن عن حالها ويتأسين على ما حدث، ويتأسفن على تعب الحياة ومرارة البحث عن الرزق، وهن يضعن تحت مخدتها وحدات صغيرة أو يضعن أمامها على المنضدة بعض السكر أو اللبن، وقد جاءت إحداهن بويكة وبعض اللحم المجفف وقامت بطهوه بنفسها، أما جارتنا الحجة نفيسة فصنعت لنا العصيدة من دقيق بيتها وحملتها إلينا للغداء، وعندما انصرفت دست تحت مخدة أمي جنيها، إلى اليوم أذكره ويبرق في وجهي لونه الأخضر وعليه صورة وحيد القرن، والنوباوية كاكا الكجورية حددت بكل دقة نوع المرض وعلاجه، قالت: أصابتها عين عند العمل، وكلما تعمل أكثر كلما تعرضت لهذا المرض أكثر - هكذا قال الجماعة - وعلاج ذلك: كون أسود بالقرض يشرب بالريق صباحا ومساء، ويصطحبه بخور بلبان (الجاولي) وبعض التمائم التي قامت بكتابتها، قالت لأمي محذرة: عليك عدم الذهاب للعمل لسبعة أيام بلياليها، وفي اليوم الثامن لا تبقين قرب النهر بعد أذان الظهر، ثم قالت بشأن العين: إذا كانت عين رجل؛ فإنها ستخرج سريعا، أما إذا كانت عين امرأة فالمسألة تحتاج لبعض الجهد، وربما احتاجت لدم خروف أسود، ظلت أمي على فراشها لبقية اليوم إلى أن حضر والدنا عند المساء، وهو سكران وعلى كتفه نور، وعندما وجد المنزل مكتظا بالنسوة صاح: من الميت؟ أنتن يا نسوة لا يجمعكن إلا الشر، الموت أو المرض ... تحدثن، من الميت؟ هل ماتت هي؟ قالت له امرأة عجوز: موت أنت يا سكران يا حيران، الله أكبر عليك.
قال وهو يرمق المرأة بعينه المحمرة: يا حاجة، والله لو كانت واحدة غيرك لكسرت عصاي على رأسها ولكن للأسف، وضع نور على عنقريب صغير وهي نائمة، ودخل الحجرة ليجد أمي راقدة باردة، أخذ منها الإعياء كل مأخذ ... فانحنى عليها لزمن طويل ... حتى كاد أن يسيل رياله على وجهها وكأنه يريد أن يتأكد من أن التي ترقد على فراش الموت ليست زوجته بنت الضوء أزرق، ثم قال مخاطبا امرأتين قربها: هل ستموت اليوم؟ فردت له إحداهن: اذهب ونم قليلا فهي بخير ولن تموت.
وعند الغد تحسنت صحة أمي قليلا، ولكنها لم تبرح فراشها، فأتيناها بالكمون والقرض والبخور، ثم الماء والإفطار ... وهي لم تزل بالسرير.
أما أبي فكان خجلا ومحرجا، وقبل أن يغادر المنزل للعمل أعطاني خمسين قرشا قائلا: اشتري بها دقيقا وخضارا.
ثم ابتلعه الطريق وكلابه.
أما نور فبقيت قرب أمي المريضة تدلك لأمي أطرافها، وتحكي لها عن المزارع التي صحبها والدها إليها، وعن مغامراتهما بالإنادي وقصص السكارى وكيف يرقصون على إيقاع «التمتم» و«السيرة» وعن أصدقاء والدها أبو كروك وفضل السيد، وصديقه بائع النيفة العجوز، عم محمد زين برجليه المقوستين كالسفروق، وقالت: إنه يمشي كالحرباء ولكنه رجل طيب، وقالت: إنه أقربهم لقلبها لأنه ما كان يبخل بآذان الخراف المشوية أو شوربة الكوارع، ثم حدثتها عن المرأة العجيبة صاحبة الإنداية بت جادو، ثم سألتني: لماذا يا نوار لا تعملي لنا إنداية؟ نبيع فيها أنا وأنت بدلا من العمل في الشمس، وقلع الفول والبصل، فصاحبة الإنداية عندها مال كثير ويداها مملوءتان بالذهب وحتى أسنانها من الذهب. قالت نور: عندما تتحدث معي صاحبة الإنداية بت جادو كنت أتمنى أن تقع منها سن واحدة لآتيك بها، تخيلي أن أسنانها كلها من الذهب، قالت: ولماذا لا تكوني مثلها؟ لماذا لا تعملي لنا إنداية؟ فقالت لها والدتي: ولكن يا نوار المريسة حرام، والسكر أيضا حرام، ويوم القيامة ربنا سيدخل بت جادو النار. فردت نور مضطربة: كذب ... كذب ... كذب.
أنا شفت الفكي آدم نفسه بالإنداية يشرب في المريسة، ويأكل الكوارع بالشطة، ويبشر مع الناس في الدلوكة، ويعرض ويرقص الصقرية، وقد قال لي بالأمس إن المريسة تجلب الدم وتحسن الصحة.
أبي
وعاد أبي مبكرا وواعيا يقظا ...
وعاد أبي مبكرا وواعيا يقظا، في يده كيس مملوء بالطعام، جلس قرب أمي وأخذ يسألها عن حالها، ثم قص عليها قصص أصدقائه، وكأنه لأول مرة يلتقي بها في حياته؛ كان جادا، محترما، وعندما سألته نور عما إذا كانت المريسة حرام، وأن بت جادو ستدخل النار؟ قال مندهشا: من الذي قال لك ذلك؟ قالت: أمي. فحملها ووضعها على حجره، قبلها في خدها ثم همس في أذنها قائلا: أمك مريضة، هل صنعت لها النشا؟
يدور فيه
وأيضا عاد في اليوم الثاني مستيقظا ...
وأيضا عاد في اليوم الثاني مستيقظا، أما في اليوم الرابع فلم يعد إلا بعد المغرب ثملا وبائسا، ثم أخذ نور في اليوم الخامس ومضى في طاحونه القديم يدور فيه، قليلا قليلا قلت زيارات النساء لبيتنا، قليلا قليلا قلت قريشاتهن التي يضعنها تحت وسادة أمي، أما أمي فلم تنهض بعد من السرير.
وها هو الأسبوع الثاني.
وها هو الأسبوع الثالث.
وها هو الشهر. فجعنا.
جعنا جوعا حقيقيا.
فكانت أمنا بين الحين والآخر ترسلنا إلى إحدى جاراتها أو صديقاتها طالبة منهن قليلا من البصل، قليلا من الحطب، قليلا من الزيت، قليلا من ... وعندما أحست أنها أثقلت عليهن قالت لي: خذي فأس والدك وطوريته إلى السوق طالما هو لا يعمل بهما ... فلنأكلهما!
بعتهن بجنيهن، وجعنا، قالت لي: خذي وأختك عنقريب والدك إلى السوق، بعناه بجنيهات خمس، وعندما عاد في المساء وعرف لم يقل شيئا، ولكنه نام في عنقريبي، ونمت أنا ونورا سويا، ثم جعنا.
قالت لي أمي: خذي عنقريبك إلى السوق، وعندما عاد، نام في عنقريب نورا، ونمت أنا ونورا على الأرض، ثم جعنا.
ثم جعنا ...
ثم جعنا ...
ثم جعنا ... ... جعنا.
إلى أن نمنا جميعا على الأرض، مفترشين جوالات الخشيش والملابس القديمة، وأشياء قد نجدها هنا وهناك في ساحة المنزل، وراء القطية، في الشارع، أو في بيوت الجيران.
أصبح المنزل خاليا تماما من أشيائه: الزير، المنضدتين، أكواب الشاي، فناجين القهوة، حذاء أمي الذي كانت تلبسه في المناسبات الحميمة والمآتم، أو تسافر به لإخوانها ووالديها بالقرية، بعنا كل شيء إلا الجوع الذي سكن في عمق أحشائنا بقوة وعزيمة، وفي اليوم الأخير من الشهر الرابع نهضت أمي من فراشها، شاحبة الوجه، عيناها مبيضتان كالقطن وفمها جاف وشفتاها مبيضتان خاليتان من الدماء وميتتان، قالت لي: هيا نذهب إلى الجروف للعمل.
قلت: ولكنك مريضة. قالت بصوت واه ضعيف: سنذهب.
ولكنها سقطت عند الباب على مقلاعها وسلتها الكبيرة، وتجمع الجيران وجاء شيخ القرية، قالوا بعد كلام كثير ولغة شتى: خذي أطفالك واذهبي إلى قرية والدك وإخوانك، فالبنات بحاجة إلى رعاية وأنت مريضة، ولا تقدرين على شيء، أما زوجك ...
وكان الكلام مقنعا؛ لأنها لا تستطيع أن تصارع الموت، فالموت قديم ومخضرم ولا يؤذيه سلاح ولا يقتله قاتل، ولا يسأم أو يتراجع، ولا ... أما هي، فبائسة، فقيرة، مريضة ومنهزمة دون أن تدخل في صراع مع أي كان، منهزمة بالفطرة؛ وقد تعب منها المحسنون. هذا إذا عرف أن كاكا النوباوية الكجورية همست لها قائلة: إن زوجك سعد مكتوب.
تحكي
كانت نوار سعد تحكي كما ...
كانت نوار سعد تحكي كما لو كانت في حلم طويل مزعج، أما أنا والمختار ففي صمت نستمع، وقد نسأل وقد نعلق، قالت: وكان يوما مشهودا؛ يوم أن تركنا القرية التي ولدنا بها وتربينا بين أزقتها، وعلى ضفاف نهرها وتحت أشجار نبقها، ولالوبها وحكاياتها وأحزانها وأفراحها، فكنا سعداء أن نغادرها، وكنا محزونين أيضا، وبنفس القدر. نور لا ترغب السفر بغير والدها أبدا، وقال الجيران - بعض الجيران: خذوه معكم، ولكنه قال في كبرياء: سأبقى هنا. ومن الأحسن أن تبقوا أنتم أيضا، وأضاف بطريقة أو بأخرى ما يعني أنه سيترك السكر وسيلتزم، بل لمح تلميحا واضحا في أنه سيقيم الصلاة ويصوم شهر رمضان. ركبنا اللوري وانطلق بنا جنوبا ... جنوبا ... جنوبا.
رحب بنا أخوالنا وجدنا، وقالوا لائمين أمي: لماذا تأخرت كل هذه الشهور؟ فاشتروا لنا ملابس جديدة، ألقينا تلك الرفيعة المهترئة بعيدا، اشتروا أحذية جديدة، ثم أدخلنا المدرسة الابتدائية، كلنا في يوم واحد الفصل الأول.
كان عمري تسعة أعوام، نورا سبعة، نور في الخامسة من عمرها ولكنها ذكية ولماحة، ولها لسان طليق كجناح نسر نزق، ثم تحدثت نوار عن سابا الحبشية - صديقتها - بحماس وحب، وعن مسيو دل برادو، خوان بيدرو، وعن إسبانيا والفراعنة، قالت: إذا خلقني الله حبشية لاختصر علي مشاوير طويلة علي أن أمشيها الآن.
تحكي
استيقظنا في ...
استيقظنا في الصباح الباكر على جلب وأزيز عربة الشرطة، على وقع أحذيتهم الخشنة، قالت وهي جالسة على الأرض تحكي بحماس عن ما أسمته بيوم الشرطة والكلب؛ خرج المختار لاستقبالهم، وكان زوجك نور الدين تحت عرديبة القيلولة يدخن سيجارة بمتعة وتحد سأل الشرطي المختار: أين سهير حسان زوجة نور الدين؟ قال: هل رأيتموها هنا؟
قالوا: نحن نبحث عنها.
قال: إذن ابحثوا إذا شئتم ولا تسألوا.
قال لنور الدين بعد أن بحثوا في كل ركن بالبيت: لم نجد زوجتك هنا. وحتى الكلب البوليسي لم يجد لها أثرا، وكل مباني المكان ... حتى المراحيض دخلناها، فصرخ مندهشا: أين إذن سهير؟
خرجت أنا من قطية المحراب وهي لصق العرديبة ويفتح بابها مباشرة على مجلس نور الدين، فصاح في: أين اختبأت سهير؟
ونظرت إليه نظرة معناها في السماء، وعدت للحجرة حيث المختار بالمحراب، أيضا قام الشرطيون بالبحث عنك في أنحاء المحراب كلها بين أشجار الحديقة، عند المزرعة، سألوا أشجار الطلح والهشاب الجافة ذات الأفرع الرمادية المحروقة بأشعة الشمس المحروقة بالعطش، سألوا الأرض، النهر، الأغنام السوداء التي ترعى على سور المزرعة، أوراق اليوسفي والبرتقال الجافة المتساقطة، سألوا الريح. وكان نور الدين زوجك يؤكد لهم بأنك موجودة في مكان ما، وكنت والمختار داخل المحراب نقرأ بابيلو نيرودا.
الغريب
قالت نوار سعد ...
قالت نوار سعد في إحدى جلسات تبادل التجارب: منذ اللحظة التي دخلت بيت مايازوكوف أحسست أنه باستطاعتي البقاء بهذا البلد، بلادي كيف خلق مايا العزيز هذا الإحساس بالمواطنة في، وأنا التي لا أعترف بالوطنية، وهو الغريب عن الدار؟ كيف هيأ لنا الدار؟ كان مايا دائما ما يردد: إن الإنسان هو الرب الوحيد، الرب الواحد الخالق لظرفه الموضوعي، وباستطاعة الفرد الواعي أن يشيد من قنطور للنمل قصورا للملوك، فقط عليه أن يعي حقيقة أنه ملك، وأنه في حاجة إلى قنطور من النمل.
وعندما كنت أؤكد له رداءة واقع البلاد الكبيرة، وأنه لا قيمة لإنسان بها، كان يضحك قائلا: فقط ينقصك الانتباه، انتبهي وستجدي قنطورك الذي هو قصرك.
ولأنه كان منتبها، ولأنه دائما ما يجد قنطوره استطاع أن يخلق الظرف الموضوعي الذي يبقيه هنا، وببقائه بدأ الإحساس بالغربة في يزول تدريجيا، وأحسست أن حياتي بدأت تأخذ مجراها الفني وعشت حياة راقية - في نظري - متحضرة في واقع متخلف رديء.
مع مايازوكوف الهم ... هم كوني، والمأساة عالمية، والفرحة لها طابع عام وممتد، والحب ... أسطورة، كنت معه أحس أن هناك من يفهمني، لا يعني إذا رفضت الطعام أنني أعاني من عسر في الهضم، أو أن الطعام لا يعجبني، أو لا شهية لي. وحينما أتحدث عن فاسيلي كاندنسكي لا يعني أنني أكره جويا ومايكل أنجلو، أو لا أهتم بالزرافة المحترقة. وحينما أتشهى شخص ما، لا يعني هذا أنني داعرة، أو امرأة لعوب، أو سيدة في شبق عابر، لا؛ ولكني أعبر عن رغبة جنسية إنسانية عميقة في الجسد.
وحينما أمشي في طريق دون هدى، وحينما أشرب كأسا من الخمر، وحينما أبكي فجأة، وحينما أغني، أرقص، أضحك، أسخر من نفسي حينما أقول لا.
حينما أتوقف عن مواصلة المحاضرة وأحكي للطلاب عن خواكين كورنين وأقول لهم خواكين أعظم فلامنكو أنجبته إسبانيا، وأنه أجمل الغجر وأكثرهم بولا. ميسو دل برادو، خوان بيدرو والخاندرو كازونا، خوانا كلية أو أمين محمد أحمد ذلك الطفل الشقي.
حينما أغني لطلابي بالأمهرة كما علمتني سابا، حينما أحس بالنعاس وحينما وحينما، دائما ما كان يسعني مايا العزيز، دائما ما يسعني مايا، لقد أصبح لي وطنا ومنفى أيضا.
قالت كالمنومة دون أن تلقي انتباها لما قاله المختار، وقلته أنا تعليقا على جملتها الأخيرة: إذا جئت بيته منتصف الليل وهو في فراش سيدة، كان يقول لي بكل هدوء: حسنا يمكنك النوم بحجرة المرسم، أو العودة إلى منزلك، فالطقس في الداخل غير مؤات.
سافرت معه في هذا الوطن لأمكنة ما كانت تحلم بها عصافير مشردة أو بجعة، عرفت من خلاله بلادي التي ولدت فيها، انتبهت من خلاله لنفسي، لذاتي المقموعة بتسلط اليومي. أقمنا في مستنقعات من البعوض والحيات، صعدنا قمما جبلية عالية لنشارك الحدأة أحلامها، مشينا لقرى لم يشاهد بها رجل أبيض من قبل، ولا امرأة سوداء تتحدث مع رجل أبيض؛ تجمعوا حولنا يتفرسون ويموتون من التعجب والذهول ويضحكون.
مايازوكوف صديق وجدت فيه نفسي، وطني، كان متمردا شقيا، وكنت لا مبالية، كان حرا كأغنية يمامة، غير مشروط.
وكنت حرة كروح درويش.
كالريح.
إذن، كنا ريحا وروحا ودراويش.
في الخلاص
أقمنا صلاة الخلاص ...
أقمنا صلاة الخلاص من الرغبات والغرائز ...
من الحب، الجنس، الكراهية، الخوف، بني آدم، الامتلاك، الموت، المعرفة، الجهل، المنافسة، اللذة، الجشع، الطمع، النصر، المال، وكالعادة هيأنا الصلاة كلها لرغبة واحدة مؤكدين عليها وفاعلين، وشاءت المنافسة أن تكون هي موضوع الخروج. قالت نوار: دعوني وغرائزي فأنا لم أقتنع بعد بأنني لست في حاجة لأي منها، حتى الحقد والكراهية فإنهما ضروريان لوجود الحب.
كانت الصلاة تحت الدومة الكبيرة، جلسنا متوازيين جلسة اللوتس، وكنا في ملابس القطن ناصعة البياض، ونفضلها دائما على البرتقالية في جلسات الخلاص، ربما لأننا نرغب في أن نصبح في نقاء القطن. قال: هذا الشخص الذي في المختار، المختار الملآن بالرغبات، الغرائز، هذا الشخص متسخ بالأشياء ...
هذه المرأة التي في، سهير حسان، هذه المرأة الملآنة بالرغبات والغرائز، هذه المرأة متسخة بالأشياء.
هذا الشخص الذي في الملآن بالرغبات والغرائز المتسخ بالأشياء.
التي في الملآنة بالرغبات والغرائز المتسخة بالأشياء.
الذي ملآن بالرغبات والغرائز المتسخ بالأشياء.
التي ملآنة بالرغبات والغرائز المتسخة.
الذي ملآن بالرغبات والغرائز المتسخ.
التي ملآنة بالرغبات والغرائز المتسخة.
أنا متسخ ...
أنا متسخة ...
ثم أنشدنا لغة الاغتسال من كل الأشياء، ثم هيأنا الإنشاد للمنافسة بمبدأ أن النجاح متاح للجميع، وأنه غير محدود، وأنه مشاع، وأنه طريق نقية يمكن للأعمى طرقها، هيأنا للخلاص الصلاة كلها، هيأناها للمنافسة.
في الريح
لا تزال السماء ...
لا تزال السماء تعلن عقرها فتحبل السحابات البيضاء بالريح والانتظار.
ولا تزال الأشجار الرمادية النائحة تصرخ عندما تحتك فروعها بفروعها بالريح.
الريح موسيقى العطش.
والريح لا تزال تأتينا من الشمال، وتحترق الغابة وتغلي المدينة فتعز مياه الشرب، يعلن الراديو أن هيئات الإغاثة العالمية في طريقها إلى البلاد، تصحبها البواخر مشحونة بالقمح الأمريكي الأحمر وزيت الحوت ...
النهير يتخور.
يعلن الراديو أن ...
تتعلق خراطيم وابور مزرعتنا الشفاط ما بين الماء والشط، عملنا لساعات طوال لإطالته. في ذلك الصيف أنتجنا كما هائلا من البطيخ، شحنا «لوريين» إلى سوق المدينة، فتخاطفه الناس الجوعى والعطشى، سألوا: أهو مستورد؟ - أهي الباخرة الأولى القادمة من واشنطن؟
غادرنا نوار سعد بعد شهر من التواصل الإنساني، تركت فينا أشياء اكتشفناها بعد أن ذهبت، أشياء مهمة، قال المختار ذات يوم: هل بإمكاننا الخلاص بعد أن زارتنا نوار سعد؟
في السياسة
ونحن نقتلع أشجار ...
ونحن نقتلع أشجار البطيخ القديمة على الأرض، أطل علينا من بين رماد الأشجار، وجه تعب، وجه مرهق، وجه سارة؛ فألقينا بمقلاعينا وجرينا نحوها، قد بلغ بها الإعياء والبؤس مبلغا، فارتمت أمامنا على الأرض وهي تلهث؛ أسعفناها تحت ظل عرديبة كبيرة، كانت تتصبب عرقا، سقيناها ماء الملح بقليل من السكر، أفاقت.
قالت: جئت من كهوف مايازوكوف، وكنت أختبئ هناك من البوليس السياسي منذ زمن، فقد هجرت الكهوف - كما تعلمان - بعد أن ذهب مايا.
أخبرتنا نوار سعد بأنكم مطاردون، وأن آدم هرب لجهة لا يعلمها أحد، وأن حافظ بالسجن الكبير. قالت في أسى: إنهم يقولون إنه هرب من السجن، ولكن معروف عن السجن الكبير دقة إحكامه، ويقال الأطيار والفئران تجد صعوبة في الخروج من جدرانه، إنهم ربما قاموا بقتله وأعلنوا هروبه، إنها حيلة قديمة يستخدمها البوليس السياسي النازي، ولكن نأمل في أنه هرب فعلا ... لا نريد أن نعي فكرة أنه مات.
أن يموت حافظ يعني أن تخيم مليون سحابة سوداء عاقر هذه البلاد الكبيرة.
قالت: جئت ماشية على قدمي من المرسم المفتوح، سبع ساعات متواصلة عبر الشوك والخيران، صرير الأشجار الجافة، ولقد ضللت الطريق مرات عديدة إلى أن أرشدني بعض الرعاة إلى طريق جانبية تقود إلى مزرعتكم هذه. - إذن لقد اكتشف البوليس السياسي مكانك؛ لذا هربت؟ قالت وفي فمها ابتسامة جافة: لا، مللت البقاء مثل السحلية بالكهوف المهجورة. - أين تذهبين ليلا؟ - يأخذني الخفير إلى أسرته، إلى أن ينادي أذان الصبح فأعود إلى الكهف، سحلية، مللت، مللت الوحدة. معكم أستطيع أن أحيا قليلا، الوحدة قبر. قالت: أهلي سيعرفون أنني معكم هنا؛ سيخبرهم الخفير.
قالت: يظنون أننا نعمل لحساب دولة أجنبية بقيادة مايازوكوف! قالت: هل هنا آمن؟ إذن أريد أن أنام قليلا، إنني مرهقة جدا وقدماي متورمتان؛ قال لي المختار: إنهم يبحثون عن طريق وما أصعب الطريق! قال: يستحيل إيجاد السبيل عن طريق البحث الجماعي، فالطريق ذاتية والإنسان دائما فرد، وإن كان فردا في سياق جماعي، يبحث وحده، يجد وحده، ويموت في لقيته وحده، قلت وكان وجهها يبدو بريئا وحلوا وهي نائمة على فراش بالمحراب: إنها طفلة وجميلة وإنها تحلم كما أنها لا تعمل لحساب شخص ما، أنا أعرف ذلك. قال: وأنا أيضا أعرف ذلك، إنها تحب وطنها مثلها مثل أصدقائها، ولكنها ترى في الأيديولجيا التي تؤمن بها المخرج الوحيد لأزمات الوطن.
في الغضب
ارتفعت درجة حرارة الجو إلى ...
ارتفعت درجة حرارة الجو إلى «55» درجة، ونامت الأشجار البائسة، نام رماد العشب؛ لأن الريح الشمالية التي كانت تلاعبه أثناء موته ذهبت في ثبات عميق، غطت السحب الرمادية قبة السماء واشتد الحر، خرجت الثعالب العجفاء من أجحارها والثعابين تسلقت الأشجار الهرمة الجافة، واشتد الحر، تراكمت السحب وأصبحت أكثر قتامة، ثم هطل المطر.
المطر، المطر، المطر.
مطر حقيقي وغزير، كأنما ثقبت السماء أو اندفقت مواعين الملائكة، مطر عنيف وقوي، أضأنا المصابيح وجلسنا نستمع لهزيم الرعد وخرير المياه. وكلما فاجأنا البرق انكمشنا على أنفسنا، حبسنا أنفاسنا وانتظرنا.
كان المطر مطرا.
استيقظت الريح وأخذت تقهقه في هستيريا وهي تفرك هامات الأشجار بأصابعها الهلامية، وتدغدغ جنباتها كما يفعل الأطفال الأشقياء بالأطفال الأشقياء، قالت سارة حسن: يخيل إلي أن صهاريج الماء المخزون بالسماء قد اندفعت اليوم.
خمس ساعات من المطر المتواصل من البرق والصاعقة، من الرعد، ولكنا أحسسنا بفرحة عميقة تغمر دواخلنا، وتموسق ذواتنا العطشة، ولو أننا أحسسنا بالخوف، الخوف من البرق والصاعقة، والخوف من السيل والرياح العاتية التي تصارع أفرع الأشجار الجافة في الخارج وتكسرها، لقد جاءنا المطر بعد عطش دام قرابة العامين وأكثر؛ لأن الفصل المطير الذي سبق هذا الفصل الجاف هو الآخر كان فصلا فاشلا، ولم يجد بغير مطيرات استمرت دقائق وغادرت، ولأن الفصل - الذي كاد أن يكون مطيرا - السابق لهذا الفصل الأخير ...
قالت لي - ذات جلسة - عرافة كانت جارتنا في بيت أبي، وقد اعتدت أن ألوذ بخرافاتها كلما تأزمت، قالت لي ذات مرة على هامش حديث طويل عن مستقبل البلاد: هذه البلاد ستعصف بها حمم تحمل ريح السافل، وتعني بريح السافل الريح التي تهب جنوبا، سنة، ثم سنة ... ثم سنة. إلى أن يشاء الله فتهب الرياح الجنوبية الغربية محملة بالسحابات، فتبرأ جراحات الأرض، هكذا تقول الجماعة.
ثم توقف المطر وهدأت الريح؛ فخرجنا نتمشى بين الخيران التي صحت من ثبات العطش الطويل والمجاري ذات الخرير الشجي، فقد صحت أزمنة المكان، صحت شقوق الأرض، استيقظ الزمن النائم في حرقة الطقس. تزحلقنا على الطين، ابتلت ملابسنا واتسخت أيادينا ونحن كالأطفال نضحك ونجري في البرك الصغيرة، أو نركب سوق الأشجار الضخمة الطافحة على مياه السيل، نجمع العصافير الصغيرة المبتلة الأرياش المصقوعة بالبرد، ندفئها بين أكفنا أو نفرك أجنحتها فتسري فيها الحياة.
وكانت سارة والمختار يغوصان بين أشواك الأشجار التي أسقطتها الريح على الأرض، ليأتيا بصغار عصافير الجنة، وود أبرق، وسرو دمامي وبعض صغار أم قيردون وحواء زريقة والهدهد، وأتولى أنا القيام بدور الممرضة والأم. قال: فلنذهب لنلقي نظرة على النهر والمزرعة.
كانت أشجار الفاكهة قد اغتسلت بالمطر، فبدا الليمون والبرتقال كأزهى ما يكون، أما أحواض البصل فقد غرقت تماما وذابت الفواصل الترابية التي تفصلها عن بعضها البعض؛ فأصبحت حوضا واحدا كبيرا غاطسا في الماء أو بحيرة صغيرة.
قال المختار وهو يتفحص حوض البصل الغريق: الملكية تشبه الأبوة، فإحساسي بالبصل الذي يعاني الاختناق تحت مياه المطر إحساس لا يقل حميمية عن إحساس أب يرى ولده يختنق بالغاز، ولكن فلتكن هذه المأساة صلاة من الألم مرفوعة لروح الملكية التي يجب علي التخلص منها ونبذها. - إذن أنت ضد الملكية الخاصة؟ قال: نعم، ولا؛ لأنني ضد كل أشكال الملكية على المستوى الفردي كغريزة، فإننا نتحدث عن الغرائز والشهوات في إطار الذات الواحدة ... فليتملك الفرد ما شاء لكن يجب ألا تكون هذه الملكية عاطفة وغاية في ذاتها، فإذا فقد الحطاب فأسه الوحيدة فإنه لا يتحسر على فأسه التي كان يمتكلها، ولكن لأنه لا يستطيع أن يقطع الأحطاب التي عن طريقها يحصل على خبز أطفاله، فإننا نريد أن نجرد الملكية من بعدها الغرائزي ونجعلها وظيفة إجرائية فحسب. قالت سارة: ربما كان فكرك هذا نمطا من التجريد الوجودي المثالي. - قد تسمونه فكرا مثاليا، ولكنه أكثر واقعية على مستوى الروح، وأكثر واقعية وعملية لأشخاص يؤمنون به.
قمنا بفحص الوابور الشفاط بحجرته الصغيرة المبنية من الطوب الأحمر، تفحصنا براميل الجازولين، صفائح الشحم، والزيوت التي وجدناها غاطسة في مياه بنية يعلوها الزيت.
وعدنا.
الطين
عندما ...
عندما أدارت سارة مؤشر الراديو للمحطة المحلية كان المذيع يعدد الخسائر: احتراق مجمع البترول الكبير، انهيار ألف مسكن وسط المدينة، وكانت مبنية من الطوب اللبن. عدد الموتى والمفقودين لم يتم حصره حتى الآن، والبحث جار لانتشال الجثث وإنقاذ المواطنين الأحياء تحت الأنقاض، سقوط أعمدة الكهرباء والتلفون وانقطاع الاتصالات الخارجية ... تحطيم معمل ومختبر كلية العلوم وسقوط معظم مباني الجامعة الكبيرة، قرى بأكملها تمحى من خارطة البلاد الكبيرة.
سمعنا صوت المذيع يعلن الكارثة القومية، المدينة تغرق، الأطفال يغرقون في الطين ... أنقذوا المدينة.
في الموت
أرسلت نوار سعد خطابا تسأل ...
أرسلت نوار سعد خطابا تسأل فيه عن حالنا، وهل جرفنا والغابة إلى النهر أم لا نزال متمسكين بالأرض وأشجار الدوم؟ قالت: في مدريد لا كوارث ولا أعاصير، ولا حتى انقطاع في التيار الكهربي، كل شيء مخطط ومنظم ومعروف مسبقا؛ قالت: نادرا ما تفاجئنا الطبيعة بثوراتها، قالت - وهي تكتب لنا بينما يعد صديقها خوان العشاء: كم يبدو وسيما ووديعا في قبحه التام، إنه أجمل قبح في العالم.
وفي صفحتين كاملتين كانت تحدثنا عن: كيف استطاع بيدرو وبجهد متواصل لمدى عشرين عاما أن يطور أساليب المجاسدة التقليدية العادية، وإنه في طريقه لإنشاء علم يختص بممارسة الجنس، مثله مثل علوم الطبيعة والكيمياء وعلوم البحار ... ثم شرحت لنا بالتفصيل أكثر الأساليب إمتاعا وإشباعا للرغبة الخالدة، وقالت إنها اهتمت بهذه التفاصيل رغبة منها في أن تنبهنا إلى مواطن إسرفنا في إهمالها ... وعليها أن تثيرها.
قالت: سأسعد كثيرا إذا علمت أنكم قد تخلصتم من رهبانيتكم وزهدكم في الجسد، تخلصتم من أوهام النيرفانا وانشغلتم بممارسة الحب، فهي قد تقربكم إلى الحقيقة أكثر مما تقربكم النيرفانا.
كتبت أيضا أنها ذهبت إلى سوريا والتقت مايازوكوف وقالت: إنه حزين، وإنه يحاول العودة عما قريب، وقالت: إن الشوق لأشجار العرديب والكهوف وأرانبه الأليفة، الشوق إلى البابايات والناس يحرقه.
وقد تزوج مايا من مغنية سورية جميلة جدا ذات صوت شجي، قالت إنها تغار منها، إنها تشعلها بالحقد وإنها كانت ترغب في أن تكون هي زوجة مايازوكوف، هي نفسها وليست تلك المغنية لأنها تحس في ذاتها ألا أحد يفهم مايازوكوف خير منها، لا امرأة على وجه الأرض ...
إنها تعمل الآن خبيرة في النحت القديم تابعة لمنظمة اليونسكو، ثم كتبت: قريبا سأعود إلى البلاد الكبيرة، فقد اشتقت إليكم، لأهلي، والأخبار التي تصلنا عن البلاد الكبيرة تخيفنا.
من
هل أصبحت ...
هل أصبحت البلاد الكبيرة بحيرة أسطورية من الطين؟
إذا شربوا ...
المطر موسيقى العطشى.
المطر موسيقى العطشى، ورعبهم إذا شربوا.
ثلاثة رجال
نزل المطر مرة أخرى ...
نزل المطر مرة أخرى غزيرا وعنيفا، ذابت مساكن الطين الساقطة، مات الميتون وشبعوا موتا، أقام الفقراء في العراء، ثم هطل المطر مرة أخرى غزيرا وعنيفا. قال البعض: إنه غضب الله على البلاد الكبيرة. قال البعض: إنها رحمة من الله على البلاد الكبيرة.
وقمنا بزيارة المدينة، أنا والمختار تاركين سارة بالمحراب وحدها، فلم تك المدينة غير مستنقع من مياه الأمطار تبيض عليه الضفادع، ويتكاثر فيه البعوض وأم مقص، وبه جثث الحيوانات النافقة المجروفة مع السيل والقاذورات، وتذمر الشعب في الشوارع والتظاهرات.
الناس يتبرزون في العراء خوفا من أن تسقط بهم آبار المراحيض .
المدينة كوم خراء.
ولكي نتمكن من المشي على الطين قمنا بخلع أحذيتنا ومشينا حفاة؛ محاولين ما أمكن تجنب شظايا الزجاج والأشواك والحصى الحادة أطرافه، ورغم ذلك وجدنا صعوبة بالغة في ولوج وسط المدينة عن طريق الشارع العام، فلقد كان عبارة عن بحيرة طويلة مستطيلة مشحونة بالحيوانات النافقة، الضفادع وأم مقص، فاتخذنا طريقا جانبيا، وعبر بعض الأزقة المحاطة بالمنازل المتساقطة استطعنا دخول السوق لنفاجأ بالفوضى.
كان الناس الفقراء الجوعى كالحيوانات المتوحشة وهم يتعاركون بين بعضهم البعض، بينهم وأفراد الاحتياطي المركزي والشرطيين، يكسرون المتاجر ويستولون على جميع ما فيها من بضائع أو أثاثات، كانوا مسلحين بالعصي والفئوس وبعض البنادق التي أخذوها من أيادي الشرطيين، هناك نهب للأفراد، وقد اكتشفنا ذلك مؤخرا عندما تقدم نحونا ثلاثة رجال، يمسك أحدهم بخنجر مسلول في يده والآخران يحملان عصا غليطة، وطلبا من المختار أن يعطيهم ساعته وقميصه وحذاءه التي يمسك بها في يده، فأعطى دون أي مقاومة أو اعتراض، ثم أخذوا ساعتي أيضا وحذائي ثم طلبوا منا مغادرة المكان؛ لأنه قد يأتي من لا يقبل بأقل من اغتصابي، خاصة وأنه لم يعد لدينا ما ينهب.
فتسللنا كفأرين بائسين عبر الأزقة عائدين إلى الطريق العام حيث استقللنا عربة أجرة إلى غابتنا.
ضد البعوض والفئران
تعاون الجيش مع الشرطة ...
تعاون الجيش مع الشرطة في إطفاء غضب الفقراء، فزجوا بهم في السجون، وقتلوا بعضهم، وأصابوا البعض الآخر بالجروح والكسور، وذلك حسب ما أعلنه الراديو؛ لإتاحة الفرصة وتهيئة الجو لهيئات الإغاثة العالمية للقيام بدورها، وزعت الأدوية، أقامت المراكز الصحية العاجلة، وزعت الطعام، أقامت المراكز الغذائية للأطفال والعجزة، وحثت أفراد المجتمع للقيام بحملات ضد البعوض والفئران.
سارة
قالت سارة ...
قالت سارة: أسبوعان منذ بداية هطول الأمطار ولم أر واحدا من أهلي، فأنا قلقة عليهم، في المدينة الكوليرا والملاريا، التيفويد، ولي إخوة صغار ولي أم. قال لها المختار: على ما أعتقد أنه لا خوف عليك، فالحكومة مشغولة بغضب السماء ولا وقت لديها لغضبها الخاص، إن بإمكانك الذهاب لرؤية أهلك.
في الروح
طوال هذه الأعوام ...
طوال هذه الأعوام كان المختار يحاول أن يعلمني درسا واحدا لا غير، وهو: النقاء.
فالنقاء - كما يؤكد المختار - هو رسالة الإنسان إلى نفسه، وهو الطريق، كان يؤكد أيضا أن النقاء صعب المسلك، طريق كأكل الجمر، مستحيلة فهي ممكنة بشكل أو بآخر، ومهمتي أن أكتشف «الشكل الآخر»، فأستخدم اليوجا والصلاة والسفر والجوع والحرمان. أقلد الأشجار في حركتها مع الريح والفيضانات، وتراه يقف لساعات تاركا نفسه للتعبير التلقائي محاكيا الدومة أو العرديبة العملاقة، كان يقول: إن في الأشجار سرا، وربما الحقيقة ذاتها.
كان يمشي من المحراب إلى المدينة في أحيان كثيرة على رجليه القويتين في يومين كاملين، يطعم عروق وبذور الأشجار وثمارها، كان لا يقتل مخلوقا أبدا، وكان لا يمرض، فقط بعض الحمى، ولكنه اليوم يرقد منهكا منها لأول مرة في حياته. - عمري ستون عاما ولأول مرة أرقد على فراش المرض، ألا يعني هذا؟
تعالي وخذي قلما واكتبي، فالآن يمكنني الخلاص.
أشعلي الفوانيس ودعي الأطيار تستيقظ ... أرسليها ... أرسلي الهدهد إلى مايازوكوف فلادمير.
وأخذ يهذي كالمجنون، تكلم عن أشخاص لا نعرفهم ولم نسمع بهم في حياتنا، ولأول مرة أيضا قال شيئا عن أسرته، ولو أنها كانت هلوسة وهذيانا، قال إن أمه تنتظره في ماء النهر وهي تحمل إبريقا من الفضة بيد وباليد الأخرى سراجا في هيئة عصفور ود أبرق. قال إن أمه تنتظره عند البئر القديمة المهجورة قرب الخور، خلف مباني البيطري - الخور الكبير - وإنها تنتظره في طريق طويلة، وإنها محاطة بالملائكة وطير الوروار، ثم فجأة جلس على السرير، وكمن كان في كابوس مزعج تخلص منه للتو صاح: أين أنا، أين كنت؟ إنه مكان فظيع، خذيني بعيدا ... بعيدا عند الهواء ... كم الساعة الآن؟! أهي الرابعة صباحا؟
ساعدته في الخروج من المحراب وجلسنا في الهواء الطلق، تأتينا رائحة الطين وبقايا النباتات المتعفنة في مياه البرك ونقيق الضفادع، قال: لفي جسدي بثوب الدمور، وأريد كوبا من عصير العرديب أو الليمون. وعندما شرب نصف كوب الليمون تنفس الصعداء وهو يقول: لقد ذهبت إلى مكان ما كنت أظنني عائدا منه، قلت له مطمئنة: إنها الحمى. قال: قد تكون هي الحمى، وقد تكون إشارة لأحداث ستقع، فقد كنت غارقا في النوم عندما أحسست فجأة أنني انزلقت في طريق طويلة ملتهبة لا وصول لها، طريق ضيقة وحارقة، وكنت أمشي فيها حافي القدمين وعاريا تماما، وكانت الأجراس النحاسية الضخمة تدق، تدق بعنف وكأنها عمالقة من الجن أصيبت بالجنون.
طريقة قاسية، ولست أحلم، ذلك لم يكن حلما، كانت هناك تفاحة ندية تبدو في الأفق البعيد، تبدو كأبعد ما يكون البعد وكأقرب ما يكون القرب! وكنت أذهب نحوها وأهرب منها في آن واحد!
والطريق تضيق وتلتهب نارا، إنه واقع، إذن لا أظن أنه بإمكاني الحياة بعد ذلك، يجب أن أموت، إنها الإشارة وقد تلقيتها، لقد طهرتني النار. - أنت لم تزل محموما. - ليست هي الحمى، إنني محق وإنني الآن بكامل وعيي.
أخذ يحكي لي عن فشله في الحياة وإحباطاته، وأنه كان يريد أن يصبح صوفيا مثل الحلاج، أو ابن عربي، ولكنه فشل في ذلك لأنه جاء في الزمن الخطأ؛ إذن ... إنه خطأ ميلاده، قال لي: عندما حاولت نوار سعد الاقتراب مني في تلك الليلة، هل تذكرين؟ - نعم، انتهرتها وطلبت منها مغادرة المحراب. - لم أقل لك إنها في زيارتها الأخيرة للمرة الثانية، والثالثة، والرابعة كانت تفعل ذلك، وفي كل مرة تحضر فيها للمحراب كانت تحاول ... وبكل ثقة وبكل قوة. هل كانت تعرف بصورة خفية أنني ما أزال مستودعا للرغائب والشهوات، وأنني متسخ؟ بالفعل أنا كذلك، لقد حاولت الخلاص - كما ترين - ولكنني لا أزال أحس بالرغائب تزحف في، تتظاهر وتنفعل وتثور، مثلي مثل أي كلب، أو أية ضفدعة. أيضا أقول لك كم مرة تشهيتك فيها، تشهيت مشاطرتك الحب وفعله، وأنت تنامين في قطيتك بملابس النوم، وحدث فعلا أن نهضت من فراشي وتسللت إلى حجرتك ذات ليلة مقمرة، الملاءة التي تغطين بها جسدك منحسرة عن ساقيك وردفيك، في الحق، ما كانت تغطي غير بعض صدرك ووجهك، تمكنت من خلال ضوء القمر أن أرى أشياءك الجميلة بكل وضوح، وتحرك في وحش الرغائب أو سلطانها، وكدت أن أقبل مكانا ما في ساقيك، كان يشعلني بالحب والانتعاظ. نعم لا تزال صورتك وأنت على تلك الحال تمر أمامي ناظري.
هل إذا تشهيتك زنيت بك؟ ماذا لو انتهزت تلك اللحظة؟
قلت له: وهل أنا بما تتصوره من ضعف سأستسلم لك فقط لأنك تشهيتني؟ أو لكوني عارية؟ لكن ماذا لو كانت نوار سعد في مكاني؟ قال مبتسما: لا أنكر أنني معجب بأسلوب نوار سعد في الحياة، ذلك الأسلوب الواضح الشهواني، لكنني لا أزال أمني النفس بالنقاء، أمني النفس بالعودة إلي، هل سأبقى متسخا وبروحي ضياع، وبقلبي ذلك الحلم الجميل؟
أما مايازوكوف
مايازوكوف أيضا ...
مايازوكوف أيضا حضر للبلاد الكبيرة وبطلب رسمي من الحكومة بأن يتولى عمادة كلية الفنون الجميلة بالجامعة التي بناها بقلبه وأظافره، وقالوا له إنهم تأكدوا من نظافة اسمه وخلوه من الشبهات، أما مايازوكوف، فقد كان يؤكد أن سبب رجوعهم هو أن العلاقة بين الدول العربية كالعلاقة بين جندي وداعرة في زمان الحرب؛ تمر بلحظات قطيعة مفاجئة، ليس للجندي يد فيها، وليست لها يد فيها أيضا، وتمر بلحظات تواصل قدري، ليست للجندي يد فيها ولا للداعرة، الاثنان لا يدومان في التواصل ولا في القطيعة.
وصف لها بلادا وجاء بها إلى أخرى
تحدث الناس ...
تحدث الناس عن استياء زوجة مايازوكوف عندما داهمها الذباب والبعوض، وهي تعبر شوارع المدينة وزوجها إلى الجامعة في اليوم الأول، ولو أنهما استغلا عربة كانت في انتظارهما عند المطار، إلا أن العربة كانت غير مكيفة الهواء، والجو حار؛ لذا كانت النوافذ مشرعة، لذا عندما تنخفض سرعة العربة عند برك المياه ونتوءات الطريق؛ فإن رائحة الفضلات الآدمية والحيوانية مصحوبة بجيوش الذباب لا مفر من معانقتها، وقيل إنها أحست بأن مايازوكوف قد خدعها؛ لأنه وصف لها بلادا وجاء بها إلى أخرى.
في عودتهم من الجامعة إلى البيت، لم يعرف مايا المكان الذي توقفت عند بوابته القديمة المتهالكة العربة، هو بيته الذي كان جنته، ولو أن أشجار العرديب الشامخة والدليبات بدأت في الإيراق. لكن المكان كان موحشا تماما، نشفت النريم والورد الإنجليزي، حتى تمثال مداح المداح أصابه العطب، فقد صرعته الريح الشمالية الحارقة القوية، وحينها أحس مايا بانقباض رغم محاولته جعل زوجته أكثر تفاؤلا، مؤكدا لها أن النافورة التي كانت على زهرة لوتس الجبل سيعيد لها حياتها، وحينها تستطيع أن تغني هذه البئر المهجورة التي سكنتها الوطاويط والثعابين، وأن شجيرات الباباي التي تنمو قرب السور الذي كانت تحفه شجيرات الأركويت هي الأخرى ستنبت مرة ثانية، وأن الأرانب ... وأن النعامات، وأن السلاحف، وأن طيور ود أبرق، وأن المجانين ومدعي النبوة ... الداعرات ... وأن عرق العرديب وميادة الحناوي ... مداح المداح.
وأن سارة حسن ... آدم وأمين.
وأن الرحلات إلى المدن البعيدة، وأن الكهوف وحدأة الحرية التي بجناحي فراشة وأنامل سيدة جميلة ...
وأن كمنجة مداح المدفونة في الطين، وأن الطلاب ...
في اليوم الثاني في الصباح الباكر ذهب مايازوكوف للكهوف فوجدها بيتا للسحالي والعناكب والثعابين وحمامات الجبل المتوحشات، وجدنا المطر قام بغسل ألوانها الزاهية وحطم الحجارة المنحوتة، ما عدا كهفا واحدا كان نظيفا، وبه بقايا شموع وهو الكهف الذي اختبأت به سارة حسن من قبل. قال لزوجته: العالم كله يسير إلى الأمام، وغده أجمل من يومه، إلا هذه البلاد الكبيرة تسير للخلف ويومها فرصة لا تتوافر في الغد ... عالم غريب.
عندما شاءت الكلية أن تحتفل بعودته وعمادته لم يأت حتى القليل من أصدقائه لحضور الحفل. أتت الشخصيات الرسمية، وهي وحدها من البشر الذين لا يحبهم مايا ولا يحب لغتهم المتكلفة وبروتوكولاتهم العميقة ... أما المجانين: الطلاب والنساء الجميلات ... الحزبيون وغيرهم فقد كانوا مشغولين بالملاريا والكوليرا والذباب ... أو أنهم ماتوا ... تحت الأنقاض أو غرقوا أو يحتضرون.
الحفل كان باردا ورسميا لا طعم له غير طعم الكوكاكولا التي وزعت للمحتفين، ورائحة دخان السجائر. قيل إن مايا سأل رجلا رسميا كان بقربه أثناء الحفل: أين نوار سعد؟ - من هي نوار سعد؟ هل تقصد مسجلة الكلية السابقة؟ قال مايا: كانت أستاذة النحت بالكلية قبل أربع سنوات. قال الرجل : لا، لا أعرفها. فسأله: هل تعرف أين المختار؟ أهو بغابته أم لا؟ قال الرجل: لا، لا أعرفه. فقال لزوجته: إذن دعينا نعود للمنزل، أريد أن أذهب للمرحاض، قد يكون ...
زارنا في الغابة
زارنا ...
زارنا في الغابة، كان حزينا وبائسا، قال: إن سارة حسن زارتني بالمنزل وأخبرتني بمرض المختار. وتحدث عن أشياء كثيرة، وقال إنه ربما لن يبقى هنا كثيرا، ثم سأل: أين نوار سعد؟ فاحمر وجه زوجته السورية المغنية الجميلة، ثم اصفر، ثم قالت بثورة: شو تسأل عن نوار سعد ألف مرة، شو تريد منها؟!
فضحكنا معطين المسألة طابعا هزليا متجاهلين بعدها المأساوي.
في الخلاص
فتحت الجامعة ثم ...
فتحت الجامعة ثم أغلقت مرة أخرى عندما تفشى وباء الكوليرا في الداخليات، وثكنات أساتذة الجامعة، وجند طلاب الطب والمعاهد الصحية، وكليات الصحة والمختبرات الطبية في حملة قومية ضد الكوليرا والملاريا وغيرها من الحميات المتفشية في البلاد، ولكني لم أشارك في الحملة نسبة لمرض المختار بالغابة الذي دخل في أسبوعه الثاني، حمى هذيان، عدم مقدرة على المشي، ثم عودة للحياة الطبيعية بكل حيوية ونشاط لمدى يومين أو ثلاثة، ثم الانتكاس مرة أخرى، حمى، هذيان، عدم مقدرة على المشي ... ورفض الذهاب إلى أخصائي باطنية، وهو صديق له بالمدينة، كان يعمل كطبيب للسجن الكبير، مشهود له بالكفاءة. قال: أنا طبيب، ولكني لا أعترف بما يسمى بالطب الحديث، فالإنسان طبيب نفسه، فإذا عجزت عيادته الذاتية عن علاجه؛ فكيف يعالجه الأطباء وهم أقل معرفة به عن ذاته؟
كان وضع المختار الصحي لا يحتمل الفلسفة، فذهبت للأخصائي صديقه بالسجن الكبير وحدثته بمرض المختار؛ فصحبني للغابة بعربته وهو في غاية التأثر، قال لي إنه درس والمختار في الجامعة الكبيرة، وإن المختار كان يسبقه بدفعة واحدة، ولكنه كان مشهورا بين التلاميذ بخرافاته وصوفيته؛ وكان رئيسا لرابطة «البراسايكولوجست»، وسألته عن أسرة المختار؟ قال: ما كان يحدثنا عن أسرته أبدا، إلا إذا أصيب بحمى يهذي، وهو أيضا نادرا ما يصاب بالحمى أو بمرض عضال، ولكن الحمى تجعله يهذي كالمجنون ويتحدث عن أمه ، أمه فقط .
المستشفى
عندما فحصه جيدا، الأخصائي
ولمدى نصف ساعة قال: إنه يحتاج لفحص أدق عن طريق الأجهزة الحديثة، وهي بالعيادة الحديثة في المدينة، ومن الأفضل أخذه إلى هناك، ولكن بالتأكيد رفض، رفض تماما فكرة الذهاب إلى المدينة، وإلى المستشفى بالذات.
كان المحراب حزينا وبائسا تفوح منه رائحة الحمى والرطوبة، توقفنا تماما عن القراءة إلا القليل، وذلك عندما يفيق من هذيانه فيقول: اقرئي علي شيئا من بدر شاكر السياب؛ فأقرأته أنشودة المطر، وهكذا لا نقرأ سوى أنشودة المطر للسياب، سوى بعض الأبيات ثم نكررها، ودارت الطواحين، طواحين اللحظات العصبية بطواحين الريح والشعر، وكادت أن تعم الفوضى حياتنا كلها، كلما اشتد المرض بالمختار، كلما فقد التركيز في أمور الحياة.
كنت أذهب بين وقت وآخر للمدينة لإحضار بعض الفاكهة وضروريات أخرى، أما المزرعة؛ فقد أهملتها تماما إلى أن حضرت ذات صباح نور سعد، وفي نفس اليوم وبعدها بلحظات حضر أمين، أمين محمد أحمد، قالت إنها عادت لتوها من مدريد لتعلم بمرض المختار، وقالت: إن البلاد بعد رحيل مايازوكوف لم يكن بالإمكان العيش فيها. قالت: لقد أعطانا مايازوكوف سمكة مشوية، ولكن لم يعطنا صنارة ويعلمنا كيف نصطاد! قالت بعودته ربما ... ربما استطعت البقاء بالرغم من الذباب والبعوض والكوليرا، الأغاني الهابطة، قلت لها: إن مايا نفسه لا يستطيع البقاء في هذه المدينة؛ لأنه مستاء جدا. قالت: زوجته هي السبب والظرف ذاتي، ولكن إذا كان وحده ... أنا متأكدة من أنه يستطيع أن يجد الواقع المناسب والظرف الذاتي الضروري لبقائه ... وقد التقيت به قبل أن يأتيكم هنا ... وكان المختار نائما، أو بالأحرى في حالة غيبوبة وحمى، قال أمين: لم أسمع بمرضه غير اليوم، لقد أخبرتني سارة حسن وقالت: إنها تواصلكم باستمرار. - إنها تزورنا كثيرا. - كيف أخبار المزرعة؟ هل تبقى منها شيء ما؟ أما زلت تكتب القصائد الجميلة؟ ابتسم أمين وهو ينهض برشاقة ليمضي مع نوار سعد.
استيقظ المختار من غيبوبته، أخبرته بأن نوار سعد عادت إلى البلاد وهي الآن في المزرعة مع أمين. قال: الولد الشاعر ؟ - نعم. - هل أتى معها من المدينة؟ - لا، كل أتى بمفرده، ولو أن فرق الزمن بين قدومهما لا يتعدى دقائق، ثم أضفت: لا تخف عليه، فإن نوار سعد لا تحب الأطفال؛ ترعاه كأم لا أكثر، ربما أحست معه بالضجر ... ولو أنها تعرف طبيعة شعوره تجاهها. قال: هل تذكرين قصة أمين والحبشية؟ - وهل أنسى مثل ذلك الموقف؟ ذلك الحوار المجنون. قال مبتسما: إنه أخبث شخص خجول في العالم.
أعدته سابا
أعدت نوار سعد الإفطار الذي أتت به ...
أعدت نوار سعد الإفطار الذي أتت به من المدينة؛ ويتكون من السجق والزبادي وأنواع متعددة من السلاطة، أشارت إلى واحدة منها قائلة: هذا الطبق أعدته سابا، وهي تقرئكم التحايا، وعما قريب ستحضر، فهي الآن مشغولة بتعلم الكمبيوتر في مكتب خاص بالمدينة.
تناول المختار قليلا من الزبادي، صابا عليه عسل النحل، واعتذر عن أكل السجق والسلاطة الحبشية، أما أمين فرفض في بادئ الأمر المشاركة في الأكل، ولكنه قبل تحت إلحاح المختار، وكان صامتا وكأنه يفكر في أمر ما بكل ما يمتلك من طاقة، قلت في نفسي: ماذا لو اكتشف أمين أننا نعرف أنه يعشق نوار سعد، وأننا استمعنا ذات مرة للحوار الذي دار بينه وبين الحبشية سابا عن قطعة من ملابس نوار سعد الداخلية كان يحتفظ بها، وتريد الحبشة استردادها؟!
طلبت منه أن يسمعنا قصيدة من شعره الذي كتبه مؤخرا، ولكنه اعتذر لأنه لا يحفظ شعره، والكراسة التي يكتب بها ليست معه، ولكنه سيسمعنا مقاطع من قصيدة ... حكاية فاطمة، فأنشد لغونار اكليف:
أناجيك
أناجيك
أناجيك
من أعماق ذاتي
وأعلم أنك لن تجيبي
وأنى لك أن تجيبي
والضارعون إليك كثر
أسألك، حسب
أن أقف هنا، منتظرا
وأن تهبيني من نفسي
شارة عن نفسك!
أنشدها كناسك يرتل صحائف مقدسة، كان منفعلا مع كل حرف وكلمة انفعالا عميقا يتجسد في صوته وتقاسيم وجهه وحركة أنفاسه، وارتعاشة طفيفة في أنامله، كل ذلك يتجسد في حركة شفتيه الجافتين الحزينتين، ثم استأذننا وانصرف.
كنا نرقبه من تحت شجرة الدوم، وهو يتلاشى بسرعة بين أشجار الغابة التي بدأت تكسوها الخضرة.
شربنا القهوة ثم أخذت نوار تحدثنا عن أشيائها؛ قالت إنها قدمت من إسبانيا للاطمئنان على أهلها، ولكن عودة مايازوكوف هي الأخرى كانت حاسمة في صنع القرار بالعودة إلى البلاد، قال: أريد أن أتخلص من بعض الغرائز ... فقط بعضها، أريد أن أصير - ولو قليلا - منكم، فقط لو تحكمت في نفسي، إن لدي نفسا جموحة، أريد أن أقترب مني ... أقترب مني أكثر، أكثر. أريد أن أعرف ماذا أريد؟
قال المختار بصوت واهن تعب: كلنا يود أن يلتصق أكثر بذاته، ثم أضاف وهو يتنهد بعمق: لا، لست أدري، إن كنت قويا كما في الماضي ... هل يمكنني مقاومة الرغبة في الاستسلام؟ قالت نوار مندهشة: الاستسلام! - الاستسلام، نعم، الاستسلام لغرائزي وشهواتي ... لمخالب نفسي وشياطينها. - ألم تتخلص من ذلك؟ قال في يأس وبؤس: لا، لم أتخلص من شيء، أخيرا وجدت نفسي في قفص الألم، كانت معي دائما ولكني كنت أكبتها وأتستر عليها وأزجرها إذا دعا الأمر ... ولكني أبدا ما كنت تقيا، أبدا، ثم قص علينا أشياءه ونام.
وشرسة كنمرة
كانت نوار تحكي ...
كانت نوار تحكي عن زوجة مايا وهي لا تتمالك نفسها من الضحك من وقت لآخر. - إنها جميلة وشرسة كنمرة غيورة كدجاجة بلدية ...
قالت أيضا: لقد ذهبت إلى زيارة مايا العزيز، ونسيت تماما مسألة زوجته المغنية سلام، فعندما طرقت الباب خرج، ودون أن أشعر وجدت نفسي أحتضنه بلهفة وتشوق، ولكنني أحسست به باردا كالثلج أو حذرا وخائفا، تعجبت! ولكن عندما انتبهت للمرأة الجميلة الغاضبة الواقفة خلفه مباشرة متكئة على الباب؛ استدركت أن مايا العزيز لم يعد مايا العزيز، وانتابني إحساس بالمرارة، وأيضا بالعار، لا أدري ... العار ... لماذا؟!
مددت لها يدي مصافحة، قالت وهي تمد يدا فاترة: لقد التقيتك من قبل. ألست أنت نوار سعد؟
النهايات
التقيت مايازوكوف ...
التقيت مايازوكوف بالجامعة وكان تعبا ومرهقا كجواد يحمل جبلا من الرصاص كجواد يموت، يلبس قميصا من القطن أبيض وبرأسه «كاب شمسي» وكان قصيرا ممتلئا باللحم والعصب، ومأساة باردة ولكنها في أوج النضج، قال : إن ما قضاه من زمن بعيدا عن هذه البلاد الكبيرة كان زمنا مشحونا بالحرقة والتشوق، ولكنه الآن وقد عاد إلى البلاد الكبيرة أيضا يملؤه الإحباط والتشاؤم؛ ثم حدثني عن زوجته «سلام» وقال إنه تعرف عليها عن قرب في بيت صديق له في عيد ميلاد زوجته، ثم التقاها مرة أخرى في بيته الخاص، ثم لم يفترقا منذ ذلك الوقت، قال: إنها تشبه مداح المداح في كثير من الأوجه، يكفي أنها مغنية وأنها سورية تعشق الترحال، ثم ابتسم وأضاف: إنها كانت إحدى عشيقات مداح المداح الألف امرأة، وإنها المرأة الوحيدة التي كادت أن تنجب له طفلا. قلت مندهشة: هل أجهضت الطفل؟ قال: لا لم تجهضه؛ لأنها لم تحبل في الواقع. فقط أحست هي برجولته، وفي أعماقها تحرك وحش لطيف اسمه الأمومة، ولكن مداح المداح نفسه هو الذي اغتاله. هل فهمتي؟ لقد كان يضاجعها فحسب، وما كان يستطيع أن يعطيها من وقته غير الفراش، فلقد كان مشغولا في كل الأوقات، قلت: أنت تعرف كل هذا الماضي، فكيف تزوجتها بالرغم من علاقتها بمداح المداح صديقك؟!
قال ضاحكا وقد كنا في الكافتريا الخاصة بكلية الفنون حينها: كما ترين لم أك مشغولا مثل مداح المداح، ثم قال وقد جاءه النادل بالقوة: أنا بشر، وأنت بشر وهي أيضا، كما مداح المداح، ولسنا آلات صماء وضعت لأداء شيء بعينه، الحب والتواصل الإنساني الخفي، تحبين المختار وتتزوجين غيره، وتحبين محمد آدم و... ألا تشعرين بوخز الضمير؟ قلت: أولا تعرفت على المختار بعد الزواج ... والزواج ذاته لم يتم برغبتي، فلقد تزوجت وأنا في الرابعة عشرة من عمري من رجل ما أزال أكرهه وأتهمه بقتل شخص عزيز لدي، طفل كنت أحبه. - هل قتله بنفسه؟ - لست أدري، ولكنه بطريقة أو بأخرى ولو كان بقلبه ...
حدثني مرة أخرى عن زوجته، وقال: إنه أخبرها وهما في سوريا عن هذه البلاد وعنا، والنهر، والغابة، وبيته، وشجيرات الباباي، والعرديب، والكهوف الطبيعية الساحرة، والبشر ذوي الروح المرحة الحرة، وعن التسامح الديني، عن الحفلات، عرق العرديب ، وكانت دائما ما تقول: أشتاق لكأس من العرديب، لا بد أن سكرته شيطانية!
قال: إنها سيدة ذات روح مرحة قبل أن تهبط بنا الطائرة في المطار، قبل أن نعبر شوارع المدينة، النائمة في الوحل والقاذورات، المحصورة كجيش من الذباب ورائحة الفضلات، قبل أن ترى البيت وقد توحشت حديقته، وماتت أزهار النريم والورد الإنجليزي وباباياته وخرست بئر الموسيقى، وعطبت النافورة وبنى الوطواط في صالة الموسيقى، وفي الحمام، وغرف النوم أعشاشه ... قبل أن ترى تمثال مداح المداح الغارق في التراب، وكمنجته المهشمة المدفونة هي الأخرى في الأرض ... ومات حماسها وتشوقها، فأنت تدركين كم تبدلت البلاد كأنما تبول على مآذنها وبيوتها وشوارعها وحش أسطوري مخلوق من اللعنة والتشرد ... أين الناس؟ أين الطلاب والكهوف الجميلة؟ أين الله؟ فقد كنا نراه بين أزقة المدينة، في عيون أطفالها المشاغبين، وكنا نراه في شموخ أشجار العرديب، وفي خصوبة الرياح الجنوبية الغربية المحملة بالماء الطيب والحنطة، ونراه أيضا في سحر البنيات الخجولات ووضوح نوار!
أسفا على البلاد، على شارع الحرية الذي يربط بين المطار وطريق الغابة السريع، أسفا على الناس.
زوجته المغنية
قدم مايا ...
قدم مايا العزيز استقالته من عمادة كلية الفنون، حزم حقائبه على عجل، طلق زوجته المغنية الجميلة سلام قبل أن تقلع به الطائرة إلى روسيا.
لم.
لم يودع مايا أحدا، ما من أحد ودعه مايا!
الرسائل
رسالة ...
رسالة من أمين محمد أحمد إلى نوار سعد لم تحاول الرد عليها:
بالرغم من كلماتك القاسية عند المزرعة بالمحراب، إلا أنني ما زلت أجد نفسي مندفعا إليك بقوة، ولو أنك قلت لا ترين في إلا طفلا كبر في ليلة وضحاها، إلا أنني أؤكد أن هذه السنوات التي تفصل بيننا ليست إلا ضربا من الوهم، فالروح لا تعرف هذه الفوارق المادية؛ السن، الوضع الاجتماعي والثقافي إلى آخر ما كنت تعتبرينه حاجزا ما بين قلبي وقلبك، أنت تجرحين قلبي حين تقولين بسخرية: أمك في حاجة إليك.
فأنا أحبك وأظل أضحي من أجلك بكل شيء.
من ممكن
رسالة من ...
رسالة من أمين إلى نوار سعد لم تحاول الرد عليها:
لا يهم كم عدد الرسائل التي كتبتها إليك، أو كم عدد الرسائل التي أرسلتها إليك بقدر ما يهم الزمن المتضايق الذي حرك صبرها بين أصابعي، عندما التقتيك بالكلية يوم السبت عند عودتك من اليابان حاولت - وبكل ما لدي من ممكن - أن أجعلك تحسين بحرقان الحب الذي أعانيه، وما محاولتي أن أسمعك آخر قصائدي التي كتبتها بالرغم من الجو الماطر ونقيق الضفادع إلا في ذلك. ولو أنك أبديت الاهتمام والرغبة في السماع وتحمست نحو عاطفتي، إلا أن ذلك ليس إلا من باب الأمومة والتبني كما كنت تؤكدين، فأنا لا أريد عطفا، أو أمومة ورعاية، أنا أريدك أنت كامرأة ممتلئة بالأنوثة ... لا يهم كم عمرك ... لا يهم كم عمري ... لا يهم ... هكذا بكل وضوح وعفوية، وهناك نقطة يجب أن أؤكدها، وهي مسألة القديسة والمختار ورأيهما بشأني وشأنك، فليس هناك فرق من أن يعرف أننا عاشقان فأين هي طريقنا الذاتية؟ أين هي الحرية التي علمها محمود محمد طه لنا جميعا؟ كل إنسان له طاحونه الذي يزكيه لنار الحياة، ولي طاحوني وهو أنت، ولك طاحونتك ... شئت أم أبيت ... الذي هو ... أنا.
الخبز خير من الشعر
رسالة ...
رسالة من مايازوكوف إلى القديسة:
عزيزتي القديسة الجميلة، الساعة تشير إلى الواحدة صباحا، هنا في الحانة لا أدري كم الساعة في الخارج؟ فلمالك المشرب ابن غريب مستهتر، لا يجعلنا نثق بشيء هنا بالداخل، لا الخمر ولا الزمن ولا حتى عيني الساقية الحلوتين كعينيك، الساقية اسمها أولغا التي قد يعني عندها كأس الويسكي زجاجة فودكا، أو كأس جعة، أو حتى خروف مشوي، أو قد لا يعني شيئا غير فتاة ليل ... فإذا قلت لها كم الساعة الآن يا أولغا؟ تقول لك وبدون تردد ودون أن تنظر إلى ساعتها: الواحدة تماما.
أعيش الآن في قرية صغيرة على ضفاف نهر لينا، حيث ولد جدي الأكبر «شميلوف» بعد أن ضجرت موسكو ومن عليها، فالوضع هنالك قنبلة موقوتة، وشظايا المافيا الروسية، وتجار المخدرات، وشبكات الرقيق الأبيض ، وأسوأ ما في الحضارة الغربية، أقصد الخلاعة والاستهتار بكل شيء.
دعيت مرة إلى ندوة بمعهد جوركي للآداب بعنوان «موت الواقعية الاشتراكية» وكان عنوانا واضحا ومحددا؛ ولكنه كان غريبا بالنسبة لي كمثقف له رؤية خاصة في الأشياء تجعله لا يفهم معنى لموت أي فكر إنساني، أو خلقه من العدم، ورغم ذلك ذهبت، وأول ما أثارني شعار الندوة الذي عبارة عن لوحة فيها الأديب الروسي مكسيم جوركي بالمايوه، وعلى رأسه طاقية من السعف، وهو يمشي نحو هاوية مرعبة ويسحب خلفه جثة دب متقيحة يتطاير حولها الذباب وبيت من الشعر:
You fell like stone
I died beneath it.
كانت أبيات في سكولوف متناثرة كأنها ذبابات تحتفل بالقيح، أما تمثال مكسيم جوركي المشيد في مدخل المعهد، فقد جلس عليه فتى يلبس الجينز ويدخن المارجونا وهو يرحب بالقادمين صائحا: اي ... هاي ... ول كم بيبي.
ورغم ذلك انقسم المنتدون إلى أقسام كثيرة بشأن الواقعية الاشتراكية، فأكد أحدهم أنها أسوأ ما أنتجه النظام الشيوعي السابق، وأنها خلقت أدبا ملتزما دعم الشمولية ودكتاتورية إستالين، ولسبب، لست أدريه، سب المتحدث جورج لوكاتش واصفا إياه باللواط الفكري. ورأي آخر يقول: إن الواقعية الاشتراكية فهم إنساني يستطيع أن يواكب كل الأزمنة بتفهمه لمعطيات الواقع الجديد، وإنه يحمل شفرة تجدده واستمراريته ... وهنالك رأي يقول: إن الواقعية الاشتراكية كانت مهمة في مرحلة تاريخية محددة ولأسباب موضوعية خاصة بالتحرر والاستغلال، أما الآن فلا مكان لها. أما الرأي الرابع فهو فهم يؤكد أن لا قيمة لشيء، لا للواقعية الاشتراكية ولا لمدارس الفن من أجل الفن، ولا جدوى من الأدب فهو ترف برجوازي، وخير منه بعض الحشيش، كأس ويسكي، سرير رخيص بفندق رخيص أو حتى بماخور، عشاء وامرأة رخيصة بعض الشيء إن وجدت.
ومن الغريب أن يستشهد أحدهم بقول بول ايلوار:
الخبز خير من الشعر.
أنا أيضا
رسالة ...
رسالة من مايازوكوف إلى القديسة والمختار:
صديقتي دوشكا تبلغكم التحايا، ودوشكا فتاة طيبة تعمل في مجال الصحافة، وتكتب بعض المقالات بمجلة «اسبوتنك ورشان وومان» في السابق، وهي متخصصة في مجال السير الذاتية، وتعد الآن كتابا عن رواد الفن التشكيلي الروسي في فترة حكم استالين، تقيم الآن بمدينة لننجراد بشقة صغيرة، ولكنها تسعني أنا أيضا كلما شئت ذلك، أما بشأني فليس لي شقة غير حقيبتي ورجلي، وأقيم بفندق عندما آتي من القرية، وكثير من المرات مع الأصدقاء والصديقات، ولم ولن أفكر في أن أتخذ لي عنوانا، فريح السفر ما زالت تعصف بقلبي، أعمل الآن كمحاضر لبعض الوقت بجامعة موسكو، ولكني على كل حال قلق ووحيد.
رسالة
رسالة من نوار ...
رسالة من نوار سعد إلى مايا لم ترسلها:
تخيل أن الطفل أمين، ذلك الشاعر، أتذكر؟ إنه غرقان في حبي إلى صوف رأسه بشكل جنوبي وخطير، بالتأكيد أنا لا أحب الصبيان، ولكن يجبرني دائما على الفعل.
رسالة
رسالة من دوشكا ...
رسالة من دوشكا تودروف إلى القديسة:
أخيرا كما ينزوي البؤس بأزقة الفرح، انزوى مايا العزيز ...
سافر مايازوكوف في رحلة الأبدية إلى الله عبر رصاصة أطلقها بنفسه على رأسه بحديقة عامة في موسكو ...
جاءنا عند المساء في التاسعة وكان مخمورا ومرحا، قال إنه جائع، كانت والدتي - غالبا - تحتفظ بشيء من الجبن والخبز بالمطبخ، وهذا متوارث في الأسرة منذ أيام الحروب النازية، قال: إنها تذكره بأمه فكتوريا، وطلب بعض القهوة، ولم يكن بالبيت شيء من اللبن، فأردت أن أنزل إلى السوبر ماركت، ولكنه أصر على صحبتي مؤكدا أن صحبة امرأة بالليل تشعره بمتعة لا تقارن.
اشترينا القهوة واللبن وبعض اللحوم، وعندما شئنا أن نرجع قال لي: لا أستطيع العودة معك، سأسافر. - أين تسافر وقد اشترينا القهوة واللبن؟ قال: سأذهب إلى موسكو. - ولماذا موسكو؟ - لألحق بقطار العاشرة، فقط لكي ألحق بقطار العاشرة، ولا هدف لي غير ذلك! فقط تحياتي لأمك.
وانزلق هاربا نحو محطة القطار، وفي الغد فاجأتنا جرائد الصباح بخبر انتحاره ... لقد مات، مات بداء الغربة.
رسالة
رسالة من ...
رسالة من أمين إلى القديسة قام بتمزيقها وحرقها بعد كتابتها مباشرة:
لقد تعبت من مطاردة هذه المرأة العنيدة، هل تستطيعين التحدث معها بشأني؟ أريد أن أتزوجها.
رسالة
رسالة من ...
رسالة من مايازوكوف إلى المختار تأخرت في البريد:
لقد قررت أخيرا أن أبقى للأبد، أن أعيش إلى ما لا نهاية، يعني هذا أن أقذف بنفسي أفقيا فوق سطح الأرض بسرعة 11 كيلو مترا في الثانية، ماضيا حيث لا رجعة، أيعني هذا الخلود أم العدم؟! أيعني هذا أنني أستطيع أن أتوافق مع هذا الواقع الجديد الذي هو شرعي بالضرورة أم يعني أنني لم أستطع؟ أخبرني إذن.
كنت تعرف شيئا عن هذه المعادلة، وأنت في عزلتك الطوباوية ... الرجاء أن تكتب إلي عن طريق دوشكا تودروف، فهي تستطيع دائما أن تجدني.
سابا تخلي
تقيم نوار وصديقتها «سابا تخلي» بالحلة الجديدة ...
تقيم نوار وصديقتها سابا تخلي بالحلة الجديدة منذ أن استقرت نوار بالبلاد الكبيرة، ولو أنه استقرار كاستقرار البجعة، وقد كانت دائما على سفر؛ وسابا لا يمكن أن يطلق عليها لقب خادمة، ولا صديقة أيضا، فهي تشغل الوظيفتين بكل جدارة، إنها صديقتها، ومكمن أسرارها وخبائثها الصغيرة، وسابا ذاتها لغز محير، فضائل لا حصر لها، وتفاهات يشيب لها رأس الولدان!
فقد التقت المرأة الغريبة بالمرأة الأغرب بسجن صغير بنقطة تفتيش بالحدود الوطنية الأثيوبية عندما حجزت نوار سعد ليوم واحد بسبب حملها لتحف أثيوبية نادرة، قيل إنها تخص الملك منليك الأول، وبغير أوراق رسمية، فأدخلت غرفة الحبس، وهي حجرة صغيرة مفروشة بالبرش، وفي ركن منها قلة ماء، ولا شيء آخر غير سيدة حبشية في مقتبل العمر جميلة في ملابس مهترئة متسخة بعض الشيء، لها عينان قلقتان كبيرتان مستديرتان كعيني ثعلب، كانت تجلس في ركن الغرفة منكمشة على نفسها وفي فمها مسواك صغير من الأراك عندما دخلت نوار الحجرة، وقبل أن ترد تحية نوار قالت بسرعة: هل معك نيالا؟
فردت عليها نوار قائلة: آسفة، فأنا لا أدخن. قالت: لي ثلاثة أيام لم أذق فيها طعما للسجائر مما سبب لي صداعا دائما ... وأردفت: أنت لست حبشية؟ أليس كذلك؟ قالت نوار: أنا من البلاد الكبيرة. - ولكن بك ملامح أمهرا، خاصة جبهتك وشفتيك! حتى لونك الحبشي!
وجبة الإفطار مكونة من الانقيرا والدليخ فقط، طلبت نوار من الحارس أن يأتيها بخبز ولحم لأنها لا تأكل الدليخ، وإذا لم يتوافر اللحم فقليل من الشيرو. ولكنه رد بشكل قاطع: هنا فقط دليخ وانقيرا، ولا شيء آخر و...
قالت لي نوار سعد بالرغم من أنها كانت تتحدث معي بلغة عربية مكسرة إلا أنني استطعت أن أفهمها، قالت: لا ... بل حملت معي بعض الصيني الذي قال عنه ضابط الجمارك إنه يخص الملك منليك الأول، فهو بالتالي ثروة قومية، وطلب مني التنازل عنه فرفضت، فأدخلت في هذا المكان ... - آه يبدو أنك امرأة خطرة، كيف توصلت إلى ممتلكات الملك منليك ونحن - الأثيوبيين - لا ندري عنها شيئا؟! لا بد أنك تنتمين إلى عصابة دولية. - لقد اشتريتها من مكان عادي بهرر، مكان عادي ومعروف مقام على منزل قديم، قيل إنه كان سكنا لشاعر فرنسي اسمه رامبو.
قالت نوار: ولكن لدهشتي عندما قالت لي الحبشية ذات الرداء المهترئ المتسخ المقعية في ركن من الحجرة تأكل الانقيرا بالدليخ: آرثور فرانسوا رامبو؟! هل تعنين آرثور رامبو؟! - نعم. - ماذا تقولين ...؟ إذن ... من أنت؟ هل تقرئين الشعر؟! قالت - ببساطة وبدون أن تتوقف عن الأكل إلا لشرب قليل من الماء لتطفئ به حرقان الدليخ: اسمي سابا، سابا تخلي، من هرر، لا أقرأ كثيرا من الشعر، ولكن فقط شعر آرثور رامبو. - هل لأنه كان تاجرا في هرر؟
قالت لي نوار سعد: كنت أمطرها بالأسئلة دون رحمة، كنت أود أن أكتشفها من جملة، وفي لحظة واحدة أعرف عنها كل شيء؛ لذا كانت أسئلتي مركبة ومتعبة وغير مركزة، ولقد نبهتني بعربية مكسرة ولكنة حبشية حلوة: براحة ... براحة، واحدة واحدة، دعيني آكل وسأقول لك كل شيء. وأثناء ذلك عندما كانت تأكل كنت أفكر فيها بجدية، وكنت في نفسي أقول: لا بد أنها من مثقفات وطنها، أو سياسية ومورس عليها قدر لا بأس به من التعذيب والتشريد، فأضحت بهذه الحال من البؤس والاتساخ، ولقد تذكرت قول المهاتما غاندي الذي غالبا ما كان يردده حافظ:
إن الدولة الشريرة ليس لديها مكان للصالحين من رجالها ونسائها غير السجون .
وبعد أن أكلت، غسلت الأطباق ووضعتها جانبا قرب قلة المياه في أدب جم وكأنها تشكرها، وكنت أعرف هذا الجانب في الأحباش، فهم أكثر الشعوب أدبا ونظافة ولا يفوقهم في الأدب - في رأيي - غير الصينيين، وأبديت لها هذه الملاحظة فابتسمت وهي تشكرني، ثم أضافت مجاملة: وأنتم أيضا مؤدبون محترمون.
ثم دخلنا في لغة شتى ففهمت أنها هنا في الحبس أكثر أمنا وطمأنينة من وجودها حرة في بلدها، وأنه قبض عليها عندما كانت في طريقها للتسلل خارج الوطن إلى بلادنا الكبيرة، وقالت إنها لا تستطيع العيش مع أهلها لوجود مشاكل أسرية معقدة قد تودي بحياتها، وعندما عرضت عليها نوار سعد أن تأخذها معها لبلدها قالت: إذا طلبت منهم إطلاق سراحي سيوافقون، ولكنهم لن يتركوني أذهب وحدي.
ثم شرحت لي كيف بإمكاني الخروج من هذا المكان قائلة: يمكنك رشوة ضابط الجمارك المسئول. قلت مندهشة: هل يقبل الرشوة؟! قالت وفي فمها ابتسامة: لا أحد في أفريقيا يرفض الرشوة، إنها ليست أكثر من تسهيلات.
كانت سابا تدعي أن آرثور عشيق جدتها الرابعة «برنيش»، وأنه أنجب منها طفلين ولكنهما ماتا غرقا في حادث مؤلم، وجدتها أيضا ماتت بعد أن نقل إليها آرثور رامبو مرض الزهري، وكان لهذه الجدة طفل أكبر من رجل آخر وهو جدها الذي أصله من قبيلة التجراي، وقد مات هذا الجد بعمر يقارب المائة عام 1960م. وتقول إن أسرتها تحتفظ بأوراق مكتوبة بخط رامبو باللغة العربية وأخرى بالفرنسية، وأيضا بسروال من الصوف كانت قد أرسلته إليه أخته «أزبيلا» من «شارلفيل»، والغريب في الأمر أن سابا تحفظ قصيدة شعر مطولة بالأمهرا تقول إن رامبو نفسه هو الذي ألفها، وكانت تعرف تفاصيل عن حياة رامبو لا أعرفها عن مولده، عن تجارته باليمن وعلاقته بتجارة الرقيق التي كانت تنفيها سابا بشدة، وكنت بين مصدقة ومكذبة لما أسمع.
والحوار أيضا
وعندما رشوت ضابط ...
وعندما رشوت ضابط الجمارك أخذتها معي للبلاد الكبيرة. قالت لي نوار ضاحكة: وكانت سابا تجيد الغناء والرقص والطباخة والحوار أيضا.
مع هذه الحبشية كانت تقيم نوار سعد في بيتها «بالحلة الجديدة» بقلب المدينة الكبيرة. وعن طريق هذه الحبشية استطاع أمين أن يدخل حجرة نوم نوار سعد، وأن يرمي سرواله على سجادها الفاخر.
في الجسد
ما بين ذهول وإعجاب ...
ما بين ذهول وإعجاب وما بين غضب وحنق كانت نوار تحكي لي هذه التفاصيل، ولكنها في كلا الحالتين كانت تكن لسابا احتراما عجيبا كذلك الاحترام الذي تكنه الشجرة للريح، فالريح قد تقتلعها من أصلها، وقد تسقط أوراقها وتكسر فروعها، ولكنها بالرغم من ذلك تنحني في خشوع أمام الريح معترفة بقوتها وفضلها عليها، حيث إنه لا ماء بغير الريح، قالت لي نوار وأخبرتني بأن أمين ينتظرني بالصالون قبل ساعة وأنه يريد مقابلتي، قلت لها: قولي له إنني نائمة. قالت بأدب: لقد قلت له ذلك ولكنه أصر بشدة، وحاول أن يأتي بنفسه إلى هنا. قلت لها: قولي له إنني لا أريد مقابلته. - لقد قلت له ولكنه قال سيبقى للصباح هنا. - قولي له إننا قد نستعين بالشرطة. قالت: لقد قلت له ذلك، ولكنه قال لا بأس، فلتأت الشرطة. قلت لها: ألا تدرين كيف التصرف معه؟! قالت: أنت تعلمين أنه عبيط، ويا ويل العبيط إذا أحب، ويا ويل المحبوب منه. وعرفت أنها كانت تعني أنه أتعبها وأرهقها ولا مخرج منه، فقلت لها دون تفكير: دعيه ... قولي له أن يأتي. قالت: ولكن ارتدي ملابسك، هل ستستقبلينه بهذه الهيئة؟ شبه عارية. - نعم، قولي له أن يأتي.
فخرجت في خطوات رشيقة وبعد قليل جاءني أمين داخلا، وكنت في ملابس النوم وشعري غير مصفف، وعلى وجهي أثر النعاس، قال بصوت واهن مخنوق: سلام. - رددت السلام، ثم سألته: ماذا تريد؟
قال وبصوت فيه عبرة وهو يحاول أن يتجنب النظر إلي مباشرة: لا ... لا شيء، كنت أريد أن أتحدث معك ... أنا أحبك.
قلت ببرود ومكر: تريد أن تقول إنك تحبني ... ها ... لقد سمعتها، ماذا بعد؟ هل تريد شيئا آخر؟ ثم خلعت قميص النوم وبقيت عارية تماما وقلت له: اخلع ملابسك. وبأيد مرتعشة خلع ملابسه ورمى بسرواله على السجاد ووقف كتمثال الجليد. قلت له ببرود: تعال ... افعل ما شئت، ألم تسع لذلك؟ ألا تريد النوم معي؟ أنا هنا في انتظارك ... تعال ...
لكنه ظل واقفا وهو ينظر نحو عضوه بين الفينة والأخرى، وكان مرتخيا منكمشا وباردا ولا حياة فيه، فضحكت قائلة: ماذا تنتظر؟ ألم أقل إنك لا تستطيع فعل شيء؟ أنت لا تزال طفلا ...
فنظر إلي نظرة كلها بؤس وحرمان، نظرة ما زلت أراها ماثلة أمامي كجوع مليون مشرد، ثم أخذ يرتدي ملابسه بكل هدوء، وحينما أخذ طريقه للخارج - خارج الحجرة - أمسكت به، وكان طيعا وهادئا كأرنب منوم مغناطيسيا ... وأخذت في خلع ملابسه مرة أخرى.
قطعة ... قطعة ...
وكانت أناملي ترتعش وقلبي يدق بشدة.
الرسائل
رسالة من ...
رسالة من المختار إلى مايازوكوف فلادمير ردت عليها دوشكا تدروف فيما بعد:
لقد وصلتني رسالتك وعرفت منها أنك تعاني من الفشل الذريع في كل أضرب الحياة، ليس لأنك مشحون بالقيم والأفكار العتيقة وحتى تمردك القليل لم ينقلك درجة للأمام في بحر الجديد الهائج والموج المدمر، وأراك تود التقاعد أكثر من كونك تريد الانطلاق بسرعة 11 كيلو مترا في الثانية نحو الأبدية، إنك يا صديق قد شخت، وتبولت عليك أجيال ما بعد الأيديولوجيا والقيم، أنت الآن أغرب من دب في شوارع نيويورك، وأخشى أن أكون مثلك.
إلى المصلى
رسالة من سكان ...
رسالة من سكان البلاد الكبيرة إلى السماء، وقد رفعت خلال صلاة الاستغاثة التي شملت البلاد الكبيرة كلها، وقد أديت في المفازات وحول برك المياه الراكدة وحضرها الأطفال وهم عراة وحفاة، وحضرها الشيوخ وهم جوعى ومرضى، حضرتها النسوة والصبيان وهن قلقات خائفات، وجلبت الأغنام والدواجن والحمير إلى المصلى تضرعا وطلبا لرفع البلاء والأذى عنهم. - يا الله!
رسالة
رسالة ربما ...
رسالة ربما تكون من السماء إلى البلاد الكبيرة.
مزيد من الأمطار والطين ... مزيد من الكوليرا والبعوض ... مزيد من غضب الفقراء والجوعى على ...
من
أعلنت ...
أعلنت الحكومة حالة الطوارئ وحظر التجوال، وطلبت من هيئات الإغاثة مزيدا من ...
في الروح
عاد آدم من البلاد المجاورة حيث هرب من رصاصة السلطة وجدران سجنها الكبير، قضى بالبلاد المجاورة ثلاثة أشهر بعد أن وصل إليها بجهد، واجه فيها موتا محققا طارده في الصحراء، وكمن له في جحر الثعابين وظل مستيقظا يرقبه بين ثنايا الجبيلات الجيرية، ولمن استطاع أن يهرب من بين مخالبه. قال آدم حينما زارنا هو وسارة بالمحراب: أنا أول من خدع الموت، لقد جعلته في حيرة من أمره، مندهشا خلفته ورائي في الصحراء مع ذئابه وكوابيس الليل، عشرة أيام بلياليها مشيتها على قدمي قبل أن أصل أول نقطة بالبلاد المجاورة.
وكنت متشوقة لمعرفة الكثير عن البلاد المجاورة ومنشآتها التاريخية، وعن مدينة التاريخ التي قيل بها نصف آثار العالم، فقد أخبرتني نوار سعد عنها كثيرا، وقرأت أوديب لسفكوكليس ورحلة هيرودت الشهيرة؛ فأصبت بداء الحنين إليها.
ولكن آدم كان مشغولا بموضوع صديقه ورفيق دراسته ونضاله، حافظ يس الذي تأكد أنه قتل أثناء اعتقاله «بالسجن الكبير» وأشيع أنه هرب إلى جهة غير معلومة، بل وخصصت السلطات جائزة مالية قيمة لمن يدلي بمعلومات تفيد القبض عليه.
قال آدم: أول ما أفعله هو البحث عن قبر حافظ، ولدي إحساس عميق في ذاتي بأني سأجده. - ولكن قد يثير هذا الموضوع غضب السلطات. قال: انشغال السلطات في هذه الأيام بغضب الله وغضب الناس ووجود المنظمات التطوعية التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، أضف لذلك إحساس السلطات بأنها كلما وسعت في رقعة المشاركة كلما استطاعت أن تتخطى محنتها، كل هذا قد يتيح لنا فرصة عمل قلما تتوافر في ظرف آخر.
قلت له: هنالك سؤال يحيرني الآن: من الذي يقود الشارع؟ قال مبتسما: الشارع يقود نفسه. فالجوع والظلم والمرض والتساقط والفساد السياسي، المحسوبية ... إلى آخره، هي المولد الحقيقي لهذه الثورة الشعبية، أما القيادات العالمية والنقابية والسياسية فهي كما تعلمين إما مشردة، إما خارج الوطن، إما مدفونة تحت ترابه، أو مقيدة في السجون ... ومنهم من باع، ومنهم من خاف فصمت.
قال المختار: على كل باستطاعتي أن أقدم لك بعض العون في البحث عن قبر حافظ يس ، فهنالك من بإمكانه تزويدك بمعلومات جيدة، فهو قد لا يعرف أين دفن حافظ، ولكنه أيضا قد يفيدك. - هذا ما كنت أبحث عنه وجئتك بشأنه، وأظن من تتحدث عنه هو طبيب السجن الكبير، وهو نفسه الذي أخبرتني عنه سارة، وهو زميل لك في الماضي بمستشفى الأمراض النفسية والعصبية بالمدينة، وهو رجل يقال عنه إنه «نظيف». قال المختار: بالضبط ... ولكنه كثير المخاوف، فهو رئيس قسم الأعصاب بالمستشفى وطبيب السجن الكبير، ولديه سبعة أطفال وأسرة فقيرة. قال آدم مبتسما: لقد فهمت! لا بد أنه يريد أن يبقى في وظيفته. قال المختار وهو يكح: سأكتب لك مذكرة، كما أن القديسة تعرفه، وأنه قد لمح لها من قبل بأن حافظ لم يهرب ولم يكن بالسجن ... وليس خارج «البلاد الكبيرة»، وقد تصحبكم القديسة إليه. - ولكنه قد لا يتعامل معنا؟ - ربما ... فقط يقدم لكم ما يستطيع، أولا لأن الظروف السياسية في البلاد تذهب نحو زمن جديد لا محالة آت، والرجل يفهم ذلك جيدا ولديه الرغبة في الاحتفاظ بكرسي وظيفته أطول زمن ممكن. - إذن هو من ذلك النوع؟ - ليس من ذلك النوع تماما، ولكنه من ذلك النوع.
اسمه حافظ يس راشد، من شمال البلاد الكبيرة، ولد في القرية، وهي تقع على شاطئ النيل من جهة الغرب، صغيرة يظللها النخيل والحراز. تعرفت عليه في باص العاشرة الذاهب إلى المرسم المكشوف، أو كهوف مايازوكوف، مثله مثل آدم، مثل سارة حسن، مثل مايا ... مثل أمين محمد أحمد، مثل نوار سعد، مثل الآخرين؛ كان عاديا بسيطا ومتواضعا كعشبة فصلية، وكان بارعا في نحت الجرانيت، وله يد طولى في حفر أكبر الكهوف المايازوكوفية في سفح الجبل المرسم المفتوح، وهو الذي نحت على صخرة صماء داخل الكهف الكبير مطرقة ومحراثا وثلاثة عمال أقوياء ذوي عضلات مفتولة ووجوه بريئة كأوجه الأطفال، إلا أن ما بها من إصرار وقوة إرادة لا يمكن أن تخطئه عين، وبالنحت أيضا امرأة تحمل طورية بيد، وبالأخرى تحمل مصحفا، وقد سمى مايازوكوف هذا الرسم آية الخبز وأسماه حافظ الثائرين، وكان نحتا ذا قيمة فنية عالية وشديد الإتقان، ولو أن نوار سعد علقت ذات مرة عليه قائلة: إنها منحوتات أيديولوجية رخيصة، ولو أنها متقنة بأسلوب كلاسيكي بارع يذكرني بمايكل أو روفائيلو ... تماما لو أننا عبأنا السم في قوالب من الذهب. أذكر أنه رد عليها قائلا: إن الأيديولوجيا نفسها هي التي أنهكت ملاحظاتك النقدية، أيديولوجيا اليمين المتخشب، فكر السوق.
فابتسمت نوار سعد ابتسامة ساحرة، برقت خلفها أسنانها البيضاء المنتظمة وهي تقول: أنا لا أومن بالأيديولوجيا. أية أيديولوجيا. لقد مات عصر الأفكار العظيمة والمرقعة في الحلم، وانتهى عصر الأفكار والمفكرين العظماء، وانتهى عصر الثورات والثوار والأناشيد والملاحم؛ نحن نحيا في عصر الرفاهية والفكر اليومي المريح، المريح جدا.
قال مبتسما في إشفاق: وهذا عين الأيديولوجيا، وهو فكر مؤسس له مفكروه الذين إلى الأمس كانوا يصرخون بأن التاريخ قد انتهى، وتوقفت عجلة الزمان بجراج البيت الأبيض.
ما زلت أذكر ذلك بالتفصيل: كان حافظ يس نحاتا بارعا وشابا مفكرا مثقفا وحزبيا، عكسي تماما، وإلى حد ما عكس نوار سعد، وأيضا مايازوكوف ... وكان المختار يختلف معه اختلافا كثيرا إلا أنه كان يحبه ويحترمه قائلا: الاختلاف خطوة نحو الاتفاق. وكان أسلوبه في التعبير عن أهدافه أسلوبا مباشرا حادا، فهو يحرض على التظاهرات بالجامعة، بالجامع، بالسوق، وأينما وجد ووجد الناس. ويشارك في إصدار الأعداد السرية من الجرائد الحزبية المحرمة بالقانون، ويتحدث وقتما وأينما وجد منبرا عن الفقر والجهل والأمية وعن الحاكم، وهو يكتب المناشير ويوزعها في المدينة والمدن المجاورة والقرى، وهو الفاضح الخفي لكل خبائث الوزراء وفضائحهم وأسرارهم، ومثله سارة ومثله ... لذا كانوا هدفا لمطرقة السلطة؛ فسجن حافظ مرارا، وعذب وانتزعت أظفاره، ثم أخيرا ارتاح منه الجلادون وارتاح هو أيضا منهم.
قالت سارة ونحن نركب الباص العام متوجهين إلى المدينة: لا أدري، هل أطلقوا عليه الرصاص أم أنه مات تحت التعذيب.
قال السجان
وعندما مر الباص أمام مبنى السجن الكبير ...
وعندما مر الباص أمام مبنى السجن الكبير نبهنا السائق بأننا نريد النزول فكبح العربة، وكان السجن الكبير بسجانيه ذوي القلوب القاسية وهم مشهورون بالمعاملة الفظة والإساءة المبالغ في وحشيتها تجاه المساجين، ويعرف هذا السجن بحراسته المحكمة، ونادرا ما يهرب سجين من بين جدرانه حيا، بل يستحيل؛ ويقال إن هذا السجن قام ببنائه مهندس إنجليزي في عصر الاستعمار.
دخلنا حجرة الاستقبال، سأل آدم عن الطبيب. قال السجان: إنه لا يأتي إلى السجن إلا في أيام الأحد والثلاثاء والخميس من كل أسبوع، ولكنكم ستجدونه في هذه الساعة بالمستشفى، بقسم الأعصاب.
ونحن نخوض الوحل نحو المستشفى نتجنب البرك الصغيرة المليئة ببيض الضفادع ويرقات البعوض، كانت رائحة تعفن فضلات الماشية والحيوانات النافقة تزكم الأنوف، وبين الحين والآخر يرى عمال الصحة العالمية والمنظمات التي تعمل في مجال صحة البيئة، يصبون زيتا أسود على المياه الراكدة، أو يقومون بشفطها بواسطة عربات مزودة بصهاريج ضخمة، وأحيانا نراهم يهيلون على البرك الحصى والأتربة والرمال التي يجلبونها من الصحراء خارج المدينة.
حافظ وسارة يتحدثان طوال الطريق عن أشياء تخصهما وأهلهما وأصدقاءهما، وقد يحزنان، وقد أشاركهما الكلام. سألني فجأة ونحن نمر قرب شاحنة تحمل مواد إغاثة وعليها شعار الأمم المتحدة: كما هي نوار؟ قلت: كما هي. كمن تذكر شيئا مهما ظل في طي النسيان لدهر مضى. - ألا تزال سارة الحبشية تقيم معها في المنزل؟ على ما أظن سيظلان معا إلى قيام الساعة. أضافت سارة ضاحكة: توم آند جيري. سأل وفي شفتيه ابتسامة خبيثة: وأمين ... أين أمين؟ - إنه يكتب الشعر ويعشق نوار سعد، وربما الحبشية أيضا، وفي ذات اللحظة يتمتع بقدر من الخجل يحسد عليه.
عندما يجف هذا العفن
سارة حسن ...
سارة حسن عمرها الآن ثلاثون عاما، سمراء، متوسطة الطول، لها وجه طفولي جميل على جسد رياضي متناسق وساقين ممتلئين بالمشاوير، وهي وآدم في طريقهما للزواج، وإذا سألتهما: متى؟ يقولان لك: قريبا، قريبا جدا، ودائما قريبا جدا منذ أن التقيت بهما بباص العاشرة قبل ثلاثة أعوام، ولكنني عندما سألت آدم اليوم، قال في قرف: عندما يجف هذا العفن سنتزوج. وأشار إلى المستشفيات التي ترقص في أعماقها الضفادع وأبو مقص، وتطفو على سطحها الجيف المتقيحة . قلت: ومتى يجف هذا العفن؟ قالت سارة مبتسمة: ومتى يجف هذا العفن؟
كان الطبيب رجلا يناهز الستين من العمر؛ أي في عمر المختار، له شعر رمادي ولحية بيضاء ترقد على حلقه، وكان ثرثارا لا يصمت له فم، حديثنا عن جنون مرضاه وطرائفهم، وعن إمكانيات المستشفى الضئيلة وعن أطفاله والسجن، وكل شيء دفعة واحدة، وعندما خطفت لحظة صمت من بين جمله المتدفقة كالعاصفة. قلت: أريدك في موضوع هام جدا وسري للغاية.
وكما رغبت تماما؛ فإن كلمة سري جعلته يشد حبل كلماته السائب وينتبه فجأة، كما لو أنه سمع صفارة إنذار.
فتح
وعندما طرقنا الباب فتح ...
وعندما طرقنا الباب فتح، كانت سابا الجميلة ذات العينين الذكيتين تقف أمامنا وعلى وجهها ابتسامة ترحيب دافئة بها سحر غابات البن وعبق الجنزبيل. قالت: تفضلوا، ثم أضافت بحرارة متى جئت هنا يا آدم؟ سمعنا أنك بالبلاد المجاورة؟ متى حضرت للبلاد؟
لم تكن نوار في ذلك اليوم بالمنزل، فكما أخبرتنا سابا كانت تبحث عن سائق لعربتها التي اشترتها في بداية هذا الأسبوع، وأضافت: عربة لاندكروزر ربع نقل. قلت في تعجب: إن نوار سعد تحتاج إلى عربة صالون رقيقة وليس شاحنة! - لقد أبديت لها نفس الملاحظات، ولكنها قالت في بلاد شوارعها من الطين والحفر لا تنفع فيها مثل هذه السيارة، كما أنها كثيرة الأسفار إلى مناطق الآثار بالصحراء والأماكن الوعرة، المهم أنت تعرفين نوار سعد جدا عندما ترغب في شيء فإنها تلحق به كل محاسن الدنيا؛ ثم أضافت: يبدو عليكم الإرهاق والتعب، الصالون بارد وهادئ ويمكنكم النوم إذا شئتم إلى أن أعد لكم الغداء. قد تأتي نوار بين حين وآخر.
وقال آدم إنه يريد أن يستحم. قلت: سأساعدك في إعداد الطعام. - إنه شبه جاهز. صمتت قليلا، ثم أضافت: لقد قمنا أنا وأمين بإعداده ... قال ثلاثتنا بصوت واحد مما جعلها تنتفض رعبا: أمين! أين هو؟ قالت وهي تحاول أن تكون عادية: إنه في المطبخ، لقد حضر قبلكم بساعة تقريبا أو أكثر قليلا، ولأنه ليس لديه ما يشغله في انتظار نوار فاقترح أن يساعدني في صنع الغداء ... وقد قام بطبخ السمك، إنه طباخ ماهر!
كانت مفاجأة لنا بلا شك، ربما كانت مفاجأة سارة لنا، ولكنها قد تكون غير سارة بالنسبة لسابا وأمين، ولكن عندما دخل «إلينا» أمين في الصالون بعد لحظات استطاع أن يقنعنا بأنها مقابلة سارة بالنسبة له أيضا أن يجدنا هكذا كلنا كتلة واحدة ومعنا آدم، ثم أخذ يمطره بالأسئلة. - الحياة في البلاد المجاورة، الحرية في البلاد المجاورة، الشعر، البنيات، الدراسة بكلية الفنون العريقة ... نساء وسط المدينة، الكتب، أمل دنقل، الشيخ إمام، درويش الأسيوطي، كريمة ثابت، محمود مختار، الجماعات الإسلامية، محمد عبد المعطي حجازي، إدوارد الخراط، جامع الحسيني، أبو الهول، سجن القلعة، ليمان طرة، سجن العامرية، روكسي، فتيات روكسي وهن في الميني جيب والميني ماكس، وهن في الشادور والجينز، وهن في النقاب أو عاريات ...
هن يعشقن، هن يبكين، يعلبن الورق يعطين المواعيد، يذهبن لصلاة الجمعة، يغنين، يدخلن كنيسة القديسة سانت ماريا بمصر الجديدة ... يذهبن للسينما أو حفلات نادية مختار، بنيات روكسي الجميلات كيفما وأينما كن. قال أمين سائلا: متى ذهبت للبلاد المجاورة؟ - لم أذهب إليها أبدا، ولكنني قرأتها في رواياتهم وأشعارهم وأيضا لوحاتهم وقصصهم القصيرة.
استحم الجميع ونام آدم، أما سارة فالتقطت كتابا من مكتبة نوار عن أسلوب دفن الموتى في مروى القديمة، وأخذت تقرؤه وهي راقدة على سرير مريح قرب النافذة، أنا وأمين استغرقنا في لعب الشطرنج، بينما كان صوت الحبشية سابا يأتينا من المطبخ محمولا على رائحة الثوم والفلفل بالأغنيات الحبشية الدافئة، مرحا وحلوا.
عندما دقت ساعة الحائط الكبيرة المعلقة بالصالون معلنة الثالثة تماما، توقفت عربة اللاندكروزر أمام المنزل، وبعد لحظات دخلت نوار سعد الصالون، وعندما رأت ما رأت أخذت تصيح: هل أنا في حلم؟! من أين تجمعتم اليوم، وكيف تجمعتم؟ ومتى حضرت يا أيها الآدم؟ استيقظ أريدك صاحيا.
ثم أخذت ترمي بنفسها في أحضان الأصدقاء واحدا واحدا، وعندما جاء دور أمين نظرت إليه بمكر قائلة: بالتأكيد، إنك لم تأت معهم؟ قال ضاحكا : بل هم الذين لم يأتوا معي.
بعد الغذاء قال آدم لنوار: وجدنا خيطا متينا إلى قبر حافظ، ونحتاج لخبرتك في التربة وعرفنا للتو أن لديك عربة، هل فهمت؟
حافظ
منذ أن اختفى حافظ ...
منذ أن اختفى حافظ إلى اليوم؛ سنة كاملة وشهران.
بحثنا الأمر جيدا في اجتماع مصغر، ولو أن موضوع السجان الذي سيذهب معنا إلى مكان يعتقد أن حافظ دفن فيه استغرق منا جانبا كبيرا من النقاش لخوفنا من أنه سيخدعنا، فهو ليس أكثر من شخص مرتش ولا ولاء له لأي قضية، وقد دلنا إليه الطبيب بتحفظ شديد، ولو أنه أراد أن يتعامل معنا بصدق فهو أيضا قد يخطئ موضع القبر؛ لأنه عندما شرحنا له الأمر قال: ولكنا ذهبنا بالجثتين في منتصف الليل؛ فليس بإمكاني تحديد المكان بالضبط.
وعندما سألناه: من كان معك؟ ربما يفيدنا.
قال بأسلوب تهديدي سافر: هل تبحثون عن جثة، أم عن المتاعب؟
في الهواء
كانت نوار سعد تقود السيارة وأنا ...
كانت نوار سعد تقود السيارة وأنا وسارة نجلس على المقاعد الأمامية. أما أمين وآدم والسجان فبصندوق العربة، إلى أن خرجنا من المدينة حيث تولى آدم القيادة وركب قربه السجان، أما أنا وأمين وسارة ونوار أيضا فبصندوق العربة، كنا نجلس نثرثر عن الطين والمطر وثورة الفقراء المقموعين، ونحن نعبر البرك الصغيرة في عرض الأسفلت ونقفز فجأة عندما يفاجأ آدم بحفرة في الماء ما كان يتوقع وجودها، وتسقط العربة فيها سقوطا عنيفا، ثم تقفز كالغزالة في الهواء فنطير معها ونهبط ونحن نلعب أو نضحك أو نخاف.
اتجهت العربة شمالا ... اتجهت شمالا ... لمدى ساعة وربع الساعة حيث تركت الطريق العام متوغلة في الصحراء غربا، ثم توقفت قرب شجرة صبار ضخمة ونزل آدم والسجان وهما يتشاجران.
سألتهما نوار عما حدث فأجاب منفعلا: هذا الشخص - مشيرا لآدم - له أخلاق ضيقة جدا، والمسألة تحتاج لسعة صدر وصبر. وقلت له من قبل إنني لست متأكدا تماما من المكان، فلقد اصطحبت من السجن إلى جهة الشمال ما يقارب الساعة سيرا بالعربة بسرعة جنونية ... ربما بأقصى ما تستطيع عربة اللاندكروزر أن تسير ... ثم اتجهنا غربا لما يقارب ربع الساعة، ثم جنوبا لبعض الوقت حيث أمرنا بحفر مطمورة ثم أمرنا بدفنهما فيها. قالت سارة لآدم: طول بالك يا آدم. ثم سألت السجان: هل هناك أي معلم يدلنا على القبر؟ شجرة، قوز ... أو أي شيء؟
قال محاولا أن يكون هادئا: فقط شجرة صبار.
نزل الجميع من العربة وبدأنا البحث بقيادة عالمة الآثار وخبيرة التربة نوار سعد وجهازها العجيب الذي يستخدم لمعرفة مدى التغيير في نوع التربة، بمعرفة عمرها تحت أشعة الشمس المباشرة، وهذا مفيد جدا بالنسبة لنا؛ لأنه تم دفن الجثتين في حفرة؛ فبالتالي بإمكان جهاز نوار سعد أن ينبهنا إلى أن هنالك رمالا عمرها أحدث من الرمال التي تجاورها. قالت نوار: إنها عملية شاقة أن نقوم بمسح الصحراء كلها، ولو أن الجهاز يستطيع أن يفحص كيلو مترا مربعا في كل دقيقة انطلاقا من موقع التشغيل.
قال آدم بإصرار: حتما سنجده. إن هذا الرجل - مشيرا إلى السجان - رغم عدم تأكده، إلا أنه زودنا بمعلومات مهمة جدا وهي: سرعة العربة والزمن. أضاف أمين: والاتجاهات أيضا، إنها مهمة.
أسبوع بأكمله ونحن نعانق رمال الصحراء بحثا وتنقيبا عن قبر حافظ، وقد سئمنا السجان وسئم منا فأخذ أجره وغادرنا.
نحن
نحن ...
نحن بالمحراب جميعا بعد أن عدنا من مستوصف المدينة بالمختار الذي أنهكته الحمى؛ استيقظ المختار من غيبوبة طويلة، وأخذ فنجانا من منقوع القرض، بينما كنا نبحث في موضوع القبر قال لنا فجأة: لماذا لا تتجهوا شرقا بعد مسيرة الساعة شمالا؟ قال آدم: ولكن السجان كان يصر دائما على أن الاتجاه الصحيح هو الغرب وأظنه كان متأكدا. قال المختار بصوت مبحوح وبثقة تامة: اتجهوا شرقا هذه المرة، عكس ما قاله السجان، ربما تشابهت عليه الاتجاهات من الخوف وسرعة العربة. ربما.
المرسم المفتوح
أكبر كهوف مايازوكوف بجبل المرسم ...
أكبر كهوف مايازوكوف بجبل المرسم هو الذي بني على ارتفاع عشرة أمتار؛ على بوابته نصب الحرية الذي في شكل حدأة ضخمة لها جناحا فراشة وأظافر سيدة ، وأيضا فم امرأة، وبداخل نفس الكهف نحت حافظ «سورة الغضب»، وبعد عودته الأولى إلى سوريا أهمل هذا الكهف كغيره من الكهوف، كغيره من منشآت المرسم المفتوح، وهذا الكهف نفسه هو الذي اختبأت به سارة عندما كان يلاحقها البوليس السياسي، وعندما عاد مايازوكوف للبلاد الكبيرة للمرة الثانية وأصيب بالإحباط وترك البلاد للأبد هجرت الكهوف تماما وسكنتها الهوام والعناكب، وأصبحت موحشة ومرعبة. وعندما ذهبت نوار سعد إلى إدارة الجامعة طالبة منهم التنازل لها عن الكهوف حتى تتمكن من إعادة تأهيلها بحر مالها، لم تجد معارضة أو اعتراضا من السلطة، ولكنها دفعت مبلغا كبيرا من المال كرشوة لمسئول كبير من الجامعة، ومثله لموظف حكومي، قبل أن تتمكن من استلام مكتوب رسمي له قوة القانون موقعا من قبل هذين الموظفين مختوما بختم الدولة.
كانت أرضية الكهف عبارة عن صخرة كبيرة جيرية قديمة جدا، أكدت نوار سعد أن عمر هذه الصخرة يقدر بملايين السنين. احتجنا في حفر القبر إلى معاول ومطارق وأيضا نفير من أصدقاء حافظ وأسرته، وحتى أبوه نفسه شارك في نحت الصخرة الجيرية، وما كانت تستطيع المقاومة كثيرا أمام خبرة نوار سعد وإصرار آدم وسارة. وبالرغم من كبر عدد الأفراد المشتركين في الحفر إلا أن العملية كانت في غاية السرية؛ لأننا كنا متأكدين أنه إذا علمت السلطات بما نريد أن نفعل بهذا الكهف لما سمحت لنا إطلاقا بالاقتراب منه، واحتاج الأمر منا لمال كثير ووساطات. كنا نعد الكهف متحفا لمنحوتات حافظ ومايا. كنا نعده مستقرا أخيرا لرفات حافظ الذي أتينا به من الصحراء.
أما بقية الكهف فقد نظفت واستأنست ووضعت لها بوابات من الحديد وأقفال صلدة، فقد كانت تريدها نوار سعد لأغراض لم تفصح عنها. ولكني سمعتها ذات مرة تقول: سيأتي يوم يجيء فيه إلى هنا من يبحث عن آثار مايازوكوف؛ فإنه ليس أقل أهمية من آرثور رامبو، تماما كما يبحث الفرنسيون الآن عن بقايا وذكريات آرثور رامبو بين عدن وهرر ... سيجيء من يبحث عن مايا العزيز.
كنا بمقهى الجامعة ، الجامعة المغلقة منذ عدة أشهر، لكن طلبة الدراسات العليا بالمكتبة الكبيرة يلخصون الأبحاث أو يؤلفون. جلسنا على المقهى نجتر الذكريات في انتظار نوار سعد، تحدثنا عن مرض المختار الذي قال عنه أمين: إنه يحيرني.
ثم انزلق الحديث إلى جثة حافظ التي وجدناها تحت رمال الصحراء كاملة كأنها محنطة بحنوط مسحور، ولو أننا جاملنا والديه بموافقتهم الرأي في تفسير ذلك بقولهم: نحن من أسرة الأشراف، منحدرين من سلالة من الصالحين.
إلا أننا وجدنا أنفسنا مختلفين اليوم في التفسير، فآدم يؤكد أن هنالك أسبابا علمية واضحة وراء ذلك، أنا كنت أومن بأن كل ما يحدث في هذا الكون له سبب، ولكن ليس بالضرورة سببا علميا. أما أمين فقال: أنا سأقتنع بالتفسير الذي تقوله نوار سعد؛ فابتسمت سارة قائلة: لماذا نوار سعد بالذات؟ هل لأنها خبيرة في التربة والآثار؟ فانفجرنا ضاحكين مما جعل أمين ينظر إلينا بذهول.
وفي تمام العاشرة بالضبط حضرت نوار سعد كما وعدت، وكانت جميلة ورشيقة، وفي غاية الأناقة، وهذا ما يشعل أمين بالغيظ والحب أيضا، وعندما استفتيناها في شأن جثة حافظ، قالت: هنالك نوع من التربة يسمى بالتربة الحافظة، وهي تتكون من مركبات كيميائية تحفظ العضويات بداخلها من عمليات التحلل، أو بالأحرى تجعل عملية التحلل بطيئة جدا.
كنا قد وجدنا القبر بعد تعب حقيقي، ولولا جهاز نوار سعد وخبرتها لضاعت مجهوداتنا عبثا؛ وجدنا الجثتين في جوالين من الخيش، كانت جثة حافظ بكامل هيئتها ما عدا أثر طلق ناري في الجمجمة، أما الجثة الأخرى فكانت ليست سوى كومة من اللحم الآدمي، حتى عظامه كانت مهشمة. قالت سارة عندما رأته في غضب: هذا توحش. هل طحنوه بعجلات قاطرة؟!
ولكن تعبير أمين رغم بشاعته كان الأقرب، عندما سأل قائلا: هل مضغه أحدهم ثم قام ببصقه في هذا الجوال؟!
المهم، أعدناه وجواله إلى قبره مرة أخرى بعد أن صلينا عليه صلاة الجنازة، ووضعنا معلما للقبر حتى إذا حدث وأن تغير النظام السياسي دلنا إليه، فقد يعرفه أهله.
في النهايات
وعندما توقفت عربة نوار سعد ...
وعندما توقفت عربة نوار سعد اللاندكروزر عند موقف الباص المركزي الغارق في بركة من الطين اللزج الناعم الأسود؛ داهمتنا عصبة من الشحاذين؛ أطفال في ثيابهم الممزقة بأوجههم بقايا النعاس ممزوجا ببقايا الفطور الذي هو - في الغالب - فضلات رواد المطاعم، شيوخ يدعون العمى، شبان يزحفون على الطين لأن أرجلهم التهمتها الألغام وشظايا الدانات في الحروب الأهلية.
وعدت نوار سعد بزيارتنا في المحراب وحملتني تحايا المختار وتمنياتها له بالشفاء، ودارت عجلات عربتها لتحملها بعيدا تاركة إياي للشحاذين الذين سيأسلون حق الله، أو ينتزعونه انتزاعا، وخاصة من امرأة ضعيفة مثلي لا حول ولا قوة لها، فعلا بينما كنت مشغولة بالبحث عن موضع جاف لقدمي إذ بطفل طيني يخطف حقيبة يدي ويعبر بها بركة الطين نحو عمق السوق، خفيفا كتمساح من الريح، فصرخت لهول المفاجأة وحاولت الجري خلفه حينما تعثرت قدمي على شحاذ مبتور الساقين؛ فهويت على بركة الطين وأصبحنا قطعة طين كبيرة عفنة قبل أن ينجدني شابان قويان وهما يلعنان المدينة.
أخذت عربة وعدت بسرعة إلى منزل نوار سعد، مرة أخرى.
المريض
قضينا أسبوعا ...
قضينا أسبوعا مليئا بالزوار؛ من المدينة المغضوب عليها، من أصدقاء الجامعة وزملاء الدراسة، من كل صوب ومن كل جهة، جاءوا ليروا المختار المريض، وفي اليوم الأول من الأسبوع الرابع لمرضه شفي المختار، واستطاع المشي والقراءة، استطاع تسلق بعض الشجيرات القصيرة والصلاة التأملية الطويلة شيئا.
استطاع التمشي إلى ما بعد النهر، تفحص الوابور الشفاط، نزلنا النهر، اغتسلنا بمياهه الدافئة وعمت أنا، عبرت إلى الشط الآخر. أما هو فأخذ يبحلق في بعينين قلقتين متشوقتين، قال إنه لا يمكن المقامرة بالعوم. - أحس أن أعصابي متوترة.
كنا في الماضي القريب جدا إذا نزلنا النهر قفزنا معا بملابسنا في الماء، وتسابقنا نحو الشاطئ، ثم قبل أن نلمس رمل الشط الآخر نلعب «الغطاس والتمساح». وكان بارعا جدا في السباحة والغطس كبراعته في تسلق الأشجار الآيلاسنس والمهوقني العملاقة. أحس الآن بالألم في عينيه والحسرة.
كنا في حمام الشمس بملابس النهر، الريح هادئة ودافئة، يتموج النهر في دلال وهو يستقبل قبلات الريح، قلت له - وقد تذكرت لحظات عصبية عشناها ذات مرة: أتذكر يوم أن غطست بالماء وكدت أن أغرق. قال مبتسما وهو يستعدل جلسته على الرمال: يوم كنت أعلمك العوم، هذا يوم لن أنساه أبدا.
ثم أخذ في تفكير عميق كان يستدعي تلك الحادثة من أزقة الذاكرة الضيقة المظلمة المشحونة بالأشجار والعفاريت، كأنه يسحبها سحبا، ثم أخذ يحكي لي كيف تعلم العوم، في نفس هذا النهر وحده قبل أعوام كثيرة مضت بواسطة أنبوب ضخم ... حكى لي ذلك للمرة العاشرة أو أكثر: أربط نفسي جيدا في الأنبوب، ثم أربط الأنبوب في شجرة العرديب تلك قرب الوابور الشفاط، ثم أتوكل على الله والحبل، والأنبوب ألقي به في الماء وأضرب الماء بكفي وقدمي ورأسي. إنها طريقة عقيمة ولكنها طريقة السلامة القريبة.
غسل رجليه للمرة الثالثة، قام، تمشى بين شجيرات المحريب والسنسة، ثم جلس على صخرة وطلب مني أن أساعده على غسل ظهره حينما خطرت على بالي فكرة أن أداعبه قليلا، قلت: أصبحت أخاف، أخاف منك بعد أن حكيت لي قصة شهواتك ورغائبك.
فانفجر بالضحك، ثم غرق في نوبة سعال حتى دمعت عيناه وبدأ يظهر عليه الإعياء.
المختار رجل يحب الضحك، وإذا ضحك كان يشرق وجهه بالنور، يضحك بعمق وانفعال حقيقيين ومتعة، كان ضحكه فعلا ورؤية، ما كان يرهقه الضحك، ويعجبني فيه ضحكه. قلت مشفقة عليه: هل أتعبتك؟ قال وبعينيه دموع: لا، لا، إنها موجة من السعال، فما عدت كما الأمس، فالمرض اختبار الله للإنسان، وأيضا اختبار الإنسان للرب. قلت في تعجب: كيف ذلك؟! قال: للرب طريق إذا أمنتها كأنك أمنت العاصفة، وإذا لم تأمنها كأنك كفرت بها، كأنك كفرت بإيمان الرب. فالطريق هي هذا الجسد، هذا الفخ العظيم.
دلكت ظهره بنبات المحريب العطري، وأنا أغني أنشودة المطر.
كان يحدثني بصوت واه ضعيف عن أنه طوال عمره المديد هذا لم يقرب الخمر، ولا حتى السجائر والتمباك أو المخدرات، ولم يناوم امرأة أبدا، ولا يعرف مقدار لذة الجنس إلا من خلال الروايات والقصص والاحتلام ، ولكنه أضاف في حزن قائلا: ولكن السيد المسيح يقول: «من تشهى امرأة فقد زنا بها.» وأنا تشهيتك من قبل أحيانا كثيرة، وتشهيت نوار سعد كما قلت لك، وأيضا كنت ذات مرة أذهب للمدينة مشيا على قدمي حينما وجدت في عمق الغابة صبية حسناء أثارت في غريزتين متناقضتين في آن واحد: غريزة الأبوة، وغريزة الجنس.
عدنا إلى المحراب، وكان الوقت عصرا والجو المطري المنعش يسري في مسامنا فيوقظ عظامنا المعتصمة باللحم، ينبهنا للفرحة، والخضرة والعرديب.
ابتسامة
ارتدى المختار ...
ارتدى المختار ملابس القطن البيضاء.
استاك جيدا بعود أراك.
قال إنه يريد كوبا من اللبن الدافئ.
شرب نصفه، ثم نام وعلى فمه ابتسامة مرهقة.
وقد
وعندما وصلت الشارع العام، كنت ...
وعندما وصلت الشارع العام، كنت قد أنهكت تماما وغرق جسدي في بحيرة من العرق، وأصبح باردا كالجليد وشاحبا، وكنت أرفع يدي المتعبتين المعروقتين عاليا ملوحة بهما للسيارات: «أن توقفوا.» ولكن السيارات المنطلقة في الشارع كالسهام المجنونة لا تعيرني التفاتا.
قد ينظر إلي الراكبون عبر النوافذ الزجاجية، وقد يعيرني السائق التفاتة سريعة ويمضي وشأنه، وقد ...
إلى أن أتى الباص العام.
قلت للسائق: أبي قد مات بالغابة، أريد من يساعدني على دفنه.
النهاية
وجدت نفسي وحيدة ...
وحدي فقط بالمحراب الصامت الكئيب ووحدي.
أحسست فجأة برهبة عميقة وأنا أبحلق في التراب المتكوم قرب شجرة أمام المحراب؛ بدا الأمر وكأنه حلم، وكأنه كذبة، وكأنه عبث، أو كابوس مرعب. حالما أستيقظ سأجد المختار يرتل القرآن بالمحراب، أو ...
يقرأ الشعر، يفسر لي الحلم، أو يقبلني هامسا ...
اللهم اجعله خيرا.
كانت الريح الغربية تراقص الدومات الباسقات وعليها أطيار الكلج كلج تنشد نشيدا صاخبا. أطيار الكلج كلج الرمادية ذات الرءوس السوداء.
الجو المطري المنعش، يحاول عبثا بث الفرحة في، قليل من الفرحة، ولكني كنت أبكي بلا دموع؛ نضبت بحيرات العين وأصبح بكائي جافا كالصرير ناشفا ومرا يخرج من الصدر كما تتدحرج الحجارة من عل، كالرعد.
حينما شعرت بخطى تقترب مني، خطى ثقيلة وواثقة، وعندما سمعت الصوت تبينته وعرفته ، فهتفت فيه: ماذا تريد؟ قال بصوت مبحوح: عرفت من أحدهم كان بالباص أن المختار قد مات. - وماذا تريد أنت؟
صمت لزمن طويل، خيل إلي أنه دهر من الحجارة الملساء الكبيرة تهطل على صدري فتطحنني طحنا طويلا باردا، ثقيلا كالاحتضار، ثم قال: لا شيء. لا شيء. الدوام لله وحده.
كانت بصوته ريح باردة، وفرحة المنتصر.
خشم القربة
في 8 / 11 / 1995م
10 / 8 / 1997م
صفحة غير معروفة