قالت: جئت ماشية على قدمي من المرسم المفتوح، سبع ساعات متواصلة عبر الشوك والخيران، صرير الأشجار الجافة، ولقد ضللت الطريق مرات عديدة إلى أن أرشدني بعض الرعاة إلى طريق جانبية تقود إلى مزرعتكم هذه. - إذن لقد اكتشف البوليس السياسي مكانك؛ لذا هربت؟ قالت وفي فمها ابتسامة جافة: لا، مللت البقاء مثل السحلية بالكهوف المهجورة. - أين تذهبين ليلا؟ - يأخذني الخفير إلى أسرته، إلى أن ينادي أذان الصبح فأعود إلى الكهف، سحلية، مللت، مللت الوحدة. معكم أستطيع أن أحيا قليلا، الوحدة قبر. قالت: أهلي سيعرفون أنني معكم هنا؛ سيخبرهم الخفير.
قالت: يظنون أننا نعمل لحساب دولة أجنبية بقيادة مايازوكوف! قالت: هل هنا آمن؟ إذن أريد أن أنام قليلا، إنني مرهقة جدا وقدماي متورمتان؛ قال لي المختار: إنهم يبحثون عن طريق وما أصعب الطريق! قال: يستحيل إيجاد السبيل عن طريق البحث الجماعي، فالطريق ذاتية والإنسان دائما فرد، وإن كان فردا في سياق جماعي، يبحث وحده، يجد وحده، ويموت في لقيته وحده، قلت وكان وجهها يبدو بريئا وحلوا وهي نائمة على فراش بالمحراب: إنها طفلة وجميلة وإنها تحلم كما أنها لا تعمل لحساب شخص ما، أنا أعرف ذلك. قال: وأنا أيضا أعرف ذلك، إنها تحب وطنها مثلها مثل أصدقائها، ولكنها ترى في الأيديولجيا التي تؤمن بها المخرج الوحيد لأزمات الوطن.
في الغضب
ارتفعت درجة حرارة الجو إلى ...
ارتفعت درجة حرارة الجو إلى «55» درجة، ونامت الأشجار البائسة، نام رماد العشب؛ لأن الريح الشمالية التي كانت تلاعبه أثناء موته ذهبت في ثبات عميق، غطت السحب الرمادية قبة السماء واشتد الحر، خرجت الثعالب العجفاء من أجحارها والثعابين تسلقت الأشجار الهرمة الجافة، واشتد الحر، تراكمت السحب وأصبحت أكثر قتامة، ثم هطل المطر.
المطر، المطر، المطر.
مطر حقيقي وغزير، كأنما ثقبت السماء أو اندفقت مواعين الملائكة، مطر عنيف وقوي، أضأنا المصابيح وجلسنا نستمع لهزيم الرعد وخرير المياه. وكلما فاجأنا البرق انكمشنا على أنفسنا، حبسنا أنفاسنا وانتظرنا.
كان المطر مطرا.
استيقظت الريح وأخذت تقهقه في هستيريا وهي تفرك هامات الأشجار بأصابعها الهلامية، وتدغدغ جنباتها كما يفعل الأطفال الأشقياء بالأطفال الأشقياء، قالت سارة حسن: يخيل إلي أن صهاريج الماء المخزون بالسماء قد اندفعت اليوم.
خمس ساعات من المطر المتواصل من البرق والصاعقة، من الرعد، ولكنا أحسسنا بفرحة عميقة تغمر دواخلنا، وتموسق ذواتنا العطشة، ولو أننا أحسسنا بالخوف، الخوف من البرق والصاعقة، والخوف من السيل والرياح العاتية التي تصارع أفرع الأشجار الجافة في الخارج وتكسرها، لقد جاءنا المطر بعد عطش دام قرابة العامين وأكثر؛ لأن الفصل المطير الذي سبق هذا الفصل الجاف هو الآخر كان فصلا فاشلا، ولم يجد بغير مطيرات استمرت دقائق وغادرت، ولأن الفصل - الذي كاد أن يكون مطيرا - السابق لهذا الفصل الأخير ...
صفحة غير معروفة