وأخلاقهم وعاداتهم ومذاهبهم وفي إيضاح كيفية الحكومة في تلك البلاد
إن أعظم الشعوب المستوطنة لتلك الأقطار وأكثرها عدا هو الجنس الأفغاني، ومقره جنوب البلاد والشرق الجنوبي منها، والخلق الغالب في هذا الجنس هو الحقد والضغينة والتشوق للانتقام، واقتحام المحاربات، والتهور في المخاصمات والمنازعات لأدنى الأسباب، وإن صورهم الظاهرة تحكي عن خليقتهم هذه، وتنبئ عنها، فإن وجوههم على الدوام عابسة وقلما يوجد بينهم البشوش، وإن كان يظهر في بعض معاملاتهم الحلم والتؤدة، وكذلك خشونة لغتهم، وغلظ أصواتهم، يدلان على هذه الخليقة، وعلى الفظاظة وغلظ الطباع، ولهم ميل عظيم للنهب والسلب، وشن الغارات، وإثارة الفتن، وبما ارتكز في طباعهم من الشجاعة والإقدام والميل الطبيعي إلى المحاربة أرشدتهم الطبيعة من قرون إلى ترتيب نظامهم العسكري على هيئة تقرب من النظام الموجود في هذه الأزمان، وذلك أنهم كانوا يصفون الصفوف، ويحكمون ترتيبها، ويقيمون الضباط أرباب الرتب العالية وأرباب الرتب الدنية.
وعند سوق الجيوش للمحاربة كانت الضباط تتقدم العساكر لتقودهم، حتى إذا اشتعلت نيران الحرب تأخرت الضباط وتقدمتهم العساكر للنزال والصدام، واشتغلت الضباط بالأوامر والنواهي، والنظر فيما يجب إجراؤه من الإقدام والإحجام، والتيامن والتياسر، والسير والتوقف، وغير ذلك، وكان من عاداتهم أنه إذا ولى أحد العساكر فرارا حكموا عليه بالقتل، ومن ذلك ما وقع في واقعة أصفهان، وهو أن ضابطا هم بقتل أحد العساكر عندما رآه متقهقرا، فأراه العسكري يده اليمنى مقطوعة تخلصا من العقاب القانوني؛ فعافاه الضابط من القتل، إلا أنه لم يخلص من عتابه، ولم يرضه هربه وتقهقره، بل أرجعه إلى المعسكر قائلا: «يا مخنث، ألم تكن يدك اليسرى موجودة؟! فإن قطعت أيضا فعندك أسنان تنهش بها أعداءك، فاذهب، وقاتل الأعداء إلى آخر رمق في حياتك.»
ومن وظائف الضباط زيادة عن الأوامر والنواهي المتعلقة بترتيب العساكر وحفظ نظامهم، تفقد من يموت من العساكر في الميدان؛ ليأتوا به من ساحة القتال ويدفنوه؛ كي لا تقع جثته تحت إهانة أيدي الأعداء، إلا من قتل منهزما فإنهم لا يجوزون دفنه أصلا، ولأفراد العساكر الأفغانية من الطاعة والانقياد لرؤسائهم ما لا يوجد في عساكر ملك من ملوك البلاد المتمدنة، حتى إنهم عند تفرقهم في البادية، وتشتتهم بحيث لا يكون فرد منهم مع الآخر لو سمعوا نداء مناد يدعوهم إلى ضابط أو رئيس من رؤسائهم، لهرعوا مهرولين جميعا لإجابته، والاجتماع حيث يأمرهم، ولو نالوا طعاما في المخمصة لتركوه ملبين داعيهم، ولحسن طاعتهم إذا فتحوا بلدا، وأمرهم أمراؤهم بعدم التعرض لأهاليها، لا يقع منهم أدنى شيء يخل بالراحة، حتى لو مرت عليهم النساء مكللات بأكاليل الذهب لا يلتفتون إليهن، واتفق أنه وقع النزاع في أصفهان بين طائفتين من الأفغانيين في أول جلوس أشرف على كرسي السلطنة، وعظم الخلاف بينهما حتى اقتتلتا، فقفل أرباب الحوانيت حوانيتهم؛ خوفا من حصول الهرج والمرج، فجاء الأمر من أشرف بفتح الحوانيت معلنا: «إن من يصيبه خسارة فأنا الكفيل بتعويضها.» وامتد القتال في المدينة أياما ولم يحصل أدنى ضرر للأهالي من المقاتلين.
ولجميع رجالهم تدرب تام في الطعن بالرماح والضرب بالسيوف، ولهم خفة ونشاط في ركوب الخيل، وفي الأزمنة الأخيرة صارت لهم الدربة في إطلاق الرصاص أيضا. ومن زمن الأمير دوست محمد خان شرعوا في ترتيب العسكرية على النظامات الجديدة، وقد برعوا فيها عملا لا علما، وبلغ عدد عساكرهم المنتظمة ستين ألفا.
وإن كثيرا منهم وإن كانوا قد مالوا إلى الإقامة في المدن والقرى كأهالي قندهار وقزنة وجلال آباد وغيرها، إلا أنهم كبقية إخوانهم الذين لم يزالوا في الخشونة حيث لم يأخذوا جانب الترف والرفاهية، بل يسلكون في تعيشهم طرق التخشن والتقشف، ويقنعون من اللذات باليسير حتى إنهم يأكلون الضأن بجلده، فإنهم بعدما يذبحونه يحرقون صوفه ثم يجففونه ويدخرونه للأكل، ولا يتناولون الأطعمة بالملاعق، ولا يضعون أواني الطعام على الخوان، بل يأكلون على الأرض بأيديهم، وليس لهم عناية بتنظيف ألبستهم وأبدانهم، ولا يهتمون بنظافة مساكنهم وحجراتهم، وتطهير مدنهم من الأوساخ؛ ولذلك ترى المدن المسكونة بالكثير منهم لا تخلو من الأوساخ والقاذورات، وكثيرا ما تكون جيف الحيوانات في معسكرهم، ولا يعتنون بإبعادها من بينهم، وغالب الجبليين، وأهل القرى منهم، إذا أكل لا يغسل يديه، بل يمسحها في لحيته أو مداسه، وبعض منهم إذا لبس لباسا جديدا يلطخ بعضه بالسمن خصوصا عاتقيه؛ إظهارا لتأصله في الغنى وعدم مبالاته بالجديد، وإراءة لسمنه، وجميعهم سواء كانوا من سكان الأخبية أو البوادي يلبسون من الألبسة خشنها، فأرباب البادية يصنعون ثيابهم من نوع اللباد على هيئة غريبة بكمين طويلين يشبهان خرطوم الفيل، يصلان إلى الأرض، ويسمى عندهم «كوسي»، ولهم أيضا ثوب آخر من هذا النوع يصل إلى الفخذين بكمين قصيرين يسمى «صدرية». وهؤلاء قلما يبدلون ثيابهم قبل البلاء، وسكان المدن يصنعون ثيابهم من الجوخ الغليظ المعروف عندهم ببركر، فيتخذون منه جببا ضيقة الأكمام قصيرتها ويتقبون بأقبية من القماش الملون المعروف بالشيت، وثيابهم في زمن الشتاء من جلود الحمل، يبالغون في دبغها، حتى تصير في اللين والنعومة كالحرير، ويصبغونها بلون أصفر بهي، ويرقشونها بطراز الحريم، ثم يفصلون منها جببا يتخذها العمالة،
1
قصيرة تنتهي إلى الركبتين بكمين إلى المرفق وتسمى «بوستين جه» وأرباب الصنائع، والأواسط من الناس يتخذونها طويلة تبلغ الكعبين، كسائر ألبستهم بكمين طويلين، وتسمى بوستين، وقد يتخذ الأمراء من شيلان الكشمير جببا ومن السمور والسنجاب فراء «كرك».
وغالب الأفغانيين يعتمون بعمامة زرقاء، وأما السردارون والعظماء فغالبا يعتمون بشيلان الكشمير ألوانا، وسكان البلاد الحارة يحتذون النعال، ويتخذون صدريات ويلبسون أقمصة تنتهي إلى نصف الساق واسعة الأكمام، وغالبهم يتحزم بأحزمة عريضة تشغل ما تحت الصدر إلى الفخذية، وغالب القبائل لا يحلقون رءوسهم، وبعضهم يتخذون ضفيرة طويلة من شعورهم، وأما نساؤهم فإنهن يلبسن ألبسة طويلة، ويتمنطقن بمناطق تقرب من الثدي حتى يرى بارزا، وغالب نساء القبائل الساكنة في الجبال يقطعن شعور أذناب الخيول ويصلنها بشعورهن، ونساء قبيلة الغلجائي يحبكن شعور نواصيهن، ويشكلنها بشكل قرص، ثم يسدلنه على الجبهة، فيمتد إلى الصدغين في العرض، ويستر الأنف طولا، كأنما هو برقع مستدير، ويعلقن في آذانهن حلقات غليظة ثقيلة من الفضة والحديد والنحاس والبلور.
وأمراء الأفغان لا يجلسون على المنصات والكراسي، بل يفرشون مجالسهم بالأنماط والنمارق الفارسية، وليس لهم من الأبهة والعظمة ما لغيرهم من الأمراء، ولا يستنكفون من تناول الطعام مع خدمهم والأصاغر من الناس.
صفحة غير معروفة