مقدمة المترجم
تمهيد
1 - الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية
2 - الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق
3 - الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل العملي الخالص
ثبت بالمصطلحات
مقدمة المترجم
تمهيد
1 - الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية
2 - الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق
صفحة غير معروفة
3 - الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل العملي الخالص
ثبت بالمصطلحات
تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
تأليف
إيمانويل كانت
تقديم وترجمة
عبد الغفار مكاوي
مراجعة
عبد الرحمن بدوي
صفحة غير معروفة
مقدمة المترجم
يعد تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ثمرة ناضجة من ثمار المرحلة النقدية في فلسفة كانت. ظهر الكتاب في عام 1785م في ريجا
Riga
لدى الناشر يوهان فريدريش هارتكنوخ
J. F. Hartknoch ؛ أي بعد ظهور الطبعة الأولى من كتابه الرئيسي «نقد العقل الخالص»
1
بأربع سنوات، وقبل طبعته الثانية بعامين، ولكن كانت كان قد اكتسب الفكرة الأساسية في مذهبه الأخلاقي منذ عام 1770م، وهو العام الحاسم في نشأة فكره النقدي كله، والذي ظهرت فيه رسالته اللاتينية «صورة ومبادئ العالم الحسي والعالم العقلي» متضمنة لنظريته في الزمان والمكان كصورتين قبليتين من صور الحساسية كما سنراها فيما بعد في عمله الرئيسي، ممهدة للطريق النقدي الذي سيشغل الفلسفة الحديثة من بعده إلى يومنا هذا. كان هذا العام هو عام الكشف الخطير، الذي سيؤدي إلى ثورة في العلوم العقلية، تشبه الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس في علم الفلك؛ ثورة في منهج «الفكر الإنساني»، بدأت من «نقد العقل الخالص» وامتدت إلى جميع العلوم، فهدمت صرح الميتافيزيقا السائدة في عصره، ووضعت مكانها بناء محكما متماسكا، وأرست أسس أخلاق جديدة. نمت هذه الأخلاق مع نظرية المعرفة في وقت واحد، وامتدت بجذورها في أرض النقد؛ بحيث يكون من الخطأ البالغ أن نحاول الفصل بينهما، أو أن نبحث أحدهما بمعزل عن الآخر.
استطاع كانت في هذا الكتاب لأول مرة أن يدعم أفكاره عن الأمر الأخلاقي المطلق، وأن يعرض الخطوط الرئيسية للأخلاق النقدية، وأن يمهد بذلك خير تمهيد لكتابه الرئيسي في الأخلاق، ونعني به «نقد العقل العملي » الذي سيظهر في عام 1788م. كان كانت حريصا على أن يبسط مذهبه الأخلاقي للقارئ العادي، فأراد أن يجعل من كتابنا هذا شبيها بكتابه «مقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصبح علما» الذي نشره قبله بعامين، وأراد به أن يوضح لعامة القراء ما استعصى عليهم فهمه من «نقد العقل الخالص» (وكم أحزنه أن يسيء الناس استقباله وفهمه حزنا كاد يخيب أمله!) ولكن النجاح الشعبي الذي عقد عليه الآمال لم يتحقق بكليته؛ فإن الفصل الأول الذي يبدأ فيه من «المعرفة العقلية الشائعة بالأخلاق» قد صادف قبولا لدى القراء؛ إذ عرف كانت كيف يعالج هنا أفكارا ومشكلات يتعرض لها كل إنسان في كل يوم ويحاول أن يحدد موقفه منها، كما عرف كيف يستشهد لما يقول بأمثلة مستقاة من الحياة اليومية التي نحياها جميعا. فلما انتقل إلى الفصل الثاني وحاول أن يدعم بعض أفكاره الفلسفية دعما فلسفيا، شق على بعض القراء أن يتابعوه، ووجدوا في لغته المعقدة عناء أي عناء. حتى إذا وصل إلى الفصل الثالث والأخير، وحاول أن يضع يد القارئ على لب مذهبه الأخلاقي، ونعني به فكرة الحرية، استبد اليأس بأغلب القراء، وأحسوا كأنهم يسيرون في غرفة معتمة كما كان «جوته» يقول كلما قرأ شيئا لكانت! إنهم ليقرءون ويقرءون، دون أن يفهموا ما يقصده الفيلسوف. كان عليهم إما أن يستسلموا لليأس من فهمه، وذلك ما فعله الكثيرون، أو يعكفوا على دراسته دراسة شاقة صارمة قد تمتد لسنوات طويلة، والقليلون هم الذين واتتهم الشجاعة والصبر على ذلك، وفي مقدمتهم الشاعر العظيم شيللر (1757-1804م). لقد كانت الصعوبة التي وجدها القراء - وما يزالون يجدونها ويتنهدون منها حتى اليوم في فهم كانت - هي النتيجة الطبيعية للحياة الصلبة النادرة التي عاشها الفيلسوف، ولأربعة عشر عاما طويلة عاشها يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، بين جدران عالمه النقدي، يصحو وينام وهو يسأل نفسه أسئلة كهذه: كيف تصبح القضايا التركيبية القبلية ممكنة؟ كيف أستطيع أن أجمع بين عنصرين متنافرين كالمحسوس والمعقول؟ كيف أوفق بين عالم الطبيعة الذي تسيطر عليه الضرورة، وبين عالم الأخلاق الذي تسوده الحرية؟ كيف يضع العقل قوانين العالم، وماذا يستطيع أن يعرف، وما هي الحدود التي عليه أن يقف عندها فلا يتعداها؟ ما الذي يجب علي أن أفعله وأي أمل أستطيع أن آمله؟ ... إلخ حتى تنتهي هذه الأسئلة جميعا إلى سؤال الأسئلة وتصب فيه: ما هو الإنسان؟
عالم كما نرى غريب على معظم الناس، لا عجب أن ينفر منه رجل الشارع، كما ينفر منه المنطقي والديالكتيكي والميتافيزيقي السادر في ضباب أحلامه، ولا عجب أيضا أن يخرج كانت منه إلى الناس وقد تكون فكره العبقري، وتشكل أسلوبه بالصورة التي نعرفها اليوم، والتي نحاول أن نقترب منها، فيختلف نصيبنا من الإخفاق والتوفيق.
لا تقوم الأفكار الأساسية للأخلاق عند كانت كما يذهب البعض خطأ، على أساس قبلي بحت سابق لكل تجربة إنسانية؛ فلا يصح هنا أن نخلط أول المذهب بآخره، ومقدمته بنتائجه. لقد كان وهو يضع هذا الكتاب دائم التفكير فيما تقدمه له التجربة، دائم الاشتغال بالعلوم التجريبية بوجه عام، متصلا اتصالا لا ينقطع بالحياة اليومية وبما يسميه بالعقل الإنساني الشائع المشترك. لقد وصل عن طريق التجربة إلى أن الأفكار الأساسية في الأخلاق، مثلها في ذلك مثل القوانين الطبيعية بوجه عام والمسلمات التي يفترضها كل كائن عاقل عند كل تجربة يمارسها، إذا أراد أن يصل إلى معرفة من أي نوع، إنما نجد أصلها ومستقرها في العقل، ولا تأتي من التجربة بأية حال من الأحوال. وإذن فنحن بصدد معارف قبلية سابقة على كل تجربة، ولكن لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن كانت وهو يضع مذهبه في الأخلاق كان يضع الوجود العيني الواقعي بجانبيه، الإنسان والطبيعة، نصب عينيه دائما، وأن ميدان التجربة وكل تجربة ممكنة على وجه الإجمال لم يغب عن باله أبدا. غير أنه في عرضه لمذهبه لا يقدم لنا الحالة الفردية ولا الموقف الجزئي، بل يحرص على أن يقدم لنا الطابع النموذجي العام في شكل تجريدي. إنه يسير على عكس جوته الذي يبدأ من العيان والمشاهدة، من الفرد والموقف الجزئي ليترك لقارئه أن يستخلص بنفسه العام النموذجي؛ ذلك أن المهمة التي يلقيها كانت على عاتق قارئه أشد عسرا، فهو يطالبه باستخلاص الخاص من العام، والفردي من المجرد، وإن كان الخاص والفردي هما النقطة التي انطلقت منها تأملاته.
صفحة غير معروفة
2 •••
هل من العسير علينا حقا أن نتصور أن الأصل في الأفكار الأساسية في الأخلاق، وفي مقدمتها الأمر الأخلاقي المطلق، هو العقل الخالص نفسه؟ إن الإنسان منا ليس في حاجة إلى بحث طويل يدله على أن هناك نوعين من المعارف، تلك التي نستمدها من التجربة؛ فهي لهذا السبب معارف عرضية جزئية تحتمل التعدد والاستثناء، وتلك التي تنبع من العقل؛ فهي لهذا السبب معارف ضرورية مطلقة شاملة. من هذه الأخيرة نذكر معارفنا الرياضية، ومعارفنا في العلوم الطبيعية، التي تتيح لنا قوانينها الضرورية العامة أن نتنبأ بما يحدث في الكون الأكبر والكون الأصغر، في المجرات الهائلة وفي جزئيات المادة المتناهية في الصغر، ومعرفتنا بالأمر الأخلاقي الذي يصلح لكل إنسان في كل زمان ومكان؛ لأنه قانون عقلي مطلق، يصدر في أوامره عن العقل، مستقلا عن كل تجربة.
إننا نعيش بأشخاصنا في عالمين مختلفين؛ فنحن بإحساساتنا ودوافعنا وميولنا ننتمي إلى العالم الحسي ونخضع للقوانين الطبيعية التي تتحكم فيه، ونحن بعقولنا وحدها أعضاء في العالم المعقول، مواطنون في مملكة نيرة نبيلة يسميها كانت بمملكة الغايات في ذاتها. إن «جوته» يعطينا المفتاح الذي نفهم به هذه الازدواجية المؤكدة عند كانت حيث يقول على لسان فاوست:
نفسان آه! تسكنان صدري،
تود الواحدة لو تنفصل عن الأخرى:
إحداهما، في لذة الحب العارمة،
تتشبث أعضاؤها المتصلبة بالعالم،
والأخرى ترتفع في كبرياء من التراب،
إلى نعيم الجدود الأعلين.
فاوست، الجزء الأول
صفحة غير معروفة
يقول الأمر الأخلاقي المطلق: «افعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة سلوكك أن تصبح مبدأ تشريع عام.» أو بعبارة أدق بحيث تريد لها أن تصبح قانونا عاما لجميع الناس. كما يقول في صيغة أخرى: «افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك باعتبارها دائما، وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة.» هنا تصبح المشكلة العسيرة، ألا وهي كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكنا؛ فالتجربة لا تستطيع أن تقدم لنا مثالا واحدا يؤكد أن الأمر الأخلاقي يمكن أن يرد فيها في صورته الخالصة. وليس هناك مثال تجريبي ينهض دليلا على صحة الأمر الأخلاقي كما تنهض التجربة السليمة دليلا على صحة القانون الطبيعي وضرورته في كل الأحوال. ومع ذلك فنحن نستطيع أن نفسر كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكنا إذا تعمقنا النظر في هذه الازدواجية التي يتميز بها وجودنا والتي تحدثنا عنها الآن؛ أعني إذا انتقلنا خطوة من التجربة إلى الميتافيزيقا - لا الميتافيزيقا التقليدية، بل الميتافيزيقا التي شيدها كانت مذهبا عقليا على أساس نقدي سليم - فلم نبدأ من التجربة، بل من تصور الإنسان لطبيعته من حيث هو كائن عاقل؛ فالعالم بالنسبة لهذا الكائن العاقل وحدة تجمع في شخصه بين عالم الطبيعة وعالم العقل (هذا الموقف نابع من تمييز المثالية الترنسندنتالية عند كانت بين الظاهرة والشيء في ذاته، ومن النزعة الغالبة عليه في التوفيق بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي)؛ فهناك العالم الحسي الذي ننتمي إليه باعتبارنا كائنات حسية تحددها القوانين الطبيعية كما تحدد الأشياء والظواهر من حولنا. وهناك من ناحية أخرى العالم المعقول الذي ننتمي إليه كذلك، ولكننا نقوم بتحديد أنفسنا ونشرع قوانين أفعالنا ونعتبر أحرارا بمقدار خضوعنا لهذه القوانين؛ فليست الحرية إلا هذا الخضوع الإرادي للقوانين، أو التحديد الذاتي
Selbstbestimmung
على حد تعبير كانت. والإنسان حر بقدر ما يخضع للقانون الذي يضعه هو نفسه لنفسه. ومن ثم كانت فكرة الحرية التي أستمدها من العقل والتي تجعلني عضوا في العالم المعقول هي الشرط الوحيد الذي يجعل الأمر الأخلاقي المطلق ممكنا.
ولكن كيف لي أن أطيع هذا الأمر الصارم المطلق، وكيف أخضع «لينبغي» و«يجب» القاسيتين، وأطرح كل ميولي ودوافعي، وأغض النظر عن كل منفعة قد تترتب على فعلي بينما أنا في نفس الوقت كائن حسي كما أنا كائن عاقل؟ إن الجواب الوحيد على ذلك هو في الحقيقة التي تقول إنني أنا الذي أشرع لنفسي هذا القانون، وإنني أنا الذي أحدد نفسي في كل فعل أقدم عليه، وإن الاحترام الذي أحمله للقانون الذي أشرعه لنفسي هو وحده الذي يجعلني أنفذ بالفعل ما يأمر به الأمر الأخلاقي المطلق بالعقل. إنني أعصب عيني عن كل جزاء يمكن أن يترتب عليه، وأزهد في كل منفعة قد تأتيني منه، وألغي كل رغبة أو أمل قد يتحقق من ورائه، ولا أقدم على الفعل إلا لأنني أجد أنه فعل صحيح وحق في ذاته، وأنه يتفق مع قاعدة سلوكي التي استقيتها من العقل الخالص ورفعتها بذلك إلى مستوى القانون الضروري المطلق. هناك أصل إلى الحد الذي ليس للإنسان أن يتعداه؛ فليس لي أن أسأل عن ماهية هذا الأمر الأخلاقي؛ لأنني لن أعرف عنه شيئا. إن كانت سيقول لي عندئذ - في نغمة لا تخلو من الحزن والمرارة وإن نبعت من معرفة عميقة بحدود الإنسان وإدراك أليم لتناهيه - إنك لن تفهم من الأمر الأخلاقي في نهاية المطاف إلا أنه لا سبيل إلى فهمه ...
بقيت كلمة أخيرة عن تصور الواجب؛ فمن المعروف أن الشاعر العظيم فريدريش شيللر كان في مقدمة من تأثروا تأثرا شديدا بمذهب كانت الأخلاقي، وأنه استطاع في كتاباته الفلسفية بعد ذلك أن يضع نظرية في الأخلاق تختلف في بعض ملامحها عن نظرية كانت.
ففي مقالة شيللر الشهيرة «عن الرقة والكرامة
über Anmut und Würde » نجده يأخذ على «الحكيم العالمي»، مع كل ما يحمله له من إعجاب وتقدير، ما في فكرة الواجب عنده من صلابة وقسوة. يقول شيللر:
إن فكرة الواجب في فلسفة كانت الأخلاقية تتميز بصلابة تفزع منها جميع العواطف الرقيقة، وقد تغري ضعاف الفهم في سهولة على أن يبحثوا عن الكمال الأخلاقي في زهد الرهبان.
والحق أن كلمة «الصلابة» تنطبق على مذهب كانت في الواجب تمام الانطباق؛ فنحن نحس بغير قليل من الصلابة في هذا الصوت الصارم الرهيب الذي يدعونا إلى أن نتخلى عن عواطفنا وميولنا وإحساساتنا ولا نطيع إلا أمره البارد المطلق القاسي. ونحن نحس بغير قليل من الصلابة في فعل «يجب» الذي يأمرنا بأن نؤدي الفعل دون أن ننتظر جزاء نجنيه من ورائه، لا بل دون أن نمني النفس بأدنى نصيب من السعادة. ومع ذلك فينبغي علينا إنصافا للحكيم العالمي كما يسميه شيللر بحق ألا نغفل هذا النبل النادر الرفيع الذي يجلل هامة الإنسان حين يخضع للقانون الأخلاقي لمجرد أنه قانون نبع من عقله الخالص، ولا أن ننكر ما يشعر به بلا شك من الرضا والارتياح في الوفاء بمثل هذا الواجب. ولا بد هنا من أن نفرق بين الواجب كما نفهمه اليوم ونقصد به في الغالب نوعا من الجبر يفرض علينا من الخارج، ويرزح على كواهلنا كأنه عبء ثقيل بغيض، وبين الواجب كما يفهمه كانت؛ فأنا حين أؤدي واجبي لا أخضع في رأي كانت لقوة خارجية أيا كان سلطانها، وإنما أفعل الفعل بما يتفق مع قانون وضعته لنفسي بنفسي، ولا أخضع له إلا لأنني أنا الذي شرعته لنفسي. وليس في ذلك شيء من التعسف أو الفوضى؛ لأن هذا القانون لن يستحق اسم القانون حتى يكون «حكما تركيبيا قبليا» على حد تعبير كانت، يصدر عن العقل الخالص وعن العقل الخالص وحده. وقد كان شيللر من أوائل الذين عرفوا بإحساسهم المثالي النبيل ما في فكرة الواجب الكانتية من صدق وعمق. ولعل أجمل تعبير عن ذلك ما يقوله لصديقه كورنر
Körner
صفحة غير معروفة
في رسالة له بتاريخ 18 فبراير 1793م: «لا شك أنه ما من إنسان فان نطق بكلمة أعظم من هذه الكلمة التي يقولها كانت، والتي تعبر عن مضمون فلسفته كلها: «حدد نفسك بنفسك».» •••
عندما مات كانت في اليوم الثاني عشر من فبراير 1804م، بعد أن همست شفتاه بالكلمة التي لا يجد الحكيم خيرا منها ليختم بها حياته: «حسن
Es ist gut »، أعلنت مدينة كونجسبرج التي لم يكد يغادرها طوال حياته الخصبة المنتظمة الحداد العام وحمله أهلها إلى مقره الأخير في كاتدرائية المدينة. هناك نقشوا على قبره بحروف من ذهب هذه العبارة الشهيرة التي وردت في ختام نقد العقل العملي: «شيئان يملآن الوجدان بإعجاب وإجلال يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوق والقانون الأخلاقي في صدري.»
فإذا أفلح هذا الكتاب - في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى الأخلاق - في أن يعيد للأمر الأخلاقي شيئا من جلاله ورهبته، فحسب مؤلفه العظيم أن يكون جزاؤه من قراء العربية هذه الجزء.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة، يوليو 1963م
ملحوظة:
رجعت في ترجمة النص إلى نشرة أكاديمية العلوم الملكية البروسية في برلين،
1
في المجلد الرابع من الأعمال الكاملة لكانت، مطبعة جورج ريمر 1911، من صفحة 383 إلى صفحة 463، كما قارنته بالنص الذي تولى نشره ومراجعته على الطبعات الأخرى تيودور فالنتينر في سلسة ركلام المشهورة، شتوتجارت 1955م، وهي الطبعة التي استفدت منها كثيرا في كتابة مقدمة الطبعة العربية. ورجعت إلى الترجمة الفرنسية
صفحة غير معروفة
2
التي قام بها فيكتور دلبوس المنشورة في باريس، مكتبة ديلاجراف، 1951م، واستعنت بها في استجلاء بعض غوامض النص الأصلي، كما اعتمدت على الهوامش الممتازة التي أضافها المترجم الفرنسي اعتمادا كبيرا.
هذا ويجد القارئ هوامش المترجم في أرقام مسلسلة، أما هوامش كانت الأصلية فيجدها مشارا إليها بعلامة (رقم الهامش ⋆ )، أما تعليقات المترجم على كانت فيجدها مشارا إليها بعلامة ( ⋆ ). وقد رأى المترجم أن يزيد على الجملة الألمانية كلمة أو كلمات أراد بها أن يوضح النص أو يربط العبارات الكانتية الطويلة الأنفاس، ووضعها بين أقواس كبيرة [] دون أن يخل بالحرفية الدقيقة في الترجمة، ما سمح بذلك الأسلوب العربي. أما زيادات كانت على النص فيجدها القارئ داخل النص بين ().
3
تمهيد
كانت الفلسفة اليونانية القديمة تقسم نفسها إلى علوم ثلاثة: الطبيعة، والأخلاق، والمنطق. هذا التقسيم
1
يلائم طبيعة الأشياء ملاءمة تامة، وليس في وسع المرء أن يحسن فيه شيئا، اللهم إلا أن يضيف إليه المبدأ الذي أقيم على أساسه، لكي يطمئن من ناحية على أنه تقسيم واف، ولكي يستطيع من ناحية أخرى أن يحدد فروعه الضرورية تحديدا سليما.
كل معرفة عقلية إما أن تكون مادية وتتناول بالبحث موضوعا ما، أو صورية وتتناول صورة الفهم والعقل نفسه والقواعد العامة للفكر على وجه الإطلاق فحسب، دون تفرقة بين الموضوعات. الفلسفة الصورية تسمى المنطق،
2
صفحة غير معروفة
أما الفلسفة المادية، وهي التي تتناول بالبحث موضوعات بعينها والقوانين التي تخضع لها هذه الموضوعات، فهي تنقسم بدورها إلى قسمين؛ إذ إن هذه القوانين إما أن تكون قوانين للطبيعة أو قوانين للحرية. ويسمى العلم الذي يعالج الأولى بالفيزيقا، والذي يعالج الأخرى بالأخلاق، وقد يسمي البعض ذلك العلم نظرية الطبيعة ويطلق على هذا اسم نظرية الأخلاق.
لا يمكن المنطق أن يحتوي على جزء تجريبي؛ أعني أنه لا يمكن أن يحتوي على جزء تقوم فيه القوانين العامة والضرورية للفكر على أسس هي نفسها مستمدة من التجربة، وإلا لما كان منطقا؛ أي معيارا للفهم أو للعقل يصلح أن يطبق على كل فكر كما ينبغي البرهنة عليه، وعلى العكس من ذلك يمكن لكل من الحكمة الطبيعية والحكمة الأخلاقية أن تشتمل على جزء تجريبي؛ ذلك لأن تلك الحكمة لا بد لها أن تحدد قوانين الطبيعة بوصفها موضوعا للتجربة، ولأن على هذه أن تحدد قوانين إرادة الإنسان، من حيث إنه ينفعل بالطبيعة الأولى، بما هي قوانين يحدث كل شيء طبقا لها، والثانية بما هي قوانين ينبغي لكل شيء أن يحدث بما يتفق معها، مع ذكر الظروف التي يتسبب عنها في أغلب الأحيان ألا يتم ذلك.
نستطيع أن نسمي كل فلسفة تقوم على أسس من التجربة فلسفة مادية، وكل فلسفة تأخذ نظرياتها عن مبادئ قبلية
3
فلسفة خالصة.
4
هذه الأخيرة، حين تكون صورية فحسب تسمى «منطقا»، فإن كانت مقصورة على موضوعات بعينها من موضوعات الفهم، فتسمى عندئذ «بالميتافيزيقا».
5
على هذا النحو تتكون فكرة ميتافيزيقا مزدوجة: «ميتافيزيقا الطبيعة»، و«ميتافيزيقا الأخلاق». وهكذا يكون للفيزيقا جانبها التجريبي، بالإضافة إلى الجانب العقلي، ومثل ذلك الأخلاق، وإن كان من الممكن هنا أن يسمى الجانب التجريبي خاصة بالأنثروبولوجيا العلمية،
6
صفحة غير معروفة
والجانب العقلي باسم الأخلاق.
لقد كسبت الحرف، والصناعات اليدوية، والفنون عن طريق تقسيم العمل، فلم يعد واحد بمفرده يقوم بعمل كل شيء، بل اختص كل بعمل معين يختلف في طريقة أدائه عن غيره من الأعمال اختلافا ملحوظا، وذلك لكي يتسنى له أن يصل به إلى أعظم حظ من الكمال وأن يتمه في سهولة ويسر. وحينما يدعي كل إنسان أنه رب ألف صنعة وصنعة، هنالك تكون الصنائع على حال من الفوضى لا مزيد عليها.
ولكن إذا صح أنه لا يخلو من فائدة أن نسأل: إن لم يكن على الفلسفة الخالصة بجميع أقسامها أن تبحث عن رجلها المقتدر، وإن لم يكن من الخير لصناعة العلم بجميع أحوالها أن يحذر هؤلاء الذين اعتادوا أن يمزجوا ما هو تجريبي بما هو عقلي بما يتفق ومزاج الجمهور على حسب مقادير ونسب مجهولة لهم هم أنفسهم ممن يلقبون أنفسهم بالمفكرين المستقلين وغيرهم ممن يعدون القسم العقلي وحده ويسمون أنفسهم بالمفكرين المتأملين؛ أقول أن يحذر هؤلاء وأولئك من أن يقوموا بممارسة عملين في وقت واحد، يختلف كل منهما عن صاحبه في طريقة تناوله اختلافا بينا، ويتطلب كل منهما ممن يقوم به موهبة من نوع خاص، ولا يؤدي الجمع بينهما في شخص واحد إلا إلى إخراج العاجزين، إذا صح هذا، فإنني أكتفي بأن أتساءل: ألا تتطلب طبيعة العلم التفرقة بعناية بين جزئه العملي وبين جزئه العقلي، وأن نقدم للفزياء (التجريبية) بميتافيزيقا الطبيعة وأن نسبق الأنثروبولوجيا العملية بميتافيزيقا الأخلاق بحيث ينقى كلاهما من كل عنصر تجريبي لكي نعرف مقدار ما يستطيع العقل الخالص في كلتا الحالتين أن يحققه ومن أي المنابع يستمد هو نفسه تعليمه القبلي هذا، يستوي في ذلك أن يقوم بهذه المهمة الأخيرة جميع معلمي الأخلاق (الذين يحملون اسم الفرقة) أو أن يقوم بها بعضهم ممن يشعرون أنهم أكفاء له.
ولما كنت أوجه عنايتي هنا إلى حكمة الأخلاق بوجه خاص، فإنني أحدد السؤال الذي طرحته من قبل على هذا النحو: أليس من صواب الرأي أن من أشد الأمور ضرورة إعداد فلسفة أخلاقية خالصة، نقية نقاء تاما من كل ما يمكن أن يكون تجريبيا ومن كل ما يتصل بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) بسبب؛ ذلك أن ضرورة وجود مثل هذه الفلسفة أمر يتضح بذاته من الفكرة المعتادة التي لدينا عن الواجب وعن القوانين الأخلاقية. إن كل إنسان لا بد أن يسلم بأن قانونا يراد له أن يكون قانونا أخلاقيا؛ أعني قاعدة التزام، لا بد أن يحمل طابع الضرورة المطلقة، وأن الوصية التي تقول: ينبغي عليك ألا تكذب؛ لا يمكن أن تكون صلاحيتها مقصورة على بني الإنسان وحدهم بحيث لا يكون لغيرهم من الكائنات العاقلة بها شأن، وهكذا الأمر مع كل القوانين الأخلاقية الأخرى، وفضلا عن هذا فإن قاعدة الإلزام هنا لا ينبغي أن تلتمس في طبيعة الإنسان ولا في ظروف العالم الذي وضع فيه، بل إنه لا بد من البحث عنها بطريقة قبلية في تصورات العقل الخالص وحدها، وإن كل التعاليم (الأخلاقية) الأخرى التي تقوم على مبادئ التجربة البحتة، بل تلك التي تعد بوجه من الوجوه تعاليم عامة، حيثما ارتكزت على قاعدة تجريبية، ولو كان ذلك في أقل أجزائها، وقد يكون أحد الدوافع التي دفعت إليها. نقول إن مثل هذه التعاليم قد نستطيع أن نسميه قاعدة للسلوك العملي، ولكننا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نطلق عليه اسم القانون الأخلاقي.
وهكذا تمتاز القوانين الخلقية - بما في ذلك المبادئ التي تقوم عليها بين كل المعارف العملية - من كل ما سواها مما يشتمل على أي عنصر تجريبي، لا من حيث الجوهر فحسب، بل إن كل فلسفة أخلاقية تستند استنادا تاما على الجزء الخالص منها، وعند تطبيقها على الإنسان فإنها لا تستعير أقل نصيب من المعرفة به [أي من الأنثروبولوجيا] بل تعطيه، بوصفه كائنا عاقلا، قوانين قبلية، تتطلب بالطبع من خلال التجربة ملكة حكم حادة، لكي يمكن من ناحية تمييز الحالات التي يستطاع تطبيقها عليه، ولكي يتيسر من ناحية أخرى أن تجد سبيلها إلى إرادة الإنسان وأن تؤثر الأثر المؤدي إلى ممارستها؛ ذلك أن الإنسان، وهو الكائن الذي ينفعل بالكثير من النزعات، يقوى حقا على إدراك فكرة عقل عملي خالص، ولكنه لا يستطيع بسهولة أن يجعلها تؤثر على مجرى حياته تأثيرا فعالا.
وإذن فإن ميتافيزيقا الأخلاق ضرورية ضرورة لا غنى عنها، لا عن دافع من دوافع التأمل المجرد فحسب يستهدف البحث في مصدر القواعد الأخلاقية الموجودة في عقلنا وجودا قبليا، بل لأن الأخلاق نفسها لا تفتأ تتعرض لألوان من الفساد لا حصر لها، ما بقيت مفتقرة إلى ذلك المقياس والمعيار الأعلى الذي لا بد منه للحكم عليها حكما صحيحا؛ ذلك لأن كل ما ينبغي له أن يكون خيرا من الناحية الأخلاقية لا يكفي فيه أن يكون «مطابقا» للقانون الخلقي، بل لا بد له كذلك أن يحدث «من أجله»، وإلا كان هذا التطابق من قبيل الصدفة وكان تطابقا فاسدا؛ ذلك لأن القاعدة غير الأخلاقية قد تتولد عنها من حين إلى آخر أفعال مطابقة للقانون، ولكنها لا تنتج في أغلب الأحيان غير أفعال منافية للقانون الخلقي. أما والقانون الخلقي في نقائه وأصالته (وعلى هذين يعول في السلوك العملي) لا يمكن البحث عنه في غير فلسفة نقية خالصة، فلا بد لهذه الميتافيزيقا أن تسبقه وتتقدم عليه، وبغيرها لن يقوم لفلسفة أخلاقية وجود، بل إن الفلسفة التي تخلط تلك المبادئ الخالصة بالمبادئ التجريبية لا تستحق أن تسمى فلسفة (ذلك لأن الفلسفة تتميز من المعرفة العقلية الشائعة بأنها تعرض ما تتصوره هذه مختلطا على هيئة علم مستقل بذاته) ولا تستحق حتى أن تسمى فلسفة أخلاقية؛ لأنها بهذا الخلط إنما تفسد نقاء الأخلاق وتتعارض مع الهدف الذي تريد هي نفسها تحقيقه.
ولا يحسبن أحد أن ما نطالب به ها هنا قد ذكر من قبل في المقدمة التي وضعها فولف
Wolff
7
الشهير لفلسفته الأخلاقية؛ أعني لما سماه بالحكمة العملية العامة، وأننا هنا لا نطرق حقلا جديدا.
صفحة غير معروفة
ذلك أنه لما كان المقصود منها أن تكون فلسفة عملية عامة، فإنها لم تضع الإرادة من أي نوع كانت موضع البحث؛ كأن تكون هذه الإرادة على سبيل المثال إرادة من ذلك النوع الذي يتعين دون أية دوافع تجريبية عن طريق مبادئ قبلية بحتة، وهو ما يمكن أن نسميه بالإرادة الخالصة، بل لقد وضعت فعل الإرادة بوجه عام موضع النظر بما في ذلك كل الأفعال والشروط التي تضاف إليه بحسب هذا المفهوم العام. وهكذا تختلف [هذه الفلسفة العملية العامة] عن ميتافيزيقا الأخلاق اختلاف المنطق العام عن الفلسفة المتعالية؛ فالأولى تختص بأفعال وقواعد الفكر «على الإطلاق»، أما الثانية فبالأفعال والقواعد «الخاصة» بالفكر «الخالص» وحده؛ أعني به ذلك الفكر الذي يمكن أن تعرف الموضوعات من خلاله معرفة قبلية بحتة.
ذلك أن من واجبات ميتافيزيقا الأخلاق أن تتناول بالبحث فكرة ومبادئ إرادة «خالصة» ممكنة، لا أن تتناول أفعال وشروط فعل الإرادة الإنسانية بوجه عام، وهي التي يمكن أن يستقى الجانب الأكبر منها من علم النفس. ولا ينهض حجة على ما أؤكده أن الفلسفة العملية العامة تتناول كذلك بالبحث (وإن تكن مخطئة في ذلك) القوانين الأخلاقية والواجب؛ ذلك أن أصحاب ذلك العلم يبقون على إخلاصهم في هذه الناحية أيضا للفكرة التي لديهم عنه، إنهم لا يميزون الدوافع التي لا يمكن تصورها إلا عن طريق العقل وبطريقة قبلية بحتة، وهي الدوافع الأخلاقية حقا، من تلك الدوافع التجريبية التي يرتفع بها الفهم، عن طريق المقارنة وحدها بين التجارب، إلى مستوى التصورات عامة، بل ينظرون إليها، بغير أن يلقوا بالا إلى الفروق الموجودة بين مصادرها، على حسب مقاديرها الكبرى أو الصغرى فحسب (وذلك بوصفها جميعا متشابهة في النوع) ويكونون بذلك تصورهم عن «الالتزام»؛ ذلك التصور الذي لا يمكن أن يقال عنه إنه أخلاقي وإن لم يطلب بطبيعته إلا في فلسفة لا تتعرض لمصدر جميع التصورات العملية الممكنة على الإطلاق بالحكم ولا تقرر شيئا عما إذا كانت هذه التصورات توجد بطريقة قبلية أو بطريقة بعدية.
ولما كان في عزمي أن أضع في يوم من الأيام ميتافيزيقا للأخلاق، فإنني أقدم لها بهذا البحث في أصولها. حقا إنه لا يوجد ثمة بحث آخر في أصول ميتافيزيقا الأخلاق إلا نقد العقل العملي الخالص، على نحو ما كان النقد الذي قدمناه للعقل النظري الخالص مبحثا في أصول الميتافيزيقا.
8
غير أن ذلك النقد لا يعادل في ضرورته القصوى هذا النقد الأخير ؛ ذلك لأن العقل الإنساني في مجال الأخلاق، حتى عند أقل الناس حظا من الفهم، يمكن أن يصل في سهولة ويسر إلى درجة عالية من الصواب والإسهاب، بينما هو على العكس من ذلك في الاستعمال النظري الخالص ديالكتيكي
9 (جدلي) بحت. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنني أتطلب بالضرورة من نقد العقل العملي الخالص، إذا ما أريد له أن يكون نقدا كاملا، أن يكون من المستطاع التعبير عن وحدته مع العقل النظري في مبدأ واحد مشترك؛ ذلك أنه لا يمكن أن يكون في نهاية المطاف غير عقل واحد بالذات، لا بد من التمييز فيه بين عقل نظري وآخر عملي عند التطبيق فحسب. وما كان في استطاعتي أن أصل به إلى مثل هذا التمام بغير أن أضيف إليه تأملات أخرى من نوع مختلف عما ذكرته تمام الاختلاف وبغير أن أوقع القارئ في الارتباك. ولكي أتلافى ذلك لجأت إلى تسمية مبحثي «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» بدلا من تسميته بنقد العقل العملي الخالص.
ولما كانت ميتافيزيقا الأخلاق، بغض النظر عن عنوانها المثير للفزع، قادرة من ناحية ثالثة على التمتع بنصيب كبير من الشعبية والملاءمة للفهم العام؛ فقد وجدت من الخير أن أفصل هذا التمهيد للأصول عنها، وذلك لكي يتسنى لي فيما بعد أن أضيف ما دق من مسائلها وما لم يكن بد من التعرض له فيها، إلى المذاهب والآراء التي تستعصي على الفهم.
هذا الكتاب في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق لا يزيد عن كونه محاولة للبحث عن المبدأ الأعلى للأخلاق وتثبيت دعائمه، وهي محاولة تكفي في الهدف المقصود منها لأن تكون عملا متكاملا يمكن الفصل بينه وبين كل مبحث آخر في الأخلاق.
حقا إن مزاعمي التي أسوقها عن هذه المسألة الرئيسية الهامة التي لم يقدر لها حتى الآن أن تعالج معالجة مرضية سوف يتكشف صوابها وتنال حظا كبيرا من التأييد بفضل تطبيق هذا المبدأ الأخلاقي نفسه على المذهب كله وبفضل ما فيها من البساطة التي تتجلى في جميع أجزائها، غير أنني وجدت أن من الواجب علي أن أتخلى عن هذه المزية، التي قد لا تكون في حقيقة الأمر إلا تعبيرا عن الأثرة أكثر من أن تكون دليلا على النفع العام؛ ذلك لأن البساطة التي يطبق بها المبدأ واليسر الذي قد يبدو فيه لا ينهضان دليلا قويا على صحته، بل إنهما قد يوقظان نوعا من التحيز يمنع المرء من أن يمتحنه امتحانا دقيقا من أجل ذاته، وبغض النظر عن نتائجه.
لقد اتبعت في هذا الكتاب منهجا رأيت أنه أنسب المناهج حين يسير الإنسان من المعرفة المشتركة إلى تحديد مبدئها الأعلى بطريقة تحليلية، وحين يعود فيسير بطريقة تركيبية من امتحان هذا المبدأ ومصادره إلى المعرفة العامة التي سيتم تطبيقه عليها،
صفحة غير معروفة
10
وهكذا انقسم الكتاب إلى هذه الأقسام:
القسم الأول:
الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية.
القسم الثاني:
الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق.
القسم الثالث:
الخطوة الأخيرة من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل العملي الخالص.
القسم الأول
الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية
صفحة غير معروفة
من بين الأمور التي يمكن تصورها في هذا العالم، أو خارجه، لا يوجد شيء يمكن عده خيرا على وجه الإطلاق ودون قيد، اللهم إلا شيء واحد، هو: الإرادة الخيرة.
فالفهم، والذكاء، وملكة الحكم
1
وما سواها من مواهب العقل، أيا كان الاسم الذي تتسمى به، أو الشجاعة والتصميم والإصرار على الهدف بوصفها من خصائص المزاج، هي كلها بلا ريب خصائص خيرة خليقة بأن يطمح إليها الإنسان، غير أن هذه الهبات الطبيعية قد تكون سيئة بالغة السوء والضرر إذا لم تكن الإرادة التي عليها أن تستخدمها والتي يطلق على أخص خواصها من أجل هذا السبب اسم «الطبع»
2 [أو الخلق] - إرادة خيرة. ومثل هذا القول ينطبق على هبات الحظ؛ فالقوة، والغنى، والشرف، بل الصحة نفسها والهناء والرضا عن الحال، مما درجنا على تسميته «بالسعادة»، قد يتولد عنها الاعتزاز بالنفس الذي قد ينحرف في أغلب الأحيان فيصير غرورا واختيالا، هذا إن لم تكن ثمة إرادة خيرة تصلح من أثرها على الوجدان وتوجهها نحو غايات وأهداف عامة وتصحح مبدأ السلوك كله، وما بنا حاجة إلى القول بأن الشاهد العاقل غير المتحيز لا يمكن بأية حال أن ترضى نفسه برؤية كائن يتقلب في أعطاف النعيم وقد تعطل عن كل إرادة نقية خيرة. وهكذا يبدو أن الإرادة الخيرة هي الشرط الذي لا غنى عنه لكي يكون الإنسان خليقا بالسعادة.
3
هناك بعض الخصائص التي تسند هذه الإرادة الخيرة وقد تساعد على تيسير عملها مساعدة فعالة، ولكنها مع ذلك لا تحتوي في ذاتها على أية قيمة مطلقة، بل تفترض دائما وجود إرادة أخرى طيبة (سابقة عليها) مما يحد من التقدير العالي الذي نحمله لها بحق في أنفسنا ويجعل من المتعذر علينا أن ننظر إليها نظرتنا إلى إرادة خيرة مطلقة؛ فالاعتدال في العواطف والانفعالات، والسيطرة على النفس، والمقدرة على التدبر المتزن ليست خيرة من كثير من الوجوه فحسب، بل إنها تكون فيما يبدو جزءا من القيمة الباطنة (أو الذاتية) للشخص، غير أنه ينقصها الكثير لكي نعدها خيرة دون تحفظ (وإن كان الأقدمون قد أثنوا عليها ثناء لا مزيد عليه)؛ ذلك لأنها إذا لم تستند إلى المبادئ التي تقدم عليها الإرادة الطيبة فقد يستفحل شرها، وإن دم الشرير البارد لا يجعله أشد خطورة فحسب، بل إنه ليزيد مباشرة من بشاعته في أعيننا أكثر مما كنا سنحكم لو أنه تجرد عنها.
إن الإرادة الخيرة لا تكون خيرة بما تحدثه من أثر أو تحرزه من نجاح، لا ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، بل إنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده؛ أعني أنها خيرة في ذاتها، وأنها إذا نظر إليها في ذاتها فلا بد لنا - بلا وجه للمقارنة - أن نقدرها تقديرا يرتفع بها درجات عن كل ما من شأنه أن يتحقق بوساطتها لمصلحة ميل من الميول أيا كان، لا بل لمصلحة كل الميول مجتمعة. وإذا ما شاءت نقمة الأقدار أو تقتير طبيعة تتسم بصفات الحموات أن تسلب هذه الإرادة كل قدرة على تحقيق أهدافها، وإذا ما عجزت برغم أشق الجهود التي تبذلها عن إدراك أي شيء، ولم يبق إلا الإرادة الخيرة وحدها (لا أريد بهذا بالطبع أن تبقى مجرد رغبة فحسب، بل أقصد أن تكون حشدا لجميع الوسائل الممكنة في طاقتنا) فسوف تلمع بذاتها لمعان الجوهرة، مثل شيء يحتفظ في نفسه بكل قيمته؛ فلا المنفعة تستطيع أن تضيف إلى هذه القيمة شيئا، ولا العقم يمكنه أن ينقص منها في شيء. ولن تزيد المنفعة على أن تكون التغليفة التي تيسر تداول الجوهرة بين الناس، أو تلفت إليها أنظار من لم يعرفوها بعد معرفة كافية، لا لكي توصي بها العارفين أو تحدد قيمة ثمنها.
في هذه الفكرة وحدها عن القيمة المطلقة للإرادة، ودون أن تحسب حساب المنفعة في تقديرنا لها؛ أقول إن في هذه الفكرة نوعا من الغرابة يثير بالضرورة وبالرغم عن التقابل التام بينها وبين الحس المشترك، لونا من الشبهة التي قد تدعو إلى الظن بأنها لا ترتكز إلا على وهم متعال، وأن الطبيعة ربما أسيء فهم قصدها من جعل العقل حاكما على الإرادة. من أجل هذا نريد أن نفحص هذه الفكرة من وجهة النظر هذه.
نحن نسلم، عند النظر إلى التكوين الطبيعي لكائن عضوي، أعني لكائن أعد للحياة، بمبدأ أساسي مؤداه أنه ما من عضو فيه جعل للوفاء بغاية من الغايات إلا وكان أنسب الأعضاء لتحقيق هذه الغاية وأكثرها ملاءمة لها؛ فلو كان الهدف الأساسي الذي تقصد إليه الطبيعة من كائن ذي عقل وذي إرادة أن توفر له «البقاء والهناء» وبالجملة «السعادة»، لكانت قد أساءت الاختيار إذ جعلت عقل هذا المخلوق أداة لتنفيذ غرضها؛ ذلك لأن جميع الأعمال التي ينبغي على هذا الكائن الحي أن يؤديها لتحقيق هذا الغرض وكذلك قاعدة سلوكه بتمامها كانت ترسمها له غريزته على وجه أدق، وذلك الغرض كان سيتحقق بطريقة أضمن مما كان يعجز عنه العقل لو أنه حاول ذلك، ولو أن هذا المخلوق وهب العقل لما نفعه في شيء إلا في نسج تأملات تدور حول الاستعدادات الطبيعية التي وفقه الحظ إليها، والإعجاب بها وتهنئة نفسه بما رزق منها والتعبير عن شكره للعلة التي أنعمت عليه بها، لا في إخضاع ملكة الاشتهاء والرغبة لديه لتلك القيادة الضعيفة المضللة والانحراف بالطبيعة عن قصدها وغايتها، وبالجملة فإنها تكون قد اتخذت الحيطة لتمنع العقل من أن يسير في طريق الاستخدام العملي أو يتجاسر فيحاول، ببصيرته الكلية، أن يضع خطة السعادة والوسائل المؤدية إليها ولعهدت بهما جميعا إلى الغريزة وحدها.
صفحة غير معروفة
والواقع أننا نجد أنه كلما انصرف العقل المستنير إلى تحصيل المتعة في الحياة والسعادة، ابتعد الإنسان عن الرضا الحقيقي. وهذا هو السبب في أن كثيرا من الناس، وبالأخص أولئك الذين حصلوا أكبر قدر من التجربة في ممارسة العقل - هذا إذا توافر لديهم من الإخلاص مما يجعلهم يعترفون بذلك - يتولد لديهم قدر معين من الميزولوجيا،
4
أعني من كراهية العقل؛ ذلك لأنهم بعد أن يحسبوا حساب كل المزايا التي حصلوها، لا أقول من وراء اكتشاف كل فنون الترف الشائع، بل كذلك من العلوم نفسها (التي تبدو لهم في نهاية المطاف وكأنها ترف ذهني) يجدون في حقيقة الأمر أنهم إنما حملوا أنفسهم من التعب والشقاء أضعاف ما جنوه من السعادة، وأنهم يشعرون نحو هذه الفئة الغالبة من الناس، التي تسلم قيادها إلى الغريزة الطبيعية وحدها ولا تسمح للعقل بأن يؤثر تأثيرا كبيرا على ما تأتي وما تدع من أفعال، بلون من الحسد يزيد بكثير عما تضمره لها من تحقير. وهكذا ينبغي علينا أن نعترف بأن حكم أولئك الذين يكفكفون من غلواء المدائح التي تمجد المزايا التي يتعين على العقل أن يحصلها لنا فيما يتعلق بالسعادة والرضا في الحياة، لا بل يضعون من شأنها حتى تصير أقل من لا شيء، لا يصدرون في ذلك عن طبع ساخط بالعناية التي تحكم الكون، بل إن هذا الحكم الذي يذهبون إليه إنما يقوم في حقيقته على فكرة أن الغاية من وجوده أشد اختلافا وأسمى نبلا، وأن العقل إنما يهدف في الحقيقة إلى هذه الغاية خاصة لا إلى تحقيق السعادة، وأن على الإنسان بالتالي أن يخضع في معظم الأحيان مآربه الشخصية لهذه الغاية بوصفها الشرط الأسمى.
5
ولما كان العقل لا يصلح صلاحية كافية لقيادة الإرادة قيادة رشيدة إلى ما تسعى إليه من موضوعات وإلى إرضاء جميع حاجاتنا (التي يعمل هو نفسه على الإكثار منها) وكانت الغريزة الطبيعية المفطورة أقدر منه على تحقيق هذا الغرض، ولما كنا قد أوتينا العقل ملكة عملية، أعني ملكة عليها أن تؤثر أثرها على «الإرادة»؛ فإن مصيره الحق ينبغي أن يتجه إلى بعث إرادة خيرة فينا لا تكون وسيلة لتحقيق غاية من الغايات، بل تكون إرادة خيرة في ذاتها. من أجل هذا كان وجود العقل أمرا تقتضيه الضرورة المطلقة، بينما سارت الطبيعة في كل مجال وزعت فيه استعداداتها الفطرية وفق الغايات التي تسعى إلى تحقيقها. قد لا تكون هذه الإرادة هي الخير الأوحد ولا الخير كله، ولكن ينبغي أن تكون بالضرورة الخير الأسمى والشرط الذي يتوقف عليه كل خير آخر، بما في ذلك النزوع إلى السعادة. في هذه الحالة يكون مما يتفق مع الحكمة التي تتجلى في الطبيعة ما نستطيع أن نلاحظه من أن ثقافة العقل، التي لا غنى عنها لتحقيق الغاية الأولى المطلقة، تحد من وجوه كثيرة من تحقيق الغاية الثانية، المشروطة دائما، ألا وهي السعادة، في هذه الحياة على الأقل، بل لقد ينتهي بها الأمر إلى أن تحيلها إلى لا شيء. والطبيعة في هذا لا تسير سيرها دون غاية؛ ذلك لأن العقل الذي يعرف أن هدفه العملي الأسمى هو إقامة إرادة خيرة، إنما يحس عند بلوغ هذا الهدف بنوع من الرضا الذي يناسب طبيعته، وهو الرضا الذي ينبع عن تحقيق غرض لا يعينه إلا العقل نفسه، وإن ارتبط ذلك بشيء من الضرر الذي يلحق أغراض النوازع النفسية.
ومن أجل أن نتناول تصور الإرادة الخيرة الجديرة في حد ذاتها بأسمى درجة من التقدير، والخيرة بغض النظر عن أي هدف أو غاية تناولا وافيا، على نحو ما نجده كامنا في الفهم الطبيعي السليم، لا يحتاج إلى أن يعلم بل إلى أن يبصر به تبصيرا هينا، هذا التصور الذي يحتل في تقديرنا للقيمة الكاملة لأفعالنا أرفع مكان دائما والذي يكون الشرط الذي لا غنى عنه لكل ما عداه؛ أقول إننا قبل أن نتناوله تناولا وافيا سنفحص تصور الواجب الذي ينطوي على تصور إرادة خيرة وإن اقترن هذا بتحديدات وعوائق ذاتية معينة، نخطئ كثيرا إن قلنا إنها تحجبه أو تشوه منه؛ إذ إنها تتيح له في الحقيقة عن طريق المضاهاة (بينه وبينها) أن يكشف عن نفسه ويتجلى في تمام روعته وصفائه.
6
أدع هنا جانبا كل أفعال السلوك التي عرف عنها أنها منافية للواجب وإن جاز اعتبارها من وجهة النظر هذه أو تلك أفعالا نافعة؛ ذلك لأننا لا نملك على الإطلاق أن نسأل إن كانت قد صدرت عن شعور بالواجب، ما دامت تخالفه مخالفة صريحة. كذلك أدع جانبا الأفعال التي تطابق الواجب مطابقة حقة، ولكن لا يشعر الناس نحوها «بأي ميل» مباشر وإن كانوا يقبلون مع ذلك على ممارستها مدفوعين بميل آخر؛ ذلك أن من السهل علينا في هذه الحالة أن نتبين إن كانت الأفعال المطابقة للواجب قد تمت عن شعور بالواجب أو عن حرص أناني على المصلحة، ولكن سيصعب علينا كثيرا أن نلاحظ هذا الفارق حين يكون الفعل مطابقا للواجب وحين يميل الشخص إليه إلى جانب ذلك ميلا مباشرا.
7
مثال ذلك أنه مما يتفق مع الواجب ألا يرفع التاجر من السعر على عميله غير المجرب، وإن التاجر الفطن ليتحاشى ذلك بالفعل حيثما راج سوق البيع والشراء، بل إنه ليحافظ على سعر ثابت عام للجميع حتى ليستطيع الطفل أن يشتري لديه بنفس الأسعار التي يشتري بها أي إنسان آخر. وإذن فالإنسان هنا يعامله «بأمانة»، غير أن هذه المعاملة الأمينة لا تكفي على الإطلاق لكي تجعلنا نذهب إلى الاعتقاد بأن التاجر قد صدر في مسلكه هذا عن إيمان بالواجب وبمبادئ الأمانة. إن مصلحته قد اقتضت ذلك. ولا يستطيع الإنسان في هذا المقام أن يفترض أنه كان يحمل في نفسه ميلا مباشرا نحو عملائه، بحيث جعلته هذه العاطفة التي يحس بها نحوهم لا يفضل واحدا منهم على الآخر في السعر. وإذن فلم يصدر هذا السلوك لا عن واجب ولا عن ميل مباشر، بل كان الباعث عليه هو المصلحة الذاتية وحدها.
صفحة غير معروفة
وعلى العكس من ذلك، فإن محافظة الإنسان على حياته واجب، وهي بالإضافة إلى هذا أمر يشعر كل واحد منا نحوه بميل مباشر. بيد أن الحرص القلق الذي يخالج معظم الناس على حياتهم لا ينطوي على قيمة ذاتية، والمسلمة التي يقوم عليها لا تحتوي على أي مضمون أخلاقي. إنهم يحافظون حقا على حياتهم «بما يتفق مع الواجب»، ولكنهم لا يفعلون ذلك عن شعور «بالواجب». وعلى العكس من ذلك حين تسلب المنغصات والسخط اليائس كل طعم للحياة، وحين يحس التعيس ذو النفس القوية بالغضب على القدر الذي قسم له أكثر من إحساسه بالهزيمة أو الهوان، فيتمنى لنفسه الموت ويحافظ مع ذلك على الحياة دون أن يحبها، لا عن ميل أو جزع، عندئذ تكون مسلمته ذات مضمون أخلاقي.
الإحسان، حيثما استطاع الإنسان، واجب، وهنالك بعض النفوس التي بلغ بها العطف مبلغا يجعلها تجد المتعة الباطنة في إشاعة السرور حولها واللذة في رضا الغير، طالما كان فعلا من أفعالها، دون أن يدفعها إلى ذلك دافع من غرور أو أثرة. غير أنني أزعم أن مثل هذا الفعل، مع مطابقته للواجب واستحقاقه للثناء، لا ينطوي على قيمة أخلاقية حقيقية، بل يرافق ميولا أخرى ويلازمها، مثال ذلك الميل إلى الشرف الذي إذا أسعده الحظ فصادف ما يتفق في الواقع مع المصلحة العامة ومع الواجب ومع ما يكون بالتالي مجلبة للشرف، فقد استحق الثناء والتشجيع وإن لم يستحق الاحترام والتقدير؛ ذلك أن المسلمة ينقصها المضمون الأخلاقي؛ أعني أن تؤدى هذه الأفعال لا عن ميل بل عن شعور «بالواجب». فإذا فرضنا أن وجدان صديق بني الإنسان هذا لفعته سحب الهموم الذاتية التي تقضي على كل مشاركة وجدانية في أقدار الآخرين، وأنه لا يزال قادرا على تقديم الخير لغيره من المعذبين، وأنه قد شغل بشقائه الشخصي فلم يعد شقاء الآخرين يحرك فيه جارحة، وأنه على هذه الحال التي لا يؤثر عليه فيها ميل يستطيع أن ينزع نفسه من هذا الجمود المميت وأن يؤدي الفعل عن شعور بالواجب فحسب، مجردا عن كل ميل، عندئذ فقط تكون لهذا الفعل قيمته الأخلاقية الأصيلة، بل إنني أزيد على هذا فأقول لو أن الطبيعة وضعت في قلب هذا الإنسان أو ذاك قليلا من المشاركة الوجدانية، ولو كان (وهو الإنسان الأمين) بارد المزاج عديم الاكتراث لآلام غيره من الناس، ربما لأنه هو نفسه قد رزق من الصبر والعزم والثبات ما يواجه به آلامه وما يجعله يفترض وجودها عند غيره من الناس أو على مطالبته بأن يكون لديه مثلها؛ أقول إذا شاءت الطبيعة ألا تجعل مثل هذا الإنسان (الذي لن يكون أسوأ إنتاجها) صديقا محبا للبشر، فهل يعدم مثل هذا الإنسان أن يجد في نفسه المصدر الذي يجعله يعطي نفسه قيمة أعلى بكثير من القيمة التي يمكن أن تكون لمزاج خير بطبيعته؟ بلى! إن القيمة التي نخلعها على الشخصية (الطبع)، وهي القيمة الأخلاقية التي لا يضارعها في سموها قيمة أخرى، تظهر على وجه الخصوص في هذا المجال؛ أعني أن يحسن الإنسان لا عن ميل بل عن شعور بالواجب.
إن تأمين الإنسان لسعادته الذاتية واجب (على الأقل بطريق غير مباشر)؛ ذلك لأن عدم رضا المرء عن حاله، وتزاحم الهموم العديدة عليه، ومعيشته وسط حاجات لم يتم إشباعها قد تكون إغراء قويا له على أن يدوس على واجباته، ولكننا حتى لو صرفنا النظر في هذا المقام عن فكرة الواجب، فسنجد أن الناس جميعا يتملكهم نزوع باطن بالغ القوة نحو السعادة؛ ذلك لأن جميع النزعات تتحد في هذه الفكرة بالذات [أي فكرة السعادة] وحدة كلية. غير أن القاعدة التي توصي بالسعادة تكون في أغلب الأحيان بحيث تلحق ضررا كبيرا ببعض الميول، وبحيث لا يستطيع الإنسان أن يكون لنفسه تصورا محددا ومؤكدا عن المجموع الذي يتألف من إشباع هذه الميول، وهو ما يطلق عليه اسم السعادة؛ ولهذا فليس من العجيب في شيء أن نجد ميلا فريدا محددا بالإضافة إل ما يعد به والوقت الذي ينتظر أن يتم إشباعه فيه، يقع تحت سيطرة فكرة مذبذبة، وأن نجد امرءا ذواقة على سبيل المثال، يقبل بمحض اختياره على الاستمتاع بطعام يستطعمه كما يختار الألم الذي سيترتب عليه من ورائه؛ لأنه في حسابه هنا على الأقل لم يشأ أن يضيع على نفسه متعة اللحظة الراهنة انتظارا لأمل ربما يكون خاطئا عن السعادة التي تكمن في الصحة، ولكن إذا كان الميل العام للسعادة في هذه الحالة أيضا لم يحدد إرادته إذا كانت الصحة لم تبلغ من الأهمية في اعتباره مبلغا يجعله بداخلها بالضرورة في حسابه، فسيبقى في هذه الحالة، كما في كل حالة سواها، قانون يأمره بالعمل على تحصيل سعادته، لا عن ميل، بل عن إحساس بالواجب، وها هنا فحسب تكون لمسلكه قيمة أخلاقية حقة.
بهذا المعنى ينبغي علينا بلا نزاع أن نفهم مواضع الكتاب المقدس التي وصى الإنسان فيها بمحبة جاره، حتى لو كان هذا الجار عدوا لنا؛ ذلك لأن الحب بوصفه ميلا لا يمكن أن يوصى به، أما الإحساس عن إحساس بالواجب المحض، حين لا يكون ثمة ميل على الإطلاق يدفعنا إلى الإقدام عليه، لا بل حين يصدنا عنه نفور طبيعي غلاب، إنما هو حب عملي لا حب انفعالي باثولوجي
8
يقوم على الإرادة لا على نوازع الحساسية، ويستند على مبادئ السلوك لا على مشاركة عاطفية مفرطة، ذلك الحب وحده هو الذي يمكن أن يوصى به.
9
القضية الثانية تقول: الفعل الذي يتم عن إحساس بالواجب لا يستمد قيمته الأخلاقية من «الهدف» الذي يرجى بلوغه من ورائه، بل من المسلمة التي تقرر القيام به وفقا لها، فهي إذن لا تتوقف على واقعية موضوع الفعل، بل تعتمد فحسب على مبدأ الإرادة الذي حدث الفعل بمقتضاه، بصرف النظر عن كل موضوعات الاشتهاء. ويتضح مما تقدم أن الأهداف التي يمكن أن تكون لدينا عند القيام بأفعالنا والآثار التي تنجم عنها، بوصفها غايات ودوافع محركة للإرادة ، لا تستطيع أن تعطي هذه الأفعال أية قيمة مطلقة أو قيمة أخلاقية. أين يمكن إذن أن توجد هذه القيمة، إن لم توجد في الإرادة من حيث علاقتها بالأثر المرجو من وراء تلك الأفعال؟ إن هذه القيمة لا يمكن أن توجد إلا في مبدأ الإرادة بغض النظر عن الغايات التي قد تتحقق عن طريق مثل ذلك الفعل؛ ذلك لأن الإرادة تقع موقعا وسطا بين مبدئها القبلي، وهو شكلي، وبين البواعث البعدية الدافعة إليه، وهي مادية، وكأنها تقع على مفرق الطرق، ولما كان من اللازم أن تتحدد عن طريق شيء ما، فلا بد لها أن تحدد عن طريق المبدأ الشكلي للإرادة بوجه عام، حينما يحدث فعل عن واجب؛ إذ يكون قد نزع عنه كل مبدأ مادي.
أما القضية الثالثة، وهي بمثابة النتيجة المترتبة على القضيتين السالفتين، فأستطيع أن أعبر عنها على النحو التالي: «الواجب هو ضرورة القيام بفعل عن احترام للقانون». حقا إنني قد أجد لدي ميلا للموضوع، بوصفه أثرا من آثار الفعل الذي أنوي الإقدام عليه، ولكنني لن أحمل له احتراما، والسبب في ذلك أنه مجرد أثر للإرادة وليس نشاطا فعالا تقوم به. وبالمثل لا أستطيع أن أحمل للميل بوجه عام، سواء أكان صادرا عني أم عن غيري، أي احترام، وقصارى جهدي أن أحبذه في الحالة الأولى، بل قد أحبه في الحالة الثانية، أعني أنني قد أعده مما يعزز مصلحتي الخاصة. إن ما يرتبط بإرادتي كمبدأ لها فحسب، لا كأثر من آثارها أبدا، لا يخدم ميلي بل يسيطر عليه، أو يستبعد على الأقل من حسابها (أي الإرادة) عند الاختيار. وإذن فالقانون المجرد في ذاته هو وحده الذي يمكن أن يكون موضوعا للاحترام، وبالتالي أمرا أخلاقيا. فإذا كان على فعل من الأفعال تم بباعث من الواجب أن يستبعد كل أثر للعميل ومعه كل موضوع من موضوعات الإرادة فسوف لا يبقى شيء مما يمكن أن يحدد الإرادة إلا أن يكون من الناحية الموضوعية هو «القانون»، ومن الناحية الذاتية الاحترام الخالص لهذا القانون العملي ، وبالتالي لن يبقى إلا المسلمة
10 ⋆
صفحة غير معروفة
التي تأمرني باتباع مثل هذا القانون، حتى لو أدى ذلك إلى التخلي عن جميع النزعات والميول التي أحملها في نفسي.
وهكذا فإن القيمة الأخلاقية للفعل لا تكمن في الأثر الذي ينتظر من ورائه، ولا في أي مبدأ من مبادئ الفعل يحتاج إلى استعارة الباعث عليه من هذا الأثر المنتظر؛ ذلك لأن جميع هذه الآثار المترتبة على الفعل (مثل رضا الإنسان على حاله، بل والعمل على إسعاد الغير) يمكن أيضا أن تنتج عن أسباب أخرى؛ بحيث لا يكون هناك حاجة إلى إرادة كائن حي عاقل، فيها وحدها انجد الخير الأسمى والخير المطلق. من أجل ذلك كان تمثل القانون في ذاته، وهو ما يتم بالطبع عند الكائن العاقل وحده، وجعل هذا التمثل، لا الأثر المتوقع، هو المبدأ المحدد للإرادة؛ أقول من أجل ذلك كان هذا التمثل وحده هو الذي يؤلف ذلك الخير السامي الذي نصفه بأنه أخلاقي، والذي نجده بالفعل حاضرا لدى الشخص الذي يعمل وفقا له ولا يصح لنا أن ننتظره أول ما ننتظر من الأثر الناتج عن فعله.
11 ⋆
ماذا عسى أن يكون هذا القانون الذي لا بد أن يحدد تمثلي له إرادتي، دون التفات إلى الأثر الناجم عنه كما يمكن تسمية هذه الإرادة بأنها خيرة على وجه الإطلاق، ودون أدنى تحفظ؟ لما كنت قد جردت الإرادة من كل الدوافع التي يمكن أن تنبثق فيها نتيجة لإطاعة قانون ما، فلن يتبقى غير الصورة القانونية العامة للأفعال على وجه الإجمال،
12
وهي وحدها التي ينبغي أن تكون مبدأ للإرادة، أي إنه ينبغي علي دائما أن أسلك السلوك الذي يمكنني من أن أريد أن تصبح مسلمتي قانونا كليا عاما. هنا نجد أن مجرد الاتفاق التام مع القانون بوجه عام (دون الاستناد إلى قانون محدد قائم على أفعال معينة) هو مبدأ الإرادة، وهو الذي ينبغي أن يكون مبدأ لها حتى لا يكون الواجب وهما باطلا وفكرة خرافية. إن العقل المشترك بين البشر، في تطبيقه لحكمه العملي، يوافق تمام الموافقة على ما تقدم قوله، ويجعل نصب عينيه دائما المبدأ الذي انتهينا من ذكره.
فلنلق على سبيل المثال هذا السؤال: ألا يجوز لي، حين يشتد الضيق، أن أعد وعدا بينما أبيت النية على عدم الوفاء به؟ إنني أفرق ها هنا في يسر بين المعنيين اللذين يمكن أن يحتملهما السؤال: أعني إن كان من الفطنة أو مما يتفق مع الواجب أن أعد وعدا كاذبا؟ قد يكون من الفطنة بغير نزاع أن ألجأ إلى ذلك في أكثر من مرة. بيد أنني سأجد أنه لا يكفي أن أخرج بنفسي من مأزق راهن بالالتجاء إلى هذه الوسيلة، بل إن علي أن أتدبر الرأي جيدا؛ فقد تسبب لي هذه الكذبة بعد ذلك مضايقات أشد وأعظم من تلك التي أحاول الخلاص منها الآن، ولما كانت النتائج، على الرغم من كل ما أزعمه لنفسي من «دهاء» لا يمكن التكهن بها بسهولة، وكان فقدي لثقة إنسان آخر قد يتجاوز في ضرره كل شر أحاول الآن أن أتحاشاه؛ أقول إن علي أن أسأل نفسي: أليس أبعد من ذلك فطنة أن أجعل مسلكي هنا وفقا لمسلمة عامة وأن أعود نفسي على ألا أبذل وعدا لا أنوي الوفاء به؟ غير أنه سرعان ما يتجلى لي ها هنا أن مثل هذه المسلمة إنما تقوم دائما على النتائج التي أخشى الوقوع فيها. على أن الصدق الذي يصدر عن شعور بالواجب يختلف اختلافا تاما عن الصدق الذي يصدر عن خوف من النتائج الضارة؛ فبينما يحتوي تصور الفعل في ذاته في الحالة الأولى على قانون لي، يكون علي في الحالة الثانية أن أتطلع في جهة أخرى لأتبين أي النتائج يمكن أن ترتبط بالفعل بالنسبة لي؛ ذلك لأنني إن حدت عن مبدأ الواجب، فإنني أكون بذلك قد أقدمت على شر لا مراء فيه أبدا، ولكنني إن خرجت على مسلمتي التي أصدر فيها عن فطنة فقد يعود علي ذلك في بعض الأحوال بفائدة كبيرة، وإن كان التزامي لها بالطبع أدعى إلى مزيد من الأمن والاطمئنان. إن أمضى الوسائل وأبعدها عن الخطأ لتعليم نفسي فيما يتعلق بالإجابة على هذا السؤال: هل الوعد الكاذب يتفق مع الواجب؟ هي أن أسأل نفسي: هل يرضيني أن تصبح مسلمتي (التي تجعلني أخرج من مأزق حرج باللجوء إلى وعد كاذب) قانونا عاما (ينطبق علي كما ينطبق على الآخرين)؟ وهل يمكنني أن أقول لنفسي: يستطيع كل امرئ أن يعد وعدا كاذبا حين يجد نفسه في مأزق لا يعرف وسيلة أخرى للخروج منه؟ إنني إن فعلت ذلك فسرعان ما أدرك أنني قد أريد الكذبة ولكنني لن أستطيع بحال أن أريد قانونا عاما يأمر بالكذب؛ ذلك لأن وجود مثل هذا القانون سيمتنع معه في الحقيقة وجود أي وعد من الوعود؛ إذ سيكون من العبث حينئذ أن أعلن عن إرادتي المتعلقة بأفعالي المقبلة لغيري مع الناس الذين لن يعتقدوا في صدق هذا الإعلان، أو الذين إن آمنوا به متسرعين فسوف يحاسبونني بنفس العملة في المستقبل، مما يترتب عليه أن تهدم مسلمتي نفسها بالضرورة، بمجرد أن يجعل منها قانون عام.
وإذن فالسؤال عما ينبغي علي أن أعمله، كيما يكون فعلي الإرادي خيرا من الوجهة الأخلاقية، لا يحتاج مني للإجابة عليه إلى إرهاف حسي بعيد المدى. يكفيني، وأنا العديم الخبرة عن مجرى الكون، العاجز عن مواجهة كل ما يقع فيه من أحداث، أن أسأل نفسي: هل تستطيع أن تريد لمسلمتك أن تصبح قانونا عاما؟ فإذا كان الجواب بالنفي فإن المسلمة تكون جديرة بأن تطرح جانبا، ولن يكون مرد ذلك في الحقيقة إلى ضرر قد ينجم عنها ويلحق بك أو بغيرك من الناس، بل لأنها لا تصلح أن تكون مبدأ يجد مكانه في تشريع عام ممكن، لكن العقل يجبرني على الاحترام المباشر لمثل هذا التشريع، وهو احترام قد «لا أدرك حقا» في هذه اللحظة علام يستند (وذلك موضوع يمكن الفيلسوف أن يبحثه)، ولكنني أفهم منه على الأقل أنه تقدير للقيمة التي تعلو علوا كبيرا عن قيمة كل ما يمتدحه الميل، وأن ضرورة أفعالي التي أقوم بها عن احترام «خالص» للقانون العملي هي ما يؤلف الواجب، وهو الذي لا بد لكل دافع من أن يفسح له المكان؛ لأنه شرط الإرادة الخيرة «في ذاتها»، التي ترتفع قيمتها فوق كل شيء.
بهذا نكون قد توصلنا في المعرفة الأخلاقية للعقل الإنساني المشترك
13
صفحة غير معروفة
إلى مبدئها، وهو مبدأ لا تفكر فيه حقا في شكل كلي عام على حدة، وإن كانت تجعله في الواقع دائما نصب عينيها وتحتاج إليه قاعدة لأحكامها. ومن السهل علينا أن نبين كيف أنها بهذه البوصلة التي تضعها في يدها تستطيع في كل ما يعرض لها من حالات أن تميز تمييزا تاما بين ما هو خير وبين ما هو شر، بين ما يتفق مع الواجب وبين ما يتنافى معه، هذا إذا تمكنا - دون حاجة إلى أن نعلمها شيئا على الإطلاق - من توجيه انتباهها، كما فعل سقراط،
14
إلى مبدئها، وأن نبين أن الإنسان ليس في حاجة إلى علم ولا فلسفة لكي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل لكي يكون أمينا وخيرا، لا بل ليكون حكيما وفاضلا. ويستطيع المرء أن يفترض هنا سلفا أن المعرفة بما ينبغي على الإنسان أن يفعل وبما عليه بالتالي أن يعرف يجب أن تكون أمرا يخص كل إنسان، ولو كان من أعم عامتهم. وهنا لا يستطيع الإنسان أن يملك نفسه من الإعجاب إذ يرى كيف أن ملكه الحكم العملية في الفهم الإنساني المشترك تتقدم على ملكة الحكم النظري فيه؛ فحين يخاطر العقل العام في استخدامه لملكة الحكم الأخيرة وينأى بنفسه عن قوانين التجربة ومدركات الحواس فإنه يقع وقوعا ظاهريا في معميات وتناقضات مع نفسه، ويتردى على الأقل في عماء من البلبلة والغموض والاضطراب.
15
أما في المجال العملي، فإن ملكة الحكم تبدأ في إظهار مزاياها عندما يستبعد الفهم المشترك كل الدوافع الحسية من القوانين العملية، بل إنه [أي الفهم المشترك] سيعمد عندئذ إلى التدقيق في أحكامه، إما لأنه يريد أن يحاسب ضميره وبعض مطالبه فيبالغ في الحساب فيما يتعلق بما ينبغي أن يعد خيرا، وإما لأنه يريد أن يحدد قيمة الأفعال تحديدا تاما بما يعود عليه هو نفسه بالفائدة. وأهم من ذلك كله أنه يستطيع في الحالة الأخيرة أن يبث في نفسه الأمل بأنه سيوفق من ذلك إلى مثل ما قد يرجو الفيلسوف أن يوفق إليه، بل لقد يكون اطمئنانه من هذه الناحية أشد من اطمئنان الفيلسوف؛ ذلك لأن هذا الأخير لا يملك مبدأ آخر غير المبدأ الذي لديه، ولكنه قد يتعرض في سهولة إلى إفساد حكمه بمجموعة من الاعتبارات الغريبة التي لا تتصل بصميم الموضوع وإلى الزيغ به عن الاتجاه المستقيم. أليس أدنى للصواب إذن أن نقف في الأمور الأخلاقية عند حكم العقل المشترك وألا نلجأ إلى الفلسفة إلا في أقصى الحالات لنجعل نظام الأخلاق أتم وأوضح، ونبسط القواعد المتعلقة به بطريقة تجعلها أكثر صلاحية للاستعمال (وأكثر من ذلك صلاحية للمناقشة) لا لكي نحيد بالفهم الإنساني المشترك، حتى من وجهة النظر العملية، عن بساطته السعيدة، أو نسلك به عن طريق الفلسفة طريقا جديدا في البحث والتعليم؟
إن البراءة شيء رائع حقا، غير أنه مما يدعو للأسف أنها لا تحسن المحافظة على نفسها وأنها تتعرض بسهولة للمغريات؛ ولذلك كانت الحكمة نفسها - وهي التي تكمن فيما يأتي الإنسان وما يدع من أفعال أكثر مما تكمن في المعرفة - في حاجة إلى العلم، لا لكي تتزود منه، بل لكي تضمن لأوامرها الذيوع والاستمرار. إن الإنسان عندما يواجه كل أوامر الواجب التي يصورها له العقل جديرة بكل إكبار يحس في نفسه مقاومة شديدة تتمثل في حاجاته وميوله التي يتلخص إشباعها جميعا لديه في كلمة السعادة. ثم يصدر العقل أوامره في إصرار غير متنازل للنزعات عن شيء، وفي نفس الوقت بنوع من الإغضاء من شأن تلك المطامح المتهورة التي تبدو في ظاهرها مشروعة والتحقير منها (والتي لا يكاد يفلح أمر ما في إبطالها).
من ذلك «يتولد ديالكتيك طبيعي»، أو نزعة إلى مغالطة قوانين الواجب المحكمة بالباطل، والتشكيك في صلاحيتها أو على الأقل في نقائها وإحكامها، وجعلها ملائمة ما أمكن لرغباتنا وميولنا؛ أي إفسادها من أساسها والقضاء على كل ما لها من جدارة؛ الأمر الذي لا يستطيع العقل العملي في نهاية المطاف أن يحبذه.
وهكذا يدفع «العقل الإنساني المشترك»، لا عن حاجة إلى التأمل النظري (لا تعتريه أبدا ما بقي مكتفيا بكونه عقلا سليما) بل عن دوافع عملية بحتة، إلى الخروج من دائرته والسير خطوة في حقل «فلسفة عملية»، لكي يحصل هناك على معلومات وتوجيهات واضحة تتعلق بمصدر مبدئها وبالتحديد السليم لهذا المبدأ، ومعارضة المسلمات التي تقوم على الحاجة والميل، حتى يتيسر له أن ينتزع نفسه من المطامح المتعارضة التي تواجهه من كل الجانبين، ولا يخاطر بإضاعة كل المبادئ الأخلاقية الأصيلة عن طريق اشتراك المعنى
16
الذي يمكن أن يقع فيها بسهولة. وهكذا ينشأ في استعمال العقل العملي المشترك، عندما يهذب نفسه، ودون أن يلاحظ ذلك، «ديالكتيك» يجبره على أن يلتمس العون من الفلسفة، تماما كما يحدث له في الاستعمال النظري، ولن يتيسر له لا في الحالة الأولى ولا في الحالة الثانية أن يجد الراحة إن لم يجدها في نقد واف لعقلنا.
صفحة غير معروفة
القسم الثاني
الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق
إذا كنا حتى الآن قد استخلصنا تصورنا عن الواجب من الاستعمال المألوف لعقلنا العملي، فلا ينبغي أن نستنتج من ذلك أننا تناولناه تناول تصور تجريبي.
1
بل الأولى من ذلك أننا نلاقي، حين ننتبه إلى تجربة ما يأتيه الناس وما يدعون من ألوان السلوك، شكاوى كثيرة، وباعترافنا نحن عادلة، من أن المرء لا يستطيع أن يسوق أمثلة مؤكدة عن نية السلوك عن شعور بالواجب، وأنه إن تكن هناك بعض الأفعال التي تحدث بما يتفق وما يأمر به الواجب، فإن ذلك لا يمنع من الشك فيما إذا كانت قد حدثت حقا عن شعور بالواجب، وفيما إذا كانت تحتوي تبعا لذلك على قيمة أخلاقية.
2
ولذلك وجد في جميع الأزمان فلاسفة أنكروا حقيقة هذه النية في الأفعال الإنسانية إنكارا تاما ونسبوا كل شيء إلى الأثرة المتفاوتة الحدة، ولكن ذلك لم يجعلهم يرتابون في صحة التصور الأخلاقي، بل لقد تحدثوا والحزن يملؤ أفئدتهم عن ضعف الطبيعة البشرية وعدم صفائها، هذه الطبيعة البشرية التي تبلغ حقا من النبل مبلغا يجعلها تضع فكرة كهذه جديرة بالاحترام قاعدة ترتكز عليها، كما يجعلها في الوقت نفسه تبلغ من الضعف مبلغا يجعلها تعجز عن اتباعها، فلا تستعمل العقل، الذي كان ينبغي أن يشرع لها القوانين، إلا لكي يهتم بتحقيق ميولها، سواء أخذت هذه الميول مفردة، أو أخذت على أفضل تقدير في مجموعها، بالتقريب بين بعضها والبعض ما أمكن ذلك.
والواقع أنه يستحيل استحالة مطلقة أن نجد عن طريق التجربة وبيقين تام حالة واحدة قامت فيها مسلمة فعل من الأفعال متفق مع الواجب، على مبادئ أخلاقية وعلى تصور للواجب فحسب؛ فقد يتفق لنا حقا في بعض الأحيان، برغم الامتحان الأدق لأنفسنا، ألا نجد شيئا على الإطلاق كان يمكن أن يبلغ من القوة مبلغا يدفعنا معه إلى إتيان هذا الفعل الخير أو ذاك أو على الإقدام على هذه التضحية الكبيرة أو تلك دون أن يصدر عن المبدأ الأخلاقي للواجب. غير أننا لا نستطيع أن نستنتج من ذلك بما لا يدفع الشك أنه لم يكن هناك حقا دافع خفي من دوافع الأثرة، تستر تحت سراب تلك الفكرة وكان هو العلة الحقيقية التي عينت الإرادة وأننا نشاء إلا أن نملق أنفسنا بدافع أكثر نبلا ندعيه لأنفسنا زورا بينما نحن في الواقع لا نستطيع أبدا، لو امتحنا أنفسنا في سبيل ذلك أشق امتحان، أن نصل إلى الدوافع المستترة. ومرد ذلك إلى أننا حين نكون بصدد الكلام عن القيمة الأخلاقية، لا نهتم بالأفعال التي يراها الإنسان، بل بالمبادئ الباطنة التي قامت عليها والتي لا يمكن الإنسان أن يراها.
إن الذين يسخرون من الأخلاق كلها كما لو كانت محض خرافة نسجها الخيال الإنساني الذي يتجاوز حدود نفسه بالغرور، لا يمكن أن يسدي إليهم الإنسان خدمة أكثر موافقة لهواهم من التسليم لهم بأن تصورات الواجب (بمثل ما يحلو للإنسان، طلبا للراحة، أن يقنع نفسه بأن الأمر كذلك بالنسبة لسائر التصورات) يجب أن تستنبط من التجربة وحدها ؛ فبهذا الاعتراف يتيح لهم الإنسان نصرا محققا.
3
صفحة غير معروفة
أريد أن أسلم، بدافع من المحبة للإنسان، أن معظم أفعالنا تتفق مع الواجب، غير أن الإنسان حين ينظر عن كثب إلى ما تنطوي عليه وما تهدف إليه، فإنه يصطدم في كل مكان بالنفس العزيزة التي تطل دائما برأسها وعليها تستند مقاصد هذه الأفعال، لا على الأمر الصارم للواجب، الذي كثيرا ما يتطلب من الإنسان إنكار الذات، ولا يحتاج المرء إلى أن يكون بالضرورة عدوا للفضيلة، بل يكتفي أن يكون مراقبا موضوعي النظرة،
4 ⋆
لا يأخذ الرغبة الجارفة إلى الخير من فوره مأخذ الخير الحقيقي؛ أقول لا يحتاج الإنسان إلى ذلك لكي يتسنى له (وبالأخص حين تتقدم به السن ويكتسب ملكة الحكم التي أنضجتها التجربة وزادت الملاحظة من حدتها) في لحظات معينة أن يراوده الشك فيما إذا كانت هناك بالفعل فضيلة حقة في هذا العالم. وهنا لا يستطيع شيء أن يقينا من السقطة التامة عن أفكارنا عن الواجب ويحفظ في نفوسنا الاحترام المتين لقانونه إن لم يكن ذلك هو الاقتناع الواضح بأنه، حتى لو لم توجد أبدا أفعال انبثقت من هذه المنابع الصافية، فإن الأمر هنا لا يدور بحال من الأحوال حول ما إذا كان هذا الفعل أو ذاك قد حدث، بل يتعلق بأن العقل بذاته، مستقلا عن كل الظواهر، يأمر بما ينبغي أن يحدث وأن هناك بالتالي أفعالا لعل العالم لم يضرب لها أدنى مثال حتى هذه اللحظة ولعله أن يشك كل الشك في إمكان القيام بها ويبني كل شيء على التجربة، ومع ذلك فهي أفعال أمر بها العقل أمرا لا رجعة فيه، وأن الوفاء الخالص في الصداقة على سبيل المثال أمر لا ينفك كل إنسان مطالبا به حتى لو لم يوجد على ظهر الأرض حتى الآن صديق وفي واحد؛ ذلك لأن هذا الواجب بما هو واجب على الإطلاق متضمن قبل كل تجربة في فكرة العقل الذي يحدد الإرادة عن طريق مبادئ أولية.
فإذا أضفنا إلى هذا أننا إذا أردنا ألا نجرد تصور الأخلاق من كل صدق ومن كل علاقة بموضوع من الموضوعات الممكنة، فإننا لا نستطيع أن ننازع في أن قانونه يبلغ في دلالته من الاتساع ما يحتم صلاحيته لا بالنسبة للناس وحدهم، بل بالنسبة لكل كائن عاقل على الإطلاق ولا تحت شروط عرضية وباستثناءات معينة فحسب، بل صلاحية ضرورية مطلقة، ومن هذا يتضح أنه ما من تجربة على الإطلاق يمكنها أن تسمح لنا حتى بمجرد استنتاج مثل هذه القوانين الضرورية؛ إذ بأي حق يمكننا أن نضع موضع الاحترام المطلق ونجعل قاعدة عامة لكل طبيعة عاقلة شيئا ربما لا يصح إلا تحت الشروط العرضية للإنسانية؟ وكيف يتسنى لنا أن نعد القوانين التي تحدد «إرادتنا»، قوانين لتحديد إرادة الكائن العاقل على الإطلاق، وألا نعدها قوانين صالحة لنا حتى تكون كذلك، إن كانت قوانين تجريبية فقط ولم تكن قوانين قبلية محضة تنبع عن عقل خالص ولكنه عملي؟
وليس في مقدور الإنسان فضلا عن ذلك أن يسيء إلى الأخلاق إساءة أبلغ من محاولة استخلاصها من أمثلة تجريبية؛ ذلك لأن كل مثل يقدم لي عنها ينبغي أن يحكم عليه هو نفسه قبل ذلك وفقا لمبادئ الأخلاق، لكي نتبين إن كان جديرا بأن يعد مثلا أصيلا؛ أعني أنموذجا، ولكن من المحال عليه أن يعطينا بادئ ذي بدء تصور الأخلاق. إن قديس الإنجيل نفسه ينبغي أن يقارن بالمثال الذي لدينا عن الكمال الخلقي قبل أن نصفه بأنه كذلك،
5
وفضلا عن ذلك فإنه يقول عن نفسه: كيف تدعونني (وأنا الذي ترونه) خيرا؟ لا أحد خير (أنموذج للخير) سوى الله الواحد (الذي لا ترونه). ولكن من أين لنا بتصور الله بوصفه الخير الأسمى؟
6
إنه لم يأتنا إلا من الفكرة التي يرسمها العقل قبليا عن الكمال الخلقي ويربطها بتصور إرادة حرة ربطا لا انفصام له. إن المحاكاة لا مكان لها في مجال الأخلاق، والأمثلة تفيد في الحفز والتشجيع فحسب؛ أي إنها تخرج إمكان القيام بتنفيذ ما يأمر به القانون من دائرة الشك، إنها تقرب للعيان ما تعبر عنه القاعدة العملية تعبيرا عاما ولكنها لا يمكن أن تبرر أبدا أن يطرح الأصل الحقيقي، الذي يستقر في العقل، جانبا ويهتدي المرء بالأمثلة.
فإذا صح القول بعدم وجود مبدأ أعلى أصيل للأخلاق يقوم بالضرورة على العقل الخالص وحده مستقلا عن كل تجربة؛ فإنني أعتقد أنه لن يكون هناك ما يدعو حتى للسؤال عما إذا كان من الخير أن نعرض هذه التصورات عرضا عاما (مجردا) على نحو ما هي موجودة قبليا مع جملة المبادئ المتصلة بها، على فرض أن المعرفة (الجديرة بهذه الكلمة) ينبغي أن تفترق عن المعرفة المشتركة وأن تحمل اسم المعرفة الفلسفية، ولكن يبدو أن هذا السؤال لا غنى عنه في زماننا هذا؛ ذلك لأننا إن جمعنا الأصوات لنعرف ما يقف منها في صف المعرفة العقلية الخالصة النقية من كل تجربة، وبالتالي ميتافيزيقا الآيين.
صفحة غير معروفة
7 ⋆
وما يختار منها الفلسفة العملية الشعبية، فإننا سرعان ما نخمن أي الكفتين هي الراجحة في الميزان.
إن الهبوط إلى التصورات الشعبية أمر محمود حقا، إذا تيسر قبل ذلك أن نرتفع إلى مبادئ العقل الخالص ونبلغ من ذلك مبلغا يرضينا إرضاء تاما. ومعنى هذا أن «نؤسس» مذهب الأخلاق أولا على الميتافيزيقا فإذا رسخ بنيانها عمدنا بعد ذلك إلى تيسيرها بالتناول الشعبي. أما أن نسمح بذلك منذ البحث الأول، الذي تتوقف عليه صحة المبادئ، فأمر بالغ الخلف والاستحالة. إن الأمر لا يقتصر على أن هذه العملة لن تستطيع أن تزعم لنفسها شرف فلسفة شعبية حقيقية فحسب، وهو شرف نادر عزيز المنال؛ إذ ليس من الفن في شيء أن يكون الإنسان مفهوما لعامة الناس حين يضحي بكل عمق في التفكير، بل إنه لن ينتج عنها غير خليط يثير الاشمئزاز، خليط من الملاحظات التي التقطت باليمين والشمال ومن مبادئ أنصاف العقول، يرتع فيه أصحاب العقول الضحلة، وينعمون؛ لأنهم يحتاجون إليه في هذرهم اليومي، ولا يجد فيه ذوو البصيرة إلا الاضطراب الذي لا يملكون في سخطهم عليه وعجزهم مع ذلك عن حماية أنفسهم منه إلا أن يحولوا أعينهم عنه، وإذا كان هناك فلاسفة ينفذون بأبصارهم خلال هذا السراب الخادع، فإنهم لا يجدون مع ذلك من يصغى السمع إليهم إلا قليلا، حين يحذرون بعض الوقت من الشعبية المزعومة ويتبينون ألا يتسنى للإنسان أن يكون شعبيا بحق حتى يحصل أنظارا معينة ويصل إلى آراء محددة.
حسب الإنسان أن يتأمل المحاولات التي وضعت في الأخلاق وفقا لذلك الذوق المفضل، وسرعان ما سيجد القدر الخاص للطبيعة الإنسانية (وكذلك بين حين وآخر فكرة طبيعة عاقلة على الإجمال) توصف تارة بالكمال وتارة أخرى بالسعادة، وتسمى هنا عاطفة أخلاقية وهناك مخافة الله، من هذا شيء ومن ذلك شيء آخر، والكل في خليط عجيب، دون أن يخطر للإنسان أن يسأل نفسه إن كان عليه أن يبحث في المعرفة بالطبيعة الإنسانية (التي لا نستطيع أن نستمدها إلا من التجربة وحدها) عن مبادئ الأخلاق، وحين لا يجد أن الأمر كذلك، وأن هذه المبادئ قبلية بحتة، خالصة من كل عنصر تجريبي، وأنه لا يمكن أن نجدها أو نجد أقل جزء منها إلا في تصورات العقل الخالصة لا في أي موضع آخر، عندئذ لا يخطر له أن يصمم على أن يعزل هذا المبحث عزلا تاما بوصفه فلسفة عملية بحتة أو (إذا جاز لنا أن نستعمل اسما ساءت سمعته) بوصفه ميتافيزيقا
8 ⋆
أخلاق، فيصل بها، مستقلة بذاتها، إلى أقصى درجات تمامها وأن يسأل الجمهور، الذي يطالب بالتناول الشعبي، الصبر إلى نهاية هذه المهمة.
ولكن ميتافيزيقا الأخلاق هذه، المستقلة استقلالا تاما، والتي لا تختلط بالأنثروبولوجيا [بعلم الإنسان] ولا باللاهوت، لا بالفزياء ولا بما فوق الفزياء،
9
وأقل من ذلك اختلاطها بالخواص الخفية (التي يمكن أن نسميها تحت الفزيائية)؛ أقول إن هذه الميتافيزيقا ليست فحسب مقوما لا غنى عنه لكل معرفة نظرية للواجبات محددة تحديدا أكيدا، بل هي كذلك في الوقت نفسه أمر مرغوب فيه على أقصى درجة من الأهمية لأجل إتمام تعليماتها إتماما فعليا؛ ذلك لأن تصور الواجب والقانون الأخلاقي بوجه عام تصورا خالصا غير مختلط بأية إضافة غريبة عن عوامل الإثارة التجريبية، له على القلب الإنساني، عن طريق العقل وحده (الذي يدرك عندئذ لأول مرة أنه بذاته يمكن أيضا أن يكون عقلا عمليا) من الأثر ما يفوق في قوته كثيرا سائر الدوافع
10 ⋆
صفحة غير معروفة
التي يمكن الإنسان أن يستمدها من حقل التجربة. إنه في وعيه بكرامته ليحتقر هذه الدوافع ويتمكن شيئا فشيئا من السيطرة عليها، وفي مقابل ذلك نجد أن مذهبا مختلطا في الأخلاق، يتألف من دوافع مختلفة من العواطف والميول وفي الوقت نفسه من تصورات عقلية، لا بد أن يجعل الوجدان يتذبذب بين دوافع لا تندرج تحت مبدأ من المبادئ قد يمكن بالمصادفة البحتة أن تؤدي إلى الخير وقد تقود في معظم الأحيان إلى الشر.
يتبين مما سبق بوضوح أن مقر جميع التصورات الأخلاقية ومصدرها قائمان بطريقة قبلية خالصة في العقل، سواء في ذلك العقل الإنساني المشترك والعقل التأملي المجرد الذي بلغ أقصى درجات التأمل والتجريد،
11
وأنه لا يمكن استخلاصها [أي التصورات الأخلاقية] من أية معرفة تجريبية هي لهذا السبب معرفة عارضة، وأن في صفاء منشئها تكمن جدارتها التي تجعلها صالحة لأن تكون أسمى المبادئ العملية التي نهتدي بهديها، وأننا في كل مرة نضيف إليها عنصرا تجريبيا إنما نسلبها بالمقدار نفسه أثرها الأصيل ونجرد الأفعال من قيمتها المطلقة، وأن الأمر لا يقتصر على أن يكون ضرورة قصوى تتطلبها الناحية النظرية فحسب، حين نكون بصدد التأمل المجرد، بل إن من أهم الأمور من الناحية العملية أن تستقي تصوراتها وقوانينها من منبع العقل الخالص، وأن نقدمها نقية خالصة غير مختلطة بشيء، بل نزيد على ذلك فنحدد مدى هذه المعرفة العقلية العملية التي هي مع ذلك معرفة خالصة، أي كل طاقة العقل العملي،
12
وأن نتحاشى بذلك أن نجعل المبادئ متوقفة على الطبيعة الخاصة للعقل الإنساني،
13
وذلك بقدر ما تسمح به الفلسفة التأملية، وما قد تجد في بعض الأحيان أنه أمر ضروري لا غنى عنه، [وأن نجعل في اعتبارنا] أنه لما كان ينبغي للقوانين الأخلاقية أن تكون صالحة لكل كائن عاقل على الإطلاق، فإن من الواجب أن نستنبط من التصور «الكلي» للكائن العاقل بوجه عام ، وأن نجعل كل أخلاق تكون في حاجة إلى علم الأنثروبولوجيا لتطبيقها على بني الإنسان، أول ما نجعلها مستقلة عن هذا العلم الأخير استقلالا تاما، على أساس أنها فلسفة خالصة؛ أي ميتافيزيقا (الأمر الذي يسهل صنعه في هذا النوع من المعرفة النقية من كل خليط نقاء تاما) موقنين ونحن نفعل ذلك أن من العبث، إذا لم تكن لدينا مثل هذه الميتافيزيقا، لا أقول أن نحدد على وجه الدقة للحكم التأملي العنصر الأخلاقي للواجب في كل ما يطابق الواجب، بل إنه سيكون من المستحيل، حتى في مجال الاستعمال العملي الشائع المشترك، وبالأخص فيما يتصل بالتعليمات الخلقية، أن نؤسس الأخلاق على مبادئها الحقة ونوجد بذلك طبائع أخلاقية خالصة ونبثها في الضمائر لتحفزها على السعي إلى أقصى خير ممكن في هذا العالم.
بيد أنه لكي نخطو في هذا البحث لا من الحكم الأخلاقي المشترك (الذي يستحق هنا كل نقد) إلى الحكم الفلسفي، كما حدث في موضع آخر من هذا الكتاب،
14
صفحة غير معروفة