والمعنى الذي يحرص الصوفية على إبرازه هو أنه ليس للعبد أن يعتقد أنه يكتسب بمجاهدته النجاة والهداية، أو ينظر إلى أفعال الطاعة باعتبارها أمورا توجب على الله الإثابة عليها كما ذهب إليه المعتزلة، بل الواجب عليه أن ينظر إلى واهب الهداية المتفضل بها، وهو الله، وموقف الإنسان من ربه في هذا الصدد أشبه بموقف المملوك من سيده، فإن المملوك إذا أمره سيده بأمر أطاعه فكافأه سيده، لا يقال إن المكافأة جزاء اكتسبه المملوك بطاعته، فإنه مكلف بالطاعة على أية حال كافأه سديه أم لم يكافئه، بل يقال إن المكافأة هبة وهبها السيد تفضلا منها ، وإن بدت في ظاهرها جزاء على الطاعة لاقترانها بها.
وللهجويري حل آخر لهذه المسألة، وهو أن الخلاف في الرأيين خلاف في ظاهر التعبير فحسب، فإن كلا من الطرفين - في نظره - ينظر إلى الحقيقة من جانب. فطائفة تقول: «من جد وجد»، وطائفة تقول: «من وجد جد» والحقيقة أن الجد سببب الوجود، كما أن الوجود سبب الجد، وإذن يستوي في هذه الحالة أن نقول إن المجاهدة في سبيل الله سبب الهداية، وأن نقول إن الهداية سبب المجاهدة في الله. كما نقول إن التوفيق الإلهي سبب طاعة العبد، أو نقول إن طاعة العبد سبب توفيق الله إياه. (1) الأساس النظري للمجاهدة
بنى الصوفية نظامهم في المجاهدة على نظرية في طبيعة الإنسان استمدوا بعض عناصرها من القرآن، والبعض الآخر مما عرفوه من الفلسفة اليونانية وبخاصة فلسفة أفلاطون وأرسطو، وقد عقد كل من القشيري والهجويري فصلا خاصا يشرح فيه ماهية الإنسان وما فيه من القوى المتعارضة التي تعمل مجتمعة على تشكيل سلوكه الخلقي، وبالتالي سلوكه الديني؛ إذ السلوك الخلقي عند الصوفية فرع عن السلوك الديني، وتهذيب الأخلاق شرط أساسي في تقويم العبادات والاعتقادات على السواء.
بحث الصوفية في ماهية النفس كما بحث فيها الفلاسفة، وكانوا متأثرين في بحثهم بعقيدة راسخة ربما استمدوها من المذهب الثنوي الفارسي، وهي أن في الإنسان طبيعتين متناقضتين، تجذبه إحداهما إلى أعلى وتشد به الأخرى إلى أسفل، تدعوه الأولى إلى الخير وتدفعه الأخرى إلى الشر، ترتفع به الأولى إلى مستوى الملائكة وتهبط به الثانية إلى مستوى البهائم، وهما أشبه بمبدأي النور والظلمة أو مبدأي العقل والمادة.
ولكي يحكم السالك طريق سلوكه لا بد له من معرفة هذين المبدأين أو هاتين الطبيعتين، أو بعبارة أخرى لا بد له من معرفة نفسه، فإنه بمقدار ما يعرف الإنسان من نفسه تكون معرفته بربه وبالعالم الذي يحيط به، كما يكون نجاحه أو إخفاقه في معترك الحياة الخلقية والسلوك الصوفي، ولكن ما هي «النفس» التي يتكلم عنها الصوفية ويقولون بضرورة معرفتها ومجاهدتها؟ أما وظيفة النفس فيجمعون على أنها مبدأ الشر في الإنسان، أو هي على حد قولهم «مصدر الأوصاف المعلولة والأخلاق والأفعال المذمومة.» أما الأوصاف المعلولة فهي ما يكسبه الإنسان من المعاصي والمخالفات المنهي عنها شرعا نهي تحريم، وأما الأخلاق المذمومة فهي طبائع النفس التي جبلت عليها كالكبر والغضب والحقد والحسد وقلة الاحتمال، وأشدها جميعا وأصعبها مراسا وأخطرها: توهمها أن شيئا منها حسن.
هذا وصف عام لوظيفة النفس ومظاهرها عند الصوفية. أما حقيقتها فيختلفون فيها، فيذهب بعضهم إلى أنها «جوهر» في البدن قائم به كما تقوم الروح، ويرى بعضهم أنها عرض قائم بالبدن كما تقوم به الحياة، وعلى الرغم من وصفهم النفس بأنها «لطيفة» مودعة بالبدن، تغلب المادية على تصورهم لها حتى لنكاد نحس أنهم يقصدون بها الجسم نفسه وإن كانوا لا يقولون بهذا صراحة، وأقصى ما بلغوا من التجريد في وصفها هو قولهم أنها مبدأ الشر في الإنسان ومصدر الدوافع والشهوات الجسمية فيه.
أما الروح فلا جدال في وصفهم إياها باللطافة واللامادية، وبأنها مبدأ «مفارق» مستقل عن البدن لا يفنى بفنائه، وهي الجانب الإلهي في الإنسان ومركز المعرفة والشهود فيه.
ويطالب الصوفية بضرورة معرفة النفس ويعدون ذلك شرطا أساسيا في طريقتهم لسببين: أولهما أن دراسة النفس توقف الإنسان على غوائلها ورغباتها ومخالفاتها، وفي ذلك عون للعبد على مقاومتها والنجاح في محاربتها، فإن من عرف مواطن الضعف من عدوه كان أقوى على مقاومته والظفر عليه، والطبيب الذي يعلم مواطن الضعف وأسباب المرض أقوى على علاج مرضاه، وإزالة الأسباب في أمراض النفوس حائل منيع دون ظهور الأمراض. فمعرفة النفس بهذا المعنى خير طريق لتطهيرها، والصوفي الذي يجاهد نفسه على هذا النحو يزيل العوائق التي تعترض سبيله وتحول دون الوصول إلى غايته.
إن المجاهدة على حد تعبير الصوفية، هي رفع الحجب الكثيفة التي تقوم بين العبد وربه؛ إذ كل عمل للنفس وكل خاطر لها حجاب يستر الحق عن عين العبد، وكما أن الإنسان يوم القيامة لا بد له من أن ينجو من النار قبل أن يدخل الجنة، كذلك هو في هذه الدنيا يجب أن يتخلص من جحيم النفس قبل أن تصح له الإرادة ويتحقق بمقام القرب من الله كما يقول الهجويري.
والسبب الثاني: أن معرفة النفس تؤدي إلى معرفة الله كما قال رسول الله
صفحة غير معروفة