تصدير
مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه
التصوف والفلسفة
التجربة الصوفية
الوعي الصوفي
أصل كلمتي صوفي ومتصوف وتعريفاتهما
تعريفات التصوف والصوفي
نشأة التصوف الإسلامي والعوامل التي أثرت فيه
النظريات التي قيلت في أصل التصوف
العوامل التي ساعدت على نشأة الزهد في الإسلام
مصادر التصوف الإسلامي
أدوار التصوف ومدارسه
الثورة الروحية في التصوف
طريقة استنباط معاني القرآن
الحقيقة والشريعة
الطريقة والحقيقة
الطريقة ومجاهدة النفس
ثورة الصوفية على علم الكلام والفلسفة
ثورة التصوف في مجال التوحيد
التوحيد والفناء الصوفي
وحدة الشهود ووحدة الوجود
وحدة الوجود في مذهب ابن عربي
وحدة الوجود والتجربة الصوفية
ثورة التصوف في مجال الحب الإلهي
المحبة الإلهية في التصوف البحت
النظريات الفلسفية في المحبة الإلهية
المحبة الإلهية والأخلاق الصوفية
المحبة الإلهية والمعرفة
لغة الحب الإلهي وأسلوبها الرمزي
ثورة التصوف في مجال المعرفة
ثورة التصوف في مجال الذكر
الذكر وأحوال الجذب والإشراق
الحياة الصوفية في ظل المرشدين وأصحاب الفرق
المشاهدة والإشراق
الولاية في التصوف الإسلامي
خاتم الأولياء
مراجع
تصدير
مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه
التصوف والفلسفة
التجربة الصوفية
الوعي الصوفي
أصل كلمتي صوفي ومتصوف وتعريفاتهما
تعريفات التصوف والصوفي
نشأة التصوف الإسلامي والعوامل التي أثرت فيه
النظريات التي قيلت في أصل التصوف
العوامل التي ساعدت على نشأة الزهد في الإسلام
مصادر التصوف الإسلامي
أدوار التصوف ومدارسه
الثورة الروحية في التصوف
طريقة استنباط معاني القرآن
الحقيقة والشريعة
الطريقة والحقيقة
الطريقة ومجاهدة النفس
ثورة الصوفية على علم الكلام والفلسفة
ثورة التصوف في مجال التوحيد
التوحيد والفناء الصوفي
وحدة الشهود ووحدة الوجود
وحدة الوجود في مذهب ابن عربي
وحدة الوجود والتجربة الصوفية
ثورة التصوف في مجال الحب الإلهي
المحبة الإلهية في التصوف البحت
النظريات الفلسفية في المحبة الإلهية
المحبة الإلهية والأخلاق الصوفية
المحبة الإلهية والمعرفة
لغة الحب الإلهي وأسلوبها الرمزي
ثورة التصوف في مجال المعرفة
ثورة التصوف في مجال الذكر
الذكر وأحوال الجذب والإشراق
الحياة الصوفية في ظل المرشدين وأصحاب الفرق
المشاهدة والإشراق
الولاية في التصوف الإسلامي
خاتم الأولياء
مراجع
التصوف
التصوف
الثورة الروحية في الإسلام
تأليف
أبو العلا عفيفي
تصدير
منذ زمن بعيد وأنا أعمل في ميدان الفلسفة الإسلامية قارئا أو كاتبا أو محاضرا، أسجل ما عن لي من ملاحظات على التيارات الفكرية والروحية التي اضطرب بها ذلك الخضم العظيم، وأرقب الجهود المتنوعة التي بذلها كبار المفكرين والروحانيين الإسلاميين في سبيل التوفيق بين دينهم والعناصر الثقافية المتعددة التي تسربت إليه.
وقد صحبت خلال هذه الحقبة الطويلة أنواعا مختلفة من المفكرين الإسلاميين كما صحبت الصوفية المتفلسفين منهم وغير المتفلسفين: وعرفت منهم من له أصالة وابتكار وتجديد، ومن جمد على التقليد لا يتعداه، كما عرفت منهم المخلص الصادق، والدخيل الزائف، وظهر لي ذلك الميدان الواسع في صورة معرض عام تعرض فيه الآراء والنظريات والاتجاهات بشتى أنواعها.
ولكني لم أر جزءا من أجزاء هذا الميدان الفلسفي الروحي أكثر خصبا وإشراقا، ولا أعمق تأثيرا في توجيه الحياة الروحية في الإسلام؛ من التصوف الذي يلتقي فيه هذا الدين مع غيره من الديانات العالمية الكبرى.
وليس لباحث في دين من الأديان أن يقول الكلمة الفاصلة فيه معتمدا على أصوله ونصوصه الأولى وحدها، بل لا بد له - وهو يرسم الصورة الشاملة لهذا الدين - من أن يجمع في صورته هذه بين الأصول والنصوص وبين التفسيرات والتأويلات التي وضعها عليها كبار رجال هذا الدين الذين قضوا حياتهم في ظله وأسهموا في توجيهه وتطوره، وكانوا مراكز فعل وانفعال في البيئات المختلفة التي انتشر فيها؛ ولهذا اختلفت الصور وتعددت للدين الواحد، تبعا لاختلاف وتعدد المرايا التي تنعكس عليها جهود هؤلاء المفسرين والمئولين، وقد خضع الإسلام في تاريخه الطويل لما خضعت له الأديان العالمية الكبرى من ضروب الدرس والفهم والتفسير والتأويل، وظهرت فيه - بفضل ذلك - اتجاهات ونظريات في العقائد والعبادات والمعاملات بنيت عليها مذاهب في الفلسفة والفقه، ومدارس في الكلام والتصوف، وبين هذه المذاهب والمدارس ما بينها من التعارض والتناقض أحيانا. فالفلاسفة لهم تصورهم الخاص للعالم وللدين والألوهية، والصلة بين الله والعالم، وللفقهاء نظرتهم الخاصة إلى العبادات والمعاملات، والصلة بين العبد وربه، وبين الناس بعضهم مع بعض.
وللمتكلمين فهمم الخاص لأمهات العقائد الإيمانية وطرق الدفاع عنها، وللصوفية موقفهم الخاص من هذه المسائل جميعا، ولا تختلف كل واحدة من هذه الطوائف عن غيرها من الطوائف الأخرى وحسب، بل يختلف أفراد كل طائفة فيما بينهم: فإن الفلاسفة ليسوا سواء، والمتكلمون والصوفية ليسوا بمثابة واحدة، وإن كانت هنالك خصائص عامة في المنزع والمنهج يتفق فيها أفراد كل طائفة.
ولكن الجميع ينتمون إلى الإسلام ويتكلمون باسمه ويصورون الإسلام لغيرهم كما تصوروه هم أنفسهم، وهم في كل هذا مجتهدون، إن أخطئوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران، ومن حقهم علينا أن ندين لهم بالفضل والشكر وأن نحاول أن نتفهم آراءهم وندرك مراميهم ونضعهم في سجل التراث الفكري الإسلامي أولا، والتراث الفكري العالمي بعد ذلك، وألا نسارع فنتهم هذا بالكفر وذلك بالزندقة وثالثا بالابتداع لا لسبب سوى أنه قال بمقالة خالف فيها «الأشعري» إذا كان متكلما أو قال بما قال به «ابن سينا» إذا كان فيلسوفا، فإن الرمي بالكفر والإلحاد والزندقة - إلا في حالة من تقطع الأدلة بثبوت كفره أو إلحاده أو زندقته - سلاح العاجز الجاهل الذي يسيء إلى دينه وإلى المسلمين أكثر مما يحسن إليه وإليهم.
والحقيقة أنه ليس في فهم مسائل الدين وتأويلها ما يصح أن نسميه صادقا أو كاذبا، ما دام قائما على أساس من الكتاب والسنة، وما دام المتأول لا يخرج بالنص عن المعاني التي جرى بها العرف في اللسان العربي. بل أقصى ما يجب أن توصف به تأويلات المتأولين هو أنها حرفية ضيقة، أو متحررة واسعة، أو أنها أكثر عمقا في الروحانية أو أنسب لموضوعها وهكذا، وإلا فأي الفهمين صواب وأيهما خطأ في تفسير قوله تعالى:
يد الله فوق أيديهم
وقوله:
الرحمن على العرش استوى : فهم «اليد» بمعنى اليد، والاستواء بمعنى الجلوس، والعرش بمعنى سرير الملك، أم فهم اليد بمعنى القدرة أو النعمة، والاستواء بمعنى الاستيلاء، والعرش بمعنى الملك؟ وأي الرأيين خطأ وأيهما صواب في مسألة خلق القرآن وقدمه، أهو القول بأنه مخلوق لأنه مؤلف من ألفاظ وحروف، أم القول بأنه قديم لأنه كلام الله وكلام الله صفة قديمة؟ وأي التعريفين صواب وأيهما خطأ: «الصلاة أفعال وأقوال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم» كما يقول الفقهاء، أو «الصلاة مناجاة قلبية بين العبد والرب» كما يقول الصوفية؟ وأي النظرين صادق وأيهما كاذب: النظر إلى الله باعتباره معبودا، أم النظر إليه باعتباره محبوبا أولا ومعبودا ثانيا؛ لأن العبادة فرع المحبة؟
المسألة إذن ليست مسألة صدق وكذب، أو صواب وخطأ، بل هي مسألة عمق أو ضحالة في درجة الروحانية التي تظهر في فهم الإسلام وتعاليمه كما نراهما مفصلين في التراث العقلي والروحي الذي خلفه المسلمون. •••
ولما كان التصوف في نظري أروع صفحة تتجلى فيها روحانية الإسلام، وتفسيرا عميقا لهذا الدين فيه إشباع للعاطفة وتغذية للقلب، في مقابلة التفسير العقلي الجاف الذي وضعه المتكلمون والفلاسفة، والتفسير الصوري القاصر الذي وضعه الفقهاء، كتبت هذه الصفحات لأبرز فيها بعض معالم الصورة التي يتلخص فيها موقف الصوفية من الدين والله والعالم: ذلك الموقف الذي رضيه الصوفية واطمأنوا إليه وطالبوا به أنفسهم ولم يطالبوا به غيرهم، وسميت هذا الموقف «الثورة الروحية في الإسلام» لأن التصوف كان انقلابا عارما على الأوضاع والمفاهيم الإسلامية كما حددها الفقهاء والمتكلمون والفلاسفة، وهو الذي بث في تعاليم الإسلام روحا جديدة أدرك مغزاها من أدركه، وأساء فهمها من أساءه.
ولست أدعي أنني عالجت في هذه الصفحات التصوف برمته من ناحية موضوعاته أو تاريخه، فإنني لم أتجاوز في العرض متصوفة القرن السابع إلا قليلا، ولم أذكر شيئا عن الطرق الصوفية ومشايخها، وكان معظمهم من كبار الروحانيين، وذلك لأني لا أرى في تصوفهم الكثير مما زادوا فيه على الصوفية السابقين عليهم، ولم أعرض للنواحي التاريخية المتصلة بترجمات الصوفية إلا في أضيق الحدود. أما تفاصيل سيرهم فقد أغفلتها إغفالا تاما.
ولم أذكر من الصوفية إلا من كانت لهم صلة بالمسائل التي أثرتها وناقشتها، ولكني كنت حريصا أن أذكر أكبر عدد من كبار المشايخ في القرنين الثالث والرابع اللذين يمثلان التصوف الإسلامي البحت في أرقى مظاهره وأصفاها؛ ولذا جاء الجزء الأكبر من مادة الكتاب متصلا بتصوف هؤلاء أكثر من اتصاله بغيرهم.
وبعد، فهذه محاولة لفهم التصوف وحياة الصوفية في الإسلام كما استطعت أن أستجلبها من أقوالهم، وعرض عام للصورة التي يظهر فيها اختلافهم عن غيرهم من طوائف طالبي الحقيقة كما يسميهم الغزالي، في فهمهم لهذه الحقيقة ومنهجهم في الوصول إليها، وقد يذهب بعض الباحثين إلى غير ما ذهبت إليه من تأويل لبعض أقوال الصوفية أو تخريج لها أو تعليق عليها أو في استخلاص هذه النظرية أو تلك منها، فقد ذكرت من قبل أن باب الاجتهاد في هذا النحو من البحث لا يزال مفتوحا، وإنني أرحب بالمعارضة ولا أرى فيها بأسا ما دامت حجج المعارض نزيهة قوية سليمة مدعمة بالأسانيد، والتدعيم بالأسانيد المستمدة من القرآن والحديث وأقوال الصوفية أنفسهم كان ألزم ما التزمناه في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه
التصوف ظاهرة عالمية
من الناس أفراد يتمثل فيهم النضج العقلي والروحي في أعلى مراتبه، أو قل تتمثل فيهم الإنسانية في أعلى مراتبها وأطوارها إذا اعتبرنا جوهر الإنسان وحقيقته عقله وروحه، وقد اختلفت الأسماء التي أطلقت على هؤلاء الأفراد في العصور المختلفة، ولكنهم جميعا يدخلون تحت مقولة عامة هي التي نسميها «الإنسان الكامل»، ومهما تكن المظاهر المختلفة التي يظهر فيها نضجهم الروحي، والوسائل المتباينة التي يتخذونها في التعبير عنه، بل مهما يكن من اختلافهم فيما يختلف فيه أفراد الناس عامة من حيث المشارب والنزعات والبيئة واللغة والدين، فإنهم يشتركون جميعا في صفة واحدة عامة تتمثل في موقفهم من الوجود وحقيقته: ذلك أن لكل إنسان - بما هو إنسان - موقفا خاصا من حقيقة الوجود، أو فلسفة خاصة في طبيعة الوجود، أدرك ذلك من نفسه أم لم يدركه، وعرف أن له من أجل ذلك فلسفة في الحياة أم لم يعرف. ذلك الموقف الواحد العام الذي يشترك فيه هؤلاء القوم الذين نتحدث عنهم يتلخص في أنهم ينكرون إنكارا باتا أن «الحقيقة» هي ذلك العالم الواقع المحسوس؛ لأن الواقع المحسوس الذي يتشبث به غيرهم ممن هم أقل منهم نضجا في العقل والروح ويكادون يقدسونه، لا يشبع في طائفتنا نزعاتهم الروحية العالية، ولا يروي فيهم غلة الشوق إلى معرفة «الحقيقة» المجردة التي تصبو نفوسهم إلى معرفتها والاتصال بها. فهم يحاولون - على حد قول خصومهم - أن ينكروا الوجود لكي يصلوا إلى الوجود؛ أي ينكروا الوجود الظاهر لكي يصلوا إلى حقيقة الوجود.
نجد هؤلاء القوم في الشرق والغرب، في العالم القديم والمتوسط والحديث بين أهل الديانات الوثنية القديمة وأهل الديانات السماوية، وكأنهم جميعا صبوا من حيث روحانيتهم في قالب واحد، واستمدوا تلك الروحانية من نبع واحد، بل كأن قبسا من نور غير نور هذا العالم يسري في كيانهم، وينير السبيل أمامهم لنيل مطلبهم، وهذه الظاهرة طالما استرعت أنظار القدماء وأشارت إليها مذاهب اللاهوت بأساليب مختلفة. ففلاسفة اليهود - وعلى رأسهم فيلون الإسكندري - يرون أن مصدر الوحي والنبوة واحد في جميع العصور هو ما أطلقوا عليه اسم «الكلمة الإلهية»، وكلمنت أحد كبار رجال اللاهوت المسيحي يصف «الكلمة الإلهية» (المسيح) بأنها القوة العاقلة التي كانت في الوجود قبل أن تتجسد في الصورة الناسوتية (صورة المسيح) وأنها مصدر الحياة والوجود في الكون، كما أنها مصدر الوحي والإلهام والمعرفة، وأنها هي التي تكلمت بلسان موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء، ونطقت بلسان فلاسفة اليونان وأوحت إليهم بحكمتهم، ويصف بعض متصوفة المسلمين كابن عربي «الحقيقة المحمدية» بمثل ما وصف به فيلون وكلمنت «الكلمة الإلهية»، فيعدها منبع الفيض الروحي والعلم الباطن، وكذلك يتصور الشيعة انتقال العلم الباطن بواسطة نوع من الوراثة الروحية عن أصل واحد.
فإن دلت هذه الآراء على شيء فإنما تدل على اقتناع قائليها بأن ثمة طائفة من الظواهر الروحية فوق الطور البشري العادي، وأنها متفقة في خصائصها ومميزاتها، ثم رد هذه الظواهر إلى أصل واحد يظهر في كل من أفراد «الإنسان الكامل» بحسب ما توحي به بيئته ودينه وثقافته، كأن هؤلاء الأفراد الذي يلهمون ويوحى إليهم ويتصلون بعالم الحقيقة عن طريق الوحي والإلهام، فرد واحد يتجدد ظهوره مع دورات الزمن، أو كأنهم روح واحدة تتقمص في كل زمان صورة جديدة من صور «الإنسان الكامل».
من هذا الصنف الملهم المتصل بالعالم الروحي طائفة الصوفية، لا صوفية الإسلام فحسب، بل صوفية كل دين. أما الهدف الذي يهدفون إليه ويكرسون حياتهم له، فهو الوصول إلى الحقيقة، أو الاتصال بها عن طريق حالة روحية خاصة يدركونها فيها إدراكا ذوقيا مباشرا. في هذا المطلب تتمثل الحياة عندهم ومن أجله يبذلون كل عزيز لديهم بما في ذلك أرواحهم، ولسنا بحاجة إلى ذكر أمثلة من تاريخ الاضطهاد الديني الذي لاقى فيه أولئك الذين حملوا الشعلة المقدسة ضروب العنت والاضطهاد من معاصريهم، بل لاقوا حتفهم شنقا أو صلبا أو إحراقا، فإن تاريخ الإنسانية حافل بالكثير من هذه الأمثلة.
أما الدليل القاطع على صدق نزعتهم فاستمساكهم بمبادئهم وتشبثهم برسالاتهم رغم أساليب الاضطهاد والتعذيب والسخرية، وأمام عواصف الإنذار والتهديد، وإن تلمسنا دليلا آخر على صدقهم، فاتفاقهم في غاياتهم وأساليبهم رغم اختلاف ديارهم وأجناسهم وأديانهم، وفيما أثر عنهم من التجارب الروحية التي تختلف في تفاصيلها وأشكالها وصورها، وتتفق في جوهرها ونتائجها، دليل ثالث لا بد لنا من تقدير وزنه قبل أن نقول الكلمة الفاصلة عن النشاط الروحي عند الإنسان وصلته بذلك العالم غير المادي وغير المحسوس.
والواقع أن كل إنسان قد أحب يوما ما ذلك «الوجود المحجوب» الذي يطلقون عليه اسم «الحقيقة»؛ ذلك لأن الحقيقة شيء أولع الإنسان بالاهتداء إليه منذ أن بدأ يفكر في نفسه وفي العالم المحيط به ليتعرف أسبابه وأسراره ومبدأه ومصيره، ولكن هذا الحب المتأصل في النفس الإنسانية، الذي من شأنه أن يدفع بصاحبه نحو البحث عن الحقيقة لمعرفتها والاتصال بها - كما تدفعه غريزة الجوع دفعا إلى البحث عن الطعام - قد تعوقه العوائق عن الوصول إلى غايته فيضعف أو يموت، ولكنه إن مات في بعض النفوس فقد يظل يضطرب في نفوس أخرى مع اختلاف أصحابها اختلافا بينا في طرق حبهم للحقيقة، وفي المجالي التي يشاهدونها فيها. فقد يرى بعضهم الحقيقة على نحو ما رأى «دانتي» الشاعر الإيطالي محبوبته «بياترس» شيئا يمت إلى هذا العالم بصلة، ولكنه يكشف لنا عن عالم آخر، وقد يراها الشاعر في حلمه الشعري، والمتدين الورع في محرابه، والصوفي في قلبه، ورجل الفن في جمال الكون وهكذا.
ولكن مهما اختلفت الأساليب التي عبر بها طلاب الحقيقة، ومهما تباينت الأسماء التي يسمونها بها، فإن الصوفية وحدهم هم الذين يذكرون صراحة أنهم شاهدوها وجها لوجه واتصلوا بها، وفي دعواهم هذه نغمة من اليقين وصدق الإيمان. أما غيرهم - في نظرهم - فقد أخفقوا وباءوا بالفشل.
والبحث عن حقيقة لا مادية ولا متغيرة، وأزلية غير حادثة، وواحدة غير متكثرة، قديم قدم الفلسفة، بل قدم العقل الإنساني؛ ذلك أن العالم المحسوس حافل بالظواهر المتكثرة المتغيرة، وطالب الحقيقة المطلقة يطلبها واحدة غير متكثرة، وثابتة غير متغيرة، والعالم المحسوس حافل بالأحداث المعلولة، وطالب الحقيقة يطلبها غنية في ذاتها غير معلولة لغيرها، والعالم المحسوس متناه محدود بحدود الزمان والمكان، وطالب الحقيقة يطلبها وجودا لا متناهيا خارجا عن حدود الزمان والمكان؛ لهذا كله تجاوز العقل البشري في طلبه للحقيقة كل مقولات العالم المحسوس، وأخذ نفسه بالبحث عن عالم آخر يستطيع أن يطبق عليه مقولات مضادة، وظهر ذلك التجاوز عن العالم المحسوس في جميع أدوار تطور الفكر البشري من غير استثناء، واتخذ لنفسه صورا شتى كانت بدائية في أول الأمر، ثم رقت وتعقدت بمرور الزمن وتطور الحضارة وتعقدها، وكان منها الفلسفي والديني كما كان منها الصوفي ذو النزعة الدينية.
التصوف والفلسفة
من بين الأساليب المتعددة التي حاولت الإنسانية أن تشبع بها رغبتها في معرفة «الحقيقة» أسلوبان هامان لا يزالان يتنازعان قصب السبق في مضمار الحياة الروحية وما يكتنفها من أسرار، وهما أسلوبا الفلسفة والتصوف.
وإذا كان غرضنا أن نرسم صورة لمعراج النفس نحو هدفها الأعلى ونبين - على الأقل - بعض الطرق التي سلكها رواد الحقيقة للوصول إليها، كان لزاما علينا أن نوضح الفروق الجوهرية التي يتميز بها كل من التصوف والفلسفة، والوسائل التي اصطنعاها في الوصول إلى غايتهما المشتركة، والأدوات النفسية التي اتخذاها عمادا لهما في تحقيق غرضهما، ثم نقدر بعد كل هذا النتائج التي حصلها الفلاسفة والصوفية بهذه الأدوات والوسائل ليتبين لنا مدى قرب كل من الفريقين أو بعده من الهدف الذي نصب نفسه للوصول إليه، ولكن هذه مسائل يحتاج تفصيلها إلى كتاب برمته؛ ولهذا سنلجأ في عرضها هنا إلى الإيجاز وسنقصر همنا على معالجة النواحي التي تكفي في بيان أن المعراج الروحي الحقيقي إلى عالم الحقيقة هو المعراج الصوفي لا الفلسفي.
التصوف في جوهره «حال» أو «تجربة روحية» خاصة يعانيها الصوفي، ولتلك الحال من الصفات والخصائص ما يكفي في تمييزها عن غيرها مما تعانيه النفس الإنسانية من أحوال أخرى، وفي هذا القدر وحده ما يكفي للقول بأن التصوف ليس فلسفة إذا قصدنا بالفلسفة البحث العقلي النظري في طبيعة الوجود بقصد الوصول إلى نظرية عامة خالية من التناقض عن حقيقته أو حقيقة أي جزء من أجزائه، وليس للصوفي - من حيث هو صوفي - أن يتفلسف بأن يتخذ من تجربته الروحية أساسا لنظرية ميتافيزيقية في طبيعة الوجود؛ لأن النظرية الميتافيزيقية «دعوى» يقال لها إنها صادقة أو كاذبة ويطالب صاحبها بالدليل على صدقها وسلامتها من التناقض، فينبغي ألا يكون أساسها «تجربة» شخصية أو «حالا» معينة يعانيها فرد بعينه؛ لأن مثل هذه الحال لا يقال فيها إنها صادقة أو كاذبة ولا يطالب صاحبها بإقامة الدليل عليها، بل الناس في أمره بين شيئين؛ إما أن يصدقوا ما يخبرهم به أو يضربوا بكلامه عرض الحائط.
ولكن بعض الفلاسفة كانوا متصوفة أيضا كأفلاطون وأفلوطين من القدماء وأسبنوزا من المحدثين، وبعض الصوفية كابن عربي والسهروردي الحلبي وابن سبعين، هل نذهب في تعليل ذلك إلى ما ذهب إليه بعض النقاد من أن أمثال هؤلاء الفلاسفة المتصوفين والصوفية المتفلسفين كان لهم بالفطرة «مزاج أفلاطوني»: أي مزاج فلسفي شعري، وأن تصوفهم كان نتيجة لتفاعل ذلك المزاج مع الدين؟ أم نذهب إلى عكس ذلك؛ أي إلى أن مزاجهم - مزاجهم الأفلاطوني - كان نتيجة للتفاعل بين نزعتين فيهم؛ إحداهما عقلية والأخرى صوفية؛ وعلى الرأي الأول يكون تصوفهم نتيجة لعمل فلسفي خاص في الدين، وهو المزاج الذي يسمونه بالمزاج الأفلاطوني، وعلى الثاني تكون فلسفة المتصوفة نتيجة لمحاولة العقل تفسير التجربة الصوفية وما تكشفه لصاحبها من الحقائق، ويلزم من هذا أن التجربة الصوفية سابقة في وجودها على حركة العقل التفسيرية هذه، ونحن أميل إلى الأخذ بالرأي الثاني؛ لأنه تؤيده الوقائع التاريخية المستخلصة من حياة الصوفية أنفسهم: وضع أفلوطين فلسفة عقلية أولا، فلما تصوف تجاوز حدود هذه الفلسفة وحاول أن يخضع فلسفته لتصوفه لا تصوفه لفلسفته؛ أي حاول أن يجعل من تصوفه تأييدا لفلسفته ومن فلسفته تفسيرا لما شاهده في «حاله»، وكذلك فعل ابن عربي، وكذلك رأى الغزالي أن «العلم» وحده لا يجعل من العالم صوفيا، وأن جميع ما حصله من العلوم - بما في ذلك علم التصوف نفسه - لا يغني فتيلا في تحصيل حالات الصوفية والوصول إلى معارفهم، وأنه - لكي يتذوق مذاق القوم - لا بد أن يسلك طريقهم ويجاهد مجاهداتهم، وفي هذا يقول في الصوفية بعد أن درس كتبهم ووقف على أقوالهم:
وظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم «الإنسان» حال الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان، وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكران. فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا. فعلمت يقينا أنهم (أي الصوفية) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلت ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك.
1
هذه شهادة صريحة من الغزالي بأن التصوف في صميمه «تجربة روحية» وأنه شيء مختلف تمام الاختلاف عن العلم وعن الفلسفة: لا يكتسب بهما ولا يستند إليهما، وأنه ليس نتيجة لعمل مزاج فلسفي خاص في المسائل الدينية؛ أي ليس وليدا لعمل عقل ذي مزاج فلسفي خاص هو «المزاج الأفلاطوني» على حد تعبيرهم، بل هو وليد العمل والمجاهدة النفسية، أو السلوك المرسوم في الطريق الصوفي. فإذا كان للصوفي فلسفة كانت هذه الفلسفة تأييدا لمشاهداته الصوفية وتجاربه وليست شيئا مستقلا عنها. هذا إذن فرق جوهري وأساسي بين طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة من حيث هما طريقان لمعرفة الوجود المطلق أو الوجود الحق. هذا عالم وذلك عالم آخر. التصوف تجربة تتجه فيها «الإرادة» الإنسانية نحو موضوعها الذي تتعشقه وتفنى فيه، فتعرفه النفس عن طريق الاتحاد به معرفة ذوقية كما سبق أن قلنا، وكما سنوضحه في الفصل الذي عقدناه في المعرفة الصوفية. فالصوفي يعرف «المطلق» اللامتناهي بقدر ما يتجلى له ذلك المطلق في قلبه، ومعرفته له وشهوده إياه واتحاده به شيء واحد، أو هي تعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة. أما الفلسفة فعمل من أعمال العقل المقيد بمقولاته، العاجز عن أن يتحرر من الحبالات التي نصبها حول نفسه؛ ليتخبط فيها ولا يرى لنفسه خلاصا منها. يحاول الفيلسوف إدراك اللامتناهي بأدوات لا تعرف إلا المقيد المتناهي، ويطبق مقولات هذا العالم على عالم ليس من طبيعته الخضوع لهذه المقولات. هذا هو السر في فشل «ما بعد الطبيعة» كما أدركه الفيلسوف «كانت». •••
ينفرد التصوف من بين جميع الأساليب التي حاول الإنسان أن يشبع بها رغبته في معرفة الحقيقة بأنه لا يفترض وجود «حقيقة مطلقة» وحسب، بل حقيقة مطلقة يمكن معرفتها والاتصال بها، فهو ينكر أن المعرفة الإنسانية قاصرة على معطيات الحس أو على نتائج أساليب الفكر، أو على تكشف ما ينطوي عليه العقل من معلومات، فإن هذا تحديد لمدى النشاط الروحي عند الإنسان، وتخطيط ناقص لميدان الحياة الروحية؛ ولهذا وجب أن نتلمس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطقهم، في ذلك القبس الإلهي الذي ينير صدورهم، وفي ذلك الشهود الذي يتحدثون عنه والمعرفة التي يتذوقونها: لا أقول التي يدركونها عقلا أو التي يستطيعون التعبير عنها، فإن الإدراك العقلي والقدرة على التعبير من أعمال العقل، ونحن بإزاء أمور فوق طور العقل.
في الحياة الصوفية وحدها يعرف الصوفي الحقيقية الوجودية في ذاتها، كما يعرف صلته بها ؛ لأنه يحمل قبسا من نورها في قلبه، وشبيه الشيء منجذب إليه، والفرع دائم الحنين إلى أصله، وبينما يهيم الفيلسوف في ميدان العقل لا يبرحه، يتجاوز الصوفي ميدان العقل إلى ميدان الوجدان والإرادة أو ميدان الحرية المطلقة، وبينما يظل الأول يدور في دائرته المغلقة يناقش ويجادل ويعترض ويفترض، ولا يصل - إن وصل - إلا إلى فكرة عن الحقيقة لا حياة فيها ولا روح، حقيقة صورية محضة لا تتصل بنفسه بصلة، يحيا الثاني حياة روحية خصبة يشعر فيها بالسعادة العظمى، لا من جراء معرفته بالحقيقة فحسب، بل من أجل اتصاله بها وشعوره بالاتحاد معها، وهنا ينطق بلغته الخاصة محاولا التعبير عما في نفسه، وإن كان أكثر ما ينطق به من قبيل الرمز الحائر والأسلوب الغامض الذي لا يفهمه إلا من تذوق أحواله، وفي هذا يقول قائلهم في لهجة المطمئن الواثق: «ذق مذاق القوم ثم انظر ماذا ترى. إن علومنا ذوقية محضة وعلينا أن ندلك على الطريق وليس علينا إدراك النتائج. قد أتيناك فاعلين لا قائلين ولا مفكرين، فدع عنك ثقتك العمياء في الحس والعقل ودع عنك غفلتك، واعلم أن الفلسفة إن علمتك شيئا فقد علمتك نهاية الشوط الذي تستطيع أن تجري فيه في ميدان العقل، ولكنها لا تخبرك بشيء عن الميادين الأخرى التي في استطاعتك أن تجري فيها.» هذا تعبير آخر عن نفس المعاني التي ضمنها الغزالي عبارته التي اقتبسناها آنفا.
التجربة الصوفية
إن المحور الذي يدور حوله بحث الباحثين في الحياة الصوفية هو «التجربة الصوفية» التي أطلق عليها الصوفية أنفسهم اسم «الحال» ووصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يتصل فيها العبد بربه، أو يتصل فيها المتناهي باللامتناهي، كما وصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يحصل لهم فيها الإشراق، ويفيض عليهم فيها العلم الذوقي، وليست هذه الحال من أحوال العقل الواعي، وإلا كانت خاضعة للعقل وقوانينه، وإنما هي حالة من حالات الوجود الباطن المتحفز للإعلان عن نفسه في كل ضروب النشاط الروحي. بعبارة أخرى هي حال من أحوال «الإرادة» بمعنى مطلق النزوع لا بمعنى الاختيار ، واتصال الإرادة المتناهية بالإرادة اللامتناهية، وانمحاؤها فيها هو ما عبر عنه الصوفية تعبيرا دقيقا باسم الفناء في الله.
وقد اعتبر صوفية المسلمين الإرادة - لا العقل - جوهر الإلهية، كما اعتبروا الإرادة - لا العقل - جوهر الإنسان. فالإرادة عندهم نقطة الابتداء من جهة، ونقطة الانتهاء من جهة أخرى؛ إذ بالإرادة وحدها يثبتون وجودهم وعن طريق الإرادة وحدها يتصلون بمطلوبهم أو يصلون إلى مطلوبهم وهو الله. فالصوفي لا يقول كما قال ديكارت: «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود.» بل يقول: «أنا أريد، وإذن فأنا موجود.» ولكن إرادته - في نظره - ليست على الحقيقة الإرادة الإنسانية المتناهية، بل الإرادة الإلهية المطلقة؛ لأنه فان في الله، متحقق (في حاله) بوحدته الذاتية معه، يرى كل ما يجري في نفسه وفي الكون الذي حوله مظهرا من مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله ولا مريد في الحقيقة إلا هو.
بل إن «المعرفة» التي أطلق عليها متصوفة المسلمين اسم «الذوق» ليست هي الأخرى عملا من أعمال العقل الواعي ولا مظهرا من مظاهره، بل هي مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، مظهر من مظاهر الاتصال الروحي الذي هو أشبه بالاتصال البدني؛ ولهذا لا تخضع المعرفة الذوقية لمقولات العقل ولغته ومنطقه، بل لها لغتها الخاصة ومنطقها، والصوفية لا يترددون في القول بأن العقل ومقولاته حجب كثيفة تحول بين الإنسان وعالم الحقيقة، وأنه لا بد لمن ينشد المعرفة الذوقية الخالصة من أن يتجرد عن العقل وأساليبه وحيله ويتحقق بمقام الإرادة الصرفة. يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه «فصوص الحكم» في شرح هذه المسألة:
فمن أراد العثور على هذه الحكمة، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ويكن حيوانا مطلقا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين. فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته، وعلامته علامتان: الواحدة هذا الكشف، والعلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد النطق بما رآه لم يقدر.
1
وليس المراد بالتحقق بالحيوانية سوى التحقق بالإرادة؛ إذ الإرادة (بمعنى مطلق النزوع) هي أهم صفات الحيوان؛ فابن عربي لا يعارض القدماء في اعتبار «النطق» فصلا منوعا للإنسان يميزه عما عداه من أنواع الحيوان المشتركة معه في الجنس، ولكنه يأبى أن يعتبر العلم الذوقي وليد تلك القوة الخاصة (قوة النطق) في الإنسان، بل على العكس من ذلك يعتبر قوة الإرادة - التي يرمز لها بالحيوانية - مصدر ذلك العلم وأداته. ثم إنه يشير بعد ذلك إلى علامتين هامتين من العلامات الأربع التي عدها ويليم جيمس مميزات للتجربة الصوفية: أعني حالة القابلية الصرفة
Absolute Passivity
وحالة الخرس
Ineffability ، والحالة الأولى هي التي يسميها ابن عربي حالة الكشف؛ لأن الكشف حالة قابلية محضة لا أثر للفعل فيها. على أنه لا يقصد بالقابلية المحضة أو الانفعال الصرف ركودا أو تعطيلا في النشاط الروحي عند الصوفي، وإنما يريد انعدام الفاعلية من جانب العقل. أما الناحية الأخرى، وهي ناحية الإرادة، فالنشاط الروحي فيها - في التجربة الصوفية - أقوى وأعنف ما يكون إذ الصوفي في معاناته لتجربته في حالة تعمل فيها النفس بجمعيتها لا بجزء منها، ومن هنا جاء ذلك الاستغراق الروحي، وذلك الشمول الغامر الذي أطلق عليه الصوفية اسم الفناء والجذب والوجد، ويجب ألا يتسرب إلى الذهن بحال أن ابن عربي يقصد بعبارته السابقة أن الحيوان لخضوعه في حياته للإرادة دون العقل، يشارك الإنسان في قدرته على الإدراك الذوقي والعلم بحقائق الأشياء علما مباشرا، وإنما يريد أن يؤكد انعدام الفاعلية العقلية في التجربة الصوفية، ذلك الانعدام الذي نشاهده أكثر ما نشاهده في الحيوان؛ لذلك اتخذ الحيوان مثالا، وتكلم عن التحقق بالحيوانية.
ولما كانت «التجربة الصوفية» عملا من أعمال الإرادة والوجدان لا العقل ظهرت في أخص وأعلى مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، وهو «الحب»، لا الحب المادي الذي يهدف إلى إشباع شهوة أو حاسة، بل الحب بأعمق وأتم معانيه: أعني الإفصاح عن أقوى النزعات الروحية في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه؛ ولهذا اصطنع الصوفية على اختلاف مللهم وأجناسهم وأوطانهم لغة الحب للتعبير عن أحوالهم وأذواقهم التي لا يستطيع العقل إدراكها، ولا اللغة التعبير عنها، وأبدعوا في اصطناع هذه اللغة أيما إبداع، فزخرت لغة التصوف بكنوز من الشعر الخالد في الحب الإلهي، ولشعراء الفرس من الصوفية أمثال؛ جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري، وبعض شعراء الصوفية العرب أمثال ابن الفارض وابن عربي، في رياض الحب الإلهي أناشيد تهتز لسماعها قلوب العاشقين ممن يدركون إشاراتهم ومراميهم.
في التجربة الصوفية تتحدد الإرادة الإنسانية مع العاطفة في الرغبة الملحة التي تدفع بالنفس دفعا إلى تجاوز عالم الحس والعقل إلى عالم تتصل فيه عن طريق الحب إلى محبوبها الأول الذي تدركه النفس بالذوق كما يقول الصوفية، أو تدركه في النفس حاسة متعالية كونية
Cosmic Transcendental Sense
كما يسميها علماء النفس الحديثون. أما أن هذه الحاسة «كونية»؛ فلأنها تدرك الوجود في كليته وإطلاقه ولا يحجبها عن هذا الإدراك الصفات المشخصة للأشياء، وهي الصفات التي ترجع من جهة إلى عمل الحواس الظاهرة، ومن جهة أخرى إلى الأساليب العقلية لإدراكه، وأما أنها متعالية وفوق الطبيعة؛ فلأنها تتجاوز بطريقة لا يعرف كنهها حدود العالم الطبيعي وقيوده إلى عالم تنمحي فيه صفات الذاتية الفردية مثل «الأنا» وال «ني» وال «ي» (ياء المتكلم) وهي ما يجعل الإنسان ذلك الكائن المتناهي المحدود. ولم يهتد علم النفس القديم ولا الحديث، كما لم يهتد الصوفية أنفسهم إلى معرفة كنه هذه الحاسة الغريبة، ولا إلى موضعها من الحياة الروحية، وإن وصفها الجميع - أو بالأحرى وصفوا مظاهرها ووظائفها - بصفات متقاربة، فهي تعقل نوعا ما من التعقل، ومع ذلك ليست هي العقل الذي نعرفه، وهي تنزع نحو موضوعها وتتعشقه إلى درجة الفناء فيه؛ أي إن فيها عنصري الإرادة والوجدان كما قلنا، ولكنها مع ذلك ليست الإرادة التي نعرفها، ولا هي واحدة من العواطف التي لنا عهد بها. فهي حاسة عاقلة مريدة وجدانية مختلفة تمام الاختلاف عن الحواس والقوى العقلية الأخرى التي ندرك عملها في حياتنا الشاعرة، وهي وإن كانت موجودة في كل إنسان بالقوة، فإنها لا توجد في كل إنسان بالفعل، ولم يحدثنا عن وجودها سوى ذلك الصنف من الناس الذين بلغت فيهم الحياة الروحية أوج كمالها، وتلعب العاطفة دورا له خطورته في «التجربة الصوفية»، وإلى عنصر العاطفة فيها ترجع مظاهر الشمول والاستغراق والفناء، وما إلى ذلك من الصفات التي تتمثل في وحدة الطالب والمطلوب، أو المحب والمحبوب. فالتصوف كالفن لا وجود له بدون العاطفة الجامحة. وإذا حصرنا النشاط الروحي في الإنسان في اتجاهين كما يقولون: اتجاه نحو حب الحقيقة، واتجاه نحو معرفتها، كان التصوف هو الميدان الوحيد الذي يلتقي فيه الاتجاهان على أتم وجه؛ لأنه يمثل تعطش الروح إلى الاتصال بالله، وفي هذا الاتصال يجتمع الحب والمعرفة في تجربة واحدة.
وقد أطلق الصوفية على هذه الحاسة المتعالية اسم «القلب، والسر، وعين البصيرة»، وما إلى ذلك من الأسماء التي لا تعدو أن تكون رموزا لحقيقة واحدة نفترض وجودها ولا ندري من كنهها شيئا. فلنسمها إذن باسم واحد هو القلب (إذ لا عبرة بالأسماء)، ولنحاول أن نعرف كل ما يمكن أن نعرفه عنها وعن صفاتها وخصائصها من أقوال الصوفية أنفسهم، ولنتذكر دائما أننا ونحن نكتب عن الصوفية وأحوالهم الغريبة وأطوارهم العجيبة، إنما نرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم، ونحاول أن نقف - كلما أمكننا الوقوف - على البواعث التي تدفعهم إلى سفرهم، وأن نتعرف الشعاب والدروب التي يسلكونها، والزاد الذي يتزودون به، واللغة التي يصفون بها الطريق، والغاية التي يصلون إليها. كل ذلك من غير ادعاء من جانبنا أننا نسير في ركبهم أو أننا نعرف دخائل أسرارهم أو نترجم عن حقيقة أحوالهم، فإن المترجم عن أحوال الصوفية هو الذي يعاني ما يعانون ويجرب ما يجربون من الأحوال والأذواق.
الوعي الصوفي
لا بد أن نعترف إذن بأن للصوفية نشاطا روحيا خاصا يعلن عن نفسه في صورة ما نسميه «التجربة الصوفية» وبأن هذا النشاط الروحي ليس واحدا من أضرب النشاط العقلي المعروفة، ولكنه شيء فوق الوعي العقلي، وإن شئت فسمه وعيا ساميا.
ويبدأ هذا الوعي في الوقت الذي تستيقظ فيه النفس؛ أي في الوقت الذي تخرج فيه النفس عن مألوف عادتها: أي عن الحال التي اصطلحنا على تسميتها «بالحال العقلية الطبيعية»: بأن يتحول فيها مركز الشعور من المراتب الدنيا إلى المراتب العليا، ثم يتحول تبعا لذلك مركز الاهتمام من «الذات» إلى موضوع جديد تجد النفس في الوصول إليه واللحاق به، وهذا التحول في مجرى الحياة الروحية هو الذي اصطلح متصوفة الإسلام على تسميته «بالتوبة» ولكنهم لا يقصدون بها الإقلاع عن الذنوب، أو التحول المفاجئ من عقيدة، أو من دين إلى دين، وإنما يقصدون بها شيئا آخر أبعد وأعمق من هذا كله، بل شيئا هو أساس هذا كله، وهو التجرد عن النفس أو التخلص من النفس - والنفس هنا اسم مرادف لجميع الشهوات والرغبات البدنية - والإنابة التامة إلى الله.
وإذا كان خروج الإنسان إلى هذه العالم يسمى ميلادا طبيعيا، فخروج الصوفي إلى العالم الروحي الذي يتحكم فيه وعيه السامي يسمى ميلادا روحيا، وإذا كان من خصائص التوبة في أية صورة من صورها أنها تصطبغ عادة بصبغة وجدانية عميقة ومفاجئة، فمن خصائص التوبة الصوفية أن يصحبها أعنف حالة وجدانية معروفة: إذ يصحبها ذلك الشوق الملح نحو الله، وشعور ديني عميق وحساسية دينية قوية.
والتوبة بمعنى التحول في الموقف الديني من عقيدة إلى عقيدة في الدين الواحد، أو من دين إلى آخر، أو التوبة بمعنى التصميم والعزم الصادق على الإقلاع عن الذنوب والآثام، قد تكون وثيقة الصلة بالتوبة الصوفية وخطوة سابقة عليها، وتاريخ التصوف الإسلامي وغير الإسلامي حافل بأسماء الرجال والنساء الذين هرعوا إلى الطريق الصوفي إثر أزمة نفسية حادة انتهت بهم إلى توبة من النوع الأول، ثم أسلمتهم إلى التوبة الصوفية.
على أن القاعدة غير مطردة في هذا الشعور الصوفي: كيف يجيء ومتى يجيء. فبينما نراه - وذلك في أغلب الأحيان - يأتي عقب أزمة نفسية حادة وفترة غم شديد واضطراب عظيم يحصل من تحول الحياة الروحية عن عالمها العادي المألوف إلى عالم جديد غير عادي وغير مألوف، نراه في بعض الأحيان يعرض فجأة في حالة هدوء تام، ومن غير أن يصحبه أو يسبقه ذلك الصراع النفسي الذي أشرنا إليه، ومن الصوفية من هم وسط بين هذين الطرفين، فإن التحول في مجرى حياتهم النفسية يحدث على فترات يتعاقب عليها اللذة والألم، فمن قبض شديد إلى بسط، ومن غم شديد إلى فرح، ومن خوف شديد إلى رجاء، ومن ظمأ شديد إلى الاتصال بالخلق إلى ظمأ أشد منه إلى الاتصال بالخالق، ومن أظهر الأمثلة على النوع الأول توبة أبي حامد الغزالي، استمع إليه وهو يصف أزمته النفسية وحيرته واضطرابه وهو موزع الفكر بين عالمين قبل أن يستقر له قرار في الطريق الصوفي. يقول:
فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فينفرها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل.
1
وهكذا استمر النزاع محتدما في نفس الغزالي وانتهى آخر الأمر إلى غم شديد ومرض مقعد وحبسة في اللسان. ثم هدأت العاصفة، وانخرط الغزالي في سلك الصوفية، وخلا خلوتهم وراض نفسه برياضاتهم، فاستيقظ فيه الشعور وانكشفت له أحوال القوم، ونزلت الطمأنينة إلى قلبه بعد الحيرة الطويلة.
وقريب من الغزالي في هذا الصدد القديس أوغسطين الذي عبر عن هذه التجربة بعبارته الشعرية المعروفة، وهي أنه وقف بين عالمين قويين يجتذبانه: الجمال الإلهي الذي يجذبه نحو الله، وثقل المادة الجسمانية الذي يجذبه بعيدا عنه.
ويبدو من دراسة الحياة الروحية لكثير من الصوفية أن هذه الحال الخاصة التي تعرض لهم فتدفع بهم إلى الطريق الصوفي هي حال شعور غامر يهجم على القلب ويستولي عليه، وأنها أشبه بنوع من الفيض يأتي من خارج النفس، منها بتطور داخلي في النفس ذاتها، وفي هذه الحال تبدو «الحقيقة» في شيء من التناقض، فيشاهدها الداخل في الطريق أزلية وحادثة، واحدة ومتكثرة، في هذا العالم ومتجاوزة له، مطلقة ومقيدة، وليس لهذا التناقض من سبب في نظرنا سوى أن السالك لا يزال في أول مرحلة من مراحل معراجه الروحي، ينظر بعين إلى الوجود الخارجي المحيط به، المتعلق به قلبه نوعا ما من التعلق، وبالعين الأخرى إلى العالم الروحي الذي هو على وشك الدخول فيه. فلما لم يصف له الشهود لتوزع نفسه بين العالمين، شاهد الأزلي المحدث، والمطلق المقيد، ولكن هذا التناقض سرعان ما يختفي عندما يترقى الصوفي في سلم معراجه، فيلمح «الحقيقة» كما تلمح العين رواسي الجبال بعد انقشاع الضباب عنها. يقول أفلوطين الإسكندري: «من شاهد هذا المشهد أدرك معنى ما أقول، وعرف أن للنفس عند ذاك حياة أخرى.»
2
ولكن الصوفية ينقسمون في شهودهم «الحقيقة» إلى طائفتين؛ الأولى ترى الحق في مجالي الجمال الخارجي، أو في مجلى جمالي خاص، ومن هؤلاء ابن عربي وابن الفارض الذي يقول:
جلت في تجليها الوجود لناظري
ففي كل مرئى أراها برؤية
3
والثانية تشهد الحق الباطن في النفس. فبينما يتجلى الحق للأولين في صورة الجمال المطلق، ينجلي للآخرين في صورة الإله المحبوب، ويغلب هذا الشهود الثاني على الصوفية والوجدانيين أصحاب العواطف القوية الجامحة، ولعل أبا يزيد البسطامي والحلاج والشبلي ورابعة العدوية كانوا من هذا الطراز، وأهم مظهر لهذا الشهود شعور ممزوج بلذة بالغة في شدتها وألم بالغ في حدته. أما الألم فنتيجة لتمزيق حجاب النفس «الأنا» والخروج من قيودها الزمانية، وأما اللذة فنتيجة لذلك الحب العميق الذي لا يسبر غوره. •••
هذا، وسنعالج في فصول تالية من فصول هذا الكتاب بعض مظاهر الحياة الصوفية في الإسلام مع الإشارة إلى أهم المسائل التي أثرناها في هذه المقدمة.
أصل كلمتي صوفي ومتصوف وتعريفاتهما
للكلام في هذا الموضوع شقان كما يدل عليه العنوان: الأول بحث تاريخي فيلولوجي في أصل كلمتي «تصوف» و«صوفي» وفي أي عصر من العصور ظهرتا وانتشرتا في الإسلام، والثاني في التعريفات التي وضعها الصوفية أنفسهم لهذين الاصطلاحين؛ أي في المعاني التي اعتبروها مقومات للحياة الصوفية. فالشق الأول دراسة للفظين، والثاني دراسة لمفهوميهما ، وليس للشق الأول - على الرغم من الجهد الذي بذله المؤلفون قديما وحديثا في دراسته - أهمية ولا قيمة كبيرة إلا بمقدار ما يلقي من الضوء على بعض جوانب الشق الثاني. أما «التعريفات» التي وضعها كبار الصوفية - لا سيما الأوائل منهم - للتصوف والصوفي فهي في صميم دراسة التصوف وجوهرها، وإذا تتبعناها تتبعا زمنيا وحللناها تحليلا دقيقا، ظهر لنا التصوف في صورة جلية، ووضح تطوره خلال التغيرات الكثيرة التي اكتنفته في البلاد الإسلامية التي ظهر فيها، والمؤثرات الإسلامية وغير الإسلامية التي أثرت فيه؛ لهذا آثرنا أن نعالج كل شق من شقي هذا البحث معالجة مستقلة، تاركين للقارئ ملاحظة ما بينهما من ترابط وما قد يكون للشق الأول من أثر في إيضاح بعض جوانب الثاني. (1) الأصل التاريخي والاشتقاقي لكلمتي تصوف وصوفي
ذهب جمهور المؤلفين في التصوف إلى أن هاتين الكلمتين من الكلمات المستحدثة في الملة الإسلامية وأن البغداديين هم الذين استحدثوهما، ولم يشذ عن هذا الاجتماع - فيما نعلم - إلا أبو نصر السراج صاحب كتاب اللمع
1
الذي يذهب إلى أن اسم الصوفي أقدم من البغداديين.
وقد استدل القائلون بأن اسم «الصوفي» مستحدث بأنه لم يكن من الألقاب التي أطلقت على الصحابة في عهد الرسول؛ فإنهم لم يميزهم عن غيرهم سوى صحبة الرسول، وكذلك لم يتسم أهل الجيل الثاني باسم سوى «التابعين»؛ وذلك لأن الإقبال على الدين والزهد في الدنيا في هذين الجيلين كانا عامين بين المسلمين، فلم تكن هناك حاجة إلى اسم خاص يمتاز به الرجل التقي.
ولكن لما فشا الإقبال على الدنيا - كما يقول ابن خلدون - وجنح الناس إلى متاع هذه الحياة، دعت الحاجة إلى وجود صفة يمتاز بها بعض الخواص الذين كانت لهم عناية بأمر الدين، وكذلك اشتدت هذه الحاجة لما ظهرت الفرق الإسلامية وادعى أصحاب كل فرقة أنهم على حق وأن فيهم العباد والزهاد. هنالك ظهرت هذه التسمية وانفرد بها المقبلون على العبادة واشتهر هذا الاسم قبل المائتين.
يقول ابن تيمية في رسالة «الصوفية والفقراء»: «أما لفظ الصوفي فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة الأولى، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام ابن حنبل (المتوفى سنة 241) وأبي سليمان الداراني (المتوفى سنة 235) وغيرهما. فقد روي أن ابن حنبل كان يسأل الحارث المحاسبي (المتوفى سنة 242) في بعض المسائل ويقول: ما تقول فيها يا صوفي؟»
وظاهر من عبارة ابن تيمية أنه يشير إلى انتشار اسم الصوفية لا إلى أول زمن استعماله.
ويقول الأستاذ ماسنيون في المقال الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية عن مادة «تصوف» ما خلاصته: أن التلقيب بالصوفي مفردا ظهر في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وسمي به جابر بن حيان الكوفي صاحب الكيمياء الذي كان يدعو إلى مذهب خاص في الزهد، وأبو هاشم الكوفي (الصوفي). أما كلمة الصوفية بالجمع فظهرت حوالي سنة 199 هجرية، وكانت تدل في ذلك الوقت على أصحاب مذهب يكاد يكون شيعيا من مذاهب التصوف ظهر في الكوفة، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته. توفي عبدك في بغداد سنة 210.
ونستنتج من عبارة ماسنيون أن كلمة «الصوفي» كانت قاصرة في أول الأمر على الكوفة، ومما يؤيد هذا أن الكلمة لم تكن مستعملة استعمالا عاما لكل مسلم سلك طريق التصوف: فإنها لم تطلق على فرقة من الصوفية ظهرت في أواخر القرن الثالث في نيسابور وتسمت باسم «الملامتية» تمييزا لها عن الصوفية من أهل العراق والشام.
وقد كان من الطبيعي أن يظهر اسم «الصوفي» أول ما ظهر في الكوفة سواء أكان أول من تسمى به جابر بن حيان أو أبا هاشم الصوفي؛ لأن أول مدرسة عرفت في التصوف الإسلامي ظهرت في مدينتي البصرة والكوفة، وقد كانت الكوفة آرامية الثقافة متأثرة بالثقافة المانوية التي ظهرت في تصوف الكوفيين في مسألة الحب الإلهي، بينما كانت البصرة هندية الثقافة وقد ظهر أثر هذه الثقافة في تصوفها في ناحيته العملية.
أما عن الأصل اللغوي لكلمة «الصوفي» فقد تضاربت فيه الأقوال قديما وحديثا، وذهب فيه المؤلفون كل مذهب ممكن: وذكروا أن الكلمة مشتقة من الأصل «ص و ف» أو «ص ف و» أو «ص ف ف»، فنسبوها إلى الصوف وإلى الصفاء وإلى الصف، وإلى الصفة (صفة مسجد الرسول بالمدينة)، وإلى الصفة، وإلى رجل اسمه «صوفة»، وإلى صوفة القفا، وإلى الصوفانة وهي نبتة تنبت في الصحراء، وإلى الكلمة اليونانية «سوفيا».
يقول أبو نصر السراج الطوسي المتوفى سنة 378 وهو صاحب كتاب «اللمع» أقدم كتاب عربي في التصوف: «إذا سأل سائل فقال: قد نسبت أصحاب الحديث إلى الحديث، ونسبت الفقهاء إلى الفقه، فلم قلت الصوفية ولم تنسبهم إلى حال ولا إلى علم، ولم تضف إليهم حالا كما أضفت الزهد إلى الزهاد والتوكل إلى المتوكلين والصبر إلى الصابرين؟ فيقال له: لأن الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع، ولم يترسموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم؛ وذلك لأنهم معدن جميع العلوم ومحل جميع الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة سالفا ومستأنفا، وهم مع الله في الانتقال من حال إلى حال، مستجلبين للزيادة. فلما كانوا في الحقيقة كذلك، لم يكونوا مستحقين اسما دون اسم. فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالا دون حال، ولا أضفتهم إلى علم دون علم لأني لو أضفت إليهم في كل وقت حالا ما وجدت الأغلب عليهم من الأحوال والأخلاق والعلوم والأعمال وسميتهم بذلك، ولكان يلزم أن أسميهم في كل وقت باسم آخر، وكنت أضيف إليهم في كل وقت حالا دون حال على حسب ما يكون الأغلب عليهم. فلما لم يكن ذلك، نسبتهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأن لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام، وشعار الأولياء والأصفياء، ويكثر في ذلك الروايات والأخبار. فلما أضفتهم إلى ظاهر اللبسة كان ذلك اسما مجملا عاما مخبرا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق الشريفة المحمودة، ألا ترى أن الله تعالى ذكر طائفة من خواص أصحاب عيسى عليه السلام فنسبهم إلى ظاهرة اللبسة فقال عز وجل:
إذ قال الحواريون ، وكانوا يلبسون البياض، فنسبهم إلى ذلك ولم ينسبهم إلى نوع من العلوم والأعمال والأحوال التي كانوا بها مترسمين. فكذلك الصوفية عندي، والله أعلم، نسبوا إلى ظاهر اللباس ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم الأخرى والأحوال التي هم بها مترسمون؛ لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المتنسكين.»
2
فالصوفية في نظر السراج إنما سموا صوفية نسبة إلى اللباس الذي اتخذوا منه شعارا ورمزا، وهو لباس الصوف، ولم ينسبوا إلى علم من العلوم كالفقه والحديث والتفسير، ولا إلى حال من الأحوال كالحزن أو القبض أو البسط؛ وذلك لأنهم ليس لهم علم خاص ينتسبون إليه، ولا حال خاصة يقيمون عليها، بل هم في ترق مستمر في الأحوال، وليست حال من أحوالهم بأولى من حال أخرى. أما أنهم نسبوا أنفسهم إلى ذلك الشعار الصوفي، فذلك لأنه كان دائما دأب الأنبياء والصالحين كما تدل على ذلك الأخبار والروايات، فقد أثر عن عيسى عليه السلام أنه كان يلبس الصوف تعبدا، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
لبس الصوف تواضعا وبعدا عن الرياء وزهدا في الدنيا، ورد في مرثية عمر بن الخطاب لرسول الله قوله: «ولبست الصوف وركبت الحمار وأردفت خلفك»،
3
وقد ورد في الحلية لأبي نعيم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
واسى أهل الصفة ولم يكن عندهم غير جباب الصوف،
4
إلى غير ذلك من الأخبار، ويتناول أبو بكر محمد بن إسحق الكلاباذي المتوفى سنة 380 الموضوع من ناحية أخرى وإن كان ينتهي إلى النتيجة التي انتهى إليه السراج، فيقول:
قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها، وقال بشر بن الحارث (الملقب بالحافي، مات ببغداد سنة 227): الصوفي من صفا قلبه لله، وقال بعضهم: الصوفي من صفت لله معاملته فصفت له من الله عز وجل كرامته، وقال قوم: سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل، لارتفاع هممهم إليه وإقبالهم بقلوبهم عليه ووقوفهم بسرائرهم بين يديه، وقال قوم: سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم: إنما سموا صوفية للبسهم الصوف، وأما نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم؛ وذلك أنهم قوم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الإخوان وساحوا في البلاد وأجاعوا الأكباد وأعروا الأجساد، لم يأخذوا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه من ستر عورة وسد جوعة، فلخروجهم من الأوطان سموا غرباء، ولكثرة أسفارهم سموا سياحين، ومن لبسهم وزيهم سموا صوفية لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه وحسن منظره وإنما لبسوا لستر العورة فتحروا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف.
5
ذكر الكلاباذي أن «الصوفي» نسب إلى الصفاء والصفة والصف والصوف، ثم اختار النسبة الأخيرة. أما النسبة إلى الصفة ففيها خروج على اللغة لأنها يجب أن تكون الصفي لا الصوفي، وأهل الصفة جماعة من فقراء المهاجرين أخرجوا من ديارهم فآووا إلى صفة مسجد الرسول بالمدينة، وصفهم أبو هريرة فقال: «يخرجون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين، وكان لباسهم الصوف حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه ريح الضأن إذا أصابه المطر»، وقيل إن فيهم نزلت الآية:
فيه (أي في مسجد الرسول) رجال يحبون أن يتطهروا ، وبالإضافة إلى بطلان نسبة الصوفي إلى أهل الصفة على أساس لغوي، لا نرى ما يسوغ هذه النسبة على أساس آخر، وهو أن أهل الصفة كانوا من أوائل المهاجرين حين لم يكن للتصوف وجود بمعناه الحقيقي، وإن كان هذا لم يمنع صاحب الحلية من أن يذكر أسماء كثيرين منهم ويدخلهم في عداد الصوفية، ولم يمنع عبد الرحمن السلمي أن يكتب فيهم كتابا خاصا يظهر أنه ضاع أصله.
أما النسبة إلى الصفاء فصفائي أو صفاوي لا صوفي، وإن كان من الواضح أن الذي أغرى بعض الصوفية بهذه النسبة هو أن الطريق الصوفي أساسه تصفية النفس وتطهيرها من أدران البدن وشهواته، فعقدوا المقارنة بين الصوفي والصفاء.
والنسبة إلى الصف - أي الصف الأول بين يدي الله - صفي لا صوفي.
لهذا يرى الكلاباذي أن المستقيم من هذه الاشتقاقات كلها هو اشتقاق «الصوفي» من الصوف، وأن الاشتقاقات الأخرى تشير إلى صفات الصوفي الظاهرة أو الباطنة ولكن لا أساس لها من اللغة.
أما القشيري المتوفى سنة 465 فيقول :
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر أنه كاللقب، فأما من قال إنه من الصوف، وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف، ومن قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد الرسول، فالنسبة إلى الصفة لا يجيء على نحو الصوفي، ومن قال إنه من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة، وقول من قال إنه مشتق من «الصف» فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة مع الله تعالى، فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.
6
وأبرز ما في عبارة القشيري قوله «والأظهر أنه كاللقب» أي إنه يعتبر اسم الصوفي اسما جامدا أو لقبا أطلق على هذه الطائفة لتمييزها عمن عداها، فلا يسأل عن معناه أو اشتقاقه. أما نسبتهم إلى الصوف فلا يعارض فيها القشيري لصحتها لغويا، ولكنها في رأيه قول ضعيف؛ لأن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف.
هذا وقد ذكرت نسب أخرى أبعد احتمالا من التي ذكرناها، وأقل أهمية كالقول بأن الصوفي اسم منسوب إلى «صوفة» وهو الغوث بن مر، كان هو وقومه من سدنة الكعبة القدماء، أو أنه منسوب إلى صوفة القفا وهي الشعرات النابتة في مؤخر الرأس، أو إلى «الصوفانة» وهي بقلة تنبت في الصحراء لأن الصوفية كانوا يجتزئون بها.
وقد انفرد البيروني (المتوفى سنة 440) من بين الكتاب العرب بقوله إن هناك صلة بين اسم الصوفي والكلمة اليونانية «سوفيا»، وأخذ بهذا الرأي الأستاذ جوزيف فون هامر الذي يقول إن كلمة صوفي مأخوذة من كلمة «جمنوسوفيست»
Gymnosophist
ومعناها الحكيم العاري، وهو لفظ يوناني أطلقه اليونان على بعض حكماء الهنود القدماء الذين اشتهروا بحياة التأمل والعبادة، وليس للأستاذ فون هامر دليل سوى تقارب اللفظين في النطق. •••
ظهر من كل ما تقدم أن اسم «الصوفي» مشتق من الصوف، وأن كلمة «تصوف» معناها لبس الصوف أو تقلد شعار الصوفية: وعلى هذا انعقد إجماع جمهور الباحثين قديما وحديثا، يؤيد ذلك اللغة والعرف فإننا نقرأ أن فلانا لبس الصوف أو لبس عباءة أو لبس المسوح أو لبس الشعر أو لبس المدرعة بمعنى أنه تزهد أو سلك طريق الصوفية. (2) تعريفات التصوف والصوفي
أجمع الصوفية في كل العصور على أن تجاربهم الروحية أمور تستعصي على الوصف وتعلو على التعبير، وآثر الكثيرون منهم الصمت فلم يحاولوا أن يضعوا لها تفسيرا أو تعليلا، وإنما وصفوا ما أدركوه أو شاهدوه أو كشف لهم عنه من الأحوال بأنها أمور «ذوقية» أو «وجدانية» لا تفي اللغة بالتعبير عنها أو ترجمتها بالألفاظ.
ولكن هذا لم يقف حائلا دون محاولة بعضهم وضع تعريفات للتصوف والصوفي: أي للتصوف من حيث هو ظاهرة روحية خاصة، أو حياة يحياها الصوفي، وللصوفي من حيث هو إنسان يحيا هذه الحياة، وليست هذه التعريفات تعريفات لفظية لكلمتي «التصوف» و«الصوفي»، وإنما هي تعبيرات عن مضمون «الحالة الصوفية»، وإشارات إلى ما يعتبره كل صوفي مقوما لحياته الروحية أو صفة أساسية جوهرية في هذه الحياة؛ ولهذا كانت هذه التعريفات «شخصية» إلى أبعد حد. من أجل هذا اختلفت تعريفات الصوفية للتصوف؛ لأن كلا منهم يعبر عن جانب من الحياة الروحية قد يشاركه في الإحساس به غيره من الصوفية وقد لا يشاركه، ومن أجل هذا أيضا استحال أن نستخلص من جملة التعريفات الكثيرة التي أوردناها في هذا الفصل معنى واحدا عاما يمكن أن نعتبره صفة نوعية مميزة للتصوف: بل هي على العكس أشبه بالمرايا المختلفة التي تنعكس عليها نفوس الصوفية في لحظات اتصالهم بالله، والمعروف أن هذا الاتصال لا يتم لهم جميعا على نمط واحد أو بطريقة واحدة.
وقد كنا نطمع بعد دراسة خمسة وستين تعريفا للتصوف أن نجد معنى عاما مشتركا ينتظمها جميعا، ولكنا لم نظفر بهذا المعنى على وجه التحديد، ووصلنا إلى معنى قريب منه يمكن أن يقال إن الغالبية العظمى من التعريفات تتفق عليه، وهو أن التصوف في أساسه وجوهره «فقد ووجود»: «فقد» لأنية العبد، و«وجود» له بالله أو في الله؛ أي فناء عن الذات المشخصة وأوصافها وآثارها، وبقاء في الله . أو أنه - بعبارة أخرى - «الجذبة في الله».
على أن التعريفات التي وضعت للتصوف ليس كلها تعريفات له من حيث هو تجربة روحية، فإن بعضها تعريفات له من حيث هو طريق موصل إلى الله، وفي النوع الأول ترد كلمات تعبر عن معان هي في صميم الحياة الروحية، كالوجد والجذب والإشراق والحب والمعرفة والفناء والبقاء وصفاء النفس ونحو ذلك، وهذا النوع غالب في تعريفات صوفية القرنين الثالث والرابع ابتداء من ذي النون المصري، ويتصل بهذا النوع طائفة من التعريفات تشير إلى بعض أخلاق الصوفية كالزهد في الدنيا وكراهيتها وترك حظوظها، وقطع العلائق بالخلق، والتوكل على الله والورع والأدب والتحلي بصفات العبودية المحضة، والإيثار وبذل النفس والفتوة، والتسليم والتمسك بظاهر الشرع مع التحقق بباطنه، وترك الدعاوى والنظر إلى الأعمال بعين النقص والتقصير، والعصمة عن رؤية الكون واستقامة الأحوال ونحو ذلك.
أما النوع الثاني الذي يعرف التصوف من حيث هو طريق إلى الله، فهو إشارات إلى الجانب العملي الحياة الصوفية وما يجب أن يقوم به الصوفي من ضروب العبادات والمجاهدات والرياضيات. •••
وإننا لا نجد تعريفا للتصوف قبل نهاية القرن الثاني الهجري؛ أي قبل معروف الكرخي المتوفى سنة 200. أما مرحلة الزهد السابق على هذا العهد فقد أكثر رجالها من الكلام عن الدنيا والزهد فيها، وعن النفس ومحاربتها، والمعاصي وضرورة تجنبها، والآخرة ونعيمها وعذابها، إلى غير ذلك مما هو متصل بالجانب العملي من الطريق الصوفي، ولنذكر بعض الأمثلة من أقوال رجال هذا العصر التي تعبر عن موقفهم من الحياة الصوفية وإن لم تكن كلها تعريفات للتصوف بالمعنى الصحيح: (1)
قيل للحسن البصري (المتوفى سنة 110): إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: «وهل رأيتم فقيها قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل» (طبقات الشعراني، ج1، ص26). هذا وصف للفقيه الحقيقي - أو بمعنى آخر الفقيه الصوفي - في نظر الحسن البصري. فالفقيه الحقيقي ليس هو العالم بالفقه، بل هو الذي يعيش وفقا لتعاليم الشريعة من زهد في الدنيا، ومداومة للعبادة وبصر بأمور الدين وإدراك للمغازي الروحية التي تنطوي عليها العبادات. (2)
يقول داود الطائي (المتوفى سنة 165) في وصية لرجل طلب منه أن يوصيه: «صم عن الدنيا واجعل فطرك الموت، وفر من الناس كفرارك من السبع» (رسالة القشيري، ص12). (3)
يقول الفضيل بن عياض (المتوفى سنة 187): «لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي ولا أحاسب عليها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه» (القشيري، ص9).
في هذه الأقوال وما شاكلها ما يشير إلى أن مفهوم التصوف عند هؤلاء الزهاد كان الزهد في الدنيا وتحقيرها، والإقبال التام على العبادة.
أما في القرنين الثالث والرابع فقد وضع الصوفية تعريفات دقيقة صريحة للتصوف عندما بدءوا يحولون أنظارهم إلى بواطنهم ويسجلون كل دقيقة من دقائق حياتهم الروحية، وكل ما يخطر بقلوبهم من خواطر وما يحسون من مواجد وأذواق.
وقد اختلفت تلك التعريفات وتطورت تبعا لتطور التصوف ذاته وما دخل في مجراه العام من تيارات ثقافية مختلفة، إسلامية وغير إسلامية، وقد لاحظنا أثر تلك الثقافات في البيئات المختلفة التي ظهرت فيهما «المدارس الصوفية» على ما سيأتي بيانه، وظهر هذا الاختلاف واضحا في تعريفات التصوف التي وصفها رجال هذه المدارس.
هذا، وقد جمعنا أكثر من ستين تعريفا للتصوف والصوفي وضعها أربعة وعشرون صوفيا عاشوا ما بين سنة 200 إلى سنة 400، وكانوا من فارس أو العراق أو الشام أو مصر، ولم نختر تعريفات لأحد من الصوفية بعد هذا التاريخ؛ لأنه لا جديد فيها زيادة على ما ذكره هؤلاء الأوائل. أما مصادر هذه التعريفات فهي: الرسالة القشيرية، وكشف المحجوب للهجويري (ترجمة الأستاذ نيكولسون)، وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار، ونفحات الأنس لعبد الرحمن جامي، وقد اقتبسنا طائفة من التعريفات التي أوردها الأستاذ نيكولسون في مقاله الذي سماه «نظرة تاريخية في أصل التصوف وتطوره» - وهو المقال الذي نقلناه إلى العربية في كتابنا «في التصوف الإسلامي وتاريخه» الذي نشر بالقاهرة سنة 1946 - ولكنا أضفنا تعريفات أخرى لم يذكرها نيكولسون، وشرحنا معاني كثير من هذه التعريفات بغية إظهار الفكرة الأساسية في كل تعريف، والحقيقة أن أي تعريف للتصوف لا يفهم في صورة واضحة جلية إلا في ضوء دراسة شاملة للتصوف ونظرياته وظواهره، وحياة الصوفية وأخلاقهم؛ ولهذا نحيل القارئ إلى ما ذكرناه في هذا الصدد في الفصول التالية من هذا الكتاب، وهي في صميم الحياة الصوفية، بعيدة بقدر المستطاع عن التفاصيل التاريخية المتصلة بترجمات الصوفية.
ولم نحاول - كما يتوقع بعض القراء - أن نضع تصنيفا للتعريفات التي اقتبسناها على أساس من الأسس لأنها لا تخضع لمثل هذا التصنيف، لصدورها عن قوم هم أصحاب أحوال لا أصحاب أقوال علمية أو فلسفية، وقد يكون للصوفي الواحد أكثر من تعريف للتصوف كما هو الحال في الجنيد والنوري والشبلي، من غير أن يربط بينها رابط أو يجمع بينها جامع؛ وذلك لأن الصوفي ابن وقته، فهو ينطق في كل وقت بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت. نعم قد يقال إن الغالب على تصوف ذي النون المصري الكلام في المعرفة،
7
وفي تصوف أبي يزيد البسطامي الكلام في الفناء، وفي تصوف رابعة العدوية الكلام في المحبة، وفي تصوف شقيق البلخي الكلام في التوكل، وفي تصوف الجنيد الكلام في التوحيد، ولكن ليس معنى هذا أن تصوف كل من هؤلاء كان منحصرا في المعرفة أو الفناء أو المحبة أو التوكل أو التوحيد. زد على ذلك أن بين التعريفات تداخلا جزئيا أو كليا، وبعضها يكرر معاني البعض الآخر بعبارات مختلفة، وهذا ما يجعل خضوعها للتصنيف العلمي أمرا عسيرا.
ولقائل أن يقول بعد كل هذا: وما قيمة هذه التعريفات إذن إذا كانت لا تعبر إلا عن أحوال شخصية فردية ولا يفي واحد منها في الإعراب عن حقيقة التصوف في جملته، أو شرح ماهيته؟ والجوب على هذا أن قيمتها فيها مجتمعة لا متفرقة، إذا كنا نبحث عن التصوف الإسلامي مطلقا لا تصوف فلان أو فلان؛ إذ خلالها جميعا تظهر شخصية ذلك التصوف وتبرز صفاته المميزة له. فهي بمثابة الزوايا المختلفة التي ينظر منها الصوفية الإسلاميون إلى حياتهم الروحية، أو بمثابة اللبنات المفردة التي يتألف منها البناء.
تعريفات التصوف والصوفي
مرتبة ترتبا زمنيا (1) معروف الكرخي المتوفى سنة 200 (1) «التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق» (القشيري، ص127). الحقائق مقابل الرسوم الشرعية: وليس المراد هنا الأخذ بباطن الشرع وحده دون ظاهره، بل وجوب النظر إلى باطن الشريعة (حقيقتها) بالإضافة إلى القيام برسومها، والمراد باليأس مما في أيدي الخلائق: الزهد فيما يملكه الناس من متاع الدنيا. فللتصوف في نظر معروف الكرخي جانبان: الزهد في الدنيا والنظر إلى حقيقة الدين وعدم الاكتفاء بظاهر تكاليفه. (2) أبو سليمان الداراني (المتوفى سنة 215) (2) «التصوف أن تجري على الصوفي أعمال لا يعلمها إلا الحق، وأن يكون دائما مع الحق على حال لا يعلمها إلا هو» (تذكرة الأولياء، ج1، ص233).
أي إن التصوف هو التجرد من الإرادة والشعور بالذات، وهذه هي حال الفناء التي لا يرى العبد فيها فاعلا سوى الله. ثانيا أن يكون الصوفي في حال اتصاله بالله على حال لا يعلمها إلا الله، وهذا هو الفناء أيضا. (3) بشر بن الحارث الحافي (المتوفى سنة 227) (3) «الصوفي من صفا لله قلبه» (تذكرة الأولياء، ج1، ص112).
صفاء القلب معناه عدم تكديره بالشهوات والرغبات وكل ما يشغل عن الله، وفي هذا إشارة إلى فناء الصوفي عن صفاته المذمومة وبقائه بالصفات المحمودة. (4) ذو النون المصري (المتوفى سنة 245) (4) «الصوفي إذا نطق بان منطقه عن الحقائق، وإذا سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق» (كشف المحجوب للهجويري، ص36).
أي إن الصوفي بين حالين؛ إما أن يتكلم أو يلزم الصمت، فإن تكلم لا يقول إلا حقا،
أي ينطق بلسان الحقيقة وهو لسان أهل الباطن، وإن سكت عن الكلام نطقت جوارحه بما ينبئ عن أنه قطع علائقه بهذا العالم. فهو مشغول بالله في الحالتين؛ في حالة نطقه وحالة سكوته.
ويروي فريد الدين العطار العبارة على النحو الآتي: (5) «الصوفي من إذا نطق كان كلامه عين حاله، فهو لا ينطق بشيء إلا إذا كان هو ذلك الشيء، وإذا أمسك عن الكلام عبرت أعماله عن حاله وكانت ناطقة بقطع علائقه (الدنيوية)» (تذكرة الأولياء، ج1، ص126).
يريد أن الصوفي هو من طابق كلامه حاله، ومن كانت أعماله الظاهرة معبرة عن أحواله الباطنة. (6)
وله أيضا : «الصوفية قوم آثروا الله عز وجل على كل شيء، فآثرهم الله عز وجل على كل شيء» (القشيري، ص127).
إيثار الصوفي الله على كل شيء هو تفضيل ما لله على ما للنفس، ومحبة الله وطاعته. بهذا يصل الصوفي إلى درجة الولاية التي يشير إليها الشطر الثاني من العبارة. (5) أبو تراب النخشي (المتوفى سنة 245) (7) «الصوفي لا يكدره شيء ويصفو به كل شيء» (القشيري، ص127).
أي الصوفي الصادق لا يكدره شيء في هذه الحياة لأنه راض بقضاء الله وقدره، فقلبه خال من الهموم والشواغل التي تكدر صفو الحياة عند غيره، أما قوله ويصفو به كل شيء فمعناه أنه يبدو في نظره كل شيء صافيا من الكدورات. (6) سري السقطي (المتوفى سنة 257) (8) «التصوف اسم لثلاثة معان؛ وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله» (القشيري، ص10).
المعنى الأول ألا تفسد معرفة الصوفي ورعه، بأن تكون «الحقيقة» سببا في إهمال ظاهر الشريعة، وقد ذهب بعض أدعياء الصوفية إلى أن من وصل إلى مقام المعرفة سقطت عنه التكاليف، وسري السقطي يحذر من هذا، والمعنى الثاني قريب من المعنى الأول؛ وهو أنه لا قيمة لعلم باطن ما لم يكن له سند من ظاهر الشرع، والمعنى الثالث أن الصوفي هو الذي لا تفتنه الكرامات بحيث يركن إليها ويعتقد أنه معصوم من الخطأ فتزل قدمه ويقترف المعاصي. (7) أبو حفص الحداد (المتوفى سنة 265) (9) «التصوف كله أدب: لكل وقت أدب، ولكل مقام أدب، ولكل حال أدب. فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يظن القبول» (كشف المحجوب، ص42).
أي إن التصوف في جملته نظام من السلوك ولكل شيء فيه واجبات، ولا قيمة لهذا السلوك ما لم تحصل للمريد منه فوائده ويتصف بصفاته، وهذا ما يشير إليه أبو الحسين النوري بقوله: «ليس التصوف رسوما ولا علوما ولكنه أخلاق.» أي أخلاق تترك أثرها في النفس وتكون الدافع لها على أفعالها. (8) سهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة 283) (10) «الصوفي الذي يرى دمه هدرا وملكه مباحا» (القشيري، ص127).
ومعناه أن التصوف إيثار محض وتضحية في سبيل الله بالنفس وما ملكت، وهذه هي الفتوة بمعناها الصوفي. (11)
وله أيضا: «الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر» (تذكرة، ج1، ص264).
أي الصوفي من صفت نفسه من كدورات البشرية فتحرر من ربقة الاستعباد المادي، وهو من شغل فكره وقلبه بالله وقطع علائقه بالناس، وزهد في القيم المادية في هذه الحياة. (12)
وله أيضا: «التصوف قلة الطعام، والسكون إلى الله والفرار من الناس» (تذكرة، ج1، ص264).
أي التصوف هو الحرمان من اللذات البدنية كالأكل ونحوه، والركون إلى الله بالاطمئنان إلى موعود قضائه والتسليم المطلق له، وعدم اشتغال القلب بمعاملة الناس إذا كان في هذا الاشتغال ما يقرب الصوفي من الناس ويبعده من ربه، وليس المراد الفرار من الناس مطلقا والعيش عيش الرهبانية فإن هذا المعنى لا وجود له في التصوف الإسلامي. (9) سمنون المحب (المتوفى سنة 297) (13)
سئل سمنون عن التصوف فقال: «ألا تملك شيئا ولا يملكك شيء» (القشيري، ص127)؛ أي إن التصوف هو ألا تدعي لنفسك شيئا ماديا أو معنويا وألا تكون مستعبدا لشيء مادي أو معنوي في هذه الحياة، وإنما العبودية الحقة هي لله وحده. (10) عمرو بن عثمان المكي (المتوفى سنة 291) (14)
سئل عمرو بن عثمان المكي عن التصوف فقال: «أن يكون العبد في كل وقت مشغولا بما هو أولى به في الوقت» (القشيري، ص127).
يقول الصوفي: «الصوفي ابن وقته.» ووقت الصوفي هو اللحظة التي يكون فيها مع الله على حال من الأحوال. فالصوفي الصادق هو الذي لا يشغله في وقته مع الله شاغل خارجي، أي يكون دائما مشغول القلب بالله وحده. (11) أبو الحسين النوري (المتوفى، سنة 295) (15) «الصوفي لا يملك ولا يملك» (الهجويري، ص37).
روى القشيري هذا التعريف على لسان سمنون المحب كما أسلفنا في رقم 13. (16)
وله أيضا: «الصوفية هم الذين صفت أرواحهم فصاروا في الصف الأول بين يدي الله» (الهجويري، ص37).
سبق شرح هذا المعنى في التعريفات رقم 3، 7، 11. (17)
وله أيضا: «التصوف ترك كل حظ للنفس» (الهجويري، ص36-37).
أي التصوف هو الفناء عن النفس جملة، عن صفتها ورغباتها وشهواتها، والمراد بالنفس هنا النفس الحيوانية، وإذا فني الصوفي عنه نفسه بهذا المعنى، بقي بحبه لربه. (18)
وله أيضا: «نعت الصوفي السكون عند العدم والإيثار عند الوجود» (القشيري، ص127).
معناه أن الصوفي هو من إذا فقد شيئا من متاع الدنيا سكن إلى قضاء الله ورضي بما قسم له، وإذا وجد شيئا آثر به على غيره. (19)
وله أيضا: «الصوفية قوم صفت قلوبهم من كدورات البشرية وآفات النفوس وتحرروا من شهواتهم حتى صاروا في الصف الأول والدرجة العليا مع الحق، فإذا تركوا كل ما سوى الحق صاروا لا مالكين ولا مملوكين» (التذكرة).
سبقت هذه المعاني كلها في تعريفات صوفية آخرين. (20)
وله أيضا: «الصوفي من لا يتعلق به شيء ولا يتعلق بشيء» (التذكرة). وهذا التعريف قريب من التعريف رقم 15 للنوري نفسه. (21)
وله أيضا: «ليس التصوف رسما ولا علما ولكنه خلق؛ لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة، ولو كان علما لحصل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله» (تذكرة).
أي ليس التصوف أوضاعا ورسوما فيكتسب بالمجاهدة، وليس علما يتلقى بالتعليم، وإنما هو فوق هذا وذاك صفة تنطبع في النفس فتتحكم في كل ما يصدر عن الصوفي من أعمال وما يخطر بقلبه من خواطر. (22)
وله أيضا: «التصوف الحرية والبذل، وترك التكلفة والسخاء» (تذكرة).
أي هو التحرر من استرقاق الشهوات، وبذل النفس في خدمة الله والناس، وأن يكون ذلك تطبعا لا تكلفا لأن التكلف رياء.
وقد روي هذا التعريف بعبارة قريبة من هذه في كشف المحجوب للهجويري، ص43. (23)
وله أيضا: «التصوف ترك حظ النفس جملة ليكون الحق نصيبها» (تذكرة).
وهو نفس المعنى الوارد في التعريف رقم 17. (24)
وله أيضا: «التصوف كراهية الدنيا ومحبة المولى» (تذكرة). (12) أبو القاسم الجنيد (المتوفى سنة 297) (25) «التصوف نعت أقيم فيه العبد» (الهجويري، ص36).
أي إن التصوف حال يقيم الله فيها العبد، وليس شيئا يكتسب بالمجاهدة أو يتلقن بالتعليم كما سبق أن ذكرنا، وأخص مظاهر التصرف «الشهود» وهذا منحة يمنحها الله للعبد ولا كسب له فيه. (26)
وله أيضا: «التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به» (القشيري، ص126)؛ أي هو الفناء عن الذات وصفاتها والبقاء بالله. (27)
وله أيضا: «التصوف هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة» (القشيري، ص127)؛ أي بلا علاقة تربطك بالخلق، فتكون مع الله ولله وحده، وهذا معنى سبقت الإشارة إليه. (28)
وله أيضا: «التصوف عنوة لا صلح فيها» (القشيري، ص127).
أي إن التصوف حال تؤخذ قهرا؛ أي تفرض نفسها على صاحبها وليس له فيها اختيار. (29)
وله أيضا: «الصوفية هم أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم» (القشيري، ص127).
أي إن الصوفية قوم تجمعهم صفات خاصة لا توجد في غيرهم. يتكلمون لغة واحدة، ويعالجون أحوالا واحدة لا يشاركهم فيها سواهم، والدخيل فيهم لا يفهم كلامهم ولا يتذوق أذواقهم. (30)
وله أيضا: «التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع سماع، وعمل مع اتباع» (القشيري، ص127).
أي إن أهم أركان التصوف ثلاثة: ذكر الله مع اجتماع الهمة عليه، أو ذكر الله في جماعة في حلقات الذكر، ولكن المعنى الأول أفضل، والثاني الحصول في حالة الوجد، والثالث الاتباع الدقيق لتعاليم الشرع. (31)
وله أيضا: «الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح» (القشيري، ص127).
أي إن الصوفي يواجه في حياته الظاهرة والباطنة كل بواعث الخير والشر والطاعة والمعصية ولكن لا يخرج منه إلا ما هو خير وطاعة. (32)
وله أيضا: «الصوفي كالأرض يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي كل شيء» (القشيري، ص127).
يشير إلى مبدأ التسامح والإيثار في التصوف؛ فالصوفي لا يفرق في معاملته الناس على أساس من الدين أو العنصر أو اللون. (33)
وله أيضا: «التصوف أن يختصك الله بالصفاء، فمن اصطفى من كل ما سوى الله فهو الصوفي» (تذكرة).
وقد سبق شرح مثل هذا المعنى. (34)
وله أيضا وقد سئل عن التصوف فقال: «تمسك بظاهره ولا تسأل عن حقيقته وإلا أفسدته» (تذكرة).
أي يجب على الصوفي ألا يحاول أن يفسر أو يعلل أو يبحث عن حقيقة الحال التي هو عليها، وإلا أدى به ذلك إلى القول بنظريات باطلة كالحلول أو الاتحاد أو ما شاكلهما. (35)
وله أيضا: «الصوفية قائمون بالله لا يعلمهم إلا هو» (تذكرة).
قائمون بالله؛ أي متقومون به، تجري عليهم أحكامه ولا أحكام لهم، وهم لا يعلمون هذا من أنفسهم ويعلمه الله. (36)
وله أيضا: «التصوف تصوف القلوب حتى لا يعاودها ضعفها الذاتي، ومفارقة أخلاق الطبيعة، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة دعاوى النفسانية ومنازلة صفات الروحانية، والتعلق بعلوم الحقيقة، والعمل بما هو خير، والنصح لجميع الأمة والإخلاص في مراعاة الحقيقة، واتباع النبي
صلى الله عليه وسلم » (التذكرة).
أي إن التصوف عمل من أعمال القلوب لا أعمال الجوارح، ولا هو بلبس المرقعة والجلوس على السجادات، وهو مخالفة النفس وإخماد صفات البشرية الذميمة فيها، والبعد عن ادعاء شيء من الأعمال أو الأحوال لها، و«منازلة صفات الروحانية» أي العمل الجدي الشاق على التخلق بالصفات الروحانية الطيبة، والتشبث ببواطن العلوم الدينية، مع الاتباع الدقيق لرسول الله
صلى الله عليه وسلم .
يروي الشعراني هذه العبارة مع اختلاف قليل في الألفاظ على لسان عبد الله بن خفيف الضبي المتوفى سنة 331. (الطبقات للشعراني، ج1، ص103). (37)
وله أيضا: «إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب» (القشيري ص127).
أعدى أعداء الصوفي الرياء، والعناية بالظاهر حبا في الظهور واستجلاب السمعة دليل على خلو الباطن من الورع الحقيقي. (13) أبو محمد رويم (المتوفى سنة 303) (38)
سئل رويم عن التصوف فقال: «استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده» (القشيري، ص127).
أي الخضوع التام لإرادة الله وعدم الاعتراض. (39)
وله أيضا: «التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار» (القشيري، ص127).
الفرق بين الفقر والافتقار أن الفقر هو الحال التي يكون عليها الفقير، وهي حال يعدم فيها ما يملكه غيره، والافتقار هو الحال التي يشعر فيها المفتقر باحتياجه إلى ربه واعتماده عليه، ويرى رويم أن أركان التصوف ثلاثة؛ الأول: الفقر المادي والمعنوي، «ترك التعرض والاختيار» عدم الوقوف في طريق الإرادة الإلهية، وعدم نسبة الاختيار إلى الإنسان. (14) أبو حمزة البغدادي (توفي قبل الجنيد) (40) «علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويذل بعد العزة، ويخفى بعد الشهرة.
وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغني بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء» (القشيري، ص127).
الصوفي الصادق هو الذي يتجرد عن ماله وجاهه وسمعته، والصوفي الكاذب هو من يتخذ من التصوف ذريعة لجمع المال وذيوع الصيت. (15) علي بن سهل الأصفهاني (المتوفى سنة 307) (41) «التصوف التبري عمن دونه، والتخلي عمن سواه» (نفحات الأنس، ص166)؛ أي هو قطع العلائق بكل ما سوى الله. (16) الحسين بن منصور الحلاج (المتوفى سنة 309) (42)
سئل عن الصوفي فقال: «وحداني الذات لا يقبله أحد ولا يقبل أحدا» (القشيري ص127).
أي هو الذي يحيا حياة التوحد، لا يحبه الناس؛ لأنهم ينكرون عليه أقواله وأفعاله، ولا يحب أحدا لأنه ينكر عليهم ما هم فيه، وقد كانت هذه حالة الحلاج نفسه، فقد رفضه معظم معاصريه - حتى من الصوفية - وكرهوا صحبته. (17) أبو محمد الجريري (المتوفى سنة 311) (43) «التصوف الدخول في كل خلق سني والخروج عن كل خلق دني» (القشيري، ص126).
معناه أن التصوف هو الاتصاف بأوصاف الكمال الديني والخلقي؛ أي أن يصبح التصوف صفة ملازمة للنفس لا مجرد رسم أو صورة. (18) أبو بكر الكتاني (المتوفى سنة 322) (44) «التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء» (القشيري، ص127).
هذا المعنى قريب من تعريف الجريري السابق. (19) أبو عمرو الدمشقي (المتوفى سنة 320) (45) «التصوف رؤية الكون بعين النقص، بل غض الطرف عن كل ناقص بمشاهدة من هو منزه عن كل نقص» (نفحات الأنس، ص175).
أي إن التصوف هو رؤية الكمال في الله وحده، أما وجه النقص في الكون؛ فمن حيث هو معلول، ولا يبلغ المعلول كمال علته. (20) أبو علي الروذباري (المتوفى سنة 322) (46) «التصوف الإناخة على باب الحبيب وإن طرد عنه» (القشيري، ص127)؛ أي هو ملازمة المحبة لله، حتى ولو وجدت شواهد بعدم القبول. (47)
وله أيضا: «التصوف صفوة القرب بعد كدورة البعد» (القشيري، ص127). (21) عبد الله بن محمد المرتعش (المتوفى سنة 328) (48) «هذا (أي التصوف) مذهب كله جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل» (الهجويري، ص43).
يفرق بين التصوف الحقيقي، والتصوف الزائف. (49)
وله أيضا: «الصوفي من صفت نفسه من جميع البلايا، وغاب عن جميع العطايا» (تذكرة).
أي إن الصوفي هو الذي لا يكترث بشيء حل به، بلية كان أو عطية؛ لأن جميعها من الله. (22) أبو بكر الشبلي (المتوفى سنة 334) (50) «التصوف شرك؛ لأنه صيانة القلب عن رؤية الغير ولا غير» (الهجويري، ص38).
في حالة «التوحيد» لا يشهد قلب الصوفي إلا الحق وحده، والتصوف صيانة القلب عن رؤية ما سوى الله، ولكن الشهود يظهر أنه لا سوى، وقد سمى الشبلي هذا الموقف «شركا»؛ لأن فيه افتراضا لوجود العالم إلى جانب وجود الله، وهذه لغة شطح لا لغة تصوف عادية. (51)
وله أيضا: «الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق كقوله تعالى:
واصطنعتك لنفسي :
1
قطعه عن كل غير، ثم قال:
لن تراني »
2 (القشيري، ص127).
الصوفي هو الذي يحيا حياته في الله فيكون في حال وجد متصل أو منقطع، وقد كان هذا حال الشبلي نفسه، وهذا معنى اصطفاء الله للصوفي كاصطفائه لموسى عليه السلام، فقد اصطنعه الله لنفسه وقطع علائقه بغيره ثم قال له
لن تراني
أي لن تراني بناظريك ولكنك تراني بقلبك. (52)
وله أيضا: «التصوف: الجلوس مع الله بلا هم» (القشيري، ص127).
أي جلوس العبد في حضرة الله وقلبه خال من هموم الدنيا وشواغلها، وهذه هي الغبطة العظمى في هذه الحياة. (53)
وله أيضا: «الصوفية أطفال في حجر الحق» (القشيري، ص127).
أي هم بمثابة الأطفال في حجر الحق لا حول لهم ولا قوة، يصرفهم الله كيفما شاء. (54)
وله أيضا: «التصوف لمحة محرقة» (القشيري، ص127).
جوهر التصوف عند الشبلي هو لحظة الإشراق التي يكاد يصعق فيها الصوفي عندما يتجلى لقلبه نور الحق. (55)
وله أيضا: «التصوف هو العصمة عن رؤية الكون» (القشيري، ص127).
أي إن الصوفي هو من عصمه الله عن رؤية العالم بعين الاعتبار، أو هو من شغل الله قلبه به وحده، وهذه هي حال الفناء في الله. (56)
وله أيضا: «التصوف أن يكون الصوفي كما كان قبل أن يكون» (تذكرة).
أي يصير إلى حال من الفناء لا يكون له وجود خاص بنفسه كما كان قبل أن يخلق. (57)
وله أيضا: «لا يكون الصوفي صوفيا حتى يرى جميع الخلائق عيالا عليه» (تذكرة). لا يتم هذا إلا في حال فناء الصوفي عن نفسه وبقائه بالله، فإنه إذ ذاك يشعر بأنه منفذ للإرادة الإلهية، وهذه هي الحال التي صاح فيها الحلاج بقوله: «أنا الحق!» (58)
وله أيضا: «الصوفي من لا يرى في الدارين مع الله غير الله» (الهجويري، ص39).
هذا تعبير آخر عن حالة الفناء أو وحدة الشهود. (23) جعفر الخلدي (المتوفى سنة 348) (59) «التصوف طرح النفس في العبودية، والخروج من البشرية، والنظر إلى الحق بالكلية» (تذكرة).
طرح النفس في العبودية أي التحقق بصفات العبد المحض من افتقار إلى الله، وتجرد عن القدرة والإرادة، والخروج من صفات البشرية الذميمة كالحرص والحقد والحسد والبخل ونحوها لا الصفات البشرية إطلاقا؛ فإن العبد لا يخرج من بشريته كما لا يخرج السواد من الثوب الأسود، و«النظر إلى الحق بالكلية» معناه مراعاة الله في كل شيء. (24) أبو الحسن الحصري (المتوفى سنة 371) (60) «الصوفي من كان وجده وجوده، وصفاته حجابه. أعني من عرف نفسه فقد عرف ربه» (تذكرة).
أي إن الصوفي الحقيقي هو الذي يجد وجوده الحقيقي في وجده، ووجده عين فقده؛ لأن من «وجد» نفسه في الله «فقد» وجوده المتعين المتشخص، والصوفي أيضا هو من يرى صفاته حجبا تحول بينه وبين الله، وهذا معنى قوله «من عرف نفسه فقد عرف ربه» أي من أدرك فناء نفسه أدرك بقاءه بالله. (61)
وله أيضا: «الصوفي من لا يجدون له وجودا كوجودهم» (تذكرة).
وجود الصوفي هو وجوده في اللامتعين اللامتناهي؛ لأنه فان عن نفسه باق بالله كما قلنا، ووجود غيره هو الوجود المتعين المتناهي؛ ولذلك قال بعض الصوفية: «التصوف هو الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية.» (62)
وله أيضا: «التصوف صفاء السر من كدورات المخالفات» (الهجويري، ص38).
أي إن جوهر التصوف هو عصمة القلب من مخالفة الله، أو بعبارة أخرى هو المحبة والطاعة. (25) محمد بن أحمد المقري (المتوفى سنة 366) (63) «التصوف استقامة الأحوال مع الحق» (الهجويري، ص41).
الأحوال أعم من أن تكون صوفية؛ فبعضها صوفي مستقيم، وهذه يحفظها التصوف على صاحبه، وبعضها غير مستقيم وهذه ينكرها التصوف، ومعيار الاستقامة هو الحق (الله). (26) علي بن بندار النيسابوري (المتوفى سنة 359) (64) «التصوف إسقاط رؤية الخلق ظاهرا وباطنا» (طبقات الشعراني، ج1، ص106؛ والهجويري، ص41).
أي هو عدم مراقبة الخلق في أي عمل ظاهر أو باطن يقوم به العبد، ومراقبة الله وحده. (27) أبو الحسن الخرقاني (المتوفى سنة 425) (65) «ليس الصوفي بمرقعته وسجاداته ولا برسومه وعاداته، بل الصوفي من لا وجود له» (نفحات الأنس، ص337).
أي ليس التصوف مظاهر خارجية بل هو حقيقة باطنية وهي الفناء في الله.
نشأة التصوف الإسلامي والعوامل التي أثرت فيه
يقول المرحوم الدكتور محمد إقبال في كتابه الصغير القيم «تطور الفلسفة الميتافيزيقية» في فارس
The Development of Metaphysics in Persia (ص96):
ليس من الصواب أن نرجع كل ظاهرة في بيئة ما إلى عوامل خارجة عنها فنهمل بذلك العوامل الداخلية، فإنه لا فكرة من الأفكار ذات قيمة يكون لها سلطان على نفوس الناس إلا إذا كانت تمت إليهم بصلة، فإذا جاء عامل خارجي أيقظها، ولكنه لا يخلقها خلقا، وعندما بحث المستشرقون في أصل التصوف، ذهبوا إلى أن مرده إلى هذا العامل الخارجي أو ذلك، ونسوا أن أية ظاهرة عقلية أو تطور عقلي في أمة، لا يكون لهما معنى ولا يفهمان إلا في ضوء الظروف العقلية والسياسية والدينية والاجتماعية التي عاشت فيها هذه الأمة قبل ظهور تلك الظاهرة.
في هذه العبارة الموجزة الرائعة لخص إقبال النقد الأساسي الذي نريد أن نوجهه إلى المستشرقين في نظرياتهم في هذه المسألة؛ مسألة نشأة التصوف الإسلامي، وأشار إلى الطريق السوي في معالجتها: وهو النظر أولا إلى البيئة العقلية والدينية والسياسية والاجتماعية التي نشأت فيها تلك الظاهرة الكبرى (التصوف) التي غيرت مجرى تاريخ الإسلام.
لا داعي إذن لأن نذهب إلى ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن أصل التصوف في الإسلام يرجع إلى هذا العامل الخارجي أو ذلك؛ إذ من الخطأ البين أن نقول إن كذا وحده هو العلة في ووجود كذا الآخر، لا سيما إذا كانت العلل والمعلولات من الأمور الواقعة في الميادين العقلية أو الروحية أو الاجتماعية؛ لأن الظواهر العقلية والروحية والاجتماعية لا تخضع لقوانين العلية البسيطة التي تخضع لها الظواهر الطبيعية.
التصوف من حيث هو - سواء أكان إسلاميا أو غير إسلامي - استبطان منظم للتجربة الدينية ولنتائج هذه التجربة في نفس الرجل الذي يمارسها. فهو - بهذا الوصف - ظاهرة إنسانية ذات طابع روحي لا تحده حدود مادية زمانية أو مكانية، وليس وقفا على أمة بعينها، ولا على لغة أو جنس من الأجناس البشرية، وكذلك الحال في الفلسفة والفنون فإنها كلها وليدة تجارب روحية تعتلج في النفوس البشرية من حيث هي نفوس بشرية لا من حيث هي نفوس شرقية أو غربية، سامية أو آرية.
وقد يكون من العبث وضياع الوقت أن نصرف مجهودا كبيرا في تعقب أصول فلسفة فلان أو تصوفه أو فنه، ونحللها إلى عناصر ونرجع تلك العناصر إلى مصادر خارجية، مع إغفال الدور الذي تقوم به عقلية فلان هذا وروحه في التفكير والهضم والتمثيل والتعبير بما يتلاءم مع تكوينه العقلي والروحي؛ ولهذا لا نرى قيمة لإنكار وجود فلسفة إسلامية على أساس أن أصل الفلسفة الإسلامية هو الفلسفة اليونانية، ولا لإنكار تصوف إسلامي على أساس أن التصوف الإسلامي في صميمه هندي أو فارسي أو أفلاطوني حديث، كما أنه لا معنى للقول بأن فلانا من الفلاسفة أو الصوفية، أخذ فلسفته أو تصوفه عن فلان لمجرد وجود الشبه بين الاثنين. بل يجب أن نراعي دائما الأمور الآتية:
الأول:
يجب ألا نتكلم في مسألة التأثير والتأثر إلا إذا كانت هناك أدلة تاريخية أي اتصال تاريخي بين شخص وشخص، أو أصحاب مذهب وأصحاب مذهب آخر. فلا يكفي مثلا أن نقول كما قال الأستاذ آسين بلاثيوس أن دانتي متأثر بابن عربي في الكوميديا الإلهية في وصفه للجحيم خاصة، فإن مجرد وجود الشبه بينهما لا يكفي في تقرير تأثر أحدهما بالآخر.
الثاني:
ألا نبالغ في مسألة التأثير والتأثر إلى حد أن نهمل شخصية الفرد وعمله العقلي والروحي.
الثالث:
يجب أن نعترف بالمؤثرات الخارجية في صورها العامة لا في تفاصيلها. فمما لا شك فيه أن الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي قد تأثرا بعوامل خارجية وتيارات فكرية وصلت إلى بيئات المسلمين من ثقافات غير إسلامية متعددة، ولكن تفاصيل المذاهب الفلسفية الإسلامية والنظريات الصوفية الإسلامية من عمل المسلمين أنفسهم، والنتائج التي رتبوها على المذاهب التي استعاروها تختلف في جوهرها عن النتائج التي رتبها عليها أصحاب تلك المذاهب والنظريات أنفسهم. انظر كيف استغل المسلمون نظرية أفلاطون في المثل، ونظرية أرسطو في المحرك الأول، ونظرية أفلوطين في الفيوضات، وكيف استغل متصوفة الإسلام النظريات اليونانية والمسيحية في «الكلمة»
Logos ،
1
وكيف وصلوا إلى نتائج لم تخطر لأصحاب هذه النظريات ببال.
والذي أريد أن أقرره هنا هو أن تاريخ التصوف في الإسلام جزء لا يتجزأ من تاريخ الإسلام نفسه ومظهر من مظاهر هذا الدين وما أحاط به من ظروف وما دخل فيه من شعوب، وليس شيئا اجتلب من الخارج دون أن تكون له صلة بالدين الإسلامي وروحه وتعاليمه.
نعم؛ ليس الإسلام نفسه دينا صوفيا، وما كان ليصير دينا صوفيا لو أنه ظل محصورا في الجزيرة العربية؛ لأنه دين عقلي يخاطب العقل أكثر مما يخاطب الوجدان، ويدعو إلى النظر في خلق السموات والأرض ليستدل الناظر بما يشاهده وما يلاحظه في الكون وفي نفسه على قدرة الله تعالى ووحدانيته وعظمته وجلاله وقيامه بنفسه، لا ليؤديه تأمله في العالم وفي نفسه إلى إنكار ذاته وفنائه في الله والاتصال به عن طريق هذا الفناء كما يقول الصوفية. لم يكن الإسلام، وهو الدين المستند إلى عقيدة التوحيد البسيطة التي يقنع بها العقل بمحض فطرته، ليظهر عنه التصوف وما في التصوف من نظريات معقدة لو لم يخرج من حدود البيئة الصحراوية التي نشأ فيها، وتمتزج تعاليمه بتعاليم وأديان الأمم التي نشر فيها ضوءه، تلك الأمم التي كانت على حظ كبير من الفلسفة والعلم والحياة الروحية العميقة، ولو لم يتصل بتلك الديانات القديمة الغنية بتقاليدها وطقوسها وأساليب عبادتها ومناهج رياضتها النفسية؛ ولهذا نقول: إن التصوف وليد تاريخ الإسلام الديني والسياسي والعقلي والعنصري ولم نقل أنه وليد الإسلام وحده، وتاريخ الإسلام الديني والسياسي والعقلي والعنصري هو تاريخ الأمم الإسلامية، وما كان لها من حضارات وثقافات مزجت بالدين مزجا.
ولم يلق الإسلام داخل الجزيرة العربية تأويلا فلسفيا ولا صوفيا، ولكنه لما أصبح الكتاب المقدس للفرس والمصريين والعراقيين وغيرهم من أهل الحضارات والديانات القديمة، تناولوه بالتفسير والتأويل وقرءوا فيه من معاني التصوف والفلسفة ما شاءت لهم ثقافاتهم، وارتفعوا بهذه التأويلات والتفسيرات إلى مستوى البحوث النظرية العالمية في كثير من الأحيان. لكن الاتصال بين الإسلام والثقافات الأجنبية غير الإسلامية شيء، ونتائج هذا الاتصال شيء آخر، وما وصل إليه المسلمون في ميدان الفلسفة والتصوف كان مزيجا من الإسلام وما اتصل به الإسلام من هذه التيارات الفكرية الخارجية، أو كان نتيجة لازدواج هذين العنصرين، وكان أكبر عامل في هذا الازدواج محاولة المسلمين التوفيق بين دينهم والأفكار الأجنبية التي دخلت البيئات التي انتشر فيها. عن هذا الطريق نجح المسلمون في جعل الإسلام دينا صوفيا، اختلف من غير شك عن الإسلام في نشأته الأولى، ولذلك تلقاه بعض أهل السنة بالقبول وتلقاه غيرهم بالرفض؛ لأنه جرى على أساليب وأتى بأفكار لم تكن معهودة عند أهل السلف.
النظريات التي قيلت في أصل التصوف
والآن نجمل النظريات التي قال بها الباحثون في نشأة التصوف في الإسلام فنقسمها إلى أربع:
أولا:
النظرية القائلة بأن التصوف تعبير عن الناحية الباطنية في الإسلام، وهذا هو ادعاء الصوفية أنفسهم؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم ورثة الرسول؛ أي ورثة العلم الباطن. فالتصوف بهذا المعنى إدراك باطني لحقائق الشريعة المعبر عنها بلسان الظاهر، والباطنيون يأولون القرآن تأويلا خاصا لم يؤثر على النبي أنه فعله، كما لم يؤثر عنه أنه كان صوفيا بهذا المعنى ولا باطنيا.
ثانيا:
النظرية القائلة بأن التصوف رد فعل للعقل الآري ضد دين سام فرض عليه فرضا، ولهذه النظرية صورتان: (أ)
الصورة الهندية: والقائلون بها يرون أوجه الشبه بين بعض النظريات الصوفية في أرقى أشكالها وبين «الفيدانتا»، ولكنه شبه ظاهري لا حقيقي؛ لأن الفناء الصوفي الإسلامي - وهو أخص مظاهر التصوف - يختلف عن النرفانا الهندية.
ولا يوجد من الناحية التاريخية ما يؤيد أي اتصال بين المسلمين والهند قبل ظهور التصوف، ولم يكتب شيء بالعربية عن الهند قبل اكتماله، كما يدل على ذلك كتاب البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» فإن هذا الكتاب الذي كان الأول من نوعه، ظهر بعد ظهور التصوف بزمن طويل، والبيروني من العلماء الثقات الذين عرفوا الهند ولغتها السنسكريتية وتاريخها وأدبها وفلسفتها.
ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن لبعض الأفكار الهندية أثر في متأخري الصوفية كما أشار إلى ذلك فون كريمر في كتابه «تخطيطات في تاريخ الثقافة»
Kulturgeschichte Streifzüge . (ب)
والصورة الثانية هي الصورة الفارسية التي يدعي أصحابها أن التصوف الإسلامي نتاج فارسي في نشأته وتطوره، ولكنها أيضا دعوى لا تقوم على أساس من التاريخ.
نعم كان عدد كبير من أوائل الصوفية من أصل فارسي، ولكن أغلب متأخريهم كانوا من أصل عربي؛ كابن عربي وابن الفارض، وأكثر الذين تأثروا بابن عربي - العربي القح - كانوا من الفرس كالعراقي وأوحد الدين الكرماني وعبد الرحمن جامي وغيرهم.
وسواء قيل إن أصل التصوف الإسلامي هندي أو فارسي فإن السبب فيه راجع إلى تعصب لفكرة الآرية ضد السامية، وادعاء من جهة المتعصبين بأن العقلية السامية ليست أهلا للفلسفة ولا للتصوف ولا للعلوم والفنون؛ ولذلك تنكر نظرياتهم في التصوف الإسلامي كل أصالة، وتجعل منه نتاجا للتفاعل السلالي واللغوي والقومي للشعوب الآرية التي غزاها الإسلام، وأول ما يعاب به على هذه النظرية هو أن الثقافة الإيرانية والسلالة الإيرانية في القرن الثاني الهجري الذي ظهر فيه التصوف كانتا آريتين صرفا، وهذا ما يتنافى مع التاريخ.
ومن ناحية أخرى، إذا سلمنا بأن التصوف كان رد فعل للعقل الآري ضد دين سام فرض على فارس فرضا، وأن كبار المفكرين الفارسيين لم يعتنقوا الإسلام إلا صورة، وكان غرضهم الأول تشويه الإسلام وقلب أوضاعه لأغراض قومية وسياسية، إذا سلمنا بكل هذا تكون النظرية القائمة على تمجيد العنصر الآري في الوقت نفسه ضربة موجهة إلى كبار علماء الفرس وفلاسفتهم ومتصوفتهم المسلمين؛ لأنها تنكر عليهم كل صدق وإخلاص من مجهودهم العقلي والروحي الإسلامي، وهذا ما لا يقول به أحد؛ إذ من ذا الذي يشك في إخلاص سيبويه للنحو العربي، وصاحب الأغاني للأدب والقصص التاريخي العربي، والفخر الرازي للتفسير، وابن سينا للفلسفة، وشقيق البلخي وأحمد بن خضرويه ويحيى بن معاذ وأبي حفص النيسابوري، وأبي عثمان الحيري وأبي حامد الغزالي ومئات غيرهم في التصوف؟! كان هؤلاء جميعا من أصل فارسي ومع ذلك لم نجد فيهم نزعة نحو الانتصار للغتهم الفارسية على حساب اللغة العربية ولا انتصارا لعقائد فارسية قديمة على حساب العقائد الإسلامية، بل بذلوا جهدا صادقا في فهم الإسلام ونشر عقائده. إن العكس هو الصحيح، وهو أن لغة الغازين وأدبهم ودينهم لم تتأثر بلغة المغزوين وأدبهم وأصول عقائدهم، بل فرضت اللغة العربية كما فرض الدين العربي نفسيهما على أهل فارس وغيرها من البلاد الإسلامية غير العربية بحيث لم نجد بعد جيل أو جيلين من بين العلماء من يكتب بالفارسية في فارس ولا باليونانية في سوريا ولا بالقبطية في مصر، وفيما يتصل بالتصوف بوجه خاص، لم تكن العربية لغة التأليف وحسب، بل كانت لغة الوعظ والتعليم.
ثالثا:
نظرية الأفلاطونية الحديثة: وهي نظرية قال بها «مركس» في كتابه «التاريخ العام للتصوف ومعالمه» هيدلبرج سنة 1893، والأستاذان براون في كتابه «التاريخ الأدبي للفرس» ونيكولسون في كتابه «صوفية الإسلام» ومقالاته التي نقلتها إلى العربية في كتاب «في التصوف الإسلامي وتاريخه» القاهرة سنة 1946، وقد اعتمد نيكولسون في دفاعه عن هذه النظرية على ما انتهى إليه بحثه في تصوف ذي النون المصري الذي كان لا شك متأثرا بالأفكار الأفلاطونية الحديثة الشائعة في تراث عصره، وإن كان لا يمثل التصوف الإسلامي برمته، والظاهر أن نيكولسون تحول عن نظريته بعد ذلك في المقال الذي كتبه سنة 1921 في «دائرة معارف الدين والأخلاق» تحت عنوان «التصوف» حيث قال:
وجملة القول إن التصوف في القرن الثالث - شأنه في ذلك شأن التصوف في أي عصر من عصوره - قد ظهر نتيجة لعوامل مختلفة أحدثت فيه أثرها مجتمعة: أعني بهذه العوامل البحوث النظرية في معنى التوحيد الإسلامي، والزهد والتصوف المسيحيين، ومذهب الغنوصية، والفلسفة اليونانية والهندية والفارسية.
ثم يبدو له خطأ إرجاع نشأة التصوف في الإسلام إلى أصل واحد فيقول:
وقد عولجت مسألة نشأة التصوف في الإسلام إلى الآن معالجة خاطئة، فذهب كثير من أوائل الباحثين إلى القول بأن هذه الحركة العظيمة التي استمدت حياتها وقوتها من جميع الطبقات والشعوب والتي تألفت منها الإمبراطورية الإسلامية يمكن تفسير نشأتها تفسيرا علميا دقيقا بإرجاعها إلى أصل واحد كالفيدانتا الهندية أو الأفلاطونية الحديثة.
1
أخفقت هذه النظريات كلها في تفسير نشأة التصوف وتطوره في الإسلام؛ لأن كل واحدة منها تحاول أن ترد هذه الحركة الكبيرة المعقدة إلى أصل واحد، وتنظر إليها من جانب خاص دون الجوانب الأخرى، مع أنها - كما قلنا - حركة سايرت في نشأتها وتطورها نشأة التاريخ الإسلامي وتطوره في بيئاته المختلفة وشعوبه المتعددة وثقافاته الكثيرة. في كل واحدة من هذه النظريات شيء من الحق، ولكن لا واحدة منها تعبر عن الحقيقة كاملة. لقد مر التصوف بأدوار مختلفة لكل دور خصائصه ومميزاته. انتشر في بيئات وشعوب متباينة تباينا ثقافيا وعقليا واجتماعيا بقدر ما كانت متباينة تباينا جغرافيا، ولم يكن بين الشعوب الإسلامية - عندما ظهر التصوف - من الروابط التي تربطها سوى وحدة الدين واللغة. فكان من الطبيعي أن تنمو البذور الأولى للظاهرة الجديدة وتترعرع وتؤتي ثمارها متكيفة بظروف البيئات التي نبتت فيها؛ ولذلك ظهر في تاريخ التصوف الزهد البسيط السني، كما ظهر فيه الزهد الرهباني أو القريب من الرهباني، وظهرت فيه المدارس التي انفردت كل منها بلون خاص من حيث تعاليمها النظرية والعملية ومن حيث اصطلاحاتها، فمدرسة البصرة غير مدرسة الكوفة، وهما غير مدرسة بغداد ومدرسة خراسان وما وراء النهر، وهذه كلها غير مدرسة مصر والشام، ومدارس التصوف الفلسفي غير مدارس التصوف البحت وهكذا. بل إن ما يقال عن متصوف في إحدى هذه المدارس قد لا يقال على متصوف آخر من نفس مدرسته، فما يقال عن إبراهيم بن أدهم غير ما يقال عن معروف الكرخي ، وما يقال عن أبي يزيد البسطامي غير ما يقال عن ذي النون المصري، وما يقال عن الجنيد والمحاسبي غير ما يقال عن الحلاج، وما يقال عن هؤلاء جميعا غير ما يقال عن ابن عربي.
أضف إلى هذا أن التصوف ابتداء من القرن السادس الهجري دخل في دور فلسفي وصل إلى ذروته في تصوف أصحاب وحدة الوجود الذين استفادوا من نظريات التصوف القديم ومصطلحاته وأضافوا إليها ما لم يخطر ببال القدماء.
كان من الطبيعي إذن أن تتعدد العوامل والمصادر من إسلامية وغير إسلامية في نشأة هذه الألوان المختلفة من التصوف وتطورها، وأن يصب في مجرى التصوف العام أثناء سيره في تاريخه الطويل روافد من الفكر تصل إليه كلما شق طريقه في بلد من بلاد الدول الإسلامية المترامية الأطراف، وكان من الطبيعي أيضا أن يعالج الباحثون التصوف على أساس أنه نتاج إسلامي أولا، وعلى أنه متأثر بمؤثرات خارجة عن الإسلام ثانيا، ولكنهم قلبوا الوضع وضلوا الطريق.
ومن ناحية أخرى يجب أن نفرق بين الزهد والتصوف على الرغم من اتصالهما اتصالا وثيقا، وندرس العوامل التي ساعدت على نشأة كل منهما وتطوره على انفراد، فإن العوامل التي كان لها أثرها في ظهور الزهد في الإسلام منذ ظهور الإسلام، غير تلك التي أدت إلى ظهور التصوف فيه ابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وهذه غير العوامل التي ساعدت على ظهور التصوف الفلسفي فيما بعد.
وسنعرض الآن لذكر العوامل التي كان لها أثرها في ظهور الزهد في الإسلام، ثم نردفها بتلك التي أدت إلى ظهور التصوف، فلسفيا كان أو غير فلسفي.
العوامل التي ساعدت على نشأة الزهد في الإسلام
الزهد هو الناحية العملية من التصوف، وهو أسلوب من الحياة يحياه المؤمن، وموقف خاص من الدنيا وزخرفها وشهواتها ولذاتها، ومن النفس ومطامعها، وأخذ الإنسان نفسه بأنواع الرياضات والمجاهدات الروحية والبدنية، وهو بهذا المعنى إسلامي حث عليه الدين وأخذ به النبي عليه السلام وكثير من الصحابة الذين نعد من أبرزهم أبا ذر الغفاري وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي والبراء بن مالك، وبهذا المعنى العام نستطيع أن نقول إن الإسلام نفسه كان العامل الأول والأهم في نشأة حركة الزهد بين المسلمين. أما ما طرأ على الزهد بعد ذلك من تعقيدات، وما دخل فيه من نظم وقواعد، وما ظهر فيه من طقوس، فمرده إلى عوامل أخرى ربما كان أبرزها الرهبنة المسيحية. (1) العامل الأول
هو تعاليم الإسلام نفسه. فإن القرآن حث على الورع والتقوى وهجر الدنيا وزخرفها، وحقر من شأن هذه الحياة وعظم من شأن الآخرة، ودعا إلى العبادة والتبتل وقيام الليل والتهجد والصوم ونحو ذلك مما هو في صميم الزهد. قال تعالى:
واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ،
1
وقال:
إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا
أي إن العبادة التي تنشأ؛ أي تحدث بالليل، هي أثقل على المصلي من غيرها، ولكنها أقوم قيلا أي أثبت قولا، وقال تعالى:
يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، وترتيل القرآن بمعنى تلاوته بتمعن وتدبر وتفكير، ضرب من ضروب العبادة، وقال مشيرا إلى صفات الورع والتقوى والزهد، ومطالبا المسلمين بالتحلي بها رجالا كانوا أو نساء:
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .
2
في هذا النص الصريح الذي يسوي بين المرأة والرجل في الفضائل الدينية، رد حاسم على المتجنين على الإسلام بقولهم إنه دين يخاطب الرجال ويسقط النساء من حسابه، وأن المرأة المسلمة لا روح لها.
زد على ذلك أن القرآن قد صور الجنة والنار، والنار بوجه خاص، بصورة دفعت بكثير من المسلمين إلى التفاني في العبادة طلبا للنجاة، وألقت الرعب في قلوب آخرين خوفا من الوقوع في النار، فقضوا الليالي في التوبة والاستغفار والبكاء، وقد بلغ وصف القرآن للنار وما أعد فيها من صنوف العذاب من القوة مبلغا أثار الفزع في قلوب المؤمنين، وكان العامل الأكبر عند أجيال الزهاد الأولين في دخولهم طريق الزهد وهجر الدنيا. من ذلك قوله تعالى:
إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا * لابثين فيها أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا * جزاء وفاقا ،
3
وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ،
4
خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين ،
5
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة .
6
وفي ذم الدنيا والحث على الزهد فيها وردت آيات كثيرة منها:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ،
7
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ،
8
فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى .
9
وفي القرآن وصف للجنة ونعيمها وملاذها البدنية والروحية التي على رأسها لذة النظر إلى وجه الله الكريم؛ مثل قوله:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة .
10
فالقرآن إذن قد أعطى الناحيتين حقهما؛ ناحية الترهيب وناحية الترغيب، وحرك في قلوب المؤمنين مشاعر الخوف والرجاء، ووصف الله نفسه بأنه جبار منتقم معذب، كما وصف نفسه بأنه غفور رحيم ودود. فكان لكل هذا أثره في دفع أتقياء المسلمين إلى التقرب من الله بالعبادة والمجاهدة والزهد في الدنيا طمعا في الثواب وفرارا من العقاب. (1-1) الإسلام والرهبانية
ولكن الإسلام الذي دعا إلى الزهد في الدنيا بالمعنى العام الذي شرحناه، لم يدع إلى الرهبنة التي هي الانقطاع إلى العبادة وترك الكسب وهجر الحياة الاجتماعية، ولا إلى الترهبن بمعنى حياة العزوبة، بل هو صريح في اعتبار الرهبانية بدعة ابتدعها المسيحيون في قوله تعالى:
ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .
11
وكذلك في الحديث القائل: «لا رهبانية في الإسلام.» الذي يستدل به عادة على تحريم الرهبانية في الإسلام.
ولكن هنالك رأيا آخر في فهم الآية والحديث؛ أما الحديث فقد قيل إنه من وضع رجال القرن الثالث الذين وضعوه لتأييد الآية على أنها لتحريم الرهبنة، وأما الآية فقد فسرها بعض رجال القراءات كابن مجاهد، وبعض رجال التصوف كالجنيد على أنها للإباحة، وأولوها على الوجه الآتي:
ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
أي اخترعوها من عند أنفسهم ولم نفرضها عليهم فرضا، وإنما ابتدعوها ابتغاء رضوان الله،
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون
أي فالذين آمنوا من هؤلاء المبتدعين للرهبانية جازيناهم على إيمانهم، ولكن كثيرا منهم لم يتبع أصولها الصحيحة وفسق، وليس في هذا كله تحريم للرهبانية من حيث هي، ولكن جمهور المسلمين من أهل السنة أجمعوا على أن الآية نص في التحريم.
وقد روى ابن الجوزي كثيرا من الأحاديث يستدل بها على خطأ الصوفية في أفعالهم التي تشبه الرهبنة المسيحية والبرهمية مثل الترهب في الجبال والسياحة في الأرض والخروج من المال وهجر النساء والامتناع عن أكل اللحوم ومس الطيب.
روي أن امرأة عثمان بن مظعون دخلت يوما على نساء النبي
صلى الله عليه وسلم
فرأينها سيئة الحال فقلن لها: «ما لك؟ فما في قريش رجل أغنى من بعلك!» قالت: «ما لنا منه شيء، أما ليله فقائم وأما نهاره فصائم.» فدخلن إلى النبي فذكرن له، فلقيه فقال: «يا عثمان أما لك بي أسوة؟» فقال: «بأبي وأمي أنت، وما ذاك؟» قال: «تصوم النهار وتقوم الليل؟» قال: «إني لأفعل!» قال: «لا تفعل؛ إن لعينك عليك حقا، وإن لجسدك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فصل ونم، وصم وأفطر.»
12
وبلغ النبي أن عثمان بن مظعون هذا قد اتخذ بيتا فقعد يتعبد فيه، فأتاه رسول الله فأخذ بعضادتي باب البيت الذي هو فيه وقال : «يا عثمان، إن الله عز وجل لم يبعثني بالرهبانية (مرتين أو ثلاثا) وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحاء.»
13
وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن صيام الأبد فقال: «لا صام من صام الأبد.»
14
وكان صيام الأبد سنة جاهلية، وأنه نهى كهمس الهلالي عن مثل هذا الصوم،
15
وأمره بصوم شهر رمضان ويوم أو يومين أو ثلاثة من كل شهر.
هذا هو موقف الإسلام من الرهبنة ومن الزهد اللذين يجب أن نفرق بينهما. ليس من شك في أن القرآن وسيرة النبي يشيران إلى الزهد في الدنيا، لا إلى هجرها والخروج منها أو العيش فيها عيشة الأموات. لم يحرم الإسلام التمتع بالحلال من أمور الدنيا، ولكن الذي حرمه هو الانغماس في شهواتها التي تشغل القلب عن ذكر الله:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ،
16
وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون .
17
الإسلام دين يأخذ بفضيلة الوسط: لا إفراط ولا تفريط. يدعو إلى الزهد في الدنيا: أي القصد في الشهوات، لا إلى الحرمان واعتزال الدنيا ومن فيها وما فيها. يدعو إلى التمتع بالحلال، لا إلى الانهماك في الحلال والحرام؛ لأن الإسلام قبل كل شيء وبعد كل شيء دين عملي اجتماعي، والزهد بالمعنى المسيحي أو البوذي مخالف لروح الحياة الاجتماعية.
وقد اعتمد زهاد المسلمين الأوائل كل الاعتماد على ما ورد في القرآن من آيات تشير إلى الزهد وموقف الإنسان من الدنيا ومن النفس ومن الله والدار الآخرة ، واستوحوا معاني هذه الآيات في إقامة نظام للزهد له قواعد وأصول ورياضات. ثم جاء المتأخرون فخرجوا من الآيات القرآنية ما شاء لهم التخريج وتوسعوا في معانيها توسعا ارتفع بها إلى مستوى البحوث النظرية، وذلك في ظل تجاربهم الروحية من جهة، وظل الثقافات والفلسفات الأجنبية غير الإسلامية من جهة أخرى. (2) العامل الثاني
والعامل الثاني في نشأة الزهد في الإسلام هو ثورة المسلمين الروحية ضد نظام اجتماعي وسياسي قائم؛ وذلك أن المسلمين عندما اتسعت فتوحاتهم وكثرت غنائمهم أقبل الكثيرون منهم على الدنيا وجنحوا إليها، وشجعهم على ذلك الثراء المفاجئ الذي أصابوه، وكانت نتيجة ذلك أن قامت في نفوس أتقيائهم ثورة داخلية هي نزاع بين نفس لا تزال على إيمان غض قوي، ودنيا مقبلة عليهم بشهواتها ومباهجها، وكان الطريق الوحيد للتخلص من هذا المأزق هو الفرار من الحياة وما فيها من لذات، ورياضة النفس على الطاعات والمجاهدات، وربما كانت دعوة أبي ذر الغفاري صدى لهذه الثورة تمثلت في النقمة على أصحاب الثراء من بني أمية وغيرهم.
وتظهر آثار هذه الثورة ضد مطامع النفس من جهة ومغريات الحياة من جهة أخرى، من بين ثنايا أقوال الصوفية في كل العصور، ولكنها أظهر ما تكون في مواعظ الحسن البصري ووصايا المحاسبي، فإن الصوفية بتنظيم حياتهم الروحية قاوموا الحياة الاجتماعية الجارفة وحيوا حياة مطمئنة لا تستهدف لخطر.
ولكن أتقياء المسلمين ثاروا على النظام السياسي القائم كما ثاروا على النظام الاجتماعي غير العادل، فكما قاوموا الحياة ومغرياتها بطريقة إيجابية، قاوموا الحكم السياسي الجائر بطريقة سلبية، فكأنهم بذلك ثاروا على السلطتين جميعا؛ سلطة الحكام وسلطة النفس.
لقد حدثت في المائة الأولى من عهد الإسلام حوادث سياسية خطيرة مثل الحروب الأهلية الدامية الطويلة التي وقعت بين علي ومعاوية، والفتن والقلاقل في عهد عثمان من قبل، والاضطرابات بين بني أمية والبيت العلوي بعد ذلك، وتبع كل هذا اضطهاد لآل البيت وتشريد وتقتيل وكبت للحرية الشخصية لم يسبق له مثيل.
وظهرت الآراء السياسية في النظريات الدينية وأصبحت جزءا من عقائد المسلمين، مثل قول الناس في علي ومعاوية، وفي مسألة التحكيم والإمامة ونحوها، وتطرف القائلون في أقوالهم وآرائهم، وساهم الخلفاء في هذه الآراء واضطهدوا مخالفيهم فيها، وكثر اضطهاد كل من وصف بأنه زنديق أو مبتدع.
كل ذلك أدخل الرعب في قلوب المسلمين وأحدث القلق وقضى على الشعور بالأمان، وحرك في الناس الميل إلى العزلة والفرار من الحياة طلبا للسلامة وراحة الضمير، ووجدوا ما يطلبون في عزلة الزهاد وخلوات العابدين، وهنا حل النظام الروحي الداخلي محل النظام السياسي الخارجي. (3) العامل الثالث: الرهبنة المسيحية
وجدت المسيحية في بلاد العرب قبل الإسلام بنحو مائتي سنة، كما كانت موجودة قبل الإسلام في مصر والشام وشمال أفريقية، وكان للمسيحيين في جميع أنحاء البلاد التي صارت فيما بعد إسلامية أديرة كثيرة، وكان الرهبان المسيحيون يجوبون الصحراء ويطوفون القرى، كما كانوا موضع احترام وتقدير الناس في بلاد العرب وغيرها، وقد سجل الشعر الجاهلي كثيرا من مناقبهم. بل إنهم كانوا موضع احترام المسلمين على عهد الرسول نفسه، فقد وردت الأخبار بأنه
صلى الله عليه وسلم
كان يجلهم ويحب مجالستهم والتحدث إليهم، وكان أبو بكر يحترم الرهبان وينهى عن اضطهادهم، قيل إنه لما فتح المسلمون الشام نصحهم بأن يتركوا الرهبان في صوامعهم لأنهم يبتغون وجه الله، ولم نذهب بعيدا والقرآن نفسه صريح في مدح المسيحيين والثناء على رهبانهم حيث يقول:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .
18
كان للرهبان المسيحيين - لا للدين المسيحي من حيث هو دين - أثر غير قليل في بعض الوثنيين من العرب في الجاهلية. أما عامة العرب فقد بقوا على وثنيتهم مشتغلين بأمور الدنيا ومتاعبها ولذاتها، غير مكترثين ولا مفكرين في حياة أخروية يعدون لها أنفسهم قبل الموت. هؤلاء الرهبان هم الذين بذروا بذور الزهد في الجزيرة العربية قبل البعثة، فلما جاء الإسلام واعتنق الزهد من أهله من اعتنق، لم يكن الزهد غريبا عليهم ولم يكن بدعا، ولكن البدعة فيه - من وجهة النظر الإسلامية - أنه كان من نوع خاص قاومه الإسلام على نحو ما أسلفنا، وقد استمر تأثير الرهبان المسيحيين في زهاد المسلمين بعد ظهور الإسلام، وكان تأثيره في الناحية التنظيمية أكثر منه في ناحية المبادئ العامة في الزهد، تلك المبادئ التي ظلت إسلامية في الصميم.
وكثيرا ما نقرأ عن زيارات عباد المسلمين للرهبان في صوامعهم وأخذهم عنهم بعض تعاليمهم، من ذلك ما روي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: «تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان.»
19 (4) العامل الرابع: الثورة ضد الفقه والكلام
يرجع هذا العامل إلى ظروف إسلامية بحتة شأنه في ذلك شأن العاملين الأول والثاني؛ وذلك أن أتقياء المسلمين لم يجدوا في فهم الفقهاء والمتكلمين للإسلام ما يشبع عاطفتهم الدينية، فلجئوا إلى التصوف لإشباع هذه العاطفة. أما الفقهاء فقد استنبطوا نوعا من الشريعة ليس فيه من التقوى إلا اسمها أو رسمها، كما أنهم وقفوا موقف عداء صريح من كل من يخالف موازينهم حرفيتهم في فهم الدين، وأما المتكلمون فقد ولدت حركتهم العقلية العنيفة شكا في كل شيء وأشاعت الحيرة والبلبلة في الأفكار، فدفع ذلك بالناس إلى تلمس اليقين من طريق آخر وهو طريق الوجدان والشهود الذي هو طريق الصوفية، وسيأتي تفصيل الكلام في موقف الصوفية من الفقهاء والمتكلمين في الفصل الذي عقدناه عن الثورة الروحية في الإسلام.
مصادر التصوف الإسلامي
سبق أن ذكرنا محاولة بعض المستشرقين رد التصوف برمته، الفلسفي منه وغير الفلسفي، إلى مصدر واحد، وأوردنا ما أوردنا من الاعتراضات على مثل هذه المحاولة وبينا استحالتها.
والحق أن التصوف الفلسفي لم يظهر في الإسلام إلا بعد أن تهيأت الظروف الصالحة لظهوره واستعدت النفوس لقبوله وتوافرت العوامل على نموه، وقد كانت هذه الظروف وتلك العوامل مزيجا مختلطا لا يقل في اختلاطه عن الأمم التي تألفت منها الإمبراطورية الإسلامية ذاتها، وأقصى ما يستطيع البحث العلمي أن يكشف عنه هو أصول النظريات والأفكار الفردية عند هذا الصوفي أو ذاك، لا النظريات الصوفية الفلسفية في جملتها. أما فكرة الأصل الواحد فسأغفلها كل الإغفال، وسأشير فيما يلي إلى أهم المصادر التي أثرت في التصوف الفلسفي في صورته العامة مع الإشارة إلى بعض المسائل الصوفية المتصلة بهذه المؤثرات. (1) المصدر الأول: القرآن والحديث
نعود مرة أخرى فنذكر القرآن والحديث كمصدر أول من مصادر التصوف الفلسفي كما ذكرناهما في مصادر الزهد؛ فقد استغل متصوفة الإسلام هذين المصدرين كما استغلهما المتكلمون والفلاسفة والشيعة وكل مفكر إسلامي، واستخدم الصوفية في فهمها طرقا متنوعة من التأويل، وقرءوا في نصوصهما معان جديدة لم يسبقوا إليها، وحملوا هذه النصوص أحيانا ما لا تحتمل كما فعل ابن عربي في كتابه «فصوص الحكم» الذي يخرج في كل فصل من فصوله صورة من صور مذهبه في «وحدة الوجود» مستندا إلى طائفة من آيات القرآن، وهو في هذا الكتاب وفي غيره من كتبه يكتب بلغتين؛ لغة الظاهر التي تفهم من منطوق النص القرآني، ولغة الباطن وهي التأويل الصوفي الفلسفي الذي يخضع النص القرآني له. «فالوجه» في قوله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه
1
هو الذات الإلهية التي لا تفنى ولا يعتريها التغير والفساد، في مقابل المظاهر الوجودية المتغيرة المتحولة التي نسميها عالم الظاهر أو الوجود الخارجي، و«الغيب» في قوله تعالى:
الذين يؤمنون بالغيب
2
هو الله، وعالم الغيب هو عالم الألوهية في مقابل عالم الشهادة: فهما اسمان لشيء واحد منظور إليه من وجهين، أو حقيقة واحدة منظور إليها باعتبارين؛ وبالاعتبار الأول هي الحق وبالثاني هي الخلق، وفي قوله تعالى:
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ،
3
وقوله:
ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون
4
يفسر القرب بأنه راجع إلى أن الحق هو ذات العبد وحقيقته، وليس أقرب إلى الشيء من ذاته، والنور في قوله تعالى:
الله نور السماوات والأرض
5
المراد به الوجود الحقيقي في مقابل الوجود الظاهري أو الاعتباري الذي هو «الظل»، ولما كان «الحق» هو الوجود الحقيقي الذي ينكشف به كل موجود كما تنكشف الأشياء بنور الشمس، كان نور السموات (وهي ما علا من الموجودات)، ونور الأرض (وهي ما سفل منها)، و«القلم» الوارد ذكره في القرآن معناه عند ابن عربي العقل الأول، و«اللوح المحفوظ» النفس الكلية، ومعنى «جهنم» البعد، ومعنى «الكلمة» العقل، وآدم هو الحقيقة الإنسانية، ومحمد - في حقيقته - هو الإنسان الكامل، وهكذا وهكذا. (2) المصدر الثاني: علم الكلام
وهو مصدر أغفله كثير من الباحثين ولم يقدروا أثره في تطور العقائد الصوفية مع أن كثيرا من المسائل الصوفية الفلسفية متصل بمسائل علم الكلام، أو هي هي ظاهرة في ثوب صوفي، والناظر في كتب التصوف أمثال «اللمع» للسراج و«التعرف» للكلاباذي و«الرسالة» للقشيري، يجد في أقوال الصوفية مدى استغلالهم لعلم الكلام ومزجهم لنظريات المتكلمين وأساليبهم بنظريات التصوف وأساليبه، وقد تسرب إلى التصوف الفلسفي كثير من نظريات الأشاعرة والكرامية والشيعة والإسماعيلية الباطنية والقرامطة.
ونكتفي بالإشارة هنا إلى فكرة وحدة الوجود التي هي أخص مظهر للتصوف الفلسفي الإسلامي. فإنها - فيما نعتقد - راجعة في أصل نشأتها إلى تفكير كلامي بحت، وليست، كما يقول بعض المستشرقين، وليدة عامل خارجي كالفلسفة الهندية. فقد بدأ المسلمون يبحثون في عقيدة التوحيد، فوقعوا من حيث لا يعلمون في القول بوحدة الوجود؛ بدءوا ببحث معنى الوحدانية، فقالوا بنفي الشريك والضد والند والشبيه والمثيل، وفسروا الله الواحد الواجب الوجود بمعنى أنه ينفرد بالوجود الحقيقي وأن كل ما عداه عدم محض؛ لأن كل ما عداه ممكن الوجود (أي وجوده من غيره لا من ذاته). ثم فسروا «واجب الوجود» بأنه الفاعل الحقيقي والقادر الحقيقي والمريد الحقيقي. سئل الجنيد عن التوحيد فقال: «هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك له.» ثم توسعوا في معنى التوحيد فلم يقفوا عند نفي الشريك لله، بل نفوا وجود كل ما سوى الله، وأنكروا الكثرة وعدوها من فعل الخيال والوهم، كما ذهب إليه ابن عربي، وهكذا انتهى بهم الأمر إلى أن يقولوا بدلا من «لا إله إلا الله»: «لا موجود على الحقيقة إلا الله .» أو ما شاكل ذلك من العبارات الصريحة الدلالة على وحدة الوجود، وسموا عقيدة التوحيد الأصلية توحيد العوام، ووحدة الوجود توحيد الخواص، وأوردوا لكل منهما تعريفات. يقول الجنيد في تعريف العوام: «هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته.» وفي تعريف الخواص: «إنه الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية.» (3) المصدر الثالث: الأفلاطونية الحديثة
من غريب الأقدار أن يكون ذلك المصدر الهام الذي أثر في جميع مناحي الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي مجهول الأصل عند المسلمين مما يدل على أنهم لم يعرفوه في منبعه، وإنما عرفوا ما عرفوا عنه بطريق التلقين الشفوي من جهة، وبواسطة المختصرات التي ألفها بعض السريان المسيحيين من جهة أخرى. فهم لا يعرفون «أفلوطين» المؤسس الحقيقي لمذهب الأفلاطونية الحديثة ولا كتابه «التاسوعات»، وإن كان يشير إليه الشهرستاني إشارة عابرة ويلقبه بالشيخ اليوناني، وهم لا يعرفون عن «فورفوريوس» تلميذ أفلوطين المقرب وناشر كتبه أكثر من أنه صاحب كتاب «المدخل» إلى منطق أرسطو، وهو المدخل المعروف باسم «إيساغوجي»، ولا يعرفون عن «أبروقلس» إلا رأيه في قدم العالم الذي رد عليه من المسيحيين يحيى النحوي ومن المسلمين الغزالي، ولا يعرفون إلا القليل المشوه عن «يمبليخوس» أكبر رجال الفرع الثاني لمدرسة الأفلاطونية الحديثة.
وقد يطول بنا الكلام لو عددنا الأفكار الأفلاطونية الحديثة التي تسربت إلى التصوف الفلسفي الإسلامي وامتزجت بعناصره الأخرى، ويكفي أن نقول على سبيل المثال: إن نظرية المتصوفين في الكشف والشهود أفلاطونية حديثة في صميمها، وكذلك نظرياتهم في المعرفة التي هي ترجمة لكلمة «غنوص» اليونانية، وفي النفس وهبوطها إلى هذا العالم، وفي العقل الأول والنفس الكلية، بل في الفيوضات: كلها مستمدة من مصادر أفلاطونية حديثة مع قليل أو كثير من التحوير.
ويحسن بنا أن نشير إلى ثلاثة من أهم مؤلفات الفلسفة الأفلاطونية الحديثة عرفها المسلمون قبل انتهاء القرن الثالث الهجري، وكانت لا شك معتمدهم في هذا المذهب، وإن لم يعرفوها على أنها من مؤلفات هذا المذهب، ولكل من هذه المصادر الثلاثة تاريخ لا يزال محوطا بالغموض، ولا يزال رهن البحث والتحقيق .
أولها:
كتاب أثولوجيا أرسطاطاليس، أو «قول في الربوبية»، ويشير عنوان الكتاب إلى نسبته إلى أرسطو، وهي نسبة برهن البحث الحديث على خطئها؛ إذ الكتاب ملخص لبعض أبواب كتاب التاسوعات لأفلوطين.
الثاني:
وهو أقل شهرة من الأول وإن لم يكن أقل منه أثرا في الفلسفة والتصوف الإسلاميين، وهو كتاب «الإيضاح في الخير المحض»، وهو منسوب خطأ إلى أرسطو أيضا؛ إذ الكتاب في الحقيقة ملخص مهوش لكتاب «المبادئ الإلهية» «أسطخيوسيس ثيولوغيقي» الذي ألفه أبروقلس أعظم رجال المذهب الأفلاطوني الحديث في مدرسة أثينا.
وإننا لا نعرف حتى الآن إذا كان كتاب الإيضاح من تلخيص بعض المسلمين ممن كان له علم بكتاب أبروقلس، أو أنه ترجمة لأصل يوناني أو سرياني ضاع، ولكننا نعرف أن الكتاب قد ترجم من نسخته العربية إلى اللغة اللاتينية، وعرف في هذه الترجمة باسم «كتاب العلل» الذي وضع عليه القديس توما الأكويني (المتوفى سنة 1274) شرحه المشهور.
وبين كتابي أثولوجيا أرسطاطاليس والإيضاح في الخير المحض مشابهة كبيرة، لا في المادة فحسب بل في الأسلوب والاصطلاحات، مما حمل بعض النقاد على القول بأن الكتابين صدرا عن قلم واحد.
الثالث:
هو الكتابات التي كتبها كاهن سوري مجهول الاسم من تلامذة استيفن بارصديلي (من رجال القرن الخامس الميلادي)، وقد نسبت خطأ إلى المدعو ديونسيوس الأريوباغي أحد الذين تنصروا على يد القديس بولص، ولكن هذا المدعو ديونسيوس الأريوباغي لم يكن إلا كاهنا سوريا أخفى اسمه لأمر ما، وعنوان الكتابات «الله المقدس»، والمعروف أنها ترجمت فور ظهورها مباشرة إلى اللغة السريانية، ثم إلى اللغة اللاتينية سنة 850 على يد سكوتس إريجينا، وأنه لم ينته القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) حتى كانت معروفة في العالم المسيحي من ضفاف دجلة إلى المحيط الأطلنطي.
كان لهذه الكتابات تأثيرها في التصوف المسيحي ثم في التصوف الإسلامي من ناحية أنها تؤكد الجانب الإلهي لا في المسيح وحده بل في الإنسان من حيث هو إنسان، وخلاصة الفكرة الرئيسية فيها أن طبيعة الإنسان والطبيعة الإلهية موجودتان في كل إنسان، وأن الحياة الدنيا (حياة البدن ) ليست سوى صورة من الحياة الإلهية العليا، وأن مصير الإنسان إلى الله، ولا وسيلة للاتصال بالله إلا برياضة النفس وتصفيتها ومعالجة الأحوال الصوفية، بل لا وسيلة لمعرفة الله إلا بها، وإذن لا مجال للقول بالثالوث المسيحي ولا بالمعصية ولا بالكفارة من الذنوب.
وليس «الحلول» على هذه النظرية سوى صورة من صور اتحاد اللاهوت بالناسوت. كل شيء فيض من الله أو تجل له، وليس شوق الإنسان إلى الله إلا علامة حنين النفس إلى الرجوع إليه، فإن كل شيء منه وإليه.
كانت هذه تعاليم الكنيسة الشرقية، وكان لها صداها في الفكر الإنساني عامة، وفي التصوف الإسلامي بوجه خاص. فليس كلام الصوفية في الفيض الإلهي والتجليات، وقولهم في الله أنه الأول والآخر والظاهر والباطن - بالمعنى الفلسفي - إلا صدى لبعض المعاني السالفة الذكر. (4) المصدر الرابع: التصوف الهندي
أشرنا فيما مضى إلى رأي من يقول إن الفناء الصوفي نوع من النرفانا الهندية، ورفضنا هذا الرأي على أساس أن النرفانا ظاهرة سلبية محضة وفكرة متفرعة عن مذهب تشاؤمي شامل، في حين أن «الفناء» الصوفي له ناحيته الإيجابية كما أن له ناحيته السلبية، وأنه لا دخل له في فلسفة تشاؤمية في طبيعة الوجود، ومع ذلك فقد كان للتصوف الهندي أثره في بعض نواحي التصوف الإسلامي لا سيما ما يتصل منها بالطقوس الدينية والرياضات الروحية وأساليب مجاهدة النفس.
وقد شقت الثقافة الهندية طريقها إلى بلاد الفرس وبلاد غربي آسيا مما يلي الحدود الهندية قبل الفتح الإسلامي للهند بنحو ألف عام؛ أي قبل فتحها على يد السلطان محمود الغزنوي المتوفى سنة 421ه، والدليل على ذلك أن مدينة بلخ كانت قبل الفتح الإسلامي بقرون من أهم مراكز التصوف البوذي ومركزا لكثير من الأديرة القديمة، وقد استمرت شهرة هذه المدينة وسمعتها الصوفية بعد الإسلام ونشأ فيها عدد كبير من أوائل المتصوفة؛ منهم: إبراهيم بن أدهم الذي قال فيه الأستاذ جولد زيهر أن قصته حيكت على مثال قصة بوذا، وشقيق البلخي وأبو حامد بن خضرويه من مشايخ خراسان، ومن الذين كان للتصوف الهندي أثر فيهم من غير شك أبو يزيد البسطامي الذي يقول عن نفسه أنه تلقى طريقته عن أبي علي السندي الذي كان يعلمه الطريقة الهندية المعروفة بمراقبة الأنفاس.
6 (5) المصدر الخامس: المسيحية
ذكرنا ما فيه الكفاية عن صلة الزهد في الإسلام بالرهبنة المسيحية وأشرنا إلى الفوارق الأساسية بينهما، كما بينا أن الذي كان له شيء من التأثير في الزهد الإسلامي هو الرهبنة المسيحية لا الدين المسيحي من حيث هو دين. أما التصوف الإسلامي فقد كان لبعض العقائد المسيحية أثر فيه، فقد قال بعض الصوفية بالحلول بالمعنى المسيحي كالحسين بن منصور الحلاج الذي يقول:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
7
وفي هذه الأبيات إشارة إلى ثنائية الطبيعة الإنسانية؛ اللاهوت والناسوت، وهما اصطلاحان أخذهما الحلاج عن المسيحيين السريان الذين استعملوهما للدلالة على طبيعة المسيح، وقد روي عن الحلاج أبيات أخرى صريحة في الحلول، والحلول عقيدة يقرنها المسلمون دائما بالمسيحية، فهو يصف روحه والروح الإلهي في حالة مزج تام حيث يقول:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
8
أو اتحاد تام حيث يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
9
وأخذ بعض متفلسفة الصوفية بفكرة التثليث، وإن كانوا فهموها بمعنى غير المعنى المسيحي، وذلك كابن عربي الذي يقول في «فصوص الحكم»: «اعلم وفقك الله أن الأمر كله (يعني الخلق) مبني في نفسه على الفردية ولها التثليث فهي من الثلاثة فصاعدا: فالثلاثة أول الأفراد، وعن الحضرة الإلهية وجد العالم، فقال تعالى:
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
وهذه ذات ذات إرادة وقول. فلولا هذه الذات وإرادتها وهي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما، ثم لولا قوله عند هذا التوجه «كن» لذلك الشيء، ما كان ذلك الشيء.»
10
ويجهر ابن عربي برأيه في التثليث في صراحة عجيبة حيث يقول:
تثلث محبوبي وقد كان واحدا
كما صير الأقنام بالذات أقنما
ويتخذ من التثليث أساسا لكل إنتاج وكل إيجاد في عالمي الكائنات والمعاني على السواء. فالإنتاج في العالم الطبيعي قائم على ثلاثة؛ الأب والأم والابن، والإنتاج في الاستدلال القياسي قائم على ثلاثة حدود وثلاثة قضايا، وهكذا.
وفيما ذكره ابن عربي عن «الكلمة» والحقيقة المحمدية التي يقول إنها كانت في الوجود قبل أن يخلق الله العالم وأن بواسطتها ومن أجلها خلق الله الخلق، مسحة من الفلسفة المسيحية التي وصلته على النحو الذي صاغها مفكرو الآباء المسيحيين بالإسكندرية منصبغة إلى حد كبير بأفكار إسلامية أدخلها عليها بعض فلاسفة الإسلام ومتصوفيه أمثال الحلاج.
11
أدوار التصوف ومدارسه
مر التصوف - إذا استعملنا هذه الكلمة بأوسع معانيها - بأدوار مختلفة متمايزة لكل منها مميزاته وخصائصه، بل يكاد يكون لكل منها زمن معين ظهر فيه، وقد ذكرنا أن اسم «الصوفي» لم يظهر ولم يشع استعماله قبل المائتين، والحقيقة أنه لم يوجد إلى ذلك العهد شيء ينطبق عليه وصف «التصوف» بمعناه الدقيق؛ أي الحياة الروحية المنظمة ذات الأحوال والمقامات والمواجد والأذواق والإشراق، وإنما الذي وجد هو الزهد. فلو فهمنا التصوف بمعناه العام، اعتبرنا الزهد أول دور من أدواره، ولم يكن الصوفي في هذا الدور يعرف باسم الصوفي، بل كان يطلق عليه اسم الزاهد أو العابد أو الفقير أو الناسك أو القارئ، والقراء اسم قديم للزهاد.
1
ولم يكن لهذه الألفاظ معنى زائد على شدة العناية بأمر الدين ومراعاة أحكام الشريعة، والفقر والزهد في الدنيا بعض مظاهر ذلك.
فأساس الزهد في العصر الأول كان الفقر وإنكار الذات وهجر الدنيا، أو على الأقل تحقيرها، مع مراعاة دقيقة لآداب الشريعة وأوامرها، وبهذا المعنى نستطيع أن نعد النبي عليه السلام والصحابة والتابعين من الزهاد، وكان زهدهم من النوع البسيط الساذج الذي لا يعدو ما ذكرناه مع استشعار شديد بالخوف من الله وعذابه، والرجاء في جنته وثوابه، والمبالغة في تقدير المعصية.
لم يكن الزهد في هذا العصر الإسلامي المبكر حركة من الحركات الدينية، ولا مذهبا من المذاهب، ولا نظاما جماعيا، بل كان نزعة فردية رائدها الدين وحده؛ القرآن وسنة الرسول، والظاهر أن المسلمين في هذا العصر كانوا منصرفين إلى الجهاد في سبيل الله ونشر دعوته أكثر من انصرافهم إلى حياة الزهد والاعتكاف، فإن الجهاد - وهو بذل النفس في سبيل الله - كان أكبر شرف يناله المسلم، وكان نظير الاستشهاد عند المسيحيين.
وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد.» والظاهر من سير بعض كبار المجاهدين في الإسلام أن الجهاد كان ينظر إليه بنفس النظرة التي نظر بها فيما بعد إلى الزهد، فإن كثيرا من صفات الزهد والتقشف ونحوهما خلعت على المجاهدين، ولكن سرعان ما تحول هذا الزهد البسيط إلى زهد عميق معقد، وأصبحت له حياة منظمة وقواعد وشروط وشيوخ؛ فقد ظهر بعد الزهاد الأوائل زهاد آخرون سموا أنفسهم بأسماء مختلفة: كالقصاص والبكائين والوعاظ، وأصبح لهؤلاء حلقات يعقدونها للوعظ والقصص والتعليم، صارت فيما بعد نواة لمدارس الزهاد التي بدأت تظهر بعد القرن الأول الهجري بقليل، وهنا أصبح الزهد حركة دينية واتجاها خاصا في الحياة، كما أصبح ظاهرة جماعية منظمة داخل صوامع وربط أشبه ما تكون بصوامع الرهبان المسيحيين وأديرتهم.
ومن مميزات هذا الزهد الجديد المبالغة في ناحيتين؛ الناحية التعبدية التي ظهرت في المبالغة في النوافل والذكر، والناحية الأخلاقية التي أهم مظاهرها «التوكل» الذي هو أساس الأخلاق الصوفية جميعها، كالزهد في الدنيا والاشتغال بالله وحده ومراعاته في كل فكر وعمل، وترك الكسب والتطبب، وعدم الاكتراث بحظوظ النفس ومدح الناس وذمهم.
وقد ظهر في هذه الحقبة من الزمن مدرسة المدينة ومدرستا البصرة والكوفة على التوالي.
أما في «المدينة» فقد كان الزهد الساذج الذي استمد مادته وقوته من القرآن والحديث مباشرة، وكان النبي وصحابته المثال الذي احتذاه زهاد المسلمين، وظل الأمر على هذا النحو حتى بعد أن انتقلت قاعدة الخلافة من المدينة إلى دمشق زمن الأمويين، فإن أتقياء المسلمين الذين كانوا على مذهب السلف ظلوا مستمسكين بسلفيتهم، وقاوموا كل أثر يأتيهم من قبل بني أمية، سياسيا كان أو غير سياسي، وأبرز دليل على ذلك أبو ذر الغفاري المتوفى سنة 32 الذي قضى الشطر الأكبر الأكبر من حياته في مناهضة بني أمية وأساليب حياتهم وحكمهم، والسخط على أغنياء عصره، داعيا إلى حياة اشتراكية عادلة في حدود الإسلام وتعاليمه، ومن كبار زهاد هذه المدرسة أيضا حذيفة بن اليمان الذي كان أول من تكلم في القلوب وآفاتها ، ومنهم سلمان الفارسي، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن مالك الذي قال فيه النبي
صلى الله عليه وسلم : «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك.»
وفي «المدينة» نفسها ظهر من جيل التابعين سعيد بن المسيب المتوفى سنة 90، وكان كأبي ذر الغفاري من أكبر المناوئين لبني أمية.
أما مدرسة «البصرة» فكانت إلى جانبها الإسلامي متأثرة إلى حد ما بثقافة الهند، لا سيما في الناحية العملية من التصوف حيث أخذ الصوفية بمبدأ تعذيب البدن بالصوم ونحوه لتطهير النفس والتخلص من آفاتها والصعود بها إلى عالمها العلوي، وفي «البصرة» بعد الصوفية عن الاشتغال بالسياسة وحاولوا إقامة التصوف على أساس عقلي وديني معتمدين على الكتاب والسنة وسيرة الصحابة، وأبرز شخصية في هذه المدرسة الحسن البصري المتوفى سنة 110ه.
وفي «الكوفة» ظهر التشيع لآل البيت، وقام الصوفية بدور هام في السياسة، وسواء أكان أول من تسمى باسم الصوفي جابر بن حيان الشيعي، أو أبا هاشم الكوفي، فإن هذا الاسم ظهر أول ما ظهر في «الكوفة» التي كانت آرامية الثقافة متأثرة بالمذهب المانوي الذي ظهر في تصوف الكوفيين في مسألة الحب الإلهي، وقد كان للتشيع أثر غير قليل في تصوف مدرسة «الكوفة»، بل كان يطلق على مذهب يكاد يكون شيعيا ظهر بها وكان آخر أئمته عبدك الصوفي الذي توفي في بغداد سنة 210، وكان من تعاليمه أن الدنيا حرام كلها لا يحل الأخذ منها إلا بالقوت، وكان لا يأكل اللحم، ويقول إن الإمامة بالتعيين، ومن أشهر رجال هذه المدرسة: طاووس بن كيسان من أهل اليمن مات بمكة سنة 105ه، وسعيد بن جبير الذي مات مقتولا.
وقد كانت الثقافة الآرامية التي امتازت بها مدرسة الكوفة امتدادا للفكر الفلسفي الشرقي الذي تكون خلال القرون الستة الميلادية الأولى، مستمدا مادته من الفكر اليوناني والفارسي؛ أي إنه كان مزيجا من الفلسفة الأرسطية والطب والكيمياء اليونانيين والميتافيزيقا الفارسية، فلما نقلت هذه الثقافة إلى اللغة العربية أثرت في الوسط الإسلامي عن طريقين:
الأول:
عن طريق تأثيرها في الفرق الشيعية المتطرفة، وبالتالي في الفكر الصوفي في ميدان البحوث الغنوصية.
الثاني:
عن طريق تأثيرها في المتكلمين في البحوث الميتافيزيقية.
وقد ظهر في الكوفة جماعة عرفوا بالروحانيين، منهم حبان الحريري وكليب، اللذان توفيا قبل المائتين، وعلى يديهما ظهر تحول كبير في مدرسة الكوفة باتجاههما اتجاها إباحيا. لم يعتدا بظاهر الشرع؛ أي بأحكام الشرع التي تجري على الجوارح، واعتبرا الزهد شيئا منافيا لإشباع الحياة الروحية، ومن هنا جاءت الإباحية، غير أنها لم تكن إباحية مطلقة تمنح لكل إنسان، بل للواصلين إلى نهاية السبق في طريق العبادة، ومن المأثور من أقوال هؤلاء الروحانيين قولهم: «إن العباد يصلون بعبادتهم إلى منزلة هي غاية السبق من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه. فإذا بلغت تلك الغاية، تعطى ما تشتهي.»
2
وقد شاع في مذهب أهل الكوفة التجسيم، فأجاز أبو شعيب الكلال المتوفى سنة 170 على الله الفرح والحزن والتعب والراحة والملالة والرؤية ونحو ذلك.
3
ومن «الكوفة» انتشر التصوف إلى ما وراء العراق، وبخاصة في إيران؛ حيث كانت المزدكية منتشرة قبل الإسلام، وفي إيران ظهرت مدارس صوفية متعددة مختلفة في اتجاهاتها النظرية والعملية سنعرض لها بالتفصيل فيما بعد.
ولما أصبحت «بغداد» مركز الإسلام السياسي والثقافي، وضعف شأن التصوف في البصرة، وورثت بغداد التصوف البصري والمدني معا، وضعت له أسسا وقواعد؛ ولذا نجد في تصوف المدرسة البغدادية زهد أهل البصرة الذي كان متأثرا بنظريات المعتزلة الكلامية، وزهد أهل المدينة الذي كان متأثرا بالحديث، ومن أبرز من ظهر فيهم الأثر الأول الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى سنة 243، في حين ظهر الأثر الثاني في أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241. •••
وفي أخريات القرن الثاني الهجري تحول الزهد إلى التصوف وولد في الإسلام علم جديد في مقابل علم الفقه، أو بعبارة أدق: انقسم علم الشريعة إلى قسمين؛ علم الفقه الذي يبحث في الأحكام التي تجري على الجوارح، وعلم التصوف الذي يبحث في باطن الشريعة وتفهم أسرارها، والنظر في العبادات وأثرها في النفوس وما يترتب عليها من أحوال نفسية وفوائد روحية، وكان بدء هذا التحول في البصرة التي كانت مركزا للزهاد والمحاربين لاستعمال الطقوس الدينية والتقاليد، معتبرين الزهد أمرا باطنيا وصلة روحية صرفة بينهم وبين الله، مخالفين في ذلك أهل الشام الذين كانوا يعظمون من شأن هذه الطقوس والتقاليد. يقول ابن تيمية في رسالة «الصوفية والفقراء»:
4
أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد (المتوفى سنة 177) من أصحاب الحسن (البصري)، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار؛ ولهذا كان يقال: «فقه كوفي وعبادة بصرية.» وكأنما حدث رد فعل للحركة التي قام بها أهل الكوفة في البحث في الفقه والاجتهاد في مسائل القضاء والإمارة، فأراد أهل البصرة أن يتداركوا ما عدوه نقصا في مسلك الكوفيين فاعتنوا هم بأمور العبادات والأحوال، وفي هذا يقول ابن تيمية في نفس رسالته:
5 «إن الأمور الصوفية التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، فافترق الناس في أمر هؤلاء الذين زادوا في أحوال الزهد والورع والعبادة على ما عرف من حال الصحابة، والحقيقة أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون، كما أن جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدون في مسائل القضاء والإمارة.»
هنا تدرج التصوف من زهد بسيط لا قواعد له ولا أصول غير قواعد الدين وأصوله، إلى حياة روحية منظمة مؤسسة على قواعد مرسومة، وعلى أساليب من الرياضات والمجاهدات مقررة، وعلى دراسة لأحوال النفس لمعرفة أمراضها وعللها، ثم معالجة هذه الأمراض والعلل.
ومجمل القول في هذا الدور الانتقالي من أدوار التصوف، أنه كان الاتصاف بالأخلاق الدينية وإدراك معاني العبادات ومغازيه الباطنية البعيدة. سئل الجنيد عن التصوف فقال: «الخروج عن كل خلق ردي، والدخول في كل خلق سني.» وقال ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين (شرح منازل السائرين للهروي): «واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق.»
ولما كانت الإرادة مصدر الأفعال الاختيارية كلها، جعل الصوفية علمهم مبنيا عليها؛ لأنها حركة القلب، والنظر في تفصيل أحكام الإرادة هو النظر في حركات القلوب كالرغبة والرهبة والخوف والرضا والحب والكره والقناعة والتوكل والشكر والصبر والحياء وما إلى ذلك من الأحوال.
يقول ابن القيم الجوزية في شرح مدارج السالكين في هذا المعنى: «إن هذا العلم (أي التصوف) مبني على الإرادة، فهي أساسه ومجمع بنائه، وهو يشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة، وهي حركة القلب؛ ولهذا سمي علم الباطن. كما أن علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سمي علم الظاهر.»
وينتهي هذا الدور الانتقالي بانتهاء القرن الثاني تقريبا، وأهم مميزاته: الزهد المنظم، والرضا والتوكل، ومن أشهر من ظهر فيه من الصوفية: إبراهيم بن أدهم المتوفى سنة 161، ومعروف الكرخي المتوفى سنة 200، ورابعة العدوية البصرية المتوفاة سنة 185، وداود بن نصير المتوفى سنة 165، والفضيل بن عياض المتوفى سنة 189. •••
دخل التصوف بعد ذلك في دور جديد هو دور المواجد والكشف والأذواق، ويقع هذا الدور في القرنين الثالث والرابع اللذين يمثلان العصر الذهبي للتصوف الإسلامي في أرقى وأصفى مراتبه. كان الدور السالف دور انتقال كما قلنا، اعتبر فيه التصوف طريقا من طرق العبادة يتناول أحكام الدين من ناحية معانيها الباطنية وآثارها في القلوب، فكان بذلك مقابلا لعلم الفقه الذي يتناول ظاهر العبادات، فأصبح في هذا الدور طريقا لتصفية النفس وتحصيل المعرفة في مقابل طريقة أهل النظر من المتكلمين. لم يقف الأمر عند القيام بالرياضات والمجاهدات بقصد تحصيل الأحوال والمقامات، بل اتخذ الصوفية من طريقهم وسيلة للكشف عن معاني الغيب وأداة لتحصيل المعرفة الذوقية التي لا وسيلة لغيرهم إلى إدراكها؛ ولذلك أطلقوا على علمهم أسماء جديدة تشير إلى هذا المعنى، فسموه علم الأسرار وعلم المكاشفات وعلم الأحوال والمقامات وعلم الأذواق وما شاكل ذلك.
وقد فرق الصوفية - وهي تفرقة انتفع بها الغزالي واستغلها إلى أقصى حد - بين نوعين من العلم: العلم الذي يكتسب عن طريق العقل وإعمال الفكر، وهذا يخصونه باسم «العلم» فإذا أطلق اللفظ من غير تقييد انصرف إليه، والآخر العلم الذي يدرك بطريق أشبه بالإلهام ويلقى في القلب إلقاء ولا يدرى كنهه ولا مصدره ولا يمكن تفسيره أو تعليله، وهو العلم الذوقي أو المعرفة
Gnosis . كما فرقوا بين العالم والعارف، وأطلقوا اسم العارف على الصوفي دون غيره.
من هنا أصبحت المعرفة غاية وهدفا يسعى إليه الصوفي، وأصبحت الطريقة الصوفية بما فيها من مجاهدة ورياضة نفس، وسيلة - لا غاية في نفسها - لتحصيل المعرفة بالحقائق وتوقيف صاحبها على الأسرار الغيبية، كما أصبحت أكبر سعادة أو غبطة ينالها الصوفي.
وإذا كانت المعرفة سبيل الوصول إلى اليقين، فأي سعادة لطالب اليقين وطالب الحقيقة أعظم منها؟ نجد هذا التحول ظاهرا في التعريفات التي وضعها صوفية القرن الثالث للتصوف. فنجد معروف الكرخي يصف التصوف بأنه: «إدراك الحقائق واليأس مما في أيدي الناس.» يريد بذلك إدراك الحقائق الإلهية بواسطة الكشف، والزهد فيما في أيدي الناس من متاع الدنيا.
وقد انصرفت عناية بعض المتأخرين من الصوفية إلى ناحية الكشف ورفع الحجاب عن عالم الغيب، فكثر كلامهم فيها وادعاءاتهم لها، وكانت طريقتهم في ذلك مجاهدة النفس وتصفية القلب من كل ما سوى الله وتغذية الروح بالذكر والأدعية والإكثار من النوافل، وكثر كلامهم في حقائق الموجودات العلوية والسفلية، وادعوا أنهم يدركون الواقعات قبل حدوثها، وأنهم يتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية بحيث تصير طوع إرادتهم، ولهم في ذلك حكايات تربو على الحصر مما يعد عادة من كراماتهم.
فأهم مميزات هذا الدور اصطباغ التصوف بصبغة ثيوسوفية غنوصية، وتنظيم الطريق الصوفي الذي خطط فيه الصوفية معارج روحية، كل منها - بأسلوبه الخاص - يؤدي إلى الله ومعرفته، وأبرز مظاهره أن «التجربة الصوفية» أصبحت المحور الذي تدور حوله حياة الصوفي، فهو ينظمها ويحللها ويراقبها ويفسر بها في النهاية نظرياته؛ ولذلك أمكن أن يقال إن علم التصوف استبطان منظم للتجربة الدينية، وهذا الوصف أصدق على تصوف هذا الدور منه على تصوف أي دور آخر. •••
ظهرت في هذا الدور مدارس صوفية كثيرة ونبغ فيه من كبار المشايخ من لا يحصون عدا، وهي مدارس تتلاقى عند المعالم العامة في الطريق الصوفي، وتختلف اختلافا قليلا في اتجاهات وتفاصيل مذاهبها، وأهم هذه المدارس على الإطلاق: مدرسة بغداد ومؤسسها أبو عبد الله الحارث المحاسبي المتوفى سنة 243، ومدرسة مصر والشام ومؤسسها ذو النون المصري المتوفى سنة 245، ومدرسة نيسابور ومؤسسها حمدون القصار المتوفى سنة 271، وسنكتفي بذكر أشهر رجال هذه المدارس والنظريات الغالبة فيهم.
أما مدرسة بغداد فأكبر ممثل لها مؤسسها المحاسبي كما قلنا، وقد صحب المحاسبي أو صحب من صحبه وأخذ عنه بطريق مباشر أو غير مباشر كل من ينتمي إلى هذه المدرسة أمثال: أبي القاسم الجنيد المتوفى سنة 298، وأبي حمزة البغدادي المتوفى سنة 289، وأبي الحسين النوري المتوفى سنة 295، وأحمد بن مسروق المتوفى سنة 298، وأبي بكر إسماعيل بن إسحق السراج المتوفى سنة 286، وأبي الحسن سري السقطي المتوفى سنة 253، وكثير غيرهم.
وتحوم نظريات هذه المدرسة حول المسائل الصوفية الآتية: (1)
التوحيد بمعناه الكلامي والصوفي، وما يتصل بذلك من مسائل المعرفة بالله والمحبة الإلهية والفناء في الله والبقاء به. (2)
النفس وآفاتها، والأحوال والمقامات الصوفية؛ كالوجد والشوق والقرب والأنس والغيبة والحضور والإيثار والذكر والتوبة ورؤية الله في الدنيا والآخرة.
ومنهج المحاسبي في التصوف منهج منطقي تحليلي يظهر فيه إدراكه للصلة بين الأسباب ومسبباتها في تطور الحياة الروحية: من ذلك تحليله لأسس العبادة حيث يقول: «أساس العبادة الورع، وأساس الورع التقوى، وأساس التقوى محاسبة النفس، وأساس المحاسبة الخوف والرجاء، والخوف والرجاء يرجعان إلى العلم بالوعد والوعيد، وفهم الوعد والوعيد يرجع إلى تذكر الجزاء، وتذكر الجزاء يرجع إلى الفكر والاعتبار.»
6
أي إن الإنسان إذا فكر في نفسه وفي الخلق واعتبر، أدى به ذلك عن طريق السلسلة السالفة الذكر إلى عبادة الله عبادة صادقة . ليس هذا تصوفا ساذجا بسيطا، بل هو تصوف منهجي له منطقه الخاص.
وقد عرف المحاسبي بطريقته الخاصة التي من أجلها سمي «المحاسبي»، وهي طريقة إخضاع الأعمال والأفكار للنقد والاختبار لمعرفة مدى صدقها ومراعاتها لحقوق الله، وهذا هو معنى الرعاية الذي ألف فيه كتابا خاصا، وتقتضي هذه الطريقة البحث عن معقولية العلم، فإنه ليس كل علم نظري معقولا. كما تتضمن البحث في ماهية الإيمان والمعرفة؛ لأن هناك فرقا بين العلم بالإيمان، والعلم به مع العمل؛ ولهذا اتخذ المحاسبي «الإيمان بالله» أساسا بنى عليه جميع أحوال القلب وحركاته، ووظيفة العقل عنده
7
ليست في إدراك الخير والشر، ولكن عمله منحصر في إدراك الحكمة في تفضيل الله لفعل على فعل؛ أي إن العقل وحده غير كاف في معرفة الخير والشر كما ذهبت إليه المعتزلة، ولكنه كاف في إدراك حكمة التشريع الإلهي، ومن هذا الطريق تحصل الفوائد الروحية للنفس وتصح إراداتها. (1) مدرسة نيسابور في القرن الثالث
في منتصف القرن الثالث الهجري انتقل مركز التصوف من بلخ أقدم مركز للتصوف في خراسان إلى نيسابور حيث ظهرت فرقة «الملامتية»، ولم تكن مدرسة نيسابور منقطعة الصلة بمدرسة بلخ ومدرسة بغداد، بل كانت على صلة بهما عن طريق الزيارة والتلمذة والصحبة.
ويقوم التصوف الملامتي على أساسين رئيسيين؛ «الملامة» و«الفتوة»، وهما أكثر المصطلحات جريانا على ألسنة أهل هذه الفرقة. أما «الملامة» فيقصدون بها كبح النفس واتهامها وتأنيبها على ما فرط منها، ورؤية التقصير فيما يصدر عنها من أعمال الطاعة، وأما «الفتوة» فاسم أطلق في الأصل على مجموعة من الفضائل، أخصها: الكرم والسخاء والمروءة والشجاعة، فلما دخلت إلى أوساط الصوفية اكتسبت معنى الإيثار والتضحية وكف الأذى وبذل الندى وترك الشكوى وإسقاط الجاه ومحاربة النفس، وقد ظهرت كل هذه المعاني في كتابات الصوفية والملامتية على السواء، وشكلت أفكارهم ونظرتهم إلى الحياة الروحية. بل إن النظرية الملامتية على الملامة - فيما أرى - فرع من نظريتهم في الفتوة.
ومن أشهر رجال الملامتية الذين عرفت لهم نظريات في الفتوة الصوفية تختلف نوعا ما عن نظريات البغداديين: أبو حفص الحداد وحمدون القصار. قيل إن مشايخ بغداد اجتمعوا يوما عند أبي حفص فسألوه عن الفتوة فقال: «تكلموا أنتم، فإن لكم العبارة واللسان.» فقال الجنيد: «الفتوة إسقاط الرؤية وترك النسبة.» فقال أبو حفص: «ما أحسن ما قلت، ولكن الفتوة عندي أداء الأنصاف وترك مطالبة الإنصاف.» فقال الجنيد: «قوموا يا أصحابنا فقد زاد أبو حفص على آدم وذريته.»
8
فالفتوة عند الجنيد «إسقاط الرؤية» أي عدم النظر إلى الأعمال نظرة اعتبار وتقدير، وهي «ترك النسبة» أي إسقاط العلائق والروابط التي تربط الإنسان بأي موجود سوى الله، وعلى ذلك فالفتوة عنده هي الزهد الكامل. أما أبو حفص فيرى الفتوة في أداء ما يراه الصوفي إنصافا وعدلا؛ أي القيام بجميع الواجبات الشرعية والاجتماعية دون أن يطالب القائم بها بإنصاف من جانب الشرع أو جانب المجتمع. أي إن الفتوة عنده هي التضحية الخالصة.
9
وليس الجديد في مدرسة نيسابور الملامتية أنها أضافت مصطلحات أو صيغا جديدة في التصوف، ولكن الجديد فيها أنها عنيت ببحث الجانب السلبي للمعاني الصوفية التي كانت سائدة في عصرها؛ فالملامتي لا يتحدث عن مدح الأفعال والثناء عليها بقدر ما يتحدث عن ذم الأفعال واللوم عليها ورؤية التقصير فيها، وهو لا يتكلم عن الإخلاص بقدر ما يتكلم عن الرياء، وهو يفضل الحديث عن نقائص الأعمال ومساوئها على الكلام في مناقب الأعمال ومحاسنها؛ ولهذا كثر في مذهب رجال الملامة الكلام عن «النفس اللوامة» و«جهاد النفس» و«رعونات النفس» و«دعاويها» و«العبودية» و«التضحية» ونحو ذلك من المعاني التي تعبر عن روح مذهبهم، تلك المعاني التي تسربت إلى تصوفهم من مصدرين أساسيين؛ الفلسفة الزرادشتية المجوسية، ونظام الفتوة، وكلا المصدرين فارسي أو فارسي هندي.
وإن نظرة كبار الملامتية كأبي عثمان الحيري وحمدون القصار إلى العالم باعتباره شرا لا خير فيه، وأن الملامتي يجدر به التزام الحزن والكمد ورؤية التقصير في الأفعال مهما جود فيها، واتهام نفسه دائما بهذا التقصير: لتشهد بأنها نظرة تشاؤمية غير إسلامية، أو أنها - كما يقول أبو بكر الواسطي - من أصل مجوسي. قيل إن الواسطي لما دخل نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان الحيري: بماذا كأن يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالطاعات ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها؟
10
وفي هذا المعنى يقول أبو عثمان الحيري نفسه: «لا يرى أحد عيب نفسه وهو يستحسن من نفسه شيئا، وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال.»
11
وسيأتي مزيد تفصيل للملامة باعتبارها من أهم أساليب المجاهدة. (2) مدرسة مصر والشام في القرن الثالث
ظهرت هذه المدرسة في القرن الثالث الهجري، وأشهر من نبغ فيها على الإطلاق ذو النون المصري المتوفى سنة 245، ويعتبر ذو النون في نظر كثيرين من القدماء والمحدثين المؤسس الحقيقي للتصوف الثيوسوفي في الإسلام، وقد عرفت مصر والشام بثقافتهما الأفلاطونية الحديثة التي انتشرت في هذه المنطقة في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وفي هذه المنطقة عاش ذو النون الذي يظهر تأثره بها إلى أقصى حد، فقد اشتغل بعلوم الأسرار: السحر والطلسمات والكيمياء، ومزجها بالتصوف على نحو ما فعل رجال الأفلاطونية الحديثة في عصرها المتأخر (عصر يمبليخوس وأبروقلس). كان حكيما (بالمعنى اليوناني)
12
وزاهدا ومحدثا وعالما بالكيمياء، وكان، على حد قول عبد الرحمن جامي،
13
أول من تكلم في الأحوال والمقامات، وإذا قلنا الأحوال والمقامات فقد قلنا التصوف كله من حيث هو معراج روحي يقطعه السالك إلى الله، وكان كذلك أول صوفي إسلامي تكلم في المعرفة على أساس علمي منظم، وأول من اعتبر المعرفة بالله الغاية القصوى من الطريق الصوفي، كما اعتبر أبو يزيد البسطامي «الفناء في الله» غاية هذا الطريق.
يقول ذو النون: «إنه بمقدار ما يعرف العبد من ربه يكون إنكاره لنفسه، وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات.» والمقصود بمعرفة الله هنا إدراك العبد أن الحق وحده هو الفاعل لكل شيء، المريد لكل شيء، القادر على كل شيء، وأن العبد لا فعل له ولا قدرة ولا إرادة، وهكذا تؤدي المعرفة بالله - كما يفهمها ذو النون - إلى تمام إنكار الذات؛ إذ يصبح العارف محوا لا فعل له ولا أثر، وهذا معنى الفناء الصوفي الذي تحدث عنه أبو يزيد وكان أول من أفاض القول فيه.
وقد فصل ذو النون القول في المعرفة وأنواعها ودرجاتها وطرق الوصول إليها على نحو لم يسبق إليه. فمعرفة وحدانية الله طريقها الكتاب والسنة، ومعرفة فردانيته وقدرته طريقها الكشف، ومعرفة اسم الله الأعظم هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده.
ولا شك أن إلمام ذي النون المصري بعلوم الأسرار كان له أثره في تصوفه، فقد اعتبر التصوف واحدا من هذه العلوم، ولعله كان في ذلك متأثرا بجابر بن حيان صاحب الكيمياء الذي كان صوفيا أيضا؛ إذ الصلة بين التصوف وعلوم الأسرار أقدم من ذي النون لأنها ترجع - فيما يقال - إلى الإمام جعفر الصادق وتلميذه جابر بن حيان المذكور، غير أن ذا النون كان له الفضل في تعميق فكرة «الباطنية» وتطبيقها في نواح شتى من تصوفه. من ذلك مثلا أنه في كلامه عن التوبة - وهي أول المقامات الصوفية - يذكر نوعين؛ توبة العوام، وتوبة الخواص التي هي من العلم الباطن. فيقول: «توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواص تكون من الغفلة (أي الغفلة عن ذكر الله).»
14
وفي كلامه عن «المحبة» يقول: «إنها سر من أسرار الله لا يجوز الخوض فيها.» بل إنه تحت تأثير فكرة السرية أو الباطنية في التصوف، كثيرا ما يستعمل لغة الرمز التي كانت شائعة في بعض الأوساط اليونانية، كأن يتحدث عن «كأس المحبة» «التي يسقي الله بها المحبين».
15
ومما يتصل بباطنية التصوف: الوجد والسماع، وهما المظهر الخارجي لما يعتلج في تفس الصوفي من أحوال باطنية، وقد كان ذو النون أول من وضع تعريفا لهاتين الحالتين، وبالإضافة إلى المصطلحات الصوفية الإشراقية المتصلة بموضوع المعرفة والأحوال والمقامات، وكلها من وضعه تقريبا، استعمل ذو النون الثروة الكبيرة من المصطلحات التي كانت شائعة إلى عهده. كما نقل مصطلحات من علوم إسلامية كعلم الكلام وأضفى عليها مسحة صوفية؛ من ذلك «التوحيد» الذي كان أول من عرفه تعريفا صوفيا بقوله: «هو أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا مزاج، وصنعه للأشياء بلا علاج، وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وليس في السموات العلا ولا في الأرضين السفلى مدبر غير الله، وكل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك.»
16
وقد خلف ذو النون طابعه في تصوف البلاد التي زارها، وهي كثيرة منها: دمشق وبيت المقدس وأنطاكية وبغداد، وفي الجزء الغربي من العالم الإسلامي برمته. بل كان بمثابة مدرسة متجولة متنقلة وحوله جماعة سرية باطنية لهم نظام سري خاص، ومن أبرز تلاميذه: يوسف بن الحسين الرازي المتوفى سنة 304، وأبو تراب النخشبي المتوفى سنة 245. •••
أما الفرع الشامي من هذه المدرسة فأظهر رجاله وأقدمهم أبو سليمان الداراني (وداران قرية من قرى دمشق) المتوفى سنة 215، وتلميذه أحمد بن أبي الحواري المتوفى سنة 230، وأحمد بن الجلاء الذي ينتمي إلى الشام بالإقامة وكان من أصل بغدادي، وهم أقرب إلى الصوفية القح منهم إلى الصوفية المتفلسفين أو أصحاب النظريات، وإن كنا نلمس في بعض أقوالهم أثرا لنظريات ذي النون، من ذلك قول أحمد بن الجلاء: «من رأى الأفعال كلها من الله عز وجل فهو موحد لا يرى إلا واحدا.»
17
وهذا - فيما أرى - تعبير عن نفس المعنى الذي قصد إليه ذو النون في كلامه عن «المعرفة بالله» الذي شرحناه فيما سبق، وأغلب كلام هؤلاء الثلاثة في الدنيا وحقارتها، والشهوات واشتغال القلب بها أو خلوه منها، وفي القلب وصفائه وصدئه، والصدق في التوبة، ومحبة الله، وما إلى ذلك من المسائل التي خاض فيها معظم الصوفية في عصرهم، ولكنهم يمتازون عن عامة الزهاد بدقة التحليل النفسي ووصف أحوال النفس في لحظات قربها من الله أو بعدها عنه، قال أحمد بن أبي الحواري: «دخلت على أبي سليمان (الداراني) يوما وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: يا أحمد، ولم لا أبكي وإذا جن الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه، وافترش أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم على خدودهم وتقطرت في محاريبهم، أشرف الجليل سبحانه وتعالى فنادى: يا جبريل، بعيني من تلذذ بكلامي واستراح إلى ذكري، وإني لمطلع عليهم في خلواتهم، أسمع أنينهم وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم؟ يا جبريل ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيبا يعذب أحباءه؟ أم كيف يجمل بي أن آخذ قوما إذا جنهم الليل تملقوا لي؟ فبي حلفت أنهم إذا وردوا على القيامة لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم.»
18
فالداراني هنا - وهو في حضرة القرب من الله - يسمع صوت ربه في أعماق قلبه يناجيه، ويبكي بكاءين: بكاء الحسرة والندم على ما فرط في حق الله، وبكاء الغبطة والسرور بما وعد الله به أحباءه المخلصين في حبه من إسباغ رحمته عليهم، وكشفه لهم عن وجهه الكريم في الدار الآخرة. أي إن «المحبة» هي سبب استحقاق الرحمة والتمتع بأعظم نعيم أعده الله لعباده في الجنة وهو رؤية وجهه الكريم، وهي بهذا فوق العبادة إذ هي أصلها وأساسها.
الثورة الروحية في التصوف
التصوف هو المظهر الروحي الديني الحقيقي عند المسلمين؛ لأنه المرآة التي تنعكس على صفحتها الحياة الروحية الإسلامية في أخص مظاهرها. فإذا أردنا أن نبحث عن العاطفة الدينية الإسلامية في صفائها ونقائها وعنفها وحرارتها، وجدناها عند الصوفية، وإذا أردنا أن نعرف شيئا عن الصلة الروحية بين المسلم وربه: كيف يصور هذه الصلة، وكيف يجاهد طول حياته في توكيدها وتدعيمها، وكيف يضحي بكل عزيز لديه - بما في ذلك نفسه - محافظة وغيرة عليها، وجب أن نقرأ سير الصوفية المسلمين ونتدبر أقوالهم، وإذا أردنا أن نقارن بين الإسلام وغيره من الديانات لنعرف حظ المسلمين من الحياة الروحية الخالصة، لم نجد نقطة يلتقون فيها مع غيرهم من أصحاب الديانات الكبرى أفضل من التصوف.
بل لولا التصوف لكان الإسلام - كما فهمه المتزمتون من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة - دينا خاليا من الروحانية العميقة ومن العاطفة، وكانت عباداته ومعاملاته مجموعة جامدة من القواعد والأشكال والأوضاع، ومعتقداته مجموعة من التجريدات أقل ما يقال فيها إنها تباعد بين العبد وربه بدلا من أن تقربه إليه، وتورث صاحبها الشك والحيرة والقلق بدلا من الطمأنينة واليقين.
لست أول من يجهر بهذا القول، بل جهر به من قبل أبو حامد الغزالي بعد طول التطواف، وانتهى إلى نفس النتيجة، ووجد أن التصوف وحده دون سائر العلوم «المنقذ من الضلال».
إن العوامل الروحية الحقيقية التي كان لها أثر فعال في تنمية العاطفة الدينية والحياة الروحية عند المسلمين قد أخذت أصولها وبذورها منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا من الإسلام نفسه؛ أي من الكتاب والسنة، ولكن هذه الأصول وتلك البذور نبتت وترعرعت في ظل ذلك النظام الشامخ الذي أقامه صوفية المسلمين وجاهدوا من أجله، والناظر في تاريخ الإسلام الطويل الحافل بالأحداث لا يعجزه أن يرى كيف تغلغلت روح التصوف في حياة المسلمين في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وكيف كانوا ينشئون الآلاف من المريدين في الطريق الصوفي ويروضونهم على اقتحام عقباته، وكيف قوي نفوذ الصوفية في بعض العصور فتجاوز الدائرة الدينية إلى الأوساط السياسية وإدارة الحكم في أوطانهم، فأصبحت لهم في بعض العصور دولة داخل الدولة، كما أصبح لهم طابع ديني خاص داخل الإطار الديني العام.
وليس التصوف أسلوبا من الأساليب يحيا الصوفي بمقتضاه وحسب، بل هو في الوقت نفسه وجهة نظر خاصة تحدد موقف العبد من ربه أولا، ومن نفسه ثانيا، ومن العالم وكل ما فيه ومن فيه آخر الأمر. فهو نوع من الفلسفة - إن شئنا أن نستعمل كلمة الفلسفة بهذا المعنى الواسع - فوق كونه طريقا خاصا في الحياة، بل إنه هو ذلك الأسلوب الخاص في الحياة من أجل أنه وليد تلك الفلسفة. فالصوفية لم يشاركوا عامة المسلمين في نظرتهم إلى الدنيا، ولم يشاركوا الفقهاء أو المتكلمين في نظرتهم إلى الدين، ولم يشاركوا الفلاسفة في نظرتهم إلى الله والإنسان والعالم؛ ولهذا جاء التصوف الإسلامي ثورة شاملة على هؤلاء جميعا، وكانت هذه الثورة أخص مظهر من مظاهره، أو كانت المظهر الذي أعلن فيه الإسلام عن روحانيته الصادقة.
وإننا إذا نظرنا إلى التصوف نظرة تاريخية وإلى الأدوار المختلفة التي مر بها، وجدنا في كل هذه الأدوار ثورة واحدة متصلة، يختلف شكلها باختلاف موضوعها واتجاهها. فقد اتجهت ضد العالم في كل عصر من عصور التصوف، وفي عصر الزهد الأول بوجه خاص، واتجهت ضد رجال الدين من فقهاء ومتكلمين بمجرد أن دخل التصوف في دور نضجه ابتداء من القرن الثالث، ثم اتجهت ضد الفلسفة التقليدية بعد ذلك.
ولنتناول هذه الثورة الروحية العارمة في مراحلها المختلفة ونعرضها عرضا تاريخيا بقدر المستطاع تيسيرا لمعالجة المسألة، وإلا فالروح الثورية ظاهرة في التصوف برمته، وفي كل عصر من عصوره في موقفها من الدنيا ومن الدين ومن الله. (1) ثورة الصوفية على الدنيا
تتمثل ثورة التصوف على الدنيا في كل ما ينطوي تحت ذلك الوصف العام الذي عنونوا له باسم «الزهد»، وقد كان الزهد دائما عنصرا أساسيا من عناصر الحياة الصوفية عند المسلمين وغيرهم، ولكنه قد ينفرد دونها فيوجد الزاهد غير المتصوف. أما المتصوف غير الزاهد فلا وجود له في البيئات الدينية، ولا عبرة بأولئك المشعوذين الدجالين الذين يثيرون في نفوسهم أحوالا تشبه في ظاهرها أحوال الصوفية، فيدعون أنهم منهم وهم دخلاء عليهم؛ لأن سيرتهم الأخلاقية والدينية تشهد بذلك.
وقد أدرك الفرق بين الزهد والتصوف بعض كتاب العرب السابقين كابن الجوزي الذي يقول: «فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد، ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد، وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره.»
1
وكذلك تنبه إلى هذه التفرقة ابن خلدون، وهي تفرقة أخذ بها من المحدثين جولدزيهر وأفاض في الكلام فيها، وأخذ بها من بعده كل من كتب في التصوف إلى يومنا هذا. ذلك لأن للتصوف ناحيتين مختلفتين؛ الناحية العملية وهي الزهد وما ينطوي عليه من حياة العبادة والانقطاع إلى الله، والعزوف عن الدنيا وشهواتها وكل ما هو مطمع للنفس، والأخذ بأنواع المجاهدات والرياضات، والناحية الإشراقية التي هي التصوف بمعناه الدقيق، وتنطوي على كل ما يلزم عن حياة الزهد من الأحوال، وما ينكشف للصوفي بعد تصفية النفس وتطهيرها من مواجد وأذواق ومعارف، وما يدركه من معاني القرب الإلهي أو ما يسميه الصوفية «الاتصال بالله».
والثورة الروحية ضد الدنيا وكل ما يتصل بها، وإن كنا نلمسها في كل دور من أدوار التصوف الإسلامي، تظهر أعنف ما تكون في دوره الأول، حيث وجد من بين المسلمين من وصف بصفة الزهد قبل أن يوجد فيهم من وصف بصفة الصوفي؛ ولهذا سأقصر كلامي هنا على الزهد في هذا الدور مشيرا إلى الأسباب التي دعت زهاد المسلمين الأوائل إلى الوقوف من الدنيا موقف عداء صريح وإنكار وهجر، وسأتناول كذلك موقف الإسلام نفسه من الدنيا ليتضح إلى أي حد كانت ثورة هؤلاء الزهاد ضد الدنيا متصلة بدينهم.
لم يكن الزهد الرهباني من الفضائل التي دعا إليها الإسلام لأن الإسلام في صميمه دين اجتماعي كما قلنا، والزهد الرهباني مناف لروح الحياة الاجتماعية، ولكن الإسلام دعا إلى نوع آخر من الزهد يمكن وصفه بأنه القصد في اللذات وعدم التهالك عليها أو الإسراف فيها إلى الحد الذي ينسى الإنسان فيه ربه وآخرته، وهذا واضح كل الوضوح في سيرة النبي عليه السلام وسيرة الصحابة وصدر التابعين. دعا الإسلام إلى الزهد في الدنيا وإلى تحقيرها لا إلى هجرها والفرار منها، ودعا إلى عبادة الله تعالى في حدود رسمها ولم يدع إلى الانقطاع إلى هذه العبادة، ودعا إلى الأخذ بنصيب معقول من الحياة ومن كل ما كان رزقا حلالا ولم يدع إلى تحريم كل شيء، ودعا إلى النظر إلى الدنيا باعتبارها دار فناء ودار تحول وانتقال وأنها مزرعة الآخرة، وإلى الآخرة باعتبارها دار بقاء وخلود ونعيم مقيم أو عذاب أليم. يقول الله تعالى:
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .
2
في هذه الآية، وكثير غيرها من الآيات التي أسلفنا ذكرها في مناسبات أخرى، دعوة إلى الزهد في الدنيا، ولكنه زهد روعي فيه جانب الدنيا وجانب الآخرة، وفضل فيه الثاني على الأول، وروعي فيه جانب العبد وجانب الرب، وفضل فيه الثاني على الأول، وفي هذه الآية وأمثالها بذور للثورة على الدنيا - بهذا المعنى الخاص - تلك الثورة التي أعلنها زهاد المسلمين صاخبة شاملة عندما نبتت هذه البذور في تربة جديدة وتوافر لها من العوامل ما ساعدها على النمو.
ولم تكن في العصر الإسلامي الأول حاجة إلى وضع حدود وقواعد للزهد في الدنيا والقصد في لذاتها، كما لم تكن حاجة إلى تمييز طائفة من المسلمين عن غيرهم من أجل انفرادها بالتقوى والورع، ولكن ظهرت هذه الحاجة كما يقول ابن خلدون: «عندما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، فاختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية.»
3
عرف الجيل الأول من المسلمين بالورع والتقوى والزهد في الدنيا، وكانت هذه كلها صفات عامة لهم، وفي هذا يقول أحد الصحابة لصدر التابعين: «أنتم أكثر أعمالا واجتهادا من أصحاب رسول الله، وهم كانوا خيرا منكم. قيل: ولم ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا.»
4
يشير بذلك إلى الزهد العام الذي كان أكثر شيوعا بين الصحابة، لا إلى الزهد شبه الرهباني الذي أخذ به الصوفية أنفسهم في القرن الثاني وما بعده.
ولم يكن أثر الإسلام في نشأة الزهد وانتشاره عن طريق تحقير الدنيا وحسب، بل عن طريق الرعب الذي أشاعه في قلوب المؤمنين من نار الآخرة وعذابها وأهوالها؛ ولذلك انصبغ الزهد الإسلامي الأول بصبغة الخوف من الله أكثر من انصباغه بصبغة المحبة لله والقرب منه، وقد تجلى ذلك الرعب في أجلى مظاهره في بعض أفراد الصحابة والتابعين الذين أخذوا أنفسهم بأساليب تعذيب البدن كفارة عما ارتكبوه - أو خيل إليهم أنهم ارتكبوه - من المعاصي والآثام، وهاك مثالا من أروع الأمثلة التي تصور ما كان للخوف من عذاب الآخرة من أثر في نفوس أوائل المسلمين: مر ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري خادم رسول الله يوما بباب رجل من من الأنصار فبصر بامرأة الأنصاري وهي تغتسل، فكرر النظر إليها، ولما أحس بذنبه خرج هائما على وجهه إلى جبال بين مكة والمدينة. فبعث رسول الله عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي في طلبه، فلقيهما راع من رعاة المدينة، فقال له عمر: يا ذفافة هل لك علم بشاب بين هذه الجبال؟ فقال: لعلك تريد الهارب من جهنم، قال عمر: وما علمك بأنه هرب من جهنم؟ قال: لأنه إذا كان نصف الليل خرج علينا من الشعب واضعا يديه على أم رأسه يبكي وينادي: يا ليتك قبضت روحي بين الأرواح وجسدي بين الأجساد ولا تجردني ليوم القضاء.
فلما أتي به إلى رسول الله قال: ما الذي غيبك عني؟ قال: ذنبي، قال: أفلا أعلمك آية تمحو الذنوب والخطايا؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: قل اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: إن ذنبي أعظم من ذلك، قال رسول الله: بل كلام الله أعظم، وأمره بالانصراف إلى منزله، فانصرف ومرض ثلاثة أيام، فأتى سلمان النبي وقال: إن ثعلبة لمائت. فدخل رسول الله عليه فأخذ برأسه فوضعه على حجره، فأزال رأسه عن حجر النبي، فقال له رسول الله: لم أزلت رأسك عن حجري؟ قال: لأنه ملآن من الذنوب، فقال رسول الله: ما تجد؟ قال: أجد مثل دبيب النمل بين جلدي وعظمي، قال: فماذا تشتهي؟ قال: مغفرة ربي. قال فنزل جبريل على النبي فقال: يا أخي إن ربك يقرئك السلام ويقول: «لو لقيني عبدي بقراب الأرض خطيئة للقيته بقرابها مغفرة.» قال فأعلمه رسول الله ذلك فصاح صيحة فمات.
هذا مثال من أمثلة كثيرة تبين كيف كان الخوف من الله وعذاب الآخرة من أكبر العوامل، إن لم يكن أكبر العوامل، التي دفعت أتقياء المسلمين الأوائل إلى هجر الدنيا والانقطاع إلى الله. فقد تمثلت لهم الدنيا دارا حافلة بالذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، وخطرا يهدد كيانهم الديني ويحول بينهم وبين الإعداد للآخرة، ولم يقف الأمر ببعض هؤلاء الأتقياء عند هجرهم الدنيا والزهد فيها، بل أخذوا على أنفسهم مهمة دعوة الآخرين إلى نفس هذا
معاصريهم على الدنيا وأعراضها، واختلال الميزان الاقتصادي والاجتماعي بين طبقات المسلمين ، وما لبثت هذه الدعوة حتى انفجرت في صورة ثورة علنية ضد الدنيا والطبقات المترفة صاحبة الثراء، وقد حمل لواء هذه الثورة صحابي من أقوى الصحابة عارضة وأقدرهم على الدعوة؛ وهو أبو ذر الغفاري.
كان هذا الرجل أحد الأفراد القلائل الذين اهتدوا بفطرتهم السليمة إلى عقيدة التوحيد قبل الإسلام. فلما بلغته الدعوة الإسلامية وجد المشاكلة القوية بينها وبين ما اطمأنت نفسه إليه من قبل، ولما لقي الرسول عليه السلام وسمع منه القرآن أسلم وجهر بإسلامه، فآذته قريش، ولكنه لم يعبأ بإيذائها. سأله أبو بكر يوما في محضر من النبي وقال: يا أبا ذر، هل كنت تؤله في جاهليتك؟ قال: نعم، لقد رأيتني أقوم عند الشمس فلا أزال مصليا حتى يؤذيني حرها فأخر كأنني خفاء، قال أبو بكر: فأين كنت توجه؟ قال: لا أدري إلا حيث يوجهني الله عز وجل.
5
قضى أبو ذر شطرا من حياته في الجاهلية وشطرا في الإسلام في زمن النبي والخلفاء الثلاثة الأول ومات في خلافة عثمان سنة 32، وقد هاله ما كان عليه بعض المسلمين - لا سيما القرشيين - من ثراء عريض وبذخ، وما كان عليه فقراؤهم من ضنك وبؤس وضيق، فجهر بدعوة اشتراكية صاخبة انزعج لها الخليفة عثمان كما انزعج معاوية بن أبي سفيان وحاولا أن يصرفاه عنها، ولكنه مضى في دعوته غير هياب، وطالب أن يكون لفقراء المسلمين حق في فضل أغنيائهم. ألم يقل الله عز وجل في كتابه:
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ،
6
و
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ،
7
و
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .
8
وكان أبو ذر صادقا في دعوته مصمما على نشرها. أراد معاوية أن يختبره فبعث إليه ليلا بألف دينار، فلما أصبح الصباح أراد أن يستردها منه بحيلة، فوجد أنه فرقها كلها، وبعث إليه حبيب بن مسلمة أمير الشام بثلاثمائة دينار، فقال لحاملها : «ارجع بها إليه، أما وجد أحدا أغر بالله منا؟ ما لنا إلا ظل نتوارى فيه، وثلة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل.»
لقي أبو ذر في دعوته كثيرا من العنت والاضطهاد على يد معاوية خاصة؛ فقد أخذه معاوية بالشدة ونهى الناس عن مجالسته وهدده بالقتل ونفاه بالربذة، وفي هذا يقول: «إن بني أمية يهددونني بالقتل، وبطن الأرض أحب إلي من ظهرها، والفقر أحب إلي من الغنى.»
9
قال له رجل: يا أبا ذر، ما لك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ فقال: «إني أنهاهم عن الكنوز.» ومما يؤثر عنه قوله: «يولدون للموت ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفنى ويتركون ما يبقى. ألا حبذا المكروهان؛ الموت والفقر.» (2) ثورة الصوفية على الفقه
كان الزهد وما يتطلبه من إنكار الذات وهجر الدنيا أساس التصوف في دوره الأول إلى حوالي سنة مائتين من الهجرة، مع مراعاة دقيقة لآداب الشريعة الإسلامية وأوامرها.
وكانت أحكام الشريعة في أول عهد الإسلام تؤخذ بالرواية؛ أي بالتواتر، لا فرق في ذلك بين عبادات واعتقادات أو معاملات، ولكن ما لبث المسلمون أن بدءوا يناقشون في مسائل الدين ويتدارسونها، ويبحثون عن علل الأحكام على نمط علمي، ثم يدونون ما يتناقشون فيه، وكان أول ما اتجهت الهمم إلى النظر فيه مسائل الشريعة؛ أي الأحكام العملية التي يدرسها علم الفقه، حتى إن كثيرا من المسلمين قد حسب أن الاشتغال بهذا العلم والعمل به هو الغاية من الدين. كان هذا دور الاجتهاد الذي ظهر فيه الأخذ بالرأي في المسائل الفقهية.
غير أن هذه الحال لم تدم طويلا، فقد بدأ بعض المسلمين ينظرون إلى كمال ديني آخر غير هذا الكمال الذي هو استنباط الأحكام الشرعية والعمل بمقتضاها. ذلك الكمال الديني الآخر هو البحث في المعاني الباطنة للأحكام بالإضافة إلى معانيها الظاهرة، وكان هذا إيذانا بظهور علم جديد، هو التصوف، إلى جانب علم الفقه. أي بظهور علم باطن الشريعة إلى جانب علم الظاهر. يقول ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: كتب ابن منبه إلى ابن مكحول (المتوفى سنة 113): «إنك امرؤ قد أصبت فيما ظهر من علم الإسلام شرعا، فاطلب بما بطن من علم الإسلام عن الله محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين سوف تمنع عنك الأخرى.» فابن منبه وهو في هذا العصر المبكر في تاريخ الإسلام، يفرق بين علم الشرع (الفقه) الذي غايته معرفة الأحكام، وبين علم باطن الشرع (الذي عرف فيما بعد بالتصوف) الذي غايته التقرب والزلفى إلى الله تعالى.
ولما ظهر الصوفية وأخذوا بمنهجهم في فهم الدين، بدأ الفقهاء يتوجسون منهم خيفة مدة من الزمن، ثم ما لبثوا أن ناصبوهم العداء علانية واضطهدوهم كل نوع من أنواع الاضطهاد التي يحدثنا عنها التاريخ؛ ذلك أن شقة الخلاف بينهم قد اتسعت على مر الزمن، وأصبح لكل من الطائفتين وجهة نظر خاصة في ماهية الدين نفسه وكيف يجب أن يفهم، وماهية الأحكام الشرعية وكيف يجب أن تستنبط وتعلل، وماهية العبادة وعلى أي نحو تؤدى، وما هو الحلال وما هو الحرام، وأيهما أفضل الفروض أم النوافل، وعلى أي نحو يجب أن نتصور الصلة بين الله والإنسان: أهي صلة محب بمحبوبه أم صلة عابد بمعبوده؟ وما هو التوحيد: أهو إفراد الموحد بفصات تميزه عن المحدثات، أم إفراده بالوجود الحق؟ إلى غير ذلك من المسائل التي كانت في صميم الدين. كان من الطبيعي إذن أن يقع الصدام بين الطائفتين لاختلافهما في الفكرة والمنهج والعاطفة، وظهر الخلاف على حقيقته حوالي المائتين بين الفقهاء ومتصوفة البصرة والكوفة، ثم تلاه سلسلة من الاضطهادات في مصر والشام والعراق انتهت في سنة 309 بمأساة الحسين بن منصور الحلاج.
وكان من أبرز الشخصيات التي ناهضت التصوف وقاومت الصوفية أحمد بن حنبل، بالرغم مما كان يكنه لبعض الصوفية من احترام وتبجيل كما تشهد بذلك الحكايات التي تروى عنه مع الحارث المحاسبي، ولكن إشفاق ابن حنبل على الإسلام وتخوفه من انتشار نفوذ الصوفية كانا أغلب عليه من تقديره لهم. إنه لم ينكر عليهم أقوالهم، ولكنه كان يعترف صراحة أنه لا يفهمهم لأنهم يتكلمون بلغة لا عهد له بها.
تروي الحكايات أنه استمع يوما إلى الحارث المحاسبي وهو يدرس لتلاميذه في حلقة من حلقاته وكان مختفيا وراء ستار، فخرج وهو يبكي؛ لا لأنه فهم كلام المحاسبي، ولكن تأثرا بنغمة الصدق التي لاحظها في وصاياه.
ثم جاء أتباع ابن حنبل فكانوا أشد مقتا للصوفية وتنكيلا بهم، وقد بلغ اضطهادهم لهم أقصاه في محنة الصوفية المعروفة بمحنة غلام الخليل ،
10
وهي المحنة التي اتهم فيها نحو سبعين صوفيا، من بينهم الجنيد شيخ الطائفة ببغداد، وحوكموا وحكم عليهم بالإعدام ثم أفرج عنهم.
لم تكن الثورة التي قام بها الفقهاء ضد الصوفية في الحقيقة إلا رد فعل للثورة الروحية التي أراد الصوفية أن يحدثوها في الدين، فقد أدرك الصوفية أن الدين قد أصبح في عرف الفقهاء جملة رسوم وأوضاع لا حياة ولا روحانية فيها، وهذه الرسوم والأوضاع إن أرضت ظاهر الشرع وأشبعت عقول المشرعين المفتونة بتقعيد القواعد وتعميم القوانين حتى ولو أدى ذلك إلى اصطناع «الحيل» و«المخارج» غير المعقولة، لم تكن لترضي باطن الشرع ولا تشبع العاطفة الدينية عند الصوفية؛ لذلك كان لا بد من أن ينقسم «علم الشريعة» إلى قسمين؛ علم ظاهر الشرع الذي يدرس الأعمال التي تجري على الجوارح، وهي: العبادات كالصلاة والصوم والحج، والمعاملات مثل الحدود والزواج والطلاق والعتق والبيع، وقد سمي ذلك «علم الفقه»، وهو علم الفقهاء وأهل الفتيا، والثاني علم الأعمال الباطنة أو أعمال القلوب، وهو التصوف أو علم الحقائق الذي سمي أهله بالصوفية وأرباب الحقائق وأهل الفهم من أهل العلم، كما سمي الآخرون أهل الظاهر وأهل الرسوم.
إلى هذا يشير رويم البغدادي المتوفى سنة 303 بقوله: «كل الخلق قعدوا على الرسوم وقعدت هذه الطائفة (يعني الصوفية) على الحقائق، وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق.»
11
فالتفرقة ظاهرة في عبارة رويم بين الشرع وحقيقة الشرع، بين الظاهر والباطن، أو بين الدين في الرسم والدين في الجوهر، وهذه النظرة وحدها هي لب التصوف، وهي العامل الأكبر في تحويل الإسلام - على أيدي الصوفية - من دين رسوم وأوضاع إلى دين حي روحي، وترجع المقابلة بين الشريعة والحقيقة - وهي مسألة سنفيض الكلام فيها فيما بعد - في أصل نشأتها إلى المقابلة بين ظاهر الشرع وباطنه، ولم يكن المسلمون في أول عهدهم بالإسلام ليقروا هذه التفرقة أو يفكروا فيها، ولكنها بدأت بالشيعة الذين قالوا إن لكل شيء ظاهرا وباطنا، وأن للقرآن ظاهرا وباطنا، بل لكل آية فيه وكل كلمة ظاهر وباطن، وينكشف الباطن للخواص من عباد الله الذين اختصهم بهذا الفضل وكشف لهم عن أسرار القرآن؛ ولهذا كانت لهم طريقتهم الخاصة في تأويل القرآن وتفسيره، ويتألف من مجموع التأويلات الباطنية لنصوص القرآن ورسوم الدين وما ينكشف للسالكين من معاني الغيب عن طرق أخرى ما أطلق عليه الشيعة اسم «علم الباطن» الذي ورثه النبي
صلى الله عليه وسلم
عليا بن أبي طالب - في زعمهم - وورثه علي أهل العلم الباطن الذين سموا أنفسهم بالورثة.
وقد اتبع الصوفية طريقة التأويل هذه واستعملوا فيها أساليب ومصطلحات الشيعة إلى حد كبير، ولكنهم استعملوا أيضا طريقتهم الخاصة التي سموها طريقة «الاستنباط» أي كشف معاني القرآن بترديد قراءة نصوصه.
طريقة استنباط معاني القرآن
اعتبر الصوفية تلاوة القرآن ضربا من العبادة؛ لأن لهم في تلاوة القرآن أغراضا تتحقق فيها العبادة بمعناها الصحيح، وأهم أغراض التلاوة عندهم: الحضور التام بالقلب في الحضرة الإلهية، ومناجاة الله بكلامه، والخضوع التام للأمر والنهي كما وردا في آيات الأمر والنهي، وإيقاف العبد نفسه في موقف المخاطب بكل آية، وغير ذلك من المعاني التي يراعيها الصوفية في عبادتهم. يقول أبو طالب المكي في «قوت القلوب»: «فإذا كان العبد ملقيا السمع بين يدي سميعه، مصغيا إلى سر كلامه، شهيد القلب لمعاني صفات شهيده، ناظرا إلى قدرته، تاركا لمعقوله ومعهود علمه، متبرئا من حوله وقوته، معظما للمتكلم، واقفا على حضوره، مفتقرا إلى الفهم بحال مستقيم وقلب سليم وصفاء يقين وقوة علم وتمكين: سمع فصل الخطاب، وشهد علم غيب الجواب.»
1
وتنحصر طريقة الاستنباط عند الصوفية في تلاوة سورة أو آية من القرآن وتكرارها، متدبرين في كل تلاوة معاني ألفاظها، لا ينتقلون من آية إلى أخرى حتى يشاهدوا معاني الأولى ويفتح الله عليهم بما يعينهم على فهم الآية اللاحقة، مع حضور القلب وجمه الهمة والاشتغال بما هم فيه دون غيره، بحيث يتصف القلب بصورة المقروء ويتلون بلونه، فيحزن للوعيد ويفرح للوعد، ويشعر بالخشية والرهبة عند تلاوة آيات الوعد والاعتبار.
يقول الحسن البصري: «والله ما أصبح اليوم عبد يتلو هذا القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكبر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته.»
2
ويقول أبو طالب المكي: «فإذا فهم العبد الكلام (أي كلام الله) وعامل به المولى، تحقق بما يقول وكان من أصحابه ولم يكن حاكيا لقائله. (وذلك) مثل أن يتلو منه:
إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ،
3
ومثل أن يقول:
عليك توكلنا وإليك أنبنا ،
4
ومثل قوله:
ولنصبرن على ما آذيتمونا ،
5
فيكون هو الخائف لليوم العظيم، ويكون هو المتوكل المنيب، وهو الصابر على الأذى المتوكل على المولى، ولا يكون مخبرا عن قائل قاله، فلا يجد حلاوة ذلك ولا ميراثه. فإذا كان هو كذلك وجد حلاوة التلاوة، وكذلك إذا تلا الآي المذموم أهلها، الممقوت فاعلها مثل قوله تعالى:
وهم في غفلة معرضون ، وقوله:
فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ،
6
وقوله:
ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون .»
7
وقد يتلو الصوفي الآية الواحدة أربع أو خمس ليال لا يتجاوزها إلى غيرها، كما أثر عن أبي سليمان الداراني، أو يتلو سورة مثل «هود» في ستة أشهر، أو القرآن كله في ثلاثين سنة. فإذا تلا الصوفي القرآن تلاوة فهم على النحو الذي وصفناه، تفتحت له معانيه رويدا رويدا، وزادت وضوحا مع ازدياد مرات التلاوة، وانكشفت له «الحكمة» التي هي جماع الأسرار الباطنية المودعة في النصوص. هذا ما يفهمه الصوفي من قوله تعالى:
ويعلمكم الكتاب والحكمة ،
8
قالوا: «الكتاب» اسم لظاهر القرآن، و«الحكمة» اسم لباطنه. قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
9
هي الفهم في كتاب الله عز وجل.
10
فالحكمة عندهم، أو «الفهم» كما يسميها أوائل الصوفية، ليست نوعا من العلم يكتسب بالنظر العقلي، بل هي العلم الباطن الذي يلقى في القلب إلقاء ويدرك القلب حلاوته ذوقا، وبذلك تتقابل حكمة الصوفية وحكمة الفلاسفة تقابل الأضداد.
يذكر أبو طالب المكي من بين المحجوبين عن فهم القرآن: «من نظر إلى قول مفسر يسكن إلى علم الظاهر أو يرجع إلى عقله أو يقضي بمذاهب أهل العربية واللغة في باطن الخطاب.» ويقول: «هؤلاء كلهم محجوبون بعقولهم، مردودون إلى ما يقدر في علومهم، موقوفون على ما تقرر في عقولهم ... وهؤلاء مشركون بعقولهم وعلومهم عند الموحدين، فهذا داخل في الشرك الخفي.»
11
وقد اعتبر هذا من الشرك الخفي لأن من يفهم القرآن اعتمادا على عقله أو اتباعا لمفسر، يشرك بالله؛ لأنه لا يعقل القرآن عن الله، ولا يعقل كلام الله على ما هو، بل بحسب ما يمليه عليه عقله، أو يمليه عليه عقل غيره من المفسرين، والعاقل الكامل من عقل عن الله كما يقول الحديث.
وإذا عرفنا أن معاني القرآن تنكشف لكل صوفي بحسب استعداده الروحي وبحسب وقته وحاله، أدركنا لماذا يختلف الصوفية في مشاربهم ونزعاتهم واتجاهاتهم الروحية. فإن ما يغلب على أحدهم من الأحوال نتيجة لتلاوته القرآن، غير ما يغلب على الآخر، والحقيقة أن كل صوفي عالم روحي قائم بذاته، وأن الطرق الصوفية المؤدية إلى الله هي بقدر عدد هذه العوالم الروحية، وإذا عرف بعض قدماء الصوفية التصوف بأنه «إدراك الحقائق» فليس لهذا التعريف من معنى إلا أنه إدراك الحقائق الإلهية كما يدركها كل صوفي على حدة، وبمقدار استعداده الروحي وتكوينه.
الحقيقة والشريعة
سبق أن ذكرنا أن الحقيقة في عرف الصوفية هي المعنى الباطن المستتر وراء الشريعة، وأن الشريعة هي الرسوم والأوضاع التي تعبر عن ظاهر الأحكام وتجري على الجوارح، وقد أجمع الصوفية في كل عصر على ضرورة التزام الشرع واتباع الدين، ولكنهم لم يفهموا في أي وقت من الأوقات من الدين حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها، بل كانوا دائما ينحون في فهم الدين والشريعة نحوا يختلف قليلا أو كثيرا عن نحو الفقهاء، وفي هذا تظهر ثورتهم عليهم. نعم أوجس بعض أوائل الصوفية خيفة من المبالغة في التفرقة بين الشريعة والحقيقة مما قد يؤدي إلى التراخي في القيام بواجبات الشرع، فألحوا في المطالبة بظاهر الشرع، وفي هذا يقول سهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة 273 (أو سنة 283): «ما من طريق إلى الله أفضل من العلم (يعني العلم بالشرع)، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلمات أربعين صباحا.» ويقول أبو سعيد الخراز المتوفى سنة 277: «كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل.» ويقول أبو بكر الزقاق الكبير، وكان من أقران الجنيد: «كنت مارا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.»
1
ومما يدل على أن التزام الشريعة والاقتداء الدقيق بسنة الرسول كان من دأب قدماء الصوفية، تلك الصيحة المدوية التي صاحها أبو القاسم القشيري في مطلع رسالته (التي ألفها حوالي سنة 440ه) في وجه صوفية عصره، مطالبا إياهم بالرجوع بالتصوف إلى سيرته الأولى، وذلك لما رأى منهم من التواني والفتور في مسائل الشريعة اعتمادا على ما سموه بالحقيقة. يقول: «إن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
حصلت الفترة (أي الفتور والضعف) في هذه الطريقة، لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة.
مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوي بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحل من القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة ...»
2
ولم تذهب صيحة القشيري صرخة في واد، ولم تكن دعوته إلى المحافظة على الدين والتزام أحكام الشريعة سدى ، فإن الغزالي الذي أتى بعد القشيري بنحو نصف قرن قد أخذ على عاتقه مهمة التوفيق بين التصوف وتعاليم الدين، أو بين الحقيقة والشريعة، وأقام من الدين أساسا للتصوف، فمزج عناصر التصوف مزجا تاما بعناصر من القرآن والحديث، ورفع بذلك من قيمة التصوف حتى في نظر أعدائه، وقد جاءت تآليف الغزالي في هذا الميدان نتيجة رغبة صادقة من نفس صادقة في تحصيل حياة روحية حقة للغزالي نفسه أولا، ثم لغيره ممن يتوقون إلى طمأنينة النفس بإيصالها إلى الحقيقة ثانيا. فإن الغزالي حاول أن يحل مشكلته الروحية أولا، ولكنه خلف لنا تراث المعلم الروحي الذي يرشد السالكين إلى حل مشكلاتهم الروحية أيضا.
وجد الغزالي الحقيقة التي كان ينشدها في الطريق الصوفي، ولكن لم تصرفه هذه الحقيقة عن الشريعة ولا حولته عن عقيدة أهل السلف، بل ظل مستمسكا بمبدأين هامين حفظا عليه دينه؛ الأول تقديسه للشرع واتباعه الدقيق له، والثاني وجهة نظره في الله من حيث هو ذات قديمة مخالفة للحوادث، وأن النفس الإنسانية قد تستطيع أن تتصف بصفات الكمال فتتقرب بذلك من الله وتعرفه أكثر من غيرها، ولكنها لا تستطيع أن تتحقق بمعنى الإلهية على أي نحو من الأنحاء، وبذلك أقفل الغزالي الباب في وجه أصحاب وحدة الوجود.
أما أن «الحقيقة» في نظر الغزالي لا تتنافى مع الشريعة فيدل عليه قوله في الإحياء:
من قال إن الحقيقة تخالف الشريعة والباطن يخالف الظاهر، فهو إلى الكفر أقرب، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة.
فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق.
فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قدر وأخفى وأظهر.
فكأن «الحقيقة» في نظر الغزالي تأييد - عن طريق الشهود - لما ورد في ظاهر الشرع.
فالشريعة تدعوك إلى القيام بأعمال العبادة ونحوها، والحقيقة تشهدك معاني الألوهية وتصرف الحق في الكون، وتوقفك على ما خفي عنك من أسرار القضاء.
هذا معنى من معاني الشريعة والحقيقة فهمه جمهور الصوفية، ولكن من الصوفية من نظر إلى الشريعة والحقيقة نظرة أخرى واتجه في فهمها اتجاهات مختلفة نذكر من أهمها ما يأتي:
اعتبر بعضهم الشريعة أسلوبا من أساليب السلوك الخلقي، أو نوعا من أدب النفس يراعى فيه اتباع الرسول، فلم ينظروا إلى تعاليم الدين في حدودها التي وضعها القدماء، ولم يقسموها إلى فروض وسنن، بل أطلقوا الأمر إطلاقا ولم يفرقوا بينهما، وربما وضعوا النوافل في مرتبة أعلى من الفرائض؛ لأنها - في زعمهم - الوسيلة التي يتقرب بها العبد من ربه.
يروي الصوفية فيما يروونه من الأحاديث القدسية أن الله تعالى قال: «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ... إلخ.» فأداء الفرائض طاعة، وأداء النوافل محبة، وأداء الفرائض يوصل إلى الجنة، وأداء النوافل يوصل إلى صاحب الجنة.
كذلك خالفوا الفقهاء في اعتبارهم النية أفضل من العمل، وفي تقديمهم التأمل على العبادة، والتحريم على الإباحة. أما أن النية أفضل من العمل؛ فلأنها أساسه ومبنى قوامه، وقيمة العمل ليست فيه من حيث ذاته، بل من حيث الباعث عليه والدافع إليه. يقول الحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.» أي إنما قيمة الأعمال بحسب النية التي تدفع إليها، «ولكل امرئ ما نوى» معناه لكل إنسان نصيبه من الجزاء على قدر نيته، وأما تفضيلهم التأمل على العبادة؛ فلأن التأمل عمل روحي بحت، والعبادة عمل روحاني بدني، وأما تقديمهم التحريم على الإباحة فهو اعتبارهم أن الأصل في الأشياء أن تكون محرمة على الإنسان وأن ما أحله الشرع منها استثناء من هذه القاعدة.
نظر هؤلاء الصوفية إلى باطن الشريعة دون ظاهرها، وإلى الحكمة في التشريع دون القيام بالأمر المشرع: فالإنسان مكلف من قبل الشرع لا ليقوم بأداء فرض فرضه الله عليه وحسب، بل لأن التكليف يحقق غاية عليا قصد إليها المشرع، وهذه الغاية تتحقق بالأمر المكلف به كما تتحقق بغيره من الأمور التي تمثاله، وإذا كان الأمر كذلك، ظهرت ضآلة الأداء الفعلي للأمر المكلف به بإزاء النية الصادقة في أدائه، وظهرت ضآلة رسوم العبادة بإزاء التأمل الذي هو جوهر العبادة، ومعنى هذا أن مناط التكليف عند هؤلاء الصوفية هو القلب لا الجوارح، وخلاص العبد هو في إخلاص نيته لا في القيام بالعمل.
وإذا اتجه العبد الاتجاه الذي يريده هؤلاء الصوفية، حصل الفوائد الروحية من العبادة وكان لهذه الفوائد أثرها في تطهير النفس وتصفية القلب وتقريب العابد من الله، وإذا تمت تصفية القلب وحصل القرب من الله، تحقق العبد بمعرفة الله، وهي في نظرهم الغاية القصوى والمقصد الأسمى الذي قصد إليه الشارع من التكليف.
وهذا موقف، على ما فيه من نبل الغاية وصدق النظرة الروحية، كثيرا ما أخذ به ضعفاء القلوب من الصوفية فزلت أقدامهم وأدى بهم آخر الأمر إلى الوقوع في نحو من الإباحية والقول برفع التكاليف، استنادا إلى أن الغاية إذا تحققت استغني عن الوسيلة، فإذا وصل العبد إلى مقام القرب من الله أصبح في غنى عن مخاطبة الشرع له.
ونحن لا ننكر أن بعض من انخرطوا في سلك الصوفية ممن لا خلاق لهم ولا صدق فيهم قد انحدروا إلى هذه الهاوية، ولكن جمهور الصوفية الصالحين الذي لهم قدم صدق في الطريق لم يفرطوا في الشرع في قليل أو كثير، ولم تلق منهم تلك الإباحية إلا كل نقمة وإنكار.
يقول جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي المتوفى سنة 597: «وقد أخبرنا ابن ناصر بإسناد عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قيل لأبي نصر النصراباذي إن بعض الناس يجالس النسوان ويقول: «أنا معصوم في رؤيتهن.» فقال: «ما دامت الأشباح قائمة فإن الأمر والنهي باقيان، والتحليل والتحريم مخاطب بهما.» وقال أبو علي الروذبادي وسئل عمن يقول: «وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال.» فقال: «وقد وصل ولكن إلى سقر.» وبإسناد عن الجريري يقول: سمعت أبا القاسم الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة فقال الرجل: «أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله عز وجل.» فقال الجنيد: «إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة ، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها؛ لأنه أوكد في معرفتي به وأقوى في حالي.»
وبإسناد عن أبي محمد المرتعش يقول: سمعت أبا الحسين النوري يقول: «من رأيته يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن علم شرعي، فلا تقربنه، ومن رأيته يدعي حالة باطنة لا يدل عليها ويشهد لها حفظ ظاهر، فاتهمه في دينه.»
3
هذه أمثلة يسوقها ابن الجوزي للتدليل على أن قدماء الصوفية لم يفرطوا في ظاهر الشرع على الرغم من مراعاتهم لباطنه وحقيقته، وأنهم أنكروا كل الإنكار مقالة من قال: «إنهم داوموا على الرياضة حتى رأوا أنفسهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن بما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم للعوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم.»
وآخرون - وهم الرمزيون من الصوفية - ينظرون إلى الشريعة نظرة أخرى، فيقومون بشعائر الدين كما كلفوا بها، ولكنهم لا يرون فيها إلا رموزا يقصد بها معان باطنية يذهبون في فهمها كل مذهب. فرسوم الشريعة هي الظاهر، ومعانيها التي هي أعمال القلوب هي الباطن، وليس للظاهر قيمة في ذاته وإنما قيمته في المعنى الروحي الذي يقصد منه، وهذه وجهة نظر وسط بين التزام أحكام الشرع على ما هي عليه لذاتها، وبين إسقاط أعمال الظاهر إسقاطا كليا، وإن كانت أقرب إلى الثاني منها إلى الأول، وهي نظرة إلى الشريعة يمكن مقارنتها - في ظاهرها - بنظرة الإسماعيلية الباطنية إلى أحكام الدين. أقول «في ظاهرها» لأن الإسماعيلية الباطنية كانت لهم في نظرتهم إلى ظاهر الشريعة مآرب أخرى ليست من مآرب الصوفية في شيء.
وتظهر هذه النزعة الرمزية بصفة خاصة في تأويل مناسك الحج؛ فقد كان الحج في معناه وشعائره أكثر العبادات خضوعا لهذا التأويل الرمزي، وقد أخضعه الصوفية لهذا التأويل منذ أقدم عصورهم. كأنهم لم يروا في القصد إلى بيت الله الحرام والقيام بشعائر الحج قدسية وروحانية كافية من حيث الظاهر، فطفقوا يبحثون عن معان روحية وراء الرسوم الظاهرة، وربما سهل عليهم تأويل مناسك الحج تأويلا رمزيا أن الحج سفر إلى بيت الله، والطريق الصوفي سفر إلى الله، فكان من الطبيعي أن يتخذوا من السفر البدني رمزا للسفر الروحي، ولأذكر هنا مثالا واحدا من أمثلة التأويل الرمزي لبعض مناسك الحج أورده أبو نصر السراج في كتاب «اللمع»، وهناك نظائر كثيرة من التأويل الرمزي للعبادات الأخرى كالصلاة والصوم. يقول السراج:
4
فإذا بلغوا (أي الحجاج) الميقات غسلوا أبدانهم بالماء وغسلوا قلوبهم بالتوبة، وإذا نزعوا ثيابهم للإحرام تجردوا وحلوا العقد واتزوا وارتدوا، فكذلك نزعوا عن أسرارهم الغل والحسد،
5
وحلوا من قلوبهم عقد الهوى ومحبة الدنيا، ولم يعودوا إلى ما خرجوا منه من ذلك. فإذا قالوا «لبيك لا شريك لك» لا يجيبون بعد ذلك دواعي النفس والشيطان والهوى بما أجابوا الحق بالتلبية وأقروا أنه لا شريك له.
فإذا استلموا الحجر الأسود وقبلوه، علموا أنهم يبايعون الله بأيمانهم، فمن الأدب ألا يمدوا بعد ذلك أيمانهم إلى مراد وشهوة. فإذا جاءوا إلى الصفا، فمن الأدب ألا تعترض بعد ذلك كدورة الصفا قلوبهم. فإذا هم هرولوا بين الصفا والمروة وأسرعوا في مشيهم، فمن الأدب أن يسرعوا في الفرار من عدوهم ويهرولوا من متابعة نفوسهم وهواهم وشيطانهم.
والذهاب إلى «منى» رمز للتأهب للقاء لعلهم يصلون إلى مناهم، وطلوعهم عرفات رمز لتعرفهم على معروفهم وهو الحق، وكسرهم للحجارة رمز لكسر الإرادات والشهوات، ورميهم الحجارة رمز لترك ملاحظة الأعمال ومشاهدة النفوس لها، والتعلق بأستار الكعبة رمز للتعلق بالله دون غيره، إلى غير ذلك من مناسك الحج.
فهنا نجد لكل عمل من أعمال الجوارح عملا يوازيه من أعمال القلوب، ونجد الحج سفرا روحيا أكثر منه سفرا بدنيا ومجموعة من الأقوال والأفعال، ولا شك في أنها نظرة عميقة في الدين متى التزمت في حدود الدين ولم تخرج عنه، ومتى جمع بين الرمز والمرموز إليه، ولكنها نظرة محفوفة بالخطر؛ لأنها قد تؤدي إلى المبالغة فيما اعتبر روحانيا أو باطنيا في شعائر الدين إلى الحد الذي يؤدي إلى إسقاط التكاليف وإحلال التكاليف الروحية محل التكاليف الشرعية، كإحلال «الحج بالهمة» محل الحج إلى البيت الحرام، أو إحلال «الذكر» محل الصلاة، أو نحو ذلك، وممن نزع هذه النزعة في الحج خاصة الحسين بن منصور الحلاج وصاحبه وتلميذه أحمد بن سهل بن عطاء الآدمي.
وهنالك طائفة أخرى هم «الملامتية»
6
يتعمدون الظهور بين الناس بما يشعر أنه مناف لظاهر الشرع استجلابا للذم والملامة؛ وذلك لأنهم يعتبرون الدين معاملة بينهم وبين الله، وسرا لا يطلع عليه أحد سواه. بل لا تطلع عليه نفوسهم؛ لأن رؤية الأفعال في مذهبهم مبطلة للأفعال. فهم لا يظهرون للخلق خيرا ولا يدعون لأنفسهم طاعة؛ ولذلك خالف الملامتية الصوفية في كثير من تعاليمهم وطقوسهم، فلم يلبسوا خرق الصوفية ولم يحضروا مجالس السماع ولم يبيحوا لمريديهم التواجد والظهور بمظهر الجذب أو أي مظهر يشعر بالدعوى أو يجلب الشهرة؛ وذلك سترا لأحوالهم. •••
هذه كلها وجهات نظر للصوفية في الشريعة والحقيقة، وكلها - ما عدا الأولى - اتجاهات في الدين وراء الحدود التي رسمها الفقهاء، وإخراج له عن الدائرة التي حصر الفقهاء الدين فيها، وهي نزعات عملت - عندما صدقت - على توسيع الأفق الروحي للعبادات، وإن أفسد جمالها في بعض الأحيان ضعفاء الإيمان من الصوفية أنفسهم أو من الدخلاء عليهم.
ولذلك لم يكن بد من أن يدب الخلاف بين الصوفية والفقهاء ويتهم الفقهاء الصوفية بالابتداع في الدين ويتهم الصوفية الفقهاء بالجمود وضعف الروحانية؛ وذلك للاختلاف الجوهري بين الطائفتين في المنزع والغاية، ولم يكن بد من أن يثور الصوفية في أوجه الفقهاء الذين أصبح الدين على أيديهم مجموعة من الرسوم والأشكال والأوضاع التي لا حياة فيها، ولم يكن بد أيضا من أن يثور الفقهاء في وجه الصوفية لأنهم اعتبروا أنفسهم حماة الشرع الذائدين عنه، والشرع لم يأت إلا بأحكام الظاهر، ولم يضع حدودا لأحكام الباطن، فلم يضع حدا للنفاق والرياء، والشرك الخفي أو عدم الإخلاص، أو ما شاكل ذلك من أعمال القلوب، بل ترك أمر ذلك إلى الله.
ومن القصص التي لها مغزاها في إظاهر الفرق بين فهم الفقهاء للدين وفهم الصوفية، وبيان أن الفقهاء اعتبروا أنفسهم دائما حراسا قوامين على الدين، ما روي من أن أحمد بن حنبل كان عند الشافعي يوما فمر شيبان الراعي الصوفي، فقال أحمد: أريد يا أبا عبد الله أن أنبه هذا على نقصان علمه ليشتغل بتحصيل بعض العلوم، فقال الشافعي: لا تفعل، فلم يقتنع وقال لشيبان: ما تقول فيمن نسي صلاة من خمس صلوات في اليوم والليلة ولا يدري أي صلاة نسيها، ما الواجب عليه يا شيبان؟ فقال شيبان: يا أحمد هذا قلب غفل عن ذكر الله تعالى، فالواجب أن يؤدب حتى لا يغفل عن مولاه. فغشي على أحمد، فلما أفاق قال الشافعي رحمه الله: ألم أقل لك لا تحرك هذا؟»
7
لا شك أن أحمد بن حنبل كان يفكر في جواب فقهي يتصل بعدد الصلوات وأوقاتها، وفي مخرج فقهي أو حيلة فقهية تخرج ذلك المصلي من ورطته، ولكن شيبان لم يفكر في هذا كله وإنما فكر في أساس الصلاة وجوهرها وهو ذكر الله وعدم الغفلة عنه.
وقد اعتبر الصوفية أنفسهم أيضا حماة الدين بمعناه الحقيقي - لا الظاهري - فوضعوا حدودا لأحكام الباطن وأعمال القلوب وعدوا ذلك جزءا من الدين، بل عدوه الفقه الحقيقي في الدين. ذلك أنهم اعتبروا الدين معاملة شخصية بين العبد وربه، وقاسوا طاعة العبد لا بمطابقة فعله لأحكام ظاهر الشرع فحسب، بل بمطابقته لروح الشرع وحقيقته أيضا، وبمقدار ما ينطوي عليه الفعل من إخلاص وبعد عن الرياء، ومن هنا كان الفقيه الحقيقي في نظرهم هو البصير بأمر دينه، الفاهم لحقيقة شرعه، لا العالم بظاهر أحكام ذلك الشرع.
قيل للحسن البصري يوما: فلان فقيه، فقال: «وهل رأيت فقيها قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه.» فالفقه الحقيقي في نظر الحسن هو البصر بأمور الدين وإدراك أسرار الأحكام، لا مجرد العلم والعمل بالأحكام، ونتيجة ذلك الإدراك هو الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
ولكن نستطيع أن نقول إن جمهور الصوفية مجمعون على أن الفقه في الدين يشمل العلم بأحكام الظاهر وأحكام الباطن جميعا، وأن الفقه في أحكام الأحوال ومعاني المقامات ليس بأقل خطرا من الفقه في أحكام الطلاق والعتاق والقصاص. يقول أبو نصر السراج:
8 «لأن تلك الأحكام (أي أحكام الظاهر) ربما لا يقع في العمر حادثة تحتاج إلى العلم بحكمها، فإذا وقعت فيكفي فيها التقليد وبذلك يسقط الفرض.
9
أما الأحوال والمقامات والمجاهدات التي يتفقه فيها الصوفية ويتكلمون عن حقائقها؛ فالمؤمنون مفتقرون إليها، ومعرفتها واجبة عليهم، وليس لها وقت مخصوص دون وقت. مثال ذلك الصدق والإخلاص والذكر ومجانبة الغفلة؛ وذلك أن العبد واجب عليه أن يعلم في كل لحظة قصده وإرادته وخاطره، فإن كان حقا من الحقوق لزمه، وإن كان حظا من الحظوظ جانبه. قال تعالى:
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .» فالفقه في أحوال النفس - أي معرفة النفس وأحوالها وخواطرها وقصودها - فرض عين على كل مؤمن، بل هو الفقه الحقيقي لأنه أساس الفقه الشرعي، ويرى السراج أن الصوفية لا غنى لهم عن الفقهاء، وأنه يجب عليهم أن يأخذوا عنهم علومهم ليجانبوا الابتداع في الدين والانسياق مع الهوى. فإذا لم يبلغ أحد منهم مرتبة الفقيه في الدراية والفهم، رجع إلى أصحاب الفقه في الأمور التي تشكل عليه، ولكن السراج يفضل الصوفية على أصحاب الفقه والحديث حيث يقول: «إنهم (أي الصوفية) ارتفعوا إلى درجات عالية وتعلقوا بأحوال شريفة ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة، ولهم في معاني ذلك تخصص ليس لغيرهم من العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث.» •••
كل ذلك لم يرق في نظر الفقهاء واعتبروه خطوة نحو الإباحية والتحلل من الشرع، ولكنه كان في نظر الصوفية تدرجا طبيعيا في مطالب الحياة الروحية، فقد كان المسلمون مقبلين على حياة روحية أعمق وأقرب اتصالا بالله، ولم يكن الفقه الشرعي وحده كافيا في تحقيق هذه الغاية؛ ولذلك وجد الصوفية طلبتهم في التصوف كما فعل الغزالي.
ولم تكن ثورة الصوفية على الفقهاء قاصرة على نظرتهم إلى ظاهر الشرع وباطنه، بل تعدت ذلك إلى فهمهم لمعاني أحكام الشرع ذاتها من فرض ونافلة وحلال وحرام ومكروه ومندوب إليه وما شاكل ذلك، فأوجبوا على أنفسهم أمورا لم يرد الشرع بإيجابها، وحرموا أمورا لم يرد الشرع بتحريمها: وكأنهم بذلك منحوا أنفسهم حق التشريع، غير أن تشريعهم كان لأنفسهم لا لغيرهم.
الطريقة والحقيقة
بدأت الحياة الصوفية في الإسلام بأفراد يسلك كل منهم في عبادته ومجاهداته «طريقته» الخاصة، ولم يكن للصوفية حتى نهاية القرن الثاني حياة منظمة داخل الزوايا والربط، ولكن سرعان ما ظهرت في جماعاتهم روح النظام وتجمعوا حول المشايخ في حلقات الوعظ، وكان ذلك في المساجد أولا، ثم في حلقات الذكر داخل الخانقاوات بعد ذلك، ولم يمض زمن طويل حتى كان مشايخ الصوفية على رأس جماعات منظمة تأخذ كل جماعة تعاليمها وآدابها بطريقة خاصة، وهنا ظهر في الإسلام نوع من الرهبنة أشبه بالرهبنة المسيحية وإن اختلف عنها اختلافا جوهريا. فمن معاني «الطريقة» إذن الأسلوب الخاص الذي يعيش الصوفي بمقتضاه في ظل جماعة من جماعات الصوفية تابعة لأحد كبار المشايخ، أو هي مجموعة التعاليم والآداب والتقاليد التي تختص بها جماعة من هذه الجماعات.
ولكن لكلمة «الطريقة» معنى آخر أعم وأشمل؛ إذ معناها أيضا الحياة الروحية التي يحياها السالك إلى الله أيا كان، وسواء أكان منتسبا إلى فرقة من فرق الصوفية أم غير منتسب، وتابعا لشيخ من شيوخ الطرق أم غير تابع، و«الطريقة» بهذا المعنى «فردية» بكل معاني الكلمة؛ إذ لكل سالك إلى الله حياته الفردية الخاصة وعالمه الروحي الذي يعيش فيه وحده، وقديما قال بعض العارفين: إن الطرق إلى الله بعدد السالكين إليه.
وليست «الطريقة» بهذا المعنى الثاني سوى المعراج الروحي عند الصوفية، وهي التي أطلقوا عليها اسم «السفر» و«السلوك» و«المعراج»، وقسموها من أقدم العصور إلى مراحل أو منازل سموها بالمقامات، كما سموا الأحداث النفسية والمغامرات الروحية التي تعرض لهم فيها باسم الأحوال. يرى السالك في هذا الطريق أشياء لا يراها غير الصوفي، وتعترض سبيله عقبات لا تعترض سبيل غير الصوفي، وتعتريه أحوال لا يعانيها غير الصوفي، فلا يجد لغة يعبر بها عن هذه الأمور كلها سوى لغة الرمز والإشارة؛ لأن الأمور التي يرمز إليها لا تقع في محيط عامة الخلق، وقد تبدو هذه اللغة الرمزية في بعض الأحيان مستبشعة في ظاهرها منافية للتقوى، بعيدة عما يقتضيه جلال الجناب الإلهي، كأن يوصف «المطلق المنزه» بأوصاف المحسوس المحدود، وكأن يشار إلى الذات الإلهية ب «هي»، أو تشبه النشوة الحاصلة من مشاهدة الله بنشوة الخمر.
وللصوفية نظرتان إلى الطريق الذي يسلكون فيه إلى الله؛ الأولى أنه طريق عروج من عالم الظاهر إلى عالم الحقيقة، أو من عالم الأرض إلى عالم السماء. الثانية أنه تحول باطني وتغير في الصفات وتهيؤ في النفس يمكنها من الاتصال بمحبوبها الأعظم: الله، وأساس هاتين النظرتين واحد، وهو أن «الله» أو الحقيقة الوجودية المطلقة هو أصل كل موجود ومصدره، فهو المقوم للعالم كما هو المقوم للنفس. فإن طلبه الصوفي بالطريقة الأولى عبر عن هذا الطلب بالصعود إليه، وإن طلبه بالطريقة الثانية عبر عنه بالهبوط إلى النفس ليجد الله فيها، ولكنه يجد الله في نفسه بعد أن تتحول تلك النفس عن صفاتها وتتخلص من أدرانها وكدوراتها، والنظرة الأولى هي نظرة الصوفية الذين يصورون النفس بصورة الطائر السجين الذي يطلب الخلاص من شباك البدن ليعود إلى موطنه الروحي الأول، وهؤلاء لهم رمزيتهم الخاصة. أما الآخرون فيصطنعون في لغتهم الرمزية أساليب الحب والشوق والسكر والصحو ونحو ذلك.
ولكن الحقيقة الصوفية التي لا جدال فيها هي أن النفس الإنسانية لا تستطيع الوصول إلى الله إلا إذا فنيت عن صفاتها وتحررت من قيودها، بل إن عروجها إلى الله في كل خطوة تخطوها إليه رهن بالخطوات الجديدة التي تخطوها في طريق التصفية والتطهير، ومعنى هذا أن المعراج الروحي وليد التطهير وأعمال المجاهدة والرياضة النفسية، فإن تطهير النفس وتصفيتها بأعمال المجاهدة والرياضة يلزم عنه لا محالة ترق في سلم المعراج الروحي. فلا غنى لأي صوفي إذن عن أن ينظر إلى طريقه بالنظرتين معا، وهذا واضح كل الوضوح في كلام الصوفية عن المقامات: وهي مراحل الطريق الصوفي أو مراقي معراجه، فإن لكل واحد من هذه المقامات ناحيتين: الأولى أنه دور من أدوار حياة المجاهدة والتصفية النفسية، والثانية أنه مرقاة في سلم الحياة الروحية والمعراج إلى الله، وإننا لنجد أبسط وأقدم تصوير للمعراج الروحي عند متصوفة المسلمين واضحا في وصفهم للطريق الصوفي وكلامهم عن مقامات السالكين فيه، فهم يقسمون الطريق إلى مراحل يطلقون على كل مرحلة منها اسم «المقام»: أي المنزلة الروحية التي يقوم بها السالك أو يقيمه الله تعالى فيها حتى ينتقل إلى المنزلة التي تليها.
ويختلف عدد هذه المقامات وأوصافها باختلاف الصوفية، ولكنها تبتدئ عادة بمقام التوبة وتنتهي بمقام المشاهدة، ولا يترقى السالك في الطريق من مقام إلى مقام حتى يستوفي أحكام المقام السابق، أو على حد قول الصوفية أنفسهم حتى يتحقق بآداب المقام السابق عن طريق منازلته.
وقد رتب الصوفية هذه المقامات بحسب رأيهم في توقف كل مقام لاحق على المقام السابق عليه، كتوقف مقام التوكل على مقام القناعة، ومقام التسليم على مقام التوكل، ومقام الإنابة على مقام التوبة، ومقام الزهد على مقام الورع، وهكذا.
وكذلك ذكروا الأحوال؛ وهي الأمور الروحية التي تعرض للسالك في الطريق إلى الله من قبض أو بسط أو هيبة أو أنس، أو وجد أو شوق أو انزعاج، أو شعور بالفرق أو الجمع، أو بالفناء أو البقاء، أو بالغيبة أو الحضور، ونحو ذلك من التجارب الروحية التي يعانيها الصوفي في المقامات، وقد عرفوها بأنها معان ترد على القلب من غير تعمل أو اجتلاب أو اكتساب خلافا للمقامات التي هي أمور كسبية صرفة؛ لأنها أعمال إرادية يقصد بها السالك إلى تحصيل فضيلة معينة من فضائل الطريق.
وعلى هذا النحو تكون المقامات الصوفية أشبه شيء بمنازل طريق السفر الحسي، وتكون الأحوال أشبه شيء بما يعرض للمسافر في سفره من أحداث غير منظورة، ومغامرات غير متوقعة، وهذه الصورة البسيطة للمعراج الصوفي تمثل الفكرة الأساسية في كل معراج روحي إلى الله؛ لأنها تمثل طريقا طويلا شاقا فيه جهاد عنيف للبدن وشهواته، وتخلص تدريجي من العالم المادي وسلطانه ومغرياته، ويقطع ذلك الطريق على مراحل تتخلى فيها النفس عن صفاتها الذميمة وتتحلى بصفات أخرى حميدة، وبذلك تترقى في سلم التطور الروحي درجة درجة حتى تصل إلى ما قدر لها أن تصل إليه من درجات القرب إلى الله، وفي أثناء السير في الطريق تتكشف للسالك أحوال هي من ناحية ثمرات لجهاده، ومن ناحية أخرى مواهب ربانية يهبها الله لمن يشاء، ترد على القلب في صورة بوارق أو لوامح وتلقى فيه إلقاء ولا يدري الصوفي لها تعليلا أو عنها تعبيرا.
وقد اتخذ الصوفية على اختلاف مناحيهم من فكرة أفلاطون في النفس أساسا لوصفهم المعراج الروحي. فالنفس عندهم كائن غريب عن هذا العالم، هبط إليه من العالم العلوي وحل ضيفا على البدن، ولكنه منذ هبوطه إلى هذا العالم يحن أبدا إلى الخلاص من قيوده واللحاق بعالمه الأصلي، ولكن أنى له بالعودة وقد تغلل بأغلال العالم المادي وشغلته شواغله وغشيته غواشيه، فتكدر كيانه الصافي وخبا فيه قبس ذلك النور الإلهي الذي كان يضيء جوانبه. لا بد من الفرار وتحطيم الأغلال وتصفية النفس من كدوراتها حتى تتهيأ للصعود إلى عالمها، ولذا حلا للصوفية أن يشبهوا النفس بالطائر السجين الذي هبط إلى الأرض من عالم السماء، ولكنه لا يفتأ يحن إلى وطنه ويحاول الإفلات من قفصه. إلى هذا المعنى يشير ابن سينا في قصيدته العينية في النفس، ومطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة ناظر
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وكذلك يشير إليه الشاعر الصوفي الفارسي فريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير» الذي يصور فيه النفوس بصورة الطير التي تسير في سرب عظيم بزعامة «الهدهد» تريد أن تصل إلى «السيمرغ» وهو ملك الطيور الذي خلقت الطيور كلها من ريشة واحدة من ريشه العجيب، وقد سقطت منه وهو يطير في ظلام الليل في سماء الصين.
تأخذ هذه الطيور أهبتها لسفر طويل شاق بعد أن تتزود بمجموعة من الإرشادات يرشدها بها «الهدهد»، ثم تقتحم في سفرها سبعة أودية يسميها العطار أودية «الطلب» و«العشق» و«المعرفة» و«الاستغناء» و«التوحيد» و«الحيرة» ووادي «الفقر والغناء». يتخلف بعض الطيور أثناء السفر لما يراه من وعورة الطريق وأهواله، ويهلك البعض الآخر دون الوصول إلى غايته، وتسير البقية جادة غير متوانية، يحدوها الأمل ولا يفت في عضدها ما تلقاه من مخاوف، وهكذا يمضون حتى يصلوا إلى الوادي الأخير الذي هو وادي الفقر والغناء، ولكن لا يصل إليه منهم إلا ثلاثون طائرا هم الذين ثابروا وتغلبوا على مصاعب الرحلة وأخطارها، وعندما يمثلون بين يدي «السيمرغ» تكون أشخاصهم قد انمحت وزالت الحجب بينهم وبين ملكهم، وعندما ينظرون إليه يشاهدون فيه «سي مرغ» (ثلاثين طائرا) وبذلك يرون كثرة في وحدة. فإذا ما نظروا إلى أنفسهم - أي إلى سي مرغ (ثلاثين طائرا) - شاهدوا «السيمرغ» وحده. فتأخذهم الحيرة ويسألون فيقال لهم: إن هذه الحضرة مرآة، فمن جاءها لا يرى إلا نفسه، جئتم سي مرغ (ثلاثين طائرا) فرأيتم «السيمرغ».
فالطير في النفوس البشرية، والسيمرغ هو «الحق»، والأودية هي مقامات الطريق الصوفي. لم تقطع الطير أودية حسية ولا طوت أرضا مادية، بل كان سفرها رحلة باطنية صرفة في أودية معنوية: شاهدوا فيها عجائب النفس وأحوالها وما فيها من ظلمة ومن نور، ومن تعلق بأمور هذه الدنيا وحب للجناب الإلهي الأقدس. فإذا وصلت إلى الوادي الأخير، وقد صفت وتطهرت وارتفعت عنها الحجب، إذا بها مرآة صافية ينعكس على صفحتها جمال النور الإلهي، وإذا بها نجد «السيمرغ» - الذي هو طلبتها - في ذاتها، لا في شيء خارج عن ذاتها.
هذا التصوير الشعري الرائع للمعراج الصوفي لا يبعد كثيرا - من حيث الشكل - عن تصوير الصوفية الأوائل للطريق ومقاماته وأحواله، ولكنه يختلف عنه اختلافا جوهريا في الفكرة الاتحادية التي يستند إليها، وإذا نظرنا إلى تفاصيل وصف العطار للأودية التي يقطعها طيره، وجدنا شبها كبيرا بينها وبين مقامات الصوفية وإن اختلفت عنها في عددها وترتيبها وفي الوظيفة الروحية لكل منها؛ فوادي الطلب هو وادي الزهد والعزوف عن الدنيا وما يلزم ذلك من مجاهدة النفس، وهو ما سماه دانتي ومتصوفة القرون الوسطى المسيحية باسم طريق التطهير، ووادي العشق هو الذي تتهالك فيه النفس على اتصالها بمعشوقها الأول بعد أن مسها شعاع من نوره الأزلي، وبه تبتدئ الحياة الصوفية الحقيقية، وفيه أول مراحل الكشف، ووادي المعرفة هو الذي يرتفع فيه الحجاب وتتكشف الأسرار وتعرف كل نفس منزلتها من الحق، ومهما اختلفت النفوس في درجات معرفتها بالله فإنها كلها مجمعة على شيء واحد، وهو أن الله تعالى هو مشهود الكل؛ لأنه في قلب كل عبد مؤمن. يقول الله في حديث قدسي: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.»
ووادي الاستغناء هو مقام العظمة حيث يظهر جلال الحق فينمحي فيه كل شيء، وحيث يفنى السالك عن نفسه ويستغرق في الحب الإلهي، ووادي التوحيد هو مقام فناء الكثرة والتعدد، وتجلي الواحد الحق الذي لا كثرة فيه بحال، وبانمحاء الكثرة تنمحي أيضا لوازمها من الزمان والمكان والتناهي، وهنا يتجلى الحق في صورة الجمال الشامل لكل شيء، الماحق لكل شيء، وفي هذه المنزلة من منازل الطريق الصوفي يحصل الجذب، ووادي الحيرة هو مقام غلبة الشهود الإلهي في كل شيء، وهي حال لا يدركها العقل ولا تحتملها قواه، فيفقد السالك في هذا المقام نفسه كما يفقد العالم ولا يدري أهو فان أم باق، ولكنه يدري شيئا واحدا وهو أنه عاشق، وأن المعشوق معروف له وحده كما يقول الشاعر:
صح عند الناس أني عاشق
غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
وهذه هي الحال التي سماها ديونسيوس الأريوباعي بالظلام الإلهي، وتبعه في هذه التسمية متصوفة القرون الوسطى المسيحية.
والوادي السابع هو وادي الفقر والغناء، وهو آخر الأودية، وفيه يتحد المحب والمحبوب وتنطوي الموجة في البحر المحيط. فهي حال يرجع فيها الفرع إلى أصله والجزء إلى كله، ولكنها عودة غير مسبوقة بفراق، واتصال غير مسبوق بانفصال حقيقي، والذي أوهم الانفصال هو الحجاب، بل ما لا يتناهى من الحجب. فلما زالت الحجب ظهرت الحقيقة .
ومن الصوفية من صوروا المعراج الروحي بصورة أشبه ما تكون بصورة المعراج النبوي؛ ففسروا المعراج النبوي تفسيرا صوفيا وشرحوا مغازيه الروحية، ومن هؤلاء محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638 الذي وصف في كتبه أكثر من معراج واحد للصوفية، وصور هذه المعارج في صور مختلفة نقتصر على ذكر أهمها:
وردت إحدى هذه الصور في كتابه «الإسرا إلى المقام الأسرى»: وهو بحث في مغزى المعراج الذي هو في نظره ترق باطني يظهر فيه ما يتجلى للسالك من أنواع الكشف، وخلاصته ما يأتي: أن الصوفية هم ورثة النبي المتبعون لشرعه وسنته، يصلون إلى الحضرة الإلهية بدوام ذكر الله والتأمل في أسرار القرآن، و«البراق» الذي يحملهم سريعا في رحلتهم إلى الله هو «المحبة الإلهية»، و«المسجد الأقصى» هو النور والحق. إذا وصلوا إلى هذا المسجد وقفوا إلى جانب حائطه كما فعل النبي، وهذا الحائط رمز لصفاء القلب لأنه لا يدخل المسجد الأقصى غير المتطهرين، وإذا هم شربوا «اللبن» (الذي هو رمز للعلم الذوقي) طرقوا أبواب السماء، وطرق أبواب السماء رمز لمجاهدة النفس، وخلف أبواب السماء يرون الجنة والنار فينظرون بعينهم اليمنى إلى نعيم أهل الجنة، وبعينهم اليسرى إلى نعيم أهل النار.
1
يصلون إلى «شجرة المنتهى» التي هي رمز للإيمان ويملئون بطونهم من ثمارها، وهكذا يصلون إلى غاية طريقهم حيث ترتفع عنهم الحجب وتنكشف لهم الأسرار.
فالمعراج الصوفي عند ابن عربي كما يشرحه في هذا الكتاب هو ترقي النفس من عالم الشهوات (المرموز إليه بالجحيم) إلى عالم الروح الخالص (المرموز إليه بالنعيم)، أو هو إحياء النفس بالإيمان الخالص والفضائل الدينية الحاصلين عن طريق المجاهدة.
ولكن أكمل صورة صور فيها ابن عربي المعراج الروحي على الإطلاق هي التي وردت في الجزء الثاني من كتاب الفتوحات المكية
2
تحت عنوان «كيمياء السعادة»، وفيها يتصور المعراج رمزا لحياة النفس في هذا العالم الذي وضعها الله فيه لكي تصل كمالاتها وتحظى في النهاية بمقصودها الأعظم وهو شهود الله. أما سبب تسميته هذا الباب بكيمياء السعادة فذلك لأن التحول في الحياة النفسية أشبه شيء بتحول العناصر الطبيعية الخسيسة إلى الذهب في الكيمياء الطبيعية؛ ولذلك يذهب في الموازنة بين نوعي الكيمياء إلى أقصى درجة ممكنة، فهو يتكلم عن عناصر النفوس وإكسيرها وتحولها إلى أكمل صورها وردها إلى أصلها وما إلى ذلك من الأساليب والعبارات التي يستعملها عادة الكيميائيون الطبيعيون كما يستعملها أصحاب الكتابات الهرمسية يشيرون بها إلى نوع من التغير الروحي في طبيعة النفس.
فكيمياء السعادة هي عملية تحويل عناصر النفوس الإنسانية إلى الإكسير الروحي الخالص، ولكي يتم للنفوس ذلك لا بد لها من معرفة ذلك الأصل - الله - الذي استخلفها في الأبدان وغرس فيها حب المعرفة التي توصل إليه، ولكن أي نوع من المعرفة تلك التي توصل إلى الحق؟ ليست هي المعرفة المستندة إلى العقل والنظر العقلي، فإن العقل وحده قاصر عن أن يصل إلى حقيقة الله، ولا بد له من استمداد العون من الدين - من القوة الخارقة للطبيعة - لترشده في طريق الوصول إلى الله. نعم قد يرشد العقل صاحبه في المراحل الأولى من الطريق إلى الله، ولكن المراحل النهائية لا يتوصل إليها إلا بنور إلهي يحمل مشكاته الأنبياء ويقتبسه عنهم الأولياء؛ ولهذا يعتبر ابن عربي اتباع النبي والاسترشاد به أول شرط من شروط السلوك إلى الله، وينحي باللائمة على نظار المتكلمين والفلاسفة الذين يعتدون بعقولهم ويعتقدون أن فيها الكفاية والضمان للوصول إلى الحقيقة المطلقة.
لهذا نجده يتخيل في معراجه رجلين؛ أحدهما تابع مقلد للرسول، والآخر فيلسوف صاحب نظر، وهما في طريقهما إلى الله، ويظهر بطريقة المقابلة بينهما نوع المعرفة التي يحصلها كل منهما: العلم العقلي الذي يحصله صاحب النظر، والعلم الكشفي الذي يصل إليه «التابع» عن طريق الوراثة الروحية أو بنوع من الذوق أو الإلهام.
ويقضي هذان السالكان أول مرحلة من مراحل الطريق إلى الله في الأخذ بالرياضة النفسية والمجاهدة وتهذيب الأخلاق. هذا بنظره، وذلك بمقتضى ما شرع له أستاذه وهو الرسول صاحب الشرع. فإذا فرغا من دور المجاهدة وتخلصا من أسر الطبيعة، ولم يبق لهما من العالم العنصري إلا مقدار ما يحفظان به وجودهما، فتح لهما باب السماء: وهنا يبتدئ معراجهما الروحي الذي يسيران فيه معا، متصاحبين في أول الأمر، مفترقين بعد ذلك.
وينتهي معراج صاحب النظر به إلى الحيرة والبلبلة واليأس والندم على ما أنفق من عمر وجهد. كما ينتهي معراج «التابع» (الصوفي) المستأنس بنور الإيمان إلى اليقين، وإلى حال من الشهود تنكشف له فيها أسرار الذات الإلهية والأسماء والصفات انكشافا لا يستطيع التعبير عنه، وهذا هو مقام المعرفة الحقة والغبطة العظمى، ولكنه أيضا مقام الصمت وهو آخر مقام في الطريق وآخر منزلة من منازل المعراج.
الطريقة ومجاهدة النفس
أشرنا فيما مضى إلى أن للحياة الصوفية جانبين مختلفين متمايزين ولكنهما متكاملان؛ الأول جانب المجاهدة أو تطهير النفس، والثاني جانب الكشف والإشراق، وقد يختص جانب المجاهدة باسم الزهد، وينفرد جانب الإشراق باسم التصوف بمعناه الأخص. غير أنه لا مبرر لهذه التفرقة في الأسماء، فهما شقان لحياة واحدة؛ الشق الأول بمثابة المقدمات، والثاني بمثابة النتائج المترتبة على المقدمات. الأول الشجرة التي يتعهدها السالك إلى الله ويغذيها بكل ما أوتي من غذاء روحي، والثاني بمثابة الثمرة التي يجنيها السالك من هذه الشجرة. يقول أبو يزيد البسطامي في وصف ما عاناه من جهاد النفس وكيف انتهى به الأمر إلى الكشف:
كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين كنت مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما، فإذا في وسطي زنار ظاهر فعملت في قطعه ثنتي عشرة سنة، ثم نظرت فإذا في باطني زنار فعملت في قطعه خمس سنين، أنظر كيف أقطعه، فكشف لي فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى.
1
فالزنار الذي عمل أبو يزيد على قطعه من قلبه هو صلته بهذا العالم، والعمل على قطعه هو المجاهدة، ورؤيته الناس موتى بعد أن كشف له، معناه تخلصه التام من الشواغل التي تربطه بالخلق.
المجاهدة هي الجانب العملي في الحياة الصوفية، أو هي الجانب الديني والأخلاقي فيها، والتصوف في جوهره نظام ديني أخلاقي يأخذ به السالك نفسه في صراحة وعزم وتصميم، ولا يقوى عليه إلا أولو العزم والتصميم؛ لأنه موجه ضد النفس ورغباتها والعالم ومباهجه. هو نظام محوره التضحية بالذات، وإيثار كل ما لله على كل ما للنفس، ومن هنا كان النظام الأخلاقي الصوفي نظاما فريدا في بابه، مختلفا عن غيره من النظم الأخلاقية الأخرى؛ لأنه قائم على معاملة الله وحده، تلك المعاملة التي يوحي بها مبدأ التضحية.
وليس في التصوف الإسلامي من أساليب المجاهدة البدنية والنفسية ما في الرهبنة المسيحية من انقطاع تام عن العالم، وتعذيب للبدن بصنوف شتى من الإيلام والحرمان، وإن تواترت الأخبار عن أقلية من زهاد المسلمين الأوائل سلكوا مسلك الرهبان المسيحيين في أساليبهم كما أشرنا إلى ذلك، وهؤلاء أقلية لا يقاس عليهم. بل الحقيقة أن المجاهدة الصوفية في الإسلام مجاهدة نفسية أكثر منها بدنية، أو هي نفسية أولا وبدنية ثانيا، والبدني منها، كالصوم وحرمان النفس من بعض مشتهياتها، وقيام الليل في التهجد والعبادة، وما شاكل كل ذلك لا مبالغة فيه ولا إسراف، بل هو في الحدود المقبولة التي وضعه الإسلام وطالب بها.
والمجاهدة والجهاد في الأصل: بذل الوسع في سبيل الله ومحاربة أعدائه. ثم استعملت المجاهدة في التصوف بمعنى محاربة النفس ومخالفتها باعتبارها العدو الأول الذي يقود الإنسان إلى الهلاك وقد يقصيه عن دينه. يقول أبو عمرو بن نجيد الملامتي: «من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه.»
2
ولهذا حرص الصوفية، وهم يتكلمون عن المجاهدة، على أن يتكلموا عن «النفس» ويفسروا المقصود بها. فليست «النفس» عندهم اسما مرادفا للإنسان في جملته ولا روحه، ولا مجموع الحياة الروحية فيه، وإنما المقصود بها النفس الحيوانية التي هي مركز الشهوة والهوى ومنبع الشر والإثم.
وشرور النفس نوعان: (أ) المعاصي. (ب) الأخلاق والصفات المذمومة كالعجب والحسد والغضب والكبر والأثرة والكراهية والرياء وغير ذلك من الأخلاق التي لا يقبلها العقل ولا الشرع. فإذا لم يعرف الإنسان نفسه على حقيقتها فيعرف أغوارها وغوائلها، ويقف على أدوائها وآفاتها، ذهبت مجاهدته ورياضته سدى؛ ولذلك كان من أوائل ما انتدب الصوفية أنفسهم له، التأمل والنظر في النفس ومحاسبتها ومراقبتها وغير ذلك من الأساليب التي تكشف عن مكنوناتها ودوافعها وعيوبها.
هذه هي الخطوة الأولى في طريق المجاهدة، ومن حالفه التوفيق فيها أمن السير في الطريق، وبنى حياته الصوفية على أساس متين. يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من أراد الله به خيرا بصره بعيوب نفسه.»
وقد خلف الصوفية في ميدان دراسة النفس وميولها وآفاتها عن طريق التأمل والاستبطان ثروة سيكولوجية أخلاقية رائعة تشهد لهم برقة الحس ودقة التحليل وعمق النظر فيما يعتلج في النفس من أهواء ونزعات، كما هو واضح من مأثور أقوالهم التي يرويها مؤرخو التصوف أمثال أبي القاسم القشيري وأبي نصر السراج، ومن الصفحات الخالدة التي كتبها الغزالي في الإحياء:
والمجاهدة طريق شاق طويل، محفوف بالمكاره والأخطار، بابه التوبة، وهي الانقلاب الروحي الخطير الذي أشرنا إليه في مقدمة هذا الكتاب بشيء من التفصيل، وبعد اجتياز هذا الباب بسلام، يأخذ السالك في قطع مراحل الطريق واجتياز العتبات الأخرى.
ولما كان أصل المجاهدة وملاكها - كما يقول القشيري - فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها، كان من ألزم ما يلزم المبتدئ في الطريق «الخلوة» و«العزلة» عن الناس؛ لأن اختلاط الإنسان ببني جنسه آلف ما تألفه النفس وتميل إليه بفطرتها، وفي الخلوة بالنفس استيحاش من الخلق واستئناس بالله، ولكن جمهور المتصوفة في الإسلام لم يبالغوا في الخلوة والعزلة كما بالغ فيها رهبان المسيحيين والهنود، ولم يعتزلوا الحياة الاجتماعية اعتزالا تاما ويلزموا الصوامع والبيع أو يفروا إلى الصحاري وقلل الجبال، ولكنهم أخذوا بنصيبهم في الحياة العامة التي يحياها غيرهم، وسعوا إلى أرزاقهم بأعمالهم، ولم يظهر الكف عن الكسب وينتشر التسول في أوساطهم إلا في عصور التصوف المتأخرة وهي عصور الانحلال والاضمحلال، وقد اعتبر الصوفية العزلة الحقيقية في اعتزال مذموم الصفات لا في اعتزال الحياة الاجتماعية والأوطان؛ ولهذا قال قائلهم: «العارف كائن بائن.» أي موجود مع الخلق بجسمه، بعيد عنهم بروحه وسره. قال أبو علي الدقاق أستاذ القشيري: «البس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر.» ومعنى هذا أن العزلة الحقيقية هي الانفراد بالله لا مجانبة الخلق.
ولكن من الصوفية من أمثال ذي النون المصري وأبي القاسم الجنيد ويحيى ابن معاذ الرازي وأبي بكر الشبلي، من يرى أن الخلوة واعتزال الناس أهون على تصحيح الإرادة وصفاء العبادة والبعد عن الرياء والنفاق، فإن من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم.
ومن أساليب المجاهدة الصمت عن الكلام، لا بمعنى حبس اللسان عن الكلام إطلاقا أو في فترات مقررة كما في الرهبنة المسيحية، بل بمعنى التحفظ في القول، وعدم الاسترسال في اللغو، أو البوح بالسر؛ ولذلك آثر الصوفية الصمت إلا عند الضرورة، وقول الحق، وأحلوا محل الكلام التفكير والتأمل، وهما طريق الحكماء؛ وذلك لأن الكلام إما أن يكون حقا فيستدعي إعجاب الناس ومديحهم، والصوفية لا يقبلون الإعجاب والمديح الذي قد يدخل الرياء في قلوبهم، وإما أن يكون باطلا وهو ما ينهى عنه الدين.
ولكن الصمت ليس قصرا على اللسان، بل للقلب وسائر الجوارح صمتها أيضا، وللقلب كلام كما للسان كلام، وكلام القلب هو الخواطر التي تخطر به والأسرار التي تتكشف له، والصوفي الصادق أمين على أسراره، يرى من فرط حبه لربه ألا يطلع عليها غيرهما، وقد وصفوا صمت اللسان بأنه صمت العوام، وصمت القلب بأنه صمت العارفين.
ومن أساليب مجاهدة النفس ومخالفتها عند الصوفية «الزهد» وهو موقف خاص من الدنيا وأعراضها، ومن الدين حلاله وحرامه، ومن الله. فإن الزاهد يخالف هوى النفس ورغباتها ويحقر من شأن القيم التي اعتاد الناس رفعها وتقديرها كالسمعة والصيت والجاه والغنى، ويزهد في الحرام استجابة لنهي الدين عنه، وفي الحلال استشعارا لألم الحرمان الذي هو وسيلة من وسائل تطهير النفس وتقويتها.
وينعكس موقف الزاهد في الدنيا على موقفه من الله، فإنه بمقدار ما ينصرف قلبه عن متع هذه الحياة، يكون إقباله على الله واشتغاله بحبه وخدمته؛ ولذلك قال أبو سليمان الداراني (المتوفى سنة 215): «الزهد ترك ما يشغل عن الله تعالى.»
3
ولأحمد بن حنبل قول جامع في الزهد وأنواعه التي أشرنا إليها وهو: «الزهد على ثلاثة أوجه؛ ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى وهو زهد العارفين.»
4
فالزهد هو الأساس الذي يقوم عليه صرح المجاهدة في الطريق الصوفي، وبممارسته تتطهر النفس في بوتقة التجارب الروحية وتتحول عناصرها الخسيسة إلى عناصر أخرى شريفة هي أخص ما يتصف به الصوفي من الصفات، وذلك كالتوكل والرضا والقناعة والصبر والشكر والفقر، وفوق هذه كلها التقوى والورع والمحبة الإلهية.
ومن أساليب المجاهدة العبادة كالصوم والصلاة والذكر والدعاء، وللصوفية فهمهم الخاص للعبادة أفضنا القول فيه في كلامنا عن موقفهم من الفقه، ولكن الذي نريد توكيده هنا هو اعتقادهم أن العبادة لا تكون صادقة مخلصة إلا إذا تحقق فيها معنى المجاهدة، فتوافرت فيها عناصرها التي أخصها مخالفة هوى النفس والإقبال بجمعية الهمة على الله؛ بحيث يتحقق للعبد عبوديته، وينفرد الرب بربوبيته.
ومجاهدة النفس في سبيل الله أعظم خطرا وأعلى قدرا في نظر الصوفية من الجهاد في نصرة دين الله. يروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، فلما سئل عن الجهاد الأكبر قال: «مجاهدة النفس.» وذلك أن مجاهدة النفس أشق على القلب من الجهاد بالبدن.
هذا، وقد أثار الصوفية حول الصلة بين المجاهدة والهداية الواردة في قوله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
5
جدلا طويلا أشبه بجدل علماء الكلام، بل هو في الحقيقة فرع من مسألة كلامية اختلف فيها المعتزلة وأهل السنة، وهي أفعال العباد وصلتها بالثواب والعقاب. تساءل القوم: هل المجاهدة تورث الهداية والقرب من الله، أم أن الهداية والقرب من الله أمران يمنحهما الله العبد منة منه وفضلا؟ وذلك كما تساءل علماء الكلام عما إذا كانت أفعال الطاعة تورث الجنة، أم أن دخول الجنة منة من الله وتفضل منه على عبده؟ ويذهب سهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة 283، وقيل سنة 273)، وهو من أكثر الصوفية كلاما في المجاهدة، إلى أنها السبيل المباشر المفضي إلى مشاهدة الحق، وأن المشاهدة والقرب من الله والصول إليه وكل ما يدخل تحت كلمة «الهداية» ثمرة من ثمرات المجاهدة بدليل الآية المذكورة، ولكن صوفية آخرين يذهبون المذهب الآخر، ومن هؤلاء أبو سعيد الخراز (المتوفى سنة 277) الذي يقول: «من ظن أنه ببذل الجهد يصل إلى مطلوبه فمتعن (أي متعب نفسه)، ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمن.»
6
ومنهم أبو بكر الواسطي (المتوفى سنة 320) الذي يقول: «المقامات أقسام قسمت ونعوت أجريت، كيف تستجلب بحركات أو تنال بسعايات؟»
7
والغاية من المجاهدة في نظر هؤلاء هي تطهير النفس وتبديل صفاتها، لا الحصول في عين القرب، ولا الوصول إلى الهداية. فهم يفهمون قوله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
بمعنى: والذين هديناهم سبلنا يجاهدون فينا؛ أي إن السير في طريق المجاهدة فرع عن الهداية التي يمنحها الله من يشاء من عباده لا العكس، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ،
8
وبالحديث القائل: «إن أحدكم لن يدخل الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا.» ومعنى هذا أن إرادة الله الهداية للعبد سابقة على شرح صدره للإسلام وعلى مجاهدته، وكأن المسألة - حسب فهم هؤلاء الصوفية - مسألة العناية الإلهية والتقدير الأزلي، لا مسألة المجاهدة والأعمال التي يقوم بها العبد.
والظاهر لأول وهلة أن بين الموقفين تناقضا، وبين الآيتين تعارضا، والحقيقة ألا تناقض ولا تعارض. فالمفهوم من الآية الأولى أن الذين يجاهدون أنفسهم في سبيل الله يمنحهم الله الهداية من لدنه، لا جزاء على المجاهدة، ولا كسبا منهم لها، بل موهبة منه وتفضلا، وهذا لا يقدح في أن هداية هؤلاء المجاهدين أمر من الأمور التي سبقت بها العناية الإلهية واقتضتها مشيئة الله في الأزل، والله العادل في حكمه، والحكيم في فعله، تتعلق إرادته بالأفعال التي اقتضتها الحكمة وصريح العقل.
والمعنى الذي يحرص الصوفية على إبرازه هو أنه ليس للعبد أن يعتقد أنه يكتسب بمجاهدته النجاة والهداية، أو ينظر إلى أفعال الطاعة باعتبارها أمورا توجب على الله الإثابة عليها كما ذهب إليه المعتزلة، بل الواجب عليه أن ينظر إلى واهب الهداية المتفضل بها، وهو الله، وموقف الإنسان من ربه في هذا الصدد أشبه بموقف المملوك من سيده، فإن المملوك إذا أمره سيده بأمر أطاعه فكافأه سيده، لا يقال إن المكافأة جزاء اكتسبه المملوك بطاعته، فإنه مكلف بالطاعة على أية حال كافأه سديه أم لم يكافئه، بل يقال إن المكافأة هبة وهبها السيد تفضلا منها ، وإن بدت في ظاهرها جزاء على الطاعة لاقترانها بها.
وللهجويري حل آخر لهذه المسألة، وهو أن الخلاف في الرأيين خلاف في ظاهر التعبير فحسب، فإن كلا من الطرفين - في نظره - ينظر إلى الحقيقة من جانب. فطائفة تقول: «من جد وجد»، وطائفة تقول: «من وجد جد» والحقيقة أن الجد سببب الوجود، كما أن الوجود سبب الجد، وإذن يستوي في هذه الحالة أن نقول إن المجاهدة في سبيل الله سبب الهداية، وأن نقول إن الهداية سبب المجاهدة في الله. كما نقول إن التوفيق الإلهي سبب طاعة العبد، أو نقول إن طاعة العبد سبب توفيق الله إياه. (1) الأساس النظري للمجاهدة
بنى الصوفية نظامهم في المجاهدة على نظرية في طبيعة الإنسان استمدوا بعض عناصرها من القرآن، والبعض الآخر مما عرفوه من الفلسفة اليونانية وبخاصة فلسفة أفلاطون وأرسطو، وقد عقد كل من القشيري والهجويري فصلا خاصا يشرح فيه ماهية الإنسان وما فيه من القوى المتعارضة التي تعمل مجتمعة على تشكيل سلوكه الخلقي، وبالتالي سلوكه الديني؛ إذ السلوك الخلقي عند الصوفية فرع عن السلوك الديني، وتهذيب الأخلاق شرط أساسي في تقويم العبادات والاعتقادات على السواء.
بحث الصوفية في ماهية النفس كما بحث فيها الفلاسفة، وكانوا متأثرين في بحثهم بعقيدة راسخة ربما استمدوها من المذهب الثنوي الفارسي، وهي أن في الإنسان طبيعتين متناقضتين، تجذبه إحداهما إلى أعلى وتشد به الأخرى إلى أسفل، تدعوه الأولى إلى الخير وتدفعه الأخرى إلى الشر، ترتفع به الأولى إلى مستوى الملائكة وتهبط به الثانية إلى مستوى البهائم، وهما أشبه بمبدأي النور والظلمة أو مبدأي العقل والمادة.
ولكي يحكم السالك طريق سلوكه لا بد له من معرفة هذين المبدأين أو هاتين الطبيعتين، أو بعبارة أخرى لا بد له من معرفة نفسه، فإنه بمقدار ما يعرف الإنسان من نفسه تكون معرفته بربه وبالعالم الذي يحيط به، كما يكون نجاحه أو إخفاقه في معترك الحياة الخلقية والسلوك الصوفي، ولكن ما هي «النفس» التي يتكلم عنها الصوفية ويقولون بضرورة معرفتها ومجاهدتها؟ أما وظيفة النفس فيجمعون على أنها مبدأ الشر في الإنسان، أو هي على حد قولهم «مصدر الأوصاف المعلولة والأخلاق والأفعال المذمومة.» أما الأوصاف المعلولة فهي ما يكسبه الإنسان من المعاصي والمخالفات المنهي عنها شرعا نهي تحريم، وأما الأخلاق المذمومة فهي طبائع النفس التي جبلت عليها كالكبر والغضب والحقد والحسد وقلة الاحتمال، وأشدها جميعا وأصعبها مراسا وأخطرها: توهمها أن شيئا منها حسن.
هذا وصف عام لوظيفة النفس ومظاهرها عند الصوفية. أما حقيقتها فيختلفون فيها، فيذهب بعضهم إلى أنها «جوهر» في البدن قائم به كما تقوم الروح، ويرى بعضهم أنها عرض قائم بالبدن كما تقوم به الحياة، وعلى الرغم من وصفهم النفس بأنها «لطيفة» مودعة بالبدن، تغلب المادية على تصورهم لها حتى لنكاد نحس أنهم يقصدون بها الجسم نفسه وإن كانوا لا يقولون بهذا صراحة، وأقصى ما بلغوا من التجريد في وصفها هو قولهم أنها مبدأ الشر في الإنسان ومصدر الدوافع والشهوات الجسمية فيه.
أما الروح فلا جدال في وصفهم إياها باللطافة واللامادية، وبأنها مبدأ «مفارق» مستقل عن البدن لا يفنى بفنائه، وهي الجانب الإلهي في الإنسان ومركز المعرفة والشهود فيه.
ويطالب الصوفية بضرورة معرفة النفس ويعدون ذلك شرطا أساسيا في طريقتهم لسببين: أولهما أن دراسة النفس توقف الإنسان على غوائلها ورغباتها ومخالفاتها، وفي ذلك عون للعبد على مقاومتها والنجاح في محاربتها، فإن من عرف مواطن الضعف من عدوه كان أقوى على مقاومته والظفر عليه، والطبيب الذي يعلم مواطن الضعف وأسباب المرض أقوى على علاج مرضاه، وإزالة الأسباب في أمراض النفوس حائل منيع دون ظهور الأمراض. فمعرفة النفس بهذا المعنى خير طريق لتطهيرها، والصوفي الذي يجاهد نفسه على هذا النحو يزيل العوائق التي تعترض سبيله وتحول دون الوصول إلى غايته.
إن المجاهدة على حد تعبير الصوفية، هي رفع الحجب الكثيفة التي تقوم بين العبد وربه؛ إذ كل عمل للنفس وكل خاطر لها حجاب يستر الحق عن عين العبد، وكما أن الإنسان يوم القيامة لا بد له من أن ينجو من النار قبل أن يدخل الجنة، كذلك هو في هذه الدنيا يجب أن يتخلص من جحيم النفس قبل أن تصح له الإرادة ويتحقق بمقام القرب من الله كما يقول الهجويري.
والسبب الثاني: أن معرفة النفس تؤدي إلى معرفة الله كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من عرف نفسه فقد عرف ربه.» وقد فسر هذا الحديث بمعنيين؛ الأول أن المعرفة المشار إليها معرفة أساسها الأضداد، فمن عرف نفسه مفتقرا عرف الله غنيا، ومن عرف نفسه ذليلا حقيرا عرف الله قويا عزيزا، ومن عرف نفسه فانيا عرف الله باقيا، ومن عرف نفسه حادثا عرف الله قديما، وعلى الجملة من في نفسه معنى العبودية أدرك في الله معنى الربوبية، ولا شك أن هذا هو المعنى الذي قصد إليه الجنيد عندما عرف التوحيد بأنه: «إفراد القدم من الحدث.»
9
والمعنى الثاني هو أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خلقه الله على صورته واستخلفه في أرضه، ومن عرف الصورة عرف صاحب الصورة، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عربي في نظريته في الإنسان الكامل. •••
النفس في نظر الصوفية إذن هي عدو الإنسان الأكبر الذي تجب مجاهدته ومحاربته والقضاء على كل مظاهره. هي الشيطان الذي يقود الإنسان إلى الكفر والمعصية. هي مصدر الشر والجهل؛ لأنها لا ترى الأشياء إلا خلال حاجاتها المادية، ولا تدع العقل يدرك حقيقة من الحقائق إلا بعد أن تصبغها بصبغتها، ولذا كانت مجاهدتها أمرا يوجبه الشرع والعقل. يقول الله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، ويقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وهو جهاد النفس ، ولذا أيضا أفاض الصوفية في كل العصور في الحديث عن النفس وآفاتها ورعوناتها، كما أفاضوا في الكلام عن أساليب مقاومتها، وتكلموا عن المعاصي وكيف تبدأ، وعن الصفات النفسية الخسيسة وكيف تمحى، وعن الأفعال الأخلاقية الذميمة وكيف تتقى، ووضعوا نظاما أخلاقيا ضخما على أساس هذه النظرة المتشائمة إلى النفس، وقد شرحنا طرفا من هذا النظام في تحليلنا لأصول فرقة الملامتية في كتابنا «الملامتية والصوفية وأهل الفتوة» وهي الأصول التي جمعها الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في رسالة الملامتية التي نشرناها في ذلك الكتاب.
وفي النفس طبيعتان هما منبع الشر فيها؛ الأولى الشهوة، والثانية الهوى. أما الشهوة فاسم يطلقه الصوفية بصورة عامة على مبدأ طلب اللذة، وهو مبدأ منبث في جميع أجزاء البدن يحاول دائما أن يحقق غرضا من أغراضه، وتخدمه الحواس في تحقيق أغراضه؛ ولذلك تعددت الشهوات بتعدد آلاتها، والأصل فيها شيء واحد في نوعه وإن تعددت أسماؤه وكيفياته. فشهوة البطن الأكل والشرب، وشهوة العين الإبصار، وشهوة الأذن السمع، وشهوة الأنف الشم، وشهوة اللسان الكلام، وشهوة الفم الذوق، وشهوة الجسم اللمس، وشهوة العقل الفكر، وهكذا، والإنسان مطالب بحراسة هذه الأعضاء وتوجيه شهواتها الوجهة التي تتفق مع روح الشرع ولا تتعارض مع الأمر والنهي؛ فللعبد أن يشبع شهوة البطن ولكن من حلال، ويشبع شهوة الكلام ولكن في غير باطل، وشهوة النظر ولكن في غير محرم، وشهوة السعي على رجليه ولكن في غير معصية أو إضرار بالغير، وشهوة الفكر ولكن في غير كفر جلي أو خفي، وهكذا، والإنسان مسئول عن حراسة أعضاء جسمه وعن رياضتها الرياضة الدينية القويمة بدليل قوله تعالى:
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .
10
أما «الهوى» فهو الميل الطبيعي الذي يتحكم في النفس وأفعالها لتحقيق رغباتها، وهو في مقابلة العقل، والإنسان أبدا محل نزاع بين عقله وهواه، كل يجذبه ناحيته، والهوى أعم من مجرد الرغبة في اللذات والشهوات الحسية، فهو لا يقتصر على النزوع الطبيعي لتحقيق اللذة في عضو من أعضاء البدن، بل قد يكون نزوعا نحو لذات أخر غير حسية كلذة التسلط والقهر وحب الظهور والكبرياء، والرجل المستسلم لهواه إذا حركه هواه نحو طلب اللذات البدنية قد لا يتجاوز شره نفسه، كالرجل الذي يطلب لذة السكر فإنه يغشى الحانات والناس في مأمن من شره. أما طالب الشرف والسلطان، فقد يعيش في صومعة أو دير ويضل الطريق إلى الله ويضلل غيره.
ومن صدرت جميع أفعاله عن الهوى ورضيت بذلك نفسه، كان بعيدا عن الله قريبا من الشيطان، وليس شياطنه شيئا سوى حيوانيته التي يحاول الصوفي جاهدا أن يتخلص منها. روي أن راهبا قال يوما لإبراهيم الخواص: «منذ سبعين عاما قضيتها في الدير وأنا أحرس كلبا (يعني نفسه) وأحول بينه وبين الناس. يا إبراهيم، إلى متى تبحث عن الناس؟ ابحث عن نفسك، فإذا وجدتها فاحرسها وراقبها، فإن الهوى يلبس كل يوم ثلاثمائة وستين ثوبا ويضل صاحبه.»
11
إن الشيطان لا يدخل قلب عبد حتى يقدم على معصية، فإذا ظهر الهوى ألقى الشيطان به في قلب صاحبه، وهذا هو الوسواس، وليس للشيطان سلطان على عباد الله المقربين؛ لأنهم لا يتصرفون تبعا لهواهم، يقول الله تعالى لإبليس:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين .
12
يقول الهجويري: «إن الهوى ممزوج بطينة آدم، فمن ملكه كان ملكا، ومن ملكه الهوى كان عبدا ذليلا. سئل الجنيد عن الاتصال بالله فقال: «ترك الهوى.» وأعظم منحة يمنحها الله العبد أن يمكنه من هواه، فإن من اليسير أن يهدم الإنسان جبلا بأظفاره من أن يتغلب على هواه.»
13
ثورة الصوفية على علم الكلام والفلسفة
ثار الصوفية على علم الكلام والفلسفة كما ثاروا على الفقه، ولم يرضهم فهم نظار المتكلمين والفلاسفة لعقائد الدين كما لم يرضهم فهم الفقهاء لمعنى الشريعة والغاية منها، وقد امتدت ثورتهم إلى المنهج الذي اتبعه النظار، متكلمين كانوا أم فلاسفة، في وصولهم إلى قضاياهم التي يعبرون بها عن معنى الألوهية ويصورون بها الصلة بين الله والعالم، والله والإنسان بوجه خاص.
أما «الكلام» فكما يقول الغزالي: قد يرضى به من يسلم للمتكلمين بمقدماتهم، ولكنه لا غناء فيه لمن يطلب العلم اليقيني الذي لا يتسرب إليه الشك بوجه من الوجوه، وعماد علم الكلام الدليل العقلي على صحة العقائد والدفاع عنها ضد المبتدعة والملحدين، ولكن الدليل العقلي يمكن هدمه بدليل عقلي آخر معارض له؛ ولذلك نرى نظار المتكلمين لا يكادون يجمعون على مسألة واحدة من مسائل العقائد لاختلاف أساليب فهمهم وأدلتهم.
وأما الفلسفة فأكثر اعتمادا على المنهج العقلي من علم الكلام، وأشد تشبثا به، وهي ترى الشيء ونقيضه، وتبرهن على كل منهما بأدلة متكافئة في القوة، وتستعمل العقل وأدواته ومقولاته في ميدان البحوث الإلهية الخارجة بطبيعتها عن طور العقل؛ لذلك لا يظفر الفيلسوف من فلسفته إلا بالحيرة وتبلبل الفكر إذا تصدى للنظر في مسائل الألوهية والنفس وصلة الله بالإنسان ونحو ذلك.
وقد تمثلت ثورة الصوفية ضد المنهج العقلي الذي انتهجه الفلاسفة والمتكلمون فيما قالوا به من منهج ذوقي في المعرفة، وهو موضوع سنفرد له فصلا خاصا في هذا الباب.
ولكن الفلاسفة والمتكلمين الذين أخفقوا - في نظر الصوفية - في منهجهم فشلوا أيضا فشلا ذريعا في تصورهم للألوهية وباعدوا بين الله وخلقه. فالله في نظر جمهور الفلاسفة والمعتزلة من المتكلمين، مبدأ يكاد يكون مجردا عن الصفات إلا ما كان منها سلبيا، وقد بالغوا في تنزيهه إلى الحد الذي قضى على «الشخصية الإلهية» وتعطيل الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن، كما بالغوا في التوحيد إلى الحد الذي أفسد التوحيد، وتصور المتكلمون الصلة بين الله والإنسان صلة بين عابد ومعبود، في حين تصور الصوفية هذه الصلة صلة بين محب ومحبوب وقالوا إن العبادة فرع المحبة.
ولما كان «التوحيد» أساس العقائد كلها والمحور الذي يدور عليه جميع الأصول والفروع الدينية، ولما كانت «المحبة الإلهية» في نظر الصوفية أساس الحياة الدينية والطريق الوحيد الموصل إلى الحق، أردنا لهذين الموضوعين فصلين خاصين في هذا الباب أيضا.
ثورة التصوف في مجال التوحيد
أبرز العقائد الإيمانية في الإسلام عقيدة التوحيد، فإن الدعوة الإسلامية تتركز في هذه العقيدة وعنها تتفرع العقائد الأخرى التي أوجب الله على كل مسلم اعتقادها، وقد أكد القرآن وحدانية الله تعالى في مواطن كثيرة من كتابه وأشار إليها بأساليب مختلفة: فتارة يقررها تقريرا ويطالب الناس بالإيمان بها فيقول:
قل هو الله أحد ،
1
وإلهكم إله واحد ،
2
الله لا إله إلا هو الحي القيوم .
3
وتارة يقررها في معرض الرد على المشركين الذين اتخذوا مع الله إلها آخر أو آلهة أخرى، والكفار الذي عبدوا الأوثان من دون الله، فيقول ردا على الأولين:
أءله مع الله ،
4
ويتعجب من صنع الآخرين فيقول:
أتعبدون ما تنحتون .
5
وتارة يقررها في معرض الرد على الدهريين الذين قالوا:
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ،
6
أو الثنوية والمجوس الذين قالوا بوجود مبدأين كل منهما إله، أو النصارى:
الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .
7
وتارة يدعو الإنسان إلى النظر في خلق السموات والأرض، وإلى النظر في النفس وما فيها من عجائب، أو في مظاهر الكون ودقائق صنع الله فيه، عله يسترشد بهذه الآيات ويهتدي إلى الإله الواحد الحق المبدع لهذا الوجود، وتارة يقرر الوحدانية عن طريق تقريره لمخالفته تعالى للحوادث فيقول:
ليس كمثله شيء ، أو يصف الحوادث بالتغير والفناء والدثور، ويصف نفسه بالقدم والأزلية والبقاء، إلى غير ذلك من الأساليب المتنوعة التي ترمي - على الرغم من تنوعها وتعدد صورها - إلى تقرير قضية أساسية واحدة، هي «أن الله واحد».
ولكن هذا المعنى البسيط لعقيدة التوحيد، وإن أرضى عقول بعض المسلمين وقلوبهم، لم يرض مسلمين آخرين كانوا على حظ من الثقافة الفلسفية أو الصوفية أو الاثنين معا، فحاولوا أن يفهموا «التوحيد» فهما جديدا، أو على الأقل أن يلقوا عليه ضوءا جديدا استمدوه من ثقافتهم من ناحية، ومن تجاربهم الروحية من ناحية أخرى. فناقشوا المقصود بالتوحيد على وجه التحديد، وتكلموا عن أنواع مختلفة من التوحيد: توحيد العوام وتوحيد الخواص وتوحيد خاصة الخاصة، كما تكلموا عن توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال الإلهية، بل تكلم بعضهم عن توحيد الحق (الله) للحق وتوحيد الحق للخلق، وتوحيد الخلق للحق، وغير ذلك مما لم يخطر لأهل السلف على بال.
لذلك نجد في تاريخ الإسلام الديني نوعا من التطور في مفهوم «التوحيد»، وهو تطور قضت به طبيعة تطور التفكير الإسلامي والظروف الاجتماعية والثقافية التي مر بها المسلمون، وإن لم يكن ذلك التطور على وفاق تام دائما مع العقيدة الأولى التي نص عليها القرآن في بساطة ووضوح، وكذلك نجد مبالغة شديدة في تحليل مفهوم التوحيد وفي النظر إلى مستلزماته الميتافيزيقية والصوفية كادت أن تخرجه من ميدان العقيدة إلى ميدان المذهب الفلسفي أو «الثيوسوفي».
ومن الغريب حقا أن مبالغة بعض مفكري الإسلام في تحليل التوحيد والدفاع عنه، وتحليقهم عاليا في سماء التجريد، كما فعل المعتزلة والفلاسفة الإسلاميون، أو غوصهم بعيدا في أعماق التجربة الروحية طلبا للتوحيد كما فعل بعض الصوفية، قد أدى بهم - أو كاد يؤدي بهم - إلى إحلال صورة مبدأ مجرد (هو أشبه «بالمطلق» عند الفلاسفة) محل الله الخالق الفاعل المريد العالم المعبود كما تصوره الأديان. فقد جردوا الله من صفاته الإيجابية، أو قالوا بهذه الصفات وعطلوها، وهذا هو الاتجاه الذي اتجهه المعتزلة وبعض فلاسفة المسلمين كابن سينا، وعلى أمثال هؤلاء يرد أبو الحسن البوشنجي (المتوفى سنة 348) في الشق الثاني في قوله: «التوحيد أن تعلم أنه (أي الله) غير مشبه للذوات ولا منفي لصفات»،
8
يشير بذلك إلى المعتزلة الذين نفوا الصفات الإلهية بمعنى أنهم أنكروا أن لها وجودا زائدا على وجود الذات؛ ولهذا سموا «المعطلة»، ومن الصوفية من فهم من «التوحيد» إفراد الله بالوجود الحق الذي ليس إلى جانبه وجود، ذاتا كان ذلك الوجود الآخر أو صفة أو فعلا، على اختلاف ما بينهم في التعبير عن هذا المعنى وصياغته. فإن بعضهم كان أدنى إلى الاعتدال وأقرب إلى مذهب أهل السنة كالحارث المحاسبي، وبعضهم أشرف على القول بوحدة الوجود كأبي القاسم الجنيد، وبعضهم قال بوحدة وجود سافرة مثل محيي الدين بن عربي، وسنشرح نظريته في وحدة الوجود بالتفصيل فيما بعد.
لمثل هذا تعددت صيغ التوحيد وتباعدت معانيها ومراميها؛ فمن القول بلا إله إلا الله ، وهو الصيغة الإسلامية الأولى البسيطة في دلالتها، ظهرت الصيغ الآتية: (1)
لا إله إلا الله المنزه تنزيها مطلقا من كل ما يتصوره العقل والوهم، وهذا تصور المعتزلة والفلاسفة وبعض الصوفية. (2)
لا فاعل ولا قادر ولا مريد على الحقيقة إلا الله، وهو تصور بعض الصوفية الذين يفهمون توحيد الله في صفاته وأفعاله على هذا النحو. (3)
لا مشهود على الحقيقة إلا الله، وهو قول الصوفية الذين لا يرون شيئا إلا ويرون الله معه. (4)
لا موجود على الحقيقة إلا الله، وهو قول أصحاب وحدة الوجود من الصوفية.
فلا عجب إذن أن نقول إن نظر مفكري الإسلام في معنى «التوحيد» ومبالغتهم في تحليل دقائقه، أدى ببعضهم إلى القول بوحدة الوجود، وأننا لسنا بحاجة إلى البحث عن أصل هذه النظرية عند المسلمين في مصدر خارج عن التفكير الإسلامي كالفيدانتا الهندية ونحوها، وسيتضح هذا الرأي في ضوء ما سنورده من تعريفات المسلمين للتوحيد ومناقشة هذه التعريفات. •••
يقتبس التهانوي صاحب كشاف اصطلاحات العلوم والفنون من كتاب «مجمع السلوك» تعريفا للتوحيد يصح أن نسترشد به في بحثنا هذا ونجعله نقطة البداية في مناقشتنا، فيقول:
التوحيد لغة جعل الشيء واحدا، وفي عبارة العلماء اعتقاد وحدانيته تعالى، وعند الصوفية معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد؛ وذلك بألا يحضر في شهوده (أي شهود الصوفي العارف) غير الواحد جل جلاله.
9
فإذا تركنا المعنى اللغوي جانبا، وجدنا التعريف يحتوي نوعين من التوحيد: التوحيد في عرف العلماء وهو توحيد الاعتقاد، والتوحيد في عرف الصوفية وهو توحيد المعرفة والشهود، والأول علم وتصديق إن كان دليله نقليا، وهو توحيد العوام، وعلم وتحقيق إن كان دليله عقليا، وهو توحيد النظار من المتكلمين والفلاسفة، ويقرب من هذا ما أورده العروسي في حاشيته على شرح الأنصاري على الرسالة القشيرية
10
حيث يقول: «قال بعضهم: التوحيد إفراد الحق تعالى بالقصد والعبادة، فإن كان ذلك اعتقادا يقال للعبد مؤمن بالتوحيد، وإن كان علما من أدلة يقال له عالم بالتوحيد، وإن كان لغلبة الحق على القلب يقال إنه عارف بربه.»
والنوع الأول بقسميه - توحيد النقل وتوحيد العقل - غير مأمون العاقبة؛ إذ المصدق عن طريق النقل وإن أقر بالتوحيد لا يسلم من أن تعتريه الشبه، والمصدق عن طريق النظر الفكري محجوب عن حقيقة التوحيد بعقله ونظره لأنه - في نظر الصوفية - لا يشاهد الوحدة الإلهية ما دام يرى لنفسه وجودا.
والنوع الثاني الذي هو توحيد المعرفة والشهود هو التوحيد الحاصل بالإدراك الذوقي في التجربة الصوفية. أو هو بعبارة أخرى تذوق لمعنى التوحيد ناشئ عن إدراك مباشر لما يتجلى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حال تجل عن الوصف وتستعصي على العبارة، وهي الحال التي يستغرق فيها الصوفي ويفنى فيها عن نفسه وعن كل ما سوى الحق، فلا يشاهد غيره لاستهلاكه فيه بالكلية. يقول التهانوي:
11 «فيرى صاحب هذا التوحيد كل الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة ذاته (أي ذات الحق) وصفاته وأفعاله، ويجد نفسه في جميع المخلوقات كأنها مدبرة لها وهي أعضاؤها.» ثم يقول: ويرشد فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحلول والتشبيه والتعطيل، كما طعن فيهم (أي الصوفية) طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة والذوق؛ لأنهم إذا لم يثبتوا معه غيره فكيف يعتقدون حلوله فيه أو تشبيهه به، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولكن قول التهانوي أن الصوفية لا يثبتون مع الله غيره، ولا مع صفاته صفات أخرى، ولا مع أفعاله أفعالا أخرى، إذا أخذ على إطلاقه، لا يجعل الصوفية من القائلين بالتوحيد، بل بوحدة الوجود، وهو معنى للتوحيد كادت المدرسة البغدادية في القرن الثالث - ومن زعمائها أبو القاسم الجنيد - أن تقول به كما سيأتي بيانه. «التوحيد» إذن شأنه شأن الإيمان الذي يتحدث عنه ابن خلدون في فصل علم الكلام في مقدمته: فكما أن الإيمان على درجات: منه إيمان بالقول، ومنه اعتقاد وتصديق بالقلب، ومنه حال للمؤمن أو ملكة فيه، أو صفة ممتزجة بكاينه تصدر عنها أفعاله صحيحة سليمة متمشية مع ما يطالب به الشرع من أوامر وما ينهى عنه من نواه، كذلك التوحيد: منه قول باللسان، واعتقاد بالقلب، ومنه حال للروح أو تجربة روحية يشهد فيها الموحد وحدانية الحق وانفراده بالألوهية الكاملة، ومن كمال الألوهية عند الصوفية إفراد الحق تعالى لا بالعبادة وحسب، بل بالفعل والقدرة والإرادة والتدبير. فهو واحد بمعنى أنه لا معبود غيره، وهو واحد أيضا بمعنى أنهم لا يشهدون غيره فاعلا وقادرا ومريدا ومدبرا، ويفصل هذا المعنى الإجمالي الذي أشار إليه التهانوي ما أورده القشيري من أقوال للصوفية في معنى التوحيد في الفصل الأول من رسالته تحت عنوان «بيان اعتقاد هذه الطائفة (الصوفية) في مسائل الأصول»
12
وفي الفصل الخاص الذي عقده في «التوحيد»،
13
وكذلك فيما أورده الهجويري في «كشف المحجوب» في الفصل الذي عقده في «التوحيد».
14
فالقشيري يعرض في الفصل الأول من رسالته عقيدة الصوفية في التوحيد الذي يعتبره رأس العقائد الإيمانية جميعها، والأصل الذي بنى عليه الصوفية قواعد طريقهم وصانوا به عقائدهم عن البدع، مقتبسا في كل ذلك ما هو أدنى إلى مذهب السلف وأهل السنة. ثم يورد تعريفات التوحيد السني لعدد كبير من الصوفية، وينبه إلى مخالفتهم في ذلك لمذاهب المبتدعة، وبخاصة المجسمة والمشبهة والمعتزلة، ويلخص عقيدتهم في التوحيد في جملة شاملة جامعة لزبدة ما فصله في الفصل المذكور.
وكذلك يفعل الهجويري في كتابه «كشف المحجوب» فيما كتبه عن «التوحيد» فيقرر معنى التوحيد وعناصره والصفات الإلهية التي يختص بها الله دون سواه على نحو ما فعل القشيري، بل يكاد المؤلفان يتفقان في الألفاظ والمعاني، ولكن التوحيد الذي يعرضانه هنا هو توحيد الصوفية المتأثرين بمذهب السلف وأهل السنة، وهو توحيد إن وقف عنده بعض الصوفية، فقد تجاوزه آخرون إلى توحيد أكثر تعقيدا وأدق معنى وأعمق روحانية. نجد إشارات كثيرة إلى ذلك فيما أورده القشيري من أقوال الصوفية في الفصل الذي عقده عن التوحيد وفي رسالة الجنيد عن التوحيد التي لا تزال مخطوطة.
15
ولكي نرى التطور التدريجي في معنى التوحيد عند الصوفية، يجدر بنا أن نذكر أولا نصي القشيري والهجويري لنوضح بهما الصورة الأولى للتوحيد، ثم نتبعهما بصورة التوحيد الأخرى. يقول القشيري:
16
قال شيوخ هذه الطائفة - على ما يدل عليه متفرقات كلامهم ومجموعاتها، ومصنفاتهم في التوحيد - أن الحق سبحانه وتعالى موجود، قديم، واحد، حكيم، قادر، عليم قاهر، رحيم، مريد، سميع، مجيد، رفيع، متكلم، بصير، متكبر، قدير، حي، أحد، باق، صمد، وأنه عالم بعلم، قادر بقدرة، مريد بإرادة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، حي بحياء، باق ببقاء، وله يدان هما صفتان يخلق بهما ما يشاء سبحانه على التخصيص، وله الوجه الجميل، وصفات ذاته مختصة بذاته، لا هي هو ولا هي أغيار له، بل هي صفات له أزلية ونعوت سرمدية، وأنه أحدي الذات، وليس يشبه شيئا من المصنوعات ولا يشبهه شيء من المخلوقات. ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا صفاته أعراض، ولا يتصور في الأوهام ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان، ولا يخصه هيئة وقد، ولا يقطعه نهاية حد، ولا يحله حادث، ولا يحمله على الفعل باعث، ولا يجوز عليه لون ولا كون ولا ينصره مدد ولا عون، ولا يخرج عن قدرته مقدور، ولا ينفك عن حكمه مفطور، ولا يعزب عن علمه معلوم، ولا هو على فعله كيف يصنع وما يصنع ملوم. لا يقال له أين ولا حيث ولا كيف، ولا يستفتح له وجود فيقال متى كان، ولا ينتهي له بقاء فيقال استوفى الأجل والزمان، ولا يقال لم فعل إذ لا علة لأفعاله، ولا يقال ما هو إذ لا جنس له فيتميز عن أشكاله.
17
يرى لا عن مقابلة
18
ويرى غيره لا عن مماقلة،
19
ويصنع لا عن مباشرة
20
ومزاولة. له الأسماء الحسنى والصفات العلى. يفعل ما يريد ويذل لحكمه العبيد. لا يجري في سلطانه إلا ما يشاء، ولا يحصل في ملكه غير ما سبق به القضاء. ما علم أنه يكون من الحادثات أراد أن يكون، وما علم أنه لا يكون مما جاز أن يكون، أراد ألا يكون. خالق أكساب العباد خيرها وشرها، ومبدع ما في العالم من الأعيان والآثار قلها وكثرها ، ومرسل الرسل إلى الأمم من غير وجوب عليه، ومتعبد الأنام على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا سبيل لأحد باللوم والاعتراض عليه، ومؤيد نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم
بالمعجزات الظاهرة والآيات الزاهرة بما أزاح به الغدر، وأوضح به اليقين والنكر.
ويقول الهجويري:
فإذا عرف العبد الحق وحده وأقر بأنه واحد، ليس في ذاته جمع ولا تفرقة، ولا إثنينية، وأنه واحد لا بالعدد الذي إذا أضيف إليه غيره صار اثنين، وأنه ليس محدودا فتقع عليه الجهات الست، وليس له مكان ولا في مكان، ولا عرض له فيحتاج إلى جوهر، ولا هو جوهر فيماثل الجواهر، وليس مادة فيكون محلا للحركة والسكون، ولا روحا فيحتاج إلى هيكل، ولا جسما فيحتاج إلى أعضاء، ولا يحل في الأشياء وإلا شابه الأشياء، ولا يتصل بشيء وإلا كان ذلك الشيء جزءا منه، وهو خال من كل نقص، ومنزه عن كل عيب. لا شبيه له، لم يلد وإلا كان أصلا لما ولد. لا يتغير في ذاته ولا في صفاته. متصف بصفات الكمال التي وصفه بها المؤمنون الموحدون ووصف بها نفسه. منزه عن صفات النقص التي وصفه بها الكافرون. حي، عالم، غفور، رحيم، مريد، قادر، سميع، بصير، متكلم، قائم بنفسه، علمه ليس حالا فيه، وكلامه ليس منقسما فيه. هو وصفاته قديمان، ما يعلمه ليس خارجا عن علمه، الأشياء مفتقرة إلى إرادته، يفعل ما يريد ويريد ما يعلم ولا علم للحادثات بعلمه. حكمه حق، لا ملاذ لأوليائه إلا به، هو المقدر لكل شيء خيره وشره، وهو وحده الذي يرجى ويخاف، خالق النفع والضر، وله وحده القضاء في الأمر. قضاؤه حكيم كله، ولا سبيل إلى معرفة قضائه، يراه أهل الجنة في الآخرة ويشهده أولياؤه في هذه الدنيا.
21
هذه هي صفات الحق كما قررها هذان الصوفيان الكبيران، وهي متفقة في الجوهر مختلفة بعض الشيء في التفاصيل، كما أنها مستمدة في جملتها من القرآن الكريم بطريق مباشر أو غير مباشر، وإذا كان لنا أن نردها جميعا إلى أصل واحد أو صفة واحدة فهي «مخالفته تعالى للحوادث»، أو هي على حد قول الجنيد: «إفراد القديم من المحدث» أو «إفراد القدم من الحدث» على بعض الروايات. فإننا إذا أفردنا القديم بالصفات الواجبة له وميزناه عن المحدث في ذاته وصفاته وأفعاله فقد وحدناه.
ولكن هذه ليست إلا المرتبة الأولى من مراتب التوحيد، وهي مرتبة الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته، وفي هذا المعنى يشترك أهل السنة جميعا، صوفية كانوا أو متكلمين، وهناك مرتبة أخرى للتوحيد تحدث عنها الصوفية، وأطلقوا عليها اسم «توحيد الخواص» الذي أفضل أن أطلق عليه «توحيد الشهود»، وهو توحيد ينكشف معناه في تجربة الصوفي ويتذوقه تذوقا ولا يجد التعبير إليه سبيلا: هو «حال» لا يدركها العقل وإنما تتجلى في القلب، وهو شعور غامر شامل بالقدرة الإلهية التي تتجلى في كل شيء، والإرادة الإلهية التي تنفذ في كل شيء، والفعل الإلهي الظاهر أثره في كل حركة وسكنة في الوجود. بعبارة أخرى هو على حد تعبير أبي يزيد البسطامي: «الخروج من ضيق الحدود الزمانية إلى سعة فناء السرمدية»، أو هو «شهود المطلق» وتجليه في القلب على حد تعبير المثاليين، وأول من تكلم عن هذا النوع من التوحيد مدرسة بغداد التي كان من رجالها سري السقطي، والحارث المحاسبي، والجنيد، والنوري، والشبلي، حتى أطلق عليهم السراج صاحب اللمع اسم «أرباب التوحيد» لأنهم كانوا أكثر صوفية عصرهم كلاما في التوحيد بوجه عام والتوحيد الصوفي بوجه خاص، وربما كان أبو القاسم الجنيد أبرز هؤلاء جميعا في هذا المضمار وأدناهم إلى الأصالة، أو على الأقل كما يبدو لنا مما خلف من رسائل وما أثر عنه من أقوال؛ ولذلك سنختص نظريته في التوحيد بشيء من التفصيل.
يتردد الجنيد في كلامه عن التوحيد بين المعنيين الرئيسيين اللذين أشرنا إليها وهما «توحيد العوام» وتوحيد الخواص، أو التوحيد بمعنى الإقرار والاعتقاد والتوحيد الذوقي الذي هو «شهود قلبي»، وقد أورد القشيري للجنيد طائفة من الأقوال تشير إلى النوعين، من ذلك قوله في النوع الأول: (1)
التوحيد إفراد القدم من الحدث.
22 (2)
التوحيد إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشباه، بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل.
23
فالتوحيد بهذا المعنى هو تمييز الله تعالى عن سائر الخلق في ذاته وصفاته وأفعاله، وهذا هو الإفراد المطلوب: فإن من أعطى القديم صفاته من الأزلية والبقاء والسرمدية والعلم المطلق والإرادة المطلقة إلى غير ذلك مما يليق بالجناب الإلهي، وأعطى المحدثات صفاتها من الحدوث والتغير والتناهي والفناء وغير ذلك مما يليق بالمخلوقات الكائنة الفاسدة، فقد وحد الحق توحيد الاعتقاد الذي يطالبه به الدين، ويكون إفراد الموحد بأمرين:
الأول: «بتحقيق وحدانيته»؛ أي بتقرير وحدة الصفات الإلهية، وتحقيق الوحدانية معناه وصف الله تعالى بوحدانية صفاته على الحقيقة، أي الإقرار بأن صفاته له لا يشاركه فيها غيره. فهو واحد في علمه وقدرته وإرادته، واحد في قدمه وأزليته وغير ذلك من الصفات.
الثاني: «بكمال أحديته»؛ أي الإقرار بكمال أحدية ذاته التي لا يدخلها كثرة ولا تعدد بوجه من الوجوه، وبذا تنتفي عن الذات الإلهية الكثرة العددية والكثرة الكمية والتأليفية مادية كانت أو معنوية.
كل ذلك مع نفي الأضداد لأنه تعالى لا جنس له فلا ضد له، والأنداد؛ أي الأمثال المساوية له؛ لأنه تعالى لا جنس له فلا مثل له، والأشباه؛ أي النظائر إذ لا يشبهه شيء من خلقه وإلا تساوى بخلقه، ويلزم من هذا أنه يستحيل في حق الله تعالى التشبيه، لمخالفته للحوادث، والتكييف؛ لأن الكيف عرض وهو غير محل للأعراض، والتصوير؛ لأن التصوير فرع الإحساس، والله تعالى لا يدرك بالحس، فبالتالي لا يلحقه التصوير، والتمثيل لتنزهه تعالى عن المثيل والنظير.
وجملة القول في هذا النوع من التوحيد أنه اسم آخر للتنزيه؛ لأنه يتركز حول معنى واحد هو المتنزه عن صفات المحدثات، والجنيد وكثيرون غيره من رجال التصوف الذين تكلموا عن «توحيد الاعتقاد» لم يزيدوا كثيرا على ما ذكره المتكلمون في هذا الموضوع، بل قرروا أقوالهم فيه مجردة عن الأدلة العقلية والمهاترات التي تفيض بها كتب المتكلمين. فوحدانية الله إذن هي تنزيهه عن صفات الخلق بنفي كل خواطر التشبيه والتمثيل والتصوير. قال أبو الحسين النوري: «التوحيد كل خاطر يشير إلى الله تعالى بعد ألا تزاحمه خواطر التشبيه.»،
24
وقال أبو علي الروذباري (المتوفى في مصر سنة 322): «التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل والتشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة: كل ما صوره الأوهام والأفكار فالله بخلافه»،
25
وقام رجل بين يدي ذي النون المصري فقال: أخبرني عن التوحيد، فقال: «هو أن تعلم أن قدرة الله في الأشياء بلا مزاج،
26
وصنعه للأشياء بلا علاج،
27
وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وليس في السموات العلا ولا في الأرضين السفلى مدبر غير الله، وكل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك.»
28
وقد أدرك بعض المحققين من الصوفية عدم كفاية ذلك النوع من التوحيد المستند إلى التجريد لأنه مجموعة من السلوب تصور الله تعالى بصورة تباعد بينه وبين خلقه. على أن غاية الموحد توحيدا عقليا هي أن ينزه الله تنزيها مطلقا، والتنزيه - كما يقول ابن عربي - عين التقييد؛ لأنه حمل صفات على الله، والحمل أيا كان تقييد. فالتنزيه المطلق إذن مستحيل عن طريق حمل صفات على الله، وأفضل شيء يقوم به العقل هو أن ينظر إلى الله من حيث أنه «هو» من غير أن يخبر عنه بنفي أو إثبات. قال تعالى:
قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون .
29
ولما كان التوحيد الحقيقي فوق مقدور العقل، ولما كان التنزيه يحمل في ذاته معنى التقييد، اعتبرت طائفة من الصوفية التوحيد العقلي توحيد العوام، وتكلمت عن النوع الثاني من التوحيد الذي هو توحيد القلب والشهود، وكان رائدهم في هذا المضمار أبا القاسم الجنيد البغدادي الذي كان له الفضل في نقل التوحيد من الميدان الكلامي إلى الميدان الصوفي، أو من ميدان النظر العقلي إلى ميدان التجربة الروحية، وقد كتب في ذلك رسالة خاصة
30
يشرح في فصل من فصولها أنواع الموحدين ودرجاتهم التي يمر بها الصوفي الواصل، ويقف عند بعضها الصوفي الذي انقطعت به الطريق. هذا بالإضافة إلى الأقوال الكثيرة التي أوردها له في هذا الباب القشيري والهجويري وغيرهما من مؤلفي كتب التصوف، وهي أقوال غنية في معانيها، بعيدة الغور في مراميها، قد يستعصى فهم بعضها حتى على كبار رجال التصوف أنفسهم أمثال ابن عربي الذي صرح بأنه لا يفهم كلامه؛ ذلك لأن الجنيد كان من أكثر الصوفية وقوعا تحت غلبة «الحال»، والأقوال لا تفي بالترجمة عن الأحوال، فهو وإن كان يشير من طرف خفي إلى الحقيقة، لا يستطيع أن يصحب المريد إلى غاية الطريق .
31
التوحيد في نظر الجنيد أربع درجات:
الأولى:
توحيد العوام الذي هو إقرار بالوحدانية، وإنكار للأرباب والأنداد، مع السكون إلى الرغبة والرهبة المتعلقين بما سوى الله.
الثانية:
توحيد أهل الظاهر، وهو الإقرار بالوحدانية، وإنكار الأرباب والأنداد مع إقامة الأمر والانتهاء عن النهي في الظاهر، والسكون إلى الرغبة والرهبة.
الثالثة:
توحيد الخواص، وهو على وجهين: (أ)
وهو الإقرار بالوحدانية على الوجه السابق، مع إقامة أوامر الشريعة في الظاهر والباطن، وإزالة الرغبة والرهبة المتعلقين بكل ما سوى الله. (ب)
وهو أن يصل العبد إلى حال يكون فيها «شبحا» قائما بين يدي الله، ليس بينهما ثالث، تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوة الحق
32
له، وعن استجابته له، بحقائق وجوده ووحدانيته في حقيقة قربه، بذهاب حسه وحركته لقيام الحق له فيما أرداه منه، والعلم في ذلك أنه رجع آخر العبد إلى أوله، أن يكون كما كان إذ كان قبل أن يكون، والدليل في ذلك قول الله عز وجل:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فمن كان؟ وكيف كان قبل أن يكون؟ وهل أجابت إلا الأرواح الطاهرة العذبة المقدسة بإقامة القدرة النافذة والمشيئة التامة الأركان، إذا كان قبل أن يكون، وهذا غاية توحيد الموحد للواحد. يذهب هو.
33
والذي يعنينا هنا هو هذا النوع الأخير من التوحيد، وهو الذي يصل إليه السالك في نهاية الطريق بعد أن يكون قد قطع جميع مراحله، وهو - كما ترى - توحيد ينبعث من قرار تجربة صوفية خالصة، أو توحيد هو الفناء بعينه، حيث تغيب شخصية الموحد في الوحدة الشاملة التي لا تمييز فيها بين «الأنا» و«الهو».
والجديد في نظرية الجنيد ليس ما يقوله في التوحيد الصوفي بمعنى الفناء في الله، ولا في قوله أنه معنى ينكشف للنفس عن طريق صلتها بالله في تجربة روحية غامرة، وإنما هو في رجوعه بالتوحيد الصوفي إلى جبلة النفس الإنسانية التي يتجلى في صفحتها معنى التوحيد بعد أن تصقلها الرياضات والمجاهدات وتتخلص من شوائب البدن وكدوراته، وفي أنه يستند في ذلك إلى الآية القرآنية المعروفة بآية «الميثاق» التي تشير إلى أن الله تعالى خاطب أرواح بني آدم في الأزل وأشهدهم على أنفسهم بسؤاله إياهم
ألست بربكم ؟ فشهدوا له بالوحدانية بقولهم:
بلى . فعلى هذه الآية بنى الجنيد نظرية جديدة في التوحيد لا أعتقد أن صوفيا آخر سبقه إليها، وهي نظرية فيها عنصر أفلاطوني لا خفاء فيه، كما أن فيها غزارة روحية تشهد بعمق تجربته الصوفية وصفائها.
يرى الجنيد أن النفوس البشرية كان لها وجود سابق على وجودها المتصل بالأبدان، وأنها كانت في هذا الوجود صافية طاهرة مقدسة، على اتصال مباشر بالله، لا يحجبها عنه حجاب، إذ الحجب كلها وليدة الاتصال بالعالم المادي والاشتغال بالأبدان وشهواتها، وقد عبر عن هذه الحجب أو هذه الشهوات بكلمتين هما: «الرغبة والرهبة» المتصلتان بما سوى الله.
في هذا المقام القديم أقرت النفوس الإنسانية بوحدانية الله عندما خاطبها بقوله:
ألست بربكم ؟ فأجابت بلسان حالها بقولها:
بلى . أقرت بالتوحيد الإلهي لأنها لم تر سوى الله تعالى في الوجود فاعلا ولا مريدا ولا قادرا، ففنيت فيه وغابت عن وجودها. لم تكن لها صفات عينية؛ لأن الصفات العينية أمور تظهر في النفوس عند تلبسها بالأجسام، وقد كانت هناك ولا أجسام لها.
كانت هذه حال النفوس الإنسانية في عالم الذر، فلما هبطت إلى هذا العالم نسيت عهدها القديم لما غشيها من حجب، وما استولى عليها من سلطان الشهوات، فشاب توحيدها شوائب ودخلت في حياتها الأرضية معان جديدة مستمدة من صلتها بالأبدان وبالعالم الخارجي بوجه عام كمعنى «الذات» و«السوى» والإرادة الذاتية وما إلى ذلك من معان، وأصبحت توحد الله - إن وحدته - بإقرارها بألوهيته وانفراده بالخلق والتدبير، وهي مع ذلك تنسب إلى نفسها إرادة وفعلا وقدرة وغير ذلك مما يتنافى مع التوحيد المطلق الذي عرفته في سابق عهدها.
ولكي تصل النفوس إلى توحيدها القديم يرى الجنيد - وهذا هو معقد الطرافة في نظريته - أنه لا بد لها من العودة إلى الحال التي كانت عليها في عالم الذر أو إلى القرب من هذه الحال بقدر المستطاع، وهذا ما أشار إليه بقوله: «والعلم في ذلك أنه رجع آخر العبد إلى أوله، أن يكون كما كان إذ كان قبل أن يكون.» أي تعود نفس العبد إلى سيرتها الأولى قبل أن تتعلق بالبدن، وتكون كما كانت - في عالم الذر أو عالم الأرواح - قبل أن تكون أي قبل أن توجد في العالم الدنيوي الذي هو عالم الأبدان.
ولكن العودة التامة مستحيلة ما دامت الصلة بين الروح والبدن قائمة، فليس إلا التحرر من قيود البدن وعلاقاته بقدر ما تسمح به الطاقة البشرية، وهذا لا يكون إلا بالسلوك في الطريق الصوفي الذي هو رياضة للنفس وتصفية وتجرد من الشهوات والإرادات، وطريق للإذعان والتسليم المطلق لله، وهنا يصبح العبد - على حد تعبير الجنيد نفسه - كالشبح الملقى، يتصرف فيه الله كما يريد، وهو مستغرق في بحار التوحيد، فان عن نفسه وعن دعوة الخلق إياه فيما يتعلق بأمور دنياهم، وذلك بسبب ما يشاهده من حقائق وجود الله ووحدانيته في قربه الحقيقي منه، وعند ذلك - كما يقول الجنيد - يذهب حس العبد بنفسه وحركته لقيام الله بما يريده من الأفعال، ويرجع آخر العبد إلى أوله حيث كان ولا حركة ولا سكون.
هذا هو الفناء الصوفي بعينه، وهو أيضا مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري في عبارة أسلفنا ذكرها وهي: «إنه بمقدار ما يعرف العبد عن ربه يكون إنكاره لنفسه، وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات.» فإن العبد إذا انكشف له شمول القدرة والإرادة الإلهية والفعل الإلهي، اضمحلت الرسوم والآثار الكونية في شهوده وتوارت إرادته وقدرته وفعله في إرادة الحق وقدرته وفعله، ووصل إلى الفناء الذي هو عين البقاء؛ لأنه يفنى عن نفسه وعن الخلق ويبقى بالله وحده.
هذه أيضا هي الحال التي يسميها الصوفية «وحدة الشهود». يقول التهانوي: «والتوحيد عند الصوفية معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك بألا يحضر في شهوده (أي شهود الصوفي) غير الواحد جل جلاله.»
34
ولكن العبد الفاني عن نفسه الباقي بربه، المشاهد له في كل شيء، ذلك الشبح القائم بين يدي الله تجري عليه تصاريف تدبيره، ليس في حالة سلبية محضة كما قد يسبق إلى الأوهام؛ لأن بقاءه بالله يشعره بنوع من «الفاعلية» لا عهد له به؛ إذ يرى نفسه وكأنه منفذ للإرادة الإلهية، مدبر لكل ما يجري في الوجود، محرك للأفلاك، قطب الوجود الذي يدور حوله كل شيء.
وأغلب الظن أن هذه كانت الحال التي استولت على الحسين بن منصور الحلاج فصاح عندما أخذ عن نفسه في لحظة وجد خاطفة بقوله: «أنا الحق» أي أنا الحق الخالق، وأنها أيضا كانت الحال التي استولت على العاشق الإلهي الشاعر عمر بن الفارض الذي قال في تائيته الكبرى:
فبي دارت الأفلاك فأعجب لقطبها ال
محيط بها والقطب مركز نقطة
35
ومما ورد من النصوص في هذا النوع من التوحيد الذي هو «وحدة الشهود» قول الجنيد وقد سئل عن التوحيد فقال:
وغنى لي منى قلبي
وغنيت كما غنى
وكنا حيثما كانوا
وكانوا حيثما كنا
فقال السائل: أهلك القرآن والأخبار؟ فقال: لا ولكن الموحد يأخذ أعلى التوحيد من أدنى الخطاب وأيسره.
36
ومعنى هذا أن الجنيد لما سئل عن التوحيد لم يستشهد بآيات من القرآن أو الأحاديث النبوية، بل استشهد بالبيتين السابقين من الشعر، وبهذا أثار غضب السائل واعتراضه فعنف الجنيد بقوله: «أهلك القرآن والأخبار؟» (أي لأنك تستشهد بغيرهما من الأقوال)، فكان جوابه: أن الموحد يستدل بكل شيء على وحدانية الله.
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
والبيتان كما ترى صريحان في استغراق المحب في محبوبه وفنائه فيه، ذلك الفناء الذي تنمحي فيه التفرقة ويبقى فيه الجمع المعبر عنه بقوله:
وكنا حيثما كانوا
وكانوا حيثما كنا
فهنا نجد التوحيد قد تغير معناه تماما بما أضفى عليه الجنيد من صبغة صوفية، فأصبح يرادف الاتحاد أو «وحدة الشهود».
وإذا كان الجنيد أول صوفي أبرز في آية الميثاق كل المعاني الصوفية التي أشرنا إليها، وبنى عليها نظريته في «توحيد الخواص»، فإنه لم يكن آخر من تكلم في هذه المعاني، لأننا نجد صدى لجميع أقواله في شعر ابن الفارض المتوفى سنة 632.
يشير ابن الفارض إلى حب النفس لله وهي لم تزل بعد في عالم الذر قبل وجودها في النشأة الإنسانية فيقول:
وهمت بها في عالم الذر حيث لا
ظهور وكانت نشوتي قبل نشأتي
منحت ولاها يوم لا يوم قبل أن
بدت عند أخذ العهد في أوليتي
ويشير إلى تحلله من «الاثنينية» بعد أن جرب وحدة الشهود وفني عن نفسه وعن كل ما سوى الحق وبقي بالحق وحده، فأدرك وحدانية الحق إدراكا جديدا فيقول:
وعاد وجودي في فناء ثنوية
الوجود شهودا في بقا أحدية
وهنا ينكشف له سر
بلى
وينعكس هذا السر على صفحة النفس فتعرف الله على حقيقته وتنفي «المعية» لأن سلطان «الجمع» قد غلب عليها فيقول:
وسر «بلى» لله مرآة كشفها
وإثبات معنى الجمع نفي المعية
التوحيد والفناء الصوفي
ظهر مما تقدم كيف تغيرت مفاهيم التوحيد في البيئات الإسلامية المختلفة، كلامية أو فلسفية وصوفية، وكيف تطور معناه في بيئة الصوفية خاصة، من توحيد هو إقرار بوحدانية الله تعالى ومخالفته للحوادث، إلى توحيد هو إدراك ذوقي للا متناهي في حالة شعور عميق بوحدة شاملة تغيب فيها معالم فردية الصوفي وشخصيته ولا يبقى ماثلا أمامه سوى الله، وقد ذكرنا أن التوحيد بهذا المعنى هو اسم آخر للحال التي أطلق عليها الصوفية اسم «الفناء».
ونريد الآن أن نفصل القول في «الفناء» وما يدركه الصوفية فيه من الوحدة أو الاتحاد لتظهر الصلة بينه وبين التوحيد.
الفناء الصوفي هو الحال التي تتوارى فيها آثار الإرادة والشخصية والشعور بالذات وكل ما سوى الحق، فيصبح الصوفي وهو لا يرى في الوجود غير الحق، ولا يشعر بشيء في الوجود سوى الحق وفعله وإرادته.
وقد كان أبو يزيد البسطامي المتوفى سنة 261 أسبق من تكلم في موضوع الفناء واعتبره الدرجة القصوى في سلم معراجه الروحي، وله فيه أقوال رمزية غريبة تعتبر عادة من قبيل ما يسمى بالشطحات الصوفية، جمعها السهلكي (المتوفى سنة 476) في كتاب «النور» وأشار إلى بعضها أبو القاسم القشيري في رسالته وفريد الدين العطار في تذكرة الأولياء وأبو نصر السراج في كتاب اللمع وغيرهم. من ذلك قوله: «حججت مرة فرأيت البيت، وحججت ثانية فرأيت البيت وصاحبه، وحججت ثالثة فلم أر البيت ولا صاحبه.» يفصل في هذا مراحل معراجه الروحي الذي انتهى فيه إلى مقام الفناء التام أو الوحدة التامة. فالحج هنا رمز للسفر الروحي، وأول مراحله هو المرحلة الحسية التي رأى فيها «البيت» (العالم) وأدركه إدراكا حسيا، وفي الحج الثاني أدرك البيت وصاحب البيت؛ أي أدرك «الاثنينية» إدراكا عقليا وفرق بين الله والعالم، وفي الحج الثالث أدرك بقلبه وشهوده «الكل» الذي لم يميز فيه بين البيت وصاحب البيت. فمراتب هذا الحج ثلاث: إدراك حسي فإدراك عقلي فشهود قلبي، أو فردية فثنوية فوحدة مطلقة تنمحي فيها الكثرة العقلية والحسية.
وهذه المرتبة الأخيرة هي مرتبة الفناء أو التوحيد الصوفي.
ومن شطحاته التي يشير فيها إلى نفس المعنى قوله وقد سئل كيف أصبحت؟ «لا صباح ولا مساء! إنما الصباح والمساء لمن تأخذه الصفة وأنا لا صفة لي.» يريد بذلك أن أحكام الزمان والمكان تصدق على المتعين الجزئي الذي له صفات شخصية تميزه عن غيره. أما الذي لا صفة له، أي الذي فني عن صفاته الفردية وبقي بصفات الحق، فإنه يتعدى حدود الزمان والمكان؛ ولذلك يستوي عنده الصباح والمساء.
ومن ذلك قوله: «للخلق أحوال، ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره وغيبت آثاره بآثار غيره.»
1
وقوله: «خرجت من الحق إلى الحق حتى صاح مني في: يامن أنت أنا فقد تحققت بمقام الفناء في الله.»
2
ولكن الفناء الذي اعتبره أبو يزيد الغاية القصوى من الحياة الصوفية قد فسر تفسيرات أخرى ولعب دورا هاما في تشكيل العقائد الصوفية في الأدوار التي مر بها التصوف من بعده؛ ولذا يجدر بنا أن نستوفي القول فيه.
لا تشير كلمة «الفناء» إلى ناحية واحدة من التجربة الصوفية هي الناحية السلبية، ولكن لها ناحية إيجابية هي التي عبر عنها الصوفية بكلمة «البقاء»؛ لأن الفناء عن شيء يقتضي البقاء بشيء آخر.
فالفناء عن المعاصي يقتضي البقاء بالطاعات، والفناء عن الصفات البشرية يقتضي البقاء بصفات الإلهية، والفناء عما سوى الله يقتضي البقاء بالله، وهكذا. فاللفظان متضايفان متكاملان لا يفهم أحدهما إلا بالإضافة إلى الآخر، ولا تفهم الحالة الصوفية إلا بهما معا.
وقد عرف الصوفية «الفناء» تعريفات مختلفة يشير كل منها إلى ما يعتبره الصوفية صفة أساسية في الفناء، وتختلف التعريفات التي وضعت حتى منتصف القرن الخامس الهجري في جوهرها عما يقصده الصوفية من أصحاب وحدة الوجود بهذا اللفظ ابتداء من محيي الدين بن عربي ومدرسته.
ولنعرض الآن لتعريفات الفناء التي وردت في مؤلفين قديمين هامين يمثلان الاتجاه الأول، وهما: كتاب اللمع لأبي نصر السراج، والرسالة لأبي القاسم القشيري، موردين عليها الملاحظات الآتية:
أولا:
تشير هذه التعريفات في جملتها إلى الناحيتين الأخلاقية والسيكولوجية في «التجربة الصوفية»، ولا تتضمن معنى فلسفيا يمكن مراعاته في نظرية عامة في طبيعة الوجود. بعبارة أخرى هي تعريفات تشرح ما يحس به الصوفي من نفسه في حال فنائه ووجده. أو هي، كما يقول أصحاب الاصطلاح الحديث، تعريفات ذاتية
Subjective
لا موضوعية
Objective . فالصوفية إلى ذلك العهد قد أسلموا زمام أمرهم إلى الله وقاموا في مقام التوكل، فلم يروا في الوجود إلا إرادة مطلقة تسير كل شيء وقدرة مطلقة تدبر وتقدر كل شيء، فتجردوا تجردا تاما عن إرادتهم وقدرتهم. «فالحقيقة» عندهم إرادة مطلقة ليست الإرادة الإنسانية سوى خادم لها ومنفذ لأمرها .
ومن ناحية أخرى وجدوا الشر كل الشر في النفس الإنسانية وكل ما يتصل بها، فتجردوا عن هذه النفس وصفاتها وأعمالها، وسموا ذلك فناء عن الأعمال والصفات. يقول القشيري: «فكذلك وإذا واظب (أي الصوفي) على تزكية أعماله ببذل وسعه، من الله عليه بتصفية أحواله، بل بتوفية أحواله. فمن ترك مذموم أفعاله بلسان الشريعة يقال إنه فني عن شهواته، فإذا فني عن شهواته بقي بنيته وإخلاصه في عبوديته، ومن زهد في دنياه بقلبه يقال فني عن رغبته، فإذا فني عن رغبته فيها بقي بصدق إنابته، ومن عالج أخلاقه فنفى عن قلبه الحسد والحقد والبخل والشح والغضب والكبر وأمثال هذه من رعونات النفس يقال فني عن سوء الخلق، فإذا فني عن سوء الخلق بقي بالفتوة والصدق، ومن شاهد جريان القدرة في تصريف الأحكام يقال فني عن حسبان الحدثان من الخلق، فإذا فني عن توهم الآثار من الأغيار بقي بصفات الحق، ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار لا عينا ولا أثرا ولا رسما ولا طللا، يقال إنه فني عن الخلق وبقي بالحق، وإذا قيل فني عن نفسه وعن الخلق فنفسه موجودة والخلق موجودون، ولكن لا علم له بهم ولا به ولا إحساس ولا خبر، فتكون نفسه موجودة والخلق موجودين، ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين، غير محس بنفسه ولا بالخلق.»
3
فالفناء عن الخلق والبقاء بالحق، وشهود الحق وحده (وهو النوع الأخير الذي ذكره القشيري)، هو التوحيد الصوفي الذي أشرنا إليه.
الأمر الثاني:
أن السراج والقشيري أدركا إمكان الانتقال من وصف حال الفناء الصوفي إلى وضع نظرية ميتافيزيقية في طبيعة الوجود كنظرية الحلول أو المزج أو وحدة الوجود أو ما شاكل ذلك؛ أي الانتقال من قول الصوفي: «إنني في حال خاصة هي حال الوجد أو الفناء لا شعور لي إلا بالله» أو «إنني لا أشهد سوى الله»، إلى القول بأنه «لا موجود إلا الله»، وهذا الانتقال طبيعي، واحتمال الوقوع فيه احتمال كبير، ولكنه ليس انتقالا منطقيا: فإن للصوفي أن يشعر بما يشاء، وأن يعبر عن شعوره كيفما شاء، ولنا أن نصدق ما يقوله في وصف شعوره أو لا نصدق، ولكن ليس له أن يبني على هذا الشعور نظرية ميتافيزيقية في طبيعة الوجود، إذ الشعور ليس نوعا من أنواع العلم ولا يصح أن يبنى عليه نظرية في طبيعة الوجود من حيث هو وجود (وسيأتي مزيد تفصيل لهذا في كلامنا عن الفناء عند أصحاب وحدة الوجود). فلا بد إذن من أن نفرق في وضوح بين «وحدة الشهود» ووحدة الوجود، وبين تجربة «وحدة الشهود» ونظرية وحدة الوجود، ولعل الخلط بين الوحدتين هو الذي أدى ببعض الباحثين في التصوف الإسلامي من المستشرقين إلى القول بأن فكرة وحدة الوجود هي الفكرة الأساسية المسيطرة على هذا التصوف برمته، وليس أبعد من الحقيقة والواقع من هذا القول، وإن من التجني أن يوصف متصوفة القرنين الثالث والرابع أمثال أبي يزيد البسطامي والجنيد البغدادي والشبلي بأنهم من القائلين بوحدة الوجود في حين أن أقوالهم صريحة في وحدة الشهود المرادفة للتوحيد.
والظاهر من كلام القشيري والسراج أن قوما من الصوفية قد ارتكبوا هذا الخطأ المنطقي وبنوا على تجاربهم الصوفية نظريات فلسفية تنافي التوحيد الإلهي. غير أننا يجب ألا نحمل العبارات التي فاه بها بعض الصوفية الذين جربوا وحدة الشهود أكثر مما تحتمل عن طريق التأويل البعيد؛ لأن التأويل البعيد باب واسع محفوف بالمخاطر، وقد أشرنا إلى بعض شطحات أبي يزيد البسطامي وهي من هذا القبيل؛ أي إنها أقوال صدرت عن صوفي غلبه الوجد والهيام بالله فصاح في غيبته معلنا عن شعوره وشهوده لا مقررا لمذهب.
ثالثا:
أن تعريفات الفناء التي أشرنا إليها تعتبر فقدان الشعور بالذات وبالعالم الخارجي صفة من صفات هذا الفناء.
رابعا:
أن الفناء يمر بمراحل تدريجية، تبتدئ بالفناء عن الشهوات والأفعال الذميمة، وتنتهي بالفناء عما سوى الله والبقاء بالله وحده.
خامسا:
أن القشيري والسراج يفهمانه على أنه غيبة أو فقدان للشعور بالذات، وينكران على من يفهم منه معنى آخر كمحو صفات البشرية والاتصاف بصفات الإلهية، أو أي معنى يشير إلى صيرورة الإنسان إلها.
فالفناء إذن عند هذين المؤلفين محو وإزالة لكل ما يتعلق بأفعال العبد وصفاته وأخلاقه الذميمة، وغيبة تامة عن ذات العبد والوجود الخارجي. أما فناء الذات بمعنى محوها من الوجود وحلول الإلهية محلها، فأمر ينكره جمهور الصوفية في ذلك العهد. يقول القشيري: «وإذا قيل فني عن نفسه وعن الخلق، فنفسه موجودة والخلق موجودون ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق.»
4
أي إن الفناء حال لرجل سكر من حب الله فغفل عن نفسه وعن الخلق، أو حال لرجل هاله الشهود الإلهي فذهل عن نفسه في حضرة ربه وغاب عن شعوره بذاته، وهو في هذا المقام كنسوة امرأة فرعون عندما وقع نظرهن على جمال يوسف قطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم؛ أي قطعن أيديهن من شدة ما غلب عليهم من روعة جمال يوسف فوصفنه بأنه ليس بشرا وهو بشر، وبأنه ملك وما هو بملك، فما بالك بمن يشاهد جمال الحق ويدرك عظمته؟ ويقول السراج: «من الكفر أن يقال إن الصوفي يفنى عن صفاته البشرية ويبقى بصفات الإلهية. فليس الفناء إلا الإذعان المطلق لإرادة الله وقدرته. إن الله لا ينزل إلى قلب العبد وإنما الذي ينزل إلى قلب العبد هو الإيمان به والاعتقاد بتوحيده ومحبة ذكره. فإن الله تعالى يخالف الحوادث في ذاته وصفاته، فكيف يتأتى الحلول؟ ولا يفنى الإنسان عن ناسوتيته كما لا يخرج السواد عن الثوب الأسود. أما إذا تغيرت الصفات البشرية، فإنها تتغير بصفات أخرى بشرية.»
5
هذا هو موقف الصوفية قبل ظهور مذهب وحدة الوجود الذي أسسه لأول مرة ووضعه في صورة كاملة الشيخ محيي الدين بن عربي الصوفي الأندلسي المتوفى سنة 638، فإن هذا الصوفي الفيلسوف قد فسر الفناء تفسيرا آخر يتمشى مع روح مذهبه ونظريته العامة في طبيعة الوجود كما سنشرحه فيما بعد.
وحدة الشهود ووحدة الوجود
أشرت في مواطن كثيرة من هذا الفصل إلى هذين الاصطلاحين وحددت الفرق بينهما بصورة عامة، ولكن الأمر يقتضي مزيدا من الشرح والتفصيل لتظهر المقابلة واضحة بين وحدة الشهود التي استعملتها مرادفة لنوع من أنواع «التوحيد» ووحدة الوجود التي لا يقصد بها وحدة الألوهية، بل وحدة الحقيقة الوجودية. «وحدة الشهود» «حال» أو تجربة يعانيها الصوفي، لا عقيدة ولا علم ولا دعوى فلسفية يحاول برهنتها أو يطالب الغير بتصديقها، ولذا فرق الصوفية بين «علم التوحيد» (أي العلم بتوحيد الله) و«عين التوحيد»، وقصدوا بعلم التوحيد معرفة توحيد الحق عن طريق العقل والاعتقاد، وهذا هو توحيد جمهور الناس الذين يثبتون لله وحدانيته وينفون عنه الشركة بجميع أنواعها، وهو مذهب يخالف على حد قول الهجويري
1
مذهب الثنوية القائلين بمبدأي النور والظلمة، ومذهب المجوس القائلين بوجود يزادن وأهرمان، ومذهب الطبيعيين الذين يقولون بوجود الطبيعة والقوة، ومذهب الفلكيين الذين يقولون بالكواكب السبعة، والمعتزلة الذين يقولون بما لا يتناهى من الخالقين.
2
أما «عين التوحيد» فهي تلك الحال التي أشرنا إليها، حال وحدة الشهود التي ليست علما ولا اعتقادا، ولا تخضع لوصف ولا تفسير، ووحدة الشهود المرادفة لعين التوحيد بهذا المعنى تختلف اختلافا جوهريا عن وحدة الوجود التي قد يقول بها الصوفي وغير الصوفي، والتي لا تتصل بالتجربة الصوفية إلا بالقدر الذي شرحناه، والظاهر أن «وحدة الشهود» هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية إطلاقا بقطع النظر عمن يحصل له الشهود، وعن موطنه وجنسه ودينه، فإن الوثائق المعتمدة تثبت أنها حال عالمية جربها كبار الصوفية على اختلاف أديانهم وأجناسهم، وأطلقوا عليها، أو رمزوا إليها، بأسماء مختلفة، وهي الحال التي يسميها صوفية الإسلام بالفناء وعين التوحيد، وحال الجمع، وهكذا. يقول أبو سعيد الخراز: أول مقام لمن وجد التوحيد وتحقق بذلك، فناء ذكر الأشياء عن قلبه وانفراده بالله عز وجل.
3
ويقول أبو بكر الشبلي لرجل: «أتدري لم لا يصح توحيدك؟» فقال: لا، فقال: «لأنك تطلبه بك.»
4
فالشبلي يطالب هذا الرجل برفع الاثنينية لكي لا يرى إلا الله وحده؛ لأنه يعتبر الشعور بالذات حائلا دون الشعور بالوحدة، وحجابا كثيفا يستر المحب عن المحبوب، وفي هذا المعنى يقول الحسين بن منصور الحلاج فيما أثر عنه من أبيات:
بيني وبينك إني ينازعني
فارفع بفضلك إنيي من البين
فهو يعاني من جراء شعوره بإنيته نزاعا نفسيا ممضا، ولا يخلو له صفاء التوحيد لعدم صفاء شهوده وفنائه؛ ولذلك يتضرع إلى الله أن يرفع الإن من البين، والإن هو الوجود الشخصي المتعين: الأنا. فهو لا يريد اثنينية الأنا والأنت، بل يريد حالا تفنى فيها الأنا وتبقى الأنت وحدها، أو بعبارة أدق: حالا تنمحي فيها التفرقة بينهما.
وحدة الوجود في مذهب ابن عربي
لم تظهر فكرة وحدة الوجود في صورة نظرية كاملة متسقة قبل محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638، وإن ظهرت بعض الاتجاهات نحو هذه النظرية نجدها بين حين وآخر في أقوال الصوفية السابقين عليه، ولم يكن ابن عربي أول من أرسى دعائم مذهب كامل في وحدة الوجود وحسب، بل ظل حتى اليوم الممثل الأكبر لهذا المذهب، ولم يأت بعده ممن تكلموا في وحدة الوجود نثرا أو شعرا إلا كان متأثرا به أو ناقلا عنه، أو مرددا لمعانيه بعبارات جديدة.
وعلى الرغم من هذا فقد حاول كثير من الكتاب قديما وحديثا أن ينفوا عن ابن عربي القول بوحدة الوجود ظنا منهم أن هذا المذهب مذهب مادي إلحادي لا يليق بولي مسلم من كبار أولياء الله، ولو عرفوا أن وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي ليس فيها من المادية شيء، وأنه كما يقول ابن تيمية: «فرق بين «الظاهر» و«المظاهر»، فكان بذلك أقرب القائلين بوحدة الوجود إلى روح الإسلام»، لما استبعدوا صدور هذا المذهب عنه، ولما أنكروا عليه مذهبا يعد في طليعة المذاهب الفلسفية الصوفية العالمية، ولم يكن ابن عربي مجرد فيلسوف صوفي عني بالجانب النظري الثيوسوفي من التصوف، بل كان إلى جانب هذا من أرباب المواجد والأذواق، تكلم بلسان الكشف والإشراق كما تكلم بلسان العقل، فجمع بين القول بوحدة الوجود والقول بوحدة الشهود، وهذا هو موضع الحيرة فيه وسبب اختلاف الناس في أمره: فالذين ينكرون عليه القول بوحدة الوجود ينظرون إليه نظرتهم إلى غيره من أوائل الصوفية كالجنيد والشبلي وذي النون المصري، ويفسرون ما صدر عنه من أقوال في وحدة الوجود تفسيرهم للشطحات الصوفية، أو يعتبرونها على أكثر تقدير أقوالا معبرة عن وحدة الشهود، مع أنها أقوال لا يمكن صرفها عن ظاهر معناها إلا بضرب من التعسف لا مبرر له.
والحقيقة أنه لا ينكر على ابن عربي القول بوحدة الوجود إلا جاهل أو مكابر، فإن كل فقرة من فقرات كتابه «فصوص الحكم» وكثيرا مما يقوله في «الفتوحات المكية» ينطق بما لا يدع مجالا للشك بأن له مذهبا في وحدة الوجود ملك عليه زمام عقله وروحه وتفرع عنه كل ما ذكره من مسائل الفلسفة والتصوف الكبرى كمسائل الألوهية والبشرية، والمعرفة الإنسانية والحياة النفسية، والمحبة الإلهية، والأديان، والأخلاق، وأمور الآخرة، إلى غير ذلك مما يمكن وصفه بأنه يمثل فروع شجرة واحدة يغذيها أصل واحد.
وقد أشرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب إلى نظريات ابن عربي في المحبة الإلهية وغيرها وبينا صلتها بمذهبه العام، والآن نعرض في شيء من التفصيل قضيته الكبرى التي هي أصل هذه النظريات.
1
يرى ابن عربي أن الوجود بأسره حقيقة واحدة ليس فيها ثنائية ولا تعدد، على الرغم مما يبدو لحواسنا من كثرة في الموجودات في العالم الخارجي وما نقرره بعقولنا من ثنائية الله والعالم: الحق والخلق، ولكن الحق والخلق عنده اسمان أو وجهان لحقيقة واحدة، إذا نظرت إليها من ناحية وحدتها سميتها حقا، وإن نظرت إليها من ناحية تعددها سميتها خلقا، ولكنهما اسمان لمسمى واحد:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا
وليس خلقا بهذا الوجه فأدركوا
جمع وفرق فإن العين واحدة
وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر
2
هذه في نظر ابن عربي قضية بديهية لا تقبل الشك ولا الدليل، ولكنها في الوقت نفسه تقبل التحقيق عن طريق التجربة الصوفية التي يدرك فيها الصوفي في حال فنائه عن نفسه وعن الخلق وحدته الذاتية مع الحق، والعقل وحده - غير المؤيد بالكشف والذوق - لا يقوى على إدراك هذه الوحدة.
يصرح ابن عربي بهذه العقيدة في عبارات قوية جريئة لا مواربة فيها، من ذلك قوله: «فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها.»
فما نظرت عيني إلى غير وجهه
ولا سمعت أذني خلاف كلامه
3
وقوله: «وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله، ونحن وإن كنا موجودين فإنما كان وجودنا به. فمن كان وجوده بغيره فهو في حكم العدم.»
4
وقوله:
ممن تفر وما في الكون إلا هو
وهل يجوز عليه «هو» أو ما هو؟
إن قلت «هو» فشهود العين تنكره
أو قلت «ما هو» «فما هو» ليس إلا هو
فلا تفر ولا تركن إلى طلب
فكل شيء تراه ذلك الله
5
وقوله:
يا خالق الأشياء في نفسه
أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كنهه
فيك فأنت الضيق الواسع
6
هذه العبارات وأمثالها مما تفيض به مؤلفات ابن عربي صريحة في تقرير وحدة الوجود صراحة صارخة، وليس في تأويلها إلى غير ما يفهم من ظاهرها إلا إفسادها، ولكن ابن عربي يواجه مشكلة الكثرة في الوجود - وهي كثرة تشهد بها الحواس ويقرها العقل - ويحاول أن يفسرها على أساس أنها صور ومجال تتجلى فيها الصفات الإلهية التي هي عين الذات، أو على أنها أوهام اخترعها العقل بأدواته ومقولاته، وللحق عند ابن عربي معنيان: الأول «الحق في ذاته» وهو حقيقة مطلقة لا نعرفها ولا نتصل بها بوجه من الوجوه، والحق كما يبدو لنا في تجلياته في الوجود، وهو بهذا المعنى مرادف للخلق؛ ولذلك كان للحقيقة الوجودية وجهان: حق وخلق، وهي الواحد والكثير، والقديم والحادث، والظاهر والباطن، والأول والآخر، وغير ذلك من الأضداد. فإذا نظرت إلى الحق من حيث ذاته فهو الناظر إلى نفسه، وهذا مقام الوحدة، وإذا نظرت إليه من حيث تجلياته نظرت إليه من مقام الكثرة. كما عبر عن ذلك أفلوطين حيث قال: إن «الواحد الأول في كل مكان وهو مع ذلك لا في مكان.»
7
فالتفرقة بين الحق والخلق، أو بين الواحد والكثير، تفرقة منطقية يقول بها العقل لا الذوق الصوفي، وهي تفرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقته: كالتفرقة بين الجوهر وأعراضه، وهما في الواقع حقيقة واحدة وإن تصور العقل الفصل بينهما. فالذي يحدث الكثرة في الوجود هي أحكامنا على الموجودات، أما حقيقة الموجودات فواحدة.
في هذا الجانب من فلسفة ابن عربي - وهو ما يصح أن نسميه بالجانب المنطقي أو الفلسفي - أثر ظاهر لثلاثة تيارات من الفكر: الأول نظرية أفلوطين الإسكندري في الواحد والكثير، والثاني نظرية الأشاعرة في الجوهر والأعراض، والثالث نظرية الحلاج في اللاهوت والناسوت: إذ الناسوت عند الحلاج هو المظهر الخارجي للاهوت، يقول:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
ومع هذا، فالفرق بين ابن عربي من ناحية، وبين أفلوطين والأشاعرة والحلاج من ناحية أخرى، فرق جوهري وأساسي، ومذهبه مختلف عن مذاهبهم.
وتمشيا مع منطق العقل - لا الكشف - يحاول ابن عربي أن يفسر العلاقة بين الواحد والكثير، ويلجأ في ذلك إلى ضروب من التمثيل والتشبيه قد تعين بعض الشيء على فهم هذه المشكلة المعقدة، ولكنها قد تبلبل فكر القارئ الذي يأخذها بحرفيتها وإشاراتها المادية. من ذلك تمثيلية الذات الإلهية بشيء منعكسة صوره على مرايا، والكثرة الوجودية بالمرايا التي ينعكس عليها صور ذلك الشيء. أو تمثيله الذات الإلهية بالواحد العددي، والكثرة الوجودية بسائر الأعداد التي تستمد وجودها من «الواحد». أو تمثيله الذات الإلهية بالجسم، والكثرة الوجودية بأعضاء الجسم التي لا وجود لها ولا كيان بغير الجسم، وهذا التشبيه الأخير ممعن في المادية.
وللحقيقة الوجودية في تنزلها إلى علمنا ثلاث مراتب: مرتبة «الأحدية المطلقة»، وهي مرتبة الذات أو مرتبة «العماء»، ونحن لا نعرف عن الذات الإلهية - من حيث هي - شيئا، ولا نستطيع أن نصفها بشيء سوى محض الوجود لأنها من هذه الحيثية مجردة عن كل اسم ووصف وإضافة، والثانية مرتبة «الواحدية» وهي المرتبة التي تتجلى فيها الذات في مجالي الأسماء والصفات، أو هي مرتبة «الحق» أو الله بالمعنى الديني، ولكن الأسماء والصفات الإلهية هي من ناحية عين الذات (كما يقول المعتزلة)، ومن ناحية أخرى عين العالم الخارجي إذ ليس العالم الخارجي عند ابن عربي سوى مجموعة من المجالي والمظاهر التي تتجلى فيها الذات الواحدة فيما لا يتناهى من الصور. فالعالم الخارجي هو مجموعة صفات الله، ووجود الذات فيه وجود مقيد نسبي لأنه وجود متعين في صور أعيان الممكنات، أو متعين في النسب والإضافات التي نطلق عليها اسم الصفات، ومن هنا كانت الموجودات كلها صفات للحق كما يقول ابن عربي: «فما وصفناه (أي الحق) بوصف إلا كنا (أي المحدثات) ذلك الوصف.» ويقول: «فهو تعالى المسمى بكل اسم لمسمى في العالم مما له أثر في الكون.»
8
وفي هذه المرتبة ندرك الفرق بين الإله والمألوه، والخالق والمخلوق، والمطلق والنسبي، والحق والخلق. أما في مرتبة العلماء - أو الإطلاق الصرف - فلا ندرك هذه المعاني؛ ولهذا يخطئ ابن عربي الغزالي ومن يرى رأيه من الحكماء في زعمهم أن الله تعالى يمكن أن يعرف من غير نظر في العالم، فيقول: «نعم تعرف ذات قديمة أزلية، لا تعرف أنها إله حتى يعرف المألوه، فهو (أي المألوه) عين الدليل عليه.»
9
والصلة بين المرتبة الأولى والمرتبة الثانية أشبه بالصلة بين ما هو بالقوة وما هو بالفعل، ولكنه خروج لما بالقوة إلى ما بالفعل غير محدود بزمان؛ إذ لا أول له ولا نهاية، بل التجلي الإلهي عملية أزلية أبدية أو عملية خلق مستمر، الغاية منه معرفة الحق بظهور أسمائه وصفاته على صفحة الوجود. بهذا يفسر ابن عربي معنى «الخلق» وسره، ويشير إلى الحديث القدسي الذي يقول الله فيه: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي (أو فبه) عرفوني.» وكذلك يشرح سر خلق الإنسان بأنه إظهار للكمالات الإلهية في صورة جامعة يرى فيها الحق نفسه، فيقول:
لما شاء الحق من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود، ويظهر به سره إليه: فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير هذا المحل ولا تجليه له ... إلخ.
10
أي لما شاء الحق ذلك أوجد الإنسان، أو أظهر صفاته وأسماءه في أكمل صورة خلقية هي الصورة الإنسانية.
والمرتبة الثالثة مرتبة شهود الحق في قلب الصوفي حيث تمحى الكثرة وتتجلى الوحدة ويفنى المتناهي في اللامتناهي، وفي هذا الحال لا يرى الصوفي لنفسه ولا للعالم الخارجي وجودا، وإنما يرى الله وحده ويعرف معرفة ذوقية عن طريق اتصاله به، ويتحقق بوحدته الذاتية معه.
هذا هو الجانب الميتافيزيقي لمذهب ابن عربي في طبيعة الوجود، ويلزم عنه منطقيا أنه لا محل فيه لفكرة الألوهية بمعناها الديني المعروف: أي لا محل فيه لإله خالق للعالم بالمعنى المعروف لكلمة الخلق، معبود محبوب، مدبر للكون، عالم مريد، سميع بصير، إلى غير ذلك من صفات «الشخصية» التي تخلعها الأديان على الله، وابن عربي لا ينكر صفات التنزيه التي تقول بها الأديان كالقدم والأزلية والواحدية والوجود الذاتي ونحو ذلك من صفات السلوب، ولكنه يئول أسماء المعاني التي وصف بها الله نفسه تأويلا يخرجها إلى حد كبير عن ظاهر معناها ويجعلها أكثر تمشيا مع فكرته الفلسفية العامة، وهو يلجأ في ذلك إلى حيل لغوية غريبة يظهر فيها أثر منهجه «الظاهري». فاسم «الجبار» عنده مشتق من «الجبر»، والحق جبار بمعنى أنه عنصر الضرورة والوجوب الذي يجعل الكائنات تظهر على نحو ما هي عليه، فهي تخضع لضرورة ذاتية إذ تخضع للحق المتجلي فيها، والاسم «الغفار» مشتق من «غفر» بمعنى غطى، والحق غفار بمعنى أنه «يغطي» ذاته في صور أعيان الممكنات، والاسم «العدل» مشتق من عدل بمعنى مال، والحق عدل لأنه مال من حضرة الوجوب الذاتي إلى حضرة الوجوب بالغير، والاسم «الحفيظ» مشتق من حفظ بمعنى صان، والله هو الحفيظ بمعنى المقوم والصائن لوجود كل شيء بذاته، وهو العليم بمعنى الذي يعلم نفسه بنفسه في تجليه الذاتي لنفسه، وهو السميع بمعنى الذي يسمع الكلام الذاتي للموجودات في حال ثبوتها ، وهكذا وهكذا.
11
من هذا يتضح أن ابن عربي موزع الفكر بين تصورين مختلفين للأولهية: بين إله وحدة الوجود الذي هو مبدأ ميتافيزيقي مجرد من الصفات المشخصة، وإله الأديان الذي له هذه الصفات، وهو يحاول جاهدا أن يوفق بين التصورين فلا يصيب في هذا التوفيق إلا قليلا من النجاح، ولكن الذي لا شك فيه أنه يدين بوجود إله ما يتشبث بعبادته وحبه والتقرب إليه. بل إن عاطفته الدينية لترتفع في حرارتها أحيانا إلى الحد الذي لا يدانيها فيه عاطفة الرجل المؤمن غير المتفلسف، وترى من خلالها قوة الإيمان وصدقه. استمع إليه وهو يصف افتقار الموجودات كلها إلى الله بمعنى تقومها ووجوب وجودها به:
قال تعالى تشريفا لجميع الموجودات وشهادة لهم:
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله . فالفقراء هم الذين يفتقرون إلى كل شيء من حيث أن ذلك الشيء هو مسمى الله، فإن الحقيقة تأبى أن يفتقر إلى غير الله، وقد أخبر الله أن الناس فقراء إلى الله على الإطلاق، والفقر حاصل منهم، فعلمنا أن الحق ظهر في صورة كل ما يفتقر إليه فيه. فلا يفتقر إلى الفقراء إلى الله بهذه المثابة شيء، وهم يفتقرون إلى كل شيء. فالناس محجوبون بالأشياء عن الله، وهؤلاء السادة (يقصد فقراء الصوفية) ينظرون الأشياء مظاهر الحق تجلى فيها لعباده حتى في كل أعيانهم فيفتقر الإنسان إلى سمعه وبصره وجميع ما يفتقر إليه من جوارحه وإدراكاته ظاهرا وباطنا، وقد أخبر الحق في الحديث الصحيح أن الله سمع العبد وبصره ويده، فما افتقر هذا الفقير إلا إلى الله في افتقاره إلى سمعه وبصره. فسمعه وبصره إذن مظهر الحق ومجلاه، وكذلك جميع الأشياء بهذه المثابة. فما ألطف سريان الحق في الموجودات وسريان بعضها في بعض ... فهذا حال الفقراء إلى الله لا ما توهمه من لا علم له بطريق القوم. قال أبو يزيد البسطامي: يا رب بماذا أتقرب إليك؟ قال: بما ليس لي: الذلة والافتقار.
12
فالله الذي تصوره ابن عربي مبدأ الوجود وأصل كل موجود هو وحده الغني على الإطلاق، وكل موجود مفتقر إليه على الحقيقة، وما يبدو من افتقار الموجودات إلى الأسباب وهم وخداع؛ لأن الذي يفتقر إليه على الحقيقة هو الحق المتجلي في صورة هذه الأسباب لا الأسباب نفسها.
هكذا يهدم ابن عربي فكرة السببية الطبيعية ليقيم مقامها السببية الإلهية؛ إذ الحق وحده هو الفاعل لكل شيء، وهو وحده الذي يمد الموجودات بما تفتقر إليه من حاجات، وبالطريقة عينها يبرز من خلال نظريته في وحدة الوجود سائر المعاني الدينية العميقة كالربوبية والعبودية والألوهية والمألوهية والرحمة والمحبة والتدبير والخلق وغير ذلك ويعرضها في صور جديدة لا عهد لمفكري الإسلام بها من قبله.
والنتيجة التي نستخلصها من كل ما تقدم هي أن وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي ليست وحدة وجود مادية بمعنى أن الحقيقة الوجودية هي ذلك العالم المادي الماثل أمام حواسنا، ولكنها وحدة وجود مثالية أو روحية تقرر وجود حقيقية عليا هي الحق الظاهر في صور الموجودات، وتعتبر وجود العالم بمثابة الظل لصاحب الظل؛ ولهذا يحرص ابن عربي على القول بأن الحق منزه مشبه معا، فتنزيهه في وحدته الذاتية ومخالفته للحوادث، وتشبيهه في تجليه بصورها، وتختلف درجة توكيده لجانب التنزيه أو جانب التشبيه باختلاف الحال التي يكتب فيها، فقد يغلب عليه لسان التشبيه حتى تكاد تظنه ماديا، وقد تغلب عليه العاطفة الدينية فيتكلم بلسان التنزيه وينكر كل مناسبة بين الله والمخلوقات. يقول في كلامه عن تجريد التوحيد: «إذ لا مناسبة بين الله تعالى وبين خلقه البتة، فإن أطلقت المناسبة يوما عليه كما أطلقها أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتبه، وغيره، فبضرب من التكلف وبمرمى بعيد عن الحقائق، وإلا فأي نسبة بين المحدث والقديم، وكيف يشبه من لا يقبل المثل من يقبل المثل؟ هذا محال. كما قال أبو العباس بن العريف الصنهاجي في «محاسن المجالس» التي تعزى إليه: «ليس بينه وبين العباد نسب إلا العناية، ولا سبب إلا الحكم، ولا وقت إلا الأزل، وما بقي فعمى وتلبيس.» فانظر ما أحسن هذا الكلام وما أتم هذه المعرفة بالله وما أقدس هذه المشاهدة.»
13 (1) وحدة الوجود والمذهب الأفلاطوني الحديث
سبق أن ذكرنا أن في مذهب ابن عربي في وحدة الوجود عناصر استمدها من نظرية أفلوطين الإسكندري في «الواحد والكثير» ونظرية الأشاعرة في «الجوهر والأعراض»، وقررنا أن مذهبه في نهاية التحليل مذهب خاص به يختلف اختلافا جوهريا عن هاتين النظريتين، والآن نزيد القول تفصيلا في وجه الشبه ووجوه الاختلاف بين نظرية ابن عربي في تجلي الحق في صور الموجودات ونظرية أفلوطين في صدور الكثرة عن الواحد.
يبدأ التعدد في الوجود - على مذهب أفلوطين - بصدور العقل الأول عن «الواحد»، إذ العقل الأول وهو المعلول الأول مثلث الجهات، يصدر عنه باعتبار هذه الجهات الثلاث عقل ثان ونفس وجسم، وكذلك الحال في العقل القاني والعقل الثالث وما يليهما من العقول، وتستمر الصدورات حتى نصل في نهاية حلقات السلسلة إلى العالم الذي نعرفه، وإذن فليس «الواحد» هو هذا العالم ولا جزءا منه ولا شيئا فيه ولا وجها من وجوهه.
ولهذا ننكر أن نظرية الفيوضات الأفلوطينية نظرية في وحدة الوجود خلافا للكتاب الذين يميلون إلى اعتبارها كذلك. أما نظرية ابن عربي فنظرية في التجليات الإلهية، أي في الموجود الواحد المتجلي في الموجودات المتكثرة، لا في الموجود الواحد الذي فاضت عنه، عن طريق الوساطات، الموجودات المتكثرة. نعم قد يفسر فكرته عن صدور الكثرة من الواحد بأنه تفتح الصور الوجودية في النفس الرحماني، أو أنه تطور داخلي في ذات الحق ونحو ذلك مما يشعر بقربه من فكرة أفلوطين، ولكنه في الحقيقة أقرب إلى هيجل منه إلى أفلوطين: لأن كلمات «التفتح» و«التطور» و«التنزل» وما شاكلها كلمات لها دلالات منطقية لا واقعية؛ أي إنها كلمات لها مغزاها في نظرية مثالية في طبيعة الوجود قائمة على الجدل المحض كما يقول هيجل وليس في الوجود مجال لكثرة حقيقية ولا تعدد بأي معنى لموجودات مستقلة بعضها عن الآخر أو عن «الكل».
وظهور الكثرة عن الواحد في نظرية ابن عربي حركة دائرية لا مستقيمة كحركة الصدورات الأفلوطينية: فعند الأول يصدر عن الواحد كل شيء ويعود إليه كل شيء في حركة لا نهاية لها، أما عند الثاني فلا تلحق حلقة من حلقات سلسلة الصدورات بحلقة أخرى ولا تعود إلى الواحد، وكأن ابن عربي يرد على أفلوطين وينكر عليه نظريته وهو يقول:
فكان خروجنا من العدم إلى الوجود به سبحانه، وإليه نرجع كما قال عز وجل:
وإليه يرجع الأمر كله . ألا تراك إذا بدأت وضع دائرة فإنك تبتدئ بها لا تزال تديرها إلى أن تنتهي إلى أولها، وحينئذ تكون دائرة؟ ولو لم يكن الأمر كذلك، لكنا إذا خرجنا من عنده خطا مستقيما لم نرجع إليه، ولم يكن يصدق قوله - وهو الصادق -
وإليه ترجعون . فكل أمر وكل موجود فهو دائرة تعود إلى ما كان منه بدؤها.
14
وحدة الوجود والتجربة الصوفية
الغاية القصوى من الحياة الصوفية هي الوصول إلى الله عن طريق الحال التي يطلق عليها الصوفية اسم الفناء، وقد أفردنا لهذه الحال جزءا خاصا في الفصل الذي عقدناه عن «التوحيد». كما بينا كيف عالج قدماء الكتاب كأبي نصر السراج وأبي القاسم القشيري موضوع الفناء من حيث هو ظاهرة صوفية يجب أن تفسر على أساس أخلاقي أو نفساني أو أخلاقي ونفساني معا، وأنكروا أن يكون لهذه الحال صلة بدعوى فلسفية كالحلول أو الاتحاد أو الصيرورة: بمعنى أن الصوفي يفنى عن الأخلاق الذميمة ويبقى بالأخلاق الحميدة، ويفنى عن صفاته من علم وقدرة وإرادة ويبقى بصفات الله الذي له وحده العلم والقدرة والإرادة، وأخيرا يفنى عن نفسه وعن العالم حوله ويبقى بالله بمعنى أنه لا يشهد في الوجود إلا الله.
كان هذا هو المعنى الذي اتفق عليه جمهور الصوفية قبل أصحاب وحدة الوجود. فإذا ادعى أحد منهم أنه فني عن نفسه أو عن الخلق، كان معناه أنه غاب عن نفسه وعن الخلق، فلا علم له بهما ولا خبر، وأنه في هذه الغيبة يتصل بالحق ويشهده من غير حلول أو مزج أو صيرورة لأن الحق لا يحل في الخلق ولا يمتزج به ولا يصير أحد منهما الآخر ، ولكن إذا تكلم ابن عربي عن «الفناء» و«البقاء» فماذا يعني؟ إن فكرة وحدة الوجود عنده سابقة على التجربة الصوفية لا العكس، بمعنى أن الوحدة ليست شيئا (يحصل) في التجربة، أو أن القول بوحدة الحق والخلق شيء (يستنتج) من التجربة. بل إن العكس هو الصحيح، وهو أن التجربة الصوفية يمكن استنتاج إمكانها من فكرة - أو قضية - وحدة الوجود. لا يقوم مذهب وحدة الوجود إذن على التجربة الصوفية، بل يقوم إمكان التجربة على المذهب: وهذا هو موقف أفلوطين أيضا.
1
كانت قضية وحدة الوجود نقطة الابتداء في مذهب ابن عربي، وجاءت التجربة الصوفية لتحققها وتشهد بصحتها، وذلك لأنه لما حاول أن يتغلب بطريقة عقلية على التناقض بين الوحدة والكثرة، وجد بطريق الذوق الصوفي تأييدا لرفع هذا التناقض، فأحال من لا يفهم كلامه على الذوق الصوفي كما هو شانه دائما في مثل هذه المواقف.
التجربة الصوفية إذن حال تتحقق فيها الوحدة الذاتية بين الحق والخلق من غير أن يحل أحدهما في الآخر أو يصير أحدهما الآخر بأي معنى من معاني الصيرورة إذ لا حلول ولا صيرورة هناك، وإنما هو تحقق لأمر موجود بالفعل هو الاتحاد أو الوحدة. فإذا تكلم ابن عربي عن الفناء والبقاء بالمعنى الصوفي فإنما يعني أن الفناء عن «الجهل» بالوحدة الذاتية للموجودات والبقاء ب «العلم» بهذه الوحدة، وإذا تكلم عنهما بالمعنى الفلسفي فإنما يعني فناء الصور الوجودية وبقاء الذات الواحدة المتجلية في هذه الصور، وهذه هي حركة الخلق المستمر الذي يسميه ب «الخلق الجديد»، وهو يرى أن الفناء والبقاء بهذا المعنى أكمل في تقرير الوحدة في حين أن الفناء الصوفي أكمل في الشهود.
بهذا يربط ابن عربي بين نظريته في وحدة الوجود ونظريته في وحدة الشهود، وينظر إلى التجربة الصوفية باعتبارها المرحلة النهائية في الوصول إلى معرفة الحقيقة، وهنا يتفق ابن عربي من أفلوطين الذي يصف هذه الحال بقوله: «هي إدراك الأزلي بالاتصال به اتصالا مباشرا في وحدة تتحقق فيها النفس من صلتها بالعقل
Nous .
2
إن النفس تشاهد الواحد لا باعتباره شيئا خارجا أو غريبا عنها، بل باعتباره فيها وقائما بها، فتفنى عن ذاتها باتصالها التام به، وهذه حالة فوق طور العقل والعلم.»
3
والغريب أن يتفق ابن عربي وأفلوطين في النتائج الصوفية التي وصلا إليها على الرغم من اختلافهما في فلسفتيهما، وابن عربي في نظرنا أقرب الفيلسوفين إلى المنطق: لأن النفس الجزئية الإنسانية التي تشاهد «الواحد» في ذاتها لم تكن في أية لحظة من اللحظات شيئا منفصلا عنه في مذهب ابن عربي، أما على مذهب أفلوطين فهي فيض بعيد الصلة بالواحد، ولكنها تتصل به وتتحقق بوحدتها معه في حالة الوجد الصوفي.
ثورة التصوف في مجال الحب الإلهي
ورد في القرآن وصف الله تعالى بأنه جبار، متكبر، قهار، معز، مذل، سريع الحساب، إلى غير ذلك من الصفات التي يسميها الصوفية «صفات الجلال»، وكذلك وردت آيات تصور آثار هذه الصفات في عالم الخلق فيما أنزله الله وما زال ينزله بالكفار والعاصين من ضروب المحن والانتقام، وما أعد لهم في الدار الآخرة من صنوف العذاب، كل ذلك بأسلوب قوي مؤثر يشيع الرعب في القلوب وتقشعر منه الأبدان.
ولكن في القرآن طائفة أخرى من الآيات يصف الله فيها نفسه بصفات الجمال من رحمة بعباده، ومحبة لهم وشفقة عليهم وغفران لذنوبهم، ويذكر ما أعده للمؤمنين الأبرار في الدار الآخرة من ضروب النعيم.
وقد كان لكل من هاتين الطائفتين من الآيات أثره الظاهر في مراحل تطور التصوف الإسلامي المختلفة، ففي مرحلة الزهد المحض حيث كان التصوف بسيطا ساذجا، وإيمان المسلمين غضا قويا، استجاب الزهاد للطائفة الأولى من الآيات القرآنية أكثر من استجابتهم للثانية، فبالغوا في تصوير المعاصي أيا كان نوعها، واستولى على قلوبهم الرعب والخوف من الله وعذابه، بل كان الخوف هو الباعث الأكبر في كل ما أتوا به من طاعة وعبادة.
وفي المراحل التالية ابتداء من القرن الثالث أو قبل ذلك بقليل، استجاب أتقياء المسلمين للطائفة الثانية من الآيات، وحل في قلوبهم حب الله محل الخوف منه، وأصبح ذلك الحب الباعث الأول في كل ما أتوا به من أعمال الطاعة والعبادة.
وبذلك ظهر في التصوف الإسلامي منذ عصر مبكر نزعتان: تتمثل النزعة الأولى في المسلم الزاهد الذي نظر إلى الله نظرته إلى قوة هائلة قاهرة قادرة على كل شيء، مهيمنة على كل شيء، مريدة لكل شيء، لا تجري في الكون حركة ولا سكنة إلا بأمر الله وطوع إرادته: يبطش بمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء.
وقد نظر هؤلاء الزهاد إلى العالم نظرتهم إلى شيء بغيض حقير يجب الفرار منه وعدم الركون إليه، وعدم الاغتباط بأمر من أموره، ولو كان ذلك الأمر لذة الطاعة، ولذا غلب عليهم الحزن والكمد والخوف والبكاء، وشاع في نفوسهم التشاؤم، ومن الأمثلة الواضحة لمثل هؤلاء زهاد الصحابة والتابعين، ومن زهاد القرن الثاني إبرهيم بن أدهم وشقيق البلخي، وقد فصلنا القول في ذلك فيما ذكرناه عن الدور الأول من أدوار التصوف.
أما رجال المرحلة الثانية وما يليها فتقوم نزعتهم الصوفية - أو فلسفتهم الصوفية إن صح هذا التعبير - على أساس أن أهم صفات الألوهية ليست الإرادة المطلقة المسيطرة على كل شيء، بل الجمال المطلق والحب المطلق المنبثين في سائر أنحاء الوجود، والعالم في نظرهم مظهر من مظاهر الإرادة الإلهية من غير شك، ولكنه فوق ذلك مرآة ينعكس على صفحتها الجمال الإلهي، وصورة يتجلى فيها الحب الإلهي، والله الذي صوره أوائل الزهاد بصورة «المعبود» الذي يجب أن يذل له العبد ويخشاه، صوره هؤلاء بصورة «المحبوب» الذي يحبه العبد، ويناجيه ويستأنس بقربه ويطمئن إلى جواره، ويشاهد جماله في قلبه وفي كل ما ظهر في الوجود من آثاره.
بل إن بعضهم ذهب إلى القول بأن «الحب الإلهي» هو سر خلق الله العالم؛ لأنه تعالى أراد أن يكشف عن سر جماله الأزلي ليظهره في صفحة الوجود ليكون دليلا عليه كما قال تعالى عن نفسه في حديث قدسي: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني.»
1
وكان من نتائج هذه النزعة ظهور نظرية الحب الإلهي وذيوعها في أوساط الصوفية طوال العصور، وظهور فكرة الجذب الصوفي وفكرة الاتصال بالله.
لا مجال إذن للقول بأن نظرية الحب الإلهي نظرية ليست إسلامية، أو أنها لا سند لها من القرآن والحديث، وأنها أمر استحدث عند المسلمين عندما تأثروا بأصحاب الديانات الأخرى كالمسيحية والمانوية، وإن كان لهاتين من غير شك أثر غير قليل في تشكيل هذه النظرية وأساليب التعبير عنها. لقد صرح القرآن بأن الله يحب ويحب في مثل قوله تعالى:
يحبهم ويحبونه ،
2
وقوله:
والذين آمنوا أشد حبا لله .
3
ويحكى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما سأله أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، ما الإيمان؟ أنه قال: «أن يكون الله ورسوله أحب إليك من سواهما»، وفي حديث آخر قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما.»
ويروى عنه أنه كان يقول في دعائه: «اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك، واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد.»
4
ووصف الله نفسه بأنه
الغفور الودود ،
5
وبأنه قريب من عبده إذا دعاه، وبأنه سميع الدعاء، وأنه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وغير ذلك من الآيات التي تفيض عطفا وحنانا ورحمة بالعباد. بل إنه تعالى أراد أن يكون حبه لعباده حظا مشتركا بينهم جميعا لا تستأثر به أمة دون أمة ولا طائفة دون طائفة، قال في معرض لوم اليهود والنصارى:
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ،
6
فهو ينكر عليهم أنهم يقصرون هذا الوصف على أنفسهم في حين أن كل مؤمن خليق به.
وفي القرآن آيات كثيرة تشير إلى أن الله يحب كذا ولا يحب كذا، كقوله تعالى:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ، وقوله:
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ،
7
وقوله:
إن الله لا يحب المعتدين ،
8
وقوله:
والله لا يحب المفسدين .
9
أما الأحاديث النبوية التي ورد فيها ذكر الحب الإلهي، فتتجاوز في عددها ومعانيها ما ورد في القرآن في هذا الصدد، ولا شك أن كثيرا منها قد وضع للتعبير عن الأفكار الصوفية التي نمت تحت تأثير عوامل خارجية ظهر أثرها في التصوف منذ منتصف القرن الثاني الهجري، ومن الأحاديث الصحيحة التي يكثر الصوفية من روايتها والتعليق عليها، الحديث القدسي الذي يقول الله تعالى فيه: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، إلخ.»
فظاهر من كل ما تقدم أن في القرآن والحديث نصوصا صريحة الدلالة على محبة الله لعباده ومحبة عباده له، وأن هذا أمر لا يجحده إلا جاهل أو مكابر. أما أن هذه البذور الأولى قد نمت في البيئة الإسلامية تحت تأثير ثقافات أجنبية حتى ظهر عنها نظرية بل نظريات في الحب الإلهي، فهذا أمر يجب أن نسلم به وإن كان يجب ألا نبالغ في شأنه، وأقوى المصادر الأجنبية تأثيرا في نظريات الحب الإلهي عند المسلمين: المسيحية والمانوية والأفلاطونية الحديثة. (1) موقف المسلمين من الحب الإلهي
خضعت مسألة الحب الإلهي عند المسلمين لمعايير مختلفة ووجهات نظر متباينة تبعا لتباين فرق المسلمين في فهمهم وتصورهم لمعنى الألوهية والصلة بين الله وخلقه، فإنه على الرغم من ورود صريح الآيات والحديث في أن الله يحب ويحب، أنكرت بعض طوائف المسلمين أنه يحب ويحب على الحقيقة، وقالت أن ما ورد في الشرع مما يشير إلى ذلك لا يعدو أن يكون ضربا من المجاز، وأن الله لا يحب ولا يحب لأن المحبة لها من اللوازم ما لا يليق بالجناب الإلهي كالشوق والأنس والمناجاة والمشاهدة وتبادل اللذة ونحو ذلك من صفات المخلوقات التي يجب أن يتنزه الله عنها، وأقصى ما ذهبوا إليه من التأويل هو أن قالوا إن المراد بمحبة العبد لله طاعته ودوام خدمته، وأن المقصود بمحبة الله للعبد كلاءته ورحمته، أو قالوا - كما قال بعض المتكلمين - إن المحبة إحدى الصفات التي وصف بها الباري نفسه (في مثل
يحبهم ويحبونه )، فيجب الاعتقاد بها وعدم النظر في ماهيتها وكيفيتها.
أما الصوفية فمنهم من كان أكثر تحفظا وأدنى إلى مذاهب المتكلمين مثل الهجويري الذي يفسر محبة الله للعبد بأنها صفة من صفات الله كالرضا والغضب والرحمة ونحوها، ومعناها عنايته تعالى بالعبد ومجازاته له في الدنيا والآخرة، وعصمته إياه من الذنوب والآثام، ومنحه إياه رفيع المقامات والأحوال، وشغله قلبه به وحده. فإذا اختص الله عبدا من عباده بهذا الاختصاص فقد أحبه. أما حب العبد لربه فهو صفة أو معنى يظهر في قلب العبد بصورة التعظيم والإجلال للمحبوب، بحيث يطلب رضاه دائما ويجزع من بعده، ويأنس بذكره ويستوحش من ذكر غيره، ويقطع جميع علائقه بالخلق ويتجه بكليته نحو ساحة الحق وحده.
ولكن من الصوفية من لم يستبشع شيئا من معاني الحب ومستلزماته عند كلامهم في حبهم لله أو حب الله لهم، بل اعتبروا ذلك الحب حقيقة واقعة اختصوا بها وعرفوها في تجاربهم وشعروا بلذتها، وأن لوازم المحبة من شوق وحنين وأنس ومناجاة ولذة قرب وألم بعد، إنما هي حقائق أدركوها في مواجيدهم، وأن المحبة أمر متبادل بين الله وعبده: فالله يشتاق إلى العبد ويطلب قربه كما يشتاق العبد إليه ويطلب قربه، والله يناجي ويغار عليه كما يناجيه العبد ويغار عليه، إلى غير ذلك من صفات المحبة ولوازمها. أما المواظبة على طاعة الله وخدمته فهي عندهم فرع المحبة وليست مرادفة لها كما ذهب إليه بعض الأوائل، وقد حاول الغزالي أن يجد أساسا عقليا لحب الإنسان لله، فقسم المحبة إلى خمسة أنواع وقال إن هذه الأنواع لا يتصور كمالها ولا اجتماعها إلا في حب الله. أما أنواع المحبة فهي: (1) محبة الوجود. (2) محبة من يرجع إليه دوام الوجود. (3) محبة المحسن إلى الغير. (4) محبة كل ما هو جميل في ذاته. (5) محبة من كان بينه وبين المحبوب مناسبة.
أما أن هذه الأنواع لا يتصور كمالها ولا اجتماعها إلا في حب الله، فذلك لأن العبد إذا أحب وجوده قد أحب الله لأنه واهب هذا الوجود، وإذا أحب دوام وجوده فقد أحب الله لأنه هو الذي يديم عليه وجوده، وإذا أحب المحسن إليه فقد أحب الله المحسن المسبغ النعم ، وإذا أحب الجمال فقد أحب الله الذي هو مصدر كل جميل، أو لأنه هو الجميل على الحقيقة. أما عن النوع الخامس، فيرى الغزالي أن المناسبة موجودة بين العبد وربه، المحب والمحبوب؛ إذ العبد فيه الروح التي هي من أمر الله، والتي من أجلها استحق الإنسان الخلافة عن الله كما استحق أن تسجد له الملائكة.
10 •••
فمحبة الله إذن في نظر هؤلاء الصوفية أمر مشروع ممكن، بل أمر واقع محقق ، ولكنها حال ذوقية كسائر أحوال الصوفية لا نستطيع لها شرحا ولا تفسيرا ولا نملك لها تعبيرا، هي حال تجل عن الوصف وتلطف عن العبارة كما يقول القشيري «ولكنها تحمل العبد على التعظيم لله وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه والاهتياج إليه، وعدم القرار من دونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره.»
11
ولم يكن التحول من إنكار الحب الإلهي إلى الاعتراف به في دوائر الفقهاء والصوفية سريعا ولا مفاجئا، بل ظلت المسألة معلقة زمنا، مترددة بين الأخذ والرد، حتى قبل الفقهاء نوعا من الحب لا يتجه إلى موضوع الشخص، بل إلى فكرة أو مثال يرمز إليه بموضوع محسوس، وكان هذا النوع من الحب أشبه شيء بالحب العذري. فلما اعترف الفقهاء به، التمس فيه الصوفية تأييدا لمذهبهم في الحب الإلهي، وعن هذا الطريق - فيما أعتقد - اعترف الفقهاء وأوائل الصوفية على السواء بإمكان الحب الإلهي المجرد عن التشخيص والتجسيم.
نعم قد يرمز الصوفية للمحبوب الإلهي بموضوعات مشخصة مجسمة ترد أسماؤها في قصائدهم، بل قد ينشدون في محافلهم قصائد من صميم الغزل الإنساني، ويلحظون فيها معاني ومغازي إلهية، ولكن هذا ليس إلا من قبيل الرمز والإشارة إلى معان تسمو على التصريح والتعبير، وإلى هذا المعنى يشير قائلهم بقوله:
أسميك لبنى في نسيبي تارة
وآونة سعدى وآونة ليلى
حذارا من الواشين أن يفطنوا بنا
وإلا فمن لبنى فديت ومن ليلى؟
12
لم يقف الأمر بالصوفية عند مجرد الكلام في الحب الإلهي باعتباره حالا من الأحوال التي يعالجونها في تجاربهم، بل ظهرت لهم فيه نظريات واتجاهات اختلفت باختلاف نزعاتهم الصوفية العامة وثقافتهم وأمزجتهم.
وظهرت أول نظرية في الحب الإلهي في مدرسة البصرة، وكان ظهورها عند جماعة لقبوا بالزنادقة، أو زنادقة الزهاد، وهو اسم أطلقه عليهم أبو داود السجستاني المتوفى سنة 275،
13
ومن هؤلاء رابعة العدوية (توفيت سنة 185)، ورياح بن عمرو القيسي (المتوفى سنة 188)،
14
وحبان (أو ابن حبان) الحريري، وأبو حبيب العجمي، وقد أطلق هذا الاسم أيضا على عبد الواحد بن زيد (المتوفى سنة 177)، وكليب، وعبدك الصوفي الشيعي، وامرأة رياح القيسي، وأبي العتاهية الشاعر.
ولا شك أن ظهور الكلام في الحب الإلهي في بيئة البصرة في صورة قوية ناضجة له مغزاه، وإن كنا لا نعرف الكثير عن الظروف التي أحاطت برجال مدرستها، ولكنا نعرف على الأقل أن منهم من كان متأثرا بالفلسفة المانوية التي عرفت بنظرية خاصة في الحب الإلهي خلاصتها أن أرواح الأبرار ذرات نورانية انبثقت من ينبوع النور الأعظم، فهي دائما تنجذب إليه وتحن إلى العودة إليه، وتحاول جاهدة الفرار من هياكلها المظلمة، فغايتها التحرر من ربقة عبوديتها، والانطلاق من سجنها الأرضي.
وأول من تغنى بنغمة الحب الإلهي من هذه الطبقة في إخلاص وصدق، كانت رابعة العدوية التي أحبت الله لذاته، لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، وكان أقصى أمانيها أن يكشف الله لها عن وجهه الكريم ويرفع عن قلبها الحجب التي تحول دون مشاهدته، وفي هذا تقول مخاطبة الذات الإلهية:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
وأما الذي أنت أهل له
فلست أرى الكون حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
فهي تتحدث عن نوعين من الحب لله، حب له من أجل غرض تنشده ومنفعة تطلبها، أو هو حب أناني تسميه «حب الهوى»، والحب الثاني حب لله تعالى من حيث هو، وهو حب الإيثار المنزه عن الأغراض الشخصية والشهوات، وفي هذا الحب لم تر رابعة شيئا من الكون إلا ورأت الله فيه.
أدركت رابعة العدوية سر الحياة الصوفية وجوهرها ، وذلك السر هو إنكار الذات وفناء المحب في المحبوب. إذ لا يعرف الله المعرفة الحقة، ولا يحب الحب الحقيقي، وفي النفس أدنى شعور بذاتها وبالعالم المحيط بها، وفي هذا تتفق رابعة مع صوفية المسلمين الذين تغنوا بنغمة الحب الإلهي من بعدها، بل مع صوفية غير مسلمين من أصحاب الديانات الأخرى، يقول أبو عبد الله القرشي: «حقيقة المحبة أن تهب كلك من أحببت فلا يبقى لك منك شيء»، ويقول الشبلي: «سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب كل ما سوى المحبوب.»
15
صارت المحبة الإلهية من بعد رابعة المحور الذي تدور عليه الحياة الصوفية والهدف التي تتجه إليه، وظهر في القرن الثالث خاصة رجال عرفوا بنظريات فيها، منهم: الحارث بن أسد المحاسبي، والجنيد، ويحيى بن معاذ الرازي، وسري السقطي، وذو النون المصري، وسهل بن عبد الله التستري، وسمنون بن حمزة، وأبو بكر الشبلي، وغيرهم. ثم بلغت فكرة الحب الإلهي ذروتها في فلسفة أصحاب وحدة الوجود.
وكلهم مجمع على أن الله كعبة آمال السالكين، وأن محبته خير طريق مؤدية إليه، ولكنهم يختلفون في تصوير العلاقة بين المحب والمحبوب والصلة بين المحبة وغيرها من مظاهر الحياة الروحية وأثرها في الأخلاق الصوفية بوجه عام.
ونستطيع أن نقسم نظريات الصوفية في الحب الإلهي إلى قسمين كبيرين: أولهما النوع الخالص أو البحت الذي لا دخل للفلسفة فيه، وثانيهما النوع الذي يتسم بسمة وحدة الوجود أو ما يقرب منها كمذهب القائلين بالاتحاد أو بالحلول.
المحبة الإلهية في التصوف البحت
ظهر هذا النوع من المحبة الإلهية في جميع عصور التصوف وتكلم فيه كل صوفي صفت له الحال - حد قول الغزالي - وكان له نصيب من حياة الكشف والإشراق، ولكن من المستحيل علينا أن نناقش هنا أقوالهم جميعا أو أقوال أكثرهم فهي مما لا يدخل تحت حصر نثرا ونظما؛ ولذلك سنقصر كلامنا على أقوال عدد قليل من الصوفية ممن كانت لهم نظريات خاصة في المحبة الإلهية لها أثرها في الأوساط الصوفية من بعدهم، وقد اخترنا لهذا الغرض أربعة من رجال القرن الثالث، وهو العصر الذهبي للتصوف الإسلامي البحت، هم: الحارث المحاسبي (المتوفى سنة 243)، وأبو القاسم الجنيد (المتوفى سنة 298)، وذو النون المصري (المتوفى سنة 245)، وأبو يزيد البسطامي (المتوفى سنة 260)؛ وواحد من متصوفة القرن السابع هو سلطان العاشقين الصوفي الشاعر الكبير عمر بن الفارض (المتوفى سنة 632). (1) الحارث المحاسبي
هو أعظم مؤلف صوفي في القرن الثالث الهجري، وأستاذ الغزالي في معالجة المسائل الصوفية وعرضها وتحليلها وتعميق معانيها والربط بينها وبين المعاني الدينية الإسلامية. فكتابه «الرعاية» من المصادر الرئيسية التي يظهر أثرها بوضوح في كثير مما ذكره الغزالي في إحيائه. أما أقواله في المحبة الإلهية خاصة فقد أفرد لها رسالة عنوانها «في المحبة»، ضاع أصلها ولم يبق منها إلا شذرات حفظها لنا أبو نعيم الأصفهاني في كتاب «الحلية»،
1
وفي هذا النص الدقيق الهام يتكلم المحاسبي عن «المحبة الأصلية» وعن الصلة بين المحبة والشوق ونور كل منهما في القلب، وعما يطفئ هذا النور بعد إسراجه، وما يترتب على ذلك الانطفاء من آثار، فيقول ردا على سؤال سأله بعض أصدقائه عن المحبة الأصلية: (هي) حب الإيمان، وذلك أن الله تعالى قد شهد للمؤمنين بالحب فقال:
والذين آمنوا أشد حبا لله ،
2
فنور الشوق من نور المحبة، وزيادته من حب الوداد، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد، فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان، فإذا أمن على العمل من عدوه، لم يجد لإظهاره
3
وحشة السلب، فيحل العجب وتشرد النفس مع الدعوى وتحل العقوبات
4
من المولى. وحقيق على من أودعه الله وديعة من حبه فدفع عنان نفسه إلى سلطان الأمان «أن» يسرع به السلب إلى الافتقاد.
في هذا الشطر الأخير من عبارة المحاسبي مسحة ملامتية واضحة؛ لأن من أهم أصول الملامتية عدم الاطمئنان إلى الأعمال مهما عظمت وبلغت من الصلاح؛ لأن الشعور بالأمان وحسن الظن بالأعمال يولد في النفس العجب ويدفعها إلى الدعوى، ومن أمن على عمله واطمأن إليه صدئت نفسه وقام العمل حجابا بينه وبين ربه، فلا يشعر عند إظهاره لعمله ومباهاته به بوحشة السلب؛ أي وحشة حرمان الله له من حبه وكرامته. فإذا أمعن في عجبه ودعواه، انقلب ذلك السلب المؤقت سلبا دائما، وهو ما يشير إليه المحاسبي بكلمة «الافتقاد».
وتظهر أفكار «الملامتية» مرة أخرى في نظرية المحاسبي في الحب الإلهي في قوله على لسان أحد العباد: «إن النفس إذا حضرت أمرا في القلب من ميراث القربة قذفت فيه أسباب الكدورات.»
5
فإن النفس في تعاليم الملامتية أعدى أعداء الإنسان، فإذا حضرت في القلب - أي حضر جنودها من شهوات ورغبات - وكان في القلب أثر من آثار المحبة الإلهية والقربة، عكرت صفاء القلب ومحت منه ذلك الأثر. فالمحبة لله لا تصفو ولا تخلص إلا إذا تحرر القلب الصوفي من مزاحمة نوازع القلب.
وفي وحدة الحب والشوق وشواهد المحبة يقول المحاسبي:
فلذلك قيل: الحب هو الشوق؛ لأنك لا تشتاق إلا إلى حبيب، فلا فرق بين الحب والشوق إذا كان الشوق فرعا من فروع الحب الأصلي، وقيل إن الحب يعرف بشواهده على أبدان المحبين وفي ألفاظهم وكثرة الفوائد عندهم لدوام الاتصال بحبيبهم. فإذا واصلهم الله أفادهم، فإذا ظهرت الفوائد عرفوها بالحب لله. ليس للحب شبح ماثل ولا صورة فيعرف بجبلته وصورته، وإنما يعرف المحب بأخلاقه وكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه بحسن الدلالة عليه
6
وما يوحي إلى قلبه. فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه، نطق اللسان بفروعها. فالفوائد من الله واصلة إلى قلوب محبيه. فأبين شواهد المحبة لله شدة النحول بدوام الفكر وطول السهر بسخاء النفس بالطاعة، وشدة المبادرة خوف المعاجلة،
7
والنطق بالمحبة على قدر نور الفائدة؛ فلذلك قيل إن علامة الحب لله حلول الفوائد من الله بقلب من اختصه الله بمحبته، وأنشد بعض العلماء:
وله خصائص يكلفون بحبه
اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقهم
بودائع وفوائد وبيان
8
اقتبسنا هذا النص الطويل برمته لأهميته، ففيه وصف شامل للصوفي الذي استولى عليه سلطان المحبة الإلهية، وبيان لأخلاقه وأحواله مع محبوبه، وإشارة صريحة إلى أن المحبة لله ثمرة الجهاد النفسي والجسماني. بعبارة أخرى، فيها إشارة إلى أن الحياة الصوفية وما فيها من إشراق وإلهام ومحبة ثمرة من ثمرات الزهد في الدنيا وكل ما سوى الله؛ فإن الطريق الوحيد للوصول إلى المحبوب هو الزهد في كل شيء غيره، سئل أبو يزيد البسطامي: «بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟» (أي المعرفة الصوفية التي أساسها المحبة)، فقال: «ببطن جائع وبدن عار.»
9
وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لأخ له في الله: «إن كنت تحب أن تكون لله وليا وهو لك محبا؛ فدع الدنيا والآخرة ولا ترغبن فيهما، وفرغ قلبك منهما، وأقبل بوجهك على الله يقبل الله بوجهه عليك ويلطف بك؛ فإنه بلغني أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام: يا يحيى قضيت على نفسي ألا يحبني عبد من عبادي أعلم ذلك منه، إلا كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي يتكلم به، وقلبه الذي يفهم به. فكلما كان كذلك، بغضت إليه الاشتغال بغيري، وأدمت فكرته وأسهرت ليله وأظمأت نهاره.»
10
وربما كان أبرز شيء في عبارة المحاسبي إشارته إلى «الفوائد» الروحية التي يلقيها الله في قلوب محبيه فتنطق بها ألسنتهم، ويكون النطق بالمحبة على قدر نور الفائدة، وليس لنا أن نتكلم عن ماهية تلك الفوائد وكيفياتها فهي من صميم الحياة الصوفية التي لا يعلمها إلا الذين يعالجونها، ولكن أقرب ما نستطيع أن نصفها به أنها تلك المعاني الذوقية التي يشعر بها الصوفي في حال قربه من الله كالشعور بالأمن والطمأنينة والغبطة والحرية من أسر الأنانية ونحو ذلك. (2) أبو القاسم الجنيد
بأبي القاسم الجنيد البغدادي وصل التصوف الإسلامي في القرن الثالث إلى ذروته، وهو من غير شك أعمق صوفية هذا القرن روحانية وأكثرهم خصبا، كما أنه أكثرهم دقة وأعسرهم فهما، وقد كان للصوفية قبل الجنيد لمحات إشراق وإشارات إلى بعض جوانب الحياة الروحية، ولكن الجنيد وقف من هذه الحياة في القمة، ونظر إلى ميدان التصوف نظرة شاملة، ووضع كما يضع الفنان الماهر صورة كاملة جامعة للتصوف لم يسبقه إليها سابق، وأفرغ هذه الصورة في قالب تحليلي عميق في رسائله وخطاباته القصيرة إلى إخوانه.
11
ولا يمكن فهم نظرية الجنيد في «المحبة الإلهية» إلا في ضوء نظريات أخرى له هي أعم وأشمل: أعني نظرياته في التوحيد والفناء وحقيقة الروح الإنسانية، وقد شرحنا نظريته في التوحيد في مكان آخر من هذا البحث، ولكنا مع ذلك لا نرى بأسا من ذكر بعض معالم هذه النظرية مرة أخرى لصلتها الوثيقة بموضوعنا هنا.
يرى الجنيد أن أرواح البشر آمنت منذ الأزل بالله وأقرت بتوحيده وهي لم تزل بعد في عالم الذر وقبل أن يخلق الله العالم والأجسام المادية التي هبطت تلك الأرواح إليها، وأن هذا هو «التوحيد» الكامل الخالص لأنه صدر عن أرواح مطهرة مجردة عن أعراض البدن وآفاته، موجودة لا بوجودها المتعين الخاص، بل وجود الحق ذاته، وفي ذلك يقول: «فقد أخبرك عز وجل (أي في آية الميثاق وهي:
وإذ أخذ ربك من بني آدم
إلخ) أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم؛ إذ كان واجدا للخليقة بغير معنى وجوده لأنفسها، بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ولا يجده سواه، فقد كان واحدا محيطا شاهدا عليهم، أبديا في حال فنائهم.»
12
وقد أنزل الله هذه الأرواح من عليائها إلى عالمنا هذا وألبسها أبدانها قصدا للبلاء والاختبار، فشغل بعضها بأعراض الدنيا ونسي أصله وموطنه، وحن بعضها إلى العودة إلى ذلك الأصل وجعل غايته الوفاء بذلك الميثاق الذي أخذه الله عليه والرجوع إلى تلك الحال التي كان عليها قبل أن يوجد في هذا العالم. فإذا تم لهذه الأرواح ما أرادت، وحدت الله التوحيد الكامل الخالص - أو ما يقاربه - وفنيت عن وجودها الزمني وبقيت بالله وحده، وفي هذا الفناء في الحق يتحقق معنى الحب له؛ إذ الفناء عن الذات المتعينة هو عين المحبة لمن تبقى الذات حية فيه ولا تشهد سواه. فالفناء في الحق قد تحقق أزلا - في نظر الجنيد - إذ لم يكن في الأزل سوى الله، والفناء هو مطلوب الصوفية الآن.
وعبارة الجنيد صريحة في أن أرواح البشر قديمة أزلية قبل هبوطها إلى عالم الأجساد، حادثة زمنية بعد هبوطها، وأن وجودها الأزلي كان بوجود الله، وأن فناءها الأزلي معناه انعدام تعينها وتشخصها. أما وجودها الزمني فبإيجاد الله إياها على نحو آخر، والفرق بين الوجودين هو الفرق بين مقامي الجمع والتفرقة في العرف الصوفي.
ووجود الإنسان في العالم على الصورة التي هو عليها مرده إلى إرادة الله، ولكن الله القاهر الغالب يريد أيضا أن يقهر ذلك الوجود الإنساني بفيض الوجود الإلهي عليه، بحيث يفنى الإنسان عن وجوده الخاص ويمحى رسمه. يقول الجنيد:
ولذلك قلنا إنه إذا كان واجدا (موجدا) للعبد يجري عليه مراده من حيث يشاء بصفته المتعالية التي لا يشارك فيها، وكان ذلك الوجود أتم الوجود وأمضاه لا محالة، وهو (أي الوجود) أولى وأغلب وأحق بالغلبة والقهر وصحة الاستيلاء على ما يبدو عليه (أي على الإنسان) حتى يمحى رسمه ويذهب وجوده إذ لا صفة بشرية.
13
ويتحقق هذا الاستيلاء والقهر - وهو استيلاء الوجود الإلهي على الوجود الإنساني - في حال الفناء أو حال الحب لله. أو قل إنه هو بعينه الفناء في الله والحب له. قال الله عز وجل: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.» هذا هو استيلاء الوجود الإلهي على وجود العبد المحب، ومعناه كما يقول الجنيد أن الله يؤيده ويوفقه ويهديه ويشهده ما شاء كيف شاء بإصابة الصواب وموافقة الحق، وذلك فعل الله عز وجل فيه، وما وهبه له (أي للعبد) منسوب إليه لا إلى الواجد له؛ لأنه لم يكن عنه ولا منه ولا به، وإنما كان واقعا به من غيره (وهو الله) وهو لغيره أولى، وبه (أي بهذا الغير) أحرى.
14
وفي هذا الشرح ما يكفي لأن يدفع عن الجنيد تهمة الحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود، فإنه لا حلول هناك ولا اتحاد ولا صيرورة من أي نوع، وإنما يستولي الحق على العبد الفاني في حبه فتصدر عنه حركاته وسكناته بتحريك الحق إياه، فتكون الحركة للحق على الحقيقة وللعبد في الظاهر. يقول الجنيد في وصف المحب صاحب هذه الحال:
عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته وصفاء شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه. فإذا تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكت فمع الله. فهو بالله ولله ومع الله.
15
إن جوهر التصوف عند الجنيد هو الفناء عن الذات والبقاء بالله، أو هو الوصول إلى حال يكون فيها الحق سمع العبد وبصره على حد تعبير الحديث القدسي، وفي هذه الحال يصبح الوجود الذاتي المتعين وجودا أتم وأكمل عن طريق البقاء بالله، وفي الله، ولكنها حال لا تدوم، فإن العبد يعود بعدها إلى حال من الصحو يشعر فيها باثنينية المحب والمحبوب، فيستأنف الحنين إلى محبوبه من جديد ويشتاق إلى الاتصال به، وهكذا يتردد الصوفي بين حالتي الفناء والبقاء، أو حالتي الجمع والفرق: الاتصال بالمحبوب والانفصال عنه، أو حالتي الغيبة والحضور، وفي الحالة الأولى يحس الصوفي بسعادة ليس فوقها سعادة إذ يحيا بكليته في محبوبه، وفي الثانية يشعر بالغصة والحسرة لتوقف المشاهدة.
وقد ذكرنا كل ذلك على أنه نظرية الجنيد في «الفناء»، والحقيقة أنه عين نظريته في الحب الإلهي أيضا: إذ الفناء الصوفي والحب الإلهي وجهان لحقيقة واحدة، والصوفي الفاني هو الصوفي المستغرق في حب الله. فبالحب الإلهي يحيا الصوفي، وفي تمام الحب وكماله يكرس حياته ومجاهداته، فإذا تحقق له ذلك فقد وفى بالميثاق الذي قطعه على نفسه أمام الله في عالم الذر، وحظي بالاتصال به وبمشاهدته، وإذا انقطعت عنه مشاهدة محبوبه - وذلك في حال صحوه - اتجه إلى الآثار الجميلة في عالم الخلق فاستأنس بها ومنحها حبه لأنها آثار محبوبه. يقول الجنيد: «ومن ها هنا (أي في حالة الفقد) عرجت نفوس العارفين إلى الأماكن النضرة والمناظر الأنيقة والرياض الخضرة - وكان ما سوى ذلك عذاب عليهم - مما تحن إليه من أمرها الأول الذي تشمله الغيوب ويستأثر به المحبوب.»
16 (3) ذو النون المصري
أما أبو الفيض ذو النون المصري: فما يقال عن أقواله في المسائل الصوفية بوجه عام، يقال عن أقواله في المحبة الإلهية بوجه خاص، وهو أنها موضع شك الباحثين في تفاصيلها على الأقل؛ وذلك لأن شخصيته في العالم الإسلامي شخصية شبه أسطورية حيكت حولها القصص المتصلة بالكرامات وخوارق العادات، ونسبت إليها الأقوال التي يتعذر في كثير من الأحيان التأكد من أصالتها.
ولكن الذي لا شك فيه هو أن ثقافة ذي النون تتصل اتصالا وثيقا بالتراث المصري اليوناني الذي كان شائعا في مصر إلى عهده، يدل على ذلك ما أثر عنه من أقوال في المعرفة الصوفية وفي المقامات والأحوال والمحبة الإلهية، وهو في كل هذا واقع تحت تأثير الفلسفة الأفلاطونية الحديثة المتأخرة والفلسفة الهرمسية، وبهذا يختلف عن الحارث المحاسبي والجنيد من مدرسة بغداد، وعن أبي يزيد البسطامي والترمذي من مدارس شرقي إيران.
وأسلوب ذي النون في المحبة الإلهية أسلوب قوي متأجج العاطفة، لا هو بالأسلوب الهادئ المنبعث رأسا من تعاليم الدين كأسلوب المحاسبي، ولا هو بالأسلوب الميتافيزيقي الغامض المتغلغل في أعماق التحليل الصوفي كأسلوب الجنيد، بل هو أسلوب واضح رقيق جميل تغلب عليه الشاعرية وتتدفق فيه العاطفة الدينية؛ ولهذا كانت أقواله في المحبة الإلهية أبلغ أثرا في أوساط الصوفية من أقوال غيره.
وقد يقال إن في بعض ما أثر عنه من أقوال في المحبة الإلهية نفحة من نفحات وحدة الوجود؛ لأنه لا يرى في الوجود شيئا إلا رأى الله فيه، ولكن القول بوجود نظرية في وحدة الوجود في هذا العصر المبكر من عصور التصوف مبالغة لا مبرر لها، والأولى أن توصف أقوال أمثال ذي النون المصري والجنيد، بل وأبي يزيد البسطامي، بأنها نفثات قلوب فاضت بالمحبة الإلهية واستبدت بها وحدة الشهود لا وحدة الوجود كما أشرنا إلى ذلك مرارا.
يقول ذو النون في أحد أدعيته:
إلهي ما أصغي إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنم طائر ولا دوي ريح ولا قعقعة رعد، إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك، دالة على أنه ليس كمثلك شيء وأنك غالب لا تغلب، وعالم لا تجهل، وحليم لا تسفه، وعدل لا تجور. إلهي فإني أعترف لك بما دل عليه صنعك، وشهد له فعلك. فهب لي اللهم طلب رضاك برضاي، ومسرة الوالد لولده بذكرك لمحبتي لك، ووقار الطمأنينة وتطلب العزيمة إليك؛ لأن من لم يشبعه الولوع باسمك، ولم يروه من ظمئه ورود غدران ذكرك، ولم ينسه جميع العلوم رضاه عنك ... ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك: كانت حياته ميتة، وميتته حسرة، وسروره غصة، وأنسه وحشة.
إلهي لا تترك بيني وبين أقصى مرادك حجابا إلا هتكته، ولا حاجزا إلا رفعته، ولا وعرا إلا سهلته، ولا بابا إلا فتحته، حتى يقيم قلبي بين ضياء معرفتك وتذيقني طعم محبتك. فيا من أسأله إيناسا به وإيحاشا من خلقه، ويا من إليه التجائي في شدتي ورخائي، ارحم غربتي، وهب لي من المعرفة ما أزداد به يقينا، ولا تكلني لنفسي الأمارة بالسوء طرفة عين.
17
فها هو ذو النون يرى في كل مظهر من مظاهر الطبيعة آية من آيات الله، وشاهدا دالا على وحدانيته وعظمته ومخالفته للحوادث؛ لأنه لا يرى شيئا إلا ورأى الله عنده، وهذه وحدة شهود يجربها ذو النون حتى في حال صحوه، ولكن هذه المظاهر الجمالية والجلالية مع ذلك حجب تحول بينه وبين محبوبه؛ لذلك يدعو ربه أن يهتك هذه الحجب ويرفع هذه الحواجز وييسر الوعر من الطريق ويفتح له باب الشهود بحيث ينغمس قلبه في ضياء «المعرفة» ويتذوق طعم المحبة، وهنا يقرن ذو النون المحبة الإلهية بالمعرفة الذوقية، كما يقرنها الجنيد وأبو يزيد البسطامي بالفناء، وكما يقرنها المحاسبي بالإيمان. لكل واحد من هؤلاء مشربه وطريقه في الوصول إلى الحق، ولكن عتبة الوصول هي المحبة التي يلتقون عندها جميعا.
ويروى لذي النون شعر في الحب الإلهي أغلب الظن أن كثيرا منه وضع على لسانه، أو أنه كان ينشده متمثلا به فاقترن باسمه، وكله ينطق بالهيام بالله المحبوب الذي لا يروي ظمأ محبه، والمقصود الذي افتتنت به قلوب خلصائه، والغني الذي لا يبارى في غناه، والملاذ الذي يتضرع إليه الشاكون ويبثونه أسرارهم. من ذلك قوله:
أموت وما ماتت إليك صبابتي
ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
مناي المنى كل المنى أنت لي منى
وأنت الغنى كل الغنى عند اقتداري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي
وموضع آمالي ومكنون إضماري
تحمل قلبي فيك ما لا أبثه
وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري
وبين ضلوعي منك ما لك قد بدا
ولم يبد باديه لأهل ولا جار
وبي منك في الأحشاء داء مخامر
فقد هد مني الركن وانبث إسراري
ألست دليل القوم إن هم تحيروا
ومنقذ من أشفى على جرف هار؟
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن
من النور في أيديهم عشر معشار
فنلني بعفو منك أحيا بقربه
أغثني بيسر منك يطرد إعساري
18
لسنا هنا بإزاء معان صوفية خفية كتلك التي نجدها في رسائل الجنيد، بل بإزاء شعور غامر يفيض بحب الله ويدرك صاحبه أن محبته باقية ببقاء الروح وأنها لا علاقة لها بهذا البدن الفاني. محبة تتجدد مع الزمن، كلما قضى منها وطر تجدد وطر، ويعترف المحب بالغنى المطلق لحبيبه وبالفقر المطلق لنفسه، ويبثه شكواه وما يتحمل قلبه من أجله من أمور لا تبدو لأحد غيره ولا يطلع على أسرارها أقرب الناس إليه، ثم يبتهل إلى المحبوب الذي هو دليل الحائرين أن ينير له الطريق وييسره له ويشمله بعفو منه يضمن له الحياة؛ لأن حياته في قربه وموته في بعده.
ويعتبر ذو النون المحبة الإلهية جماع الأخلاق الشرعية سواء ما اتصل منها بالله وما اتصل بالخلق: فمن المحبة الإلهية أن تحب ما أحب الله وتبغض ما أبغضه وتترك كل ما يشغلك عنه، ومن المحبة الإلهية أن تفعل الخير وتعطف على المؤمنين وتغلظ على الكافرين، ومن المحبة الإلهية أن تحب رسول الله وتقفو أثره، يقول الله عز وجل:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .
19
وكما تكلم ذو النون في المحبة الإلهية تكلم كذلك في أخص لوازمها وهو الأنس بالله، فإن من أحب الله على الحقيقة استأنس به واستوحش من كل ما عداه، وانقطع عن كل شيء سواه. يقول ذو النون:
الأنس بالله نور ساطع
والأنس بالخلق غم واقع
20 (4) أبو يزيد البسطامي
إذا كان المحاسبي والجنيد وذو النون المصري يمثلون النزعة الإسلامية المعتدلة في أقوالهم في الحب الإلهي، فإن أبا يزيد البسطامي يمثل نزعة غالية لا نستطيع أن نصفها بأنها «سنية» خالصة. فقد كان هذا الصوفي الوارث الحقيقي للعقلية الإيرانية القديمة؛ ولذا تجاوز تصوفه الحدود السنية التي ذكرناها، وكاد يقول بوحدة الوجود التي لا يمكن التوفيق بينها وبين الفكرة الإسلامية في توحيد الله. نعم لم تكن له نظرية خاصة في وحدة الوجود، ولكنه كان من غير شك من أوائل الذين مهدوا لظهور هذه النظرية في العالم الإسلامي فيما بعد، ولذا نعتبره هنا - كما نعتبر الحسين بن منصور الحلاج - ممثلا لمرحلة انتقال خطيرة بين التصوف غير الفلسفي والتصوف الفلسفي القائم على القول بوحدة الوجود.
ويعبر أبو يزيد عن الحب الإلهي في أساليب رمزية مملوءة بالشطح والألغاز كعادته في معظم أقواله، فيصف الصوفي في حبه لله ومعراجه إليه بأنه طائر يسبح في فضاء اللا نهائية، متحرر من قيود الزمان والمكان، يطير في سماء «الهوية» ويدخل في فلك «التنزيه» ويشاهد شجرة الأحدية (بدلا من شجرة المنتهى التي شاهدها النبي في معراجه)، له جناحان من «الديمومة» يطير بهما في ميدان «الأزلية».
21
هذا كلام رجل مأخوذ عن نفسه، مسلوب عن صفاته، خارج عن حدود ذاته الزمانية والمكانية. فزمانه في حال جذبه «الديمومة» ومكانه «اللانهاية» وسماؤه «الهوية» وشجرة منتهاه «الأحدية»، وكل هذا وصف للحال الصوفية التي يسمونها «الفناء»، وإنه ليخيل لمن يقرأ ترجمة حياة أبي يزيد أنه كان في حال فناء دائمة؛ لأنه لا يشاهد في الوجود إلا الله متجليا بصفاته الخاصة به وهي الأزلية والأبدية والتنزيه والأحدية: لأنه غني عن الكثرة والتعدد وما يلزمهما من صفات، بل إنه فني عن شعوره بذاته، ومن أجل فنائه عن ذاته وبقائه بالحق شعر أنه متصف بالصفات السابقة كلها فقال: «فلما نظرت وجدت أنني هذه الأشياء كلها.» وهي في الحقيقة صفات للحق لا له. بل إنه قد أثر عنه أنه قال عن نفسه في مثل هذه الحال ما هو في ظاهره أعظم شناعة وأشد جرأة من هذا، وهو قوله: «سبحاني ما أعظم شأني.»
22
قال الجنيد في معرض الاعتذار عنه: «إن الرجل مستهلك في شهود الجلال فنطق بما استهلكه، أذهله الحق عن رؤيته إياه فلم يشهد إلا الحق فنعته.»
23
وفي مقام الاتحاد بين المحب والمحبوب يقول أبو يزيد في جرأة عجيبة: «رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك.»
24
تلك كانت حال أبي يزيد وقد استولت على قلبه خمر الحب الإلهي، فإذا صحا من سكره ورد إلى نفسه أحس بالحسرة لوقوف إنيته حائلا بينه وبين محبوبه فيصيح: يا رب لا أستطيع أن أصل إليك بأنيتي ولا أن أتخلص من ذاتي فماذا أنا فاعل؟ يقول الله تعالى: يا أبا يزيد تحرر من إنيتك باتباع محبوبي (محمد
صلى الله عليه وسلم )، وكحل عينك بتراب قدمه وداوم على اتباعه.
25
ومعنى هذا أن أبا يزيد كان يدرك في حال صحوه أنه لا مفر له من نفسه، وأن له كيانا ووجودا لا يستطيع التخلص منهما، وأن الطريق السوي لمحبة الله هو متابعة رسول الله في الأمر والنهي والاقتداء بسيرته والتزام الشرع فيما قرره من وجود إله ومألوه وخالق ومخلوق، ولكن لسان الصحو غير لسان المحو، ومنطق الحب غير منطق العقل! (5) عمر بن الفارض
لا تخرج نظريات الصوفية في الحب الإلهي في القرنين الثالث والرابع الهجريين عن النماذج التي ذكرناها؛ ولذلك اكتفينا بها ليسترشد بها القارئ في فهم نظريات أخرى لم نعرض لذكرها وهي كثيرة.
أما النموذج الجديد لهذه النظريات فقد اخترنا له الصوفي الشاعر أبا حفص عمر بن الفارض المتوفى بالقاهرة سنة 632ه.
وعمر بن الفارض أحد أقطاب العاشقين الإلهيين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربية على الإطلاق؛ ولهذا استحق أن نفرده بفقرة خاصة في هذا الفصل لنوضح مكانته من بين الذين وقع عليهم اختيارنا لتمثيل النظريات الصوفية المعتدلة في طبيعة الحب الإلهي.
امتاز ابن الفارض بأنه كان شاعرا فوق كونه صوفيا، أو بالأحرى بأنه كان صوفيا فوق كونه شاعرا، وكان لاجتماع هذين المزاجين فيه، مزاجي التصوف والشعر، أثر في تكوين شخصية عجيبة قد لا نجد لها نظيرا إلا في متصوفة شعراء الفرس من أمثال عبد الرحمن الجامي وجلال الدين الرومي، وإذا كان المزاج الشعري وحده يولد في صاحبه إرهاف الحس ولطافة الوجد والذوق، ويدفع به إلى تعشق الجمال أيا كانت صورته وأشكاله وأينما كان موضعه، فما بالك برجل التقى فيه هذا المزاج الشعري بالمزاج الصوفي الذي يتعلق بالجمال المطلق، يتعشقه ويصبو دائما إلى الاتصال به واقتباس أسرار الحياة والحب منه! تحول هذان المزاجان في نفس ابن الفارض إلى مزاج واحد فاض عنه ذلك السيل الدافق من قصائده الصوفية الخالدة التي يظهر فيها - بفضل مزاجه الشعري - دقة الوصف وجودة تصوير الأحاسيس والمعاني والإبداع في الخيال، كما يتجلى فيها - بفضل مزاجه الصوفي - تجاربه الروحية العميقة وما يضطرب في نفسه من أحوال ومواجد وأذواق؛ ولذلك قد لا نعدو الحق إذا وصفنا ديوان ابن الفارض بأنه سجل نقرأ فيه حياته الروحية من حيث اتصالها بالله.
ومن المبالغة، بل من الإسراف الذي لا مبرر له أن نضع ابن الفارض في عداد الفلاسفة، أو نحاول أن نستخلص من أشعاره مذهبا فلسفيا متسقا، أو نعده من أصحاب وحدة الوجود كما فعل تقي الدين بن تيمية من القدماء والمستشرق دي ماثيو من المحدثين، أو أن نقرنه بمحيي الدين بن عربي الذي تنطق كل فقرة من كتابه «فصوص الحكم» بهذه النظرية.
ومع استثناء بعض أبيات لابن الفارض في تائيته الكبرى «نظم السلوك» عليها مسحة وحدة الوجود، لا نملك إلا أن نعده متصوفا ينزع في حبه الإلهي منزع أصحاب «وحدة الشهود» لأنه لم يسلك طريق النظار - كما فعل ابن عربي في أكثر ما كتب - من وضع المقدمات واستخلاص النتائج، ومن تحليل المعاني الفلسفية وتأويل الآيات القرآنية والأحاديث بشتى أساليب التأويل لينفذ منها إلى مذهبه. لم يفعل ابن الفارض شيئا من هذا، ولكنه استسلم لوجده واستغرق في حبه، وغاب عن نفسه وعن كل ما حوله، فلم يشهد في الوجود شيئا إلا شهد الله فيه : فاعلا ومؤثرا، ولم يقع نظره على جميل إلا رآه مرآة ينعكس على صفحتها الجمال الإلهي المطلق. لقد كانت تعتريه الحال فيقضي فيها الأيام لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم، وهو مسجي كالميت، شاخصا ببصره إلى السماء، فإذا أفاق أملى على من حوله ما فتح الله به عليه من التائية الكبرى. هكذا يحدثنا عنه سبطه ناقلا عن أبيه فيما ورد في ديباجة الديوان.
26
قد نجد أو لا نجد لهذه الظاهرة الغريبة تفسيرا مقبولا يؤيده علم النفس، ولكنها على أية حال لم تكن ظاهرة من ظواهر العقل الواعي الذي نعرفه، فلنسم ما انكشف فيها لقلب ابن الفارض بأي اسم نشاء، أما العرف الصوفي فيسميه علما لدنيا ومعرفة ذوقية وإلهاما وإشراقا وحبا وما أشبه هذه من المصطلحات.
ولم يقف ابن الفارض عند حد التغني بأناشيد الحب الإلهي التي يفيض بها ديوانه، بل وصف كذلك لازما من لوازم ذلك الحب هو النشوة بالخمر الإلهية التي سكرت بها أرواح العاشقين من قبل أن تخلق الخمر، كما وصف الجمال في شتى صوره، ورمز لمحبوبه بما اشتهر من أسماء المعشوقات اللاتي تردد ذكر أسمائهن في الغزل العربي القديم، بل إنه أغرق في هذا إلى حد أن القارئ لديوانه قد يخطئ الحكم فيه - كما أخطأ بعض المستشرقين - فيفسر قصائده تفسيرا ماديا، ومع ذلك فليس من اليسير أن نخضع قصائد ابن الفارض لمقياس نقدي واحد، أو أن ندعي أنها كلها بمثابة واحدة في دلالتها على معاني الحب الإلهي، ولو على سبيل الرمز والإيماء، فإن كثيرا منها قد يصعب صرفه عن معاني الغزل الإنساني العادي إلا بضرب من الجهد في التأويل، ولكن الذي لا شك فيه هو أن قصيدته «التائية الكبرى» التي تبلغ سبعمائة وواحدا وستين بيتا، وقصيدته «الخمرية»، تنفردان دون سائر الديوان بأنهما شعر صوفي خالص يسمو على كل مادية، وأنهما تكفيان في تصوير الحب الإلهي عن ابن الفارض في جميع نواحيه.
ويتفق ابن الفارض مع أمثال الجنيد وأبي يزيد البسطامي في النظر إلى المحبة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده، ولا يختلف عنهم إلا في أساليب التعبير والتصوير والتحليل، وكثيرا ما يتخذ أسلوبه صورة الحوار بين نفسه والذات الإلهية، يتحدث إليها ويناجيها ويبثها لوعته وأشواقه وحنينه وغير ذلك من مظاهر الحب، ويسألها ويجيب بلسانها عن مدى صدقه في حبه ومدى قبولها إياه إلى أن ينتهي الأمر بالمحب إلى مقام الوصال والاتصال حيث تنمحي الاثنينية ويخرس اللسان ويسود الصمت.
وإذا كان لكل صوفي معراج روحي إلى الله، فلابن الفارض معراجه الذي نجده واضحا في تائيته الكبرى حيث يحدثنا عن مراحل تطوره الروحي وما عاناه وما شاهده في كل مرحلة، وما أحس به من إخفاق أو نجاح، وحيث يحدثنا عن الفناء ومعانيه، والحب وغايته، ويصور من يدعي محبة الله وقلبه مشغول بغيره ومن يحب الله على الحقيقة ويخلص في حبه.
يقول على لسان الذات الإلهية، وهو لا يزال بعد في مرحلة ادعاء الحب؛ لأنه لا يزال شاعرا بنفسه:
حليف غرام أنت لكن بنفسه
وإبقاك بعضا منك بعض أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن في فانيا
ولم تفن ما لم تجتلى فيك صورتي
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا
من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
انظر إلى قوله: «ولم تفن ما لم تجتلى فيك صورتي»، إن الفناء الحقيقي عنده ذهاب كل شعور بالذات بحيث لا يشهد الفاني شيئا سوى الصورة الإلهية متجلية في نفسه وفي كل شيء حوله، ويرد ابن الفارض بلسان المحب الذي لا يهاب الفناء في سبيل المحبوب فيقول:
وما أنا بالشاني الوفاة على الهوى
وشأني الوفا تأبى سواه سجيتي
وماذا عسى عني يقال سوى قضى
فلان هوى؟ من لي بذا وهو بغيتي؟
ثم تأتي لحظة الفناء وتعطل إرادة المحب ويستولي عليه سلطان الشهود فلا يشعر إلا بوحدة شاملة لا فرق فيها بين محب ومحبوب ولا عابد ولا معبود، فيقول:
كلانا مصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
هذان البيتان أجرأ شيء قاله ابن الفارض في «التائية»، وعليهما وعلى أمثالهما استند الذين يدعون أنه كان من أصحاب وحدة الوجود، ولكن ابن الفارض هنا يتكلم بلسان الفناء لا بلسان الادعاء بأن المصلي هو المصلى له، أو أن الحق هو الخلق والخلق هو الحق وأمثال ذلك من أقوال ابن عربي.
وهكذا نجد تصويرا لمراحل السلوك الصوفي في الأبيات القليلة التي اقتبسناها. فابن الفارض في أول أمره في حال الصحو الأول: يدرك ذاته ويدرك محبوبه؛ أي إنه في مقام الاثنينية، وأدراك الاثنينية مناف للحب الصوفي الخالص، وهو في المرحلة الثانية في حال سكر وغيبة عن ذاته، وشهود للحق وحده، وهي حال ينمحي فيها إدراك الاثنينية، ويخرج فيها العبد من ضيق حدود التناهي إلى سعة فناء اللامتناهي كما صورها أبو يزيد، وهو في المرحلة الثالثة في حال صحو ثان، يشعر فيها بذاته ولكنه شعور يختلف عن شعوره بذاته في الصحو الأول: لأنه شعور بالذات المتقومة بالله القريبة من الله.
النظريات الفلسفية في المحبة الإلهية
ظهرت في التصوف الإسلامي اتجاهات أخرى في المحبة الإلهية تصورها تصويرا يختلف قليلا أو كثيرا عن تصوير الاتجاهات التي أسلفنا ذكرها، وتتصبغ بصبغة فلسفية تبعد بها عن الأفكار الدينية التي دان بها السلف وأهل السنة ومن سار على نهجهم، وأظهر هذه الاتجاهات الاتجاه الحلولي الذي يمثله الحسين بن منصور الحلاج، واتجاه أصحاب وحدة الوجود الذي يمثله محيي الدين بن عربي، وسأقصر كلامي هنا على هذين الصوفيين الكبيرين باعتبارهما مؤسسين لمدرستين من مدارس هذا الضرب من التصوف. (1) الحسين بن منصور الحلاج: (قتل سنة 309ه)
لم يكن الحلاج صوفيا عالج المواجد والأذواق وفني في حب الله فحسب، بل كان إلى ذلك صاحب نظرية استولت على قلبه وملكت عليه زمام نفسه حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت صلبه وقتله. فلقد لقي الحلاج حتفه، وعلى لسانه الأقوال الجريئة التي اتهم من أجلها بالكفر وحوكم محاكمة طويلة لا أظن أن تاريخ الإسلام شهد مثيلا لها:
فلسف الحلاج العبارة المشهورة التي تقول «خلق الله آدم على صورته» ففسرها في ضوء نظرية حلولية هي أشبه ما تكون بنظرية النصارى في طبيعة المسيح، ولكنه تجاوز حدود النظرية المسيحية إلى نظرية في طبيعة الإنسان بوجه عام. فالإنسان في نظره صورة الله، بإرجاع الضمير في قوله «على صورته» إلى الله لا إلى الإنسان. صورة الله التي أخرجها من نفسه في الأزل، وبواسطتها أعلن عن مكنون سره وجماله، وهذه الصورة في مظهرها الخارجي مؤلفة من طبيعتين: «الناسوت» وهو الناحية البشرية، و«اللاهوت» وهو الناحية الإلهية، وقد مزجت الطبيعتان مزجا تاما بحيث نستطيع أن نقول إن هذه تلك وتلك هذه. أما عن المعنى الأول فيقول الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
1
وأما عن المعنى الثاني فيقول:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
2
ويقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
3
ويقول:
أنت بين الشغاف والقلب تجري
مثل جري الدموع في الأجفان
وتحل الضمير جوف فؤادي
كحلول الأرواح في الأبدان
ليس من ساكن تحرك إلا
أنت حركته خفي المكان
4
هذه أقوال جريئة لم يكن للمسلمين عهد بها قبل الحلاج، جرت على لسان صوفي مسلم ادعى أنه صورة الإله القائمة على الأرض وأن كل إنسان يمثل واحدة من تلك الصور الإلهية التي لا تحصى. فلا عجب أن أثار بذلك حنق المسلمين جميعا، ولم تعطف عليه طائفة منهم حتى الصوفية أنفسهم. يقول أبو عبد الرحمن السلمي في طبقاته: «رده أكثر المشايخ ونفوه وأبوا أن يكون له قدم في التصوف.
5
واتهمه عمرو بن عثمان المكي، ونقم عليه أبو القاسم الجنيد وأبو يعقوب إسحق بن محمد النهرجوري وكانوا من ألصق الناس به، واتهمه فقهاء عصره وتعقبوه في كل مكان، بمكة وبغداد والأهواز وغيرها، ورموه بالقرمطة والحلول وادعاء النبوة والألوهية، كما اتهمه المعتزلة بالمخرقة، والإمامية بالزندقة والظاهرية بالكفر .
ومن هذا نتبين إجماع المسلمين على إنكار أقوال الحلاج ودعاويه مما انتهى به إلى المحاكمة والإدانة بالكفر، ثم القتل، ولقد لقي أشنع قتلة لقيها مسلم من أجل عقيدته.
ومن جملة ما اتهم به الحلاج رأيه في المحبة الإلهية، وهو رأي أنكره عليه ابن أبي داود الظاهري الذي أصدر فيه فتوى كانت إحدى أسباب قتله، وذلك أن ابن أبي داود قال: إن المحبة لا تجوز على الله لأن المحبوب أمر حسي مادي والله تعالى منزه عن هذا. أما الحلاج فقال: إن الله يحب ويحب ولو أنه ليس بجسم، وصلته بمحبه صلة اضطرار لا اختيار. بل ذهب إلى أن كل محبوب فإنما يحب خلال الله، والظاهر أن الذي قصد إليه الحلاج من قوله أن المحبة الإلهية اضطرار لا اختيار هو أن بين الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية ميلا اضطراريا نحو الاتحاد كالميل الاضطراري بين الخمر والماء اللذين أشار إليهما في البيتين السابقين، فالمحبة متبادلة بين الطبيعتين كما أن الميل إلى الاتحاد متبادل بين عنصري الماء والخمر، ومعنى هذا أن حب الإنسان لله ليس مكتسبا ولا عارضا، بل هو جبلة في طبيعته تكشف عنها الحياة الصوفية وما فيها من رياضة وأحوال، وفي ضوء ما قلنا يتضح معنى الدعوى الحلاجية التي من أجلها لقي صاحبها حتفه وهي قوله: «أنا الحق» التي يترجمها الأستاذ ماسينيون: «أنا الحق الخالق» وأفضل أن تكون «أنا صورة الحق» أي أنا المظهر الخارجي الذي ظهر فيه الحق وعن طريقه عرف الحق وبواسطته ظهر جلال الحق وجماله، ويؤيد هذا التفسير عبارة للحلاج نفسه يقول فيها:
إن لم تعرفوه (أي الله) فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأنني ما زلت أبدا بالحق حقا، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي.
6 (2) محيي الدين بن عربي: (المتوفى سنة 638)
أما ابن عربي فنظريته في الحب الإلهي متفرعة عن مذهبه الفلسفي الصوفي العام الذي هو مذهب وحدة الوجود. بل هي لازم من لوازم هذا المذهب ونتيجة من نتائجه، والقضية الكبرى التي يخضع لها ابن عربي كل فلسفته، والتي يؤيدها بشتى أساليب التأييد، هي أن الوجود في حقيقته وجوهره شيء واحد، متعدد متكثر في النظر والاعتبار، عندما يقع عليه الحس الذي لا يدرك إلا الجزئيات المتعينة المتشخصة، أو يتناوله العقل الإنساني القاصر عن إدراك وحدته الشاملة، فإن العقل خاضع في تفكيره لمقولاته، ومقولاته مستمدة من العالم الخارجي المتعدد المتكثر، الواقع في الزمان والمكان. أما الحقيقة الوجودية الكلية فخارجة عن كل هذا.
وإذا كان لنا أن نتكلم بلسان الظاهر والعقل، ونتحدث عن كثرة في الوجود، فلنتذكر أن هذه الكثرة ليست إلا وجها من وجهي الحقيقة، أما الوجه الآخر فهو الوحدة، والوجه الأول هو ما يسميه ابن عربي «خلقا». أما الثاني، وهو باطن الوجود وجوهره، فيسميه «حقا»، والحق والخلق اسمان لمسمى واحد منظور إليه باعتبارين مختلفين. بعبارة أخرى، ليست الموجودات الخارجية إلا صورا أو تعينات أو مجالي للوجود الواحد الذي هو وجود الحق.
وليست هذه الصور إلا مسارح تتجلى فيها صفات الحق وأسماؤه، بل هي عين تلك الصفات والأسماء. فكل صفة وجودية ندركها في الأشياء إنما هي مجلى خاص من مجالي صفة إلهية مطلقة، أو اسم إلهي مطلق. كالجمال مثلا: فإن كل جميل مجلى ومظهر للجمال المطلق، الذي هو الجمال الإلهي، وكالحب، فإن كل محبوب مجلى أو مظهر للمحبوب على الإطلاق وهو الحق، وهكذا الأمر في الصفات الإلهية الأخرى كالحياة والسمع والبصر والإرادة.
ولهذا يرى ابن عربي أن المحبوب على الحقيقة في كل ما يحب إنما هو «الحق» الذي يتجلى في ما لا يتناهي من صور الجمال، سواء أكانت حسية أم معنوية أم روحية، وهو إذا تغنى بحب ليلى وسعدى وهند غيرهن، فإنما يرمز بالاسم إلى حقيقة المسمى، وبالصورة إلى صاحب الصورة، ولا يعنيه الرمز قدر ما يعنيه المرموز إليه، وقد كتب ديوانا بأكلمه - هو «ترجمان الأشواق» - يتغزل فيه «بالنظام» ابنة الشيخ مكين الدين بن شجاع بن رستم الذي لقيه بمكة حين نزل بها، ويصف فيه محاسن هذه الغادة الخلقية والخلقية، ويعترف في مقدمة الديوان بأن غزله - في الظاهر - موجه إليها، فيقول:
وقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق وعبارات الغزل الفائق. فكل اسم أدعو فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني.
7
ولا شك أن ابن عربي قد وجد في تلك الصورة الإنسانية الحسناء مجلى من مجالي الجمال الإلهي المطلق الذي تعشقه وقدسه، وألفى لها مكانا من قلبه، لا من حيث هي امرأة يعشق جمالها الحسي الفاني، ولا من حيث هي موضع لشهوة أو هوى، بل من حيث هي رمز لذلك الجمال الشامل المتجلى فيها في صورة كاملة، فإذا بثها حبه وأشواقه، إنما يتجه بحبه وأشواقه إلى الذات الإلهية التي هي صورة من صورها، وإذا وصفها بما يصف به الغزلون من الشعراء محبوباتهم، فإنما يصف ذلك الرمز مكنيا به عن الحقيقة الكلية التي وراءه.
ولذا كانت لغة «ترجمان الأشواق» لغة رمزية اصطلاحية يجب تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وهذا ما فعله ابن عربي عندما أنكر عليه بعض فقهاء حلب ما ذكره في «الترجمان» عن غادة مكة، فكتب شرحا صوفيا على الديوان سماه «ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق».
لم تكن تلك الحسناء إذن سوى واحدة من صور الجمال اللانهائي التي وسعها قلب ابن عربي وأحبها، لا من حيث ذاتها، بل من حيث هي رموز ومجال للذات الإلهية الواحدة المحبوبة على الإطلاق والمعبودة على الإطلاق. لأن المحبوب عنده واحد مهما تعددت مجاليه، والجميل واحد مهما تعددت صوره، والمعبود واحد مهما تعددت أشكاله، وفي هذا المعنى يقول:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
8
قال ابن عربي ما قال في الحب الإلهي وعينه مستقرة على الصورة المحسوسة، ولكن قلبه مشغول بصاحب الصورة، تغنى بالجمال المحسوس وقلبه متعلق بالجمال المعقول، وماذا يضير الصوفي لو انتقل من عالم الأرض إلى عالم السماء، واتخذ من المحسوس سلما يصعد به إلى المعقول؟
أحس ابن عربي بأن أناسا سوف لا يفهون كلامه وأنهم سوف يخلطون بين المحسوس والمعقول، فنبه قراء غزلياته إلى حقيقة قصده بقوله:
كل ما أذكره من طلل
أو ربوع أو مغان كل ما ... ... ... ... ... ...
أو بروق أو رعود أو صبا
أو رياح أو جنوب أو سما
أو نساء كاعبات نهد
طالعات كشموس أو دمى
صفة قدسية علوية
أعلمت أن لصدقي قدما
فاصرف الخاطر عن ظاهرها
واطلب الباطن حتى تعلما
والحب عند ابن عربي هو أصل العبادة وسرها وجوهرها؛ إذ لا معبود إلا وهو محبوب، ولولا الحب ما عبد شيء من إنسان أو شجر أو كوكب أو صنم؛ لأن الشيء لا يعبد إلا بعد أن يخلع عليه العابد لباس التقديس، وهو لا يقدسه إلا بعد أن يحبه ويتفانى في حبه. فالمعبود والمحبوب إذن عين واحدة وإن اختلفت عليها الأوصاف، فإنك تسميها معبودا من وجه ومحبوبا من وجه آخر والمسمى واحد في الوجهين، والنتيجة التي يخلص إليها ابن عربي هي أن المحبوب على الإطلاق هو عينه المعبود على الإطلاق؛ لأنه هو الظاهر بصورة كل ما يحب وما يعبد، وفي هذا يقول:
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى
ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
9
يقسم بقدسية الهوى (الحق) أن الهوى الساري في جميع مراتب الوجود، المعبود في جميع صوره، هو علة الحب في جزئياته وأشكاله، وأنه لولا وجوده وتجليه في صور المعبودات وفي قلوب العابدين ما عبد معبود ولا وجد عابد، ويذكر الشيخ في «فتوحاته» أنه شاهد «الهوى» في بعض مكاشفاته ظاهرا بالألوهية جالسا على عرشه «وجميع عباده حافون من حوله.» ويقول: «ما شاهدت معبودا في الصور الكونية أعظم منه.» «فالهوى إذن - في نظر ابن عربي - اسم من أسماء الله، هو الحب عينه، وهو المحبوب، بل هو أعظم أسماء الله على الإطلاق.»
10
ولما كانت جميع المعبودات مجالي ومظاهر لعين واحدة ظهرت في الوجود فيما لا يتناهى من الصور، كان كل المعبودين صورا ومجالي للمعبود الواحد الحق، وهذا - في نظر ابن عربي - هو معنى قوله تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
11
أي حكم وقدر أنكم لن تعبدوا شيئا إلا أن يكون ذلك الشيء مجلى من مجالي الله.
إلا أنه يحذر من أن يقصر العابد معبوده على صورة بعينها فإن هذا هو الشرك؛ ولهذا كان الصوفي الصادق هو من يرى الله في كل صورة معبودة، وينظر إلى معبوده الخاص من حيث أنه واحد من صور المعبود اللامتناهي الذي يتجلى في قلب العابد فيما لا يتناهى من المجالي.
وقد أشرنا من قبل إلى أبياته التي يقول فيها:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة ... ... ... ... إلخ
وله في هذا المعنى أيضا:
عقد الخلائق في الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
وقوله على لسان بعض الصوفية:
صح عند الناس أني عاشق
غير أن لم يعرفوا عشقي لمن!
وهكذا يتخذ ابن عربي من الحب الإلهي أساسا لدين عالمي عام يتخطى الحدود التي وضعتها الفرق في الدين الواحد، وتلك التي فرقت بين الأديان المختلفة وباعدت بينها.
هذا أحد وجهين لقضية الحب الإلهي في مذهب ابن عربي، وهو حب الخلق للحق. أما الوجه الثاني فهو حب الحق للخلق: فإن الحق يبادل الخلق حبا بحب واشتياقا باشتياق، بل إن شوقه إلى المشتاقين أقوى من شوقهم إليه. قال الله تعالى لداود فيما يروى عنه من أخبار: «يا داود إني أشد شوقا إليهم» يعني المشتاقين إليه، وقال: «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له من لقائي.»
12
والحق سبحانه يحب الخلق لأن الخلق صوره ومجاليه، وبهذه الصور تظهر صفاته وكمالاته، فهو حب ذاتي ينعكس منه عليه لا في دائرة مقفلة بل عن طريق الصور التي هي بالنسبة إلى الحق كالمرايا التي يرى الحق فيها نفسه. «ورؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن ليظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له.»
13
وأكمل صورة ظهر فيها الحق هي الصورة الإنسانية التي تجلى فيها الوجود بكل معانيه وكمالاته واختزن فيها الحق كامن أسراره، وهي التي استحق الإنسان من أجلها الخلافة عن الله في الأرض، ومن أجلها فضل على سائر الخلق حتى الملائكة؛ لهذا كان الإنسان أحب المخلوقات إلى الله، وكان الله أكثر عناية به وحرصا على بقائه، والذي يهدم النشأة الإنسانية إنما يهدم أكمل الصور الإلهية ويتحدى الله نفسه، ومن يراعيها فإنما يراعي الحق. يقول ابن عربي:
واعلم أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله. أراد داود بنيان بيت المقدس فبناه مرارا، فكلما فرغ منه تهدم، فشكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه: إن بيتي لا يقوم على يدي من سفك الدماء، فقال داود: يا رب ألم يكم ذلك في سبيلك؟ قال: بلى، ولكن أليسوا عبادي؟
14
وقال
صلى الله عليه وسلم : «ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم؟ ذكر الله.» يقول ابن عربي: «وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه.»
15
يريد بذلك أن ذكر الله الذكر الحقيقي يكشف عن حقيقة الصلة بين الذاكر والمذكور، ويبين قدر الإنسان الذي اختص من بين سائر الكائنات بمجالسة الله، فإنه تعالى جليس من ذكره، والجليس مشهود للذاكر، ومتى لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر.»
16
وأخيرا يعتبر ابن عربي المحبة الإلهية سبب الخلق والعامل الأول في وجوده، وهو يعني بالخلق ظهور الحق في أعيان الموجودات، لا إيجاد الموجودات من عدم. ذلك أن الحق في أزليته أحب أن يعرف، ولا سبيل إلى معرفته إلا بإظهار كمالاته في صفحة الوجود؛ من أجل ذلك خلق الله الخلق؛ أي تجلى في صور الخلق، وكان حنينه إلى الظهور على مسرح الوجود الخارجي علة خلقه للعالم، وإلى هذا يشير الحديث القدسي الذي يقول الله فيه: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه (وفي رواية فبي) عرفوني.»
ولكن الحق الذي حن إلى الظهور في صور أعيان الممكنات، يحن دائما إلى عودة تلك الصور إليه، وهذا هو عين حنين الخلق إلى الحق؛ لأن المشتاق عين المشتاق إليه في الحقيقة وإن كان غيره في الظاهر.
فالحب إذن علة ظهور الصور وعلة اختفائها، علة وجودها وعلة عدمها، وهو حال موجودة على الدوام، متبادلة بين الحق والخلق؛ لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق يدفعه إلى ذلك الحب الكامن فيه نحو الظهور، والخلق دائم الفناء في الحق يدفعه إلى ذلك الحب الكامن فيه نحو التحلل من الصور والرجوع إلى الأصل. هذه دائرة الوجود، أولها حب وافتراق، وآخرها حب وتلاق، ومحور الدائرة هو الحق، ومحيطها ما لا يحصى عده من مجالي الوجود. الكل يخرج من المركز والكل يعود إليه.
17
المحبة الإلهية والأخلاق الصوفية
ما من خلق يتحلى به الصوفي وينادي به إلا ويمت بصلة إلى ذلك الأصل الأول الذي هو المحبة الإلهية: وذلك أن جوهر المحبة الإيثار، إيثار المحبوب على كل ما عداه ومن عداه، وفي إيثار الصوفي لله تتركز صفاته الأخلاقية كلها. يقول الغزالي:
المحبة هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات، فما بعد المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد وغيرها.
1
فمن أجل محبة الله يزهد الصوفي في الدنيا ومتعها ولذاتها وجاهها، ويبذل كل شيء حتى نفسه التي هي أعز شيء عليه. يقول الحارث المحاسبي: «المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، وموافقتك له سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبه.» وفي قول المحاسبي «وموافقتك له سرا وجهرا» إشارة إلى اعتقاد الصوفية أن المحبة تورث الطاعة لله وإقامة حدوده وفرائضه، ورد على من يدعي أنها تؤدي بصاحبها إلى الترخص في الدين ورفع التكاليف الشرعية. يؤيد هذا قول صوفي كبير آخر هو يحيى بن معاذ الرازي: «ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده.»
ومن أجل محبة الله يتواضع الصوفي ولا يخالط قلبه عجب أو كبر أو رياء، ولا يدعي لنفسه شرفا أو علما أو جاها أو فضيلة أيا كان نوعها، بل لا يدعي لنفسه صدقا في العبادة أو إخلاصا كما هو واضح من تعاليم ملامتية نيسابور،
2
ومن عبارة جلال الدين الرومي التي يقول فيها: «الحب دواء العجب والرياء وطبيب جميع الأدواء، ولا يكون الإيثار صادقا إلا عند من مزق الحب ثوبه.»
3
وكما يؤثر الصوفي الله على نفسه، وما لله من حقوق على ما لنفسه، كذلك يؤثر على نفسه غيره من الناس، ويضحي بحقوقه من أجلهم ما دام في ذلك مرضاة لربه. يحكون أن النوري والرقام وآخرين اتهموا بالزندقة وحكم الخليفة بقتلهم، فلما دنا السياف من الرقام تقدم النوري وطلب من الجلاد أن يكون دوره أولا، فتعجب الحاضرون، وسأل الجلاد النوري في ذلك فقال: أنه أراد أن يؤثر صاحبه على نفسه ببعض لحظات بقيت له، ويحكى عن النوري أيضا أنه سمع يوما يناجي ربه ويقول: «رب قد سبق في علمك القديم وإرادتك أن تعذب عبادك الذين خلقتهم، فإذا اقتضت إرادتك أن تملأ جهنم من الناس فاملأها بي وحدي.»
ومن أجل محبة الله أحب الصوفية كل شيء لأن الأشياء آثار المحبوب ومجاليه، بل اعتبروا محبة الخلق قنطرة يعبر عليها السالك إلى محبة الله، واشترط بعضهم أن يكون للمريد سابقة عهد بحب إنساني؛ لأن من لا عهد له بحب إنساني لا يستطيع أن يرقى درجة واحدة في سلم الحب الإلهي، وهذه نزعة نجد لها صدى قويا عند أصحاب وحدة الوجود كما أوضحنا في قصة ابن عربي والنظام ابنة مكين الدين بن شجاع.
ومن أجل محبة الله يكثر الصوفي من التأمل فيه، وينصرف بجميع قواه إليه وحده ولا يشغل قلبه بسواه، ويأنس بذكره، ويستوحش ببعده، ويطرب لرضاه، وينزعج لغضبه، أو على حد قول الصوفية أنفسهم يفنى بكليته في محبوبه. يقول بعضهم:
لما علمت بأن قلبي فارغ
ممن سواك ملأته بهواكا
وملأت كلي منه حتى لم أدع
منى مكانا خاليا لسواكا
فالقلب فيه هيامه وغرامه
والنطق لا ينفك عن ذكراكا
والطرف حين أجيله متلفتا
في كل شيء يجتلي معناكا
والسمع لا يصغي إلى متكلم
إلا إذا ما حدثوا بحلاكا
بل إن العبادة والتقوى والورع وغيرها من صفات الأخلاق الدينية فرع عن المحبة الإلهية ونتيجة لها كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وليس من يعبد الله طمعا في جنته كمن يعبده حبا لذاته وطمعا في محبته إياه. فشتان ما بين الجنة التي هي من فعل الله وخلقه، وبين محبة الله للعبد التي هي صفة من صفاته تعالى. أشار إلى ذلك أبو القاسم النصراباذي المتوفى سنة 369 بقوله:
الجنة باقية بإبقائه (أي بإبقاء الله تعالى إياها)، وذكره لك ورحمته ومحبته باقية ببقائه، فشتان بين ما هو باق ببقائه وما هو باق بإبقائه.
4
يعني بذلك أن الجنة حادثة تبقى بإبقاء الله إياها وتزول إذا أراد الله زوالها، أما صفاته تعالى كالذكر والرحمة والمحبة فقديمة أزلية باقية ببقاء الذات الإلهية المتصفة بها، وشتان بين القديم والحادث، وبين تعلق النفس بالحادث الزائل (كالجنة وثوابها) وتعلقها بالقديم. هذه وجهة نظر صوفي سني أراد أن يوازن بين غايتين ينشدهما العابد في طريقه إلى الله، ورأى أن محبة الله للعبد أعظم جزاء له من ثواب الجنة ونعيمها؛ لأنها أدوم وأبقى. أما الصوفية الذين هم أكثر تحررا من النصراباذي فيرون أن الجنة الحقة هي اتصال المحب بمحبوبه (الله) والجحيم الحق في البعد عنه، وأن العبادة الحقة هي عين محبة الله.
المحبة الإلهية والمعرفة
رأينا فيما مضى ما كان لفكرة المحبة الإلهية من أثر في تغيير التصورات الدينية التقليدية ، ونريد الآن أن نشرح وظيفتها في جانب آخر هو جانب المعرفة بالله؛ إذ المحبة الإلهية وحدها - لا التعقل والنظر - في نظر الصوفية هي الطريق الوحيد الموصل إلى تلك المعرفة. أي إن معرفة الصوفي بالله ليست وليدة العقل، بل وليدة قوى أخرى تعلو على العقل: ويظهر فيها عنصرا «الذوق» و«النزوع»، والحب الخالص وحده هو الذي يظهر فيه هذان العنصران: الإدراك الذوقي لماهية المحبوب وهو الذي نسميه بالمعرفة، والإقبال الكلي عليه وهو ما نسميه بالنزوع. بل لقد كاد الصوفية يجمعون على أن المعرفة والحب الإلهي شيء واحد وحقيقة واحدة، يدل على ذلك إطلاقهم اسم «العارف» على الصوفي الفاني في محبة الله. يقول القشيري في وصف «العارف»: «فإذا صار من الخلق أجنبيا، ومن آفات نفسه بريا ... ودامت في السر مع الله مناجاته، وحق كل لحظة إليه رجوعه، وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعرف أسراره بما يجريه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك «عارفا» وتسمى حالته «معرفة»، وبالجملة فمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه.»
1
وفي نفس المعنى يقول أبو يزيد البسطامي بلسان الصوفي الفاني في حب الله: «للخلق أحوال ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره.»
2
فالصوفي في حال استغراقه في حب الله يدرك نوعا من المعرفة ومن اللذة لا عهد لغيره بهما، فهو في حال الحب يعرف محبوبه، وهو في حال المعرفة يحب معروفه: أي إن المعروف والمحبوب اسمان لشيء واحد، والمعرفة والحب وجهان لحقيقة واحدة، ولم يبعد الصوفية كثيرا عندما شبهوا هذا النوع من المعرفة بالمعرفة الناشئة عن الأذواق والتجارب الحسية المباشرة، فإن الإنسان يدرك معنى الحلاوة في الشيء الحلو ومعنى المرارة في الشيء المر إدراكا مباشرا، ولا يستطيع وصف الحلاوة والمرارة ولا تعليلهما، ولا نقل معنيهما إلى من حرم حاسة الذوق. قالوا كذلك الحال في التجربة الصوفية، إلا أن المعرفة الحاصلة فيها ليست راجعة إلى الحس أو العقل، وإنما هي نور يقذف به الله في قلب من أحبه، أو هي إشراق الجانب الإلهي في قلب الصوفي.
ولهذا قال الصوفية إن محبة العبد لله ومعرفته إياه من المنح الإلهية التي لا تستجلب بالعمل ولا تكتسب بالسعي والمجاهدة، كما أن محبة الله للعبد نوع من الاختصاص سبقت به العناية الإلهية. بل إن المحبتين متلازمتان لأن الذين يحبون الله هم الذين يحبهم الله، وهو تلازم وارد في نصوص القرآن مثل قوله تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه .
3
لغة الحب الإلهي وأسلوبها الرمزي
تدرك النفس الصوفية ذوقا لذة الحب الإلهي التي يقال إنه لا يعدلها في قوتها وصفائها لذة أخرى، كما تدرك بعض معاني الحقيقة الوجودية في حال تجل عن الوصف وتستعصي على التعبير. فإذا حاول الصوفي الإفصاح عن هذه الحالة لم يجد في كثير من الأحيان سوى لغة الرمز والإشارة، وإن كان في أحيان أخرى يلجأ إلى اللغة المتعارف عليها. فهو يتحدث عن «الشهود» فيصفه بأنه فيض من النور الإلهي الذي تنغمس فيه الروح وينكشف به سر الخليقة، ويتحدث عن «الحب» فيصفه بأنه نار محرقة تنمحي فيها الشخصية الفردية ويفنى فيها المحب في المحبوب، ويتحدث عن «الحرية» فيصفها بأنها الانطلاق من قيود العبودية إلى سعة فناء السرمدية، ويشبه النفس بطائر يحن أبدا إلى الرجوع إلى وطنه الأول، ويتحدث الصوفي عن الخمر والسكر والساقي، وعن المغاني والأطلال والدمن، والغياض والرياض، وعن ليلى ولبنى وعزة وسلمى، كما يتحدث عن الوصال والاتصال والعناق والتلاقي والفراق والهجر والأنس والوحشة وغير ذلك من ألفاظ الغزل الإنساني.
ومن الطبيعي أن يستعمل الصوفي لغة الرمز وهو يحاول التعبير عما يشعر به في الحب الإلهي الذي يختلف في جوهره عن أي حب معهود، وربما كان في رمزيته أبلغ وأعظم تأثيرا في نفس سامعيه مما لو استعمل لغة التصريح والتوضيح: إذ الرمزية لها عمل كعمل السحر، لا تمس العقل إلا من حيث تثير فيه الخيال والوجدان، ولكنها تمس القلب مسا مباشرا، ويعمق أثرها وتتضح معانيها مع التكرار، ولغة الحب الإلهي الرمزية لغة عالمية يستعملها جميع الصوفية على اختلاف أديانهم وأوطانهم لأنهم في الحقيقة ينتمون إلى وطن واحد هو الوطن الروحي الذي يعيشون فيه جميعا.
وليس من المستحيل نقل الشعور الصوفي عن طريق الرمزية إلى غير الصوفية ممن لا يعانون تجاربهم ولا يحيون حياتهم، وإلا كيف تحس النفوس غير المتصوفة نغمة الإشارة والرمز الصوفي، وكيف تهتز لها أحيانا؟ إن إمكان نقل هذا الشعور إلى غير الصوفية دليل على أن بذور التصوف كامنة في قرار النفس الإنسانية، غير أنها قد تنمو في بعض النفوس تحت تأثير العوامل الروحية المواتية، أو بفضل مزاج طبيعي ملائم، وقد تظل كامنة من غير نمو في نفوس أخرى لم تتهيأ لها تلك العوامل أو ذلك المزاج.
إن الصوفي لا غنى له عن لغة الرمز والإشارة، واصطناع أساليب التمثيل والتصوير لكي يترجم عن أحواله ويعبر عن مواجيده وأذواقه، مهما يكن في لغة الرمز من قصور عن التعبير؛ لأن موضوعات تجاربه خارجة عن نطاق الموضوعات الحسية والعقلية التي تعبر عنها اللغة الوضعية الاصطلاحية.
وإذا لجأ الصوفي في التعبير عن حبه الإلهي إلى لغة الرمز والإشارة - وكثيرا ما يفعل - فلا مناص من تأويل عباراته، وصرفها عن معانيها الظاهرة إلى معان روحية باطنة، كما هو الحال في الشعر الصوفي الذي هو تصوير فني قصد به الإشارة إلى حقائق روحية، ومن أشنع الأمور أن نفهم لغة الصوفي في الحب الإلهي بمدلولها المادي، أو نئولها تأويلا يتفق مع مستلزمات ذلك المدلول.
فإذا تحدثت «رابعة» عن الحب الإلهي أو القديسة كاترين عن الزواج الروحي، قلنا هذا شعور جنسي مقنع، وإذا قال أبو يزيد البسطامي أنه رأى في المنام أنه ضرب خيمته بجوار العرش، أو قال بليك
Blake
أنه رأى في مشهد من مشاهده أنه لمس السماء بإصبعه، قلنا هذان الرجلان يهذيان، وإذا ذكر الصوفية كلمة «النكاح» و«وصلة النكاح» أو «الخمر» أو ما ماثل ذلك، قلنا هؤلاء قوم محرومون استولى عليهم سلطان شهوة مكبوتة، وكذلك إذا تغنوا بحب ليلى وسعدى وبجمال الثغر وسواد الشعر وامتشاق القوام، قلنا قوم استغرقوا في المادية ولذائذها.
وقد كثرت اتهامات الصوفية في أقوالهم في الحب الإلهي عن أحد طريقين: إما عدم تأويل هذه الأقوال، أو إساءة تأويلها قصدا أو عن غير قصد.
وقد يقال إن الصوفية لجئوا في التعبير عن الحب الإلهي إلى الأسلوب الرمزي لأنهم أرادوا أن يحتفظوا لأنفسهم بأسرار ضنوا بالإفصاح عنها على غيرهم، أو أنهم اتخذوا من الرمزية ستارا يخفون وراءه عقائد لو صرحوا بها لاستبيحت دماؤهم، وقد يقال غير هذا وذاك، ولكن السبب الحقيقي - فيما أرى - أنهم إنما عبروا عن حبهم لله وعن الكثير من أحوالهم ومواجيدهم بتلك الأساليب الرمزية لأن التجارب الصوفية أشبه شيء بالتجارب الفنية: والرمز - لا الإفصاح - هو التعبير الوحيد عن هذه التجارب، ولكن ليس كل صوفي أوتي ذلك المزاج الفني ولا قوة التعبير الفني؛ ولذلك انقسم الصوفية الصادقون في تصوفهم إلى طائفتين: طائفة التزمت الصمت وأخرى نطقت رمزا، ومن أشهر هؤلاء الجنيد والحلاج وابن الفارض من بين المتكلمين بالعربية، وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار من بين المتكلمين بالفارسية.
ثورة التصوف في مجال المعرفة
يقول الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال بعد أن ناقش المدركات الحسية والعقلية وظهر له أن حاكم الحس يؤمن بالمحسوسات إلى أن يكذبها حاكم العقل، وأن في الإمكان أن يكون في الإنسان حاكم يكذب حاكم العقل فيما يقول به: «فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك؟ ألا يمكن أن تطرأ عليك حالة أخرى تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها، فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها؟ ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم أنهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن أحوالهم وحواسهم، رأوا أحوالا لا توافق هذه المعقولات.» نعم، لعل في الإنسان قوة غير قوتي الحس والعقل، وفوق قوتي الحس والعقل قوة ترى الحقيقة في صورة لا هي محسوسة ولا هي معقولة، بل «متذوقة»، ولعل هذه القوة هي ما يدعيه الصوفية، لا صوفية المسلمين وحدهم بل صوفية العالم أجمع.
ومن نكد الدنيا أن يظهر بين المفكرين في كل العصور قوم يقصرون المعرفة على مجال الحس، ويدعون أن ما لا يناله الحس ففرض وجوده محال، كأن الإنسان لا يعلم على الحقيقة إلا الأمور المادية الخاضعة لحواسه وتجاربه ومقاييسه وأدواته الأخرى. سمى هؤلاء القوم أنفسهم بالحسيين أو الماديين أو الواقعيين أيام كان مذهبهم بسيطا ساذجا، والآن وقد تعقد تفكيرهم بتعقد الأساليب العلمية التي افتتنوا بها افتتانا، يطلقون على مذهبهم اسم «الوضعية المنطقية» و«الفلسفة الوضعية» وغير ذلك من الأسماء التي تقع من نفوس بعضهم موقع السحر، ولا يعترف أصحاب «الوضعية المنطقية» بأي نوع من أنواع المعرفة سوى «المعرفة العلمية»؛ ولذلك لا يؤمنون بفلسفة ما بعد الطبيعة والأخلاق وفلسفة الأديان يتبرءون منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وهؤلاء قوم أحق بأن نشفق عليهم من أن نلومهم أو نناقشهم الحساب، وأقل ما يقال فيهم أنهم حجروا رحمة الله الواسعة، فقصروا المعرفة الإنسانية على نوع واحد من أنواعها، وهو لسوء الحظ أدناها.
ومن نكد الدنيا أيضا أن يظهر بين المفكرين في كل العصور قوم يعتدون بالعقل وقواه ويزعمون أن في طاقته إدراك كل شيء محسوسا كان أم معقولا، ماديا كان أم روحيا، ذاتيا كان أم موضوعيا، مع أن العقل ومنطق العقل لا مجال لهما إلا في دائرة محدودة من الوجود هي دائرة العالم الخارجي وما يتصل به، وهو العالم الذي نشآ فيه، واستمدا منه مقولاتهما، أما ما وراء هذا العالم فلا طاقة للعقل بإدراكه ولا مكان لمقولات العقل فيه. إن العقل ميزان صحيح في دائرته المحدودة، كما يقول ابن خلدون ولكن لا غناء فيه في تقدير مسائل الألوهية والأحوال الوجدانية وأمور الآخرة ونحو ذلك، وإلا كان كالميزان الذي يوزن به الذهب فطمع صاحبه أن يزن به الجبال، ولو أن المنكرين على الصوفية استقصوا التجارب النفسية التي تنكشف فيها «المعرفة» لوجدوا أن منها ما لا يمكن وصفه بأنه حسي ولا عقلي، وهي التي نصفها بأنها تجارب ذوق أو وجدان أو شهود، كالتجارب الصوفية التي ينكشف فيها نوع خاص من المعرفة له مميزاته وخصائصه كما أن له موضوعاته.
ولا يقدح حصول هذه التجارب لطوائف خاصة من البشر كالصوفية والفنانين في أنها ظواهر حقيقية، كما لا يقدح كونها فردية وشخصية في أنها تتحصل لصاجبها نوعا من المعرفة، وإن كانت تختلف اختلافا جوهريا عن المعرفة العلمية، وإلا فمن ينكر على الصوفي أو الفنان أنه «يدرك » و«يعرف» و«يتذوق» و«يشعر» وهو يعالج تجربة صوفية أو فنية؟ لا ينكر ذلك إلا مكابر أو جاهل، ويكفي أن يوجد عنصر الإدراك لتكون هناك معرفة.
أما العقل البحت غير المؤيد بالذوق والشهود فغاية ما يصل إليه في مسألة الألوهية هو أن يقرر وجود موجود مطلق منزه عن صفات المحدثات، هو مبدأ المبادئ وعلة الوجود، ولكن هذا إله لا يدبر الكون ويحفظه ويتصل به الإنسان ويحبه ويناجيه؛ لأنه إله موغل في التجرد والسلبية وليست له تلك الصفات الإيجابية التي تصل بينه وبين الخلق. هو مبدأ ميتافيزيقي وليس إلها على الحقيقة، وقد يخلع على الله صفة إيجابية كصفة «الخير» على نحو ما فعل ابن سينا في فلسفته، ولكن ليس لهذه الصفة من دلالة في نهاية التحليل إلا أنها «منح الوجود»، وبذا لم تزد على أن وصفت الله بأنه العلة الأولى أو المبدأ الأول في وجود العالم، أو علة فيضان الوجود عن المبدأ الأول كما يقول ابن سينا.
وقد أغنانا الغزالي عن إفاضة القول في هذا الموضوع بما ذكره في كتاب «المنقذ من الضلال» من أنه لما فتش في أقوال الفلاسفة والمتكلمين عن العلم اليقيني الذي تطمئن إليه النفس، رجع بالخيبة والفشل، ولم يزد بعد قراءته كتبهم إلا بلبلة في الفكر واضطرابا في النفس، ولا أظن أننا اليوم أسعد حظا منه بعد الذي قرأناه من كتب الفلاسفة والمتكلمين في مسألة الألوهية وما شاكلها، ولما انتهى بالغزالي المطاف إلى الصوفية وجد عندهم ضالته، ففي إشراق الصوفي وحده، وفي حالة وجده واتصاله، يحظى بمحبوبه ويعرفه، وكل ما يستطيع أن يقوله عن هذه المعرفة هو ما قاله أفلوطين الإسكندري وقد سئل عما رآه في حال وجده فقال: «المشهد هناك لمن يستطيع أن يراه.» (1) أداة المعرفة الذوقية
يعتقد الصوفية أن مركز المعرفة الصوفية وأداتها هو «القلب» لا العقل، وأنه أيضا مركز المحبة الإلهية والتجلي الإلهي، وإن كانوا أحيانا يفصلون فيختصون المعرفة بالقلب والمحبة بالروح والتجلي بالسر، ولكن الحقيقة أن المعرفة والمحبة والتجلي في نهاية التحليل مظاهر ثلاثة لشيء واحد أو قوة واحدة هي التي نطلق عليها اسم «القلب» بمعنى عام.
وليس المراد بالقلب تلك المضغة الصنوبرية الجاثمة في الصدر، بل هو لطيفة ربانية غير مادية يدرك بها الإنسان الحقيقة الوجودية، وفيها يتجلى الحق لعبده، وبها يحب العبد ربه. بعبارة أخرى هو مركز الإدراك الذوقي في الإنسان.
وقد تبدو وظيفة القلب على نحو ما يصوره الشعر الصوفي أدنى إلى الجانب العاطفي منها إلى جانب الإدراك، ولكنا ذكرنا أن القلب في نظر الصوفية عامة مركز الحب والإدراك جميعا، بل ذكرنا أن المعرفة الذوقية بالله والحب الإلهي وجهان لحقيقة واحدة.
وليس بعجيب أن يعد الصوفية القلب مركزا للإدراك الذوقي أو الفهم كما يسمونه أحيانا، أو المعرفة اليقينية على الإطلاق، فقد جرت لغة القرآن الكريم بهذا الاستعمال فجعلت من القلب محلا للإيمان الصحيح، ومركزا للفهم والتدبر. يقول الله تعالى:
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ،
1
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ،
2
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ،
3
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ،
4
وقالوا قلوبنا غلف ،
5
ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ،
6
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ،
7
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .
8
بل إن مرض القلب في اللغة القرآنية هو الذي يحول دائما دون الفهم الصحيح والإدراك الواضح لحقائق التنزيل وللإيمان بوجه خاص. يقول الله تعالى:
والذين في قلوبهم مرض ،
9
ويقول:
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ،
10
وهكذا وهكذا.
ولكن القلب لا يصبح محلا للإدراك الذوقي والمعرفة اليقينية، ولا مركزا للمحبة الإلهية، إلا إذ صفت صفحته وانجلت غشاوته، وارتفعت عنه حجب الشهوة والهوى، وتخلص من تأثير العقل، ولذا نرى قلوب السالكين إلى الله مسرحا لنضال عنيف بين جند الرحمن وجند الشيطان على حد قول الغزالي، يطلب كل الظفر بالقلب لنفسه. فإذا كانت الغلبة لجند الشيطان، انحط الإنسان إلى مرتبة البهائم، وإذا كانت لجند الرحمن، ارتفع إلى مرتبة الملائكة، وللقلب بابان تدخل من أحدهما المعرفة ومن الآخر الوهم، وتدخل المحبة الإلهية من الأول ويدخل الاشتغال بما سوى الله من الثاني. هذا عالم وذلك عالم آخر، والصوفي الصادق هو الذي يتخذ مكانه في البرزخ بين العالمين، كما يقول جلال الدين الرومي.
وكما فرق الصوفية بين القلب والعقل من حيث هما أداتان للإدراك، ميزوا كذلك بين نوعي الإدراك الحاصلين منهما، واختصوا كلا منهما باسم، فسموا إدراك العقل «علما» وإدراك القلب «معرفة» وذوقا، وسموا صاحب النوع الأول «عالما» وصاحب النوع الثاني «عارفا»، والفرق الجوهري بين المعرفة والعلم أن المعرفة إدراك مباشر للشيء المعروف، والعلم إدراك حقيقة من الحقائق عن الموضوع المعلوم، والمعرفة «حال» من أحوال النفس يتحد فيها الذات المدركة والموضوع المدرك، والعلم حال من أحوال العقل يدرك فيها العقل نسبة بين مدركين سلبا أو إيجابا، أو يدرك مجموعة متصلة من هذه النسب، والمعرفة «تجربة» تعانيها النفس، والعلم حكم ينطق به العقل.
وضع الصوفية هذه التفرقة بين المعرفة والعلم منذ تكلموا عن المعرفة، وعن معرفة الله بوجه خاص، وكان للتمييز بينهما أثر عميق في موقفهم من الله ومحبته والاتصال به وغير ذلك مما لا مجال للعقل فيه كما قلنا. بل إنه جاء دور من أدوار التصوف كانت «المعرفة» فيه هدفا من أهداف الطريق الصوفي، أو الهدف الأكبر فيه، واعتبر كل ما عداها وسيلة لها، وإذا قيل إن الحياة الصوفية تهدف إلى الاتصال بالله، فليس لهذا الاتصال من معنى عند جمهور الصوفية سوى معرفة الله عن طريق حبه، أو حب الله عن طريق معرفته، والله عند الصوفية حقيقة تعرف، بل هو الحقيقة على الإطلاق، وكل ما يدرك من الحق يشير إليه.
وللغزالي وأمثاله لغة أخرى يعبرون بها عن المعرفة الصوفية الذوقية، فالمعارف الذوقية في نظر الغزالي من العلوم الإلهامية، التي تنكشف في القلب انكشافا أو تلقى فيه إلقاء بدون تعمل أو جهد أو اختيار، ولا فرق بينها وبين الوحي إلا أن صاحبها لا يدري كيف ألقيت في قلبه ولا من ألقاها، أما الموحى إليه فيدري الواسطة الملقية إليه وهي الملك، وقد اختص بالنوع الأول الأولياء والأصفياء وبالنوع الثاني الأنبياء، ولكن النوعين من معدن واحد هو العلم اللدني الذي لا دخل لكسب الإنسان فيه. أما ما عدا ذلك فهو العلوم التعليمية التي هي من عمل العقل وكسبه.
ويقول الغزالي فيما ذكره في هذا الموضوع في الجزء الثالث من الإحياء: «إن أهل التصوف يميلون إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية؛ ولذلك لم يحرص الكثيرون منهم على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون، ولا البحث في الأقاويل والأدلة، وإنما لزموا طريق المجاهدة والتصفية وقطع العلائق بكل ما سوى الله. فإذا تم لهم ذلك، تولى الله قلوبهم، وإذا تولى الله قلب عبد فاضت عليه الرحمة وأشرق فيه النور وانكشف له سر الملكوت وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية. فإذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تتجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا، تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفا، وإن ثبت فقد يطول ثباته وقد لا يطول، ومنازل أولياء الله فيه لا تحصر كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم.»
11
ويؤيد الغزالي المعرفة الذوقية أو الإلهامية بثلاثة شواهد: الأول التجارب الشخصية التي جربها الأنبياء والأولياء وتكشفت لهم فيها معاني الغيب، والثاني الأخبار المتواترة، والثالث نصوص القرآن والحديث فإن فيهما إشارات صريحة إلى وجود نوع خاص من المعرفة يحصل نتيجة لجهاد النفس وشرح الصدر ومداومة التقوى. قال الله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
12
قيل معناه: سنرشدهم بالعلم الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم، وقال:
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا
13
قيل: نورا يبين الحق والباطل، وقال:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ،
14
وقال:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
15
قيل: الحكمة الفهم في كتاب الله، وقال تعالى:
وعلمناه من لدنا علما ، إلى غير ذلك من الآيات.
ويجمع الصوفية على أن قصة موسى مع الخضر قصة أريد بها توضيح الفرق بين نوعين من العلم: العلم الظاهر الذي يمثله موسى، والعلم الباطن (أو المعرفة) الذي يمثله الخضر.
ثورة التصوف في مجال الذكر
الذكر هو الحفظ وما يجري على اللسان، ومن معانيه أيضا الثناء والصلاة والدعاء. ففي الذكر جانبان مرتبطان: الأول إجراء اسم الشيء المذكور على اللسان؛ أي النطق به، والثاني المعنى الملحوظ في هذا الإجراء. فقد يكون المراد بذكر الاسم مجرد حفظه وتثبيته في الذهن، وقد يكون المراد معنى آخر كالثناء على المسمى أو التنويه به أو تشريفه، وقد يكون المراد - كما هو الحال في ذكر الله - الصلاة والدعاء إلى جانب الثناء.
وقد ورد «الذكر» في القرآن باعتباره نوعا من أنواع العبادة. قال تعالى:
واذكروا الله كثيرا
1
أي تذكروه وتفكروا فيه. كما ورد طلب جريان اسم الله على اللسان في مثل قوله تعالى:
واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ،
2
وقوله:
واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا .
3
وليس في هذا أو ذاك مغزى صوفي خاص، كما أن المسلمين الأوائل لم يحاولوا أن يفهموا من مثل هذه الآيات أكثر من أنها تأمر بكثرة جريان اسم الله على اللسان تعبدا، وتحض على دوام ذكره والتفكر فيه باعتباره الخالق المدبر، ولكن الصوفية نظروا إلى الذكر نظرة أخرى وحددوا وظيفته ومنزلته بين العبادات، كما فصلوا في أنواعه وقواعده. لم يقصروا الذكر على ترديد اسم الله، بل أدخلوا فيه التعبد بأي اسم من الأسماء الإلهية، وبجمل مقتبسة من نصوص القرآن مثل:
سبحان ربي ،
الله لا إله إلا هو ، وما أشبه ذلك.
ومن أبرز أنواع الذكر عند الصوفية التسبيح والحمد والثناء على الله والتفكير في عظمته وآلائه، وفي تواتر إحسانه ونعمائه، والتفكير في تقصير العبد عن الشكر والاعتراف بظواهر النعم وبواطنها، والعجز عن القيام بما أمره الله به من حسن الطاعة.
4
ففي التسبيح ينزه الذاكر الله عن صفات المحدثات، وينفي عنه كل عيب ونقص، وفي التفكير يتأمل الذاكر في صفات الله وآلائه وعجائب مخلوقاته، كما يتأمل في نفسه وما اقترفه من ذنوب وآثام، وفي عقاب الله وبلائه الظاهر والباطن، وفي الحمد والثناء يتذكر الذاكر ما أنعم الله به عليه من النعم، ويؤدي ما وجب عليه من الشكر نحو مسديها؛ ولهذا قالوا إن الذكر اسم جامع لأعمال القلوب كلها: فإن من ذكر الله الذكر الحقيقي وراقب في ذلك جميع أقواله وأفعاله وخواطره، كان ذكره مصدر أعمال قلبه، أو كان جماع هذه الأعمال، والحقيقة أن السالك إلى الله ليس بحاجة إلى التزود بزاد غير «الذكر»، فإن من ذكر الله في ذاته وصفاته وأفعاله على نحو ما يجب أن تكون عليه ذاته وصفاته وأفعاله فقد عبده العبادة المثلى.
ومن ذكر الله ذكر شرعه وامتثل أمره ونهيه فأطاع الله الطاعة المثلى، ومن ذكر ربه عرف معنى الربوبية وتحقق بمعاني العبودية، وأدرك قدر نفسه وقدر العالم الذي يعيش فيه، وزهد في الدنيا وزخرفها. فالذكر - بهذا المعنى - هو النبراس الذي يضيء السبيل إلى الحياة الروحية الحقة، بل هو الحياة الروحية ذاتها.
ويعتبر الصوفية «الذكر» أعلى منزلة من الصلاة المفروضة، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى:
اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر
5
قالوا إما بمعنى أن الذكر أكبر من الصلاة إطلاقا، أو بمعنى أنه أكبر شيء في الصلاة كما ذهب إليه ابن عربي.
6
الصلاة الظاهرة هي بدن الصلاة، أما جوهرها وحقيقتها وروحها فهو الذكر، ويذهب إلى هذا المعنى أو إلى ما هو قريب منه الفيلسوف ابن سينا في رسالة «ماهية الصلاة»، فإنه يفرق بين الصلاة الحقيقية التي هي نوع من الرياضة العقلية وتطويع لقوى النفس المتوهمة المتخيلة لكي تدرك من الحق ما يليق بمقامه الأقدس، وبين الصلاة التي تجري على الجوراح وتظهر فيها الأقوال والأفعال. هذه هي عبادة البدن وعبادة العوام المكلف بها من قبل الشرع في نظره. أما الصلاة الباطنة فلم يكلف الشارع بها لأن النفس الناطقة تلزم بها نفسها إلزاما، ومن تحصيل الحاصل أن يكلف الإنسان أمرا تقضي به طبيعة عقله.
7
ولكن الفرق كبير بين تصور ابن سينا للصلاة «العقلية» التي كاد أن يجعلها تأملا فلسفيا بحتا، وبين صلاة الصوفية التي هي - على الرغم مما فيها من ذكر وتأمل - مناجاة قلبية بين العبد وربه ومجالسة وحديث مع الحق تعالى، وشهود له في عين القلب، وسماعه لصوت الحق، وهي فوق هذا كله استيلاء للمحبوب على قلب المحب، واستغراق للمحب في المحبوب بحيث لا يرى ولا يسمع سواه كما قال قائلهم:
إذا ما تجلى لي فكلي نواظر
وإن هو ناجاني فكلي مسامع
ويقول ابن عربي في الذكر الحقيقي الذي هو مجالسة بين العبد والحق: «وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه، فإنه تعالى جليس من ذكره، والجليس مشهود للذاكر، ومتى لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر. فإن ذكر الله سار في جميع العبد، لا من ذكره بلسانه خاصة، فإن الحق لا يكون في ذلك الوقت إلا جليس اللسان خاصة، فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان.»
8
ويستشهد الصوفية أيضا في تفضيل الذكر على الصلاة بقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «تفكر ساعة خير من عبادة سنة.» قيل هو التفكير الذي ينقل العبد من المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى القناعة والزهد، وقيل هو التفكير الذي يظهر مشاهدة وتقوى، ويحدث ذكرا وهدى على حد قوله تعالى:
واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ، وقوله في وصف أعدائه:
الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري .
9
فمن رضي عنه وفقه لذكره، ومن غضب عليه حجبه عن ذكره، وذكر الله يورث التقوى كما قلنا؛ لأن الذاكر يقبل على الله بقلب فارغ من كل شيء سواه، والمحجوب عن الذكر محجوب عن الله؛ لأن قلبه مشغول بمن سواه وما سواه. أما الصلاة فلها أوقاتها، بل ساعاتها، وقد لاتجوز في بعض الأوقات، وفيها لا شك مناجاة بين العبد وربه قد تتحقق فيها لحظات من القرب، ولكنها لا تقرب العبد من ربه ذلك القرب المتصل الذي ينتج عن الذكر المتصل؛ لأنه مستدام في جميع الأوقات والأحوال. قال تعالى:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم .
10
بل الذكر عند الصوفية خير الأفعال الإنسانية كلها وأزكاها عند الله، وهم يروون في ذلك قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير من إعطاء الذهب والورق، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: ما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله تعالى.»
11
فالذكر كما نص الحديث خير من كثير من الأعمال التي فرضها الشرع وطالب المسلمين بأدائها كالصدقة التي أشير إليها بإعطاء الذهب والورق، وكالجهاد الذي أشير إليه بضرب الرقاب، لا بمعنى أن الذكر شيء يستعاض به عن هذه الفرائض، بل بمعنى أنه أفضل منها في ميزان القيم الدينية، ولو ذكر الإنسان الله الذكر الحقيقي، وراقبه في جميع أحواله وأفعاله، كما قلنا، لقام بما فرض الله عليه على أكمل وجه، فيكون قيامه بالفرض نتيجة لذلك العامل الروحي القوي المنبعث من أعماق قلبه، وهو ذكر الله، لا لمجرد طاعة الله في الأمر المفروض.
الذكر وأحوال الجذب والإشراق
ليس الذكر الصوفي عملا سلبيا كما وضح لنا مما سبق، وليس عملا آليا يقوم به اللسان عندما يردد اسم الله أو غيره من الأسماء الإلهية، وإلا لما كانت له تلك القوة الروحية التي يشير إليها الصوفية، بل هو عمل إيجابي تتجه فيه حيوية الذاكر نحو الاتصال بالمذكور وتجتمع عليه همته بحيث يستغرق فيه بكليته. هو الحضور التام مع الله، وعدم الغفلة عنه أو الاشتغال بما سواه، بحيث يستولي المذكور على قلب الذاكر، ويغيب الذاكر في المذكور ويحظى بمشاهدته وحده؛ ولذلك كان الذكر - فرديا أو جماعيا - وسيلة لاستثارة حالة الوجد وحصول الإشراق.
وليس الترديد اللساني الآلي والحركات البدنية الرتيبة التي يقوم بها الذاكرون في حفلاتهم، وما قد يصحب ذلك من سماع، سوى ظروف تعين على تهيئة الجو الملائم لحدوث هذه الحال. بل ليس ترديد اسم الله أو غيره من الأسماء الإلهية إلا المرحلة الأولى من مراحل الذكر: فإن الذاكر لا يزال يردد اسم الله بلسانه ثم بلسانه وقلبه معا، ثم يعقد لسانه عن الذكر وينطق قلبه حده به حتى يملأ ذكر الله كل جزء من أجزاء كيانه الروحي، وهنا تغلب عليه الحال ويفنى عن وجوده، وهنا أيضا يفتح الله عليه - على حد قول الغزالي - بما يفتح به على أنبيائه وأوليائه، ويحصل له الإشراق الذي يأتي أحيانا في صورة البرق الذي يومض لحظة ثم يخبو، وأحيانا يدوم لحظات، وهي حال تجل عن الوصف ويصحبها لذة هي أعظم ما قدر للإنسان أن يحظى به في هذه الحياة. فالذكر الذي ينشده الصوفية هو بعينه الفناء في الله، أو هو الطريق المؤدي إلى ذلك الفناء. يقول ذو النون المصري: «من ذكر الله على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله تعالى عليه كل شيء، وكان له عوضا عن كل شيء.»
1
ويروى عن الشبلي أنه كان ينشد في مجلسه:
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجد أموت من الهوى
وهام علي قلبي بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري
شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودا بغير تكلم
ولاحظت معلوما بغير عيان
2
أي إنه لما استولى عليه سلطان الوجد وأشهده أن الحق جليسه وحاضر معه، ولما فرغ فؤاده من كل شيء إلا من الله، شهد الله في كل شيء وفي كل مكان، وخاطبه بغير لسان، وعاينه بغير عيان، وهذا بعينه هو الفناء الصوفي، وهو وحدة الشهود التي أسلفنا ذكرها.
أما ما فهمه المتأخرون من أصحاب الطرق الصوفية من الذكر في الحلقات، وما يصحبه من حركات الرقص التوقيعي على نغمات الموسيقى، فليس من الذكر في شيء، ولكنه ضرب من الدجل والشعوذة يؤدي إلى حال أدنى إلى الصرع منها إلى الفناء الصوفي، وهو مظهر من مظاهر الانحلال في أوساط أدعياء التصوف الذين يتبرأ منهم الصوفية المخلصون، ولم يبتل التصوف بمثل ما ابتلي به على أيدي هؤلاء الجهلة الذين شوهوا جماله وأفسدوا سمعته ومعناه.
والذكر أمر مشترك بين العبد وربه كما نصت الآية الكريمة:
فاذكروني أذكركم ، وما نص عليه الأثر الذي يرويه النبي عن الله وهو قوله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني. إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.»
3
إنني لا أعرف قولا أروع ولا أعذب من هذا في وصف الصلة بين العبد وربه الرحيم الودود السميع الدعاء القريب من المقربين إليه، وليس أبعد من الحق، وأدنى إلى مجافاة الصواب من وصف إله الإسلام - كما وصفه بعض الجاحدين من المنكرين - بأنه طاغية مستبد يتحكم في عباده غير عابئ بمصائرهم!
الحياة الصوفية في ظل المرشدين وأصحاب الفرق
جرت عادة الصوفية مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يقسموا الحياة الصوفية إلى قسمين: حياة المجاهدة وحياة المشاهدة، فيفرقوا بين أعمال الزهد والرياضات والعبادات من جهة، وما ينكشف في الطريق الصوفي من معان وأسرار وإشارات وموارد من جهة أخرى، وقد أطلق المسيحيون في القرون الوسطى على القسم الأول اسم «حياة التطهير»، وعلى الثاني اسم «حياة الإشراق»، وسمى صوفية الإسلام الأول باسم الزهد، والثاني باسم التصوف، وهذه تفرقة قد التزمناها في هذا الكتاب في بعض المواضع تسهيلا للبحث وعرض المسائل، وربط الظواهر الصوفية الإشراقية بالجانب العملي من الحياة الصوفية على نحو ما تربط المسببات بأسبابها، ولكن الحقيقة أن الحياة الصوفية كل لا يتجزأ ولا ينقسم ، ووحدة متصلة لا تخضع لحدود زمانية بحيث يقال إن هذا الجزء متقدم بالزمان على ذلك الجزء، كما أنها لا تخضع لمنطق العقل بحيث يقال إن جانبها العملي بمثابة المقدمات وجانبها الإشراقي بمثابة النتائج. نعم، قد نصف الفوائد الروحية والأحوال النفسية التي يعانيها الصوفي بأنها ثمرات المجاهدة، ولكن الثمرة هنا ليست شيئا منفصلا ولا مستقلا عن الشجرة التي تحملها، بل هي جزء لا يتجزأ منها.
وكما أن الشجرة قد تنمو وتترعرع وتورق ولا تثمر، كذلك السالك في الطريق الصوفي قد يحيى حياة مجاهدة غير موجهة وغير سليمة ولا يظفر بشيء من الحياة الذوقية الكشفية، وبذلك لا تؤدي رياضاته ومجاهداته إلى النتيجة التي يطلبها من تصفية النفس وصدق المعاملة مع الله والخلق؛ ولهذا أوجب الصوفية على المريدين صحبة المشايخ لكي يرشدوهم على التغلب على مصاعب الطريق ويمكنوهم من الترقي في سلم المعراج الروحي.
والصحبة الصوفية شيء أعم من مجرد التلمذة أو الاتباع، وإنما هي من قبل الشيخ تعهد وإرشاد ومراقبة دقيقة ومحاسبة للمريد وتصحيح أوضاع ونقد وتعليم وتبصير بأسرار الحياة الروحية، وهي أيضا محبة وعطف وإشفاق، وأخذ بالصرامة والعنف حيث تجب الصرامة أو العنف، وهي من جانب المريد طاعة وحب وتفويض وفناء في شخصية الشيخ المرشد، وبهذا يستطيع الشيخ أن يوجه الطاقة الروحية الكامنة عند المريد ويخرجها من القوة إلى الفعل على الوجه الذي يحقق لها ثمرتها. يقول الأستاذ أبو علي الدقاق أستاذ القشيري: «الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد ورق ولكنه لا يثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لا يجيء منه شيء.»
1
ويقول أبو يزيد البسطامي: «من لم يكن له أستاذ فأستاذه الشيطان.»
ولا تتهيأ هذه القيادة الروحية إلا لكبار الروحانيين أصحاب البصيرة النافذة والفراسة القوية، الصادقين في إرشادهم، المخلصين لدينهم وأصحابهم، وهؤلاء قلة من الصوفية ظهروا ويظهرون بين حين وآخر، وأسسوا ويؤسسون مدارس في التصوف وإن لم يكن لبعضهم كتب مصنفة. هؤلاء الروحانيون نماذج حية مشعة موحية موجهة عن طريق الإيحاء والإيمان أكثر منها عن طريق التعليم والوعظ، وقد سجل لنا تاريخ التصوف أسماء عدد غير قليل من هؤلاء المشايخ الذين كان لهم أكبر الفضل لا في تكوين المريدين وحسب، بل في تشكيل الحياة الروحية في التصوف الإسلامي: منهم أبو القاسم الجنيد وأبو حفص النيسابوري وأبو علي الدقاق من العصر السابق على ظهور الطرق الصوفية، وعبد القادر الجيلاني وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري من رجال الطرق.
وللصوفية آداب في الطريق تحدد العلاقة بين الشيخ والمريدين وتعين واجبات كل، وقد تختلف هذه الآداب والواجبات باختلاف المشايخ والطرق في مسائل تفصيلية، ولكنها تتفق في الأمور الأساسية الجوهرية التي بدونها يضل السالك الطريق إلى الله.
والواجب الأول على المريد نحو أستاذه الطاعة المطلقة في كل ما يأمر به حتى ولو خيل للمريد أنه مأمور بشيء يخالف ظاهر الشرع. بل لقد بالغ بعض الصوفية فطالبوا بطاعة الشيخ أولا وطاعة الله ثانيا؛ لأن طاعة الله في نظرهم لا تصح إلا إذا وجه إليها الشيخ التوجيه الصحيح، وهم يعتبرون مخالفة المريد لشيخه دليلا على عدم صدق إرادته وعلى فساد حاله.
والواجب الثاني أن يحفظ المريد سره إلا عن شيخه، وأن يبوح له بكل عمل يعمله أو خاطر يخطر بباله. يقول القشيري: «ولو كتم نفسا من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في صحبته.»
2
ولو وقعت له مخالفة - غير مقصودة - فيما أشار عليه شيخه، يجب أن يبادر بالإقرار بها بين يدي شيخه في الوقت، ويستسلم لما يحكم به عليه من العقوبة، وقد تذكرنا هذه القاعدة بمبدأ «الاعتراف» عند بعض الطوائف المسيحية، ولكن الفرق بينهما جوهري وأساسي: إذ «الاعتراف» المسيحي متصل بأصل من أصول الدين، والاعتراف الصوفي جزء من نظام أخلاقي ولا صلة له بأية مسألة اعتقادية.
ولا تبدأ صحبة المريد للشيخ على الحقيقة إلا بعد أن يصح عزم المريد على الدخول في الطريق، ولا يصح هذا العزم إلا باجتياز المريد «عتبة» الطريق أو المقام الأول فيه، وهو مقام التوبة، ومعناه ليس الإقلاع عن المعاصي والاستغفار عما سلف منها وحسب، بل التصميم على دخول حياة جديدة تختلف في أهدافها وبواعثها عن كل ما ألفه السالك من قبل؛ ولهذا شبه الصوفية مقام التوبة بالميلاد الجديد لأنه الحد الفاصل بين حياتين: الحياة في الدنيا ومن أجل الدنيا، والحياة في الله ومن أجل الله.
أما الأسباب التي تدعو إلى التوبة بهذا المعنى فكثيرة ومتنوعة، وقد سجل لنا التاريخ عددا كبيرا منها في تاريخ أولياء المسلمين وغير المسلمين، منها الرؤى الخارقة والأزمات الروحية الحادة كأزمة الغزالي وأزمة القديس أوغسطين وغيرهما، ولكن هذه مسألة تعني علماء النفس أكثر مما تعنينا هنا.
وإذا أيقن الشيخ صدق توبة المريد قبل صحبته والإشراف عليه، وراقبه في مراحل الطريق التالية، وقد اصطلح الصوفية على تسمية هذه المراحل بالمقامات، وسموا ما يعرض فيها للسالك من أحداث روحية باسم الأحوال، وقد ذكر أبو نصر السراج في كتاب «اللمع» - وهو أقدم كتاب عربي في التصوف - سبعة من هذه المقامات هي: التوبة، والقناعة، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا. كما ذكر عشرة أحوال هي: الذكر، والقرب، والمحبة، والرجاء، والشوق، والأنس، واليقين، والمراقبة، والسكون.
أما القشيري والهجويري فيذكران عددا أكبر من المقامات والأحوال، ولهما أساليبهما الخاصة في عرضها وشرحها، وربما كان القشيري أدق في تعريفاته للأحوال الصوفية التي كثيرا ما يعرضها أزواجا متقابلة مثل: «القبض والبسط»، و«الهيبة والأنس»، و«التواجد والوجد»، و«الجمع والفرق»، و«الفناء والبقاء»، و«الصحو والسكر»، و«المحو والإثبات»، و«الستر والتجلي»، وما إلى ذلك. أما الهجويري فيمتاز بدقة التحليل الصوفي لمفاهيم هذه المصطلحات، ومناقشتها والتعقيب عليها بأسلوب علمي بارع، كما يمتاز بإرشاداته إلى اختلاف آراء الصوفية فيها إذا كان هنالك اختلاف.
ولا ينتهي الطريق إلا بقطع المقامات كلها، ولا ينتقل السالك من واحد منها إلى آخر إلا إذا كان قد وصل إلى درجة الكمال في المقام السابق. فإذا اجتاز جميع المقامات انتقل إلى مرتبة روحية أعلى هي مرتبة المعرفة والشهود، وكمال المعرفة أن يدرك الصوفي ذوقا وحدة العارف والمعروف. (1) الفرق الصوفية
وكما يختلف كبار مشايخ الصوفية في تفصيل التكاليف العملية في الطريق الصوفي، كما هو واضح من تعاليم أصحاب الطرق التي ظهرت في الإسلام ابتداء من القرن السادس، كذلك يختلفون في وجهات نظرهم في المسائل النظرية والحياة الإشراقية ومظاهرها في المقامات والأحوال، وقد ظهر لنا بعض جوانب هذه الفوارق فيما عالجناه من ظواهر الحياة الصوفية كالمحبة الإلهية والذكر والفناء والبقاء وغير ذلك، وهذه الفوارق قديمة قدم التصوف ذاته، ولكنها لا ترتفع بأصحابها إلى مرتبة «الفرق» على النحو الذي نفهمه من علم الكلام، بل ولا مرتبة أصحاب المذاهب على النحو الذي نفهمه في الفقه. فالفرق في علم الكلام تمثل اتجاهات مختلفة في تفسير وفهم أصول العقائد الدينية، أو مسائل متفرعة عن هذه الأصول كمسألة خلق القرآن أو قدمه المتفرعة عن مسألة الصفات الإلهية وصفة الكلام الإلهي بوجه خاص، وكمسألة حرية الإرادة الإنسانية أو جبريتها المتفرعة عن مسألة العدل الإلهي، وغير ذلك.
وكذلك تختلف الفرق الكلامية في مناهجها في استنباط العقائد وتدعيمها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية، ومن أصحاب الفرق من يلتزم ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومنهم المتأول لها، وهم يختلفون في أساليب التأويل وتوجيهه وجهات تتفق وروح المذهب العام الذي تدين به الفرقة، وفي كل حالة يظهر موقف المتكلم لا من مسألة اعتقادية خاصة، بل من الدين كله: فالمشبهة والمجسمة من المتكلمين غير المنزهة، والمعتزلة غير الأشاعرة والكرامية والحشوية، والشيعة غير أهل السنة، وهكذا. بل إن كل واحدة من هذه الفرق تتمثل الدين في صورة غير الصورة التي تتمثله فيها الفرق الأخرى على الرغم من اتفاقها جميعا في المبدأ العقيدي الأول وهو مبدأ التوحيد.
أما الفرق الصوفية فلا خلاف بينها في مسائل العقائد، بل في الحياة الصوفية، ماهيتها ومقوماتها وغاياتها وأساليبها ومظاهرها. بعبارة أخرى يختلف الصوفية من حيث هم صوفية لا من حيث هم أشاعرة أو معتزلة أو ظاهرية، فقد يكون الصوفي واحدا من هؤلاء أو من غيرهم. فهم يختلفون في نظرتهم إلى ذلك اللون من الحياة التي اختاروها وتميزوا بها عن غيرهم، وإلى ما ينكشف لهم فيها من غريب الأحوال والأطوار وإلى حقيقة هذا الكشف وقيمته الروحية، وأخيرا يختلفون فيما يعدونه طريقا ناجحا موصلا إلى مطلوبهم، ويتبعهم في هذا الطريق أصحابهم ومريدوهم.
وقد عقد الشيخ أبو الحسن علي بن عثمان بن علي الجلابي الهجويري المتوفى سنة 456 فصلا ممتعا في كتابه «كشف المحجوب» - وهو أقدم وأفضل مرجع في التصوف باللغة الفارسية - فيما سماه «فرق الصوفية»
3
وهي الفرق التي ظهرت في التصوف الإسلامي في عصره الذهبي وهو عصر التصوف البحت الذي شهد معظم كبار الصوفية المبتكرين، وكان التصوف فيه بعيدا - نسبيا - عن الاختلاط بالفلسفة وعلوم الأسرار، وقد قسم الهجويري هذه الفرق إلى اثنتي عشرة فرقة، قبل منها عشرا ورد اثنتين وضعهما تحت اسم الحلولية. أما العشرة المقبولة فأطلق عليها أسماء مؤسسيها، وهي: (1)
المحاسبية: نسبة إلى الحارث بن أسد المحاسبي. (2)
القصارية: نسبة إلى حمدون بن أحمد القصار الملامتي. (3)
الطيفورية: نسبة إلى أبي يزيد طيفور بن عيسى البسطامي. (4)
الجنيدية: نسبة إلى أبي القاسم الجنيد. (5)
النورية: نسبة إلى أبي الحسين النوري. (6)
السهلية: نسبة إلى سهل بن عبد الله التستري. (7)
الحكيمية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي. (8)
الخرازية: نسبة إلى أبي سعيد الخراز. (9)
الخفيفية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي. (10)
السيارية: نسبة إلى أبي العباس السياري.
وليس لأحد آخر فيما نعلم تصنيف للفرق الصوفية من هذا النوع، بل هو نوع انفرد به الهجويري في كتابه العلمي الرائع، وهو ينظر في هذا الفصل من الكتاب إلى الميدان الصوفي العام ويحاول أن يتبين المعالم البارزة فيه، ويركز هذه المعالم حول كبار مشايخ الطريق الذين كان لهم أتباع وتعاليم روحية اصطبغ بها تصوفهم وخلفت أثرها في مجرى التصوف العام؛ لذلك أفرد كل واحد من هؤلاء المشايخ بفقرة خاصة طويلة أحيانا وقصيرة أحيانا أخرى، معالجا أخص ما امتاز به تصوفه وتصوف فرقته، تاركا مختلف التفاصيل التي يشترك فيها مع غيره، كما يعرج أحيانا على المسائل التي هي موضع خلاف بين صوفي وآخر ليعرضها عرضا موضوعيا مفصلا ويورد أقوال الصوفية الآخرين فيها، ويسجل رأيه الخاص في أغلب الأحيان، وبهذا يضع الهجويري أمامنا صورة مصغرة لتاريخ المذاهب الصوفية واتجاهاتها منذ ظهر التصوف حتى نهاية النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.
والآن نعرض بعض جوانب الحياة الصوفية التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الصوفية حسب تقدير الهجويري لنتبين نوع هذا الخلاف ومداه، ولكننا سوف لا نتقيد في عرضنا بما يقوله الهجويري وحده في هذه المسائل، ومن ذلك: (1-1) اختلافهم في الفقر والغنى
يتكلم الناس عادة عن الفقر والغنى بمعناهما المادي: فالفقير عندهم هو المعدم الذي لا يملك ما يملكه الغني، والغني هو الذي أعطي بسطة في الرزق فكان له المال أو العقار أو غيرهما من متاع الدنيا، وقد تكلم أوائل الزهاد المسلمين عن الفقر والغنى بهذا المعنى فلم يتجاوزوا التصور المادي لهما؛ ولذلك جعلوا الفقر أساسا في طريقهم وتجردوا عما يملكون من مال ومتاع، بل جعلوا هذا التجرد بداية لا بد منها للدخول في ميدان الزهد، وإذا تصفحنا أقوال إبراهيم بن أدهم وغيره من زهاد المسلمين في الفقر لم نجد في كلامهم إلا هذا.
ولكن الصوفية ابتداء من القرن الثالث فلسفوا الفقر والغنى واتخذوا لهما معايير أخرى، وهي معايير لا صلة لها بالمال ولا بما يملك الناس من مقتنيات هذه الدنيا: وإنما صلتها بالنفس الإنسانية وصفاتها ورغباتها، وبالله وعلاقته بالعبد، ولذا كانت نظرتهم إلى الفقر والغنى نظرة ميتافيزيقية سيكولوجية عميقة بنوا عليها نظاما في الزهد على مستوى روحي أعلى.
وقد شاع اسم «الفقير» في أوساط الصوفية في عصر مبكر في تاريخ التصوف حتى كاد يصبح علما على الصوفي، ولكن «الفقير» بالمعنى الصوفي ليس هو المعدم الذي لا يملك قوت يومه، ولا الأشعث الأغبر لابس المرقعة، وإن كان من الصوفية من هم على هذا النحو، بل هو الصوفي الكامل الذي تحقق بصفات «الافتقار» إلى الله، وسار في حياته بمقتضى ما تحقق به، وهذه هي النقطة الأولى في فلسفتهم للفقر، وهي تفسيره بمعنى «الافتقار».
ليس الفقير عندهم إذن من خلا من الزاد، وإنما الفقير من خلا قلبه من الرغبة في المراد. هذا تعريف الفقير في عرفهم، وهو تعريف يفسر الناحية السلبية من الفقر الصوفي. أما الناحية الإيجابية فهي استغناء الفقير بالله وحده، وفي هذا يقول الشبلي: «الفقير من لا يستغني بشيء دون الله.»
4
فالفقر في عرف القوم فقدان الصفات والرغبات والإرادات والفوز بالله وحده، وبهذا المعنى يقرب الفقر الصوفي من حال «الفناء» التي أطلنا القول فيها في مناسبات عديدة، بل ومن أحوال أخرى كثيرة وإن لم تجر العادة بتسميتها باسم الفقر، وقد لاحظنا عند النظر في أحوال الصوفية وتحليلها وسبر أغوارها أنها يفضي بعضها إلى بعض، ويئول بعضها إلى بعض، ويندمج بعضها في بعض، وكأنما هي مظاهر مختلفة لتجربة روحية واحدة هي «التجربة الصوفية» التي يتحقق فيها استغراق الصوفي في الله. فسواء تكلم الصوفية في «المحبة» أو «الذكر» أو «الفناء» أو «الزهد» أو «الإيثار» أو «الفقر» أو «التوكل» أو «الوجد» أو «السكر» أو «الجذب»، تجدهم يحومون حول معان مختلفة لحقيقة واحدة هي اتحادهم بالله أو اتصالهم به أو قربهم منه أو ما شئت فسمه، وليست هذه الأسماء إلا الألوان التي تصطبغ بها تجربتهم عندما ينكشف في قلوبهم النور الإلهي القاهر، أو هي الزوايا التي ينكسر عليها ذلك النور.
وعندما اختلف الصوفية أيهما أفضل: الفقر أم الغنى، لم يكونوا يفكرون في الفقر والغنى الماديين؛ إذ لا جدال بينهم في أن الفقر المادي من ألزم صفاتهم وأن الغنى المادي من الأشياء التي يجب أن يزهدوا فيها، وإنما الاختلاف في الفقر والغنى من حيث هما حالتان من حالات النفس، وفي أي هاتين الحالتين أولى بالصوفي أن يتحقق بها.
ذهب يحيى بن معاذ الرازي وأحمد بن أبي الحواري والحارث المحاسبي وأبو العباس بن عطاء ورويم البغدادي وأبو سعد فضل الله بن محمد الميهني، إلى أن الاتصاف بالغنى أفضل من الاتصاف بالفقر: لأن الغنى من صفات الله وقد يوصف به العبد، والفقر من صفات العبد وحده، والصفة التي يمكن إطلاقها بالاشتراك على الله والعبد أفضل من تلك التي تطلق على العبد وحده، ولكن هذا استدلال خاطئ كما يلاحظ الهجويري: لأن جهة الاشتراك منفكة، وغنى الله ليس من نوع غنى العبد: إذ غنى الله معناه قيامه تعالى بنفسه وعدم افتقاره إلى غيره، وهو بذلك صفة قديمة لله. أما غنى العبد فهو استغناؤه بربه عن كل ما عداه، وهو صفة حادثة، ويذهب الهجويري إلى أن الغنى على الإطلاق إنما هو لله وحده، وأن الفقر صفة ملازمة للعبد، إذ الغني الحقيقي هو الغني عن الأسباب، ومن كان مصدر الأسباب كلها، وهو الله، كان هو الغني. يصف الله تعالى نفسه بأنه
غني عن العالمين
أي أنه لا يفتقر إلى شيء وليس معلولا لشيء.
والجمهور الأعظم من الصوفية يفضلون اتصاف الصوفي بالفقر دون الغنى لسببين: أولهما أن القرآن والحديث يمتدحان الفقراء ويصفانهم بأنهم أقرب وأحب إلى الله. يقول الله عز وجل:
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ،
5
ويقول:
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين .
6
ويروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.» ولكن الإشارة هنا إلى الفقر المادي وهو الاجتزاء بالقليل الضروري والزهد في متاع الحياة الدنيا، والسبب الثاني هو أن كل إنسان مفتقر إلى الله افتقار المعلول إلى علته؛ أي إن الافتقار من طبيعة المخلوق سواء أكان يملك شيئا أم لا يملك، وهذا هو بعينه معنى العبودية بدليل قوله تعالى في وصف كل من سليمان وأيوب بصفة «العبد» في قوله:
نعم العبد إنه أواب
7
مع أن سليمان كان صاحب ملك عظيم وكان أيوب فقيرا مبتلى، وأي افتقار أعظم من افتقار العبد إلى من يمنحه الوجود وما يتقوم به ذلك الوجود؟ إن الغني الذي منحه الله شيئا من النعم فقير من حيث هو غني؛ لأنه غني إذا نظرت إلى النعم ذاتها، فقير إذا نظرت إلى واهب النعم.
وإذا فهمنا من الفقر افتقار العبد إلى ربه ومن الغنى استغناءه به، لم يكن السؤال عن أيهما أفضل وأتم بالنسبة للعبد ذا موضوع؛ لأنه على حد قول الجنيد: «إذا صح الافتقار إلى الله عز وجل فقد صح الاستغناء بالله تعالى، وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغنى. فلا يقال أيهما أتم: الافتقار أم الغنى؛ لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.»
8
ومن ذلك:
الرضا
وهو من الظواهر التي اختلف الصوفية في اعتبارها من الأحوال أو المقامات، وفي هل الرضا أفضل من الزهد أم الزهد أفضل منه.
وقد امتاز مذهب الحارث المحاسبي باعتبار الرضا حالا من الأحوال، وتبعه في ذلك الخراسانيون، وذهب أهل العراق إلى اعتباره مقاما من المقامات. هذا هو رأي الهجويري، ولكن القشيري يعكس هذا الوضع عكسا تاما ويقول: «واختلف العراقيون والخراسانيون في الرضا هل هو من الأحوال أو المقامات، فأهل خراسان قالوا: الرضا من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل، ومعناه أنه يئول إلى أنه مما يتوصل إليه العبد باكتسابه، وأما العراقيون فإنهم قالوا: الرضا من جملة الأحوال، وليس ذلك كسبا للعبد، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال.»
9
ويحاول القشيري أن يوفق بين الاتجاهين فيقول: «ويمكن الجمع بين اللسانين فيقال بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وليست مكتسبة.»
10
وليست المسألة مسألة ألفاظ، وإنما هي من المسائل التي تظهر فيها النظرة العميقة إلى كنه الحياة الصوفية باعتبار «الرضا» عنوان هذه الحياة وجوهرها: فإننا إذا اعتبرنا «الرضا» حالا من الأحوال، كان شيئا وهبيا يلقيه الله في قلب العبد، ويرد عليه عندما يرد على فترات، شأنه في ذلك شأن الأحوال الأخرى. أما إذا اعتبرناه «مقاما» فهو من الأمور الكسبية التي يحصلها السالك بالرياضة والمجاهدة والتفكير في حكمة الله وأفعاله، وما يصدق على «الرضا» يصدق على غيره من مظاهر الحياة الصوفية الأخرى كالتوبة والورع والمحبة: فإن لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه على الحقيقة أحوالا أو مقامات، أو بعبارة أخرى عما إذا كانت مواهب أو مكاسب؟ وقد يكون من المبالغة اعتبارها كلها من المواهب الإلهية التي لا دخل لأعمال العبد فيها، فإن هذا يذهب بقيمة المجاهدات والرياضات جملة. كما أن من المبالغة أن ذهب إلى أنها كلها من أكساب العبد فنسد الطريق على العناية الإلهية التي يختص بها الله من يشاء، والحل الوسط الذي يذهب إليه القشيري هو أفضل الحلول: فهي كسبية في بداية أمرها وهبية في نهايتها؛ أي إن الصوفي في بداية حاله ينازل نفسه ويجاهدها ويروضها فيسير بها في مقام الرضا أو الورع أو التوبة، ثم يهبه الله تعالى في هذه المقامات المواهب ويورد في قلبه الأحوال التي تزيده إيمانا ويقينا برضاه وورعه وتوبته.
ولكن «الرضا» نوعان: رضا من جانب العبد، ورضا من جانب الله. قال تعالى:
رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ورضا الله عن العبد مجازاته على طاعته وإعلاء ذكره في الدنيا والآخرة، في حين أن رضا العبد عن الله هو الإذعان التام بإرادة الله والتسليم بقضائه وقدره والقيام بأمره، وبهذا يسبق الرضا الإلهي رضا العبد لأن من لا يرضى الله عنه لايوفقه إلى طاعته، فرضا العبد رهن برضا الله عنه ولازم من لوازمه.
وإذا حصل العبد في مقام الرضا استوى عنده المنح والمنع، والعطاء والحرمان، واللذة والألم، واستوت في نظره الأحداث خيرها وشرها، ما كان منها من مجالي الجلال الإلهي كالفقر والمرض في هذه الدنيا وكعذاب النار في الدار الآخرة، ومجالي الجمال الإلهي كالغنى والصحة في هذه الدنيا ونعيم الجنة في الدار الآخرة. سئل الحسين بن علي رضي الله عنه عن قول أبي ذر الغفاري: «الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلى من الصحة»، فقال: «رحم الله أبا ذر. أما أنا فأقول: إن من اتكل على حسن اختيار الله تعالى لم يتمن غير ما اختاره الله عز وجل.» فالذي أجاب بن الحسين بن علي هو ترك إرادة العبد والتفويض التام لإرادة الله، وهذا هو الرضا الصحيح.
والصوفي الكامل هو الذي يحول نظره إلى المعطي دون الشي ء الذي أعطاه، فإذا أعطاه الله النعمى لا يكون رضاه بها من حيث هي نعمى، بل من حيث صدورها عن الله؛ لأن الرضا بالنعمى من حيث هي ارتكان إلى الأسباب. فالنعمى لا تكون نعمى إلا إذا أدت إلى المنعم.
وكذلك الذي يرضى بالبلاء، يرضى به ويحتمل آلامه لا من حيث هو بلاء بل من حيث صدوره عن الله الذي أنزله به، والذي يرضى بالاصطفاء لا يرضى به إلا من حيث صدوره عن الله الذي اصطفاه. فالله هو المقصود بالرضا في جميع هذه الأحوال، ومن كان رضاه بالله كان رضاه بكل شيء.
والرضا هو قلب الحياة الصوفية والمحور الذي تدور حوله أخلاق الصوفي، فمنه ينبع التوكل على الله والزهد في الدنيا، وهو الذي يورث السكينة في القلب والاطمئنان إلى أحكام القضاء الإلهي، وهو صنو المحبة الإلهية، بل هو ثمرتها لأن من شأن المحب أن يرضى بكل ما يفعله المحبوب. قال أبو عثمان الحيري: «منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته.» وهذا كمال الرضا وكمال المحبة.
ومن ذلك: (1-2) اختلافهم في أسلوب الملامة ومظاهرها
الملامة أسلوب من أساليب تقويم النفس ومحاربتها وتطهيرها من شوائب العجب والرياء، ابتدعته فرقة من أشهر فرق الصوفية وأبعدها أثرا في تشكيل الحياة الصوفية في البيئة التي ظهرت فيها، وهي فرقة الملامتية.
من أشهر رجالها: حمدون القصار الذي يعتبر مؤسسها الحقيقي، وأبو حفص الحداد، وأبو عثمان الحيري، ويقوم مذهبهم الذي انتشر في نيسابور - وفي خراسان عامة - ابتداء من النصف الثاني من القرن الثالث على أصلين هامين: أولهما مقاومة النفس في كل ما يصدر عنها من أفعال وما يخطر بها من خواطر، وثانيهما إخفاء المظاهر التي تنم عن الحياة الروحية، وبخاصة ما يشير منها إلى الصلة بين العبد وربه، بل الظهور بين الناس بالمظاهر التي يبدو أنها لا تتفق مع ظاهر الشرع استجلابا لملامة الناس وتأنيبهم، ومن هنا سموا «الملامتية». على هذين الأساسين بنى الملامتية نظاما في التصوف العملي والنظري انفردوا به وامتازوا عن غيرهم من متصوفة العراق والشام الذين كانوا يعلنون مظاهر الورع والزهد ويحفلون بالطقوس والأشكال الدينية.
وقد جمع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي أصول الملامتية التي لا تخرج عن الأساسين سالفي الذكر في رسالة فريدة نشرناها مع دراسة تحليلية لمذهب هذه الفرقة، والصلة بينه وبين التصوف من ناحية، وبينه وبين «الفتوة» من ناحية أخرى.
11
وفي محاربة الملامتية للنفس التي يعدونها أعدى أعداء الإنسان ، حاربوا كل مظهر من مظاهرها ينبئ عن الرياء، فحرموا على أنفسهم وأتباعهم لبس «المرقعة» التي كانت شارة الصوفية وعنوان «الفقراء»؛ لما ينطوي عليه لبس المرقعة من ادعاء وما عسى أن يجلب للابسها من مدح الناس وإعجابهم وغير ذلك مما يدخل العجب إلى نفسه، وكذلك حرموا الظهور بين الناس بمظاهر الورع والتقوى والإيثار ونحو ذلك للسبب عينه. بعبارة أخرى، حرموا الرياء في الأعمال والأحوال والعلم، وقالوا باتهام النفس في كل ذلك ورؤية التقصير في كل ما يصدر عنها من أعمال الطاعة.
قيل إنه لما دخل أبو بكر الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان الحيري: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالطاعات ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها؟
12
أما الإقلاع عن لبس الخرقة من حيث هي مظهر من مظاهر الادعاء والرياء فيدل عليه ما جرى من حديث بين حمدون القصار المؤسس الأول لمذهب الملامتية، ونوح العيار أحد المعروفين بالفتوة بنيسابور، وهو الحديث الذي ذكره الهجويري وفريد الدين العطار.
13
قال حمدون: كنت أسير يوما في حي من نيسابور فلقيت نوحا العيار أحد المعروفين بالفتوة، وكان على رأس الشطار بنيسابور، فقلت له: يا نوح، ما الفتوة؟ فقال: فتوتي أم فتوتك؟ فقلت: صف الاثنين، فقال: «أخلع القباء وألبس الخرقة وأفعل الأفعال التي تليق بهذا الثوب لعلي أصبح صوفيا، وأقلع عن المعاصي لما أشعر به من الحياء من الله، ولكنك تخلق الخرقة لكيلا يخدعك الناس وينخدعوا بك. ففتوتي في اتباع ظاهر الشرع، أما فتوتك ففي تلبية نداء القلب.» في هذه العبارة القصيرة لخص نوح الفرق الجوهري بين أسلوب الملامتية وأسلوب الصوفية في فهم الحياة الدينية في مظرها وحقيقتها، وإذا كان للخرقة معنى فوق كونها شعارا للورع والزهد والتقوى، فهو أنها تذكر صاحبها بمنزلته من الله وتحول بينه وبين إتيان ما لا يليق بها من الأفعال وتحمله على فعل ما يتمشى مع ظاهر الشرع، وهذا لا شك باعث خارجي على الطاعة. أما الملامتي الذي لا يلبس الخرقة فهو في غنى عن هذا الباعث لأن باعثه الحقيقي على الطاعة هو نداء القلب. •••
أما من الأحوال فسنكتفي بذكر مثال واحد، هو اختلافهم في: (1-3) السكر والصحو
والسكر والصحو من أظهر الأحوال الصوفية وأخصها، وقد اختلف المشايخ في أيهما أفضل وأليق بالصوفي، وظهر هذا الخلاف في موقف أبي يزيد البسطامي وأتباعه من جانب، وأبي القاسم الجنيد وأصحابه من جانب آخر، وكان أبو يزيد من الصوفية الذين غلبت عليهم أحوال الجذب والوجد واختطفوا عن أنفسهم بالكلية؛ ولذا فاضت الأقوال المأثورة عنه بالتعبير عن الفناء والغيبة والسكر ونحو ذلك مما يشير إلى أنه كان في أغلب أحواله مأخوذا مشغولا عن نفسه وعن كل ما سوى الله بالله وحده، وقد أشرنا إلى الكثير من أقواله في كلامنا عن الفناء.
يعرف القشيري «السكر» بأنه «غيبة بوارد قوي»،
14
ويأتي هذا الوارد عندما يتجلى الحق للعبد بصفة من صفات جماله فيقع العبد في حالة أشبه ما تكون بحال السكر: يفقد فيها وعيه بذاته وبالعالم حوله وينحصر فيها وعيه في الله وحده من غير إحاطة ولا شمول ولا تحديد بكيفية زمانية أو مكانية، بل باستغراق كلي للمتناهي في اللامتناهي، وشعور غامر بوحدة الذات والموضوع، وهذا في نظر الصوفية هو «الصعق» الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى:
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ،
15
فالوارد الذي أسكر موسى وصعقه جاءه عندما تجلى ربه للجبل؛ أي ظهر في صورة من صور جماله في الجبل، فغاب عن نفسه في هذا المشهد، وشغل عنها وعن الجبل وبقي وعيه بالله المتجلي وحده.
والفرق بين السكر والصحو أن الصوفي في حالة سكره مستغرق في سكره، وليس عنده علم ولا خبر ولا إدراك للفناء والبقاء. أما في حالة صحوه فهو مدرك لنفسه وللعالم حوله ولكنه ينظر إليهما بعين الفناء؛ إذ البقاء للموجود الحقيقي الذي هو الله وحده.
ويفضل أبو يزيد وأصحابه السكر على الصحو لأن الصحو في نظرهم يقتضي وجود الصفات البشرية التي هي أعظم حجاب يحول بين العبد وربه، أما السكر فهو محو لهذه الصفات ورفع لحجب الاختيار والتصرف والتدبير.
أما الجنيد وأصحابه فيفضلون الصحو على السكر لأن السكر يخرج بالعبد عن حالته الطبيعية ويفقده سلامة العقل الواعي والقدرة على التصرف، وسر المسألة في نظرهم هو «المعرفة» بحقيقة الوجود، فإذا عرف الإنسان الأشياء على حقيقتها فر منها ونظر إليها بعين الفناء، ومن نظر إلى الأشياء بعين الفناء أدرك أنها معدومة بالإضافة إلى وجود الواحد الحق.
والسكر في نظر الجنيد وأصحابه أشبه بميدان لعب الأطفال وأليق بالمبتدئين في الطريق الصوفي، أما الصحو فهو الميدان الذي يصرع فيه الرجال وهو من صفات الصوفية المتمكنين. السكر عندهم توهم فناء الذات مع بقاء الصفات، وهذا هو الحجاب بعينه، أما الصحو فهو رؤية بقاء الذات مع فناء الصفات، وهذا هو الكشف.
وكما أن من تعود شرب الخمر حتى أصبح مدمنا عليها لا يرتوي منها مهما شرب، كذلك من ذاق طعم الخمر الإلهية وسكر بها لا تروي له غلة مهما شرب، ورجل الصحو لا يلتذ بالشرب ولا يقوى عليه، في حين أن رجل الشرب يلتذ بالشرب ويطلب المزيد. حكي أن يحيى بن معاذ الرازي كتب إلى أبي يزيد البسطامي: «ما ظنك بمن شرب قطرة من بحر حبه فسكر؟» فقال أبو يزيد: «ما ظنك بمن شرب بحور السموات والأرض وما روي بعد، ولسانه خارج يقول هل من مزيد؟»
16
يقول الهجويري معقبا على هذين القولين: «وقد توهم قوم أن يحيى بن معاذ يتكلم هنا عن السكر، وأن أبا يزيد يتكلم عن الصحو، لكن العكس هو الصحيح، فإن رجل الصحو هو الذي يعجز حتى عن شرب قطرة واحدة، ورجل السكر هو الذي يشرب كل ما يستطيع ويطلب المزيد.»
17
ومما يزيد في قيمة الصحو في نظر الجنيد أنه لا مجال فيه لإظهار المواجد، والسكر لا يكون إلا لأصحاب المواجد، وإظهار المواجد من الأمور التي عاب بها الجنيد على الصوفية واعتبرها من علامات ضعف الروحانية.
ولذلك رفض مصاحبة الحلاج واعتبره رجلا استسلم للمواجد ولم يكتم سرا كان أولى به أن يكتمه.
قيل إنه لما قطع الحلاج صلته بعمرو بن عثمان أتى إلى الجنيد فسأله: ما جاء بك إلينا؟ فقال الحلاج: جئت لصحبة الشيخ، فقال الجنيد: «أنا لا أصحب المجانين، إن الصحبة تقتضي كمال العقل، فإن لم يكن ذاك فالعقابة كما ترى من مسلكك من سهل بن عبد الله وعمرو بن عثمان المكي»، فقال الحلاج: «يا شيخ إن الصحو والسكر صفتان للعبد، والعبد محجوب عن ربه حتى يفنى عن صفاته»، فقال الجنيد: «يا بن منصور إنك أخطأت في الصحو والسكر، إن الصحو سلامة الحال مع الله، والسكر المبالغة في الشوق والمحبة، وليس واحد من هذين ينال بالكسب. يا ابن منصور إن في كلامك حماقة ومخرقة.»
18
ومذهب الجنيد في تفضيل الصحو على السكر هو المذهب الذي أخذ به كبار الصوفية من بعده.
وأما ضعاف النفوس من المتأخرين الذين بالغوا في الطرف الآخر واعتبروا الجذب والغيبة والظهور بشتى ألوان الهوس والرعونة علامة من علامات أولياء الله، فلم يكونوا إلا أفاقين دخلاء على التصوف، والتصوف منهم براء.
هذه نماذج قليلة سقناها على سبيل الأمثلة لتوضيح بعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين من يسميهم الهجويري بالفرق الصوفية، وهي - كما يرى القارئ - مسائل تفصيلية لا تمس جوهر الحياة الصوفية في شيء، ولكنها تكشف عن بعض دقائقها، وتظهرنا على مدى تغلغل القوم إلى أعماق نفوسهم، ومقدرتهم على تحليل ألطف وأدق معاني التصوف والأحوال التي يعالجونها في حياتهم الصوفية، ناظرين في هذا التحليل دائما إلى الله وصلتهم به.
المشاهدة والإشراق
ذكرنا فيما مضى أن المشاهدة ثمرة المجاهدة، وأن من لا مجاهدة له فلا مشاهدة له، والآن نشرح ما يقوله الصوفية عن المشاهدة علنا نقف على شيء من أسرارها، وإن كنا لا نطمع في أن ندرك حقيقتها لأنها كسائر أحوال الصوفية وقف على من يعانيها ويجربها.
وصف الله سبحانه نفسه بأنه نور السموات والأرض؛ أي المتجلي أثره في كل شيء، والنور أظهر الأشياء، بل به وحده تظهر الأشياء، وما خفي الله إلا لشدة ظهوره، كالشمس لا ترى في وضح النهار لشدة ما ينبعث منها من الضوء، فهي عين الحجاب على نفسها.
ولكن الله لا يرى بالعين المجردة لأن العين لا تدرك إلا المحسوس، وإنما يشاهد في قلب العبد؛ أي إن مشاهدته روحية لا حسية، ونوره المشار إليه في الآية نور روحي لا حسي، وهو بهذا المعنى نور السموات والأرض أي الظاهر أثره في الوجود بأسره.
فإذا تكلم الصوفية عن رؤية الله في القلب فإنما يقصدون بها مشاهدته بنور يقين القلب، وليس نور يقين القلب إلا شعاعا من النور الإلهي الذي وضعه الله في قلب العبد، وبواسطة هذا الشعاع يرى العبد ربه ذوقا، كضوء الشمس الذي يمكن الناظر إليها من رؤيتها. يقول أبو يزيد البسطامي إن الذين يتكلمون عن الأزلية لا بد أن يكون فيهم مصابح الأزلية، وهذا المصباح هو نور اليقين.
ومن دلائل وجود هذا المصباح الأزلي في قلب الإنسان وجود قوة «الفراسة» في قلب العبد الصادق كما يشير إلى ذلك الحديث القائل: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.» ومنها كذلك علوم الوحي والإلهام التي هي علوم الأنبياء والأولياء، فإن المصدر واحد في الحالتين، والفرق بين وحي الأنبياء وإلهام الأولياء إنما هو فيما يكشفه النور الإلهي من المعارف الغيبية في قلوب الموحى إليهم والملهمين. أما ما ينكشف منها للرسل فقد قفل الباب فيه ببعثة النبي محمد خاتم النبيين، وأما ما ينكشف لأولياء الله فالباب مفتوح فيه إلى أبد الآبدين.
ولكن لا بد من صقل صفحة القلب بالرياضة والمجاهدة لكي يشرق عليها ذلك النور، وذلك بإزالة الحجب التي تتصل بكل ما سوى الله وتحول دون إشراق النور الإلهي في القلب أو انبعاثه منه على حد قول بعض الصوفية الذين يذهبون إلى أن «المشكاة» الواردة في قوله تعالى:
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
هي قلب العبد، و«المصباح» هو النور الإلهي الذي أودعه الله في القلب الإنساني منذ خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه، وعلى هذا ففي الإنسان عنصر إلهي بفطرته، لا يكسبه بكده ومجاهدته، وإنما تكشف المجاهدة عنه وتزيل الحجب التي تغشاه.
وليس النور الإلهي في قلب العبد وسيلة لمشاهدة الله وحسب، بل هو النور الذي يهتدي به العبد إلى ما هو خير وحق وجميل في أمور دينه ودنياه، ولذا يقول بعض الصوفية إن من عصى قلبه فقد عصى ربه، وذلك لأن القلب عند الصوفية مركز إشراق ومركز عرفان معا.
ويظهر الإشراق في قلب الصوفي على أنحاء، فقد يظهر فجأة قويا شديدا، وقد يبدو خافتا أول الأمر ثم يأخذ في القوة واللمعان، وهنا يشاهد الصوفي الصفات الإلهية وآثارها، ويشتغل بهذه المشاهدة عن نفسه وعن كل ما سوى الله. فإذا فني عن ذاته بالكلية حصل في المقام الذي يطلق عليه الصوفية اسم مقام «الإحسان» وهو المقام الذي قال فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.»
ويذكر الهجويري نوعين من المشاهدة: الأولى المشاهدة التي هي ثمرة الإيمان، والثانية المشاهدة التي هي ثمرة المحبة، فإن العبد يصل في حبه لربه إلى درجة يستغرق فيه بكليته ولا يشتغل قلبه بشيء سواه، ويظهر الفرق بين النوعين في أقوال الصوفية وهم يعبرون عن شهودهم وأحوال وجدهم، فإذا قال أحدهم: «ما رأيت شيئا إلا رأيت الله معه» أشار إلى النوع الأول؛ لأنه شاهد آثار الله ظاهرة في الخلق، وهذا هو الإيمان الصادق، وإذا قال الآخر: «ما رأيت شيئا سوى الله» أو قال:
فما نظرت عيني إلى غير وجهه
ولا سمعت أذني خلاف كلامه
1
فإنه يشير إلى الشهود الثاني، والصوفي الأول يرى الآثار الإلهية بعيني رأسه ويشاهد صاحب الآثار بعين قلبه، والثاني غافل عن الآثار وعن نفسه لا يرى سوى الله، وطريق الأول برهاني وطريق الثاني كشفي ذوقي، وفي هذا المعنى يقول أبو يزيد البسطامي: «حججت مرة فرأيت البيت ولم أر صاحبه، وحججت الثانية فرأيت «البيت» وصاحبه، وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحبه.» ففي الحالة الأولى رأى أبو يزيد «البيت» ببصره ولم ير صاحب البيت، وذلك هو الغالب في الناس، وفي الحالة الثانية رأى «البيت» ببصره ورأى صاحب البيت بعقله، وهذا طريق النظار، وفي الحالة الثالثة غفل عن نفسه وعن البيت فرأى وحدة مطلقة لا يميز فيها بين الأثر والمؤثر: بين البيت وصاحب البيت، وانمحى في قلبه كل ما سوى الله، وفي هذا المعنى أيضا يقول محمد بن عبد الجبار النفري في كتاب «المواقف»: «وقال لي (أي الله) أدنى علوم القرب أن ترى آثار نظري في كل شيء فيكون أغلب عليك من معرفتك بي»،
2
أي إن أقل درجات المشاهدة أن تراني وأنت تنظر إلى آثاري، وأن تكون هذه الحال أغلب عليك من معرفتك بي. أما أعلى درجات المشاهدة فهي التي تمحى فيها رؤية «السوى» فلا يخطر في القلب إلا الله.
وقد اختلفت عبارات الصوفية في وصف هذا المشهد اختلافا يدل على مدى تفاوتهم في درجات الشهود، فمنهم من يقول: «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله»، ومنهم من يقول: «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده، أو معه»، ومنهم من يقول: «ما رأيت سوى الله» وهذا مقام وحدة الشهود وليس تعبيرا عن نظرية وحدة الوجود كما ذكرنا مرارا. إن بناء التصوف برمته يقوم على هذا الأساس: وهو أن فناء الصوفي عن نفسه هو بقاؤه بالله. أو بعبارة أخرى إن من فقد نفسه وجد ربه، وإن حالة الوجد أو الجذب هي وحدها الحال التي يتصل فيها العبد بالله، وليست مسائل التصوف الكبرى مثل «الزهد» و«تصفية النفس» و«المحبة» و«المعرفة» و«الولاية» وغيرها سوى فروع لهذه المسألة الرئيسية، وقد عبر الصوفية عن حال الشهود هذه بألفاظ كثيرة كلها من قبيل المجاز مثل: الفناء و«الوجد» و«الجذب» و«الذوق» و«الشرب» و«الغيبة» و«السكر» و«الحال»، وهي اصطلاحات تدور على ألسنة الصوفية ويعبر بها كل واحد منهم عن الزاوية الخاصة التي ينظر منها إلى تجربته في الشهود، ولكنها لا تعني إلا قليلا لمن لم يجرب تجارب القوم ويذوق أذواقهم. كما أن وصف «الشهود» بأنه سر إلهي يكشفه الله في قلب عبده المؤمن فيراه بعين اليقين، أو أنه نور ينبعث في قلب العبد نتيجة لحبه لله، لا غناء فيه لغير الصوفي الذي انكشف له ذلك السر أو شاهد هذا النور. أما هذه العبارات المجازية فمن شأنها أن تخلع على ذلك المعنى الدقيق اللطيف ثوبا كثيفا من المادية هو أبعد ما يكون عنه.
الولاية في التصوف الإسلامي
الولي لغة القريب والمحب والصديق والنصير والمولى والمالك والعبد والمعتق والمعتق والصاحب والجار والحليف والمنعم والمنعم عليه إلخ. فكلمة «الولي» قديمة في اللغة العربية قدم اللغة ذاتها: استعملت قبل الإسلام كما استعملت في القرآن قبل أن يظهر التصوف أو التشيع أو غيرهما من النظم التي استعملت الكلمة فيها فيما بعد.
وربما كان «القرب» هو المعنى البدائي الأول للولاية: لأن اسم الولي كان يطلق على الابن والعم وابن العم وابن الأخت وغير هؤلاء من أقرباء الدم، ولما كانت قرابة الدم تقتضي في الحياة القبلية نصرة القريب ومؤازرته، اكتسبت الولاية منذ البداية معنى النصرة والمؤازرة والحماية وما شاكل ذلك من المعاني، ثم تجاوزت مدلول قرابة الدم إلى مدلول آخر هو القرابة المعنوية كقرابة الجوار وقرابة المحبة وغيرهما.
وقد وردت كلمة «ولي» و«أولياء» في عدد غير قليل من الآيات القرآنية، ووصف الله تعالى نفسه بأنه
ولي الذين آمنوا (قرآن، 2: 257)، و
ولي المؤمنين (قرآن، 3: 68)، و
ولي المتقين (قرآن، 45: 19)، وأنه
هو الولي وهو يحيي الموتى (قرآن، 42: 9)، وأنه
هو الولي الحميد (قرآن، 42: 28)، وقال تعالى مخاطبا المؤمنين:
ما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (قرآن، 2: 107). كما وردت كلمة «أولياء» بالجمع للدلالة على عباد الله المقربين إليه المجاهدين في سبيله (قرآن، سورة يونس: 62).
وفي هذا كله لم تخرج الكلمتان عن معناهما اللغوي البسيط، ولكن هذا المعنى تطور تطورا عجيبا على أيدي المفسرين من أهل السنة والشيعة والصوفية، وكان أكثر تطوره في البيئات الشيعية ثم الصوفية؛ لأن الصوفية يدينون للشيعة بمعظم ما قالوه في الولاية والأولياء.
وإذا عرفنا أن حركة التشيع في جوهرها حركة سياسية أولا دينية ثانيا - على الرغم من أنها تركزت طول الوقت حول فكرة تقديس آل البيت - أدركنا أن المعاني الجديدة التي أدخلت إلى مفهوم الولاية عندهم كانت معاني سياسية. فالقول بأن من شرط الولي أن يكون «محفوظا» كما أن من شرط النبي أن يكون «معصوما»
1
يرجع من غير شك إلى فكرتهم عن الإمام والإمامة وقصرهم الولاية على الأئمة لأغراض سياسية، والقول بأن الولاية ميراث نبوي انتقل من النبي إلى علي ثم إلى خلفه، قول شيعي وضع ليخدم غرضا سياسيا هو قصر الولاية على الأئمة من آل البيت، وكذلك القول بأن الكرامات وخوارق العادات للأئمة وحدهم.
وهكذا نرى «الولاية» تتحول من معناها القرآني الذي هو النصرة والحماية اللتان يمنحهما الله عباده المؤمنين والمتقين والمقربين إليه إطلاقا، إلى نصرة وحماية طائفة خاصة لها شروط وعلامات، وبعد أن كانت حقا مشاعا لجميع المسلمين أصبحت قاصرة على نفر تنتقل إليهم انتقالا وراثيا من النبي، ثم من علي وبنيه.
فكأن الولاية - بهذا المعنى - امتدادا للنبوة ومقصورة على الأئمة، ولما وجد الشيعة أن هؤلاء الأئمة المعصومين بحاجة إلى إثبات ولايتهم، قالوا إن ذلك يتم بظهور الخوارق على أيديهم، وأن هذه الخوارق لهم دون غيرهم.
ولا شك أن الشيعة أيضا هم الذين قرنوا الولاية بالاستشهاد متخذين من مقتل الحسين بن علي مثالا للولي الشهيد الذي ضحى بحياته في سبيل نصرة الحق والله، على نحو ما ينظر المسيحيون إلى استشهاد المسيح. فإن دخلت فكرة الاستشهاد في بعض أقوال الصوفية فعن طريق الشيعة في أغلب الظن، وإن كان الاستشهاد في الجهاد في سبيل الله من الأمور التي ذكرها القرآن وأثنى على أصحابها، قال تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون .
2
ولما جاء دور الصوفية، كان من الطبيعي أن تتسرب إلى أوساطهم أفكار الشيعة عن الولاية، لا سيما وأن التصوف والتشيع نبتا وترعرعا زمنا طويلا في بيئة واحدة هي البيئة العراقية والفارسية. غير أن الصوفية لم يقفوا بالولاية عند الحدود التي رسمها الشيعة، بل تجاوزوا هذه الحدود وتوسعوا في معنى الولاية في عصورهم المتأخرة، وخاضوا في مسائل لم يخض فيها الشيعة ولم تخطر لهم ببال، فتكلموا عن معنى الولي إطلاقا لا الولي الإمام، وذكروا صفات الأولياء ووظائفهم ومراتبهم وقارنوا بين الولاية والنبوة وناقشوا أيهما أفضل، كما تكلموا في ختم الولاية وغير ذلك من المسائل التي سنعرض لها. (1) الولي والصوفي
أخص صفات الولي في الإسلام القرب من الله، وفي القرآن شواهد تدل على أن الله اختص بعض عباده بالقرب منه، وبهذا المعنى العام يدخل الأنبياء في الأولياء، كما يدخل فيهم الصوفية وغير الصوفية؛ لأن صفة القرب من الله حظ مشترك بين هؤلاء جميعا، وكذلك اختصاص الله الأولياء بالحفظ أو العصمة أو ما شابههما من الصفات. بل إن السراج صاحب اللمع ليذهب إلى أن «خاصة أهل الله»، وهو وصف أطلقه الصوفية على أنفسهم، ينطبق أولا على الأنبياء الذين اختصهم الله بالوحي والرسالة والعصمة من الزلل، وينطبق ثانيا على الأولياء الذين اختصهم بصدق الورع والتعلق بالحقائق.
ولكن جمهور الصوفية يطلقون اسم «الولي» على الصوفي الذي حصل في مقام القرب من الله بفضل قداسته وورعه وفنائه في محبة ربه، ويعتبرون الولاية والنبوة مرتبتين مختلفتين مستقلتين إلى حد أن يمكن المفاضلة بينهما كما سيأتي بيانه، وإذا قالوا إن الصوفية خاصة المسلمين والأولياء خاصة الصوفية، فمعنى هذا أن الأولياء خاصة المسلمين، وأن الولاية أعلى مرتبة روحانية يصل إليها المسلم.
ولا تقترن الولاية في الإسلام السني بمعنى من معاني الألوهية، فلا يدعي الولي أن فيه جانبا إلهيا على سبيل الفيض أو الحلول أو ما شاكلهما، وإن كان يدعي أو يدعى له، أن الله أودع فيه قوة أو صفة خارقة تعصمه - بدنا وروحا - من أن يأتي بمعصية، وهذه هي القوة التي تفسر ما يعتقده الصوفية من أن الولي في استطاعته إتيان الكرامات والأخبار بالمغيبات، وأنه مستجاب الدعوة، صادق الفراسة، قادر على تسخير قوى الطبيعة، تحل بركته أينما وضعها، وتتحقق لعنته حيثما أرسلها، واستجابة الدعوة قديمة في الإسلام: قيل إن سعد بن أبي وقاص اختص من بين الصحابة بقبول دعائه، وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال : «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك.» •••
الولي رجل مشغول بالله، يقضي حياته في صحبة مولاه. رجل تجرد عن شهواته وعن علاقاته بنفسه وبالعالم حوله، ومن الطبيعي على من وصل إلى هذه المرتبة وتهيأت نفسه هذا التهيؤ الروحاني ألا يدخل إلى حياته المنعزلة عن مجرى التجارب الإنسانية العادية إلا الأفكار والخواطر التي تتفق وهذه الحياة. بل هنالك ما هو فوق هذا وأعلى من هذا، وهو أن الولي بفضل ما بلغه من درجة الصفاء الروحي له قدرة على إدراك معاني الغيب والكشف الإلهامي عن حقائق الأشياء. أما الإتيان بالكرامات وخوارق العادات فمن الأمور التي يدعيها جمهور الصوفية لأنفسهم عادة، وإنما يضفيها عليهم العامة من أتباعهم تمجيدا لهم ورفعا من شأنهم، وقد قيل بحق أن عددا كبيرا من المسلمين في البلاد التي غلب عليها الجهل والاعتقادات في الخرافات ليس لهم بالله إلا صلة روحية ضئيلة، وأن كل صلتهم بالأولياء مباشرة، فهم يتصلون بالله عن طريق هؤلاء الأولياء. غير أنه يجب ألا ننسى أن مثل هذه الاعتقادات في الولي ووساطته وقوته سابقة على التصوف سبقا تاريخيا، فإن فكرة الولاية أو ما يعادلها، كانت موجودة في البلاد التي فتحها المسلمون وكانت منتشرة انتشار الإسلام نفسه، فلما ظهرت حركة التصوف في البلاد الإسلامية لم تخلق فكرة الولاية خلقا، وإنما شكلت أفكارا كانت جزءا من التراث الروحي لهذه البلاد بأن أبرزت فيها الجانب الصوفي من الحياة الدينية. (2) الولاية منحة إلهية
والولاية في نظر الصوفية مرتبة لا يصل إليها الولي بأعماله ومجاهداته، وإنما هي منحة إلهية يمنحها الله من يشاء من عباده، وقد يكون الولي على حظ كبير من العبادة والزهد والمعرفة، وقد لا يكون، ولكن صفة واحدة يجب أن يتصف بها وهي اشتغاله بالله وحده وحياته فيه، وهذا هو المعنى الذي يشير إليه الصوفية بكلمة «الجذب» التي هي علامة على «الفناء» في الله. فالولي في الإسلام هو «المجذوب» إلى الله، ومن كان بهذه المثابة كان وليا ، وإذا أضيف إلى هذا الجذب «الكرامات» اعترف الناس بولايته في حياته وبعد مماته، وقد يوجد الولي ويعيش ويموت مغمورا لا يعرف الناس ولايته ولا يدركها هو في نفسه.
ومعنى منح الله الولاية للولي أنها مقدرة أزلا، شأنها في ذلك شأن المراتب الروحية الأخرى كالهداية واستجابة الدعاء وغيرهما من الأمور التي يرى الجبريون من الصوفية أنها أمور قدرها الله على العبد لا تكتسب بالجهد والعمل، وإنما يهبها الله لمن يشاء فضلا منه ونعمة. فالولاية بهذا المعنى «نور» يقذفه الله في قلب العبد، به يعرف العبد ربه. يقول الحسين بن منصور الحلاج: «لولا تعرفه (أي الله) لك ما عرفته.» أي تعرفه لك عن طريق ذلك النور، وهذا النور على درجات تتفاوت قوة وضعفا وتختلف باختلاف درجات القرب من الله، والصوفية يتحدثون عن «المكث في درجة القرب»، فمن الأولياء من يمكث في درجة المحادثة، ومنهم من يمكث في درجة المجالسة، ومنهم من يمكث في درجة المناجاة؛ ولذلك يسمون «أهل الحديث» وأهل المجالسة وأهل المناجاة وهكذا، وأعلى درجات القرب وأقواها درجة المشاهدة التي هي درجة الفناء في عين الألوهية كما يقول ابن عربي. (3) صفات الولي
ظهر مما تقدم أن للولاية في الإسلام معنيين: معنى عام غير اصطلاحي وهو ولاية كل مؤمن قربه الله إليه كما وردت في ذلك الآيات القرآنية التي أسلفنا ذكرها، ومعنى خاص اصطلاحي وهو الولاية التي لها تعريف خاص وشروط ونظام، وقد ظهر لنا عند النظر في صفات الولاية بالمعنى الثاني أن كثيرا من هذه الصفات له نظائره في الولاية بالمعنى العام، وأن الباقي هو من الصفات التي خلعها رجال التصوف على الأولياء في عصور متأخرة، وسنذكر النوعين جميعا لأن منهما تتألف الصفات التي يتميز بها الولي المسلم. (1)
من أوائل هذه الصفات وأقدمها أن الولي شخص يؤيده الله وينصره. ظهر هذا المعنى في الإسلام قبل ظهور التصوف وأولياء الصوفية كما قلنا: أي ظهر منذ ابتدأت الدعوة إلى الإسلام، وكان معنى الولاية نصرة الله للعبد لنصرته لدين الله. فالذين جاهدوا في الله كانوا أولياءه، وكذلك الذين اتقوا وأخلصوا في دينهم، وكذلك الذين اضطهدتهم قريش وآذتهم من أجل إسلامهم، كل هؤلاء كانوا أولياء لله حسب النصوص القرآنية الواردة فيهم، وفيهم جميعا نزلت الآية:
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (قرآن، 10: 62)، وورد الحديث: «من آذي وليا فقد عاداني.» وقد احتفظت هذه الصفة بمعناها - وهو التأييد والنصرة - عندما دخلت كلمة «الولي» إلى الأوساط الصوفية وأخذت صورتها النهائية الاصطلاحية. (2)
ومن الصفات القديمة للولي أيضا إكرام الله إياه، ويظهر هذا الإكرام في مظاهر شتى أخصها الكرامات التي تتأيد بها ولايته وتعرف بها منزلته، وقد أشار القرآن إلى ظهور هذه الكرامات وخوارق العادات على يد من اختصهم الله بالولاية، فاتخذ الصوفية من ذلك سندا يستندون إليه في دعوى ظهور مثل هذه الخوارق على أيديهم. من ذلك قوله تعالى في قصة مريم:
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ،
3
وقال تعالى مخاطبا مريم أيضا:
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا
4
ولم يكن الوقت وقت ظهور التمر ولا أوان نضجه.
وقال تعالى في قصة نقل عرش بلقيس إلى مجلس سليمان:
قال عفريت من الجن أنا آتيك به (أي العرش) قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ؛
5
فالذي عنده علم من الكتاب ولي في استطاعته أن يحضر عرش بلقيس إلى مجلس سليمان في لمحة بصر وهي أقصر بكثير من الذي يستغرقه قيام الشخص من مكانه.
وقد قص الله في القرآن الأعاجيب التي ظهرت على أيدي أهل الكهف وذي القرنين الذي مكن الله له في الأرض ما لم يمكن لغيره، والخضر الذي أتى بكثير من خوارق العادات عندما التقى بموسى من إقامة الجدار ونحوها، وكل هؤلاء لم يكونوا أنبياء وإنما كانوا أولياء.
والإجماع منعقد من المسلمين على أن للأولياء كرامات، ولكن كبار الصوفية يحذرون من الركون إليها والاغترار بها؛ مخافة أن تكون نوعا من الابتلاء يبتلي الله به العبد ويمتحن به صدقه، ويرى بعضهم أنه يجب ألا يتحدث الولي عنها أو يتحدى بها.
قال أبو الحسين النوري: «كان في نفسي شيء من الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين ثم قلت: وعزتك لئن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي. قال: فخرجت لي سمكة فيها ثلاثة أرطال»، فبلغ الجنيد ذلك فقال: «كان حكمه أن تخرج له أفعى فتلدغه.»
6
وقيل لأبي يزيد البسطامي: فلان يمشي في ليلة إلى مكة، فقال: الشيطان يمشى في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله، وقيل له: فلان يمشي على الماء ويطير في الهواء، فقال: الطير يطير في الهواء والسمك يمر على الماء، وقال سهل بن عبد الله التستري: «أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك.»
7
هذه كلها شواهد على أن كبار الصوفية من أمثال الجنيد وأبي يزيد وسهل بن عبد الله يحقرون من شأن الكرامات ولا يدعونها لأنفسهم؛ لأنهم يرون فيها مجالا للفتنة والغرور وسبيلا إلى الرياء، وأن التحدث عنها والتحدي بها فيهما ركون إلى ما سوى الله، وهذا بعينه هو الشرك الخفي عندهم، وأكبر الكرامات في نظر سهل بن عبد الله تغيير صفات النفس وتطهيرها من شوائبها لا ما ذكروه من خوارق الطبيعة.
ومما يتصل بكرامات الأولياء تسخير قوى الطبيعة لإرادة الأولياء، وهو اختصاص كان للأنبياء كما تشهد به الآيات القرآنية التي تشير إلى تسخير الريح لسليمان:
تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، وتسخير الملائكة لمحمد يحاربون في صفوفه في غزوة بدر، إلخ، وقد توسع الصوفية في معنى التسخير والتصرف في الكون وأكثروا الكام فيهما، حتى لا نكاد نجد وليا من الأولياء لم تنسب إليه هذه القوة الخارقة، أو لم تذكر الأساطير وجود هذه القوة له. تكلموا عن التسخير والتصرف بالهمة وبالقول، وباستعمال الأسماء والحروف، لا سيما اسم الله الأعظم الذي هو من أعظم الأسرار عندهم.
والظاهر أن لكل هذا صلة ببعض الآراء المزدكية التي كانت منتشرة في خراسان ونقلها إلى الأوساط الصوفية أمثال الترمذي والحلاج، وربما كانت متصلة أيضا بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة المتأخرة نقلها عن هذا المصدر إلى التصوف ذو النون المصري الذي كان مشهورا بعلوم الأسرار. (3)
وإذا نظرنا إلى الولي من وجهة نظر الصوفية، قلنا إن أخص صفاته وأبرزها أنه رجل فني في الله، أو أنه المجذوب في حب الله، والفناء عند الصوفية نهاية الطريق وعتبة الوصول إلى الله، وباب الولاية ومقامها. فالولي في نظرهم هو من استولى عليه سلطان المحبة الإلهية فلم يترك في قلبه متسعا لغير محبوبه، وهو الذي تجرد عن إرادته وحوله وقوته، وأصبح لا يشعر بوجود غير وجود الحق، هو الصوفي الفاني عن وجوده الباقي بالحق. سئل أبو بكر الواسطي عن الولي كيف يغذيه الله فقال:
في بدايته بعبادته، وفي كهولته بستره ولطافته، ثم يجد به إلى ما سبق له من نعوته وصفاته، ثم يذيقه طعم قيامه به في أوقاته.
8
فالأولى درجة العبادة، وهي أول الطريق ومرتبة المبتدئين من المريدين، والثانية درجة ستره عن الناس بانقطاعه إلى الله وشغله به عمن سواه، وفي هذه المرتبة يغذي الله وليه بستره ولطفه، والثالثة درجة يظهر الله فيها للولي ما سبق أن قدره له من الصفات، فهي درجة تعريف الولي بولايته وإيقافه على منزلته، والرابعة درجة يذيقه الله فيها قيامه به، ويكشف له فيها أنه السامع منه إذا سمع، والمبصر منه إذا أبصر، والباطش منه إذا بطش، وهكذا. قال تعالى مخاطبا النبي عليه السلام:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وهذا هو الفناء الصوفي بعينه. (4)
ومن صفات «الولي» أن يكون محفوظا كما أن من صفات النبي أن يكون معصوما: أي محفوظا ومعصوما من مخالفة الشرع؛ لأن كل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع كما يقول القشيري، ومعنى هذا الشرط أن كلا من النبي والولي لا يعصي الله ولا يأتي ما يتعارض مع الشرع، ولكنها يختلفان: فعدم العصيان في النبي راجع إلى العصمة وهي أمر يخلقه الله في النبي، فهو لا يعصي ربه لأن الله وهبه قوة يدرأ بها العصيان، أو وهبه مناعة من العصيان. أما الولي فهو إنسان كسائر الناس فيه المقدرة على أن يعصي وأن يطيع، ولكن الله يحفظه من المعصية بأن يبعث في قلبه نورا يهديه ويصرفه عنها. فالفرق بينهما كالفرق بين رجلين لا يمرضان بمرض معين، ولكن أحدهما لا يمرض به لمناعة طبيعية في جسمه، أما الآخر فلا يمرض به لتناوله شيئا من الدواء يحميه من المرض بحيث لو تخلى عن تعاطي هذا الدواء سقط فريسة للمرض.
والظاهر أن التفرقة بين العصمة والحفظ مسألة أثارها متأخرو الصوفية، وأن الأصل كان العصمة لكل من النبي والولي، للنبي أولا، وللولي بالوراثة الروحية، وهذا بالفعل ما كان عليه الأمر في أوساط الشيعة، فقد أسندوا ذلك الاختصاص النبوي إلى علي أولا ثم إلى الأئمة من بعده، وعن طريق الشيعة دخلت الفكرة إلى الأوساط الصوفية، ثو توسع فيها المتأخرون على النحو الذي أشرنا إليه.
والله لا يحفظ الولي من المعصية وحدها، بل من كل ما يكون للشرع عليه اعتراض، وبذلك يدخل في الأشياء التي يحفظ الله الولي منها كل مخالفة لآداب الشرع وإن لم تكن معصية. قيل: قصد أبو يزيد البسطامي بعض من وصفوا بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر قدومه، فخرج الرجل وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال: «هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة، فكيف يكون أمينا على أسرار الحق؟»
9
ويرى بعض الصوفية أن الحفظ بالنسبة إلى الولي غير واجب وجوب العصمة للنبي، بل يكفي في حفظ الولي ألا يصر على الذنوب إن وقعت منه هنات أو زلات، ووقوع مثل هذه الزلات غير ممتنع على الولي في نظر هؤلاء. قيل للجنيد: ألعارف يزني يا أبا القاسم؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه وقال:
وكان أمر الله قدرا مقدورا .
10
وهذا معناه بقاء الولاية على الولي حتى بعد معصيته بشرط أن يقلع عنها ويتوب توبة نصوحا، ولا ترتفع الولاية عنه إلا إذا أشرك أو ثبتت ردته.
وهذا هو الرأي الذي عليه الحكيم الترمذي والجنيد وأبو الحسين النوري والحارث المحاسبي، وحجتهم في هذا أن الكبائر لا تتعارض مع الإيمان. أما غيرهم من أمثال سهل بن عبد الله التستري وأبي سليمان الداراني وحمدون القصار فيقولون إن الولاية رهن ببقاء الطاعة، وإن الكبيرة إذا خطرت ببال الولي سقطت عنه ولايته.
وظاهر أن مرد الخلاف بين الطائفتين يرجع إلى الخلاف القديم بين علماء الكلام في معنى الإيمان نفسه، وكلامهم في صاحب الكبيرة أمؤمن هو أم كافر؟ ولما كان الإيمان أساس الولاية انتقل الخلاف من الأصل إلى الفرع. (5)
وآخر صفات الولي «الشفاعة» فقد ادعى صوفية المشرق خاصة أن الأولياء شفعاء عند الله في الخلق يوم القيامة، وجهروا بذلك بين الناس وبالغوا كل المبالغة، بل إنهم ادعوها لأنفسهم سواء أكانوا من الأولياء أم لم يكونوا، أو على الأقل ادعاها الكثيرون منهم ومنحوا الحق فيها لتلاميذهم. قال بعضهم: «ليس من تلاميذنا من لم يكن يوم القيامة شفيع أهل النار ويدخلهم الجنة»! روي هذا أو مثله عن حاتم الأصم وأبي يزيد البسطامي، وادعى الشبلي أن محمدا عليه السلام سيشفع يوم القيامة في أمته، أما هو فسيشفع بعده في أهل النار حتى لا يبقى فيها أحد.
11
ولا أدري كيف يوفق الشبلي - إن صح صدور هذا القول عنه - بين شفاعته التي ستنتهي بخروج أهل النار منها، وبين قوله تعالى
خالدين فيها أبدا ؟ على أن الشبلي لم يكن المسلم الوحيد الذي تكلم عن مصير جهنم في الدار الآخرة وأن مآلها إلى الزوال، لا من أجل شفاعة الشافعين بل لأسباب أخرى تتعلق بطبيعة الله الذي قال إنه صادق الوعد ولم يقل صادق الوعيد. فقد ذهبت طائفة من المتكلمين منهم أبو الهذيل العلاف، ومن الصوفية منهم ابن عربي، إلى القول بأن جهنم ستخبو نارها وتتغير طبيعتها على مر الزمن، ويزيد ابن عربي أن العذاب فيها سيتحول إلى نوع من النعيم يخالف في طبيعته نعيم أهل الجنة. يقول:
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد
وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة لفظه
وذاك له كالقشر والقشر صاين
12 (4) المفاضلة بين الأولياء والأنبياء والملائكة
ظهرت المفاضلة بين الإنسان والملائكة في الفكر الإسلامي بوجه عام والفكر الصوفي بوجه خاص، وكان مبعثها من غير شك ما ورد في القرآن من قصة آدم ومطالبة الله الملائكة بالسجود له، والقرآن صريح في أن «الإنسان» الذي اختاره الله خليفة في أرضه وأسجد الملائكة تعظيما له، أفضل من الملائكة بما أودع الله فيه من الصفات وما علمه من الأسماء. قال تعالى:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
وهو آدم، وقال:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
13
وليست هذه «الأسماء» إلا الصفات التي أودعها الله آدم وذريته، ولم يودعها كلها، بل أودع بعضها في الملائكة؛ ولهذا كانت طبيعة الإنسان أكمل وأتم، ومرتبته في سلم الوجود أعلى من طبيعة الملائكة؛ لأن فيه نزعات الخير التي يتمثل فيها الجمال الإلهي، ونزعات الشر التي يتجلى فيها الجلال الإلهي، في حين أن الملائكة ليس فيهم من هذه الأخيرة شيء، فهم مجبولون على الطاعة والعبادة لا تجد المعصية إليهم سبيلا لأنهم لم تتهيأ لهم أسبابها. أما الإنسان فبذور الشر والمعصية أصيلة في جبلته، فإذا غالب شهوته وهواه وكبح جماح نفسه، وانتهى به الأمر إلى الطاعة، كان أفضل من الملائكة، ومن يكسب النصر في ساحة القتال خير ممن يمنح النصر منحا!
وإذا كان الإنسان من حيث هو إنسان أفضل من الملائكة، كان الأنبياء أفضل منهم من باب أولى لأن الأنبياء خاصة البشر. هذا هو رأي أهل السنة وجميع مشايخ الصوفية. أما المعتزلة فالملائكة عندهم أفضل لأنهم - في نظرهم - أعلى درجة وألطف طبيعة وأكثر طاعة، ولكن هذه الصفات ليست الصفات التي تقع بها المفاضلة، وإلا لكان إبليس - وكانت له هذه الصفات جميعها - أفضل خلق الله، مع أن الكل مجمع على لعنته بشهادة الله.
وظهرت مسألة المفاضلة بين الأنبياء والأولياء في التصوف وكان أول من أثارها متصوفة الإمامية بالكوفة: رياح وكليب من زهاد الزنادقة. ثم ظهرت بعد ذلك في كلام متصوفة الشام كأبي سليمان الداراني المتوفى سنة 215 وأحمد بن أبي الحواري المتوفى سنة 230، وكل هؤلاء يذهبون إلى تفضيل الأولياء على الأنبياء جملة، وكذلك يذهب هذا المذهب محمد بن علي الحكيم الترمذي الذي يستشهد بالحديث القائل: «إن لله أولياء ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء.» ولكن أهل السنة يجمعون على تفضيل الأنبياء على الأولياء، ويرون أن الولاية امتداد للنبوة وتأييد دائم لها؛ لأن النبوة انقطعت بموت النبي، والولاية لا تنقطع. فالأولياء هم خلفاء النبي وورثته الروحيون الذين يحملون الشعلة المقدسة من بعده، وفي هذا يقول الهجويري: «وقد أراد الله أن يظل برهان النبوة قائما إلى يومنا هذا، فجعل الأولياء وسيلة لإظهار هذا البرهان لكي يستقر الحق به وتظل حقيقة نبوة النبي ظاهرة.»
أما تأييدهم الدائم للنبي فبما يظهره الله على أيديهم من الكرامات التي تمكن لهم في نفوس الخلق وتحمل الناس على إجلالهم وتعظيمهم، وبالتالي على إجلال وتعظيم صاحب الشرع الذي يتبعونه. فالناس بعد النبي ليسوا بحاجة إلى نبي جديد ولا إلى معجزة جديدة تظهر على يد نبي، ولكنهم بحاجة إلى أولياء كاملي الإيمان مؤيدين بتأييد الله يذكرون الناس برسالة النبي إذا نسوها أو قصروا في اتباعها.
وكذلك أجمع جمهور الصوفية من أهل السنة على تفضيل الأنبياء على الأولياء وعلى أن الولاية بداية النبوة، وعارضهم في ذلك مجسمة خراسان الذين ادعوا أن الأولياء يصلون إلى حالة يفنون فيها عن أنفسهم ويبقون بالله، ويسمون هذه الحالة بالولاية، وهي ليست حالا للأنبياء، وكذلك المشبهة الذين زعموا أن في الولاية اتصافا بأوصاف الألوهية عن طريق الحلول وما شاكله، وفي هؤلاء وأولئك يقول الهجويري:
هذا هو رأي أهل السنة من الصوفية (يشير إلى تفضيل الأنبياء على الأولياء)، ولكن يعارضه الحشوية من أهل خراسان الذين يتكلمون كلاما متناقضا في التوحيد، والذين لا يعلمون مبادئ الصوفية ويدعون أنهم من أوليائهم. نعم هم أولياء، ولكنهم أولياء الشيطان. يقولون إن الأولياء أفضل من الأنبياء، ويكفي في إبطال مذهبهم أن يقولوا إن جاهلا من الجاهلين أفضل من محمد المختار، ويرى هذا الرأي أيضا المشبهة الذين يدعون أنهم صوفية ويقولون بالحلول ونزول الله إلى جسم العبد.
14
ويحاول الهجويري أن يثبت أفضلية الأنبياء على الأولياء بدليلين: أحدهما عقلي نظري والآخر صوفي. أما العقلي فهو أن الأولياء أتباع للأنبياء، والتابع أدنى منزلة من المتبوع فلا يمكن أن يكون أفضل منه، وأما الدليل الصوفي فهو أن الأولياء على سفر إلى الله، أما الأنبياء فواصلون إلى الله منذ البداية، وصلوا إليه ثم عادوا برسالاتهم لدعوة الناس وتعليمهم، والواصل إلى نهاية الطريق أفضل من السالك الذي لا يزال يسير حتى نهايته. ألا ترى أن «المشاهدة» أول درجات الأنبياء وهي آخر درجات الأنبياء، فإنه إذا وصل الولي إلى مقام الجمع استغرق في محبة الله واشتغل قلبع بمشاهدة فعل الله بحيث لا يرى في الوجود غيره. يقول أبو علي الروذباري: «لو سقط عنهم (أي الصوفية) مشاهدة معبودهم لسقط عنهم وصف العبودية.» ولكن هذه حال الأنبياء على الدوام - على حد قول الهجويري - سواء أكانوا في البدء أم في النهاية.
فإبراهيم عليه السلام في بداية حاله لما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، ثم لما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي؛
15
لأن الحقيقة كانت غالبة على قلبه فلم ير شيئا آخر سوى الله، أو لم ير شيئا آخر بعين الغيرية، بل رأى ما رأى بعين الجمع.
وهكذا يجعل الهجويري من الأنبياء صوفية من طراز خاص غير طراز أولياء الصوفية. يجعل منهم صوفية واصلين إلى الله منذ بداية أمرهم، مشاهدين له في كل شيء بمحض طبيعتهم. أما أولياء الصوفية، فهم سالكون لا يزالون يشقون طريقهم إلى الله ويطلبون مشاهدته والوصول إليه، وليس السالك في الطريق كمن وصل إلى نهايته، ومن هنا كان الأنبياء أفضل من الأولياء. أما المعتزلة فيتنكرون فكرة المفاضلة من أساسها ويقولون لا مؤمن أفضل من مؤمن ، والإيمان هو الأساس الجامع بين المؤمنين. بل هم ينكرون الولاية نفسها ويقولون إن المؤمنين جميعا أولياء الله لو كانوا مؤمنين حقا، ولو كانت الولاية تقتضي الكرامة لأعطيت الكرامة لكل مؤمن؛ لأن الإيمان هو الأصل والكرامة فرع عنه، والمشاركة في الأصل يقتضي المشاركة في الفرع.
ولابن عربي مذهب خاص في الولاية يختلف عن كل ما ذكرناه، كما أن له وجهة نظره في المفضالة بين الرسالة والنبوة من جهة، والولاية من جهة أخرى.
ليس المفهوم من الولاية في مذهبه القداسة ولا المبالغة في التقوى، وإن كانت هاتان الصفتان مما يمتاز به بعض الأولياء، ولكن أخص صفات الولاية عنده «المعرفة» أو العلم الباطن. «فالولي» على ذلك اسم مرادف للعارف بالله، وهو يستعمل هذا الاسم استعمالا واسعا يدخل فيه الأنبياء والرسل كما يدخل في الأولياء الذين منهم «الأفراد» و«الأمناء» و«الأبدال» و«الورثة» وغيرهم.
16
فالرسول ولي من حيث معرفته بأمور الغيب، ورسول من حيث أنه مكلف بتبليغ رسالة إلى الخلق، والنبي ولي من حيث علمه بالغيب أيضا، وكذلك الحال في بقية السلسلة التي أسلفنا ذكرها.
فالولاية إذن هي أساس المراتب الروحية كلها، وهي العنصر المشترك بينها. ثم إنها في الأصل صفة من صفات الله الذي أخبر عن نفسه بأنه «الولي»، ولا يصح إطلاقها إلا على الكاملين من الناس الذين حققوا وحدتهم الذاتية مع الحق، ومن صفاتها الثبات والدوام بخلاف الرسالة ونبوة التشريع فإنهما تنقطعان.
ويطلق ابن عربي على الولاية بهذا المعنى اسم «الخلافة العامة» وهي الخلافة الحقيقية التي على رأسها «الروح المحمدي»، وهو منبع العلم الباطن لجميع الأنبياء والأولياء.
أما من حيث المفاضلة بين الرسول والنبي من جهة، والولي من جهة أخرى، فيرى ابن عربي أن كل رسول وكل نبي فإنما هو ولي أولا ورسول أو نبي ثانيا، وأن كل رسول ونبي من حيث هو ولي أفضل منه من حيث هو رسول أو نبي، ومن ظن أن ابن عربي يقول بأفضلية الولي على الرسول أو النبي إطلاقا، بمعنى أن كل ولي أفضل من كل رسول أو نبي، فقد أخطأ فهمه، يقول الشعراني: «إن الشيخ (يعني ابن عربي) لم يقل ذلك (أي إن الولي أفضل من الرسول أو النبي)، وإنما قال: «اختلف الناس في رسالة النبي وولايته أيهما أفضل، والذي أقول به إن ولايته أفضل لشرف المتعلق ودوامها (أي دوام الولاية) في الدنيا والآخرة، بخلاف الرسالة فإنها تتعلق بالخلق، وتنقضي بانقضاء التكليف.» انتهى، ووافقه على ذلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام. فالكلام في رسالة النبي مع ولايته لا في رسالته ونبوته مع ولاية غيره: فافهم.»
17
خاتم الأولياء
كان أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم المتوفى سنة 285 - فيما نعلم - أول من تكلم في ختم الأولياء، بل كان كما يقول الهجويري أول من وضع في التصوف نظرية كاملة في الولاية، ولكن كتابه «ختم الولاية» الذي كان من أسباب نفيه من «ترمذ» قد ضاع، وأصبحنا لا نعرف عنه إلا الإشارات التي يشير بها إليه ابن عربي في ثلاثة من كتبه: الأول «شرح المسائل الروحانية التي سألها الحكيم الترمذي»
1
والثاني «الفتوحات المكية»
2
حيث يجيب ابن عربي عن مائة وخمسة وخمسين سؤالا سألها الترمذي، وبعض هذه الأسئلة خاص بالولاية وبعضها عام، والثالث كتاب «فصوص الحكم»
3
حيث يشرح المؤلف نظريته الخاصة في الولاية وختمها، ويشير إلى الترمذي فيهما، وهناك مصدر آخر لعلمنا بمذهب الترمذي في الولاية وختمها، وهو الفصل الممتع الذي عقده الهجويري في كشف المحجوب.
4
وليس غرضنا هنا الكلام عن الولاية في صورتها العامة، قد ذكرنا عن ذلك ما فيه الغناء، ولا غرضنا مناقشة نظرية الترمذي في الولاية وختمها، فإن هذا بحث لم تتوافر مراجعه كلها بعد، وإنما غرضنا أن نذكر شيئا عن ختم الولاية بصورة عامة مع الإشارة بوجه خاص إلى رأي ابن عربي فيه؛ لأن ابن عربي أخذ عن الترمذي فكرته الأساسية، وهي أن للولاية ختما كما للنبوة ختم، وأضفى على هذه الفكرة تفصيلات كثيرة مستمدة من نظريته في «الكلمة» (اللوغوس)، وفي طبيعة الوجود وطبيعة الولاية، فوصل بذلك إلى نظرية جديدة متكاملة.
يعتبر ابن عربي ما يسميه «الحقيقة المحمدية» أو «الروح المحمدي» أصل الحياة الروحية في الوجود والمنبع الذي يستمد منه الأنبياء والأولياء علومهم، أو الروح الذي ظهر في صور الأنبياء والأولياء من لدن آدم إلى النبي محمد نفسه، كما ظهر في صور الأولياء منذ وجدت الولاية. فجميع الأنبياء والأولياء صور أو مجال تجلت فيها الحقيقة المحمدية، أو الروح المحمدي، أو النور المحمدي كما يسميه أحيانا، وليس خاتم الأولياء سوى مجلى من المجالي التي لا تحصى لهذه الحقيقة.
أما الفرق بين خاتم الأولياء وأي ولي آخر، هو أن خاتم الأولياء دون غيره هو المظهر الكامل للحقيقة المحمدية، والمجلى الذي تتمثل فيه هذه الحقيقة أكمل تمثيل، وفيه وحده يظهر الإرث المحمدي ظهورا تاما، وهو آخر من يرث عن الحقيقة المحمدية علم الباطن إرثا مباشرا.
ولا ينكر ابن عربي - كما زعم بعضهم - احتمال ظهور أولياء بعد خاتم الأولياء، فقد يظهر أولياء في الأمة المحمدية أو في أية أمة أخرى يرثون علمهم من أنبيائهم، ولكن الذي ينكره هو أن يظهر في الأمة المحمدية بعد خاتم الأولياء ولي يرث علمه الباطن عن الحقيقة المحمدية. فالذي له خاتم هو ولاية الإرث المحمدي لا الولاية العامة.
5
أما الذين يحتمل ظهورهم من الأولياء بعد الخاتم فليسوا ورثة محمد، بل ورثة أنبياء آخرين، أو أولياء مسلمين، وهؤلاء يرثون ما يرثون عن طريق ختم الأولياء، وعلى هذا يصبح خاتم الأولياء بدوره مصدرا روحيا جديدا للعلم الباطن يستمد منه الأولياء علومهم، على نحو ما كان الأنبياء والأولياء يستمدون علومهم من الروح المحمدي.
ويعقد ابن عربي مقارنة دقيقة بين الروح المحمدي وخاتم الأولياء، ويقول إن كلا منهما له وجود سابق على وجوده الزمني، فكما أن محمدا كان نبيا وآدم بين الماء والطين، كذلك كان خاتم الأولياء وليا وآدم بين الماء والطين، ولكن أليست روح خاتم الأولياء هي بعينها الروح المحمدي في نظر ابن عربي - كما قلنا - وأننا نسميها «محمدا» حين تظهر في صورة النبي محمد، وخاتم الأولياء حينما تظهر في صورة خاتم الأولياء، وأن الأول نبي ورسول وولي والثاني ولي وارث؟
6
والظاهر أنه يقصد روح خاتم الأولياء لا شخصه عندما يقول إنه الممد لسائر الأولياء والأنبياء والرسل بعلمهم الباطن. يقول:
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه - متى رأوه - إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟
7
وفي موضع آخر يقول: «وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل، المشاهد للمراتب.»
8
يريد الآخذ عن الأصل الذي أخذ عنه خاتم الرسل؛ إذ معدن العلم الباطن عند الاثنين واحد، ولكن ابن عربي يتحدث عن نوعين من الولاية لكل منهما خاتم: الأولى الولاية العامة أو المطلقة، والثانية الولاية المحمدية أو الخلافة المحمدية، والأولى هي التي أطلق عليها الترمذي اسم «ولاية الفضل» وخاتمها عنده وعند ابن عربي عيسى عليه السلام. أما خاتم الثانية فالظاهر أن ابن عربي يقصد به نفسه، وسيكون عيسى خاتم الولاية العامة عندما ينزل من السماء - كما تحكي الأخبار المتواترة - ويحكم بين الناس بشريعة محمد عليه السلام، ويحاول الرجوع بالإسلام إلى سابق سيرته. أما خاتم الولاية المحمدية فهو الخاتم الحقيقي لأن الوراثة المحمدية تنقطع بعده، وهو ما يعنيه ابن عربي عندما يستعمل «خاتم الأولياء» من غير تخصيص أو تقييد، وقد صرح بأنه هو نفسه المقصود بخاتم الولاية بهذا المعنى في موضع واحد حيث قال:
أنا خاتم الولاية دون شك
لورث الهاشمي مع المسيح
9
وفي مواضع أخرى يشير إلى ذلك إشارات لا تخلو من مغزى، فيقول مثلا:
وأما ختم الولاية المحمدية فهو لرجل من العرب، ومن أكرمها أصلا وبدءا، وهو في زماننا اليوم موجود، عرفت به في سنة خمس وتسعين وخمسمائة ورأيت العلامة التي قد أخفاها الحق فيه عن عيون عباده، وكشفها لي بمدينة «فاس» حتى رأيت ختم الولاية عنه، وهو خاتم النبوة المطلقة التي لا يعلمها كثير من الناس، وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به.
10
ويقول:
استحق (أي النبي) أن يكون لولايته الخاصة ختم يواطئ اسمه اسمه
صلى الله عليه وسلم
ويحوز خلقه، وما هو بالمهدي المعروف المسمى المنتظر، فإن ذلك من سلالته وعترته
صلى الله عليه وسلم ، والختم ليس من سلالته الحسية، ولكن من سلالة أعراقه وأخلاقه
صلى الله عليه وسلم .
11
كل هذه أوصاف تنطبق على ابن عربي بالذات، وإن لم يشأ أن يذكر ذلك صراحة، فختم الأولياء رجل عربي من أكرم العرب أصلا، وجد في زمن ابن عربي وعرفه، ورأى علامة الختم فيه، ثم هو فوق ذلك رجل كثر إنكار الناس عليه، يواطئ اسمه اسم النبي، ليس من سلالة النبي ولا هو المهدي المنتظر، وهكذا. ليس لنا أن نقف طويلا عند هذه الأوصاف فكلها منطبقة تمام الانطباق عليه، وما بقي إلا أن يقول إن هذا الختم هو أنا، وأنا هو!
والغريب في هذه المسألة أن فكرة ختم الولاية نبتت في أوساط شيعية، وكان الختم عند الشيعة هو المهدي المنتظر، وادعت كل فرقة من الشيعة لنفسها «مهديا» يوافق مذهبها وعقيدتها.
فلما أخذ ابن عربي بهذه الفكرة الشيعية الأصل فرق بين ختم الأولياء والمهدي المنتظر وصرح بأنهما مختلفان، وليست هذه أول مرة تأثر فيها ابن عربي بنظرية شيعية ثم وجهها وجهة خاصة ووصل بها إلى نتائج تتعارض مع الأصل الذي تأثر به. فهل فعل ذلك ليفسح أمام نفسه مجال الدعوى بأنه خاتم الأولياء على الرغم من أنه ليس المهدي المنتظر لأنه ليس شيعيا ولا من سلالة النبي؟
هناك شاهد أخير أسوقه للدلالة على أن ابن عربي قصد بخاتم الأولياء نفسه وكان في ذلك أكثر صراحة، وهو قوله:
كنت بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فرأيت فيما يرى النائم كأن الكعبة مبنية بلبن فضة وذهب، لبنة فضة ولبنة ذهب، وقد كملت بالبناء وما بقي فيها شيء، وأنا أنظر إليها وإلى حسنها، فالتفت إلى الوجه الذي بين الركن اليماني والشامي، وهو إلى الركن الشامي أقرب، فوجدت موضع لبنتين لبنة فضة ولبنة ذهب، ينقص من الحائط في الصفين: في الصف الأعلى ينقص لبنة ذهب، وفي الصف الذي يليه ينقص لبنة فضة، فرأيت نفسي قد انطبعت في موضع اللبنتين، فكنت أنا عين تينك اللبنتين وكمل الحائط. فاستيقظت، وقلت متأولا إني في الأتباع من صنفي كرسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الأنبياء عليهم السلام، وعسى أن أكون ممن ختم الله الولاية بي وما ذلك على الله بعزيز.
12
وقد ذكر هذا مباشرة عقب كلام أورده لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
في أنه خاتم النبيين، وهو قوله: مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى حائطا فأكمله إلا لبنة واحدة فكنت أنا تلك اللبنة، فلا رسول بعدي ولا نبي.
أما «الكعبة» التي رآها فيما يشبه الحلم فهي البناء الروحي للأمة المحمدية، وأما اللبنتان الناقصتان في البناء فتمثلان خاتم الأولياء الذي له ناحيتان: ناحية الظاهر وهي ناحية الشرع وهذه تمثلها اللبنية الفضية، وناحية الباطن وهي ناحية الولاية وهذه تمثلها اللبنة الذهبية، وخاتم الأولياء يجب أن تتحقق فيه الناحيتان جميعا؛ أي يجب أن يكون وليا وتابعا للشرع المحمدي في آن واحد.
مراجع
مراجع أساسية (1)
ابن عربي (محيي الدين): فصوص الحكم، نشره المؤلف، القاهرة سنة 1946. (2)
محيي الدين: الفتوحات المكية، ط بولاق. (3)
ابن الفارض: الديوان. (4)
أبو العلا عفيفي: فصوص الحكم لابن عربي والتعليقات عليه. (5)
أبو العلا عفيفي: الملامتية والصوفية وأهل الفتوة: القاهرة سنة 1945. (6)
أبو العلا عفيفي: في التصوف الإسلامي وتاريخه. (7)
أبو نعيم: الحلية. (8)
جامي (عبد الرحمن): نفحات الأنس. (9)
الجنيد (أبو القاسم): رسائل: مخطوط بإسطنبول. (10)
الجيلي (عبد الكريم): الإنسان الكامل. (11)
الحلاج (الحسين بن منصور): الطواسين: نشرة ماسنيون. (12)
حلمي (محمد مصطفى): ابن الفارض والحب الإلهي: القاهرة سنة 1945. (13)
السراج (أبو نصر): كتاب اللمع: نشرة نيكولسون. (14)
السلمي (أبو عبد الرحمن): طبقات الصوفية: نشرة شريبة. (15)
السلمي: رسالة الملامتية، نشره المؤلف مع كتاب الملامتية ... إلخ. (16)
السهروردي: عوارف المعارف على هامش الإحياء للغزالي 1334. (17)
الشعراني (عبد الوهاب): الطبقات الكبرى. (18)
العطار (فريد الدين): تذكرة الأولياء. (19)
الغزالي (أبو حامد): إحياء علوم الدين: القاهرة سنة 1334. (20)
القشيري: الرسالة: القاهرة سنة 1367. (21)
الكلاباذي: التعرف: نشرة آربري سنة 1933. (22)
المكي (أبو طالب): قوت القلوب. (23)
الهجويري: كشف المحجوب: ترجمة نيكولسون: 1911.
بالإنجليزية والفرنسية (24)
Affifi, A. E.: The Mystical Philosophy of Muhyid-din Ibn Arabi, Cambridge University Press, 1939 . (25)
Arberry, A. J.: Sufism . (26)
Iqbal, M.: Development of Metaphysics in
. (27)
Massignon, L.: La
Hallaj . (28)
Nicholson, R. A.: The Mystics of Islam . (29)
Nicholson, R. A.: Studies in Islamic Mysticism .
مراجع عامة (30)
ابن تيمية: رسالة الصوفية والفقراء. (31)
ابن تيمية: مجموعة الرسائل الكبرى. (32)
ابن تيمية: مجموعة الرسائل والمسائل: طبعة المنار. (33)
ابن الجوزي: تلبيس إبليس. (34)
ابن خلدون: المقدمة. (35)
التهانوي: كشاف اصطلاحات العلوم والفنون: كلكتا: سنة 1862.
بالإنجليزية والألمانية (36)
Browne, E. G.: Lit. History of
. (37)
Encyclopaedia of Islam . (38)
Encyclopaedia of Religion and Ethics . (39)
Inge: Christian Mysticism . (40)
Margoliouth: Early Development of Mohamedanism . (41)
Von Kremer, A.: Gesch. der Herrschenden Ideen des Islam .
صفحة غير معروفة