8
وكان أبو ذر صادقا في دعوته مصمما على نشرها. أراد معاوية أن يختبره فبعث إليه ليلا بألف دينار، فلما أصبح الصباح أراد أن يستردها منه بحيلة، فوجد أنه فرقها كلها، وبعث إليه حبيب بن مسلمة أمير الشام بثلاثمائة دينار، فقال لحاملها : «ارجع بها إليه، أما وجد أحدا أغر بالله منا؟ ما لنا إلا ظل نتوارى فيه، وثلة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل.»
لقي أبو ذر في دعوته كثيرا من العنت والاضطهاد على يد معاوية خاصة؛ فقد أخذه معاوية بالشدة ونهى الناس عن مجالسته وهدده بالقتل ونفاه بالربذة، وفي هذا يقول: «إن بني أمية يهددونني بالقتل، وبطن الأرض أحب إلي من ظهرها، والفقر أحب إلي من الغنى.»
9
قال له رجل: يا أبا ذر، ما لك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ فقال: «إني أنهاهم عن الكنوز.» ومما يؤثر عنه قوله: «يولدون للموت ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفنى ويتركون ما يبقى. ألا حبذا المكروهان؛ الموت والفقر.» (2) ثورة الصوفية على الفقه
كان الزهد وما يتطلبه من إنكار الذات وهجر الدنيا أساس التصوف في دوره الأول إلى حوالي سنة مائتين من الهجرة، مع مراعاة دقيقة لآداب الشريعة الإسلامية وأوامرها.
وكانت أحكام الشريعة في أول عهد الإسلام تؤخذ بالرواية؛ أي بالتواتر، لا فرق في ذلك بين عبادات واعتقادات أو معاملات، ولكن ما لبث المسلمون أن بدءوا يناقشون في مسائل الدين ويتدارسونها، ويبحثون عن علل الأحكام على نمط علمي، ثم يدونون ما يتناقشون فيه، وكان أول ما اتجهت الهمم إلى النظر فيه مسائل الشريعة؛ أي الأحكام العملية التي يدرسها علم الفقه، حتى إن كثيرا من المسلمين قد حسب أن الاشتغال بهذا العلم والعمل به هو الغاية من الدين. كان هذا دور الاجتهاد الذي ظهر فيه الأخذ بالرأي في المسائل الفقهية.
غير أن هذه الحال لم تدم طويلا، فقد بدأ بعض المسلمين ينظرون إلى كمال ديني آخر غير هذا الكمال الذي هو استنباط الأحكام الشرعية والعمل بمقتضاها. ذلك الكمال الديني الآخر هو البحث في المعاني الباطنة للأحكام بالإضافة إلى معانيها الظاهرة، وكان هذا إيذانا بظهور علم جديد، هو التصوف، إلى جانب علم الفقه. أي بظهور علم باطن الشريعة إلى جانب علم الظاهر. يقول ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: كتب ابن منبه إلى ابن مكحول (المتوفى سنة 113): «إنك امرؤ قد أصبت فيما ظهر من علم الإسلام شرعا، فاطلب بما بطن من علم الإسلام عن الله محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين سوف تمنع عنك الأخرى.» فابن منبه وهو في هذا العصر المبكر في تاريخ الإسلام، يفرق بين علم الشرع (الفقه) الذي غايته معرفة الأحكام، وبين علم باطن الشرع (الذي عرف فيما بعد بالتصوف) الذي غايته التقرب والزلفى إلى الله تعالى.
ولما ظهر الصوفية وأخذوا بمنهجهم في فهم الدين، بدأ الفقهاء يتوجسون منهم خيفة مدة من الزمن، ثم ما لبثوا أن ناصبوهم العداء علانية واضطهدوهم كل نوع من أنواع الاضطهاد التي يحدثنا عنها التاريخ؛ ذلك أن شقة الخلاف بينهم قد اتسعت على مر الزمن، وأصبح لكل من الطائفتين وجهة نظر خاصة في ماهية الدين نفسه وكيف يجب أن يفهم، وماهية الأحكام الشرعية وكيف يجب أن تستنبط وتعلل، وماهية العبادة وعلى أي نحو تؤدى، وما هو الحلال وما هو الحرام، وأيهما أفضل الفروض أم النوافل، وعلى أي نحو يجب أن نتصور الصلة بين الله والإنسان: أهي صلة محب بمحبوبه أم صلة عابد بمعبوده؟ وما هو التوحيد: أهو إفراد الموحد بفصات تميزه عن المحدثات، أم إفراده بالوجود الحق؟ إلى غير ذلك من المسائل التي كانت في صميم الدين. كان من الطبيعي إذن أن يقع الصدام بين الطائفتين لاختلافهما في الفكرة والمنهج والعاطفة، وظهر الخلاف على حقيقته حوالي المائتين بين الفقهاء ومتصوفة البصرة والكوفة، ثم تلاه سلسلة من الاضطهادات في مصر والشام والعراق انتهت في سنة 309 بمأساة الحسين بن منصور الحلاج.
وكان من أبرز الشخصيات التي ناهضت التصوف وقاومت الصوفية أحمد بن حنبل، بالرغم مما كان يكنه لبعض الصوفية من احترام وتبجيل كما تشهد بذلك الحكايات التي تروى عنه مع الحارث المحاسبي، ولكن إشفاق ابن حنبل على الإسلام وتخوفه من انتشار نفوذ الصوفية كانا أغلب عليه من تقديره لهم. إنه لم ينكر عليهم أقوالهم، ولكنه كان يعترف صراحة أنه لا يفهمهم لأنهم يتكلمون بلغة لا عهد له بها.
صفحة غير معروفة