17
وهذا - فيما أرى - تعبير عن نفس المعنى الذي قصد إليه ذو النون في كلامه عن «المعرفة بالله» الذي شرحناه فيما سبق، وأغلب كلام هؤلاء الثلاثة في الدنيا وحقارتها، والشهوات واشتغال القلب بها أو خلوه منها، وفي القلب وصفائه وصدئه، والصدق في التوبة، ومحبة الله، وما إلى ذلك من المسائل التي خاض فيها معظم الصوفية في عصرهم، ولكنهم يمتازون عن عامة الزهاد بدقة التحليل النفسي ووصف أحوال النفس في لحظات قربها من الله أو بعدها عنه، قال أحمد بن أبي الحواري: «دخلت على أبي سليمان (الداراني) يوما وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: يا أحمد، ولم لا أبكي وإذا جن الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه، وافترش أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم على خدودهم وتقطرت في محاريبهم، أشرف الجليل سبحانه وتعالى فنادى: يا جبريل، بعيني من تلذذ بكلامي واستراح إلى ذكري، وإني لمطلع عليهم في خلواتهم، أسمع أنينهم وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم؟ يا جبريل ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيبا يعذب أحباءه؟ أم كيف يجمل بي أن آخذ قوما إذا جنهم الليل تملقوا لي؟ فبي حلفت أنهم إذا وردوا على القيامة لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم.»
18
فالداراني هنا - وهو في حضرة القرب من الله - يسمع صوت ربه في أعماق قلبه يناجيه، ويبكي بكاءين: بكاء الحسرة والندم على ما فرط في حق الله، وبكاء الغبطة والسرور بما وعد الله به أحباءه المخلصين في حبه من إسباغ رحمته عليهم، وكشفه لهم عن وجهه الكريم في الدار الآخرة. أي إن «المحبة» هي سبب استحقاق الرحمة والتمتع بأعظم نعيم أعده الله لعباده في الجنة وهو رؤية وجهه الكريم، وهي بهذا فوق العبادة إذ هي أصلها وأساسها.
الثورة الروحية في التصوف
التصوف هو المظهر الروحي الديني الحقيقي عند المسلمين؛ لأنه المرآة التي تنعكس على صفحتها الحياة الروحية الإسلامية في أخص مظاهرها. فإذا أردنا أن نبحث عن العاطفة الدينية الإسلامية في صفائها ونقائها وعنفها وحرارتها، وجدناها عند الصوفية، وإذا أردنا أن نعرف شيئا عن الصلة الروحية بين المسلم وربه: كيف يصور هذه الصلة، وكيف يجاهد طول حياته في توكيدها وتدعيمها، وكيف يضحي بكل عزيز لديه - بما في ذلك نفسه - محافظة وغيرة عليها، وجب أن نقرأ سير الصوفية المسلمين ونتدبر أقوالهم، وإذا أردنا أن نقارن بين الإسلام وغيره من الديانات لنعرف حظ المسلمين من الحياة الروحية الخالصة، لم نجد نقطة يلتقون فيها مع غيرهم من أصحاب الديانات الكبرى أفضل من التصوف.
بل لولا التصوف لكان الإسلام - كما فهمه المتزمتون من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة - دينا خاليا من الروحانية العميقة ومن العاطفة، وكانت عباداته ومعاملاته مجموعة جامدة من القواعد والأشكال والأوضاع، ومعتقداته مجموعة من التجريدات أقل ما يقال فيها إنها تباعد بين العبد وربه بدلا من أن تقربه إليه، وتورث صاحبها الشك والحيرة والقلق بدلا من الطمأنينة واليقين.
لست أول من يجهر بهذا القول، بل جهر به من قبل أبو حامد الغزالي بعد طول التطواف، وانتهى إلى نفس النتيجة، ووجد أن التصوف وحده دون سائر العلوم «المنقذ من الضلال».
إن العوامل الروحية الحقيقية التي كان لها أثر فعال في تنمية العاطفة الدينية والحياة الروحية عند المسلمين قد أخذت أصولها وبذورها منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا من الإسلام نفسه؛ أي من الكتاب والسنة، ولكن هذه الأصول وتلك البذور نبتت وترعرعت في ظل ذلك النظام الشامخ الذي أقامه صوفية المسلمين وجاهدوا من أجله، والناظر في تاريخ الإسلام الطويل الحافل بالأحداث لا يعجزه أن يرى كيف تغلغلت روح التصوف في حياة المسلمين في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وكيف كانوا ينشئون الآلاف من المريدين في الطريق الصوفي ويروضونهم على اقتحام عقباته، وكيف قوي نفوذ الصوفية في بعض العصور فتجاوز الدائرة الدينية إلى الأوساط السياسية وإدارة الحكم في أوطانهم، فأصبحت لهم في بعض العصور دولة داخل الدولة، كما أصبح لهم طابع ديني خاص داخل الإطار الديني العام.
وليس التصوف أسلوبا من الأساليب يحيا الصوفي بمقتضاه وحسب، بل هو في الوقت نفسه وجهة نظر خاصة تحدد موقف العبد من ربه أولا، ومن نفسه ثانيا، ومن العالم وكل ما فيه ومن فيه آخر الأمر. فهو نوع من الفلسفة - إن شئنا أن نستعمل كلمة الفلسفة بهذا المعنى الواسع - فوق كونه طريقا خاصا في الحياة، بل إنه هو ذلك الأسلوب الخاص في الحياة من أجل أنه وليد تلك الفلسفة. فالصوفية لم يشاركوا عامة المسلمين في نظرتهم إلى الدنيا، ولم يشاركوا الفقهاء أو المتكلمين في نظرتهم إلى الدين، ولم يشاركوا الفلاسفة في نظرتهم إلى الله والإنسان والعالم؛ ولهذا جاء التصوف الإسلامي ثورة شاملة على هؤلاء جميعا، وكانت هذه الثورة أخص مظهر من مظاهره، أو كانت المظهر الذي أعلن فيه الإسلام عن روحانيته الصادقة.
صفحة غير معروفة