3
لغة الحب الإلهي وأسلوبها الرمزي
تدرك النفس الصوفية ذوقا لذة الحب الإلهي التي يقال إنه لا يعدلها في قوتها وصفائها لذة أخرى، كما تدرك بعض معاني الحقيقة الوجودية في حال تجل عن الوصف وتستعصي على التعبير. فإذا حاول الصوفي الإفصاح عن هذه الحالة لم يجد في كثير من الأحيان سوى لغة الرمز والإشارة، وإن كان في أحيان أخرى يلجأ إلى اللغة المتعارف عليها. فهو يتحدث عن «الشهود» فيصفه بأنه فيض من النور الإلهي الذي تنغمس فيه الروح وينكشف به سر الخليقة، ويتحدث عن «الحب» فيصفه بأنه نار محرقة تنمحي فيها الشخصية الفردية ويفنى فيها المحب في المحبوب، ويتحدث عن «الحرية» فيصفها بأنها الانطلاق من قيود العبودية إلى سعة فناء السرمدية، ويشبه النفس بطائر يحن أبدا إلى الرجوع إلى وطنه الأول، ويتحدث الصوفي عن الخمر والسكر والساقي، وعن المغاني والأطلال والدمن، والغياض والرياض، وعن ليلى ولبنى وعزة وسلمى، كما يتحدث عن الوصال والاتصال والعناق والتلاقي والفراق والهجر والأنس والوحشة وغير ذلك من ألفاظ الغزل الإنساني.
ومن الطبيعي أن يستعمل الصوفي لغة الرمز وهو يحاول التعبير عما يشعر به في الحب الإلهي الذي يختلف في جوهره عن أي حب معهود، وربما كان في رمزيته أبلغ وأعظم تأثيرا في نفس سامعيه مما لو استعمل لغة التصريح والتوضيح: إذ الرمزية لها عمل كعمل السحر، لا تمس العقل إلا من حيث تثير فيه الخيال والوجدان، ولكنها تمس القلب مسا مباشرا، ويعمق أثرها وتتضح معانيها مع التكرار، ولغة الحب الإلهي الرمزية لغة عالمية يستعملها جميع الصوفية على اختلاف أديانهم وأوطانهم لأنهم في الحقيقة ينتمون إلى وطن واحد هو الوطن الروحي الذي يعيشون فيه جميعا.
وليس من المستحيل نقل الشعور الصوفي عن طريق الرمزية إلى غير الصوفية ممن لا يعانون تجاربهم ولا يحيون حياتهم، وإلا كيف تحس النفوس غير المتصوفة نغمة الإشارة والرمز الصوفي، وكيف تهتز لها أحيانا؟ إن إمكان نقل هذا الشعور إلى غير الصوفية دليل على أن بذور التصوف كامنة في قرار النفس الإنسانية، غير أنها قد تنمو في بعض النفوس تحت تأثير العوامل الروحية المواتية، أو بفضل مزاج طبيعي ملائم، وقد تظل كامنة من غير نمو في نفوس أخرى لم تتهيأ لها تلك العوامل أو ذلك المزاج.
إن الصوفي لا غنى له عن لغة الرمز والإشارة، واصطناع أساليب التمثيل والتصوير لكي يترجم عن أحواله ويعبر عن مواجيده وأذواقه، مهما يكن في لغة الرمز من قصور عن التعبير؛ لأن موضوعات تجاربه خارجة عن نطاق الموضوعات الحسية والعقلية التي تعبر عنها اللغة الوضعية الاصطلاحية.
وإذا لجأ الصوفي في التعبير عن حبه الإلهي إلى لغة الرمز والإشارة - وكثيرا ما يفعل - فلا مناص من تأويل عباراته، وصرفها عن معانيها الظاهرة إلى معان روحية باطنة، كما هو الحال في الشعر الصوفي الذي هو تصوير فني قصد به الإشارة إلى حقائق روحية، ومن أشنع الأمور أن نفهم لغة الصوفي في الحب الإلهي بمدلولها المادي، أو نئولها تأويلا يتفق مع مستلزمات ذلك المدلول.
فإذا تحدثت «رابعة» عن الحب الإلهي أو القديسة كاترين عن الزواج الروحي، قلنا هذا شعور جنسي مقنع، وإذا قال أبو يزيد البسطامي أنه رأى في المنام أنه ضرب خيمته بجوار العرش، أو قال بليك
Blake
أنه رأى في مشهد من مشاهده أنه لمس السماء بإصبعه، قلنا هذان الرجلان يهذيان، وإذا ذكر الصوفية كلمة «النكاح» و«وصلة النكاح» أو «الخمر» أو ما ماثل ذلك، قلنا هؤلاء قوم محرومون استولى عليهم سلطان شهوة مكبوتة، وكذلك إذا تغنوا بحب ليلى وسعدى وبجمال الثغر وسواد الشعر وامتشاق القوام، قلنا قوم استغرقوا في المادية ولذائذها.
صفحة غير معروفة