وظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم «الإنسان» حال الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان، وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكران. فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا. فعلمت يقينا أنهم (أي الصوفية) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلت ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك.
1
هذه شهادة صريحة من الغزالي بأن التصوف في صميمه «تجربة روحية» وأنه شيء مختلف تمام الاختلاف عن العلم وعن الفلسفة: لا يكتسب بهما ولا يستند إليهما، وأنه ليس نتيجة لعمل مزاج فلسفي خاص في المسائل الدينية؛ أي ليس وليدا لعمل عقل ذي مزاج فلسفي خاص هو «المزاج الأفلاطوني» على حد تعبيرهم، بل هو وليد العمل والمجاهدة النفسية، أو السلوك المرسوم في الطريق الصوفي. فإذا كان للصوفي فلسفة كانت هذه الفلسفة تأييدا لمشاهداته الصوفية وتجاربه وليست شيئا مستقلا عنها. هذا إذن فرق جوهري وأساسي بين طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة من حيث هما طريقان لمعرفة الوجود المطلق أو الوجود الحق. هذا عالم وذلك عالم آخر. التصوف تجربة تتجه فيها «الإرادة» الإنسانية نحو موضوعها الذي تتعشقه وتفنى فيه، فتعرفه النفس عن طريق الاتحاد به معرفة ذوقية كما سبق أن قلنا، وكما سنوضحه في الفصل الذي عقدناه في المعرفة الصوفية. فالصوفي يعرف «المطلق» اللامتناهي بقدر ما يتجلى له ذلك المطلق في قلبه، ومعرفته له وشهوده إياه واتحاده به شيء واحد، أو هي تعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة. أما الفلسفة فعمل من أعمال العقل المقيد بمقولاته، العاجز عن أن يتحرر من الحبالات التي نصبها حول نفسه؛ ليتخبط فيها ولا يرى لنفسه خلاصا منها. يحاول الفيلسوف إدراك اللامتناهي بأدوات لا تعرف إلا المقيد المتناهي، ويطبق مقولات هذا العالم على عالم ليس من طبيعته الخضوع لهذه المقولات. هذا هو السر في فشل «ما بعد الطبيعة» كما أدركه الفيلسوف «كانت». •••
ينفرد التصوف من بين جميع الأساليب التي حاول الإنسان أن يشبع بها رغبته في معرفة الحقيقة بأنه لا يفترض وجود «حقيقة مطلقة» وحسب، بل حقيقة مطلقة يمكن معرفتها والاتصال بها، فهو ينكر أن المعرفة الإنسانية قاصرة على معطيات الحس أو على نتائج أساليب الفكر، أو على تكشف ما ينطوي عليه العقل من معلومات، فإن هذا تحديد لمدى النشاط الروحي عند الإنسان، وتخطيط ناقص لميدان الحياة الروحية؛ ولهذا وجب أن نتلمس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطقهم، في ذلك القبس الإلهي الذي ينير صدورهم، وفي ذلك الشهود الذي يتحدثون عنه والمعرفة التي يتذوقونها: لا أقول التي يدركونها عقلا أو التي يستطيعون التعبير عنها، فإن الإدراك العقلي والقدرة على التعبير من أعمال العقل، ونحن بإزاء أمور فوق طور العقل.
في الحياة الصوفية وحدها يعرف الصوفي الحقيقية الوجودية في ذاتها، كما يعرف صلته بها ؛ لأنه يحمل قبسا من نورها في قلبه، وشبيه الشيء منجذب إليه، والفرع دائم الحنين إلى أصله، وبينما يهيم الفيلسوف في ميدان العقل لا يبرحه، يتجاوز الصوفي ميدان العقل إلى ميدان الوجدان والإرادة أو ميدان الحرية المطلقة، وبينما يظل الأول يدور في دائرته المغلقة يناقش ويجادل ويعترض ويفترض، ولا يصل - إن وصل - إلا إلى فكرة عن الحقيقة لا حياة فيها ولا روح، حقيقة صورية محضة لا تتصل بنفسه بصلة، يحيا الثاني حياة روحية خصبة يشعر فيها بالسعادة العظمى، لا من جراء معرفته بالحقيقة فحسب، بل من أجل اتصاله بها وشعوره بالاتحاد معها، وهنا ينطق بلغته الخاصة محاولا التعبير عما في نفسه، وإن كان أكثر ما ينطق به من قبيل الرمز الحائر والأسلوب الغامض الذي لا يفهمه إلا من تذوق أحواله، وفي هذا يقول قائلهم في لهجة المطمئن الواثق: «ذق مذاق القوم ثم انظر ماذا ترى. إن علومنا ذوقية محضة وعلينا أن ندلك على الطريق وليس علينا إدراك النتائج. قد أتيناك فاعلين لا قائلين ولا مفكرين، فدع عنك ثقتك العمياء في الحس والعقل ودع عنك غفلتك، واعلم أن الفلسفة إن علمتك شيئا فقد علمتك نهاية الشوط الذي تستطيع أن تجري فيه في ميدان العقل، ولكنها لا تخبرك بشيء عن الميادين الأخرى التي في استطاعتك أن تجري فيها.» هذا تعبير آخر عن نفس المعاني التي ضمنها الغزالي عبارته التي اقتبسناها آنفا.
التجربة الصوفية
إن المحور الذي يدور حوله بحث الباحثين في الحياة الصوفية هو «التجربة الصوفية» التي أطلق عليها الصوفية أنفسهم اسم «الحال» ووصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يتصل فيها العبد بربه، أو يتصل فيها المتناهي باللامتناهي، كما وصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يحصل لهم فيها الإشراق، ويفيض عليهم فيها العلم الذوقي، وليست هذه الحال من أحوال العقل الواعي، وإلا كانت خاضعة للعقل وقوانينه، وإنما هي حالة من حالات الوجود الباطن المتحفز للإعلان عن نفسه في كل ضروب النشاط الروحي. بعبارة أخرى هي حال من أحوال «الإرادة» بمعنى مطلق النزوع لا بمعنى الاختيار ، واتصال الإرادة المتناهية بالإرادة اللامتناهية، وانمحاؤها فيها هو ما عبر عنه الصوفية تعبيرا دقيقا باسم الفناء في الله.
وقد اعتبر صوفية المسلمين الإرادة - لا العقل - جوهر الإلهية، كما اعتبروا الإرادة - لا العقل - جوهر الإنسان. فالإرادة عندهم نقطة الابتداء من جهة، ونقطة الانتهاء من جهة أخرى؛ إذ بالإرادة وحدها يثبتون وجودهم وعن طريق الإرادة وحدها يتصلون بمطلوبهم أو يصلون إلى مطلوبهم وهو الله. فالصوفي لا يقول كما قال ديكارت: «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود.» بل يقول: «أنا أريد، وإذن فأنا موجود.» ولكن إرادته - في نظره - ليست على الحقيقة الإرادة الإنسانية المتناهية، بل الإرادة الإلهية المطلقة؛ لأنه فان في الله، متحقق (في حاله) بوحدته الذاتية معه، يرى كل ما يجري في نفسه وفي الكون الذي حوله مظهرا من مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله ولا مريد في الحقيقة إلا هو.
بل إن «المعرفة» التي أطلق عليها متصوفة المسلمين اسم «الذوق» ليست هي الأخرى عملا من أعمال العقل الواعي ولا مظهرا من مظاهره، بل هي مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، مظهر من مظاهر الاتصال الروحي الذي هو أشبه بالاتصال البدني؛ ولهذا لا تخضع المعرفة الذوقية لمقولات العقل ولغته ومنطقه، بل لها لغتها الخاصة ومنطقها، والصوفية لا يترددون في القول بأن العقل ومقولاته حجب كثيفة تحول بين الإنسان وعالم الحقيقة، وأنه لا بد لمن ينشد المعرفة الذوقية الخالصة من أن يتجرد عن العقل وأساليبه وحيله ويتحقق بمقام الإرادة الصرفة. يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه «فصوص الحكم» في شرح هذه المسألة:
فمن أراد العثور على هذه الحكمة، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ويكن حيوانا مطلقا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين. فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته، وعلامته علامتان: الواحدة هذا الكشف، والعلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد النطق بما رآه لم يقدر.
صفحة غير معروفة