ظهر مما تقدم كيف تغيرت مفاهيم التوحيد في البيئات الإسلامية المختلفة، كلامية أو فلسفية وصوفية، وكيف تطور معناه في بيئة الصوفية خاصة، من توحيد هو إقرار بوحدانية الله تعالى ومخالفته للحوادث، إلى توحيد هو إدراك ذوقي للا متناهي في حالة شعور عميق بوحدة شاملة تغيب فيها معالم فردية الصوفي وشخصيته ولا يبقى ماثلا أمامه سوى الله، وقد ذكرنا أن التوحيد بهذا المعنى هو اسم آخر للحال التي أطلق عليها الصوفية اسم «الفناء».
ونريد الآن أن نفصل القول في «الفناء» وما يدركه الصوفية فيه من الوحدة أو الاتحاد لتظهر الصلة بينه وبين التوحيد.
الفناء الصوفي هو الحال التي تتوارى فيها آثار الإرادة والشخصية والشعور بالذات وكل ما سوى الحق، فيصبح الصوفي وهو لا يرى في الوجود غير الحق، ولا يشعر بشيء في الوجود سوى الحق وفعله وإرادته.
وقد كان أبو يزيد البسطامي المتوفى سنة 261 أسبق من تكلم في موضوع الفناء واعتبره الدرجة القصوى في سلم معراجه الروحي، وله فيه أقوال رمزية غريبة تعتبر عادة من قبيل ما يسمى بالشطحات الصوفية، جمعها السهلكي (المتوفى سنة 476) في كتاب «النور» وأشار إلى بعضها أبو القاسم القشيري في رسالته وفريد الدين العطار في تذكرة الأولياء وأبو نصر السراج في كتاب اللمع وغيرهم. من ذلك قوله: «حججت مرة فرأيت البيت، وحججت ثانية فرأيت البيت وصاحبه، وحججت ثالثة فلم أر البيت ولا صاحبه.» يفصل في هذا مراحل معراجه الروحي الذي انتهى فيه إلى مقام الفناء التام أو الوحدة التامة. فالحج هنا رمز للسفر الروحي، وأول مراحله هو المرحلة الحسية التي رأى فيها «البيت» (العالم) وأدركه إدراكا حسيا، وفي الحج الثاني أدرك البيت وصاحب البيت؛ أي أدرك «الاثنينية» إدراكا عقليا وفرق بين الله والعالم، وفي الحج الثالث أدرك بقلبه وشهوده «الكل» الذي لم يميز فيه بين البيت وصاحب البيت. فمراتب هذا الحج ثلاث: إدراك حسي فإدراك عقلي فشهود قلبي، أو فردية فثنوية فوحدة مطلقة تنمحي فيها الكثرة العقلية والحسية.
وهذه المرتبة الأخيرة هي مرتبة الفناء أو التوحيد الصوفي.
ومن شطحاته التي يشير فيها إلى نفس المعنى قوله وقد سئل كيف أصبحت؟ «لا صباح ولا مساء! إنما الصباح والمساء لمن تأخذه الصفة وأنا لا صفة لي.» يريد بذلك أن أحكام الزمان والمكان تصدق على المتعين الجزئي الذي له صفات شخصية تميزه عن غيره. أما الذي لا صفة له، أي الذي فني عن صفاته الفردية وبقي بصفات الحق، فإنه يتعدى حدود الزمان والمكان؛ ولذلك يستوي عنده الصباح والمساء.
ومن ذلك قوله: «للخلق أحوال، ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره وغيبت آثاره بآثار غيره.»
1
وقوله: «خرجت من الحق إلى الحق حتى صاح مني في: يامن أنت أنا فقد تحققت بمقام الفناء في الله.»
2
صفحة غير معروفة