ويروي المؤرخون أن وليم كاشفه الأمر يوم كانا راجعين من تطوافهما، بعدما أخذا في الطريق بأطراف الأحاديث المستطيلة على التبادل عن أنواع الحروب، وضروب الحصار، وطرق النجاة، وغير ذلك مما يتعلق بذكر المواقع التي يقدم عليها الأبطال، والتي كانت موضوع المحادثة في ذلك العهد، حتى إذا شعر بأنه أحسن التوطئة والتمهيد للدخول في ذلك الحديث ذي الشجون انتقل بأسلوب لطيف إلى الإفاضة في موضوع العرش الإنكليزي ووشك موت صاحب تاجه، وعندها أخبره بالمعاهدة التي بينه وبين الملك إدوارد الذي وعده بأن يكون خليفة له من بعده، وصرح له فوق ذلك بأنه متكل على مساعدته في تسهيل التربع على دست المملكة، وله منه على هذه المساعدة أعظم جائزة وأكبر إكرام، وزاد على ذلك قوله له: إن المناظر الوحيد هو الولد إدغر، وليس له من قوة أو عصبة تشد أزره وتلبي طلب الحصول على حقه، وعليه فالقوات الحربية والمعدات العسكرية هي في يديهما وحدهما، وكلاهما إن اتحدا معا يستطيعان الاستيلاء على تخت إنكلترا إن أرادا.
فأصغى هارلود إلى هذه الاعتبارات متظاهرا بلذة استماعها، ومتلبسا بمسرة الوقوف عليها، وقد كان بالحقيقة ملتذا بها، ولكنه لم يكن مسرورا؛ لأنه أراد تخليص الملك لنفسه، ولم يكن يقنعه الحصول على قسم منه مهما كان عظيما وكبيرا، على أنه تحرز جهده من إعلان عدم مسرته، وادعى الموافقة لوليم في مرتآه، واعترف برغبته السديدة في ممالأته عليه، وجاهر في استعداده لأجل تحقيق القول بالفعل، فعظم في عيني وليم نجاحه في مسعاه، وسر سرورا لا مزيد عليه في توفيقه إلى بغيته، حسب اعتقاده، أما هارلود فعول في الداخل على الإسراع في الرجوع إلى إنكلترا؛ ليسعى في ارتياد الذرائع وتطلب الوجوه التي تمهد له الجلوس على العرش الإنكليزي بنفسه دون اعتبار للمواعيد التي وعد بها وليم.
على أن وليم لم يكن لتكفيه المواعيد وترضيه العهود المجردة، وللحال شرع في تهيئة ما يمكنه من إرغام هارلود على إنفاذها، وذلك بأن دبر الطرق المصطلح عليها في تلك الأيام لأجل ضمانة الوفاء بالعهود المقطوعة بين الأمراء، وكانت ثلاثا: مبادلة الزيجة، وتقديم الكفلاء، والأقسام العظيمة.
فارتأى وليم للأولى عقد زيجتين تمكينا للاتحاد المنوي بينه وبين هارلود، وذلك بأن يعطي هارلود إحدى بناته لوليم، ووليم يزوجها واحدا من كبراء قومه، فتكون تحت سلطته معتبرة كرهن أو كفالة إلا بالاسم، وهذا قبل به هارلود، والعقد الثاني كان بين ابنة وليم وهارلود نفسه.
ولكن إذ كانت تلك الابنة بعد ولد لا تتجاوز السبع سنين اتفق على خطبتها فقط، وهذا صدق عليه هارلود أيضا، واحتفل للحال بوضع عربون للحال بحضور جم غفير من الأعيان على مزيد البهرجة والاحتفاء كأنها زفاف حقيقي، وكان اسم الخطيبة إدلا.
ومن خصوص الكفلاء فقد عول وليم على أن يبقي عنده واحدا من الاثنين اللذين يذكر القارئ مجيء هارلود إلى نورماندي لأجل أخذهما، فقال له وليم: يرجع بابن أخيه هاكيون، وأما أخوه النوث فينبغي أن يبقى إلى حين يقدم وليم على إنكلترا لاستلام الملك فيحضره معه.
فساء هارلود أن يترك أخاه هكذا تحت سلطة وليم، ولكنه إذ كان موقنا أن إجازة الرجوع له نفسه تتوقف على عدم إبدائه أدنى معارضة يوجس منها وليم أقل ريب فيه قبل مكرها، وسلم ببقاء أخيه النوث أيضا.
وفي الختام عقد وليم مشهدا حافلا بأعظم الأمراء والسادة والأعيان، وأشار إلى هارلود أن يقسم على مرأى ومسمع منهم باليمين المعظمة أنه يقيم بوعده ويبر بعهده، فامتثل هارلود إشارته عادا نفسه مضطرا لذلك غير مختار، وأنه في قبضة وليم، فكل ما يفقده يكون فقط عبارة عن وسيلة التخلص من الإكراه، والعود إلى الحرية المطلقة، وبالنتيجة فأقسامه باطلة فارغة، وعليه عزم أن يتمم كلما يفرضه وليم .
وبموجبه أقيمت حفلة عظيمة، وفي الوسط وضعت منصة مغطاة بملاءة ذهبية يعلوها كتاب خدمة الكنيسة الكاثوليكية (الميسال) مكتوبا بمزيد الإتقان على رق، ثم فتح هذا الكتاب فصل من الأناجيل التي وهي قسم من الكتب المقدسة كانت تعتبر في تلك الأعاصير أن لها قوة فائقة العادة على إكساب القسم هيبة القداسة.
فاعترى هارلود شيء من الريب حينما تقدم إلى بهرة ذلك المنتدى الحافل بالكبراء والعظماء؛ ليعيد وعوده لوليم على مسامعهم أمام الله، ويعرض نفسه لمسئولية النكث بها التي أقل ما فيها مجازاته بلعنات القادر على كل شيء، ومهما يكن من إيجاسه وارتيابه فلم يعد في استطاعته العدول والانسحاب، فدنا من كتاب الصلاة المفتوح، ووضع يده عليه، وأقسم أنه يقوم بالأشياء الثلاثة المطلوبة التي أملاها عليه وليم من على سريره وهي: أولا: أن يبذل غاية جهده في مساعدة وليم على تولي العرش الإنكليزي، وثانيا: أن يقترن بابنة وليم إدالا حالما تبلغ سن الزواج، وثالثا: أن يرسل ابنته من إنكلترا إلى نورماندي لكي تزف إلى واحد من أشرافها.
صفحة غير معروفة