مقدمة
تمهيد
1 - نورماندي
2 - ولادة وليم
3 - سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
4 - ملك وليم في نورماندي
5 - الزيجة
6 - الأميرة «أما»
7 - الملك هارلود
8 - التأهبات
9 - اجتياز البوغاز
10 - معركة هستن
11 - عصيان البرنس روبرت
12 - الخاتمة
مقدمة
تمهيد
1 - نورماندي
2 - ولادة وليم
3 - سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
4 - ملك وليم في نورماندي
5 - الزيجة
6 - الأميرة «أما»
7 - الملك هارلود
8 - التأهبات
9 - اجتياز البوغاز
10 - معركة هستن
11 - عصيان البرنس روبرت
12 - الخاتمة
تاريخ وليم الظافر
تاريخ وليم الظافر
تأليف
أسعد خليل داغر
مقدمة
الحمد لله الذي ليس لسوابغه حصر ولا لنوابغه عد، كما أنه ليس له بداءة فتؤرخ ولا نهاية فيوضع لها حد.
أما بعد، فلما كان فن التاريخ من أجل المنافع للإنسان، وأفضل الذرائع لتدرجه في مرقاة الحضارة والعمران؛ لأنه مشكاة تنقشع لديها دياجير القدمية عن محيا الحوادث في غابر القرون والأجيال ومرآة تنطبع عليها تصاوير الوقائع الماضية كأنها في زمان الحال، فتمرح في حلباته ضوامر النواظر، وتسرح في فلواته غزلان الخواطر؛ لاجتناء يانع الفضائل من أجارع المفيدات المرشدات، واجتناب فواقع الرذائل من صوادع المنذرات الموعدات، ولما كان تاريخ وليم الظافر، الملقب بالقاهر، من أجلها نفعا، وأعظمها في النفوس وقعا، رأيت أن ألم به بعض الإلمام إفادة للقراء الكرام والسلام.
تمهيد
إن الشهرة التي حازها هذا البطل المقدام، والأسد الضرغام، كانت بافتتاحه بلاد الإنكليز عنوة، واستيلائه على مقاطعاتها، واستوائه على عرش ملكها. وهذا كله يعرف في التاريخ بغلبة النورمان - سكان نورماندي - الذين منهم وليم الظافر.
على أن الأسباب التي مهدت سبيل الجلوس على العرش الإنكليزي لم تكن مجرد القوة الحربية فقط؛ لأنه كان له في العرش حق ادعاه على ملكها، وحمل عليه طالبا تحصيله على ما سيأتي معنا إن شاء الله.
الفصل الأول
نورماندي
إن نورماندي وطن وليم الظافر هي مقاطعة في غاية الخصب والجمال، موقعها الجغرافي في شمال فرنسا على ملاصقة المضيق الإنكليزي، ومساحة عرض هذا المضيق نحو مائة ميل، وأما تخمه الجنوبي الذي منه القسم الشمالي من نورماندي، فمؤلف من سلسلة هضاب قائمة تجاه البحر تخرقها مصاب أنهر تجري من داخل البلاد، وتصب في تلك الثغور التي كانت تصلح أن تكون مرافئ تلتجئ إليها السفن، لولا أن الرياح الشمالية الغربية يكثر هبوبها عليها بعنف شديد، فتثير الأمواج متلاطمة وتغادرها مضاحل
1
بما تجر إليها من الرمال والحصى والأخشاب المتكسرة، وبعكس ذلك تخمه الشمالي من جهة بلاد الإنكليز؛ فإن المرافئ هناك رحبة سهلة المدخل أمينته تقي المراكب من الرياح والأنواء؛ ولهذا الاختلاف الطبيعي في جانبي هذا المضيق تأثير عظيم يظهر بالنظر إلى سكان الجانب الواحد منه، فإنهم وإن يكونوا هم وسكان الجانب الآخر من أصل واحد وجنس واحد، فهم على اختلاف من القوة والإقدام على المخاطر والأسفار البحرية.
أما وحدة النسل في هذين الشعبين - أعني الإنكليز وسكان شمالي فرنسا - فهي لأن هذين المكانين أخضعا لجيل من الناس يدعون «سكان نافيين» وهم أخلاط من النرويجيين والدانماركيين وغيرهم من بلدان البلتيك، وقد لقبوا حينئذ بالشماليين، والذين حلوا بلاد الإنكليز دعوا دانيين (نسبة إلى دانمارك) مع أنه لم يكن منهم في الحقيقة من بلاد الدانمارك إلا الجزء القليل فقط، على أنهم تسلسلوا من أصل واحد، ونالوا وحدة الصفات من حيث الشجاعة وشدة البأس والجرأة على ارتكاب المخاطر. وهذا كله لا يزال أخلافهم يمتازون به في العصر الحاضر.
أولئك خرجوا في تلك الأيام جمهورا عظيما على عمارات قرصانية، ومخروا في عرض الأوقيانوس الجرماني إلى الأبحر البريطانية يقتحمون المصاعب، ويركبون الأخطار استكشافا لأرض جديدة ذات خصب وكلاء ليحلوها، وكانوا في غضون ذلك يظهرون ذات القوة والشجاعة، ويكابدون عين هذه الأهوال في صيد حيتان المحيط الباسيفيكي، والحمل على بلاد الهند واغتنام كنوز غناها، والتبحبح بنعيم ثروتها، ومثل ذلك أيضا في الاندفاع للدوران حول نصف الكرة لاستخراج الذهب من كاليفورنيا. أجل إن الزمان تغير والأحوال استحالت، ولكن النوع باق كما كان، والروح هي هي من عهد النشأة وستظل كذلك إلى آخر الزمان.
أما اسم المقاطعة نورماندي فمأخوذ من النورثمان (أي الشماليين) الذين اغتصبوها من الإفرنس؛ فإنهم دخلوها من البحر على نهر السين الذي يجري من داخل البلاد كما يرى على الخارطة، ومخروا فيه بمراكبهم حتى استقرت أقدامهم في قلب تلك المقاطعة، وكان حلولهم فيها بضعة أجيال قبل ابتداء تاريخنا هذا، وقد تولى إدارة الحكم فيها سلسلة من الأمراء كانوا سلاطين مطلقي الإرادة إلا قليلا، ودعوا أمراء (دوكاث) نورماندي.
فالأمير الأول الواضع أساسها، والرافع نبراسها مقدام الغارة في الاستيلاء على هذه الإمارة كان بطلا من الشمال، مغوارا وفارسا بين الرجال كرارا، عريقا بالبربرية، ولصيقا بجانب الوحشية يدعى «رولو» وكثيرا ما يلقب في التاريخ برولو الداني (الدانماركي).
هذا نشأ في نروج، واستلم زمام القيادة بالإرث، ولما شب وبلغ أشده وشب معه حب الغزوات والفتوحات جمع إليه عصابة من الرجال الأشداء، وخرج بهم للقرصانية واللصوصية حتى روع البلاد، وهلع قلوب العباد، فجلاه الملك إلى خارج المملكة.
على أن هذا الجلاء لم يكن ليثني عزمه عن اجتراح هذه الكبائر والجرائم، بل زاده إقداما وتنشيطا، فجمع إليه كل قواته وانطلق بعمارة يمخر في الأوقيانوس الجرماني نحو شواطئ بريطانيا، وكان في ذلك الوقت في جوار تخم إسكوتلاندا الشمالي الغربي سلسلة جزر موحشة كانت ملجأ للقرصان واللصوص، فجعلها رولو مقرا له؛ حيث انضم إليه فيها عصابة أخرى من الأشقياء الذين بعضهم هربوا إليها من طائلة ما كان لهم في إثارة الشغب والفتن، والبعض الآخر في تبعة ارتكاب المعاصي واجتراح المحارم.
أولئك مالوا إليه لما أنسوا فيه من شدة البأس والشجاعة، وتألبوا حوله وأجمعوا على جعله قائدا عليهم، أما هو فلما رأى ازدياد قوته عقد النية على حشد جيش جرار والإقلاع نحو الجنوب، لعلهم يدفعون إلى بلاط طيبة الأرض خصبتها؛ فيغتصبوها ويستعمروها.
فوافقوه على رأيه، وأعدوا الزاد والمهمات وأقلعوا لا ينحون مكانا مخصوصا، بل يسيرون إلى حيث يجدون موضعا يناسبهم للاستيطان، فيلقون فيه عصا الرحيل، ويتخذونه محلا للمقيل، فدخل نهر السين حائرا خائفا من قوة العدو البحرية هناك، على أنه حالا رأى إمكان تغلبه على هذه الصعوبة؛ إذ قد أسعده الحظ بعدم وجود قوة كافية للعدو لتصده، فاجتاز حتى جاء روان، فبلغ ذلك شارل ملك فرنسا، الملقب بالبسيط، فأخذ يجمع الجيوش ويحشد القوات تأهبا لملاقاته، على أن رولو تمكن من الاستيلاء على روان، وتوطيد قدمه فيها قبلما استطاع شارل أن يخرجه بالقوة، ومع أنها كانت حصينة، فرولو زادها منعة وحصانة، فإنه حالا شرع في ترميم الحصون وتكبيرها، وبنى بيوتا للزاد، وأقام المعاقل والأبراج من كل جهة، ومجمل القول أنه جعلها من أمكن المراكز الحربية التي يتعذر على العدو أخذها.
ثم انتشبت بينهما حرب طويلة كان فيها النصر لرولو، وذلك زاده افتخارا وتعظيما، فإنه ضايق الملك شارل حتى أركن للفرار، فتأثره من مدينة إلى مدينة، ومن ساحة إلى أخرى حتى استولى على قسم كبير من شمالي فرنسا، ونظم له حكومة مستقلة تحت إدارته رغما عن اجتهاد الملك شارل في صده وطرده، ولم يزل ينازله ويظفر به حتى حصره ضمن باريس، وعندها اضطر شارل أن يكف عن قتاله، ويسعى في الصلح والسلام معه.
فطلب رولو أن تعطى البلاد حوالي نهر السين ملكا له ولأتباعه، فلم يرد شارل أن يفلت من يده هذا القسم الكبير، بل ارتضى أن يكون إمارة مستمرة تحت سلطانه ورولو يتولاها كدوك معترفا بسيادة ملك فرنسا عليها.
فقبل رولو بذلك؛ لأنه كان قد طال عليه زمان الحرب، ومل الطعن والضرب زهاء الثلاثين سنة، وكان من شروط الصلح بينهما: أن «جسيل» ابنة شارل تعطى زوجة لرولو، وأن رولو يتنصر، ويقدم الطاعة لشارل علانية أمام الرؤساء والأعيان - كما كانت العادة في تلك الأيام - وهكذا ترتب للصلح ثلاثة شروط؛ أولها: تقديم رولو الطاعة لشارل، وثانيها: تنصره، وثالثها: اقترانه بجسيل ابنة شارل، وكلها واحد من حيث غايتها؛ أعني خضوع ذلك الأمير المقيد السلطة (أي رولو) لسيادة ذلك الملك المطلق السلطان (أي شارل).
ولما جاء وقت إتمام الشرط الأول، وغص المشهد بالأمراء والضباط والقواد؛ أنف رولو أن يخضع لحكم ذلك الشرط على العادة المألوفة في ذلك العصر، أي أن يركع أمام الملك ويضم يديه إحداهما إلى الأخرى بين يدي الملك علامة الخضوع، ويقبل رجل الملك ضمن خف ثمين، وقد شق عليه على الخصوص القيام بالقسم الأخير من هذا الشرط؛ أعني تقبيل الرجل.
على أن هذه العادة لم تكن غريبة في تلك الأيام، فإن البابا كان قد أوجبها على أحد الملوك قبل ذلك العهد بمائة سنة، ولكن تقبيلها كان يسهل على من يتنازل لها من حيث النظر إلى الصليب الموضوع عليها، والفكر بأنه قبل علامة آلام المسيح وموته لا رجلا بشرية.
أما رولو فتمنع عن تقبيل رجل الملك شارل، وعد هذا الفعل حطة في شأنه، وتنزيلا من علو قدره، ولكن ارتضى أن يقوم في ذلك أحد رجاله عوضا عنه، فتقدم ذلك الرجل إلى رجل الملك ورفعها بعنف وخشونة، بحيث كاد يقلب الملك عن مجلسه إلى الوراء، وهذا أحدث بين الحاضرين ضحكا شديدا.
ثم بعد أيام قليلة احتفل عماد رولو في كنيسة روان بغاية التجلة والإكرام، وعقد اقترانه بجسيل، واستحالت قلاقل الحروب التي كابدها نيفا وثلاثين سنة إلى سكون وراح في ظلال المسرات والأفراح، وتولى منصب الإمارة (الدوكية) باقي حياته بالأمان والسلام والحكمة والتقدم حتى صيرها من أغنى إمارات أوربا، وخلف فيها شيئا كثيرا من معدات الارتقاء للذين خلفوه بعد موته.
ويظهر أن الذي حدا رولا ورجاله على اختيار هذه المقاطعة دون غيرها إنما هو إمكان الدخول إليها من الخليج الإنكليزي على نهر السين، وكثرة غناها، وشدة خصبها؛ لأنها معدودة في كل زمان جنة فرنسا، وحينما يأتيها السياح في الوقت الحاضر ينظرون إلى حسن مواقعها، وبهجة مناظرها بعين العجب والاندهاش.
وظلت سلسلة أمراء نورماندي من رولو متصلة الحلقات إلى وليم مدة مائة وخمسين سنة بدون انقطاع، والبلاد في بحر هذا الوقت كانت ترتقي في معراج التقدم والنجاح، وتزداد غنى وثروة فضلا عن الازدياد في عدد السكان، والسير في سبيل الحضارة والعمران بقدر ما كانت تسمح به ظروف ذلك الزمان. ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن سكانها الأصليين هاجروا منها، بل ليعلم أنهم لبثوا فيها يتعاطون الفلاحة والرعاية عند أسيادهم النورديين، لكنه على تمادي الأيام اختلط النوعان أحدهما بالآخر، بحيث صار تمييزهما في الوقت الحاضر يتعسر أو يتعذر.
هوامش
الفصل الثاني
ولادة وليم
قلنا أن رولو اتخذ مدينة روان عاصمة إمارته، وجعلها غاية في المنعة والحصانة، بحيث صارت العظمى في مقاطعة نورماندي، ولا تزال كذلك في الوقت الحاضر، على أنها لم تبق مركزا للخلافة في عهد الأمراء الذين خلفوا رولو، فإن الأمير روبرت أبا وليم - وهو السادس في السلسلة الدوكية - غادرها واتخذ قلعة كبيرة في فاليس مقرا لإمارته، وتلك القلعة كانت مبنية على أكمة تبعد قليلا عن المدينة، وقد مضى عليها عهد طويل وهي مهجورة متروكة صلقعا بلقعا، على أن أطلالها ورسومها لا تزال إلى الآن تشهد على عظمتها الغابرة، وشهرة رفعتها الدابرة، بل لا تزال محط ركاب السياح المتقاطرين إليها من جميع النواحي؛ ليشاهدوا مولد (مكان ولادة) ذلك البطل القاهر والملك الظافر.
أما تلك الهضبة المبنية عليها القلعة، فكانت تنتهي من إحدى جهاتها بأحادير صخرية، ومثلها من جهتين أخريين، بحيث كان يتعذر على العدو الصعود إليها من هذه الجهات الثلاث المحاطة بالأحادير والأجراف، وأما جهتها الرابعة فكانت كذلك من حيث التحدر والعلو، ومنها المدخل بطريق كثيرة التعاريج تخرج من المدينة إلى القلعة، وكان الموصل بينهما محصنا على الجانبين بخندق وجسر يوضع عند المرور ويرفع بعده، وعلى كل من جانبي بوابة القلعة برج حصين زيادة في المنعة، وفي الوادي بين المدينة والقلعة نهر صغير يجري وينعطف دائرا على حضيض تلك الهضبة، فيحيط بها إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر، أما دار القلعة فكانت محصنة بسور كثيف غاية في القوة والمتانة، وداخله أبنية كثيرة عديدة متفرقة منها: كنيسة وبرج مربع الشكل مبني من حجر أبيض، وقيل: إنه لا يزال باقيا للآن غير منهدم فيه شيء، وعلى أربع جهات السور مراقب أو أبراج كان يقضي فيها الخفراء أدق الخفارة نهارا وليلا احتسابا من مفاجأة الأعداء، وكانت تلك المراقب تطل على بر شاسع وسهل واسع، وحقول مزينة بأنواع الأشجار، ورياض مرصعة بالأنوار والأزهار، تدبجت فيها الألوان هذا أبيض وذاك أخضر وذلك أحمر، وتأرجت منها الأطياب هذا ورد وذاك نرجس وذلك مسك أذخر، وبينها مجاري أنهر صافية يترقرق عذبها على ذياك العقيق، بما يذكرك العذيب والعقيق، ويسيل لجين مائها على در حصبائها، ويطيب القلب باعتلال هوائها:
لله روض في أبيطح غابة
آسادها صرعى عيون ظبائه
فلجينه من مائه، والعطر من
أرجائه، والدر من حصبائه
وقد مر بنا أن أبا وليم روبرت كان السادس في سلسلة الإمارة، وعليه يكون وليم خلفه السابع، ولما كان من غرض راوي الحوادث إفادة القارئ فائدة تاريخية، فضلا عن تسليته بما يتنزل لديه منزلة قصة؛ رأينا أن نأتي إلى حادثة ولادة وليم على طريق تاريخ موجز عن كل حلقات السلسلة الدوكية من رولو إلى وليم.
وإننا لنشير على القارئ أن يستوعب هذه الخلاصة التاريخية بملء الاعتناء والمبالاة، علما بأن الأسباب الحقيقية التي قادت وليم إلى بلاد الإنكليز يتعذر إدراكها بدون الوقوف على بعض الحوادث المهمة التي تعلق بالأمراء أسلافه قبل ولادته، ولا سيما بالأميرة «أما» ابنة الأمير الثالث، كما سيأتي معنا بالخلاصة الآتية، فإن تاريخ حياتها الغريب الحوادث له علاقة شديدة مع الأسباب التي جرت وليم إلى ذلك الافتتاح الخطير، والظفر العظيم الكبير؛ ولذلك لم نر بدا من سرده بالتفصيل حتى إننا أفردنا له فصلا مخصوصا في كتابنا هذا.
خلاصة تاريخية عن الأمراء النورماندية
وأولهم: رولو من سنة 912ب.م-917:
إن رولو نفي من بلاده نروج نحو السنة 870، وبعد سنين قليلة أتى فرنسا، ولم تستقر قدمه فيها ولا تهيأ له عقد صلات السلام مع ملكها شارل والجلوس على تخت الإمارة النورماندية إلا سنة 912، وكان إذ ذاك قد طعن في السن وتقدم في الأيام، فظل خمس سنوات يعتني في إصلاح شئون الإمارة وإحكام أمورها، ثم استقال عن منصبه وخلف ابنه عوضا عنه، وطلب أن يصرف باقي حياته تحت ظلال الراحة والسلام، ومات سنة 922، أي في السنة الخامسة من استقالته.
الثاني: وليم الأول من 917-942:
هو ابن رولو، تولى الإمارة خمس سنين قبل وفاة أبيه، وقضى فيها نحو خمس وعشرين سنة بالنجاح والأمن، وقتل غدرا من عصبة سياسية تآمرت على اغتياله سنة 942.
الثالث: رتشرد الأول من 942-996:
وكان ابن عشر سنين حين غدر بأبيه، فصلاه ملك فرانسا حربا عوانا، فاضطر أن يستنجد أهل الشمال ويدعوهم إلى مساعدته، فلبوا دعوته على أنهم حملوه أخيرا أثقالا لا تنقص عن أثقال عدوه الأول الذي استنصرهم عليه، ولما تصعب عليه إجلاؤهم عن بلاده، وإرجاعهم من حيث أتوا؛ رأى أن يصطلح مع ملك فرنسا، وبهذا تمكن من طردهم في الحين، وردهم على أعقابهم منكوصين.
وكانت له بنت جميلة تدعى «أما» هذه اكتسبت شهرة عظيمة، ونالت مقاما رفيعا، وحصلت ذكرا خطيرا في عصرها كما سيأتي معنا في أحد الفصول - إن شاء الله - ومات رتشرد سنة 996 بعدما حكم 54 سنة.
الرابع: رتشرد الثاني من 996-1026:
هو ابن رتشرد الأول، وإذ كان أبوه مثقلا بأحمال الحروب مع سلطانه ملك فرنسا مدة ملكه؛ احتاط هو أيضا بالمعارك المستمرة مع أتباعه سادات إمارته وأشرافها، فأرسل يدعو الشماليين لإغاثته كما فعل أبوه، وفي أيامه كانت نار الحرب منتشبة بين السكسونيين والدانيين، فجاء أثلرد مقدام الحزب الأول وزعيمه إلى نورماندي، وهناك تزوج بالأميرة «أما» أخت الدوك رتشرد الثاني - وسيأتي معنا تفصيل نتائج هذا الاقتران - ثم مات رتشرد هذا سنة 1026 عن ابنين: رتشرد وروبرت، وكان وليم الظافر ابن أصغرهما وولد قبل وفاة رتشرد الثاني بسنتين.
الخامس: رتشرد الثالث من 1026-1028:
هذا خلف أباه في الإمارة؛ لأنه كان الأكبر، أما أخوه روبرت فكان إذ ذاك في رتبة بارون، وكان عمر ابنه وليم «وهو الذي تلقب أخيرا بالظافر» سنتين، وكان ميالا كل الميل لأخذ مكان أخيه في الإمارة نظرا لما كان مفطورا عليه من الطمع في الشهرة وحب الارتقاء في سلم السيادة، فاغتنم الفرص واستعمل ما أمكنه من الوسائط في تقصير أيام أخيه، حتى مات فجأة موتا مجهولا يحمل البعض على الظن في أنه كان مسموما، على أنه لم يقم عليه دليل قاطع، وكان ذلك بعد توليه الإمارة بسنتين.
السادس: روبرت من 1028-1035:
هذا خلف أخاه بعد موته كما تقدم معنا، وقد حدته محبة الذات والشهرة على استخدام كل قوة إمارته في مساعدة ملك فرنسا على إخضاع أخيه الأصغر الذي كان يسعى في ذات مشروع روبرت المتقدم ذكره، فأتت مساعدته الملك هنري بنتائج حسنة، وقدرته على قمع عصيان أخيه وكبح جماحه، وجعلته يشعر بالشكر والممنونية لروبرت على هذا الصنع الجميل، ويظل كل أيام حياته مستعدا لإجابة كل مطالبه ومقترحاته، ثم مات روبرت سنة 1035 حين كان وليم ابن إحدى عشرة سنة.
أما ولادة وليم فكانت في غاية البساطة والحقارة مع أنه كان - كما لا يذهب من فكر القارئ - ابن أحد أولئك الأمراء «الدوكات» الذين تولوا مقاطعة نورماندي بكمال السطوة الملوكية والسيادة الباذخة، فإن أمه لم تكن زوجة روبرت أبيه، بل كانت في بدأتها بنتا حقيرة ابنة دباغ من فاليس، ولم يكن أبو وليم حين تزوجها قد تسنم غارب الإمارة، واقتعد متن السيادة، بل كان عندئذ بارونا عند أبيه حتى إنه لم يكن من المحقق أنه سيصير دوكا؛ لأن أخاه الأكبر ولي العهد كان لا يزال حيا، أما كيفية تعرفه (روبرت) بابنة الدباغ هذه، فكانت على الوجه الآتي.
بينما كان روبرت راجعا من سفارة أرسله إليها أبوه لقي بعضا من بنات الفلاحين يغسلن على شاطئ النهر، وكن جميعهن حافيات متسترات بثياب عبث بها الخلق والرثاثة، وكان بينهن بنت دباغ تدعى «أرلت» هذه أسرت ذلك البارون الشاب بجمالها، فرمقها بعين الانذهال والولوع حين مر بهن؛ لأنها كانت حسنة الطلعة جميلة العينين زرقاويتهما، وقد لاحت على وجهها تباشير اليمن والسعادة.
وكانت عوائد تلك الأيام - كما في وقتنا الحاضر - لا تبيح لمن كان شريفا رفيعا أن يتزوج بنت فلاح، وعليه فلم يكن يسوغ لروبرت أن يتخذ أرلت زوجة له، على أنه لم يكن يصده شيء عن أن يأتي بها إلى قصره ويسكنها معه؛ إذ لا يحرم ذلك سوى ناموس الله، وهذا قلما كان الدوكات والأمراء في الأجيال المتوسطة يعيرونه جانب الالتفات والمراعاة، حتى إنه إلى هذا اليوم لا يزال مهملا في البلدان التي ما برحت تحت سيادة الدوكات والأمراء الذين لا يجرون من السنن والشرائع إلا ما يرونه وفق مرغوباتهم وطبق أميالهم.
وبناء عليه فحالما بلغ روبرت القلعة أنفذ رسولا من قبله إلى القرية إلى أبي أرلت يوعز إليه أن أرسل ابنتك إلي، فأسقط ذلك الأب بيده حيرة لا يدري ماذا يفعل، وقيل: إنه كان له أخ راهب أو ناسك، وقد صرف معظم حياته منقطعا للتزهد والتبتل إلى الله في صومعة بقرب فاليس، فأرسل يستدعيه ليستشيره في هذا الشأن، فأشار عليه أن يمتثل أمر الأمير ويجيبه على طلبه كيف كان، وإذ ذاك ألقى ذلك الدباغ المسئولية على عاتق أخيه، وتسلح بمشورته، وسر قلبه بانفتاح هذا الباب الذي قدر لنفسه ولكل عائلته الولوج منه إلى ديار الرفعة والنجاح بواسطة التقرب من ذلك الأمير الخطير، وبادر في الحال إلى تحلية ابنته وتزيينها وتهيئتها كخروف إلى الذبح؛ ليرسلها إلى فاليس.
وهناك أفرزت لها غرفة داخل القلعة ذات كوى وشبابيك تطل منها على الحقول والغياض في السهول الريانة الجميلة، وقد أحبها روبرت محبة شديدة خالصة، وبالغ في إكرامها وإعزازها، ولا سيما بعدما ولدت له وليم.
أما وليم فكان محبوبا جدا من أبيه، وبعد ولادته بسنتين مات أبو روبرت، وخلفه أخوه الأكبر، أي رتشرد الثالث الذي لم يمض عليه سنتان صرفهما بالحروب معه حتى لحق بأبيه، وخلا الجو له فتولى دست الإمارة في القلعة، وأصبح حاكما على كل مقاطعات نورماندي ومدنها.
وكان وليم إذ ذاك ابن أربع سنين، وقد لاحت على وجهه تباشير النشاط، وبرقت أسرته بأنوار الجمال، وأخذ يزداد إقداما وبراعة، ولم يحتقره أبوه أو ينكره كما كان المنتظر والمظنون، بل كان يفتخر جدا بأن يجلس ويشاهد حركات ألعابه الغريبة، ويقر جهارا بأنه أبوه وهو ابنه، وبالحقيقة أن وليم كان محبوبا عند جميع من كانوا في القلعة، ولما صار ابن خمس أو ست سنوات أولع شديدا بلعب العسكرية، فكان ينظم الأولاد رفقاءه جيشا صغيرا ويسحبهم حول القلعة بغاية الترتيب والتهذيب، وذلك أكسبه الجراءة والبسالة، ونفخ فيه روح العزم والنشاط، وربى فيه منظر الوقار والرزانة، بحيث بات مالكا زمام أمور عشرته ومتسلطا عليهم، فكان في يده الحل والعقد في كل ألعابهم ومشاجراتهم ومحاوراتهم وسائر شئونهم، ومجمل القول أنه نال ميزة رقته بكل سهولة إلى الدرجة التي كانت تطلبها ظروف أبيه، أعني كونه ابن حاكم نورماندي كما صار يدعى حينئذ. وبعد مضي بضع سنين عقد روبرت النية على زيارة الأرض المقدسة، ولم يبعثه على ذلك الإخلاص في الدين والتعمق في التقوى، بل حب الشهرة والحصول على البركة والعظمة اللتين ينالهما كل ملك أو أمير يزور أو يحج إلى تلك الأماكن، ولا ريب أنها كانت على روبرت سفرة طويلة مخطرة جدا. ولربما نشأ الاعتقاد بنوال البركة والعظمة بالسفر إلى الأرض المقدسة من النظر إلى ما يكابده المسافر من الأتعاب والمخاطر برا وبحرا، ولا سيما في تلك الأيام.
وكان من عادة الملوك والأمراء أنهم قبل خروجهم للسفر يقيمون معتمدا من قبلهم يكلون إليه رئاسة الأحكام وتدبير شئون المملكة في غيابهم، ويشيرون إلى من يخلفونهم في الملك إذا لم يرجعوا سالمين.
وعليه فلم يعزم روبرت على السفر حتى تشاغلت أفكار الناس وتضاربت في أمر الخلافة ومن ستعهد إليه؛ لأن روبرت لم يكن بعد قد تزوج (شرعيا) وبالنتيجة لم يكن له ابن يخلفه، وقد كان له أخوان وعم وبعض أقارب، وجميع أولئك تنازعوا طلب الخلافة، وانبرى كل منهم يستميل إليه الضباط والقواد وكبار المأمورين، ويمهد لنفسه طريق الاستيلاء على منصب الإمارة بينما كان روبرت نفسه يسعى سرا في تسمية وليم الصغير ولي عهده، على أنه لم يفه بكلمة في هذا الشأن، بل بذل جهده في تعظيم أهمية ابنه في عيون الجميع، وتشهيره في سائر الأمور.
وكان وليم يتدرج في مدارج نباهة الشأن، ويترقى في مراقي النبالة والبسالة والحزم والإقدام؛ من جمال في المنظر، ووقار في المعشر؛ حتى أصبح معزوزا محبوبا من كل الأمراء والضباط وسائر الأشراف الذين كانوا يجتمعون به كثيرا في قصر أبيه، وبعض الأحيان كان يزورهم إلى قلاعهم وحصونهم في موكب والده.
أخيرا عقد الدوك روبرت مجلس شورى من كل الأسياد والأمراء وجميع كبار بلاده وأشرافها؛ للبحث في أمر سفره إلى البلاد المقدسة، فأتوا من كل أنحاء نورماندي وكل منهم محفوف بمظاهر التجلة والتكريم، ومصحوب بفرقة من الرجالة والفرسان مدججين بآلات الكفاح والجلاد، وغارقين بالحديد والفولاذ، ولما التأم المحفل أعلن لهم روبرت قصده وعزمه على السفر، فقام واحد من الحضور - يلقب غاي كونت برغندي - وخاطبه بما يأتي: «إني حزين لأسمع أن الدوك ابن عمي ينحو هذا المنحى؛ لأني أوجس خوفا على سلامة البلاد في غيابه حين تصبح كل أحوال الحكومة ونظاماتها والأمراء والأسياد والضباط والعساكر بدون رأس».
فأجابه روبرت: «كلا، ليس الأمر كذلك؛ لأني عازم أن أخلف لكم حاكما عوضا عني» قال هذا وأشار نحو الغلام الجميل وليم الذي كان بجانبه وقال: «عندي هذا الغلام الصغير الذي - وإن يكن الآن قاصرا - لي ثقة به أنه سينمو بنعمة الله شيئا فشيئا، وأترجى منه رجلا شجاعا حكيما، فأسلمكم إياه مذ الآن وأبيح له حق الاستيلاء على دوكية نورماندي وريثا لي بمعرفتي وإرادتي، وهو ذا قد أقمت الآن دوك برتاني ليحكم على نورماندي باسمي إلى حين رجوعي، وإن لم أرجع فباسم وليم ابني حتى يدرك ويبلغ سن الرشاد» فأسقط جميع الحضور حيرة واندهاشا من جراء هذا التعيين والانتخاب، وأصبحوا على بكرة أبيهم ينازعون العجب العجاب، أما ألان دوك برتاني أحد المتنازعين الخلافة فطفح قلبه سرورا من حصوله على شرف هذه الوكالة التي دعي إليها على حين غفلة؛ لأنه كان يفضل في تلك الظروف الحكم باسم غيره على الحكم باسمه نظرا لما كان يتهدده من المخاطر والمشاق، لو فرضنا أنه استطاع أن يغتصب لنفسه الحكومة المطلقة.
وأما المنازعون الآخرون «أي: طالبو الملك لأنفسهم» فلم يعودوا يستطيعون أن يفوهوا ببنت شفة، وأما باقي الحضور فسرهم أن سمعوا خبر تمليك وليم غاية السرور، وإذ ذاك رأى الدوك روبرت أنه تهيأ له إتمام ما كان يرغبه، فعمد إلى وليم وأقامه على ذراعيه وقبله وأداره صوب الجمهور، فحدق وليم نظره فيهم، وشخص إلى عددهم الحربية بعين النشاط والزكن، وعندئذ خروا جميعهم أمامه بيانا لطاعتهم له حسب عادة تلك الأيام، وقطعوا عهدا على أنهم يعملون على الخضوع له بالأمانة والإخلاص، وقد رأى روبرت أنه ليس من الحكمة أن يترك ابنه تحت مناظرة المنافسين والمناظرين في نورماندي، وعليه أخذه معه إلى باريس وهو ذاهب في طريقه إلى أورشليم، واستودعه بلاط هنري ملك فرنسا الذي عقد جلسة خصوصية للنظر في أمر قبوله، فجلس في بهرة المحفل محفوفا بالوزراء والأمراء وسائر كبار دولته، ولما جاء الوقت المعين دخل الدوك روبرت لابسا حلة السفر وقابضا على يد ابنه وليم، وهو محاط بحاشيته وخواصه الذين أزمعوا أن يرافقوه في سفره، وسار إلى حيث سلطانه الملك هنري جالس، وخر عند قدميه علامة الخضوع والانقياد، وأمر ابنه وليم أن يفعل كذلك، فاستقبل الملك هنري وليم بمزيد الاحتفاء والإكرام بأن أخذه إليه واحتضنه، ووعد أن يسكنه قصره ويبذل غاية جهده في الاعتناء به مدة غياب أبيه.
فأعجب جلساء الملك بجمال وليم، وحسن طلعته، ونباهة شأنه، وما لاح على ساطع محياه من لوائح الحذق والنبل وتباشير العظمة والوقار مع أنه لم يكن حينئذ سوى ابن تسع سنوات.
الفصل الثالث
سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
وبعد أن قضى روبرت مدة ليست بطويلة في باريس دخل قصر ملكه هنري يستأذنه بالانصراف، وودع ابنه وليم وخرج في رجاله للذهاب إلى أورشليم، وقد لاقى في سفرته هذه صعوبات شديدة، ومخاطر عديدة لا محل للإتيان على ذكرها هنا من حيث خروجها عن موضوع هذا التاريخ الذي هو الابن وليس الأب، ومهما يكن من سفره بصفة زائر وحاج فقد كان بغاية البهرجة والإجلال، وبعدما عاج برومية لقضاء بعض أغراض تتعلق بسفره خلع عنه ثياب السفر، ولبس حلته الدوكية وجاء القسطنطينية، وهناك بالغ في إظهار غناه وعظمته، فإنه حينما دنا من المدينة امتطى بغلا مرخما (أي مزينا بأفخر زينة) وله النعال من ذهب عوضا عن الحديد، وكانت تلك النعال غير محكمة الالتصاق بالحوافر، بقصد أنها تهتز في سير البغل فتسقط على الأرض فيلتقطها جمهور المتفرجين، وغاية ما هنالك أن يندهش الأهلون وتحار أفكارهم بوفرة غنى الراكب، وعظمة ثروته، ثم غادر الأستانة واتجه نحو الأرض المقدسة، ولم يخل له الجو في تلك السفرة من تقلبات الزمان وصروف الحدثان، فإنه أصيب فيها بمرض خبيث تركه يعاني الألم الشديد ردحا من الزمان إلى أن تعافى قليلا، بحيث أرجعت له بعض القوة وأصبح قادرا على أن يستأنف المسير محمولا في سرير؛ لأنه لم يستطع الركوب ولا المشي - ولم تكن بعد اخترعت المركبات - فرتبوا ستة عشر عبدا يتبادلون حمله أربعة أربعة.
وفي ذات يوم التقى روبرت وقومه برجل نورماندي راجع إلى بلاده من زيارة الأرض المقدسة، هذا سأل روبرت إذا كان يريد أن يرسل معه شيئا إلى نورماندي، فأجابه: «لا شيء سوى أن تقول للأهل هناك أنك صادفتني على طريقي إلى أورشليم محمولا بأربعة عشر عبدا».
ثم جاء روبرت أورشليم وقضى فروض الزيارة، وخرج منها قاصدا بلاده، على أنه ما عتم بعيد ذلك أن شاع في باريس خبر موته على الطريق، وظهر في بادئ الأمر أن ذلك مشكوك في صحته أو مكذوب فيه، وظل الناس بين مكذبين ومصدقين إلى أن تحقق الخبر، وظهر صدقه بين الجميع وانتشر، وإذ ذاك طفق إخوة روبرت وأبناء عمه وغيرهم من ذوي قرباه يتهيئون لاغتصاب الإمارة، كل يطلبها لنفسه وينازع فيها الآخرين كأنهم نسوا ما أقسموا به لروبرت من العمل على طاعة وليم بأمانة وإخلاص، وأخذ كل منهم يجهد نفسه في تحصيل إكليل الخلافة له، وكان وليم في أثناء ذلك في باريس وهو ابن إحدى عشرة سنة فقط، حيث كانت تصرف العناية التامة في تهذيبه وتثقيفه، وقد وكلت المناظرة في تعليمه العلوم الحربية إلى معلم ماهر يدعى ثيرولد، فسر هذا المعلم سرورا عظيما بنجاح تلميذه وتقدمه، ولا سيما في تمرينات ركوب الخيل المختلفة الأساليب، المتنوعة الأضرب - حسب اصطلاحات تلك الأيام - وقد هذبه في استعمال الأسلحة المختلفة كالقسي والنبال والحراب وسمر الرماح وبيض الصفاح إلى غير ذلك من أدوات الجلاد والكفاح، ومرنه في لبس عدد الحرب الفولاذية التي كانوا يلبسونها في تلك الأيام اتقاء مضارب العدو من مثل الخوذة أو الطاسة والدرقة والدرع وغيرها.
فبين وليم يأخذ عن أستاذه في باريس هذه الفنون الحربية تأهبا للاستواء على عرش الإمارة، إذ قام في نورماندي عدد عديد من المنافسين والمناظرين، وتهيأ كل منهم للسبق في ميدان المنازعة، وكان أشدهم جهادا وأبذلهم جهدا في ذلك أمير أرك - وكان اسمه وليم أيضا، ولكن لكي يتميز عن الدوك وليم الشاب ندعوه أرك - وإذ إنه كان أخا روبرت ادعى بأن حق الخلافة إنما هو له من وجه أن أخاه لم يخلف ولدا شرعيا، وعليه حشد كل قواته وجمع كل رجاله وتأهب لفتح البلاد والتسلط عليها.
ومما لا يذهب من بال القراء أن روبرت قبيل سفره إلى أورشليم عهد الوكالة في الإمارة ليد ألان، وفوضه الحكم باسمه إلى حين رجوعه، وإن لم يرجع فباسم ابنه وليم؛ حتى يشب ويبلغ سن الرشاد وتوجد فيه الأهلية ليحكم على كل هاتيك البلاد، فلما بلغ ألان ما صارت إليه البلاد بشيوع خبر موت روبرت من الاضطرابات والقلاقل، وأن أرك عازم على اغتصاب الإمارة عنوة إن لم تسلم إليه باللين؛ أمر حالا بتشكيل لجنة من كبار الحكومة الذين بمساعدتهم كان يدبر شئون الوكالة، ولما تنظمت تلك الجلسة تحت رئاسته همى سيل البحث من سماء الأفكار وابلا مدرارا، وأجمع الجميع برأي واحد على قبول الدوك وليم خليفة بعد أبيه روبرت، وأخذوا من تلك الساعة يقضون باسمه، ولما أخطروا بقدوم الأمير أرك متأهبا لمصادمتهم واغتصابهم قضيب الملك؛ بادروا في الحال لملاقاته على طريق التأهب والاستعداد، وهكذا هبت نيران الحرب تتقد من تحت رماد السلام بما كان يهب عليها من رياح البغض والخصام.
وقبلما اشتعلت بين الفريقين نار الحرب ودارت رحى الطعن والضرب، جاء نورماندي الأمراء الذين كانوا مع روبرت، وكانوا على جانب عظيم من رفعة الشأن وعلو الكلمة وشدة النفوذ، حتى إن كلا الفريقين المتهيئين للقتال تمنى لو أنهم يكونون من حزبه؛ لأنهم فضلا عن اقتدارهم على المساعدة المادية لهم استطاعة عظيمة على الإسعاف الأدبي أيضا؛ لأن سياحتهم هذه الطويلة المحفوفة بالمخاطر والأتعاب أكسبتهم اعتبارا ووقارا في عيون الشعب الذي كان ينظر إليهم بعين الاحترام وفوق ذلك؛ لأنهم انتخبوا من كل أطراف الإمارة لمرافقة روبرت في تلك الزيارة، وقضوا تلك السفرة الطويلة تحت تجشم الأخطار والمشقات، وظلوا يقومون في خدمة أميرهم والسهر عليه إلى أن أدركته المنية، وكل ذلك مما كان يحدو الشعب على عدهم أخلص أصدقاء روبرت، وأصدقهم حبا له؛ فلأجل هذا ولأسباب أخر أضربنا عن ذكرها كان الشعب يتوقع النصر والفوز للفريق الذي يسعده الحظ بانضمام أولئك الأمراء إليه.
أما هم فحالما بلغوا نورماندي اتحدوا مع الفريق النازع لمبايعة وليم رغما عن اجتهاد الفريق الآخر في استمالتهم إليه، فأدخلهم ألان في ديوانه، وعلى الفور عقدوا مجلسا للبحث في شأن إحضار وليم من فرنسا وعدمه، فذهب البعض منهم إلى إبقائه في فرنسا من وجه أنه لا يزال صغيرا، وليس في وسعه أن يأتيهم بأدنى مساعدة في ساحة الوغى سوى أنه يكون معرضا أكثر منهم للأسر أو للقتل، وعليه ارتأوا أن يظل في الوقت الحاضر في باريس تحت حماية الملك هنري.
أما البعض الآخر فذهب بالعكس وصرح بوجوب الإتيان به، واحتج بأن وجوده في نورماندي وإن كان صبيا في سن المراهقة يؤثر في قلوب أتباعه نشاطا وانتعاشا، ويحدث في جميع جهات الإمارة ميلا إليه شديدا، وانتباها نحوه جديدا؛ حتى يرى أهل القلوب اللينة من نعومة أظفاره وعجزه عن القيام بطلب حقه محاميا يحتج عنه أيما احتجاج، ويجد ألوف من الشعب من ريعان حداثته، وجمال صورته، ووضاء طلعته حاديا يسوقهم إلى طاعته، وسحرا يجذبهم إلى محبته، مع أنهم كانوا ينسونه ولربما ينفرون عنه إذا بقي في باريس، وفوق كل ذلك من يقدر أن يضمن سلامته عند الملك هنري، ولربما هذا الملك ذاته يطلب حق الاستيلاء على عرش الإمارة النورماندية، فيولي عليها أحد المقربين إليه، ويحجر على وليم في أحد قلاعه، ويتركه هناك أسيرا غير مهان من حيث المعاملة، ولكن يقطع الرجاء من إطلاقه ونجاته، أو أنه يدس له سما مميتا يذهب بحياته.
فصدق الأكثرون على هذا الرأي واستصوبوه، وعليه أنفذ ألان علما للملك هنري به يطلب إرسال وليم إلى نورماندي، فأبى إرساله متصعبا متمنعا، فاضطرب الحزب الوليمي وأشفق من تحقق الظن في طلبه حق الاستيلاء والسيادة، فاستأنف طلب وليم بمزيد اللجاجة والإلحاح، وبعد مداولات ومخابرات عديدة ومعاهدات متنوعة بين ذلك الحزب والملك هنري أجاب هذا طلبهم، وسمح لوليم بالرجوع لبلاده وهو إذ ذاك في سن الثانية أو الثالثة عشرة.
فخرج من باريس مخفورا بالرسل الذين أنفذهم ألان للإتيان به، وحامية قوية من الجند سارت في حراسته على الطريق ومعه معلمه الحربي ثيرولد، وهكذا جاء قصر ألان على جناح السلام والأمان، وكان لحضوره في نورماندي وقع عظيم كما كان في حسبان الذين ارتأوا ذلك - كما سبق الإلماع إليه - وقد حرك في قلوب الأكثرين عوامل الميل نحوه، فسر الجنود سرورا لا مزيد عليه بأن رأوا قائدهم الصغير مالكا زمام الملاحة، قابضا على عنان النشاط وسدة العزم منذ الصغر؛ ولا سيما لأنهم أبصروا منه في ركوب الخيل فارسا مجربا، إذ كان مغرما أشد الغرام في ركوبها منذ طفوليته، أما الآن وقد تهيأ له الحصول على أجودها وأكرمها، وأخذ عن أستاذه ثيرولد كل ما يتعلق بأساليب فن الركوب وطرائقه، فلا نعجب من أن نرى منه على ظهر الجواد قلة من القلل يجري في ميدان السباق بأسرع من وميض البرق أو جري البراق، ويدخل ساحة الحرب من أبواب تقضي بالعجب العجاب، وحوله الأمراء والأعيان والرجالة والفرسان ينظرون إلى كراته وغاراته، ويكبرون من لباقة خطراته ورشاقة حركاته، ويتوسمون طالع النصر والظفر في طالع جبينه الأنور، ويتلون في فرقان محياه:
إنا أعطيناك الكوثر ، وعلى هذه الكيفية كنت ترى وليم عند قومه، وقومه من قدومه في يومه.
وأما قيادة الجيش وأزمة الأحكام فلم تزل في يد ألان يجريها باسم وليم - كما سبقت إليه الإشارة - على أن وليم نفسه لم يعدم قوة النفوذ والسلطان، والأخذ بمجامع القلوب، بل ألان أيضا رأى أن إتيان وليم زاد كلمته علوا، وسطوته تعزيزا، وأحكامه نفوذا، ومع كل ذلك فالبلاد كانت لم تزل بعيدة عن الطاعة والانقياد هاجرة مضاجع الراحة والسكينة؛ لأن أمير أرك وغيره من طلاب الإمارة تحصنوا في قلاعهم، وجمع كل رجاله إليه وجاهر في العصيان على الحكومة الوليمية، ولا يخفى على القارئ أنه في تلك الأيام كانت كل مقاطعة من البلاد تحت سلطة أمير مستقل في ذاته، فكان يجلس في قلعته متحصنا بقواته، متمنعا بسطوة رجاله وهو حر مطلق الأمر فعال لما يريد، يجري أحكامه في البلاد على نمط الاستبداد الشديد، وينفذ قضاءه على العباد بقضيب من حديد. وكانت نيران القتال بين أولئك الأمراء مستمرة الاشتعال، كل منهم يتعدى تخوم الآخرين، ويعيث مفسدا أخذا بثأر له عندهم، أو تأديبا لهم على إساءة بدت منهم أو أنه توهمها فيهم، وكانت تلك الاضطرابات والانقلابات في إبان ثورانها حين رجوع وليم من باريس، وما برح شرها يزداد تفاقما، وخطبها هولا واشتدادا حتى عمت البلاد، وبلت العباد بالويل والخراب، وتعذر على الحكومة الوليمية أن تعود تميز بين أعدائها وأصدقائها، فإنه حدث مرة أنها أصدرت أمرا باسم وليم لأمير إحدى المقاطعات توعز إليه أن اجمع رجالك وتعال إلينا؛ فإننا في حاجة إليك في أمر ذي بال، أما هو فما كان منه إلا أن أجابها بما يأتي: عندي كثير من المشاغب والفتن التي تضطرني أن أقوم في إخماد نارها، وتصدني عن تلبية أمر آخر.
وما مر على وليم نحو من سنتين في نورماندي وحكومته أشبه شيء بدفة في البحر تتقاذفها الأمواج، حتى زاد طينه بلة حادث جديد من الملك هنري نفسه، فإنه لما كان وليم ابن خمس عشرة سنة، وذلك بعد إتيانه من باريس بسنتين أو ثلاث، أرسل إليه الملك هنري يدعوه إلى ملاقاته في بلدة تدعى أفركس بين باريس وفاليس؛ لكي يقدم له رسوم الطاعة المفروضة على دوكيته، فداخل مشيري وليم ريب من جهة ذهابه وعدمه، على أنهم أخيرا أجمعوا على وجوبه، وهكذا أعدت التأهبات اللازمة وركب وليم بمزيد الاحتفاء والعظمة لملاقاة سلطانه.
فاستغرقت هذه المقابلة بين وليم وملكه بضعة أيام، وكان لوليم قلعة في جنوبي دوكيته على متاخمة أملاك هنري، واسمها تلير يتولى حراستها ضابط أمين متقدم في الأيام يدعى دي كرسين، هذا أقامه روبرت أبو وليم على حراسة تلك القلعة، وأمده بحامية من الجند، فأخذ الملك هنري يتشكى إلى وليم بخصوص القلعة وقال: إن حراسها دائما يشنون الغارة على تخومه، ويبلون تلك الأطراف بالسلب والنهب، فأجابه وليم مظهرا مزيد حزنه وأسفه أنه سوف يتولى بنفسه البحث عن هذا الشأن، حتى إذا تحقق صدقه بادر في الحال إلى كبح جماحهم وقمع تعديهم، فأجابه الملك هنري: «هذا ليس كافيا، بل أعطني تلك القلعة فأدكها إلى الحضيض فتصبح ركاما مركوما» فساء في عيني وليم هذا الطلب، وإذ إنه كان قد تعود العمل على طاعة الملك هنري من نعومة أظفاره:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
رأى ذاته مضطرا أن يجيب سؤاله هذا، وفي الحال أصدر أمرا في تسليمها مكرها.
فلما بلغ دي كرسين ذلك الأمر رفضه وأبى القيام بموجبه، محتجا بأن تلك القلعة سلمت لمناظرته على عهد الدوك روبرت حاكم نورماندي، وعليه فهو يرفض تسليمها لسلطة أخرى أي كانت، ولما وقف وليم ومستشاروه على هذا الجواب اغتاظوا غيظا شديدا، عالمين أن مقاومة الملك هنري في مثل تلك الظروف لا تجديهم نفعا، بل بالحري ترتد عليهم نكالا من حيث إن وليم كان عندئذ في حوزته وتحت قبضة سلطانه، فاستأنفوا إرسال الأوامر للقائد دي كرسين بأكثر إلحاح وأشد لجاجة في تسليم القلعة، فامتثل لأمرهم أخيرا وسلم مفاتيحها، وانسحب منها هو ورجاله، وإذ ذاك أجيز لوليم أن يرجع لبلاده، ولم تلبث القلعة أن دكت إلى الأرض وتركت أثرا بعد عين.
على أن هذه الحادثة آلت إلى زرع العداوة بين الحكومتين الفرنسية والنورماندية، وطوت القلوب على الضغينة والحقد، حتى إنها انتهت بشبوب حرب عوان افتتحت بأن زحف الملك هنري بجيشه على نورماندي، وطفق يفتح المدن، ويخرب القلاع، ويهدم الحصون والمعاقل، ويعمل السيف في رقاب من لم يطيعوه ، ويضرم النار في مساكن من راموا أن يقفوا في وجهه ويصدوه، وما زال يتقدم في نورماندي بين افتتاح وإخراب حتى جاء قلعة فاليس ومد عليها مطمار الحصار، فانخلعت إذ ذاك قلوب الوليميين وخارت قواهم، وأسقطوا قنوطا وفشلا لما رأوا من تعاقب الخطوب ومعاكسة الأحوال، على أنهم ما لبثوا أن نهضوا بعزيمة شديدة، واتحدوا على الذب والدفاع عن بلادهم، وتأهبوا لرفع الحصار عن فاليس، وإجلاء عساكر هنري عنها بعدما كانوا قد أحاطوا بها من كل جانب، وشددوا عليها الحصار وكادوا يفتتحونها لولا أن وليم تداركها وفل جيوش الأعداء مدحورين مذعورين. وتفصيل ذلك أن الملك هنري رشا حاكم القلعة، فوعده أن يسلمه مفاتيح الأبواب ويدخله إليها ظافرا منتصرا، وبينما هما يسعيان في تدبير هذه الخيانة قدم وليم بفرقة من النورمان الشجعان، وانطبقوا على معسكر هنري، وغاروا على المحاصرين كالأسود الكاسرة، فلما أبصرهم أهل المدينة فرحوا وتهللوا، واستبشروا بحلول الفرج وزوال الضيق، وكادوا يطيرون سرورا حالما رأوا فارسهم المدافع وليم الظافر قادما لإنقاذهم، وحينئذ تذكروه يوم كان ولدا صغيرا يلعب حول أسوار تلك القلعة، وألان جاء يرد الأعداء عن مسقط رأسه بهيئة تولي الناظرين عجبا واندهاشا، فلعبت في أعطافهم راح الابتهاج والفرح، ورفعوا أصوات التأهيل والترحاب بقدومه، أما ذلك القائد الخائن فلم يجاز على خيانته بالقتل حسب شريعة تلك الأيام، بل خلعت عنه ثيابه الرسمية وضبطت أملاكه وأخلي سبيله.
وهكذا استظهر وليم على عدوه الملك هنري، وازداد قوة ومنعة، على أن عمه أمير أرك كان لا يزال مجاهرا في العصيان عليه، وقد ساعدته التقادير بانشغال وليم بالقتال مع الملك هنري حتى خلا له الجو، فنهض من زاوية التربص، وشرع يجمع رجاله متأهبا لاستئناف المشاغب والفتن وشن الغارات إذلالا للحكومة الوليمية، وسعيا في إسقاطها وقلبها، فجمع إليه عصابته، وتحصن في قلعته أرك - وهي إلى الشمال من نورماندي على متاخمة البحر، ولا تزال أطلالها ورسومها إلى هذا اليوم - وكان هذا الأمير قد بنى في أعلاها برجا حصينا يلتجئ إليه مع نفر من رجاله عند مسيس الحاجة.
فزحف إليها وليم برجاله وخيم حولها، وحصر العصاة ضمنها، أما الملك هنري الذي كان لا يزال باقيا على مقربة من نورماندي، فأخذ يتهيأ بجيشه ليأتي إلى نجدة الأمير أرك.
فلما أحاط وليم علما بقدومه ترك قسما من عسكره في محاصرة القلعة، وخرج في القسم الآخر لملاقاة الملك هنري، وانتهى الأمر بقتال عنيف دارت فيه الدائرة على الملك هنري، وحاز وليم الشاب انتصارا مجيدا.
وبيان ذلك أنه كان على الملك هنري أن يسير بجيشه في واد طويل ضيق مظلم إلى جهة قلعة أرك، فجر عساكره في مجاهيل ذلك المضيق وهم في غاية النظام والإحكام، وكان مقدم ذلك الجيش مؤلفا من كماة غارقين في الحديد، متسلحين بالأقواس الحربية والحراب والرماح وأنواع أخر من الأسلحة التي اشتهر استعمالها في ذلك العهد، ثم عقب هذه الفرقة حاملو الأثقال من خيام ومئونات ومهمات أخر حربية، ثم جاء بعدهم الخدام من طباخين وساقة مركبات وفعلة وغيرهم من الذين أتوا لإعداد الضروريات حلا وترحالا، وبعدهم دخلت فرقة القلب وفيها الملك يتقدمها مخفورا بحرسه الملوكي، ثم تلاها مؤخر الجيش.
ولما بلغ وليم أن الملك هنري زاحف إليه بذلك الجيش الكثيف ارتأى في الحال أن يكمن له في الطريق، ويجره إلى تيه سحيق، يعجل فيه اخترامه، ويوصل إلى كل هاتيك الأنحاء انهزامه، وعليه انتخب من رجاله النورمانديين أبطالا مجربين، وكماة بكل ضروب الأسلحة مدججين، وساقهم إلى مضيق وأمرهم بالاختباء على جانبيه بين الأدغال والغابات، وأوعز إلى فرقة أخرى أن تتقدمهم لملاقاة جيوش هنري وتفتح معها القتال، ثم تنكسر قدامها متقهقرة بترتيب، بحيث يتوهم الملك هنري أن هذه كل حامية وليم وقد ولت الأدبار، وأركنت إلى الفرار، فيطمع في أنه حازها ويتأثرها وهي تنكفئ نحو ذلك المضيق، حتى إذا ما تعقبها هنري بكامل جيوشه، وأصبح هو وكل عساكره في بطن ذلك الوادي طلعت عليه تلك الأسود الكامنة في غاباتها من الوراء، وانهالت على طلائعه كالقضاء، وارتدت إليه تلك الأبطال من الأمام، بعد إذ تظاهرت بالانهزام.
وهكذا تسنى لوليم بهذه المكيدة الاستظهار على هنري والفتك به، ورده ورجاله على أعقابهم مدحورين منكوصين، فإن مقدم جيوش هنري انخدع بانكسار الفرقة النورماندية أمامه، وظنها أيضا أنها كل عسكر العدو فصغرت في عينيه، وسهلت الظفر لديه؛ ولذاك غار عليها بملء الغيرة والحمية، واتصل نبأ هذا الهجوم إلى كل أقسام جيش هنري، فهاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا وأبرقوا وأرعدوا، واندفعوا يتزاحمون نحو عدوهم الهارب أمامهم حتى سالت بهم تلك الأرض وارتجت من صخب أصواتهم بالطول والعرض، وما فتئوا بين دفاع وازدحام في ذلك المضيق على بعضهم البعض، وطفقوا يموجون فيه ويخطرون، ويطلبون الأعداء ولا ينظرون، وبينما هم كذلك انطبق عليهم الكمين من الوراء انطباق القدر، ورجع إليهم المنهزمون وانصبوا انصباب المطر، ومطرتهم سماء المنون بسهام ورماح وحراب لا تبقي ولا تذر، حتى انطرح منهم في الحال مئات، وتمنى الأحياء بينهم لو سبقوا الأموات، وما برحوا يخرون صرعى المنون في تلك الوهاد، ويرون عدد ضراغم النورمانديين الخارجة من عرنها في تكاثر وازدياد حتى زهقت من جميعهم الأرواح، وتيقنوا حلول الأجل المتاح، فأخذوا يتدافعون ويلتطمون ويزحمون بعضهم بعضا، ويدوسون بعضهم بعضا لعلهم يجدون إلى الحياة سبيلا، أو ينقعون من ماء النجاة غليلا، حتى سقطت موتاهم في تلك القفار طعاما لطيور السماء ووحوش الفلاة، وفر أحياؤهم لا يلوون إلا على الخزي والعار وهم يقولون: النجاة النجاة.
وبالجهد قدر الملك هنري أن يلم شعث رجاله الطوال الأعمال الذين تفرقوا تحت كل كوكب في هاتيك الأنحاء، فظل أكثر من يومين ينشدهم بين النجاد والوهاد، حتى جمعهم شرذمة قليلة العدد، وخيم بهم في بقعة صغيرة.
ومهما يكن في نبأ هذا الانتصار من العجب والانذهال، فهو دون الطفيف في جانب النظر إلى اتضاع وليم وكرم أخلاقه وصدق عاطفته؛ لأنه وهو معدي عليه أولا، وظافر قاهر آخرا بادر في الحال وقدم لملكه هنري رقيم الطاعة، يفصح فيه عن أسفه على ما جرى، ويبين له استمراره على الرضوخ له، وحسبانه ملكه وسلطانه، واستعداده للقيام بكل ما يندبه إليه من المهام والأعمال إصلاحية كانت أو دفاعية، واتكاله عليه في شق عصا العصاة، وإرغام أنوف البغاة العتاة، على أن وليم وإن أقر باحتياجه إلى إمداد سلطانه، فقد تعلم منذ نعومة أظفاره أن يعول على ذاته، ويحك جلده بظفره؛ ولهذا ما عتم بعد أن خبت نيران الحرب بينه وبين هنري أن زحف على قلعة أرك، وحالا افتتحها عنوة، وعفا عن أميرها. وتلك كانت خاتمة الثورات، وأرك آخر الثورة.
وعندها ركب وليم راجعا لفاليس منتصرا مظفرا تخفق فوق رأسه أعلام النصر والغلبة، وتسير أمامه مواكب العز والاحتفاء، وهكذا جلس على عرش الإمارة يدبر الأحكام بالسلام، وطائر الأمن والمسرة يشدو فوق الربوع النورماندية بأطرب الأنغام.
الفصل الرابع
ملك وليم في نورماندي
ثم مضى على وليم منذ تربع على دست الإمارة يدير شئونها تحت ظلال الأمن والسلام إلى وقت حمله على بلاد الإنكليز زمان طويل ينيف على العشرين سنة، وكان في غضون هذه المدة مشغولا في إدارة الأحكام، بيد الإتقان والإحكام، ومنصرف العناية نحو تشييد المعاقل وإقامة الحصون والقلاع، وبناء المدن والقرى والضياع، والتنكيل بأهل الفساد والعدوان، وقطع دابر الشقاق والعصيان، وسن الشرائع والقوانين المدنية في كل البلاد، وتنفيذ الأوامر على وجه الحق والسداد، وقد اعترك في ميدان حياته جملة من فرسان الحوادث، ونازلها بثبات نستصغر لديه كبار الكوارث، وها نحن الآن نأتي على واحدة منها تبصرة للقارئ وذكرى.
وهي أنه عقدت ذات يوم مؤامرة على اغتياله والفتك به سرا، وكان مقدام هذه الغارة وإصبع تلك الإشارة عمه المدعو «غي أف برغندي» وأما هتك ستارها وكشف أسرارها فتم بواسطة ظريف كان في بلاط وليم بصفة ماجن، أي رجل يتعاطى الهزل كأبي نواس عند هارون الرشيد، وكان المجان في تلك الأيام غاية في الكثرة، بحيث لم يخل قصر كل ملك أو أمير من واحد أو أكثر منهم، وكان بعضهم لا يمتازون عن المجانين من حيث الغرابة في التصرف والهجنة في الأخلاق، والتناهي في الحمق والبلاهة، وبعضهم متناولين من العته والخبل على الأقل نصفه، وكنت تراهم يعتورون الغريب إلى نهايته في الملابس ، ويدركون الزخرفة غايتها في الزينة على اختلاف الألوان، وتضارب أنواعها، ويلبسون البرانس والقلانس (العراقي والطواقي)، ويعلقون الرخوت (الأجراس) المختلفة الأنواع، ويجلسون في المحاكم آخذين بأطراف المجون والمزاح، وكان اسم ماجن وليم «غالت».
أما غي أف برغندي وأتباعه فانقطعوا إلى قلعة منفردة موحشة على متاخمة نورماندي، وهناك طفقوا يجتمعون لأجل استتمام مقاصدهم وتسديد مكائدهم، وحشد رجالهم وتعزيز قواتهم تحت ليل الاحتيال والدهاء، في ظلام الغموض والخفاء، وقبلما تهيأ لهم إتمام مكيدتهم حدث أن وليم خرج للصيد إلى قفر يجاورهم في عصبة من حاشيته، وكان غالت الماجن بينهم.
فلما بلغ غي وأتباعه المغتالين قدوم وليم إلى تلك الأطراف أجمعوا على إنفاذ مؤامرتهم، والاستئثار به عند رجوعه، وعليه انسحبوا من مخابئهم بين محاجئ الصخور واحدا واحدا لكي يدفعوا عنهم مظنة التآمر، وأتوا مدينة تدعى بايكس ينتظرون فيها رجوع وليم، وهناك عقدوا مؤامراتهم السرية، وارتأوا الآراء النهائية، ثم بعثوا بعصبة من رجالهم إلى مفارق الطرق التي كانوا يتوقعون مرور وليم فيها، وأوعزوا إليهم أن يتعهدوه بعين الضبط والانتباه، ويسدوا دونه كل أبواب النجاة، وهكذا أتوا على آخر إجراءاتهم بطريق التستر والخفاء، وجعلوا يقطعون بتحقق أمانيهم بلا مراء، والله من وراء ما كانوا يعملون.
فحدث أن بعضا من أتباع وليم سبقوه في الرجوع، ومن جملتهم الماجن غالت، وقدموا أبايكس يوم حلتها إقدام أولئك المغتالين، أما أهل تلك المدينة فلم يعلموا شيئا من أمر أولئك الثائرين؛ لأنه كثر حينئذ تردد العساكر إلى بلدتهم فرسانا ومشاة، فلم يستطيعوا أن يفرقوا بين أصدقاء وليم وأعدائه، أما غالت فبعدما طاف في أنحاء تلك البلدة، ورأى فيها عددا عديدا من الضباط والجنود التي لم يعرفها من رجال أميره، وجد في ذلك ما يستميله للانتباه، ويدعوه للملاحظة، فشرع يراقب حركات أولئك الغرباء بملء الفطنة والذكاء، ويصغي إليهم على حين كان يتظاهر بعدم الإصغاء، لعله يصيب منهم كلاما كانوا يخاطبون بعضهم بعضا به وهم متجمعون فرقا هنا حشد وهنالك اجتماع، أو سائرون في الشوارع مثنى وثلاث ورباع، حتى توفق بآرائه السديدة ، ودقة ملاحظاته العديدة، إلى هتك ستار المؤامرة وكشف حجاب المكيدة، وعلى الفور خلع عنه برنسه وأجراسه ولباسه، وخرج يعدو ملتهبا بنار السرعة في التفتيش على وليم ليقص عليه الخبر، وينذره بدنو الخطر، فاهتدى إليه في قرية تدعى «فالنجس» وكان وصوله إليها ليلا، فاندفع نحو المخدع، حيث كان وليم نائما، مزاحما الحراس مدافعا الخدم الذين لم يبدوا في وجهه إلا بعض الممانعة لسبب تعودهم عليه، وتحققهم سماح وليم له في كل وقت بالمثول لديه، ثم نادى بأعلى صوته موقظا أميره من سباته، مخبرا إياه بشدة الخطر الذي دنا من حياته، أما وليم فلم يصدق غالت في بادئ الأمر؛ إذ لم ير سببا لهذا الخوف كله، على أنه ما لبث أن اقتنع بصحة كلام ماجنه، وأيقن بصدق إنذاره، فنهض يلبس ثيابه بيد السرعة، ولم يأتمن أحدا على نفسه في تلك الساعة شأن الملوك والأمراء حين اكتشافهم للمكائد المنصوبة لهم؛ إذ لا يعودون والحالة هذه يعرفون المخلصين لهم ليتكلوا عليهم، وهكذا ذهب وليم بنفسه وأسرج حصانه بيده وركبه، وخرج يبذل في شاكلته المهماز، ويرد صدور الأرض على الأعجاز.
وبالحقيقة إن باب النجاة الذي خرج منه كان أضيق من سم الخياط؛ لأنه في وقت إسراع غالت إليه في فالنجس قدم المغتالون إلى تلك القرية نفسها، ومدوا عليها مطمار الحصار، وكانوا على أهبة الهجوم على محلة وليم للإيقاع به في ذات الساعة التي خرج فيها طالبا الفرار موليا الأدبار، حتى إنه لم يبعد قليلا في عدوه إلا طرق أذنيه صوت وقع الحوافر على الطريق خلفه، وصليل أسلحة العساكر من الأعداء الذين لما رأوه أركن إلى الهزيمة خرجوا يتأثرونه ليوردوه حتفه، فارتأى أن يسرع في التعريج من أمامهم إلى غاب كثيفة يختبئ فيها، ويتركهم يذهبون يطلبونه من حيث لا يجدونه، فأقام في ذلك المخبأ برهة قصيرة، ثم خرج منه متحرزا، ولم يجسر أن يعمل على المسير في الطريق العمومية مع أن الوقت كان ليلا، بل اعتسف منها في القفار المهجورة والمسالك المجهولة التي انتهت به أخيرا إلى شاطئ البحر، وعند فلق الصبح مر بقصر كبير، وعلى حين لم يكن يخطر بباله أن يرى أحدا في وقت كهذا استوقفه بغتة منظر رجل في بوابة القصر مدججا بسلاحه، تلوح على وجهه سمات الانتظار - وقد كان بالحقيقة منتظرا حصانه - فتعرف وليم حالا، وخاطبه بلسان الاندهاش قائلا: «أليس من العجيب أن تكون أنت هذا الرجل يا سيدي الدوك وليم؟» فقد أعجبه جدا أن يرى أمير نورماندي وحاكمها خارجا في وقت كهذا، أو في حالة كهذه وحيدا معيبا وثيابه غير مرتبة من جراء السرعة التي كان فيها حين لبسها، وجواده منقطع النفس، وعليه من الغبار ستار كثيف، وهو على وشك السقوط عياء وتعبا، فلما رأى وليم أن قد شق ستر الخفاء عن محيا أمره لم يعد له ندحة عن أن يقص لذلك الرجل قصته، وظهر إذ ذاك أن هذا الرجل كان هاربرت أحد الثائرين المتواطئين على اغتيال وليم.
وقد انفرد في ذلك القصر لهذا القصد، ولأمر يريده الله رجع عن تلك الغاية وقال لوليم: «ما من داع يدعوك إلى الخوف، علي نجاتك وسوف أسعى في إنقاذ حياتك كأنها حياتي» قال هذا وأهاب ببنيه الثلاثة الذين كانوا من الأبطال المجربين والشجعان المنتخبين، وأوعز إليهم «أن اركبوا خيولكم وكونوا على أهبة السفر» ثم أدخل وليم قلعته، وسعى بإحضار ما تسنى من الأطعمة والأشربة سدا لجوعه الشديد، ونقعا لظمئه الذي لم يكن عليه من مزيد، ثم خرج به إلى عرصة الدار، حيث أراه الفرسان الثلاثة راكبين مستعدين لأن يرافقوه، وفرسا كريما من جياد الخيل مسرجا له فامتطاه، وأمر هاربرت بنيه أن يوصلوا وليم إلى فاليس على جناح السرعة والأمان، وأوصاهم أن لا يستطرقوا الطرق العمومية، ولا يمروا على مدينة أو قرية في الطريق، وهكذا أطاعوا الأمر وذهبوا به على نحو ما أوصاهم أبوهم إلى فاليس، وفي صباح ذلك اليوم بعد خروج وليم من قلعة هاربرت، جاءها مطاردوه يفتشون عليه، وسألوا هاربرت عما إذا كان رآه مارا من هناك، فأجابهم بالإيجاب وامتطى في الحال جواده ، وأشار لهم أن يتبعوه ليدلهم على الطريق التي سار فيها وليم، وألح عليهم في الإسراع لعلهم يدركونه قبل أن يتوارى عنهم في أحد المخابئ، أو يصل حيث يتعذر عليهم متابعته، فحثوا الركاب بجد يفوق الحد وهاربرت يسير أمامهم، ويعدهم أنهم سوف ينالون مرامهم، ولكنه إذ ذهب بهم في غير الطريق التي اتخذها وليم كانوا يبتعدون عنه أكثر فأكثر.
وأخيرا رأوا أن لا فائدة من تأثره فانكفأوا مع هاربرت راجعين إلى قلعة تحت راية الحبوط والإخفاق، في وقت وصول وليم وبني هاربرت الثلاثة إلى فاليس بسلام.
وإذا ذاك رأى أولئك الثائرون أنه يستحيل عليهم البقاء تحت غاياتهم المستترة بذيل الخفاء والغموض، وتيقنوا أنهم أصبحوا عرضة لخطر هجوم وليم عليهم بعساكره، وإهلاكهم عن آخرهم، فلم يعد لهم والحالة هذه بد من إجراء أمرين؛ وهما: إما الهزيمة على جناح السرعة، أو المجاهرة بالعصيان، فأجمعوا على الثاني، فدارت بينه وبينهم حرب عوان دارت فيها الدائرة عليهم، ورجع كيدهم إليهم، إذ نازلهم فأصاب منهم كل مضرب، واستظهر عليهم ففرق شملهم تحت كل كوكب، وأكثرهم سقطوا بين يديه أسرى، فأذاقهم من مر القصاص ما جعلهم للغير عبرة وذكرى، وكان من جملة ما قاصهم به أنه ارتأى أن يصنع تذكارا لانتصاره هذا، بأن يمد طريقا عموميا في البلاد على الخط الذي سار فيه يوم كان هاربا من وجه أعدائه مع أولاد هاربرت، ويكلف الأسرى العصاة إنشاءه.
وقد أتى هذا المشروع بفائدة عظيمة لذلك القسم من البلاد؛ لأن طرقها القديمة كانت في غاية الصعوبة على السالك فيها بسبب تراكم الأوحال عليها؛ نظرا لانخفاض أرضها وانغمارها بالمياه في أكثر فصول السنة حتى كنت تراها كلها مستنقعات، وهكذا أخذ أولئك العصاة يشتغلون في تمهيد تلك الطريق السلطانية مكابدين الأتعاب والمشقات حتى أكملوها، فكانت خير مشروع حصل في ذلك العهد، فتطرقتها أبناء السبيل، وانطلقت ألسن سكان ذلك القطر على وليم بالثناء الجميل والشكر الجزيل، وما برحت آثار تلك الطريق إلى هذه الأيام شاهدة لوليم بحسن الصنيع، وسائقة له الرحمة والرضوان من ألسن الجميع.
وكانت مساكنهم قلاعا عظيمة مبنية على تلال رفيعة، ومهما يكن من حسن آثارها الباقية لهذا اليوم، فقد كانت غاية في عدم الترتيب والنظام، وكنت تراهم في غاية الفرح والابتهاج يوم كانوا يرون بعض أصدقائهم مسرعين إلى الالتجاء عندهم من وجه الأعداء، أو حينما يصقلون أسلحتهم ويعدونها استعدادا للخروج في أخذ ثأر أو شن غارة، وأما في وقت السلام فكنت تراهم بغاية الكدر والانكماش، ويصعب علينا في هذه الأيام أن نتصور فراغ تلك القلاع والحصون من وسائط الراحة وأسباب الأمنية، فإنها كانت مبنية - كما تقدم الكلام - في أماكن يتعذر الصعود إليها، وتلك الصعوبة الطبيعية من جراء الموقع كانت تزداد منعة وصعوبة، بواسطة الأسوار والأبواب والمعاقل والحفر والأبراج والجسور التي كانت ترفع بعد المرور عليها، فالأبواب كانت عبارة عن كوى في الحيطان على علو عشر أو خمس عشرة قدما من الأرض، ولها المرافئ تدلى من الداخل، فيصعد عليها الأصدقاء والأصحاب، أما من داخل تلك القلعة فكانت الأرض مرصوفة بالحجارة، والحيطان عريانة، والأغمية (السقوف) معقودة من حجارة غليظة، والغرف صغيرة بعضها فوق بعض طبقات متتابعة، وكانت على صغرها كالقبور والسراديب المظلمة لا يزينها شيء من شبابيك أيامنا الواسعة المبهجة التي فضلا عن فائدتها في إدخال النور إلى داخل البيت تمتع الناظر منها بالإطلال على المناظر الجميلة والمشاهد البديعة، ولم يكن كتب في تلك المساكن الموحشة، لا أثاث سوى الأسلحة، ولا مسرات غير المسكر والطيش بملاهي الأعياد والمواسم.
ولم يكن أمراء ذلك العهد وكبراؤه يستطيعون أن يشغلوا نفوسهم بأمر مفيد، فلم يروا شيئا أشهى إليهم من الحرب، وكانوا يشيحون بوجوه باسرة عن جميع وسائل الدأب وطرق السعي، فحراثة الأرض وتربية المواشي ومعالجة الصنائع والمعامل والمتاجر وغيرها من الذرائع التي يتوخاها الإنسان لنفع بني نوعه كانت بالكلية غير معروفة عندهم، بل محتقرة لديهم، ولك أن تستدل على صحة هذا القول من النظر إلى الباقين من ذريتهم في الوقت الحاضر، فإنهم حتى في نفس إنكلترا ينظرون هذا النظر، ويرتأون هذه الآراء، فبنوهم الأصغرون ينخرطون في سلك العسكرية البرية أو البحرية، ويصرفون حياتهم بالقتل والإفساد وبدون خجل، تحت ظلال الكسل وارتكاب القبائح والرذائل، وأما أن يتعاطوا للعمل سببا من أسبابه الحقيقية التي عليه يتوقف مجد إنكلترا وعظمتها، فذلك عندهم وصمة وعار أبديان؛ فالشاب الشريف منهم يخدم كأدنى الشعب في سفينة حربية، ويقبل على خدمته أجرة بدون أن يحتسب ذلك حطة لقدره، ولكن أن يبني سفينة حربية ويؤجر عليها يعده تعريا من شرفه، وسقوطا من رتبته.
وبالنتيجة فقد كان السلام للأمراء والأشراف في عصر وليم مدعاة القلق، ومجلبة السأم والضجر، فلم يكن يستكن لهم مضجع ولا يهنأ عيش بدون إصلاء نار الحرب وشهود مواقع القتال، وذلك لا ريب في أنه كان من جملة البواعث التي كانت تدفع الأمراء إلى المؤامرة على وليم، وشق عصا الطاعة له.
على أنه كان لهم سبب جوهري لمقاومته في حق الملك، وهو أنه كان يشق عليهم أن ينظروا من رجل كوليم واطئ النسبة، بل خسيسها ومرذولها من حيث الأم، وارثا لخلافة عظيمة كدوقية نورماندي، وقد اعتاد أعداؤه أن يقذفوه ويشنعوه بألقاب مستهجنة يشتقونها من مصادر حوادث ولادته، ومع أنه كان صبارا على الأذى، وكريما يعفو عن إساءة الآخرين، كانت تلك الإهانات المطبوعة على ذاكرة والدته كحمة تلسعه في جلده، وتستثير كمين ضغنه، ودفين حقده، وتحيي فيه روح الغل والكشاحة، ويؤيد ذلك هذه الحادثة - وقد وردت في أكثر تواريخ وليم المكتوبة - اتفق في أحد حروبه أنه زحف في البلاد لمهاجمة قلعة حصينة، كانت فضلا عن مناعة أسوارها وحصونها الطبيعية محصنة بحامية قوية كثيرة العدد، ولعظم ثقة هذه الحامية بشدة قوتها وكثرة عددها جردت إذ سمعت بقدومه فرقة لملاقاته، ليس لكي تفتح معه حربا جهارية، بل بقصد أن تكمن في الطريق وتفاجئ مقدمة جيشه على حين غفلة وهو غير حاذر عدوا قريبا، وبعيد عن نجدة باقي العساكر.
ولكنهم لم يجدوا كما عهدوا، فإنهم في الحال ذعروا من مكمنهم، ونكصوا على أعقابهم هاربين أمام وليم ورجاله الذين تأثروهم على الأعقاب، وبالجهد استطاعت تلك الفرقة أن تصل القلعة وترفع وراءها الجسور، وتوصد خلفها الأبواب في وجه المطاردين قبل أن أدركها وليم ومد عليها بعساكره مطمار الحصار.
أما حامية القلعة فامتعضت من خيبة تلك الفرقة امتعاضا، وملئت صدور عسكرها على إخفاق مسعاهم انكماشا وانقباضا، وقد أحفظهم أن تلك الفرقة لم تفشل في سعيها فقط، بل دحرت أمام عدوها لا تلوي إلا على الخزي والعار، ولم تنج من فتكه إلا بعد شق النفس، وقد تعقبها موقعا فيها الفضيحة والذل والانكسار، ولكي يسلوا سخيمتهم، ويميتوا ضغنهم، ويردوا على وليم الكيد الذي كادهم به صعدوا إلى أعالي الحصون والأسوار، ومن هناك أطلوا عليه وطفقوا يرمونه بأعلى أصواتهم بألفاظ الشتائم والمسبات، ويقذفونه بالإهانات والتعييرات حتى إذا فرغت منهم حياض الشتائم، ولم تبرد شيئا من غليل الضغائن والسخائم، عمدوا إلى مشترى ما استطاعوه من الأدم «جمع أديم وهو الجلد الأحمر المدبوغ» ومآزر الحور «السختيان» وغيرها مما له علاقة بصناعة الدباغة، وأخذوا ينشرون بأيديهم على مرأى وليم وعساكره، وهم يجهدون بأصوات التهكم والاستخفاف كأنهم يذكرون وليم بجده أبي أمه الدباغ، حتى أوغروا صدره حردا واحتداما، وغادروا مراجل السخط تضرم في قلبه إضراما، واضطروه أن يشير في الحال إلى فرقة من رجاله بهجوم شديد، فكروا كر الصناديد، واندفعوا بقوة التحمس ينقضون انقضاض البواشق، وينشبون نشب الصواعق، وإذ لم يقع في أيدهم أحد من حامية القلعة المنظمين داخلها استعاضوا عنهم بمن وجدوه من القلعة خارجها، وأتوا بهم أسرى بين يدي وليم، فأمر في الحال أن يمزقوا قطعا قطعا، ويرموا بالمقاليع الكبيرة من فوق الأسوار إلى داخل القلعة.
وفي أثناء هذه المدة التي يحيط هذا الفصل بتاريخ حوادثها في فترة الحروب النورماندية التي كان وليم يتمتع بسلامها وسكونها بعض الأحيان، حدث أن هنري ملك فرنسا عصت عليه بعض مقاطعاته، فخرج وليم بجيش من النورمانديين يشد أزره في إخضاعهم، فسر هنري في البداءة وشكر لوليم على هذه الأريحية والمساعدة في إبان الاحتياج إليها، لكنه ما عتم أن غمطها، وأخذ ينظر بعين الغيرة والحسد إلى ما حازه وليم من علو الشهرة ورفعة الشأن وهو بعد لدن الإهاب غض الشباب غير متجاوز الأربع والعشرين سنة، ويده تدبر حركة القيام بكل شيء بمزيد السرعة وغاية النشاط والدقة، فكان يشهد معامع القتال، ويخوض المعارك بعزم أسود الدحال، ويدير الحصار بإرشادات تحير العقول، وشجاعة تخور لديها عزائم الأبطال، حتى استمال إليه قلب كل إنسان، وأصبح موضوع مدح أبناء ذلك الزمان سوى الملك هنري، فإنه طوى قلبه على البغض له والحسد، إذ وجد أنه قد خلفه بل سلبه حق الاعتبار والاحترام الذي كان يناله من الشعب، وأمسى لديه أهون من النقد، وأذل من بيضة البلد.
وكان يظهر من بعض الحوادث الخصوصية شجاعة لوليم تقضي على عساكره بالعجب والاستغراب، وتحدوهم على الهتاف بأصوات الاستجادة والاستحسان، وهذه كانت تشاهد منه في الغالب عند إقدامه على صفوف الأعداء، أو نجاته من مطاردين تفوق كثرتهم الإحصاء، وقد كان لحسن الحظ وسعد الطالع يد في توليد هذه النتائج ربما أطول من يد القوة والشجاعة، ولعل حسن حظ الجندي في تلك الأيام كان على مدحه باعثا لا يقل عن باعث قوة عضلاته وشجاعة قلبه، وبالحقيقة إن هذا الاعتبار في محله، وهو حق لا ريب فيه؛ لأن قوة الذراع وبرودة الشجاعة بل ضراوتها وغيرهما من مسببات الكر والإقدام في ساعات الحروب هي صفات أخلق بالوحوش منها بالناس؛ لأننا إنما نستحسنها في الأسد أو النمر، ولكننا نحكم بشجبها ولعنها حينما يستعملها الإنسان ضد أخيه الإنسان منساقا بفجور البغض ودعارة الانتقام.
وإليك واحدة من طرف نجاح وليم الخارق العادة؛ وهو أنه أراد مرة أن يتجسس أعداءه، فذهب مصحوبا فقط بخمسة أمراء من حرسه الخاص حتى أشرفوا على معسكر العدو، وفي زعمهم أنهم غير مراقبين، ولكن وقعت عليهم العين في الحين، وانتقي اثنا عشر من الفرسان المعدودين وأنفذوا للإيقاع بهم على الطريق، فسارت هذه الفرقة وكمنت لهم في مكان كان لا مندوحة لهم عن المرور به، حتى إذ دنوا منه طلعت عليهم، وأمرتهم أن يسلموا قبل أن يتكلموا؛ لأن الستة أمام الاثني عشر لا ترى غير الفرار سبيلا، وليست المقاومة تجديها فتيلا، على أن عزة النفس وثبات القلب في وليم أبيا إلا الإقدام والهجوم على الكمين، فهز رمحه وقومه، وهمز جواده وأقحمه، حتى صار قدام مقدم الفرقة فابتدره بطعنة أكبته على الحضيض، ووهبته أن يسر إلى الأرض مركاس الجريض، ثم أعادها على من تلاه، فصرعه مجندلا على قفاه، وعند ذلك اقترب إليه حرسه الخمسة مكبرين متحيرين.
وكان قد نما خبر الواقعة إلى جنوده، فعدا لإغاثته نخبة من أبطاله المجربين، أما العشرة الذين سلموا من فرقة الكمين، فأركنوا إلى الفرار ووليم وحرسه يجدون في تأثرهم، فأدركوا سبعة منهم وشدوا وثاقهم، والثلاثة الباقون لم يستطيعوا لحاقهم، فرجع وليم ورجاله بالأسرى يطلبون الخيام، وفي طريقهم التقوا بالملك هنري يتقدم ثلاثمائة رجل من عسكره مسرعا إليهم، وإذ ذاك كان لوليم من رؤية نفسه راجعا منصورا، ومن استماعه حرسه الخمسة يقصون أخبار بسالته وثبات جنانه في ذلك الخطر، ومشاهدته جميع القواد والعساكر يضجون بأصوات تعظيمه - أسباب جوهرية تحمله على العسكر براح الابتهاج، وتبعث بالملك هنري على تجرع ما من دونه المر الأجاج.
وعلى هذا المنوال كان وليم يعصم لذاته علو المكان ونفوذ السلطان، وينكل بأهل البغي والعدوان، ويدوس شوكة التمرد والعصيان، حتى دانت له المصاعب وذلت رقاب المتاعب، فقام يدير شئون إمارته ويدبر أحوالها بيد الحكمة والدراية على طريق الحق والسداد، ثم وجه نظره نحو التدويخ والافتتاح، وضاقت عليه نورماندي فنزع إلى التوسع بغيرها، وفي غضون ذلك تزوج، ولما كانت حوادث زيجته لا تخلو من الغرابة آثرنا أن نجعلها موضوعا للفصل القادم.
الفصل الخامس
الزيجة
من جملة المسائل الهامة التي تعرض لمتسلط عظيم في قيامه بمهام سلطته الإرثية مسألة زواجه، فإن منازعيه وهم لا يرون بعد له ولدا لا يفتئون يخفون له المكائد، وينصبون الأشراك مترصدين لاغتصابه حق تلك السلطة فرصة تعيقه عن صدهم من نحو مرض أو حرب وغيرهما، واعتبار هذا الخطر كان أقرب توقعا وأشد هولا في عيني وليم الذي كان مزاحموه يحتجون سرا وعلنا أن حقهم في التربع على دست الإمارة أعظم من حقه حيا، فكم بالأحرى ميتا! وذلك كان باعثا كبيرا على جعل الأفكار تهجر مضاجع الراحة والسكون، والخواطر تحمل برياح القلق والتشويش في سائر أنحاء نورماندي، فالواسطة الفعالة إذا في تسكين جأش الأفكار أن يكون لوليم ولد؛ ولذا أصبحت زيجته قضية عظيمة الأهمية، وفي الحقيقة إن المقربين إليه من أمراء وقواد كانوا يلحون عليه غاية الإلحاح في قضاء هذه المسألة، من وجه أن إتمامها يكون زينا يطفو على وجه تلك الهواجس والبلابل، ويبيت دونها ودون أهواء الخواطر أعظم حائل، وعليه أخذ وليم يفتش على زوجة.
وظهر أخيرا أنه ليست مصلحة السياسة التي كانت تدعوه إلى ذلك فقط، بل الحب أيضا وجد عاملا في قلبه، وحداه على تحري البحث والاستقصاء، وبالواقع أن تلك التي أطلق نحوها ناظر الطلب كانت جديرة بالحب، ألا وهي أميرة من أجمل وأفضل أميرات أوربا في ذلك الزمان، ابنة أمير عظيم كان متسلطا على بلاد فلندرس شرقي نورماندي على شواطئ الأوقيانوس الجرماني الجنوبية، وكان أبوها الملقب بأمير فلندرس حاكما مطلق السلطان، وقائدا لقوة حربية عظيمة، وكان لعائلته من باذخ الشرف وعلو المكانة وعظمة الاعتبار ما لأعظم عائلة بين أمراء أوربا وأسيادها، وكانت تتصل برابط الزيجة بعائلة إنكلترا الملوكية، حتى إن متيلدا ابنة هذا الأمير التي اختارها وليم زوجة له كانت بموجب جداول أنساب ذلك العصر متسلسلة على خط مستقيم من ذات الملك ألفرد العظيم، ذلك ما عظم شأنها على الخصوص في عيني وليم وكبر لديه فائدة الاقتران بها، على أنه كان في المسألة نسبة عصبية أقامت عائقا في طريق إتمامها، وهي أن أبا متيلدا كان ينتسب أيضا إلى النورماند كما إلى سلالة الإنكليز بنوع يجعل متيلدا ووليم ابني عم، وإن كان عن كلالة وليس لحا، وهذا وجه الصعوبة والاضطراب في هذه القضية.
أما متيلدا فكانت أصغر من وليم بسبع سنين، وقد نشأت في قصر أبيها واتسع نطاق شهرتها وحلق طائر صيتها في الجمال والفضل، ولا سيما في صناعة التطريز التي كان لها شأن عظيم في تلك الأيام التي صنعت فيها المنسوجات الملونة بغية تعليقها على حيطان الغرف المزخرفة في قلاع العظماء وقصور الملوك لتستر عري حجارتها، وكانت في أول عهدها بسيطة، ثم ترقت حتى صارت حواشيها تطرز بأنواع مختلفة، واتخذتها النساء أخيرا شغلا لهن في ساعات الفراغ، بل وسيلة ينفس بها لبعضهن كرب النفس من طول الحصر والتحجب داخل القلاع والحصون، فكن يطرزن كثيرا من الملاء «جمع ملاءة» لأغراض تختلف بين التعليق في الغرف والإهداء إلى الصديقات، أما شهرة متيلدا في هذا النوع من الشغل فكانت واسعة وشاسعة، وقد قيل: إنه كثيرا ما كانت هذه الأعمال الباعث تحصيلها على النساء أيام الصبوة بالتعب والمشقة تترك بعد زواجهن نسيا منسيا؛ وذلك كان ليس لأنهن لا يعدن يجدن من لذة في مزاولتها، لكن تراكم الأشغال المنزلية من جهة، وحفظ أشغال الحياة الزوجية وما يخالطها من الحزن والكدر غالب الأحيان من جهة أخرى كانت تحول دون تفرغ قلوبهن للتسلية واللهو بأعمال العزوبة، على أنه لم يكن الحال كذلك مع متيلدا.
وربما عدنا إلى الكلام على هذا التطريز عند ذكر الوقائع التي صنع لكي يدل عليها ويشير إليها، أما الآن فنرجع إلى قصة الزيجة ونقول: إن المخابرات بشأن الزواج كانت تجري بين الأمراء والأميرات على طريقة رسمية بواسطة مبعوثين وسفراء ونواب كثيري العدد، وكان من صالحهم الخصوصي أن تلقى العراقيل في طريق إتمامها تذرعا إلى نيلهم بذلك منافع ذاتية، وفضلا عن هذا كله تبين حالا أن في المسألة موانع أخر صعبة تتهدد نجاح مساعي وليم المتعددة؛ منها كراهة الأميرة وعدم ميلها بالكلية لإتمام ذلك، ولقائل يقول: كيف استطاعت أن تبغض وليم وهو رجل طويل النجاد، دامي المناصل، جميل الطلعة، نبيه الشأن، طائر الصيت في الشجاعة والإقدام والظفر في معامع الحروب، ومستجمع جميع الصفات التي من شأنها أن تجذب نحوه أميال أميرة في ذلك العهد؟
نعم، ولكن متيلدا رفضت الاقتران به بناء على أسباب تتعلق بولادته، فلم تقدر بوجه من الوجوه أن تعتبره خليفة شرعيا له حق وراثة دوكية نورماندي، إذ إنه مع استوائه على عرش إمارتها كان معدودا لدى قسم كبير من الأمراء والسادة مغتصبا ليس إلا، وإذ ذاك فهو عرضة في كل حين للقلب والجلاء عن بلاده عند أدنى طارئ يطرأ عليه، وبكلمة نقول: إن مركزه وإن كان رفيعا فهو متقلقل وغير ثابت، وحقه في طلب الارتقاء إلى ذروة المجد والشرف مبهم، بحيث لا يسوغ لمتيلدا تسليم أمرها إليه، وعليه كان جوابها على التماسه رفضا مطلقا، على أن هذه الأسباب الظاهرة التي بنت عليها متيلدا عدم قبولها ورفضها الاقتران به لم تكن الأسباب الحقيقية الجوهرية، وإنما الباعث السري كان ميلها إلى شخص آخر، وهو شاب سكسوني كان ملك إنكلترا قد أرسله إلى بلاط أبيها سفيرا، واسمه برترك هذا بقي في قصر أمير فلندرس مدة تمكنت متيلدا فيها بواسطة محافل الطرب ونوادي الأنس التي أقيمت لأجل إكرامه من الاجتماع به، والوقوع على محبته، وكان جميل الطلعة فائق الملاحة، ومن بيت عريق في الشرف والوجاهة في إنكلترا وإن كان دون بيت متيلدا في فلندرس، على أنها إذ شعرت أنه يوجس خوف التقرب منها بداعي ما يتصوره فيها من رفعة الشأن والسمو على رتبته ومكانته، رأت من الواجب عليها أن تتذرع إلى تنشيطه وإنهاضه بكشف مكنونات قلبها، وهتك سرائر حبها، فطارحته حديث الوجد والغرام، وعرضت بذكر تباريح الصبابة والهيام، فوجدته لنكد الطالع خليا لم يكن بهواها مشغولا، وصاحيا لم تستطع إليه راح الوجد وصولا، حتى إنه بعد أن قضى الفرض الذي أرسل لأجله استأذنها في الانصراف بمزيد البرودة، وغادرها من حيث لا يدري مسلوبة القلب مفئودة.
وكما أن أحلى خمرة قد تتحول إلى أحمض خل هكذا أحر محبة تصير حين حئولها الكلي إلى أمر بغض، فالبغض حال في قلب متيلدا إلى غيظ، واحتدام الغيظ إلى تعطش تتلظى ناره بحب الانتقام، لم يعد في قلبها أدنى أثر للحادث الأول، ولكنها ما كانت قط لتنسى أو تصفح عن سقوطها في يد نفسها يأسا وفشلا، وتعفو عن ثقل الهون الذي تحملته، وقد أتاح لها الزمان بعد ذلك أن انتقمت من برترك في إنكلترا انتقاما شديدا، وسامته أمر العقوبة والقسوة التي عرته من رفعته ومكانته وعزة نفسه، وهبطت به أخيرا إلى ثرى رمسه.
وفي أثناء ذلك وهي مشغولة بهذا الشاغل لم تجد لها ولا ريب قلبا يصغي إلى ملتمس وليم، ولم ير من يلوذ بها أدنى أهمية لمعرفة السبب الحقيقي الذي حال دون قبولها، لكنهم شعروا بقوة الموانع التي تقف ضد وليم من حيث دنو عائلة أمه، وكونه مغتصبا لعرش الإمارة اغتصابا، ثم إن صلة القرابة بين متيلدا وبينه كانت مانعة أيضا، وباعثة على الحيرة والارتباك، فإن نسبة أحدهما للآخر كانت تمنع اقترانهما بموجب قوانين الكنيسة الكاثوليكية، وعليه أنفذ وليم وفدا إلى رومية لأجل حل هذه الصعوبة، وذلك فتح بابا جديدا للارتباك والتأخر؛ فإن السلطة الباباوية كانت تغتنم الفرص في مثل هذه الحادثة للحصول على ما يعود على الكنيسة بالخير والنفع، فلا ترخص بالاقتران قبل قيام الزوجين بأداء (التحليلة) من مثل بناء دير أو معبد أو متصدق أو غير ذلك مما تنتفع بريعه بدون التفات إلى سواه، وإذ لم يكن لذلك الوفد من داع خصوصي يبعثه على تعجيل إتمام المسألة وجد لنفسه مندوحة للتمتع بمشاهدة مناظر رومية البديعة، ورأى أنه يطيب له المكث فيها بصفة وفد ملوكي على مزيد الاحتفاء والتكريم، ووليم ذاته كان يعاق من وقت إلى آخر عن الإلحاح عليهم بداعي ما كان يعرض له من الأشغال بالحروب الخارجية، أو الانهماك بتسكين الثورات الداخلية، وهكذا لأسباب عديدة ظهر أن القضية غاية في الإشكال، وربما لا يهتدى إلى طريقة حلها.
وبالحقيقة لم يكن رجل غير وليم يستطيع أن يصبر على هذه الصعوبات المتنوعة؛ لأنه مر عليه - على ما قيل - سبع سنين قبلما أدرك من مرامه نتيجة، والحادثة التالية تروى عن شدة ثبات وليم بغرابة تفوق التصديق، وذلك أنه بعدما مرت السنون على المخابرات المتتابعة، والموانع المتوالية صادف وليم متيلدا في شوارع بروغوس إحدى مدن أبيها، ولم يعلم بالتفصيل كل ما حدث بينهما في أثناء ذلك الاجتماع، ولكن في ختامه حمي غضب وليم على متيلدا لداعي ما أبدته نحوه من النفار والانقباض حتى لطمها أو دفعها بعنف، فأسقطها على الأرض، وقيل: إنه لطمها على دفعات متوالية وغادرها مطروحة مهشمة، وسار مسرعا وهو يلتهب غيظا ويحتدم حنقا. نعم إن المنازعات الحبية كثيرا ما تكون وسائل لجعل المتنازعين أقرب إلى بعضهما بعدها منهما قبلها، ولكن منازعة حبية مخيفة كهذه تعتبر نادرة جدا، على أنه ما عتمت هذه المنازعة على شدتها أن أعقبت بمصالحة تامة، ومنها أخذت الموانع تزول شيئا فشيئا من طريق الاقتران الذي تم سنة 1053.
وقد احتفل به في إحدى قلاع وليم على تخوم إمارته كما كانت العادة في تلك الأيام للأمراء والملوك أن يقيموا عقد زفافهم في ذات مقاطعاتهم، فشيعت متيلدا بملء البهرجة والاحتفال مصحوبة بوالديها ورهط عظيم من الحامية والحرس رجالا ونساء راكبين خيولا كريمة مسرجة بأجمل السروج، يسيرون في عرض البلاد كجيش في غاية الانتظام، بل بالحري كفرقة منتصرة ظافرة تسير في حماية ملكة، وهكذا أنزلت متيلدا في القلعة على مزيد الرحب والتأهل، وظلت أفراح ذلك الزفاف أياما تضيء أنوارها في سماء البلاد النورماندية، وكان لباس كل من وليم ومتيلدا في ذلك اليوم جميلا فاخرا، وعلى الخصوص كان على كل منهما ملاءة تتألق بأغلى الحلي وأنفس الجواهر، وقد بقيت ملابسهما الثمينة بجواهرها الكريمة مكنوزة في كنيسة بأيو الكبيرة خمسمائة سنة.
وبعدما انقضت مدة الأفراح المعينة في قلعة أوجي حيث عقد الاقتران، خرج وليم وعروسه تحفهما الأمراء والكبراء والقواد والعساكر إلى مدينة روان، وهناك جلس ذانك الزوجان يتجاذبان أطراف الرفاء، ويأخذان بأسباب المسرة والصفاء، وقد توفرت لمتيلدا ذرائع الرغد ووسائط العظمة، فكان لها نخبة من جياد الخيل مسرجة على الدوام ومعدة لركوبها، ناهيك عما جهز لها من الأكسية الفاخرة والأثواب الجميلة الموشاة كلها بالحلي والجواهر، وأقيم على خدمتها من الحرس، وقد عينت فرق الفرسان المنخوبة للركوب معها من مكان إلى آخر، وبالإجمال كانت محاطة بكل دواعي الاحتفاء والتجلة - الاحتفاء والتجلة ولكن ليس الراحة والسلام؛ فإنه كان لوليم عم يدعى ماتجر، رئيس أساقفة روان، وكان على جانب عظيم من نفوذ الكلمة وقوة السلطة، ومعلوم أن مسرة أقرباء وليم كانت أن لا يتزوج؛ لأن زيادة الترجيح في انتقال تاجه إلى وريث من صلبه كانت تضعف آمالهم المستقبلة بالاستيلاء عليه، وتسقط أهمية شأنهم الحاضرة، وعليه عارض ماتجر هذه الزيجة وبلغ جهيداه في إحباط مساعي إتمامها، وصرح بعدم جوازها من وجه القرابة بين وليم ومتيلدا، وقد اتخذ لنفسه حق المعارضة في ذلك من وجه أنه رأس الكنيسة في نورماندي، وإذ كان الزفاف قد احتفل به قبل انتهاء المخابرة بشأنه في رومية، أصدر ماتجر حرما لوليم ومتيلدا وشجب زواجهما الذي لم يكن قانون الكنيسة ليجيزه.
وقد كان الحرم في عهد متيلدا أمرا هائلا، فالشخص المحروم كان يجتنب من الناس، ويعتبر أنه ملعون من السماء، وعلى فرض أنه أمير كبير كوليم كان ذات شعبه يبتعد عنه، ولا يعود يلبي دعوة إغاثته والمحاماة عنه، وقد كان ممكنا لحاكم مطلق كوليم أن يثبت قليلا تجاه هذه الصعوبة لولا أنه تحقق ازدياد شدة وطاءتها عليه، وتفاقم خطبها لديه بواسطة خرافات الشعب المار ذكرها، وأحس منه وخيم العاقبة، وعليه رفع دعواه إلى البابا، واجتهد بإلغاء الحرم هناك بواسطة راهب أنفذه إلى رومية يدعى لنفرنك، وجهزه بالوسائل المؤدية إلى إبطال الحرم وإبداله بالبركة على الوجه الآتي؛ وهو أن البابا يمنح (الحلة) ويثبت الزواج ويبطل حكم الحرم الذي أصدره رئيس الأساقفة ماتجر، بشرط أن وليم ينشئ متصدقا لأجل مائة فقير، ويبني ديرا للرهبان ومتيلدا ديرا للراهبات، فناب الراهب لنفرنك عن الزوجين بالتوقيع على هذه العهدة.
وهكذا أزيل الحرم واعترف كل سكان نورماندي بشرعية الزواج، وأقبل وليم ومتيلدا على إنجاز ما وعدا به، فقاما يلاحظان بناء الديرين بأنفسهما، وقد اختارا لهما مكانا في مدينة كاين على متاخمة نورماندي من الشمال، وهي ذات موقع حسن في منخفض فسيح عند ملتقى نهرين يحيط بها من كل ناحية سهول مخصبة في غاية الجمال، وكانت محصنة بالأسوار والأبراج من عهد أسلاف وليم أمراء نورماندي، وكان الدير المبني على اسم وليم كبيرا جدا، وقد أنشئت داخله قلعة سامية كثيرا ما سكنها وليم ومتيلدا في أيامهما المستقبلة، ومع أن أسوار مدينة كاين وحصونها قد أصبحت اليوم ركاما مركوما، فكثير من أبنية ذينك الديرين لا يبرح قائما يساور بواعث الاضمحلال والفناء، وينازعها الخلود والبقاء، على أن هذا الباقي منها لم يعد مستعملا لما بني له، لكنه لا يزال محفوظا فيه اسمه الأصلي، وكثيرون من السياح والزائرين يحجون إلى تلك البقايا القديمة، ويحنون بملء الشوق إلى ما يتبينونه بواسطتها من مجد بانييها الخالي، ويكرمون هذا التذكار الجليل الباقي لهما إلى هذا اليوم.
ثم قضى وليم ومتيلدا ما شاء الله من الزمان في صفاء العيش ونعيم البال، وأول مولود رزقاه كان ذكرا، وذلك بعد زواجهما بسنة، فدعاه وليم باسم أبيه روبرت، ثم رزقا بعده عدة أولاد، وكانت أسماؤهم روبرت ووليم روفوس وهنري وسيسيليا وأغاثا وكونستانس وإدالا وإدالايد وغندرد، فوقفت متيلدا حياتها على تربيتهم وتهذيبهم بأمانة ومحبة والديتين، حتى إن أكثرهم عاشوا وخلدوا لهم في صفحات التاريخ آثارا مأثورة، وأسماء بالشهرة مذكورة.
وقد تسنى لوليم أن نال ما كان مطمح أبصاره، ومبعث أشغال أفكاره، ألا وهو الاتحاد مع حكومة فلندرس التي كان يتولاها حموه أبو متيلدا، فصارت الحكومتان كأنهما واحدة بداعي ذلك الرباط الطبيعي (الزواج) الذي جمعهما إلى وحدة متينة في القوة والنفوذ والعظمة، بحيث أصبحت كل منهما ظهيرة الأخرى ونصيرتها عند مسيس الحاجة، وإن يكن قد حدث فيما بعد ذلك ما خيب أمل وليم من هذا الاتحاد وعاد عليه بخلاف المنتظر؛ وذلك أنه لما أخذ وليم يتأهب لمهاجمة إنكلترا أرسل إلى بالدون أخي امرأته متيلدا (الذي كان حينئذ أميرا على فلندرس عوضا عن أبيه) يطلب منه إعداد قوة يمده بها، أما بالدون فهاله هذا الطلب، وأوجس منه خوف الإقدام على خطر عظيم كهذا، فأرسل إلى وليم يطلب منه معرفة النصيب الذي يعينه له من بلاد الإنكليز إذا ضافره على تدويخها ، فاستدل وليم من هذا الاشتراط العاجل على تغير قلب ابن عمه عنه، وعدم ركونه إليه، وإذ ذاك أخذ رقا وطواه - بدون أن يكتب فيه شيئا - على هيئة كتاب وكتب على ظاهره ما معناه:
أما النصيب الذي أرسلت تطلبه
من البلاد التي في الحرب نغنمها
فانظر إلى داخل التحرير حيث ترى
عنه التفاصيل تتلوها فتفهمها
وفي الحال أنفذ إليه هذه الرسالة الفارغة مع رسول، فلما رآها بالدون اندفع بمزيد من الاهتمام إلى استلامها وفضها بشوق فائق، لكنه أسقط في يده اندهاشا حين وجدها خاوية خالية، وبعدما قلبها ظهرا لبطن بغية الوقوف على تفاصيل نصيبه استطلع الرسول طلع الأمر، فأجابه: «المراد منها كما أنه ليس فيها شيء كذلك أنت لا يكون لك شيء».
على أنه مهما يكن من الفتور الذي أصاب الصلات على أثر هذه الحادثة، لم تلبث أن عادت العلاقات إلى متانتها، ورجعت المياه إلى مجاريها، ونال وليم شيئا من مساعدة حكومة فنلدرس حين حمل على إنكلترا.
الفصل السادس
الأميرة «أما»
لم يكن في الحسبان - حتى في نفس الوقت الذي نؤرخ الآن حوادثه - أن أميرا مثل وليم يهاجم مملكة عظيمة كإنكلترا واسعة الأطراف قوية الجانب بالنسبة إلى إمارة نورماندي لو لم يكن لدى وليم حجة ولو على سبيل الادعاء، أما حجته فكانت أنه هو الوريث الأصيل لعرش إنكلترا، وأن الملك الذي تربع على دست مملكتها في زمان مهاجمته لها كان مغتصبا؛ ولكي يفهم القارئ طبيعة هذا الطلب ومبدأ هذه الحجة رأينا من الضروري أن نبسط الكلام قليلا عن تاريخ «أما».
فمن مراجعة سلسلة أمراء نورماندي المثبتة في الفصل الثاني من هذا التاريخ، يظهر أن «أما» كانت ابنة رتشرد الأول، وقد اشتهرت في ريعان صباها بحسن صورتها وجمال منظرها حتى كانت تدعى لؤلؤة نورماندي، وقد تزوجت بأحد ملوك إنكلترا المدعو أشرلد أيام كانت تلك البلاد مجروفة بسيول حرب أهلية بين حزبي السكسون والدانمارك، وكان فيها سلسلتان مختلفتان من الملوك تتنازعان السيادة، وتتزاحمان إلى الاستيلاء على قضيب السلطنة المطلقة، وفي تلك الحرب الدائمة كان السكسون ينتصرون تارة والدانمارك أخرى، وأحيانا يقيم كل من الحزبين لنفسه هيئة حاكمة، ويناصب الآخر في التملك على أقسام مختلفة من تلك الجزيرة الكبيرة العظيمة، وهكذا اتفق أنه كان في إنكلترا في وقت واحد يقوم ملكان يساور كل منهما الآخر ويناظره في السطوة والحكم - ملكان وعاصمتان وإدارتان - لشعب واحد قضى عليه نكد الطالع أن يرزح تحت أثقال المطامع، ويكابد ويلات الحروب الناتجة عنها.
وكان أشرلد أحد ملوك السكسون، وعندما اقترن بأما كان أرملا في سن الأربعين وله من امرأته الأولى أولاد من جملتهم ابن يدعى أدموند، وهو شاب نشيط الهمة قوي العزم صار فيما بعد ذلك ملكا، وكان من جملة ما قصده أشرلد باقترانه بأما أن يعزز جانبه ويزيده مناعة بضم النورمانديين إليه؛ لأن أعداءه الدانمارك نورمانديون أيضا، فحذرا من أن حكومة نورماندي تمدهم بالقوة والرجال سبق إلى التقرب منهم، وعقد معهم زواجا مكنه من اكتساب قرابتهم ومساعدتهم إياه على أعدائه.
فنجح فيما قصد واستنهض رتشرد أبا زوجته إلى شد أزره، لكنه لم ينصر على الدانمارك، بل بالعكس استظهروا عليه وضايقوه حتى اضطروه أن يفر إلى نورماندي بزوجته وابنيه، وكان اسماهما إدوارد وألفرد، فاستقبله رتشرد الثاني أخو أما بلطافة فائقة لا يستحق شيئا منها، ولم يكن بالأمر الغريب أنه طرد من مملكته؛ لأنه لم يكن على شيء من تلك الصفات العقلية السامية التي تؤهل الإنسان للحصول على قوة الغلبة والحكم، بل كان كبقية الظلام الخاملين يضحي الحكمة على مذبح الشراسة والقساوة، ويسرف بالقوة في طريق الجور والاعتساف ضد أعدائه، وحالما تزوج بأما أشعر بعظم القوة التي توهم الحصول عليها بداعي تلك الزيجة، فمنى الدانمارك بمجزرة هائلة في يوم معين بواسطة مؤامرة سرية أهلك فيها منهم خلقا كثيرا، فاشتد البغض ونما الحقد بين الحزبين، حتى إن الذين تلقوا منه أوامر إتمام هذه المذبحة الدموية أنفذوها بقساوة وحشية تشيب لهولها الأطفال.
فمن جملة فظائعهم فيها أنهم طمروا النساء في حفر إلى أوساطهن، وأطلقوا عليهن الكلاب فمزقت أجسادهن العريانة وأماتتهن ألما ووجعا ، ومن عجيب ما اتفق في تاريخ هذه الحرب الأهلية أن الملك ألفرد الملقب بالعظيم لما حارب الدانمارك في إنكلترا، وذلك قبل زمان أشرلد بمائة سنة عاملهم في استظهاره عليهم بمزيد الرقة وكرم الأخلاق، وبهذه السياسة تغلب عليهم في النهاية، أما أشرلد فبخلافه سامهم أشد القساوة، وكانت النتيجة في الختام أنه بعثهم على التألب ضده والخروج عليه طلبا للانتقام والأخذ بالثأر، حتى جلوه - كما تقدم الكلام - من إنكلترا بمزيد الخزي والخجل والعار، وكما مر بنا استقبله رتشرد ابن حميه بما لا يوصف من الترحاب والتأهيل جبرا لخاطره المكسور، وإكراما لشقيقته أما وولديها، وقد كانت رغبة أما في الاقتران بأشرلد موقوفة به على حب الشهرة والطمع بنوال المجد حين تصبح ملكة إنكلترا، وهذا ما يحكم به عليها كل قراء تاريخها من مجرد اطلاعهم على سيرة حياتها التالية.
أما الآن فساءها إخفاق مساعيها وخيبة آمالها؛ إذ وجدت نفسها أنها عوضا عن أن ترفد بواسطة زوجها، وترتقي إلى ذروة السعادة التي عللت نفسها بالحصول عليها، أصبحت مضطرة أن تنكفئ راجعة إلى وطنها السابق مستعبدة، وقد أضاقت إلى حملها على بيت أبيها حمل زوجها وولديها، وقد زاد طينتها بلة، وأضاف إلى ذلها ذلا موت أبيها، وتقلص اعتبارها، وانحطاط مكانتها لدى أخيها الذي ليس عليه حق شرعي أن يعولها، مع أنه لم يقصر في إكرام كل منها وزوجها وولديها.
وكانت تلك الحروب التي قضت على أشرلد بالفرار إلى نورماندي لا تزال قائمة على قدم وساق حتى مالت كفة النصر نحو السكسون، وتوفي على أثرها ملك الدانمارك الذي استولى على العرش بعد جلاء أشرلد، فاسترجع السكسون قوتهم السابقة وأرسلوا يطلبون أشرلد ليكون ملكا عليهم، بشرط أنه يغير سلوكه القديم في الحكم والإدارة، أما هو فكان مع أما بغاية التلهف لإعادة مجدهما الغابر على أية طريقة كانت؛ ولهذا ما أبطأ أن رجعا إلى لندن حيث بايع الحزب السكسوني أشرلد الملك ثانية.
أما الحزب الدانماركي فلم شعثه وقوى ضعفه وأقام له ملكا يدعى كانيوت، ثم شبت نار القتال بين هذا الملك الجديد وأشرلد، أما كانيوت فكان رجلا حاذقا فهيما وغاية في الشجاعة والإقدام بعكس أشرلد، فإنه رغما عن جميع مواعيده ظل متناهيا في الخمول والبلادة، وآية في القساوة والجبن، وبالحقيقة إن ابنه أدموند الذي من امرأته الأولى كان أقدر منه على مقاومة كاينوت نظرا لما حصله من الفطنة والذكاء، واشتهر به من القوة وثبات القلب حتى إنه ساد على أبيه في بعض الاعتبارات، ومنها أنه في غضون تلك الاضطرابات سخط الملك أشرلد على أحد أشراف مملكته لأسباب، فحكم عليه بالقتل، وزاد على هذه الفظاعة أن نفى أرملته المسكينة وهي في ريعان صباها وجمالها إلى أحد الأديرة، فذهب ابنه أدموند إلى الدير وأطلقها واتخذها له امرأة، فبواسطة وقوع هذه المعاكسة بين الملك وابنه الذي كان أكبر قواد جيوشه أصبح أمل ثباته أمام كانيوت الدانماركي ضعيفا.
وفي الواقع كانت الأحوال تزداد سوءا وتعاسة، وأما تتجرع من وقت إلى آخر غصص القهر والكدر، وتنذر نفسها بتفاقم الويل وتعاظم الخطر، حتى توفي أشرلد سنة 1016، وبموته امتلأت كأس شقاوتها، وانطمست معالم سعادتها، إذ لم يكن لأحد من ولديها إدوارد وألفرد حق التملك عوضا عن أبيهما، بداعي أن أدموند ابن امرأة أشرلد الأولى كان أكبر منهما، وكانا كلاهما أصغر من أن يركبا الأهوال ويشهدا المعارك؛ ليجعلا لهما مكانة واهتماما في عيون الشعب، ثم إن أدموند نفسه إذ كان مزمعا الآن أن يصير ملكا لا يسر بتقدمهما، ولا يرى لهما إكراما، ولا يعتبرهما ووالدتهما سوى مقاومين له، وبالاختصار رأت أما أن مقامها في إنكلترا أصبح محفوفا بالمخاطر، فهربت بولديها مرة ثانية، وجاءت بمزيد اليأس والفاقة تطلب لهما ملجأ في بيت أخيها في نورماندي، وقد أمست الآن أرملة وولداها يتيمين، وكانا غلامين صغيرين وأكبرهما إدوارد الذي تعلقت به آمال التقدم، وتحولت إليه مطامح الترقي، كان هادئا رزينا تلوح عليه بعض مخايل الشجاعة، وتنبثق من محياه أنوار تؤذن بنيط الأمل بتوقع شيء من الإقدام منه على كبار الأمور وعظائمها.
ولكن أخاه أدموند أصبح الآن ملكا في غلواء شبابه وإبان شجاعته وثباته، وعليه أدلة ترجح أنه سيعيش ويعمر طويلا، وعلى فرض مفاجأة كارث يعجل اخترامه ويودي بحياته، فليس من رجاء لأما أنها تعود لمجدها المنصرم وعزها الفائت بداعي أن أدموند كان متزوجا، وله ابنان فيخلفه أحدهما بعد وفاته، فمن كل جهة نرى أن نكد الطالع قد قدر لأما أن تصرف باقي حياتها مع ولديها بالذل والفاقة والإهمال، على أنه «وبينما العسر إذ دارت مياسير»، فإن النهاية كانت بالخلاف كما سيجيء، فإن أدموند لم يملك أكثر من سنة حتى اغتيل فجأة، وفي مدة تلك السنة كان يرى أن كانيوت الدانماركي أخذ في التغلب عليه والاستيلاء على إنكلترا قسما بعد قسم، فجرد جيوشه وخرج لمحاربيه، وقبل شبوب نيران القتال بينهما أرسل أدموند يسأل كانيوت هدنة، ويطلب منه العدول عن سفك دماء العساكر إلى المبارزة بينهما، فأبى كانيوت قبول هذا؛ لأنه دونه جثة وقوة أعضاء، لكنه ارتأى طرح المسألة أمام لجنة تشكل من أمراء وقواد الحزبين، وكان الأمر، وفي الختام قسمت البلاد بين الملكين، واستبدلت الحرب بنوع من السلم، وبعد هذه العهدة بقليل قتل أدموند.
فأسرع كانيوت بدون إمهال واستولى على كل المملكة محتجا بأنه من جملة المعاهدة بينهما أن المملكة تستمر منقسمة بين الملكين ما دام كلاهما في قيد الحياة، وعند موت أحدهما يخلفه الآخر في التولي على قسمه، فلم تقم حجته هذه لدى قواد السكسون، لكنهم وجدوا نفوسهم لا يقوون على مقاومته؛ لأن ابني أشرلد من أما كانا لا يزالان قاصرين عن الإقدام على القيادة، وبني أدموند كانوا أطفالا، فلم يكن من فيه الأهلية ليصير زعيم السكسون وقائدهم العام، فالتزموا والحالة هذه أن يطووا كشحا عن تمحلات كانيوت ودعاويه الفارغة ولو إلى وقت قصير، وعليه رأوا من الحكمة أن يتغاضوا مسامحين في حقوق بني أدموند برهة يسيرة، ووكلوا إليه المناظرة عليهم حتى يبلغوا أشدهم، وفي الوقت ذاته سمحوا له أن يبقى متوليا بنفسه زمام الحكم على كل البلاد.
فقام كانيوت يدبر شئون الأحكام، ويعمل على اتساع نطاق نفوذه بغاية الضبط على وجه السداد والإنصاف، متعمدا في سائر الأحوال والطرق صيانة حقوق السكسون وامتيازاتهم بنوع لا يجعل بينهم وبين الدانمارك أدنى فرق، وكان يخشى على حياة بني أدموند عنده، لكن السياسة التي اختطها للسير والتصرف خولت السكسون راحة واطمئنانا من نحوهم، وبالواقع لم يسئ إليهم بل أرسلهم إلى بلاد الدانمارك لكي ينسى أمرهم على التمادي، ولعله أراد بذلك أنه إذا دعت الحاجة يدبر هناك طريقة سرية لهلاكهم، وكان لديه سبب آخر يحدوه على وقايتهم ويحول دون اغتيالهم، وهو أن هلاك بني أدموند لا يميت حق السكسون في الملك، بل يحوله إلى ابني أما في نورماندي اللذين يترقبان الفرص للقيام على منازعته واغتصابه الملك، فكان من باب الحكمة أن يبقى أولاد أدموند أحياء، ويجلبوهم إلى حيث يأمن الاهتمام بهم.
أما احتسابه من جهة ابني أما فكان على غير طريقة، فإنه لكي يسقط حقيهما في الملك ويضعف قوتهما ارتأى أن يطلب الاقتران بوالدتهما، وبذلك يجعل عائلتهما تحت قبضة يده، ويحول دون قيام أصدقائها النورمانديين ضده، وبناء عليه طلبها، وهي لشدة طمعها في استرجاع مقام عظمتها السابق كملكة إنكلترا أجابت طلبه بلا تردد، وإن العالم ليدينها على تزوجها للمرة الثانية بمنازع أشد وعدو ألد لزوجها الأول، ولكن لم يكن ذلك ليهمها البتة، بل قصارى ما احتفلت به أن تكون ملكة سواء كان زوجها سكسونيا أو دانماركيا، فاستاء ابناها من هذا الاقتران وبذلا جهدهما في منعه، ولم يصفحا لوالدتهما عن ارتكاب هذا الإثم الفظيع، ولا غفرا لها تدنيها لتضحية صالحهما وحقهما، وقد ملأهما غيظا ونكاية ما تقرر في عهدة الزواج من أن وراثة الملك بعد كانيوت تكون لمن يولد له من أما التي ما لبثت أن ودعت نورماندي وابنيها، وشخصت إلى إنكلترا حيث احتفل بزفافها إلى كانيوت بغاية التجلة والاحتفاء، وخلا لها الجو مرة أخرى في أن تعود ملكة الإنكليز.
وقد اقتضت الضرورة الآن أن تجتاز بكلمات وجيزة مدة عشرين سنة من الزمان وهي تحيط بوقت ملك كانيوت الذي كان غاية في النجاح والسلام، وفي خلال هذه المدة كان أبناء أما لا يزالان في نورماندي، وقد ولد لها ابن آخر في إنكلترا دعي كانيوت باسم أبيه، لكنه يعرف في التاريخ باسم هارديكنيوت - وهذه الزيادة كلمة سكسونية معناها قوي - وكان لكانيوت وزير شهير يدعى غودون، وهو رجل سكسوني واطئ النسب، وله في تاريخ حياته قصة غريبة لا محل لإيرادها هنا، لكنه كان ممتازا في الحذق والدهاء وسائر الصفات السامية، وفي وقت موت كانيوت كانت له الأسبقية على جميع رجال الدولة في الوجاهة والنفوذ، أما كانيوت فلما حضرته الوفاة ووجد أن شمس حياته قد مالت به إلى الغروب.
وأنه من الضروري أن يرتب أمر الخلافة رأى أن الأحوط له السعي في إخراج معاهدته مع أما السابق ذكرها من القوة إلى الفعل، على أن هارديكنيوت الذي بموجب تلك المعاهدة يحسب خلفا له كان عندئذ ابن ست أو سبع عشرة سنة، وبالنتيجة قاصرا عن إدارة أحكام المملكة، وبناء عليه أوصى بالملك لابن أكبر يدعى هارلود رزقه قبل اقترانه بأما، وهذا كان مبعث انشقاق جديد، ومدعاة قلق حديث؛ لأن ميل السكسون وكذلك أصدقاء أما كان نحو هارديكنيوت، بينما كان الدانمارك يميلون لهارلود. أخيرا انتصر غودون لجانب هذا الأخير، فتثبت هارلود على العرش، وتركت أما وجميع أولادها الذين ولدوا لها من أشرلد وكانيوت في زوايا الإهمال والنسيان.
فهذا التغيير الفجائي الذي طرأ على أما لم يكن ليرضيها البتة، فلبثت في إنكلترا وقد ساءها جدا أن ترى زوجها الثاني قد خان عهده معها، ونكث بوعده لها من جهة عهد الخلافة لمن يولد لهما جديدا، وكما أنه أغفل ابنه المولود له منها، وقدم عليه ابنه المولود له سابقا، هكذا هي أيضا تركت الاعتناء بأمر هارديكنيوت، وطفقت تسعى سرا بين السكسون في تقديم ابنها إدوارد وترشيحه للعرش، حتى إذا رأت نفسها أنها مهدت له السبيل اللازم بعثت برسالة إلى ابنيها في نورماندي مفادها: أن الشعب السكسوني لم يعد يستطيع الصبر على تحامل الحكومة الدانماركية وجورها، ومن رأيها أنهم (أي السكسون) مستعدون لخلع الطاعة الدانماركية متى وجدوا لهم زعيما وقائدا، وعليه طلبت منهما أن يأتيا لندن للمداولة معها بهذا الشأن.
وقد أشارت عليهما أن يحضرا بطريقة سلمية بسيطة متجنبين كل ما من شأنه أن يثير القلاقل، ويوقظ ساكن البلابل، فلما وقفا على كتابها ارتضى أكبرهما إدوارد أن يذهب إلى لندن، لكنه أحب أن أخاه ألفرد يقدم على هذه المهمة إن أراد، فأجابه ألفرد إلى ذلك. وفي الواقع إن هذين الأخوين كانا على اختلاف عظيم في المنازع والمشارب؛ فإدوارد كان هادئا رزينا متأنيا، وأما ألفرد فكان حاد الطبع طموح النظر، وعليه وطن الأصغر نفسه على ركوب أخطار السفر، والأكبر عول على البقاء في نورماندي، وكانت النتيجة من ذلك شرا وبلاء، فإن ألفرد خالف مشورة والدته وساق معه جيشا من النورماند وقطع بهم البوغاز زاحفا نحو لندن، فجرد عليه هارلود قوة عظيمة اعترضته في الطريق فحاصرته وأخذته وجميع من معه أسرى، ثم حكم عليه بقلع عينيه.
لكنه ما عتم أن مات بعد صدور ذلك الحكم الهائل بسبب ما اعتراه منه آلام الحمى، ناهيك عن تأثير القهر والسقوط في يده خيبة وفشلا، فهربت أما إلى فلندرس، وأخيرا مات هارلود وخلفه هارديكنيوت الذي لم يحكم إلا وقتا قصيرا حتى مات أيضا غير مخلف ورثاء للملك، وإذ كان في ذلك الوقت أولاد إدموند بن أثلرد الأكبر في هنكاريا، وأمرهم على نوع ما منسي ظهر جو الخلافة كأنه خال من منازع لإدوارد بن أما الأكبر الذي كان باقيا في نورماندي لا يبدي حراكا، وبموجبه صرح به ملكا، وذلك سنة 1041، وظل مالكا نحو عشرين سنة، وقد صاقب ابتداء ملكه وقت تربع وليم الظافر على دوكية نورماندي، ولا ريب أن إدوارد كان قد تعرف بوليم في أثناء وجوده في ذلك الوقت الطويل في نورماندي، وقد زاره وليم أيضا إلى إنكلترا بعدما صار عليها ملكا.
ومما لا ريب فيه أيضا أن وليم اعتبر نفسه وارثا لإدوارد من وجه أنه لما كان ليس لإدوارد من أولاد وإن كان متزوجا؛ يكون الأمراء النورماند أقرب أنسبائه، وقد ادعى أن إدوارد وعده بأنه يوصي له بحق الملك بعد وفاته، وكانت أما قد شاخت وتقدمت في الأيام، وانكسرت فيها شوكة قوة الطمع في الشهرة وحب الرئاسة التي تسلطت عليها في ماضي حياتها؛ لأنه كان لها زوجان وابنان كل منهم ملك إنكلترا، لكنها عندما تناهت بها الأيام وأدركها الانحلال رأت نفسها صرعى الشقاق وتعاسة الحال.
ولم يكن ابنها لينسى جريمتها الفظيعة التي ارتكبتها في هجرها له ولأخيه، واقترانها بمن كان ألد عدو لهما ولأبيهما، وإنفاذها لما تعهدت به يوم زفافها إلى كانيوت من حرمانهما الوراثة الملكية، وفضلا عن ذلك تخلت عنهما بمزيد الإهمال وعدم الاكتراث في أيام زوجها كانيوت، بينما كانت هي نفسها عائشة معه في لندن على سعة الرغد ورحب الأبهة والعظمة، وقد شكاها أيضا بأنها كانت تقلب جفنيها ناظرة إلى موت أخيه ألفرد؛ ولذلك أصدر أمرا بمحاكمتها في هذه الدعاوى العريضة على النار، وتلك طريقة كانوا يمتحنون بها المتهمين بالجنايات والجرائم، بأن يضعوا على أرض كنيسة قطعا من حديد محمية إلى درجة البياض وعلى بعد معين بين بعضها البعض، ويشيروا إلى المشكو عليه بالمشي عليها بقدمين حافيتين، معتقدين بأنه إن كان بريئا فالعناية الإلهية ترشد خطواته، وتقيه من مس قطع الحديد فيجتازها آمنا، وإن كان مجرما يحترق.
وقد نقل عن رواة حوادث ذلك الوقت أن أما حكم عليها بهذا الامتحان في كنيسة ونشستر الكاتدرائية؛ لمعرفة ما إذا كانت عالمة بقتل ابنها، وسواء صدقت هذه الرواية أو لا فليس من ريب في أن إدوارد حكم عليها بالسجن في دير ونشستر، حيث أكملت أيامها متجرعة غصص الذل والهوان.
ولما رأى إدوارد أن الموت صار منه قريبا على الأبواب أخذ يهتم في أمر الخلافة، وكان لها وريث من أخيه إدموند الذي يذكر القارئ أن كانيوت نفى أولاده إلى بلاد الدانمارك ليتخلص من منازعتهم له، وهذا الخلف كان لا يزال حيا في هنكاريا واسمه إدوارد، وهو الخليفة الشرعي للعرش، ولكن قد صرف حياته متغربا بعيدا عن وطنه، وفي الوقت ذاته كان الأمير غودون - الذي مر الكلام على نهوضه من بيت سكسوني دني الشان إلى أعلى مقام في المملكة - قد أحرز سطوة مكينة ونفوذا بينا، فظهر بهما أمنع جانبا من ذات الملك، وقد مات أخيرا لكن ابنه هارلود الذي تأسله بالبسالة والإقدام وثبات الجنان خلفه في القوة، وتراءى كما ظن إدوارد أنه يطمح في المستقبل نحو اغتصاب العرش.
وكان إدوارد يكره غودون وعائلته كرها شديدا، وصار الآن يتخذ كل الاحتياطات التي تكفل له إحباط مساعي ابنه هارلود في الجلوس على تخت الملك، وعليه أرسل يطلب حضور ابن عمه إدوارد من هنكاريا؛ ليرشحه للملك من بعده ويخذل هارلود، فجاء بعائلته وكان له ابن يدعى إدغر، ولكنه لسوء الحظ لم يلبث أن توفي بعد حضوره إلى إنكلترا بقليل، وابنه إدغر بعد صغير لا فائدة من قيام الحكومة باسمه؛ إذ لا تستطيع الثبوت ضد هارلود، فلما رأى ذلك الملك إدوارد وجه أفكاره نحو وليم حاكم نورماندي الذي كان أقرب نسيب إليه من جهة أمه، وتحقق أنه يكون أفعل وسيلة لتخليص الملك من السقوط في يدي هارلود المغتصب، وعلى أثر ذلك قامت مصادرات عديدة ومناضلات مختلفة، فكان هارلود يفرغ جعب الجد والسعي في الحصول على الخلافة، وإدوارد ينضي مطايا المساورة والمقاومة في منعه عنه وتحويله إلى وليم النورماندي، وكان النفوذ في البداءة لهارلود وفي النهاية لإدوارد ووليم.
الفصل السابع
الملك هارلود
إن هارلود ابن الأمير غودون الذي كان يسعى جهده في التبوء على العرش الإنكليزي، ووليم صاحب إمارة نورماندي الذي كان ينازعه السعي، ويزاحمه في الإقدام وإن كانا قد عاشا على جهتين متقابلتين من البوغاز الإنكليزي - الواحد في فرنسا والآخر في إنكلترا - فقد كان لكل منهما معرفة شخصية بالآخر، وذلك ليس لأن وليم جاء مرة لإنكلترا فقط كما تقدم الكلام في الفصل السابق، بل هارلود نفسه قدم نورماندي في أحد الأيام، وكان لقدومه هذا اعتبارات لا تخلو من الغرابة والتأمل فيما يبعث الفكر على الحيرة والاندهاش، وذلك أنه في أيام أبيه غودون حدثت مخاصمة بين غودون والملك إدوارد ، وآلت إلى حشد كل منهما قواته وإصلاء حرب عوان هلك فيها من الجانبين عدد كثير، وأخيرا تبين أن جانب غودون عزيز ومعداته الحربية لا تقاوم، وشوكته القوية لا تقوى حكومة إدوارد على كسرها وإخضاعها، وبعد مواقع مخيفة ومعارك هائلة بلت قسما كبيرا من البلاد بويلات حرب أهلية عقد بينهما صلح، على شرط أن غودون يبقى حاكما على أقسام معينة كان متوليا سيادتها منذ وقت طويل على طريقة إدارية يعترف فيها بسيادة الملك إدوارد عليه، وكان عليه لقاء ذلك أن يفرق عساكره المتجمعة، ويعد بعدم إشهاره حربا على الملك فيما بعد، ويحقق وفاءه بما وعد بتقديم كفلاء.
أما الكفلاء المقدمون في مثل تلك الأحوال فكانوا من الأنسباء والأقرباء والأصدقاء الأعزاء، وكان الغرض من تقديمهم - فيما يرى - أنه إذا أخلف من يقدمهم وعده للمقدمين له؛ فهذا يسوقهم إلى السجن ويسومهم أشد العذاب، أو يوردهم موارد الحتف بطرق تتنوع في تلطيف عقابهم وتعظيمه بالنسبة للبواعث الداعية إلى أسرهم عنده، وحسب درجة الغيظ الذي حرك سكونه في قلبه ثأر حقيقي أو وهمي، على أن هذه الطرف الخشنة من المعاهدات قد انتسخت الآن وبطلت بالكلية، وإن كان جبين هذا التمدن الحديث لم يخل من لطخها السود في أول نشأته وعهد حداثته، والذين كانوا ينتخبون كفلاء في ذلك العصر كانوا دائما صغارا حديثي السن حتى تكون صعوبة فصلهم عن أهلهم وأصدقائهم مؤلمة موجعة، وكانوا يستودعون من هم ألد الأعداء والخصوم لهم فينقطعون بهم إلى الأماكن الموحشة المنفردة تحت حراسة الغرباء، وهناك يقيمون مستمرين على إيجاس خوف إخلاف وعد، وخرق عهدة تبعث على التنكيل بهم، والإساءة إليهم.
وهكذا كانت الفظائع والجرائم المرتكبة ضد أولئك الأبرياء غاية الهول، حتى إنه حدث في إحدى المعارك بين الملك أشلرد وكانيوت، أن كانيوت لما أكره على الفرار من وجه أشرلد واضطر إلى طلب الشواطئ البحرية ليركب السفن طلبا للنجاة؛ عمد إلى بعض الكفلاء الذين كانوا مرهونين عنده من قبل الملك أشرلد، فقطع أيديهم وأرجلهم وجندلهم على رمال الشاطئ مخضبين بدماء قساوته الوحشية، نازعين من شدة آلام جريمته البربرية.
أما الكفيلان اللذان ذكر المؤرخون أن غودون أعطاهما للملك إدوارد، فكانا ابنه وحفيده واسماهما: النوث وهو أخو هارلود، وهاكيون وهو ابن أخيه، وإذ أشفق إدوارد من احتيال غودون على استرجاعهما إليه إذا أبقاهما في إنكلترا رأى أن يبعث بها إلى نورماندي، ويتركهما هناك تحت حراسة وليم، فلما مات غودون طلب ابنه هارلود من الملك تسليمهما بدعوى أنهما أخذا ضمانة على أبيه، وأبوه الآن لم يعد حيا، فلم يقدر إدوارد أن يرفض تسليمهما رفضا مطلقا، لكنه رأى إبقاءهما تحت سلطانه واجبا بداعي ما نظره من هارلود من التأهب والاستعداد لجمع القوات التي تمكنه من أن يخلف أباه في كل شيء، على أنه لم يجد مناسبا أن يعلن له رفض تسليمهما على الإطلاق، بل تعلل له أنهما في نورماندي وسوف يسعى جهده في إعداد الوسائل التي تمكنه من إحضارهما على جناح الراحة والأمان.
فعول هارلود أن يذهب بنفسه ويجيء بهما، وعرض رأيه هذا على إدوارد الذي لم يعارضه فيه حسب الظاهر، بل شحن جهده في أن يثني عزمه بذكر المخاطر والأهوال التي تتهدده في الإقدام على هذا السفر، وذكر له منها أن وليم النورماندي رجل غاية في الدهاء والشجاعة، فليس من الحكمة أن يخاطر بنفسه بالذهاب إليه ويتعرض لمصاعب بطشه وسطوته - والمقابلة في هذا الشأن بين هارلود والملك إدوارد مرسومة في مطرز بأيو الذي مر عليه الكلام في الفصل الخامس - ولم يعرف بالتحقيق أي تأثير أحدثه إنذار إدوارد لهارلود في هذا الشأن، بل حدث بعده أن هارلود اجتاز البوغاز الإنكليزي إلى نورماندي.
وقد تضاربت الروايات وتلونت الأحاديث المنقولة عن كيفية سفره هذا، فقد روى بعضهم أنه بينما كان يجول على التخم الإنكليزي من البوغاز مع عصبة من أتباعه وحواشيه طلبا للتنزه إذ هبت عليهم عاصفة شديدة قذفتهم إلى شمالي فرنسا، ويرجح أن هذه الرواية مجرد ادعاء فقط؛ لأن هارلود عقد نيته على الذهاب، ولكنه لم يشأ أن يفعله ظاهرا تفاديا من تغلظ خاطر إدوارد عليه ، فادعى أن الرياح ساقته إلى نورماندي مرغوما ضد إرادته، وفي كل الأحوال حدوث تلك العاصفة كان صحيحا، سواء كان سوقه بقوتها إلى الشطوط الفرنسية حقيقة أو ادعاء، فإنها حملته خارجا عن طريقه، وساقته في عرض البوغاز إلى شرقي نورماندي، وأخيرا ألقت بقاربه إلى الشاطئ بالقرب من مصب نهر سوم فكسرته، على أنه نجا إلى البر هو وأتباعه، وثم وجدوا أنفسهم في حكم أمير يتولى تلك التخوم يدعى الأمير غوي، ولقبه الكونت دي بونتيي.
ومن شريعة تلك الأيام أن السفن المنكسرة تصبح ملك حاكم البلاد التي انكسرت على شواطئها، وليست السفن وبضائعها فقط، بل إن جميع من فيها يصيرون عرضة القبض والأسر حتى يقدموا فدية عن نفوسهم، فهارلود إذ كان عالما بهذا اجتهد في أن يخفي أمره ويسير حتى يبلغ نورماندي، وإذا بصياد رآه من لباسه وهيئة منظره والمعاملة الخصوصية التي كان أتباعه يعاملونه بها تحقق أنه رجل عظيم القدر والمكانة في وطنه، فذهب إلى الكونت مسرعا وقص عليه الخبر قائلا: «هبني جائزة فأدلك على رجل يساوي مائة ضعف» فانحدر الكونت بحاميته إلى الشطوط وألقى القبض على أولئك المنكودي الحظ، واستولى على كل ما سلم من الأمواج من أمتعتهم وأشيائهم، وجاء بهم إلى قلعته في أبفيل، وهناك أغلق عليهم إلى أن يقدموا له فدية عن نفوسهم.
فاحتج هارلود ضد هذه المعاملة من وجه أنه قادم إلى حاكم نورماندي بأمر ذي شأن من عند ملك إنكلترا، وليس في إمكانه أن يعاق عن إتمامه، فلم يسمع له الكونت كلاما بهذا الموضوع، بل ظل مصرا على حبسه أو يقدم الفدية، فأنفذ هارلود بلاغا إلى وليم، به يعرفه بنفسه ويطلب إليه إنقاذه، فأرسل وليم إلى الكونت يستدعي إطلاق الأسرى، وكل ذلك بعثه على أن يتمكن في عزم عدم عتقهم، وتعظيم قيمة الفدية التي يتوقعها لأجلهم، ولم يزل عاملا على ضبطهم وعدم تخلية سبيلهم حتى افتداهم وليم بمبلغ عظيم من الدراهم، وإضافة إقليم جديد إلى أملاك الأمير غوي، وإذ ذاك أطلق سراح هارلود ورجاله، وجيء بهم إلى مدينة روان بسلام، حيث استقبلهم وليم بمزيد التجلة والإكرام، وأنزلهم في قلعته ضيوفا مأهولا بهم ما شاء الله من الأيام، وأعد لهم المآدب والولائم، وجعل كل أيام نزولهم عليه أعيادا ومواسم وقال لهارلود: إن رجوعه إلى إنكلترا موقوف على إرادته، وأمر الكفيلين أخيه وابن أخيه اللذين جاء يطلبهما منوط بإشارته، على أن سأله أن لا يعجل في العود إلى بلاده، بل يلبث عنده مدة ريثما يتمكن بإتمامه من إكرام مراده، فأجابه هارلود عليه، وبالغ في الشكر له والثناء عليه.
ومما لا يغرب عن ذهن المطالع أن هذه المظاهر الاحتفائية والمجالي الإكرامية التي أقامها وليم لضيوفه بملء الفرح والسرور بنيت على أنه اتفق له أن يصادف في بلاده أكبر المناظرين له والمزاحمين في الاستيلاء على العرش الإنكليزي، وقد أتيح له بهذه الوسائل أن يكبر عليه أمره، وينزع منه أفكار المناظرة والمباراة، وبالتالي يجعله من أكبر مظاهريه ومناصريه؛ ولذلك أفرغ كنانة جهده في توفير ذرائع سروره وانشراحه في هذه الزيارة، وطفق يعرض عليه موارد غنى البلاد ومصادر خيراتها، وشرع يطوف به متنقلا من مكان إلى آخر، مستعرضا عليه المدن والقلاع والحصون والأديرة، وأخيرا هيأ موكبا عسكريا وطلب منه أن يركبه فيه برفقته لزيارة بلاد بريتاني، فسر هارلود مما صادفه من عظمة الاحتفال وبديع المناظر التي شاهدها، وهكذا أتباعه، فلم يكونوا أقل منه سرورا لا سيما وقد أنعم على كثيرين منهم بألقاب الشرف، وأكثر من منحهم الخيول المطهمة والرايات الفاخرة والأسلحة المتقنة وغيرها من الهبات والعطايا النفيسة، بحيث استمال قلوبهم إليه، وجعل أفكارهم بكليتها متجهة نحو شكره والثناء عليه، واستولى على إرادتهم حتى غادرهم من أغنى الرجال لديه.
وكانت بريتاني المقصودة على تخوم نورماندي الغربية، فاجتاز وليم إليها بضيوفه في عرض البلاد النورماندية على غاية الأبهة والجلال، وكان مع هارلود في غضون تلك المدة بكمال الصداقة والمودة، فكانا ينامان في خيمة واحدة، ويأكلان على مائدة واحدة، وكثيرا ما ظهر في أثناء ذلك من هارلود من آيات البراعة في الفروسة ومخايل الشجاعة في حوادث مختلفة عرضت لهم في بريتاني، وكل ذلك زاد وليم رغبة في استمالته إليه، واكتساب قوة الاستناد عليه، وإلا فعلى الأقل تجنب معاداته ومناظرته، وفي رجوعهما إلى نورماندي وجد أنه قد حان وقت شروعه في إخراج مقاصده من حيز القوة إلى دائرة الفعل، وعليه عول على مطارحة هارلود الكلام في شأن رغائبه، وطلب مساعدته في إنفاذها.
ويروي المؤرخون أن وليم كاشفه الأمر يوم كانا راجعين من تطوافهما، بعدما أخذا في الطريق بأطراف الأحاديث المستطيلة على التبادل عن أنواع الحروب، وضروب الحصار، وطرق النجاة، وغير ذلك مما يتعلق بذكر المواقع التي يقدم عليها الأبطال، والتي كانت موضوع المحادثة في ذلك العهد، حتى إذا شعر بأنه أحسن التوطئة والتمهيد للدخول في ذلك الحديث ذي الشجون انتقل بأسلوب لطيف إلى الإفاضة في موضوع العرش الإنكليزي ووشك موت صاحب تاجه، وعندها أخبره بالمعاهدة التي بينه وبين الملك إدوارد الذي وعده بأن يكون خليفة له من بعده، وصرح له فوق ذلك بأنه متكل على مساعدته في تسهيل التربع على دست المملكة، وله منه على هذه المساعدة أعظم جائزة وأكبر إكرام، وزاد على ذلك قوله له: إن المناظر الوحيد هو الولد إدغر، وليس له من قوة أو عصبة تشد أزره وتلبي طلب الحصول على حقه، وعليه فالقوات الحربية والمعدات العسكرية هي في يديهما وحدهما، وكلاهما إن اتحدا معا يستطيعان الاستيلاء على تخت إنكلترا إن أرادا.
فأصغى هارلود إلى هذه الاعتبارات متظاهرا بلذة استماعها، ومتلبسا بمسرة الوقوف عليها، وقد كان بالحقيقة ملتذا بها، ولكنه لم يكن مسرورا؛ لأنه أراد تخليص الملك لنفسه، ولم يكن يقنعه الحصول على قسم منه مهما كان عظيما وكبيرا، على أنه تحرز جهده من إعلان عدم مسرته، وادعى الموافقة لوليم في مرتآه، واعترف برغبته السديدة في ممالأته عليه، وجاهر في استعداده لأجل تحقيق القول بالفعل، فعظم في عيني وليم نجاحه في مسعاه، وسر سرورا لا مزيد عليه في توفيقه إلى بغيته، حسب اعتقاده، أما هارلود فعول في الداخل على الإسراع في الرجوع إلى إنكلترا؛ ليسعى في ارتياد الذرائع وتطلب الوجوه التي تمهد له الجلوس على العرش الإنكليزي بنفسه دون اعتبار للمواعيد التي وعد بها وليم.
على أن وليم لم يكن لتكفيه المواعيد وترضيه العهود المجردة، وللحال شرع في تهيئة ما يمكنه من إرغام هارلود على إنفاذها، وذلك بأن دبر الطرق المصطلح عليها في تلك الأيام لأجل ضمانة الوفاء بالعهود المقطوعة بين الأمراء، وكانت ثلاثا: مبادلة الزيجة، وتقديم الكفلاء، والأقسام العظيمة.
فارتأى وليم للأولى عقد زيجتين تمكينا للاتحاد المنوي بينه وبين هارلود، وذلك بأن يعطي هارلود إحدى بناته لوليم، ووليم يزوجها واحدا من كبراء قومه، فتكون تحت سلطته معتبرة كرهن أو كفالة إلا بالاسم، وهذا قبل به هارلود، والعقد الثاني كان بين ابنة وليم وهارلود نفسه.
ولكن إذ كانت تلك الابنة بعد ولد لا تتجاوز السبع سنين اتفق على خطبتها فقط، وهذا صدق عليه هارلود أيضا، واحتفل للحال بوضع عربون للحال بحضور جم غفير من الأعيان على مزيد البهرجة والاحتفاء كأنها زفاف حقيقي، وكان اسم الخطيبة إدلا.
ومن خصوص الكفلاء فقد عول وليم على أن يبقي عنده واحدا من الاثنين اللذين يذكر القارئ مجيء هارلود إلى نورماندي لأجل أخذهما، فقال له وليم: يرجع بابن أخيه هاكيون، وأما أخوه النوث فينبغي أن يبقى إلى حين يقدم وليم على إنكلترا لاستلام الملك فيحضره معه.
فساء هارلود أن يترك أخاه هكذا تحت سلطة وليم، ولكنه إذ كان موقنا أن إجازة الرجوع له نفسه تتوقف على عدم إبدائه أدنى معارضة يوجس منها وليم أقل ريب فيه قبل مكرها، وسلم ببقاء أخيه النوث أيضا.
وفي الختام عقد وليم مشهدا حافلا بأعظم الأمراء والسادة والأعيان، وأشار إلى هارلود أن يقسم على مرأى ومسمع منهم باليمين المعظمة أنه يقيم بوعده ويبر بعهده، فامتثل هارلود إشارته عادا نفسه مضطرا لذلك غير مختار، وأنه في قبضة وليم، فكل ما يفقده يكون فقط عبارة عن وسيلة التخلص من الإكراه، والعود إلى الحرية المطلقة، وبالنتيجة فأقسامه باطلة فارغة، وعليه عزم أن يتمم كلما يفرضه وليم .
وبموجبه أقيمت حفلة عظيمة، وفي الوسط وضعت منصة مغطاة بملاءة ذهبية يعلوها كتاب خدمة الكنيسة الكاثوليكية (الميسال) مكتوبا بمزيد الإتقان على رق، ثم فتح هذا الكتاب فصل من الأناجيل التي وهي قسم من الكتب المقدسة كانت تعتبر في تلك الأعاصير أن لها قوة فائقة العادة على إكساب القسم هيبة القداسة.
فاعترى هارلود شيء من الريب حينما تقدم إلى بهرة ذلك المنتدى الحافل بالكبراء والعظماء؛ ليعيد وعوده لوليم على مسامعهم أمام الله، ويعرض نفسه لمسئولية النكث بها التي أقل ما فيها مجازاته بلعنات القادر على كل شيء، ومهما يكن من إيجاسه وارتيابه فلم يعد في استطاعته العدول والانسحاب، فدنا من كتاب الصلاة المفتوح، ووضع يده عليه، وأقسم أنه يقوم بالأشياء الثلاثة المطلوبة التي أملاها عليه وليم من على سريره وهي: أولا: أن يبذل غاية جهده في مساعدة وليم على تولي العرش الإنكليزي، وثانيا: أن يقترن بابنة وليم إدالا حالما تبلغ سن الزواج، وثالثا: أن يرسل ابنته من إنكلترا إلى نورماندي لكي تزف إلى واحد من أشرافها.
وبعد الفراغ منها أمر وليم فرفع الكتاب والغطاء الذهبي، وإذا على المنصة سفط (صندوق صغير) يحتوي على ذخائر مقدسة - كان وليم قد جمعها سرا من الأديرة والصوامع في بلاده إلى هذا المخبأ خفية عن هارلود؛ لكي يضاف تأثيرها الرهيب إلى فعل فصول الإنجيل الشريف التي في كتاب الخدمة (ميسال)، وهذه الذخائر كانت بقايا عظام محفوظة على زعم الرهبان من رسل المسيح وقطعا خشبية صغيرة باقية من صليب يسوع أو من إكليله الشوكي، وقد ذخرت هذه الأشياء بمزيد التجلة والتكريم في خزائن الأديرة والكنائس في هاتيك الأيام، وكان لها عندهم من الاحترام والخوف ما يكاد يشب عنه طوق إدراكنا - فأجفل هارلود حينما رأى أنه فعل ما قد فعل بجهل.
وقد هاله مجرد الافتكار بأن مسئولية ما أقسم به هي أعظم بما لا يقاس مما ظنه قبل الإقسام فندم، ولكن لات ساعة مندم، وبعد ذلك ارفضت الحفلة وطفق هارلود يتأهب لمبارحة نورماندي، ووليم يظن أنه قد امتلك قلبه، واستولى على قوة إرغامه للقيام بجميع ما وعد به، ولما أزف وقت رحيله رافقه وليم إلى شاطئ البحر، وهناك شيعه بما يفوق الوصف من الإكرام، وبالغ في تزويده بالهدايا، وهكذا أقلع هارلود من نورماندي وجاء إنكلترا بسلام، ومن ساعته قام يجهز القوات، ويعد الرجال تهيئا للجلوس على العرش بنفسه، فجمع الفرق وحشد الأسلحة والمعدات الحربية، وفعل كل ما من شأنه أن يستميل إليه الأمراء والأشراف، وحاول أيضا استمالة نفس الملك إدوارد نحوه، واجتهد إقناعه بخذل وليم، فالملك إدوارد إذ كان قد أصبح الآن شيخا عاجزا كليل النظر والقوى، وأمسى الباقي في أفكاره مشغولا بالفروض الدينية، أو مشوشا بذهول هرم حال دون افتكاره بما ستصير إليه حالة الملك بعده لم يعد يبالي سواء استولى هارلود أو وليم على العرش بأكثر من أن المالك منهما يسمح له أن يموت بسلام.
وكان قبل هذا الوقت قد عزم على زيارة أورشليم، لكنه عاد أخيرا وطلب من البابا أن يسمح له لقاء هذه الزيارة ببناء كنيسة باسم القديس بولس غربي لندن على بعد بضعة أميال منها، وقد دعيت فيما بعد ذلك باسم وستمنستر تمييزا لها عن كنيسة منستر التي بنيت قبلها في وسط لندن باسم القديس بطرس، وتلك قد بنيت في ذات البقعة التي فيها الآن دير وستمنستر، وتم بناؤها في نفس الوقت الذي جرت فيه حوادث هذه المدة من تاريخنا هذا.
وأخذ الملك إدوارد يستعد لتدشينها، فدعا الجم الغفير من الأساقفة وأصحاب الرتب العالية في الكهنوت من جميع أنحاء البلاد، ولكنه قبل الشروع في التدشين أصيب بغتة بمرض، فحمل إلى غرفة في قلعته حيث انطرح متقلبا على فراش الضنى والوجع وهو يراجع بين اليقظة والغيبة آيات كتابية تهديدية كانت تخامر أفكاره، وقد كان في غاية التلهف على إجراء التدشين، فصار الإسراع فيه ليتمجد بإتمامه قبل موته، وفي اليوم التالي كان في غاية التهور والانحطاط. أما هارلود وأصحابه فكانوا بمزيد الاشتياق ليسمعوا هذا الملك المفارق يعلن ميله إليهم قبل وفاته، حتى إن مجيئهم وذهابهم ولغاطهم وضوضاء العساكر وصخب الجنود أزعجته وكدرت صفاء آخر ساعة من حياته، فأرسل إليهم أن ينتخبوا من أرادوا ملكا أو دوقا أو أميرا فلا فرق عنده، وهكذا قضى نحبه.
وإذ كان هارلود قد أحكم التدبير، وأتقن التأهب والاستعداد مال إليه عظماء المملكة وبايعوه في الحال، وكان إدغر حينئذ في قصر الملك إدوارد، ولكنه كان أصغر من أن يقوم ويطلب حقوقه الإرثية، وبالواقع كان غريبا وإن كان معدودا من سلالة الملك الإنكليزي؛ لأنه تربى خارج إنكلترا ولم يكن يستطيع حتى التكلم بالإنكليزي؛ ولذلك قبل غير متشك بهذه المظاهر حتى إنه شاهد بنفسه تتويج هارلود الذي احتفل فيه بعد موت الملك إدوارد بقليل في كنيسة القديس بولس في لندن، أما هارلود فأجازه في الحال على هذا الرضى وعدم المقاومة بشرف لقب أمير، بعد التتويج وقبل الخروج من الكنيسة، وقد منح أيضا ألقابا ورتبا لكثيرين من أهل الطمع في الوجاهة والشهرة الذين أراد استمالتهم إليه، وهكذا تراءى له أنه وطد أركان ملكه، وثبت دعائم سلطته، وكان قبل ذلك قد اقترن بأميرة إنكليزية أغنى الوريثات في ذلك العهد وشقيقة أعظم أميرين في المملكة، فهذا الزواج عظم نفوذه في إنكلترا، ومهد له الوصول إلى مبتغاه، على أن أنباء تملكه التي كانت ولا ريب قد بلغت مسامع وليم في نورماندي؛ جعلت هذا يتوقع من نكث هارلود بإحدى العهدات الثلاث نكثا بالعهدتين الباقيتين.
الفصل الثامن
التأهبات
وكان الرسول الذي جاء وليم بخبر ارتقاء هارلود إلى العرش رجلا يدعى توستغ، وهو أخو هارلود نفسه، فإنه مع كونه أخا له كان ألد أعدائه، وقلما يكون الإخوة أصدقاء في البيوت التي فيها تاج سلطة يتنازعونه، وعرش سيادة يتسابقون إليه، ومعلوم أنه لم يكن في تلك الأيام وسائل عمومية تؤدي الأنباء وتنقل الأخبار، وعليه فتوستغ علم بموت إدوارد وتتويج هارلود بواسطة رقباء أقامهم في أماكن معينة على التخوم بداعي تغيبه وقتئذ عن لندن، فلما بلغه الخبر قام يجد السير إلى روان ليقص على وليم ما جرى، ويغريه على القيام ضد أخيه ، وعندما وصل روان كان وليم في بقعة بظاهر المدينة يجرب قوسا مصنوعة له جديدا، وليس بخاف أن وليم كان رجلا كبير الجسم قوي العضلات، حتى إنه كان مشهورا بسهولة استطاعته على حمل قوس لا يقدر أحد غيره أن يحنيها، وقد كان قسم من هذه الشهرة عائدا إلى ضروب الإطراء والتبجيل التي كان يرى أهل البلاط الملوكي استعمالها نحو الملوك من باب التحرز والدهاء.
على أنه بغض النظر عن ذلك كان وليم في غاية الاستحقاق لأن يمدح على حذاقته العقلية، وقوته الجسدية، ومهارته في استعمال القسي، وهذه التي كان يجربها عندئذ كانت مصنوعة بمنتهى المرونة والقوة، وقد خرج بقواده إلى تلك البقعة لكي يمتحن قوتها ويختبر فعلها، فتآثره توستغ إلى هناك، وقص عليه الأخبار، فتأثر وليم من استماعها تأثرا بليغا حتى سقط سهم قوسه إلى الأرض، فأعطى في الحال القوس إلى أحد الأتباع وقد عبث به الذهول، فلبث برهة لا ينبس بحوجاء ولا لوجاء ويده تعقد شريطة على مقدم صدره وتحلها مدة تلك الغيبوبة، حتى استفاق وأخذ يسير الهوينا راجعا إلى المدينة، فتعقبه رجاله وكأن على رءوسهم الطير منذهلين وقائلين في نفوسهم: ماذا عسى أن تكون تلك الأخبار التي بعثته على هذا الذهول، وحملته على تأثير شديد كهذا؟
أما وليم فسار حتى دخل قلعته، وطفق يخطر في عرصتها ذهابا وإيابا ردحا من الزمان مدفوعا بعنف هياج عظيم للتأمل والافتكار، ورجاله واقفون صامتين لا يجسرون أن يكلموه حتى شاعت بين ظهرانيهم أنباء ذهوله، وأخذوا يضربون في استطلاعها أخماسا لأسداس حتى جاء القلعة أحد كبراء القواد المقدمين عند وليم، وكان يدعى فتزسبورن، وفي دخوله اعترضه على الأبواب وفي المداخل الذين كانوا جالسين هناك واستكشفوه حقيقة الأمر، علما منهم بأنه خبير بما توقع نظرا لما له عند وليم من المكانة في الثقة والاعتبار، فأجابهم: «لا أعلم شيئا بعد لكني سأعلم عن قريب» ولما دنا من وليم خاطبه: «لماذا تخفي عنا الأخبار؟ فقد شاع في المدينة أن ملك إنكلترا توفي وهارلود حنث بأقسامه لك واغتصب الملك لنفسه، أفليس ذلك صحيحا؟»
وعندها قص عليه وليم الخبر وأوقفه على بواعث غيظه وكدره، فأشار عليه فتزسبورن بأن يملك روحه، ولا يدع هكذا حوادث تروع عزمه، وتصغر نفسه، وزاد عليه قوله: «أما من جهة موت إدوارد فتلك حادثة مضت، وليس في الاستطاعة رد فائت كهذا، وأما من خصوص اغتصاب هارلود وخيانته فذلك داء سهل عليك علاجه، فحق الملك إنما هو لك، وعندك العساكر التي تقدرك على تحصيله، فأقدم عليه ثابت الجنان، ونصرك مكفول بإذن الله وعليه التكلان».
فأخذ وليم يجيل هذا الأمر في دائرة فكره، ويقلب فيه نظر التدبر والاستبصار ريثما حدة الغيظ قد انكسرت، وعادت أفكاره إلى مضاجع الراحة والسكون، فارتأى أن يعقد مجلسا من العظماء والكبراء، ويطرح لديهم هذه المسألة ليس بقصد استشارتهم والعمل بمقتضى آرائهم، بل لكي يستميلهم إلى التصديق على الخطة التي عزم على انتهاجها، ويدعوهم إلى العمل معا بجد وصدق، وكان من نتيجة ذلك المؤتمر المرءوس بوليم ذاته أن ينفذ رسول إلى هارلود يتنجزه العهود، ويتقاضاه الوعود، وبموجبه سار الرسول حتى جاء لندن وأطلع هارلود على الأمور التي استقدم ليخابره بها، وكانت كما يذكر القارئ ثلاثة - أن يرسل هارلود ابنته إلى نورماندي لتزف إلى أحد قواد وليم، وأن يتزوج هو ذاته ابنة وليم، وأن يمهد لوليم طريق الجلوس على العرش الإنكليزي - ثم ذكره بالطريقة الرهيبة التي ارتبط بها ما وعد به - بالأقسام التي حلف بها أمام أقدس ذخائر الكنيسة وأعظم حفلة مشهورة - فأجاب هارلود:
أولا:
من جهة إرسال ابنته لكي تزف إلى أحد قواد وليم، فذلك لم يستطعه بداعي وفاة ابنته، ولا يظن أن وليم يرغب في إرسال جثتها إليه.
ثانيا:
من خصوص تزوجه بابنة وليم التي خطبها في نورماندي، فقد ساءه أن هذا أيضا كان فوق طوره من وجه أنه لم يقدر على الاقتران بزوجة غريبة بدون رضى شعبه، وفضلا عن ذلك قد تزوج أميرة سكسونية من مملكته.
ثالثا:
من جهة العرش الإنكليزي، فلم يكن متوقفا عليه أمر تعيين خلف لإدوارد، بل على مشيئة إدوارد ذاته وشعب إنكلترا، فأمراء الإنكليز وأشرافهم أجمعوا هم وإدوارد على أنه «هارلود» هو ملكهم الشرعي إفيرفس مناخس ويقاوم هذا الإجماع العام، وفوق كل ذلك كان يود أن ينفذ رغائب وليم ويقوم بإنجاز مواعيده له لو أمكنه ذلك، ولكنه قد وعده بشيء ليس له ولا يقدر أن يعطيه إياه.
رابعا:
من خصوص أقسامه، فمع أنه أجراها أمام الذخائر المقدسة الموضوعة تحت الغطاء الذهبي، يعتبر أنها عديمة التأثير من وجه أنه كان مضطرا إليها اضطرارا، ومتخذا إتمامها وسيلة للهرب من نورماندي، والمواعيد والأقسام التي تدعو إليها الضرورة تعد فارغة باطلة.
فرجع الرسول بهذه الأجوبة إلى نورماندي، وشرع وليم يتأهب للحرب، وأول خطوة قدرها لأجله في هذا السبيل كانت دعوته لأخلص أصدقائه واستشارتهم في هذا الأمر، وبعد المداولة والمباحثة أخلصوه الرأي في الحمل على إنكلترا واعدين بعضده وشد أزره، وبذل غاية جهدهم في تحقيق فوزه ونصره.
وفي الخطوة الثانية عقد مجلس شورى من جميع كبراء الدول وأشرافها ومشاهيرها ونواب المقاطعات ومشايخ المدن؛ للبحث فيما إذا كانت البلاد تقوى على تحمل زيادة الضرائب تحصيلا للأموال المحتاج إليها في هذه الحملة، فإن وليم وإن كان كحاكم مطلق له حق التعويل على مهاجمة إنكلترا، وله استطاعة على حشد الرجال بداعي ارتباط كل أمير مقاطعة تحت يده بوجوب تلبيته بالمال والرجال، ففي حملة عظيمة كهذه كانت الاحتياجات أكثر جدا من المعتاد في تلك الأيام، ولم تكن القوانين الدولية في الأجيال المتوسطة لتساعد على سد نفقات كهذه بوجه مقبول متساو، فلم يكن للحكومات حينئذ قوة على ضرب المكوس كما في هذه الأيام، حتى إنه إلى الآن تجمع الضرائب في فرنسا وإنكلترا على سبيل إحسان من الشعب إلى الحكومة، ولم يكن في أيام وليم وزير المالية لينشئ قرضا ويرتب له ضمانات، فغاية ما كان في ذلك العهد من هذا القبيل استناد الحاكم في نفقاته على مداخيل بلاده ووارداتها الطفيفة.
أما وليم فرأى أنه في هذه الحملة يعوزه بناء السفن وتجهيز الأسلحة والذخائر والمؤن، وكل ذلك يتطلب أموالا جزيلة، فمن أين يحصل على تلك الأموال؟ فأشكل على أولئك المندوبين البحث في هذا الأمر ومتعلقاته، وانتهوا إلى الاختلاف والشقاق في الآراء، فأهل الراحة والسكينة والصناع والتجار الذين كانوا لا يهتمون بسوى الاستمرار على مباشرة أعمالهم بالأمن والسلام رفضوا هذا المشروع رفضا مطلقا، وحسبوا ضربا من الخرق والحماقة أن يكونوا مطالبين بالإسعاف مما تكسبه أيديهم أخذا بناصر حاكمهم، وتقويته على الخروج بحملة محفوفة بالمخاطر مجهولة العواقب لا تجديهم على فرض تحقق نجاحها أدنى نفع، وقد وافقهم على هذا الرفض كثيرون من الأمراء الذين رجحوا نهايتها بالفشل والخيبة، وأنكروا كون ارتباطهم بتلبية حاكمهم بالرجال يفرض عليهم إطاعته إلى حد مظافرته خارج البلاد، وعبر البحر ذهابا وراء مطالبته في عرش مملكة أخرى.
أما الباقون فكانوا بالعكس مستحسنين هذا المشروع كل الاستحسان، ومصوبين الخروج على إنكلترا، فكانوا أثبت قلوبا وأوفر حمية وإقداما، أو لربما كانت مراكزهم وأحوالهم الراهنة تخولهم الانتفاع من نجاح هذه الحملة أكثر من أولئك، وتصغر في عيونهم الخوف من خطر سقوطها، وهكذا انقسمت الآراء وتضاربت الأفكار، وإذ إن القوانين الموضوعة في هذه الأيام لرفع التشويش وحفظ النظام حين مجاذبة أطراف الجدال في مجلس الأمة لم تكن بعد قد وضعت في ذلك العهد، كنت ترى مجلس أولئك النورمانديين غاصا بالجلبة واللغاط، وحافلا بالضوضاء والعياط، والأعضاء يروحون في عرضه ويجيئون، ويقومون في طوله ويقعدون وهم جماهير متفرقة، وأحزاب مختلفة لكل حزب منهم زعيم قائم فيهم على اجتهاد في حشد السامعين حوله؛ ليخطب عليهم.
وأهدأ قوم في ذلك المحفل كانوا أطفر من الجنادب جائلين من عند خطيب إلى آخر، منساقين بقوة حدة الخطباء وفصاحتهم، ومجذوبين بمغناطيس استحسانهم للآراء التي يسمعون أولئك الخطباء يجاهرن فيها، وبالجملة كان منظر ذلك المجلس أشبه شيء بالمجالس التي كانت تعقد في أميركا أيام الثورات، وقبل تقييدها بنظامات ورؤساء.
أما فتزسبورن صديق وليم الأمين ومستشاره الخاص الذي مر الكلام على أنه كان الرجل الوحيد الذي أقدم على مكاشفة وليم خبر موت إدوارد وتملك هارلود، فإذ رأى أن استصواب هذه الحملة وتخطئتها ليسا من متعلقات ذلك الاجتماع؛ أسرع إلى وليم وأشار عليه بفض المجلس وترتيب ما يراه بعد ذلك موافقا على انفراد، وتعهد له بتجهيز أربعين سفينة برجالها وأسلحتها وذخائرها، وعرض عليه أن يدعو كلا من أولئك الأعضاء والنواب ويسأله على انفراد: ماذا يروم هو أن يفعل؟
فاستصوب وليم رأيه هذا وعمل بموجبه، وصادف نجاحا غريبا، فإن الذين دعوا أولا وعدوا بمساعدات وتقادم عظيمة، وفي الحال صار تسجيل وعودهم والإشهاد عليها، وكل من جاء بعدهم كان يغار ممن سبقه وتهزه الأريحية لإظهار كثير من الغيرة والكرم، وفي كل ذلك كان وليم يقتبل هذه التبرعات بمزيد الممنونية وجزيل الشكر، مبالغا في معاملة أولئك المتبرعين بما لا يوصف من المؤانسة والملاطفة، وله في هذه المجاملات ضروب تحيل، وأساليب دهاء تحداها تذرعا لموالاة كبراء بلاده، واستمالة عظمائها تذليلا لرقاب المصاعب في طريق فوزه ونجاحه.
وبكلمة نقول: إن جزر تلك المصاعب التي تهددت الحمل على إنكلترا أعقبه مد تسهيلات فاض بالإسعافات، وتدفق بالمساعدات؛ فإن الأمراء والأشراف تبرعوا بالوعد بالرجال والمال والمراكب والأسلحة والذخائر، وبالاختصار بكل شيء احتيج إليه، وعند الفراغ من تقييد ما تبرع به أمير كل مقاطعة، وجد وليم بمزيد الاندهاش أن كل لوازمه صارت مقضية، فبقي عليه خطوة ثالثة مهمة في هذا المشروع، ألا وهي استحصال رخصة البابا؛ لأنه توقع من استمالة حبر رومية الأعظم إليه في هذا الأمر نفعا عظيما لا يقدر، وبناء عليه سير من قبله إلى رومية لنفرنك - ذات الرسول الذي نجح منذ سنتين في تثبيت شرعية زواج وليم ومتيلدا لدى البابا - وأمره أن يطرح المسألة أمام كرسي قداسته، ويتوسل إليه أن يصرح بعدالة تسمية وليم ملك إنكلترا، ويعلن له إجازة الاستيلاء على عرشها بقوة السلاح.
وقد نجح لنفرنك هذه المرة أيضا، فإن البابا بعدما فحص دعوى وليم حكم بحقانيتها، وصرح بتسمية وليم ملك إنكلترا، وأمر بإصدار إجازة «منشور» له في ذلك، وعليه صدرت الإجازة غاية في الإتقان معلمة بالصليب على جاري العادة البابوية، ومختومة بختم مستدير من رصاص .
ولم يكن بالأمر الغريب أن البابا نظر بعين الاستحسان إلى دعوى وليم، وأظهر أشد الارتياح إلى نجاحها؛ إذ لم يكن ريب في أن تربع وليم على سرير الملك الإنكليزي كان أفيد للكنيسة من تربع هارلود، من وجه أن وليم باستيلائه على إنكلترا يمكن فيها سلطة كنيسة رومية، ويجعل قدم نفوذها راسخة في سائر أطرافها؛ لأنه كان في غاية الخضوع للسدة البابوية كما وضح من تصرفه في مشكل زيجته، وكان هو وامرأته متيلدا يميلان كل الميل إلى نجاح وتقدم الأديرة والكنائس والصوامع وسائر الأمور الدينية، ناهيك عن أن تصرفه هذه المرة في إرساله لنفرنك لكي يبسط دعواه لدى كرسيها، بينما هارلود لم يفعل أقل شيء من مثل ذلك كان يدل دلالة بينة على شدة احترامه لسيادة الكنيسة، ويرجح لمتوليها (البابا) أنه (أي وليم) سيكون في مدة جلوسه على العرش - إذا توفق إليه - ابنا صادقا لها، ويبرهن طاعته وخضوعه لأوامرها المقدسة بالسعي في رفع شأنها، وتعزيز كلمتها، بخلاف مناظره هارلود.
وعلى ذلك ما لبث البابا وكرادلته أن حقوا دعوى وليم، وأقاموا مطالبه، فأرسل له الحبر الأعظم فوق إجازة الاستيلاء على إنكلترا راية وخاتما، أما الراية فكانت مصنوعة بكل إتقان وإحكام، على أن قيمتها لم تنحصر في زخرفتها وكلفتها، بل بالبركة الفائقة التي تضمنتها من قبل قداسة مرسليها، وأما الخاتم فكان من ذهب وفيه الماسة عظيمة الثمن، على أن كلا الذهب والماس الذين فيه كانا فقط عبارة عن وسيلة لحفظ وإكرام شيء أثمن منهما وأكرم، وهذا الكنز المذخور كان شعرة من رأس بطرس الرسول - ذخيرة مقدسة ذات اعتبار عجيب، وثمن لا يقدر غريب.
ولما جيء بالإجازة «المنشور» والراية والخاتم إلى نورماندي كان لها وقع عظيم عمومي؛ لأن التصديق على هذه الحملة بقوة كهذه سامية من رأس الكنيسة الذي أكثر الناس ينظرون إليه بملء التجلة والاحترام، كان كختم على حق الشروع فيها، وتوقع الظفر والانتصار، وعندها لم تبق من صعوبة في إعداد الرجال وذخر المال، والتأهب للحرب والقتال، وقد أصبح كل لهفان متعطشا لمقاسمة المجد وكسب أحسن الجزاء.
ولما رأى وليم الأمور مطردة مجرى النجاح والتحسين أنفذ بلاغا إلى الزعماء والمقدمين في المقاطعات حوالي نورماندي، به يدعو الأمراء والعساكر وجميع أصحاب الإقدام من كل درجة إلى الاتحاد معه، والانضمام إليه، وهذا أحدث تيقظا وانتباها عموميين، فتسابق إلى خدمته كثيرون من أهل الجراءة والبسالة، وانهالت عليه موارد الرجال والخيول والإسعافات انهيال الأمطار، وأصبح حديث مهاجمة إنكلترا والاشتراك في الحملة عليها ملء أفواه الجميع، وشغلا شاغلا عند الرفيع والوضيع، وسالت الطرق والشوارع بالأمراء والجنود، بعضهم فرسان منفردون، وبعضهم جماعات كبيرة أو صغيرة، قادمون إلى نورماندي لعرض الخدمة والتطوع لأجل هذه المهمة.
كل ذلك ووليم يقتبل الجميع بمزيد الترحاب والتأهيل، ويعد الكل بالمكافأة الحسنى والخير الجزيل متى دخل إنكلترا وأصاب في محاربته هارلود غلبة ونصرا، فكان يعد هذا بالدراهم وذاك بالغنائم، وذلك بوظيفة لا يكون له فيها مزاحم، حتى نفس الكهنة وخدام الكنيسة، فقد وعد كلا منهم بمكافأة كريمة وجائزة نفيسة، وهؤلاء لم يقصروا في مقاسمة العوام المساعدة والاهتمام، فإن واحدا منهم أعد سفينة وسلحها بعشرين رجلا على شرط أن يسام مطرانا على أبرشية غنية في إنكلترا حينما يستوي وليم على عرشها.
وبينما كانت هذه الاستعدادات جارية على قدم وساق داخل البلاد كانت المين البحرية وسائر المدن على الشواطئ والتخوم النورماندية مظهرا لتأهبات بحرية حربية، فكنت ترى معامل السفن مشغولة ببناء المراكب والزوارق، بعضها لنقل الرجال، والبعض لحمل الذخائر والمون، وبعضها قوارب صغيرة لأجل قطع الأنهر وإخراج العساكر إلى البر على الشواطئ الصلخة (حيث الماء قليل)، وكذا الحدادون وصانعو الأسلحة كانوا منهمكين على الدوام في طبع البيض الحداد، ومد السمر المداد، وتهيئة سائر العدد الحربية كالخوذ والدروع، بينما كان عدد عديد من الرجال ينقلون على حيوانات النقل تلك المعدات من المعامل إلى السفن، وحالما فرغ وليم من هذه الإجراءات رأى أنه باق أمامه خطوة رابعة قبل الإقلاع إلى إنكلترا، وهي استشارة ملك فرنسا وطلب مساعدته، وكان اسمه حينئذ فيليب، فذهب إليه بنفسه، فوجده في قصره سنت جرمنس ، وهناك بعد تأدية فروض الخضوع والاحترام أطلعه على مقاصده، وطلب منه الاستحسان والإمداد واعدا إياه بأن يملك إنكلترا كما ملك نورماندي تحت سيادة حكومة فرنسا.
فلم يصوب فيليب هذا المشروع، وسأل وليم على من يترك إدارة دوكيته مدة غيابه للسعي وراء مملكة أخرى، وبعد الافتكار أجابه أنه مرزوق بحسن الحظ زوجة حكيمة، وشعبا أمينا، فيمكنه تسليم أمر الإدارة إليهم إلى حين رجوعه.
فظل فيليب مصرا على عدم استحسانه هذا العزم من وجه أنه مخيف ومخطر، ونصح لوليم بالعدول عنه والاقتناع بحالته الحاضرة، وفي النهاية عقد مجلس شورى وألقى مسألة وليم للبحث، وكان من خلاصة المداولة تخطئة وليم ورفض المساعدة له، أما وليم فودع فيليب وخرج بعدما قال له: «كان في عزمي أن أحكم على إنكلترا معترفا بسيادتك لو نلت منك عونا وإسعافا، وأما الآن فقد عدلت لأنك أبيت تلبيتي؛ لأني إنما أشعر بالمكافأة لأولئك الذين يساعدونني».
وعاد وليم إلى نورماندي حيث وجد أن الاستعدادات قد أخذ فيها مدة غيابه بوافر الغيرة والنشاط، ومن ثم شرع في تدبير الأمر الأخير الذي كان عليه أن يتناول الاهتمام به قبل خروجه على إنكلترا، وهو تعيين أمر الحكم في غيابه، فعول على وضع زمام القوة العالية في يدي زوجته، وعين في الوقت ذاته نخبة من مأموري الملكية والعسكرية على شكل مجلس نواب يساعدونها في تنفيذ الأحكام والمشورات والإفادات، ويدبرون تحت عنايتها مهام الحكومة، وهكذا دعيت إلى وظيفتها بلقب «نائبة دوك» بباهر التجلة والاحتفاء في مشهد حافل بكبراء البلاد، وفي ختام الحفلة قال لها وليم بعدما فوضها بالحكم والإدارة: «ولا تحرمينا من الانتفاع بصلواتك وصلوات كل سيدات محكمتك لكي ترافقنا بركة الله وتنجح مساعينا» وأرى أنه لم تعد لدينا ضرورة - كما في الماضي - تدعونا إلى اتهام وليم بالرياء والادعاء في اعترافه بالاتكال على العون الإلهي في الأهوال الشخصية والسياسية التي كان عازما على مباشرتها، ويرجح أنه كان يعتقد بإخلاص أن ميراث التاج الإنكليزي كان من جملة حقوقه، ومن الواجب عليه بذل القوة لأجل تحصيله ؛ ولذا أقدم على تتميم الاستعدادات بما لا مزيد عليه من العزم والهمة، حتى غادر البلاد كلها قائمة قاعدة بالتأهبات، وبينما كان الأهلون على مزيد الثقة بأن هذا المشروع قد صدق عليه بأمر سماوي إذا به قد تثبت بظهور غريب، وتجل عجيب حدث قبيل الإقلاع من الشواطئ النورماندية، وذلك بأن ظهر نجم مذنب
1
كبير معترض في عنان الجو له - حسب تقرير الراصدين - ذنبان، فاتخذه الناس دليلا ينبئ باتحاد نورماندي وإنكلترا مملكة مزدوجة تظهر للعالم بغاية المجد والبهاء.
هوامش
الفصل التاسع
اجتياز البوغاز
وأخيرا اجتمعت العمارة التي أعدت لاجتياز البوغاز بمهمات الحملة عند مصب نهر صغير يدعى ريف، وذلك في أواخر شهر أيلول سنة 1066، وتاريخ هذه الحادثة - غلبة النورمان - يتذكره جيدا طلبة علم التاريخ؛ إذ هو من جملة حوادث التاريخ الشهيرة، وكان لتألب العمارة في مصب ذلك النهر وحشد الجيوش على عرض شاطئه مظهر عظيم شديد التأثير، فالعمارة البحرية المؤلفة من السفن والبوارج والقوارب والزوارق المغشية وجه المياه، وصفوف الخيام الطويلة المضروبة تحت الكهوف على الشاطئ، وفرق الفرسان الغارقة بالفولاذ، وجموع العساكر المنهمكين بنقل الذخائر والمؤن والآخذين بالاستعدادات الأخيرة ذهابا وإيابا تأهبا للإقلاع، وجماهير الألوف من المتفرجين كانوا دائما يروحون ويجيئون، والدرك نفسه المستوي بعدة الكفاح على جواد الجلاد محاطا بالخفراء والضباط والقواد.
كل هذه وغيرها من المظاهر الباهية العظيمة التي يكثر تجليها في مثل هذه الظروف كانت باعثة للنظر على الانبهار بأنوار ذلك المشهد الحافل بالبهجة والبهاء والافتخار، ومعلوم أن جمع هذه القوات العظيمة من الرجال والمراكب، وإكمال ما يتبعها من الاستعدادات المتنوعة تهيئا للإقلاع كان قد استغرق وقتا ليس بقصير، حتى إذا تم كل شيء وكان ذلك في أواخر أيلول - كما مر الكلام - حان وقت نوء الاعتدال، وأصبح الإقلاع متعذرا؛ لأنه ما عتم أن توالى عصف الأرياح، وهياج الأنواء مصحوبة بالتغيرات الجوية مدة أسابيع عديدة، وقد تخلل هذه الأنواء فترات من الصحو انقشعت فيها الغيوم وظهرت أشعة الشمس، على أنها لم تكن كافية لأن تحل العمارة من قيود الانحصار، وتطلق لها سراح الإقلاع بداعي قصر مدتها، وعدم تمكن البحر فيها من الرجوع إلى حالة الهدوء والسكون؛ لأن تياراته المتعالية كانت تظل على عجيجها وهياجها متلاطمة متدافعة على الشاطئ، ومتساقطة على كثبان الرمل في مصب النهر محطمة السفن الواقفة في طريقها، والمعرضة لانكسارها، وكانت فترة الصحو لا تلبث أن تنقطع بهبوب الأرياح، وتعاظم الأنواء، وإنشاء السحب في عنان السماء، وإذ ذاك توقف السفن على مراسيها، وتلف شرعها، وتطوى أعلامها، وتدار من نحو المقدم إلى جهة العاصفة بوجه العبوسة والغضب، وينكفئ الناس على الشاطئ إلى الخيام، والمتفرجون يرجعون إلى بيوتهم ريثما وليم وضباطه يبقون يراقبون مرور السريع بمزيد القلق وعظيم الاضطراب.
وبالواقع كان لوليم أسباب جوهرية تبعثه على إيجاس الخوف من عاقبة هذا النوء الطويل المستديم في طريق مشروعه؛ لأن الإبطاء في الإقلاع كان بحد ذاته موجبا للحذر وانشغال البال من حيث إن فصل الشتاء كان على الأبواب؛ لأنه كان بعد مرور شهر واحد يصبح اجتياز البوغاز بتلك العمارة أمرا بعيدا جدا، هذا فضلا عن أن الرجال الذين يقلعون بحملات مخيفة مظلمة كالتي عزم عليها وليم كانت نفوسهم وقواهم عرضة للاشتداد والانسحاق، خاضعة لعوامل التغيرات العظيمة الفجائية، ومفعولة بقوة أقل الطوارئ الطفيفة الصغيرة، ولا شيء أفعل في نفوسهم في مثل تلك الظروف من ظواهر الجو، وقد أدرك وليم أن آثار حمية رجاله وغيرتهم كانت آخذة في الاختفاء تحت أطباق السحب المتكاثفة، ومسرعة في الانمحاء في مجاري السيول الجارفة، وكانت شعائر القنوط والخمول التي نبهها فيهم ذلك العاصف تزداد فيهم تعمقا وانتشارا بقوة الحس المشترك، فكنت تراهم لا يشغلهم شاغل سوى توقع المخاطر والأهوال، والتسلي أثناء مراقبة سير الغيوم وتلاطم الأمواج بانتظار الرزايا والمعارك ونتائج الاندحار، وغير ذلك من الأمور المخيفة المظلمة التي تذهب ببسالة الجندي، وتحدوه على اليأس والجزع.
ولم تكن تصورات المصائب والشدائد منحصرة فيما ذكر فقط؛ لأنه مع أن معظم العمارة كان باقيا على مصب النهر، وفي أمن من العواصف والأنواء، فكثير من المراكب كان خارجا عنه معرضا لها، فمن قطع جيء بها مؤخرا إلى ذلك المرسى أو طرادات أرسلت إلى بعض الثغور المجاورة لقضاء بعض الحاجات المتعلقة بالاستعدادات، أو سفن كان لنواخذتها «جمع ناخذة بمعنى قبطان» شجاعة ممتازة حملتهم على التعرض للمخاطر بدون داع، فأكثر هذه المذكورات حطمتها الأمواج، وقطعت أوصالها التيارات، وقذفت ببقاياها مع جثث نوتيتها الغرقى إلى الشاطئ، وقد هالت الناظرين رؤية تلك الجثث المنتفخة المهشمة والمطمور نصفها في الرمل كأن البحر حاول أن يخفي عن العيون منظر تلك الجرائم التي ارتكبها، فأصدر وليم الأوامر المشددة للإسراع في جمع تلك الجثث ودفنها سرا بحال وجودها، على أنه رغما عن هذه التحوطات لم تلبث أنباء هذه الأرزاء أن انتشرت في سائر أطراف المعسكر مكبرة مجسمة، وكان الخوف والرعب يزدادان كل يوم استيلاء على الأفكار، وينذران بتوقع المكاره وانتظار الأخطار، فعول وليم على الإقلاع عند أول فرصة ممكنة، وذلك لم يكن طويلا، فإن الطقس تغير، وفي الحال هبت ريح جنوب لطيفة عارضت انقلاب الأمواج على الشواطئ الفرنسية، وعليه أصدرت الأوامر في الإقلاع، فهدمت الخيام ونقلت الذخائر إلى السفن، وحشدت العساكر في القوارب إلى المراكب، وازدحمت أقدام المتفرجين على الشاطئ أفواجا أفواجا، ونشرت القلع وأخذت الميناء تسيل بحركات تلك القطع متأهبة للاجتياز، ومستعدة للمخر في عباب البوغاز، على أن البحر ما كان إلا كالأفاعي، ومعلوم القول:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها
عند التقلب في أنيابها العطب
فإن ذلك التعبير المستحب ما كان إلا مجرد خدعة واحتيال وفخ أخفى للوقوع في أشراك الرزايا والأهوال؛ لأنه ما أبطأ أن عادت الرياح إلى عصفها الشديد، والسحب إلى تلبد ما عليه مزيد، وبعد أن قطعت العمارة مسافة مائة ميل تحت جهد الخطر والعناء اضطرت على الرجوع إلى مرفأ سنت فالري طلبا للوقاية والالتجاء، فساء ذلك وليم ولكنه اتخذ هذا التأخر وسيلة للتزود ببعض القوات الأخيرة، ومواصلة العاصمة ومتيلدا.
وهذه الموانع المخيفة والمنذرة بالشر كانت لا تخلو من فائدة عظيمة لم يدركها وليم حينئذ، من وجه أنها قادت هارلود في إنكلترا للظن في رجوع وليم عن عزم الحمل عليه، وهكذا عدل عن التحرز والتيقظ، ولم يكن - كما سبق القول - في تلك الأيام وسائل قياسية لتبادل الأخبار بحيث يسهل شيوع الأنباء عن الحوادث الخطيرة والإجراءات المهمة كما في أيامنا هذه، وعليه كانت كل حكومة تعتمد على الجواسيس في الوقوف على حركات الأعداء، وكان قد شاع في إنكلترا في شهر آب خبر عزم وليم على الحملة، فاستعد هارلود لملاقاته وصده، لكنه إذ رآه أبطأ في الحضور، ومضى شهر أيلول أسبوعا بعد أسبوع، ولم تبن أدنى علامة للعدو، ولا ظهرت له أسباب هذا التأخر، استنتج إغفال ذلك العزم أو إرجاءه إلى الربيع، وإذ كان الشتاء قريبا رأى من الموافق أن يستعد في إرسال عساكره إلى مشاتيها، فصرف عنه بعضها، والبعض الآخر وزعه في كثير من القلاع والمدن الحصينة، حيث يصرفون فصل الشتاء، ويكفون مشقات الأمطار والزمهرير، وفي الوقت نفسه يكونون على أهبة الاندفاع عند حدوث أقل سبب مفاجئ، على أنه ما لبث أن دعاهم لدفاع كما سيأتي معنا.
ومع أن هذه التنظيمات التي أجراها هارلود كانت في نظره أضمن لسلامة رجاله وراحتهم، لم يكف في أثنائها عن التجسس والمراقبة والاستطلاع ساعيا جهده في الاستعلام عن عدوه، وتنسم أخبار حركاته، فأقام الأرصاد ونشر العيون على تخمه الجنوبي، وشدد الأوامر في تدقيق الملاحظة وضبط السهر على كل شيء يجد لديهم، أو يبدو لهم الإسراع في إبلاغه.
ومعلوم أن وليم كان يبذل كل ما في وسعه لأجل قطع موارد الأخبار، وقد ساعدته التقادير على ذلك، فإن تلك الأنواء التي حدثت جعلت السفر في البوغاز متعذرا على سفن التجارة وقوارب الصيد؛ ولذلك لم يستفد الرقباء على تخم إنكلترا الجنوبي من استطلاع الحوادث إلا النزر القليل.
أخيرا فرغت جعبة الصبر عند هارلود، وتعذر عليه البقاء على تلك الحالة المبهمة، فعقد النية على إرسال نفر من رجاله إلى نورماندي توصلا لاستجلاء الحقائق ودفع الشبهات، وليس بخاف أن المرسلين بطريقة سرية أو إلى بلاد العدو إلى معسكره يعتبرون بحكم القوانين الحربية جواسيس، ويعاقبون إذا قبض عليهم بالموت؛ ولذلك كانت إرسالية كهذه غاية في الهول والخطر، وإذا كان الموت المحكوم به على من يوجد بهذه الصفة مهينا للغاية؛ إذ الجواسيس كانوا يشنقون بلا شفقة علنا، ولا يقتلون بإطلاق الرصاص، فأكثر الناس يأبون التعرض لهذا الخطر المخيف، ومع ذلك كله فصفات البأس كانت لكثيرين من رجال الحرب الذين يقدمون على الأهوال، ويركبون المخاطر موعودين بالمكافأة الحسنى والجزاء النادر، فبدا لجواسيس هارلود أن يقطعوا البوغاز مجتازين إلى رأس بعيد في شرقي نورماندي، حيث المدخل ضيق، فأتوا الشاطئ وساروا في البر متخفين بزي الفلاحين حتى جاءوا سنت فالري حيث كانت عمارة وليم، وهناك جلسوا متفقدين مستطلعين مستكشفين بكل ضبط واحتيال، لكنه رغما عن ملء التحفظ والتحرز عرفت دخيلة أمرهم، وهتك حجاب سرهم، وظهر أنهم جواسيس فألقي عليهم القبض، وسيقوا إلى وليم لينالوا عقابهم.
أما وليم فعوضا عن الحكم عليهم بالموت الذي توقعوا أنه سيكون نصيبهم المحتوم، وجزاءهم الذي لا مفر منه، عفا عنهم، وأمر بإطلاقهم قائلا لهم: «ارجعوا إلى الملك هارلود وأخبروه أنه كان في غنى عن تحمل النفقات في إرسال الجواسيس إلى نورماندي؛ ليقف على الاستعداد الذي أقوم به للخروج عليه، إذ إنه لا يلبث أن يبلغه بوسائط أخرى - أسرع مما يمكنه أن يتصور - فاذهبوا وقولوا له عني: أن يجعل ذاته إذا شاء في آمن مكان يستطيع أن يجده في كل بلاده، وإن لم يجد عليه قبل نهاية هذه السنة، فلا تعود له حاجة للخوف مني ما دام حيا».
ولم تكن هذه الثقة التي عبر عنها وليم في نجاحه مجرد ادعاء ومحض افتخار باطل؛ لأنه علم قواته وقوات هارلود، ولم تكن حملته هذه مدفوعة بقوة الرعونة والطياشة، بل محمولة على مزيد التروي والتأمل، وقد تراءت بمظهر الخوف والشك لعيون الذين قاسوها على ظواهر الحال، فحمقوا مشورة دوق كوليم يحكم على مقاطعة صغيرة كنورماندي، ويثير حربا هائلة على ملك إنكلترا القابض على زمام أعظم وأقوى مملكة في العالم.
أما وليم فبالعكس كان يعتقد وجوب القيام بذلك تحصيلا لحقه الإرثي من يد مغتصبه، وقد تحقق لديه نوال الميل والانضمام حتى من شعب إنكلترا حالما يتمكن من أن يريهم استطاعته على حفظ حقوقه، وأنه قادر على إيضاح ذلك لهم ببرهان ناصع البيان، ودليل حسي منظور؛ أعني به تلك العمارة الكبيرة الغاصة بها الميناء، وتلك الخيام الكثيرة المملوءة بالعساكر المغشي بها وجه الشاطئ، واتفق أن بعض قواده أوضحوا أمامه رعبهم من قوات هارلود، وإيجاسهم خوف عدم استطاعتهم الثبات ضدها، فأجابهم أنه بقدر ما تكون قوات هارلود مخيفة ينبغي أن يعظم فرحهم وسرورهم بالمجد العظيم الذي ينالونه بالغلبة عليه، ثم زاد عليه قوله: «لا بأس من تأتي في قلوبكم على سبيل التسلية أفكار قوته واقتداره حالة كوني أعجب كل العجب من عدم افتكاركم بعظم قواتنا نحن، فلست في حاجة إلى أقل اهتمام؛ لئلا يدرك هارلود على بعده عنا بواسطه جواسيسه شيئا عن القوة التي أسير بها إليه حينما أنتم القريبين مني يظهر أنكم لا تعرفون عنها إلا شيئا يسيرا، فلا تهتموا على الإطلاق، فاتكلوا على عدالة دعواكم، وثقوا بما أتوقعه أنا وكونوا رجالا، فتجدوا أن النتيجة التي أشعر بتحققها وترجونها أنتم ستنال بكل تأكيد وإثبات».
وأخيرا انقضت العواصف وسكنت الأنواء، وتأهبت العمارة للمبارحة الأخيرة، وفي معظم هذه الحركة النهائية حدث في أحد الأصباح ما استدعى انتباه جميع الذين كانوا في المراكب وعلى الشاطئ، وذلك بأن رأوا سفينة جميلة قادمة على الميناء عرفت أنها قطعة كبيرة متقنة كانت الدوقة متيلدا قد بنتها على نفقتها وجيء بها تقدمة منها وداعية لزوجها، وكانت هي ذاتها راكبة فيها مع قوادها وحرسها لأجل مشاهدة سفر وليم ووداعه، وقد كان ولا ريب لحضورها في حالة كهذه وقع عظيم بعث الجميع على الحمية والنشاط، فتصاعدت من السفن في الميناء ومن جماهير الوقوف على الشاطئ ضجات الفرح والاستحسان احتفاء بقدومها البهج.
وبالواقع كانت سفينة متيلدا مبنية بمزيد الدقة ومنتهى الزخرفة والزينة، فالشرع كانت مدبجة بألوان مختلفة أكسبتها منظرا بهيا، وقد رسم عليها في أماكن متعددة صورة الثلاثة أسود التي كانت تمثل شارة النورماند، وعلى جانبيها من لدن المقدم رسم صورة رأس تمثل ابن وليم ومتيلدا الثاني يرمي بالنبال؛ لأن وليم كان يسر على الخصوص برؤيته ابنه يفعل ذلك، وكان السهم مسحوبا في الرسم إلى المقدم مشيرا إلى شدة وقوة الساعدين على رميه، ومخيلا للناظر أنه على أهبة النشب، وكان اسم تلك السفينة ميرا، فجعلها وليم في مقدم العمارة، ورفع عليها تلك الراية البديعة الإتقان التي أرسلت إليه من رومية، ثم اجتاز إليها محفوفا بالقواد والحرس بمظاهر التجلة والاحتفاء، واستعدت العمارة للإقلاع، فنشرت الشرع وأخذت السفن تسير الهوينا مقلعة عن الميناء.
وإن صدقت رواية مؤرخي ذلك العهد يكون عدد السفن الكبيرة في تلك العمارة أربعمائة، ومعها أكثر من ألف قارب، وكانت كلها مشحونة بالرجال، وأعالي سواريها تخفق بالرايات والشاطئ على رحبه ضيقا بالمتفرجين، والبحر هادئا، والهواء لطيفا، والشرع التي كست وجه المياه ثوبا أبيض تسير سيرا لينا على بساطها المتجعد، وتشخص لعين الناظر فقط منظرا جميلا بديعا، وأما لعين المتأمل بالنتائج الصادرة عن نجاح هذه الحملة فمشهدا ساميا رفيعا.
وقد ظهر بالامتحان أن تلك السفينة البديعة التي قدمتها متيلدا لزوجها ليست مجرد لعيبة، فإنها سارت في مقدم السفن والعيون تحدق بها، فوجب أنها آخذة في السبق شيئا فشيئا، فسر وليم أن يراها هكذا سريعة الجري، وأمر ربانها أن يظل سائرا غير مبال بما وراءه، حتى إذا جاء المساء وظهر أن المسافة بينهما وبين بقية العمارة خلفها أصبحت شاسعة، بحيث غابت كل السفن عن عيون من كانوا على ظهر ميرا، لكنه إذ كان المساء قد أقبل والظلام خيم توقعوا أنهم ينظرونها في الصباح، فلما كان الغد استولى عليهم الانذهال والاندهاش، حين التفتوا إلى جهة الأفق الجنوبية ممعنين النظر ولم يجدوا للعمارة خلفهم أدنى أثر، فقلقوا وارتابوا، أما وليم فلم يبال بذلك وأمر أن تطوى الشرع، وأنفذ رجلا إلى أعلى الساري للاستكشاف والإشراف فلم ير شيئا، ووليم ظل في الظاهر غير مهتم، فأمر بتهيئة الفطور وأكثر على المائدة من وضع الخمور وغيرها من الوسائل الداعية الأفكار إلى هجر القلق، والارتياح إلى الفرح والسرور، ثم أرسل المراقب مرة ثانية إلى رأس الساري وسأله وليم: «ماذا ترى؟ فأجاب بعدما حدق بنظره: أرى أربع لطخ صغيرة جدا في الأفق» ثم زيدت هذه المسرة التي أوجبها هذا الاستكشاف بالصراخ: «هأنذا أنظر أكثر فأكثر، هي السفن، نعم كل العمارة ظهرت».
ثم ما أبطأت أن دنت من ميرا التي عادت إلى نشر شراعها، وراحت كلها تشق العباب نحو إنكلترا وقد جعلت طريقها نحو الشرق، حتى إذا جاءت البر لا تكون بعيدة عن مضيق دوفر، وفيما كانوا يقتربون نحو الشواطئ الإنكليزية كانوا يراقبون بكل اعتناء وجود البعض من سفن هارلود التي توقعوا طبيعيا مصادفتها في تلك الجهات جائلة لحماية الشطوط البحرية، لكنهم لم يجدوا واحدة منها، نعم إن هارلود كان قد سيرها للطواف والحراسة، وكان منها كثير في بقية الثغور، لكنه اتفق لحسن حظ وليم أن تلك التي عهد إليها حراسة هذا القسم من الجزيرة كانت قد انسحبت منه منذ أيام بداعي نفاد زادها وذخائرها، وهكذا لما وصلت العمارة تلك الجهة لم تصادف عدوا معارضا، فرست في خليج بيفنسي الذي تراءى لها متبسما مادا ذراعيه لاستقبالها، وعندها أخذوا في التأهب للخروج إلى البر، وأول من وطئت أقدامهم الشاطئ فرقة من رماة النبال المنتخبين.
فتقدم وليم معهم وأن كان متلهفا للوصول إلى البر زلت قدمه وهو يطفر من القارب فقط، فتطير الضباط وجميع من كانوا حوله وعدوا ذلك فألا رديا، أما هو فحضرته سرعة الخاطر في الحال ومد ذراعيه وتمسك بالشاطئ مدعيا أنه فعل ذلك تعمدا، وقال في نفس الوقت: «هكذا أقبض على هذه الأرض ومن هذه الدقيقة تكون ملكي» ولما نهض أسرع أحد ضباطه إلى كوخ مجاور على الشاطئ وأتى منه بقليل من «البلان» إلى وليم ووضعه في يده وقال له: إنه هكذا أعطي ملكه الجديد. وتلك كانت عادة في ذلك العهد أن يعطى المتملك الجديد الأراضي التي اشتراها أو نالها بطريقة أخرى، فكان المقتني الجديد يذهب إلى الأرض المراد امتلاكها ، وهناك أصحابها الأولون ينتزعون شيئا مما فيها ويقدمونه له قائلين: «هكذا نخولك امتلاك الأرض» وحالما خرج العساكر إلى البر طفقوا يقيمون المعسكرات وينشئون الاستحكامات؛ تفاديا من عدو مباغت أو هجوم مفاجئ ريثما كانت القوارب آخذة في تكملة النقل من السفن إلى البر، وكان بينهم عدد عديد من الفعلة والعاملين في صناعات مختلفة من المهندسين وممهدي الطرق والنجارين والبنائين وغيرهم، فكانوا قد أحضروا معهم ثلاثة أبراج، أو بالحري حصون من خشب هيئوها قبل السفر في نورماندي، وأتوا بها لتقام عند وصولهم لحفظ الذخائر والمؤن.
وإذ ذاك سير وليم فرقة من الخيالة لتردد تلك الأطراف، وتتجسس الأنباء عن قدوم هارلود، فرجع أولئك الفرسان واحدا بعد الآخر بعدما ضربوا في تلك الأطراف، وتوغلوا في التجسس والاستكشاف، وأفادوا أنهم لم يقفوا لقدوم العدو على أثر، وكانت الاستحكامات حينئذ قد أقيمت، ولم يبق من شاغل في الإفراغ والتنظيم، فأمر وليم أن تشعل النيران بالخيام لأجل الليل وتستعد العساكر لمناولة العشاء، وقد أعد له العشاء في ذات خيمته فتناوله مع قواده بمزيد الانشراح والابتهاج، وبغاية اطمئنان البال من جهة ما صادفه ذلك اليوم من النجاح في سائر الأعمال.
وقد كانت كل حوادث الخروج إلى البر ومتعلقاتها داعية إلى الرضى والاستحسان سوى واحدة، وهي ضياع سفينتين من العمارة، فاستعلم وليم وهو على العشاء عما إذا كان قد جد شيء بخصوصهما، فأجيب أن الإفادات الأخيرة عنهما تعلن انقذافهما إلى الصخور وانكسارهما، وكان أحد المنجمين قد تنبأ بخصوص تلك الحملة قبل خروجهما من نورماندي، وأعلم بمقتضى مراقبة النجوم أن وليم سوف ينجح في عمله ولا يصادف أدنى مقاومة من هارلود، وكان ذلك المنجم على ظهر إحدى تينك السفينتين المفقودتين فمات غرقا، فعندما بلغت وليم تلك الإفادات قال: «ما أشد حماقة ذلك الرجل الذي ظن أنه بواسطة النجوم يستطيع معرفة مستقبل غيره، بينما هو لم يعرف شيئا عن مستقبل نفسه». ويروى أن ذلك الطعام الذي تناوله وليم وقتئذ أعد له على حجر كبير عوضا عن المائدة، ولا يزال ذلك الحجر إلى الآن يدعى «حجر الظافر».
وفي اليوم الثاني أخذت العساكر تتقدم نحو الشرق ولم يكن في طريقهم عدو يحاربهم أو يصد تقدمهم، وقد حال الخوف والرعب دون سكان البلاد التي كانوا يجتازونها، فلم يبدوا أدنى مقاومة لهم، وكان الباعث على زيادة خوفهم بعض تعديات أتاها بعض العساكر، فاستولى الهلع على سكان الدساكر والقرى عند مفاجأتهم بتلك القوات الغريبة العظيمة التي غشيت شواطئهم، وانتشرت في أنحائهم، فأركن بعضهم للهرب إلى داخلية البلاد، وبعضهم ساقوا عيالهم وحملوا أشياءهم الثمينة والتجئوا إلى الصوامع والكنائس، متوهمين أن أماكن كهذه يتهيب حتى العساكر الدخول إليها ما لم يكونوا وثنيين، والبعض الآخر عزموا أن يختبئوا بين الهشيم والعليق حتى تمر عاصفة أولئك الثائرين عليهم.
وظلوا يتقدمون حتى أتوا هضبة قرب البحر فاختارها وليم محلا مؤقتا، فخيم فيها محصنا مستحكما، وكان إلى الغرب منها واد وفي أسفله قرية تدعى هستن لم تكن قبلا ذات شأن وأهمية، ولكن بسبب المعركة الهائلة التي حدثت بالقرب منها بعد وصول وليم ببضعة أيام لا يزال ذكرها حيا للآن، وما أتم وليم نقل الذخائر والمعدات إلى تلك الهضبة - وكان يفرغ من إقامة الحصون والقلاع - حتى بلغته الأخبار بواسطة الرقباء والجواسيس من نحو الشمال أن هارلود قادم عليه بعد أربعة أيام في طليعة مائة ألف مقاتل.
الفصل العاشر
معركة هستن
لا ريب في أن القارئ يذكر أن أخبار جلوس هارلود على العرش الإنكليزي كانت بلغت وليم أولا بواسطة توستغ أخي هارلود يوم كان يمتحن قوسه وسهامه في روان، وتوستغ هذا كان ألد عدو لأخيه، وكان مدة ملك إدوارد حاكما على شمالي إنكلترا في مقاطعة قاعدتها مدينة بورك، وإذ كان قد جلي عنها خاصم أخاه هارلود وطالبه بحق العود إليها، وكان من نتيجة هذا الخصام أنه طرد من كل البلاد، فخرج ملتهبا بنار الغيظ وحب الانتقام من أخيه، وعندما جاء ليخبر وليم عن خيانة هارلود لم يكن من قصده فقط إنهاض وليم للعمل، بل أراد أن يعمل هو أيضا، فأخبر وليم أنه ذاته له سلطة في إنكلترا لم تزل من دونها سلطة أخيه، وأنه إذا كان وليم يمده بعمارة صغيرة وبعدد قليل من الرجال يحمل على أخيه ويري وليم شدة بأسه وقوة إقدامه، فأجاب وليم ملتمسه وجهزه بالقوة المطلوبة غير مؤانس ثقة عظيمة باقتداره على تحصيل أدنى نتيجة.
لكنه رأى أن حملة توستغ هذه لربما تحدث بعض الإنذار في إنكلترا، وتمهد طريقا رحبة لسيره وراءه؛ ولهذا لم يرافقه بنفسه، لكنه سيره بتلك القوة وظل هو نفسه في نورماندي يباشر التأهبات التي أتينا على شرحها في الفصل السابق، أما توستغ فلم يتصوب حمله على الشطوط الإنكليزية بدون أن يزيد القوة التي سلحه بها وليم؛ ولهذا اجتاز مضيق دوفر واتجه شمالا ودار نحو شواطئ الأوقيانوس الجرماني الشرقية، ساعيا في التفتيش على مساعدة، حتى جاء أخيرا بلاد نروج وعقد اتفاقا مع ملكها المسمى هارلود أيضا، فهذا الملك كان وحشيا، وقد قضى غابر حياته يجول في البحر غازيا، فتعهد لتوستغ بأنه يشد أزره في هذه الحملة، وعليه سار توستغ راجعا لشواطئ إنكلترا مغادرا ملك نروج يتأهب للحوق به، وكل ذلك حدث في أوائل شهر أيلول حين كان وليم في نورماندي يتأهب بعمارته وجيوشه لمحاربة الملك هارلود الإنكليزي، بينما كان هذا محروما من الوقوف على نبأ حقيقي بهذا الخصوص، سواء كان من نحو الاستعدادات الشمالية أو الجنوبية.
ثم اجتمعت العمارة النرويجية في أحد الثغور وقد أصاب رجالها بداعي اقتراب أيام العواصف والأنواء ما أصاب رجال وليم من الخوف والحذر، وقد رأى بعضهم رؤى وأحلاما تطيروا بها وعدوها شؤما، وعلقوا عليهما خرافات عديدة شأن أهل تلك العصور الذين كانت عندهم سوق الأوهام رائجة، كما يروي لنا مؤرخوها، فمما رآه أحدهم أن العمارة أقلعت وجاءت الشواطئ الإنكليزية، وهناك خرج جيش هارلود للقائها، وفي مقدمه امرأة طويلة القامة هائلة المنظر ممتطية ظهر ذئب، وفي شدقي هذا الذئب جسد إنسان مضرج بالدم، وكان يلتهمه وهو سائر إلى الأمام، ثم ناولته المرأة فريسة أخرى فابتلعها كالأولى، ومن جملة الأحلام المشئومة الحلم الآتي، وهو أنه بينما كانت العمارة آخذة في الإقلاع رأى بعضهم أسرابا من النسور والطيور الجارحة الجائعة جاءت وحومت على قلع وحبال المواكب كأنها تروم مرافقتها في الحملة، وعلى رأس صخر في الشاطئ انتصب رسم صورة امرأة بوجه عبوس يشف عن الشراسة والضراوة، وفي يدها سيف مسلول، وكانت منهمكة في عد المواكب مشيرة إليها وهي تعدها بسيفها، وكانت تمثل بمنظرها شيطان الخراب والدمار، فدعت الطيور وشجعتها على الإقدام وقالت لها: «اذهبي أيتها الطيور الجوارح بدون خوف؛ فلسوف تصادفين كثيرا من الفرائس وهو ذا أنا ذاهبة معك».
ومعلوم أن هذه الأحلام كانت تنبئ عن موت وهلاك أعدائهم الإنكليز، كما أنها تحمل النبوءة عن موتهم هم أنفسهم، على أن العساكر بسبب ظروفهم الزمنية وبداعي التغيرات الجوية والمخاطر المتنوعة التي أصبحوا محاقين بها كانوا مائلين لإطلاق هذا التشاؤم عليهم، ورد مخاوف تلك الأحلام إليهم، ولكن قائدهم لم يبال باعتباراتهم هذه، بل أقلع وسار مجتازا البحر الجرماني لاحقا بتوستغ ليتخد معه على تخم اسكوتلندا، ومن هناك انطلقا بقواتهما على الشاطئ الجنوبي منتهزين فرصة تسنح فتسمح لهما بالخروج إلى البر، أخيرا أتيا إلى بلدة سكابورو وعولا على الهجوم.
أما سكان تلك البلدة فحاصروا داخل أسوارها، وأغلقوا الأبواب في وجوه المهاجمين واستعدوا للدفاع، وكانت البلدة قائمة في أسفل تلة يحيط بها من أحد الجهات أحدور عال، ويروى أن النرويجيين تسنموا ذروة هذه الأكمة، وهناك جمعوا مقدارا عظيما من الحطب والأغصان والقشور والجذور وغيرها من المواد القابلة الاحتراق، ثم أشعلوها ودحرجوها على المدينة، فانهالت شبه كرة من نار تتقد بلهيب عظيم، وتزداد اضطراما في انحدارها، على أن القارئ اللبيب لا بد من أن يقف هنا مرتابا في صدق رواية كهذه؛ إذ من المستحيل أن كومة كهذه من الوقيد مهما كان حزمها متينا تنحدر على الوجه المذكور، على أنه لا يبعد أن يتم ذلك بواسطة قطع كبيرة من الحطب تشد بأسلاك حديدية على هيئة أسطوانية أو كروية، وتحشى بمواد قابلة الاحتراق، وتدحرج من أعالي القمم في أحادير، فتبقى منهالة إلى الأسفل .
ولنرجع الآن إلى سرد تتمة الرواية في شأن تدمير هذه المدينة فنقول: إن تلك الطريقة التي انتحاها النرويجيون - على ما مر معنا - نجحت، فاشتعلت المدينة كلها وسلم سكانها لتوستغ وقومه الذين بعدما أكملوا السلب والنهب أقلعوا بمراكبهم، واستأنفوا تطوافهم ... أما نبأ خراب هذه المدينة فبلغ الملك هارلود في لندن في نهاية شهر أيلول وهو مشغول بتوزيع قواته، وتفريقها عن التخوم الجنوبية - كما مر معنا في الفصل السابق - إذ كان قد ترجح عنده أن الحملة النورماندية قد أرجئت إلى الربيع، وإذ ذاك فعوضا عن تفريق جيوشه في مراكزها الشتوية اضطر أن يجمعها ثانية بقدر ما يستطيع من السرعة، ويخرج بهم لدرئه هذا الخطر الجديد الغير المنتظر، وإذ ذاك دخل توستغ وأصحابه نهر همبر، وكان من قصدهم الوصول إلى مدينة يورك قاعدة المقاطعة التي كان يحكمها توستغ سابقا، وكانت قائمة بقرب نهر أوس الذي هو فرع من نهر همبر الذي اجتازوه وجاءوا إلى ثغر أوس، ومنه صعدوا إلى بقعة بقرب مدينة يورك وعسكروا فيها، ثم تقدموا لحصار المدينة فأبدى سكانها بعض الدفاع في الأول، ثم عرضوا التسليم بموجب عهدة ما لبثت أن تقررت في الحال، وكان ذلك نحو المساء، فتعين صباح اليوم التالي لدخول توستغ ورجاله إلى المدينة، وعندها إذ شعروا أن غنيمتهم أصبحت لديهم باردة رجعوا إلى معسكرهم يصرفون ليلتهم بالمسرات والأفراح، ويبيتون على نية تملك المدينة حين يبزغ الصباح.
فحدث في نفس تلك الليلة أن الملك هارلود قدم لتخليص المدينة، وكان يتوقع أنه يشاهد العدو محيطا بها من كل جهة يشدد عليها الحصار، لكنه عند اقترابه لم يصادف ما يحول دون دخوله إليها، بل في الحال فتح له سكانها الأبواب وأدخلوه وكل جيشه بينما توستغ وجميع رجاله النرويجيين كانوا غارقين بسبات النوم، متمتعين بلذة أحلام الفوز والظفر، غير مشعرين بالانقلاب العظيم الذي طرأ على أحوالهم تلك الليلة، وما عطس أنف الصباح حتى نهض توستغ ينظم فرقة من الرجال تهيئا لامتلاك المدينة، ومع أن الوقت كان في أيلول والطقس باردا وعاصفا حدث أن طلعت شمس ذلك اليوم بمعظم الإشراف واللمعان، وسكنت حركة الهواء وصفا الجو من أكدار الغيوم، وكان كل شيء يدل على الدفء واستحكام الحرارة، وإذ كان دخول توستغ وقومه إلى المدينة مقصودا على طريقة سلمية خلوا من جميع المظاهرات العدوانية، أصدرت الأوامر للعساكر أن يسيروا بدون العدد الحربية، ويتركوا في الخيام كل الأسلحة الثقيلة الباعثة على البطء والتراخي.
وفيما هم يتقدمون بهذه الهيئة المنزهة عن كل اهتمام واحتياط أبصروا أمامهم على الطريق المؤدية إلى المدينة غبارا كثيفا ضاربا في الأرض قبابا، وعاقدا في عنان السماء سحابا، ثم انجلى عن فرقة كبيرة من جيش الملك هارلود خارجة عليهم، وعلى أهبة الإيقاع بهم، فاستولى من جري ذلك العجب والانذهال على توستغ والنرويجيين، وكادوا يسقطون في أيديهم حيرة من رؤية هذا المشهد غير المنتظر، وما لبثوا أن تبينوا بريق الأسلحة وخفوق الرايات، وارتفع بينهم هتاف «العدو العدو» ممتدا إلى كل جهات الجيش، فأحدث في الجميع ذعرا ورعبا، أما توستغ وهارلود النرويجي فأوقفا رجالهما في الحال، ورتباهم على الفور صفوفا متأهبة للاشتباك في القتال، وهكذا فعل الملك هارلود برجاله ثم اخترقهم إلى المقدم، واصطف الجيشان متقابلين متوقعين أول إشارة تبدو لإصلاء نار الحرب، وإدارة رحى الطعن والضرب.
وإذ ذاك طلع من الجيش الإنكليزي عشرون خيالا غارقون بالحديد والفولاذ وحاملون راية الهدنة، هؤلاء جاءوا حتى صاروا على مقربة من صفوف النرويجيين، فطلب المقدم عليهم مواجهة توستغ، وفي اقترابه منه أبلغه أن أخاه لا يشاء محاربته، بل بالعكس يروم أن يعيش معه بالاتحاد والاتفاق، وعليه فهو يعرض عليه السلم إن كان يسلم أسلحته، وله من أخيه لقاء ذلك إرجاع أملاكه السابقة، وأعاد ما كان له من سالف الشرف والاعتبار.
فاستمال هذا البلاغ قلب توستغ، وحدثته نفسه بالرضى «والقبول والنفس خضراء» فأطرق برهة من الزمان، ثم سأل الرسول عما عينه أخوه من الترضية لصديقه ورفيقه هارلود النرويجي فأجابه: «قد عين له سبع أقدام من أرض إنكلترا قبرا له، وسيكون له أكثر من ذلك قليلا إذا أراد ، على ما نرى رجل طويل النجاد» فقال له توستغ: إذا أخبر أخي أن يتهيأ للقتال؛ إذ إنني لست بخائن من قطعت معه عهد الوفاء، ووعدته بالقيام على الولاء في السراء والضراء، فرجع المرسلون بجواب توستغ إلى معسكر الملك هارلود، وقامت بين الفريقين سوق الحرب، ومن المقرر أن بغض الجيش الإنكليزي الشديد كان موجها على الخصوص نحو النرويجيين وملكهم، من وجه أنهم اعتبروا غرباء سائرين ساقتهم القحة والتطفل على الثورة والهجوم بدون داع حقيقي وبغير باعث جوهري.
وبموجب ذلك حدث أنه ما ابتدأ القتال حتى أصيب هارلود النرويجي بسهم في حلقه صرعه على الأرض جديلا، وعندها حاول الملك هارلود بطال الحرب، وسعى جهده بالصلح مع أخيه، فلم يجده ذلك فتيلا؛ لأن توستغ حين أبصر رفيقه مطروحا مضرجا بدمائه احتدم غيظا، وسد أذنيه دون كل وساطة في السلام، واندفع يدير رحى الحرب بملء التحمس والإقدام حتى ورد حتفه وذاق كأس الحمام، وعند ذلك عدم الباقون من رجاله كل نشاط للذود والمدافعة، فسمح لهم الملك هارلود بالانكفاء إلى مراكبهم بشرط تسليم أسلحتهم، فقبلوا باشتراطه هذا ورجعوا أدراجهم إلى سفنهم، ونشروا شرعها وأقلعوا، أما الملك هارلود فإذا كان قد بلغه وصول وليم إلى الشواطئ الجنوبية، وطلوعه إلى البر جمع رجاله، ولم شعث قواته وخرج بهم بين ماش وراكب يلقى هذا العدو الشديد الساعد والعظيم الجانب.
أما جيشه فرغما عما ناله من الظفر والانتصار كان قد أصبح ضعيفا خائر القوى فاقد الجلد والاصطبار، وقد أنضته الأسفار الطوال، وأنهكته مكابدة الأخطار وملاقاة الأهوال، وحط من عالي بسالته ما تخلف منه بين قتلى وجرحى في ساحة القتال؛ حتى إن الملك هارلود نفسه كان قد أصيب بجرح وإن يكن ليس بليغا إلى حد يمنعه عن مداومة القيادة، فجرد من ضعفه قوة، وجدد من خواره عزما ومروة، وسار قاصدا الجنود بملء الجد والاجتهاد، ناشرا في طريقه العيون والأرصاد، مشددا الإلحاح بالإيعاز إلى جميع قواده في سائر الأنحاء والأصقاع أن يوافوه متأهبين بغاية ما يكون من الإسراع، وكان من قصده هذا أن يخف بعدده وعدده، ويفاجئ وليم على التخوم الجنوبية قبلما يضرب فيها الحصون والقلاع، وترسخ له هنالك قدم النضال والدفاع، أما وليم فلكي يأمن طوارئ المباغتة، ويسلم من بوائق المفاجأة، سير رقباء من فرسانه يجوسون خلال الطرق، ويتجسسون معابر السبل يتنسمون أنباء العدو، ويستروحون حركات قدومه، ويرجعون إلى وليم بالخبر.
فحدث أن سعاة هارلود المتقدمين أمامه لقوا رقباء وليم وأبصروهم حالما أمعنوا في الجري راجعين إلى المعسكر مخطرين منذرين، فأخفق سعي هارلود في مباغتة وليم، وزاد بلة يأسه طينة أن وجد في اقترابه أن قوات وليم تعادل ضعفي قواته، وكان من الخرق أن يخاطر في مهاجمة عدو كهذا متمنع في حصونه، متقو بكثرة عدده ووفرة ذخائره وقواته، فلم يبق لديه سوى واحد من اثنين، أي إما أن يتقهقر راجعا، أو يتخذ له مركزا حصينا لعله يقوى على صد المهاجمين ورد جماح الثائرين وإن كان على مفاتحتهم ليس من القادرين.
فنصح له بعض مستشاريه أن لا يعرض نفسه لأخطار القتال، بل يقفل راجعا إلى لندن جارفا بطريقه أو مدمرا كل ما يراه يمد جيش وليم بأقل مساعدة، وبذلك يضيق على الأعداء ويشدد حاجتهم إلى الزاد، على حين يستحيل عليهم سدها وتناولها من عبر البوغاز، فضلا عن أنه يضطر وليم إلى غزو كل هاتيك الأطراف، فيستاء الأهلون مما يسومهم إياه وليم من الخسف والحيف والهون، ويندفعون للقيام عليه، ويتحدون يدا واحدة وقلبا واحدا عضد هارلود والانضمام إليه، أما هارلود فبعدما أصغى مليا إلى هذه المشورة وتدبرها قال: إنه لا يقدر أن يعقد نيته على العمل بموجبها؛ إذ لا يسعه مخالفة واجباته في خراب بلاد من أكبر فروضه صيانتها ووقايتها، ولا يرى له حقا في رغم رعاياه على شد أزره بواسطة تعريضهم للرزايا والنكبات من عدو جائر قاس، فيعدل على الوقوف في وجه وليم ليس كمهاجم مزاحم بل كمدافع ممانع، وعلى هذا انتقى بقعة تبعد ستة أو سبعة أميال عن معسكر وليم وخيم فيها متحصنا متمنعا.
ومعلوم أن كلا الجيشين لم يكن مطلا على الآخر، ولا كان واحد منهما واقفا على عدد أو مقاصد أو حركات الآخر، وكانت المسافة بينهما بعيدة، والسكان هنالك عرضة الرعب وإيجاس الخوف الشديد، ولم يكن أحد يعلم عند أية نقطة تلتقي سحابتا ذلك الخطر والهول اللتين كانتا على وشك الاصطدام، وعلى أية مقاطعة سوف تخيم عاصفة الخراب والدمار عند اقتراب ساعة اصطدام تينك السحابتين؛ ولهذا كنت ترى الأهلين مركنين إلى الفرار من كل صوب، محمولين برياح الهلع والرعب اللذين لا مزيد عليهما، وحاملين معهم الطاعنين في السن والعاجزين عن الهرب جهد الاستطاعة، وناقلين أيضا ما وسعتهم المقدرة من الكنوز والحلي، ومخفين في الكهوف والمغاير ما لم يستطيعوا إلى أخذه سبيلا، وهكذا كان شأن سكان الأرض بين ذينك المعسكرين، حتى لم تمض مدة وجيرة إلا نفروا متشتتين «وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم» خالية خاوية، وكان لهارلود بين قواد جيشه أخوان؛ أحدهما يدعى غرث والآخر ليوفن، هذان كانا أشد حبا وإخلاصا لأخيهما الملك من توستغ الذي سبق معنا إيراد ما كان عليه من الحقد والبغض له، فالتصقا به وعملا على مودته، وأظهرا نهاية الحرص والاعتناء بسائر شئونه حين دنت منه ساعة الخطر، وشددت ضغطة الهول وطأتها على حياته، وهما هما اللذان أشارا عليه بالانسحاب إلى لندن وعدم تعريض حياته ومملكته لأخطار حرب لا تحمد عواقبها، ولا يرجى له فيها فوز واستظهار.
فلما أتم هارلود تحصين مركزه أعلن لأخيه غرث رغبته في الركوب معه نحو معسكر وليم رائدا مستكشفا، وقد كان استكشاف كهذا في تلك الأيام أقل خطرا منه في وقتنا الحاضر؛ لأن تجسسا كهذا لا يصعب على العدو في هذه الأيام أن يرقبه بواسطة المراقب (النظارات) من مسافة بعيدة، ويطلق على المتجسسين قنابل مدافع تنهال عليهم انهيال المطر، وتنفجر بينهم بكرات نار لا تبقي ولا تذر، فكان الخطر حينئذ محصورا بافتراض مطاردتهم من المعسكر بطليعة من الفرسان، أو إحاطتهم بكمين لم تكن مفاجأته في الحسبان.
وتفاديا من هذا الخطر امتطى هارلود وغرث أكرم الجياد وأشدها صبرا على الجري السريع ، واختارا نخبة من الرجال الأشداء الأقوياء لحراستهما، وسارا حتى وصلا خيام وليم، وهناك تسنى لهما بواسطة ذروة صعدا إليها أن يستطلعا طلع كل المعسكر، ويسبرا غور ما لدى وليم من القوات والتجهيزات، ولم تفتهما رؤية شيء من السرادقات والخيام والحصون والعساكر والقواد والضباط والفرسان، وأبصرا الفسطاط العظيم المضروب لوليم وعليه راية الصليب المقدسة تخفق بملء اليمن والبركة، وترف بأجنحة النصر والظفر، حتى استولى على هارلود الانذهال من عظمة ما رأى ونظر.
وبعدما صرفا برهة من الزمان غارقين في بحر التأمل والإمعان وهما صامتان لا يفوهان ببنت شفة قال هارلود لغرث: إنه يرى من الحكمة بعدما نظرا هذه القوات التي لا تقاوم أن يعدل عن القتال، ويتبع مشورة القائلين بالرجوع إلى لندن في الحال؛ ذلك خير وأبقى، فأجابه غرث أن: «في الصيف ضيعت اللبن» وأما الآن فلم تعد تلك المشورة تفيد من وجه أنها تقضي بتقويض الخيام وهدم المعاقل، وهذا قد يفسر عند جميع الذين يسمعون به أننا متقهقرون خوفا وعجزا واسترخاء، لا رواغا واحتيالا ودهاء، وبعدما فرغا من المداولة بهذا الشأن رجعا وحاميتهما إلى الخيام ونية هارلود معقودة على الثبات في وجه العدو ما استطاع إلى الثبات سبيلا، حتى يتمكن من دحر وليم ورده على الأعقاب، أو يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وعليه عاد وأنفذ بعض السعاة للتجسس والمراقبة، وكانوا نورمانديي المولد يحسنون التكلم بالفرنسية وقد جاءوا إنكلترا مع كثيرين غيرهم من النورمانديين على أيام الملك إدوارد، ومن ثم استطاعوا بكل سهولة أن يخفوا أمرهم ويمتزجوا بقوم وليم بدون خوف وقوع شبهة عليهم، أو حصول أدنى اشتباه بهم، وتمكنوا من فحص كل شيء بتدقيق، ثم قفلوا راجعين إلى هارلود بأنباء ما رأوا وسمعوا، فقرروا عن شدة هول مصادمة جيوش وليم بحرارة، ومرارة الصبر على الثبات أمام أبطاله الكرارة.
وكان في جيش وليم فرقة كبيرة من رماة السهام الذين اصطلحوا على قص الشعور وحلق الرءوس والخروج بهيئة بعثت أولئك السعاة على أن يظنوهم كهنة، وعليه أبلغوا هارلود في رجوعهم أنهم رأوا في معسكر وليم الكهنة والأراخنة أكثر من رجال الحرب وعساكر القتال، وحدث أيضا في نفس ذلك اليوم أن وليم بعث بعدد من الفرسان إلى معسكر هارلود، وليس كجواسيس بل كسفراء للمباحثة بشأن الصلح؛ لأنه لم يكن يشأ إصلاء نار الحرب إذا أمكنه الحصول على ما كان يعتقد أنه ملكه الحقيقي بطريقة ساعية، فعول على تجربة الوسيلة الأخيرة في حمل هارلود على الرضى والتسليم قبل الوصول إلى حد يقضي بإشهار السلاح، وشهود ساحات الطعن والكفاح.
وبناء عليه أرسل سفراءه يطرحون أمام الملك ثلاث قضايا، وقد وكلت قيادة هذه السفارة إلى راهب يدعى ميفورت، فتقدم هذا محفوفا بالحرس نحو خيام هارلود رافعا بيده راية الهدنة، وعارضا القضايا الثلاث الآتية التي يتوقف تجنب القتال على قبول هارلود بواحدة منهن:
أولا:
على الملك هارلود أن يسلم وليم العرش كما حلف له على العظام المقدسة في نورماندي.
ثانيا:
أو أن يتفق هارلود ووليم كلاهما على طرح مسألة الخلاف بينهما أمام قداسة البابا، ويرضخا لحكمه العدل وقوله الفصل.
ثالثا:
أو أن يحل المشكل بعراك انفرادي يتبارز فيه المتزاحمان إلى العرش الإنكليزي أمام نخبة من الجيشين، ومن البديهي أن هارلود كان لا يرضى ولا بواحدة منها؛ لأن الأولى كانت تقضي بتخلي هارلود وتخلفه عن كل شيء، والثانية ترتب عليه قبول حكم لا بد من صدوره ضده؛ لأن البابا كان قد حق دعوى وليم كما سبق معنا، ولا يلبث الآن أن يحكم له بها، ومن البعيد أنه ينقض حكمه الأول، والثالثة تعرضه لخطر اندحار لا يسعه تلافيه، وانخذال فيه من الذلة والهول ما فيه؛ لأنه كان رجلا ضعيف البنية نحيف الجسم قليل القوة بعكس وليم، فإنه كان مشهورا بعظم جثته وشدة قوة عضلاته.
نعم إن المبارزة الشخصية بالأسلحة النارية في الوقت الحاضر لا مزية فيها لاشتداد السواعد وقوة الأعضاء، وأما في ذلك العهد الغابر حين كانت المبارزات تقضى بالفئوس والحراب والسيوف والرماح، فكانت حاجة هذه القوى شديدة، واعتبارها عظيما جدا، والخلاصة أن هارلود رفض قبول كل من هاتيك القضايا ، ورجع الراهب إلى وليم بالإفادة، على أن وليم لم يقنط من حبوط مسعاه في المصالحة، بل أرسل مرة ثانية يعرض على هارلود قضية رابعة مفادها: أنه إذ كان هارلود يعتبر وليم ملك إنكلترا، أو يعترف بسيادته عليها يسلم البلاد لعهدته وعهدة أخيه غرث ليحكما عليها تحت سلطانه المطلق، ويرجع إلى نورماندي ويجعل مدينة روان التي قاعدة إمارة الآن عاصمة كل المملكة المتحدة ما شاء الله من الزمان، فأجاب هارلود: إنه ليس بقادر في أية حالة كانت أن يتنازل عن حقوقه كملك إنكلترا، وعليه فهو يأبى قبول هذه القضية أيضا، وزاد على ذلك قوله: إنه يود من كل قلبه حسم هذه المشاكل بدفع المال، بمعنى أنه إذا كان وليم يعدل عن حملته ويرجع إلى نورماندي مقفلا مطاليبه بشأن العرش الإنكليزي، فهو يدفع له قدر ما يشاء من الأموال.
على أن ذلك لم يقع عند وليم موقع الرضى والاستحسان؛ لأنه كان في اعتقاد نفسه الوارث الحقيقي لملك إنكلترا، فضلا عن أن بواعث عزة النفس والشهامة كانت تدفعه إلى الإصرار على طلب هذه الحقوق المقدسة في عينيه، وقد انقضى ذلك النهار بطوله وذهبت في كل هاتيك المداولات بشأن الصلح عبثا، ولما أرخى الليل سدوله طفقت ضباط وليم ومستشاروه يتضايقون من ثقل التأخر، ويتذمرون من طول شقة الإبطاء، فأخطروا أميرهم وليم بسوء عقبى هذه المماطلات من وجه أن كل ساعة تفسح بها من أجل القتال تمهد لهارلود الحصول على قوات جديدة، بينما هم أنفسهم لا ينتفعون منها بشيء، وعليه فانتصارهم يضعف تحققه كلما طالت مدة تأخر الحرب؛ ولأجل ذلك وعدهم وليم بالحمل على الملك هارلود في معسكره في فلق صباح اليوم التالي.
وإذ كان وقت المعركة الأخيرة الهائلة على الأبواب علقت أفكار هارلود تضطرب أكثر فأكثر، وتتشوش بتوقع المخاوف والأهوال، حتى إن أخويه أنفسهما قلقا لهذه الأحوال، وكان يزيديهما بلبالا تذكرهما القسم الذي أقسم به هارلود، وتلك البقايا المقدسة التي تشهد عليه، وتمكن فعله وتأثيره، ولم يكونا متحققين قيام عذر أخيهما بإتمامه القسم على طريقة الاضطرار، وأنه يبرئه من طائلة الجريمة واللعنة في الموقف الأخير، فارتأيا قبل خوض معمعة القتال أن يتنحى هارلود عن القيادة ليتقلداها هما، ثم قالا له: «لا يسعنا أن ننكر أنك حلفت اليمين، وبغض النظر عن الظروف والأحوال التي اضطرتك أن تفعل هذا، نرى الأصوب أنك تتنكب بقدر الإمكان تعمد الحنث بما أقسمت، والأولى أنك تغادر الجيش وتمضي إلى لندن، وهناك تقدر أن تقوم بصيانة المملكة بتجهيز قوات جديدة، ونحن هنا ننوب عنك في مباشرة القتال، وبهذا نصرف عنا غضب الله إذ نكون قائمين بواجب الدفاع عن الوطن في وجه عدو غريب مهاجم» أما هو فلم يوافقهما على رأيهما هذا بل قال لهما: إن قلبه لا يطاوعه على التنحي في ساعة دنو الخطر، ولا يراه لائقا بشهامته أن يتركهما وجميع أصدقائه عرضة لويلات حرب يكابدونها لأجل وقاية تاجه الملوكي، وعلى هذا النحو كنت ترى الجيشين في تلك الليلة قبل القتال، ولا ريب في أن أفكار رجال هارلود في ظروف كهذه كانت مغشاة بظلام اليأس والقنوط، بينما كانت قلوب رجال وليم ملأى فرحا ونشاطا.
فلزم هارلود شأن غيره من الناس في هاته الحال أن يخفف حمل الاضطراب الذي تثقل به قلبه، وانضغطت به نفوس رجاله بواسطة الولائم والمسكرات، فأمر بإعداد عشاء فاخر، وأمد عساكره بكثير من المشروبات. ويروى أن كل معسكره آناء تلك الليلة كان يمثل مشهدا طويلا عريضا للسكر والبطر، بحيث كانت العساكر متألبة جموعا جموعا في كل ناحية حول نيران الخيام، بين قعود وقيام، هرج وخصام، وإنشاء أغان وطنية، ومقاطيع حماسية همجية، وإنشاد مراقص بربرية، منقادين للانبعاث فيما كان تدعوهم نشوة الخمر إليه، وتبعثهم سورة البيرة عليه، أما معسكر وليم فكان يشاهد على هيئة تختلف عن هيئة معسكر هارلود كل الاختلاف، فإن جميع الكهنة وسائر خدمة الدين الذين فيه أحيوا تلك الليلة بإقامة الصلوات، وتقديم التضرعات والابتهالات، وإنشاء التراتيل المختارة والترانيم المستجادة، والإتيان على جميع شعائر السجود وفروض العبادة، وذلك بمساعدة العساكر الذين اجتمعوا جماهير في فسحات الخيام وحول نيران المعسكر، ثم طلبوا الراحة في مضاجعهم مشعرين بإضافة التحقيق والضمان لنجاح عملهم في الغد بواسطة تعبدهم لله الذي استودعوه نفوسهم وأجسادهم، ووكلوا إليه صيانتهم وحمايتهم، وكان أول عمل أجروه في الصباح أنهم اجتمعوا للاحتفال في قداس عظيم.
ومن الغريب أن تمزج الفرائض الدينية أو بالحري المظاهر التقشفية بروح الغزو والنهب، وحب القتال والحرب، فكان الأسقف الذي قام صباحئذ في خدمة ذلك القداس لابسا عدة الحرب تحت حلته الكهنوتية، والشماس القائم بجانبه عند تقديم الصلاة مشرعا في يده حربة فولاذية على أهبة المسير إلى ساحة الوغى حين انتهاء الخدمة، وعندها خلع الأسقف حلة الكهانة، واعتقل آلة الجلاد، وامتطى جواده الذي كان مسرجا بجانبه، واستلم قيادة فرقة من الفرسان، وتأهب للحرب والطعان، ثم علا وليم جوادا كريما إسبانيا يدعى بايارد كان قد أهدي إليه من أحد أمرائه، وكان معلقا بعنق وليم بعض العظام المقدسة التي حلف عليه هارلود يمينه الكاذبة، معتقدا أنها تكون له عوذة تقي حياته، وتحقق قضاء الله العادل القادر على هارلود الخائن والغادر، ورفعت بجانبه الراية المقدسة التي أهداه إياها البابا بواسطة جندي شاب، وكان قد عهد حملها إلى جندي آخر أكبر منه سنا فاعتذر بقوله: إنه يود استبدال هذه الخدمة في مثل هذا اليوم بالسيف والرمح.
وفي أثناء هذه الاستعدادات للخروج إلى القتال وقف وليم محاطا بحاميته على هضبة وسط المعسكر، وعلى مرأى من جميع الجيوش، فأخذوا كلهم ببديع هيئته وضخامة جثته، وسعة صدره المصفح بالفولاذ، وهيبة جواده الذي كان كراكبه معتزا بمظاهر الهيبة والوقار، مختالا بباهر المباهاة والافتخار، ومتشوقا لخوض مضمار الوغى بفروغ الاصطبار، ولما انقضت ساعة التأهب والاستعداد سالت تلك الأرجاء بجيوش النورماندية الزاحفة بمجلى الأبهة والمجد نحو الصفوف الإنكليزية، على أن تلك المجالي العظيمة ما لبثت أن توارت تحت أطباق الجماهير المقذفة للهيجاء، والتي استفحلت فيها يد الحتوف مدة عشر ساعات، صرفت بتسليم نفوس أولئك الألوف لأحكام القضاء، واندفاعها لساحة قامت فيها الحرب على قدم وساق، وراجت سوق القتل والإعدام، فأصابت بضاعة الأرواح أي نفاد ونفاق، وانتزعت الرحمة من الأفئدة، وامحت رسوم الرفق والتوءدة، وهجرت الدماء مرابع الشرايين والأوردة.
وظل ذلك النهار مسدودة فيه منافس الأقطار حتى أمسى المساء وإذا بالنورمانديين ظافرون منتصرون، والإنكليز مغلوبون مقهورون، فاستظهرت عساكر وليم وجالت في ساحة القتال ذهابا وإيابا بالطول والعرض، وخيولها تدوس الذين انطرحوا من رجال هارلود قتلى، وقد غشيت جثثهم وجه كل تلك الأرض، والذين نجوا من حد السيف نكصوا على أعقابهم متسابقين نحو الشمال، وقد امتلأت الطرق على طولها بالذين سقطوا فيها صرعى، إما من فرط الإعياء أو من كثرة ما نزفته جراحهم من الدماء.
وفي الصباح جمع وليم عساكره، وتفقد قواده وضباطه وجنوده بأسمائهم؛ ليرى من ذهب منهم فقيدا، وعندها قدم عليه راهبان مرسلان من قبل الباقين من جيش هارلود يقولان له: إن الملك هارلود مفقود، وقد شاع الخبر بأنه قتل، فإن صح ذلك فلا بد أن تكون جثته مطروحة في ساحة القتال؛ ولذا قد أتيا لكي يلتمسا منه إجازة التفتيش عليها، فأجاب وليم طلبهما، وانطلقا يفتشان عليها ويبحثان عنها بمساعدة بعض العساكر.
وقد تراءى للمفتشين مدة أن البحث عن هارلود بين القتلى لا يجديهم نفعا، ولا يأتيهم بفائدة من قبيل أن وجوه جميع الموتى هنالك كانت قد تغيرت هيئاتها، واستحالت كلها إلى مظاهر متشابهة يعسر التمييز بينها، أخيرا عثرت على جثة هارلود امرأة عاشت في بيته زمانا طويلا، وعرفته أكثر من غيرها، فدلت المفتشين عليها، وهؤلاء حملوها وانصرفوا، وهكذا انتهت معركة هستن، وبانتهائها انفرجت الأزمة المتعلقة بالعرش الإنكليزي، فإنه وإن يكن عقبها مظاهرات عدوانية من قبل بعض أصحاب هارلود وأتباع إدغرث الذين حاولوا تخليص العرش، فقد ذهبت جميعها قبض الريح، ومن ثم زحف وليم على لندن وتحصن فيها، ثم حمل منها على سائر الجهات التي استروح فيها الثورة والعصيان حتى دوخ كل أطراف البلاد، وأدرك من إخضاع سائر أطراف الجزيرة المراد، وجرى الاحتفال بتتويجه في دير وستمنستر بغاية الإجلال والاحتفاء.
ثم أرسل ودعا متيلدا ولقبها ملكة إنكلترا، واغتصب جميع من وقف في طريقه من أشراف إنكلترا أموالهم وأملاكهم، وقسمها بين القواد النورمانديين الذين ظافروه في هذه الحملة بكل اعتناء، وأبلوا في ساحات الحرب أحسن الإبلاء، وبعدها صفت له الأيام، وبسم له الدهر عن ثغر السعد والتوفيق، فعلت مكانته وعظمته في عيون جميع أهل نورماندي وإنكلترا، وظل على سنين معتبرا ومعدودا أعظم ملوك الأرض في ذلك العهد وأغناها، وأما سعادته العائلية وراحته الشخصية فسوف يأتي البحث عنهما في الفصل الآتي.
الفصل الحادي عشر
عصيان البرنس روبرت
إن أهل الطمع والحرص على الشهرة العالمية الذين يقفون حياتهم ويصرفون عنايتهم في ربيع العمر نحو تحصيل المطامع الشخصية ونيل الأماني الذاتية، قلما يبالون بسياسة أولادهم وتهذيبهم؛ ولذلك كثيرا ما تقضى سنوهم الأخيرة بمرارة وعذاب منشؤهما تطوح بنيهم في الرذائل، وانبعاثهم في التبذير والإسراف واتباعهم الشهوات، وسيرهم وراء كل مفسدات الأخلاق، وهكذا حدث لوليم، فإنه ما تنفس من إخضاع أعدائه وتسنمه عرش السيادة المطلقة على كلتا مملكته في إنكلترا وإمارته في نورماندي حتى شاب كأس سلامه وسعادته وتشوش نظام ملكه بكدر خصام عائلي.
فإنه كان اسم ابنه الأكبر روبرت، وعمره حين حمل أبوه على إنكلترا أربع عشرة سنة، وكان إذ ذاك غاية في الرعونة والطياشة؛ لأن أمه أحبته وأعزته إلى درجة لم تبق فيها على تفنيق أو تدليه إلا بذلته له، ويذكر القارئ أن وليم قبلما أقلع بعمارته إلى إنكلترا قلد متيلدا نيابة الحكم، وخولها السلطة على إمارة نورماندي مدة غيابه، فأشرك هذا الصبي في النيابة مع والدته، وصار يعتبر نفسه أنه بلا شك أهم منها في المركز والوظيفة.
وبالاختصار نقول: إنه بينما كان وليم يجد في إنكلترا بمطاردة أعدائه كان روبرت في نورماندي يشب على الصلف والبطالة، ويرد الرذائل لا يترك في كأسها أدنى ثمالة، وكان أبوه كثيرا ما يشتبك معه في تردده من إنكلترا على نورماندي في منازعات ومخاصمات كانت متيلدا في كلها تتصحب للابن، وكان ابن وليم الثاني المسمى وليم روفوس يغار من أخيه الأكبر، ويغتاظ من سلوكه، ولا يصبر على عجبه وكبريائه، ويميل إلى جانب أبيه في هذه القلاقل العائلية، فكان فظا شرس الخلق كأخيه غير أنه لم يكن مثله منعما، وبالنتيجة كان مالكا روحه وحاكما على نفسه، وعالما كيف يروض الأمور، ويرود مداخل الأحوال وخارجها، ويخفي في حضرة أبيه ما عنده من العواطف والانفعالات، وكان لهما أخ ثالث أوطأ منهما جانبا، وألين عريكة، وأسهل مراسا، فكان يعتزل المداخلة ويلزم جانب الحيادة في الخصام ما لم يبعثه على ذلك مكرها أخوه وليم روفوس؛ لأنه كان صديقه ورفيقه حتى إن روبرت كان يعده له عدوا.
وبالحقيقة إن الجميع ما عدا متيلدا كانوا ضد روبرت الذي كان ينظر إلى إخوته الأصاغر بعين العجب والسيادة، شأن كل ابن أكبر يرى نفسه وليا ووارثا لبيت عامر بالعظمة، وآهل بالغنى، وأبوه الملك عوضا عن كبح جماحه واستئصال جراثيم الكبرياء منه تارة بواسطة الحنو والرقة وأخرى بواسطة إظهار السيادة الوالدية - كان يزيده نكاية وغيظا بسلقه بتوبيخ حاد صارم، وكان يلقبه في أثناء هذه التأنيبات الهزلية ب «حذاء القصير» نظرا لقصر قامته، وإذ كان روبرت قد بلغ رشده كان يشق عليه ويكسر قلبه أن يسمع أباه يلقبه لقبا مهينا كهذا، ويوغر صدره حقدا وحب انتقام.
وفضلا عما ذكر كان لديه أسباب أخر للتشكي من أبيه أعظم شأنا وأجل اعتبارا، فإن أباه كان قد خطب له وهو بعد طفل حسب عادة الأيام ابنه أحد الأمراء المجاورين، ووريثته الوحيدة، وكانت طفلة نظيره، واسمها مرغريتا، والمقاطعة المعدة لها ميراثا كانت ماين، وهي بلاد غاية في جودة التربة والخصب والغنى على متاخمة نورماندي، وكان من شروط الخطبة أن تسلم أملاك الخطيبة الصغيرة لأبي الخطيب، وهذا يظل قائما في نظارتها والوكالة عليها حتى يبلغ الخطيب أشده، وتزف إليه العروس، وبالحقيقة إن امتلاك مقاطعة كهذه كان الباعث الوحيد الذي حدا وليم على القبول بمثل هذه الخطبة.
فإن صح أن هذه كانت بغية وليم فقد جرت التقادير على أكثر من مرامه وأعظم من انتظاره؛ لأن تلك الوريثة الصغيرة ما لبثت أن توفيت بعد أن تسلم حموها أملاكها ، ولم يكن حينئذ من يستردها منه، فبقيت في حوزته حتى أدرك ابنه العريس سن الرشاد، وإذ ذاك طلبها من أبيه مدعيا أنها له، فأبى وليم تسليمها بحجة أن ما حدث بين ابنه في طفوليته ومرغريتا لم يكن زواجا بل خطبة - عربون قران في المستقبل يعقد عند بلوغ العروسين سن الزواج الشرعي - وإذ قد حال موت مرغريتا دون إتمام هذا القران، فروبرت لم يكن زوجها، وبالنتيجة لا يسوغ له طلب حقوق زوج، بل ينبغي أن تبقى الأراضي في يدي وصيها، ومهما يكن من الحقوق التي يدعيها ورثة مرغريتا، فواضح أن ابنه ليس له شيء من ذلك.
وهب أن هذا الاحتجاج كان مقنعا وسديدا في عيني وليم، فروبرت لم يعده سوى ضرب من المماحكة والتعنت والنكاية، وحسبه جورا وخسفا من أبيه الذي لم يقنع بما لديه من الأملاك والمقتنيات حتى طمع في سلب ما لابنه، وكانت أمه متيلدا من رأيه في هذا، أما وليم روفوس وهنري فلم يباليا بالمسألة من وجه حقانيتها أو بطلانها، بل سرا بنتيجتها وابتهجا برؤية أخيهما يلتهب حنقا ويتميز غيظا من جراء فشله في محاولة امتلاك تلك المقاطعة.
وكان لخصام روبرت مع أبيه داع آخر لا يقل عما ذكر شأنا وأهمية، وهو أن وليم - كما سبق معنا - كان قبل حمله على إنكلترا قد أقام متيلدا وروبرت نائبين عنه في الحكم مدة غيابه، ففي بداءة الأمر كان روبرت بعد صغيرا فكان مرجع الحكم في كل القضايا لوالدته، وعندما أخذ يشب وينمو طفق يتظاهر بالنفوذ والسطوة، وإذ كان أليف الطمع وحب الذات، وعزيزا عند والدته؛ تمكن شيئا فشيئا من حصر القوة والسيادة في يده، وقد مر على وليم منذ بارح نورماندي ثماني سنوات قبلما استطاع أن يمكن سلطانه في إنكلترا، ويوطد سيادته عليها على دعائم الرسوخ والثبات، وعند خروجه من نورماندي فارق روبرت صبيا في سن الرابعة عشرة عديم القوة والنفوذ بالكلية، وإن كان عندئذ في غاية الشكاسة والطياشة، وفي رجوعه من إنكلترا وجده رجلا ابن اثنتين وعشرين سنة، وأشد شكاسة وطياشة، وفوق ذلك رآه قابضا على زمام السلطة والنفوذ، وغير راض في التنحي عن الحكم وتسليمه له.
وبالواقع أبى أن يتخلى لأبيه عن إدارة السيادة في نورماندي محتجا أن أباه كثيرا ما وعده بهذه الإمارة عندما يبلغ طور الشباب، والآن فهو يطلب منه إنجاز وعده، ثم زاد على ذلك قوله: أن هذه الإمارة لم تعد ذات شأن عظيم في عيني أبيه الذي أصبح الآن ملك إنكلترا، ولبس في بقائها تحت سلطانه ما يزيده شهرة وعظمة، فيمكنه - إن أراد - أن يمنحها لابنه بدون تكبده خسارة عظيمة في ذلك، على أن وليم لم يحتفل بكل هذه التمحلات، ولا وافق على أنه وعده بإمارة نورماندي، ومن جهة منحه إياها فهو لا يصوب سياسة الرجل الذي يسلم قوته أو أملاكه لأولاده قبلما يكونون قد استحقوا ذلك كوارثين له بعد موته، ومن ثم فلا يفعل ذلك مطلقا، ولم يكن قط ليفتكر «بخلع ثيابه قبل ساعة نومه».
وكان شر الاستياء والغيظ يزداد بفعل هذه المعاكسات، وخطبهما يتفاقم يوما بعد يوم، لكنه بقي مدة سريا بيتيا لا تتجاوز أنباؤه أبواب القصر، على أنه حدث بعد ذلك ما رفع عنه الخفاء، وهتك حجاب كتمانه، فاستحالت المخاصمة العائلية السرية إلى منازعة علنية جهارية، وتفصيل ذلك ما يأتي:
خرج وليم سنة 1076 بعائلته ورجال حكومته إلى إحدى قلاعه في نورماندي المدعوة ليغل (النسر)؛ ليقضي فيها فضلا من السنة، ففي ذات يوم كان ابنه وليم روفوس وأخوه هنري في إحدى غرف الطابق العلوي من القلعة يلعبان بالنرد، ويأخذان بأطراف التسلية والمنادمة مع نخبة من شبان الحكومة بألعاب مختلفة، وكان لتلك الغرفة شباك يقود إلى شرفة أمامه يطل منها على دار الحكومة في أسفل القلعة، فروبرت كان في فسحة تلك الدار مع نفر من أتباعه يتمشى مدفوعا بفواعل الغيظ الناشئة عن بعض مخاصمات سابقة مع أخويه، فأطل وليم روفوس من الشرفة ورآه.
فحاول إضرام جمرة غيظه بأن صب عليه قليلا من الماء، وذلك بعث بروبرت على أن ينشط من عقال الغيظ الساكن ، ويهب من ضجعة الحرد الهادئ الداخلي إلى هيجان وحب انتقام لا ينقصهما شيء من مظاهر الجنون، فجرد حسامه ووثب نحو درج طبقة العليا وهو يقذف بالشتائم واللعنات المخيفة، ويتوعد من ارتكب هذا الفعل المهين بالقتل ولو كان أخاه، وعندها أصدي جو تلك الدار بالصياح والصراخ، وعلت فيها أصوات الصخب والضوضاء، وتزاحمت إلى ساحتها أقدام المتراكضين، واختلطت فيها إشارات المنذرين بالويل والثبور، وأخذ كل يهرول صاعدا نحو الغرفة التي صب الماء من شرفتها بعضهم لمجرد المشاهدة، والبعض الآخر لملاقاة الشر ومداركة تفاقم الخطب، واتفق أن الملك ذاته كان أوانئذ في القلعة فخف مسرعا إلى الغرفة؛ ليحول دون منازعة بنيه، ويصدهم عن ارتكاب هذا الإثم العظيم، وكان ذلك كما رآه هو نفسه غاية في الصعوبة يتطلب بذل كل سلطته الأبوية وسيادته الوالدية، على أنه أخيرا تمكن بواسطة مساعدة الحضور من الفصل بين المتخاصمين، وإخراج روبرت منقطع الأنفاس منهوك القوى من شدة الغيظ والغضب إلى خارج.
أما روبرت فاعتبر أباه ضدا له في هذه المخاصمة، وصرح علانية بأنه لم يعد في طاقته أن يصبر بعد على هذه المعاملة الجائرة، وقد آنس شيئا من ميل والدته نحوه، فذهب إليها متظلما متشكيا، وهي قاسمته الكدر وشاركته في مصابه، واجتهدت في أن تصب زيتا على أمواج غيظه المتلاطمة، أما هو فلم يقتنع بضروب هذه المجاملة، بل قضى غابر ذلك النهار ومساءه في إغراء فريق من الشبان الشرفاء الطائشين العاطلين من حلي التهذيب والآداب على شق عصا الطاعة لأبيه، واغتصابه إمارة نورماندي عنوة، فأجابوه إلى ذلك وأجمعوا سرا على إخفاء مقاصدهم وكتمانها، وعولوا تلك الليلة على مغادرة القلعة والخروج على مدينة روان العاصمة ومحاصرتها، وعليه فما انتصف الليل حتى امتطى أولئك الثائرون ظهر خيولهم وساروا، وفي الصباح أخبر الملك بذهابهم، فجند جيشا قويا وسيره وراءهم، وكان من ذلك أن أخفق مسعاهم في محاصرة روان؛ لأن جيش الملك تأثرهم ونازلهم في معركة انجلت عن أسر بعض العصاة، أما روبرت فنجا ببعض أتباعه وفر إلى مقاطعة مجاورة يطلب لنفسه ملجأ في قلعة أحد أعداء أبيه، فأفعمت هذه الحادثة فؤاد متيلدا هما وحزنا؛ إذ رأت أنه لم يبق بد من انتشاب حرب أهلية بين الأب وابنه.
وبينما كانت مقتضيات الواجب ودواعي الحكمة تفرض عليها الانحياز نحو الأب، قامت في قلبها بواعث المحبة الوالدية تتغلب على تلك المقتضيات والدواعي، وتميل بها بقوة لا تقاوم نحو ابنها، أما روبرت فأخذ يجمع إليه في ملجئه جميع أهل المطامع الطامحين الطائشين من سائر أنحاء المملكة، ويعمل على نكاية أبيه وتعكير كأس راحته، وفي غضون ذلك كانت أمه قائمة مقام المحامي في وجه أبيه، وملازمة مواصلته سرا بكل ما يجد ويحدث من الأخبار، ويبدو لها من المشورات، ويتيسر لديها من الإعانات حتى كانت ولا ريب مرتكبة في ذلك جريمة فظيعة، جريمة المؤامرة ومواصلة الأخبار مع العصاة، وقد كان لتصرفها هذا وجه من الحق، وقد نتج عنه شيء من الفائدة؛ لأنها سعت جهدها في إصلاح ذات البين بين الأب وابنه، فبهذه الواسطة خففت نوعا ثقل وطأة تلك المخاصمة.
ومعلوم أن الفوز في حرب أهلية كهذه كان نيله مضمونا للملك؛ فوليم كان مالكا متحيزا لجميع ما في المملكة من القوى من الجيوش والمدن والقلاع والأموال، أما روبرت فلم يكن لديه سوى عصابة مؤلفة من شبان متوحشين طائشين خاملين ثائرين بلا سلطة وبلا مال، وبلا أقل وجه من الحق في الثورة والعصيان، حتى إنه جعل من تلقاء نفسه يقتنع بالتدريج بعدم فائدة هذا العتو والتمرد، ومتيلدا ذاتها إذ أدركت صيرورة هذه الثورة إلى التلاشي والانحلال شرعت تجاهر بزيادة في تسديد مساعيها نحو إخمادها بالكلية، وأخيرا نجحت في حمل روبرت على ترك السلاح ودعوته إلى مقابلة أبيه رجاء استئصال مواد الخصام، وتأصيل جذوع الصلح والسلام.
على أنه ما لبث أن ظهر من خلال هذه المقابلة أن لا سبيل للحصول على مصالحة وثيقة العرى، وسلم وحيدة الأركان؛ لأنه مع انتهاك قوى كلا الأب والابن في تلك الحرب الأهلية التي بها صلى كل منهما الآخر، فمحبة الذات والمطامع الشخصية التي بنيت عليها تلك المخاصمات ظلت في كل منهما هي إياها بدون أدنى تحول، فإن روبرت جعل فاتحة حديثه تقاضي أبيه وعده له بحكومة نورماندي، أما أبوه فأجابه على ذلك موبخا إياه بصرامة على عصيانه الردي، وإنذاره بتوقع نصيب أبشالوم الذي حذا روبرت حذوه في هذا التمرد، فرد عليه روبرت بقوله: إنه لم ينو مقابلة أبيه بقصد استماع موعظة منه؛ لأنه كان قد نال كفايته من استماع العظات عندما كان صبيا يدرس قواعد اللغة، فغاية ما يريده من الآن هو الإنصاف لا الوعظ.
أما الملك فقال: إنه لا يرضى مطلقا أن يقاسم أحدا أملاكه وهو بعد حي، وزاد على ذلك قائلا بأنه وإن كان روبرت قد ذكر المواعظ بمعرض الهزء والازدراء، فالإنجيل المقدس يقول: كل بيت ينقسم على ذاته لا يثبت، ثم استطرق إلى تأنيب ابنه وتقريعه بشدة على خيانته كأحد الرعية وعلى حقوقه وعدم بره كابن وقال: إنه مما لا يحتمل أن يكون الابن أشد مقاوم وأكبر عدو لأبيه في حالة كونه مديونا له، ليس فقط في كل ما يتمتع بنواله منه، بل في أمر وجوده أيضا.
وقد لفظ وليم كل هذه التوبيخات على طريق الغيظ والغضب، ونطق بها بلسان الوعيد والتهديد، وعوضا عن أنها تؤثر في روبرت شعورا بخطئه يحدوه على التوبة والندامة ضاعفت فيه روح العناد والعصيان، ولم يأت توبيخ أبيه على حقوقه وكفره بالحقوق الوالدية بأدنى جدوى، فخرج من لدنه بغتة والغيظ حشو حشائه، والشتائم ملء فيه، وفي قلبه من نار السخائم والضغائن ما فيه، وعول مرة ثانية على مهاجرة البلاد رغما عن كل ما انتحته والدته متيلدا من الوسائل والوسائط في منعه قائلا: إنه بالأحرى يفضل أن يكون من الجالية التائهين بلا مأوى في بلاد غريبة، على بقائه في قصر أبيه معاملا بالقساوة ممن كان يتوقع الإخلاص والصداقة بداعي الحقوق والواجبات، وإذ لم تقوى والدته أن تثنيه عن عزمه هذا دعا إليه بعض الطرارين من رفقائه، وضرب بهم نحو الشمال مجتازا نورماندي يفتش على ملجأ عند خاله أمير فلندرس، فاستقبله هذا بكل إعزاز وترحاب؛ أولا: إكراما لأخته، وثانيا: نكاية بالملك وليم جاره القوي البطاش الذي كان (أمير فلندرس) يحسده على رفعة شأنه وعظمة مجده، وسعة نطاق توفيقه، وحسن طالع سعده.
وإذ كان روبرت عاجزا عن تجديد الحرب مع أبيه مجردا عن القوى والوسائط أنشأ يراسل جميع أمراء نورماندي وأشرافها الذين رأى فيهم الارتياح إلى ذلك، ويحثهم على القيام معه سرا ضد أبيه، فلبى أولئك دعوته وأنشئوا اكتتابا سريا سدا لحاجاته، على وعد أنه يعوض عليهم بالمنح والهدايا وحسن المجازاتد، بعد إذ يتمكن من نيل حقوقه المطلوبة من أبيه، ولم يغفل في الوقت ذاته عن مراسلة أمه متيلدا واستمداد بعض الاحتياجات منها، ولكن كل ذلك كان سرا أيضا بغاية التحرس والاحتياط، وقد توفق لاكتساب صداقة غير الذين مالئوه في نورماندي، فإن فيليب ملك فرنسا ذاته كان مسرورا جدا بشبوب نيران هذا الخصام في عائلة جاره الذي بعدما كان خاضعا لسلطانه أصبح بغلبته على إنكلترا مزاحمه الأكبر، ومناظره الأسبق في مضمار السؤدد والأبهة، وكان من أشهى الأمور لديه استماع ما يبعث على خسوف مجد وليم وتقلص ظل سلطانه، وينذر بانقسام قوته، وتفرق شمل كلمته؛ ولذا نشر من قبله سعاة وسفراء في جميع أنحاء نورماندي وسائر أطراف فلندرس يشجعون الثائرين، ويثبتونهم في القيام على حكومة وليم، وقد احترز غاية الاحتراز من أن يعدهم جهرا بالمساعدة، على أنه سعى سرا بألف واسطة مكتومة في تنشيط روبرت وتحريضه وحمله على توقع العون منه.
وهكذا كنت ترى الثورة يتسع خرقها ويمتد نطاقها وهي باقية محصورة ضمن حدود القوة لا تتعداها إلى الفعل، وكان السر في ذلك خلو روبرت من الوسائط الفعالة، وتعريه من القوى العقلية الضرورية في الإقدام على عمل خطير كهذا، فمرت الأيام وانقضت الشهور بدون أدنى مجاهرة في العصيان، حتى إن مشايعي روبرت في نورماندي داخلهم الخوف، واستولى عليهم اليأس، فانقطعوا عن جمع الاكتتاب، وابتدءوا شيئا فشيئا ينسون قائدهم الغائب الخامل، أما روبرت فقضى وقته بارتكاب المعاصي واجتراح المآثم، وإنفاق ما أرسله إليه أتباعه على الانبعاث في أوحال السكر، والارتطام بحمأة الفواحش، وأوشك عندما فرغت يداه من المال ونضب حوض معداته أن يهيم على وجهه مقذوفا بتيار القنوط والضيق، لو لم يدم له صديق واحد وأي صديق، صديق عطف عليه ومال إليه، وقشع ديجور اليأس عن عينيه، وذلك الصديق كان أمه نصيرته في كل ملمة.
وقد علمت متيلدا جيدا أن كل ما تصنعه لابنها الغائب ينبغي أن يصنع بمزيد الدقة والحرص، بحيث لا يتجاوز دائرة الغموض والخفاء، وذلك اقتضى له ما لا مزيد عليه من الاحتيال والدهاء، وقد ساعدها عليه تغيب زوجها، فإنه كان في هذا الوقت قد مضى إلى إنكلترا مدعوا بإلحاح شديد للنظر في بعض المسائل العمومية، وعهد نظارة الحكومة في نورماندي إلى وزير استسهلت متيلدا مراقبته، ورأت أنه لا يصعب عليها مواصلة ابنها في أيام نظارته، فأمدت روبرت في فلندرس بما لديها من المال، ثم صارت تلبيه بالمعين لها، وكلما أرسلت له بزيادة كان بمقدار ذلك يكرر الطلب، ويلح في استدعاء إعانات جديدة.
ومعلوم أن ثروة الأم سواء كثرت أم قلت لا تكفي لسد عوز ابن مسرف بطال، فلما فرغت جعبة دراهمها باعت جواهرها، ثم ملابسها الفاخرة، وأخيرا الأشياء الثمينة المختصة بها أو بزوجها، وكل ذلك بطريقة سرية جدا، فالوزير المعهودة إليه نظارة الحكومة إذ كان أمينا وساهرا على رعاية ما عهد إليه لحظ أن أمورا سرية تجري في البلاط الملوكي، وذلك استدعى ارتيابه واشتباهه، وهذان استلزما مراقبته وانتباهه، فعلق يجوس حركات متيلدا ويترصد أعمالها، وفي الحال اكتشف على الحقيقة، وأرسل يعلم وليم بذلك، أما وليم فصعب عليه تصديق ما قرره له الوزير؛ ولذا عزم في الحال أن يتخذ جميع الوسائط الكافلة له تحقيق الأمر، فرجع إلى نورماندي، وهناك اتفق له في طريقه أن يقبض على أحد رسل متيلدا بينما كان ذاهبا إلى فلندرس يحمل إلى روبرت مالا ورسائل، وكان اسمه سمبسون، فأخذ منه وليم الدراهم والرسائل وأرسله ليسجن في إحدى القلاع، وبعد إذ وقع على البينات الكافية الناطقة بجريمة متيلدا انطلق مفعما حيرة وغيظا يطلب مشاهدتها؛ لينيلها ما تستحقه من التوبيخ على فعلها هذا الأثيم الذي أقل ما فيه الغدر بزوجها وتسليمه.
وقد وقع عليها لومه مرا وحدا، وإن كان قد عبر عنه بأسلوب رقيق، ونطق به بصوت يشف به عن الحزن أكثر منه عن الغضب، فإنه قال لها: «لا أرتاب في أني كنت لك على المدى زوجا أمينا مخلصا، ولست أعلم ماذا أردته فوق ما فعلته لك، فقد أحببتك حبا صادقا صحيحا، وبذلت قدامك ما يتعذر وصفه من الإعزاز والإكرام، فرفعتك إلى أسمى رتبة وأعلى مقام، واتكلت عليك غير مرة في مشاركتي في الحكم وإدارة شئون المملكة، ووثقت بك فاستودعتك أهم ما تحت سلطاني، والآن هذا هو جزائي، فإنك استعملت نفس المركز والقوة والوسائط التي أقامك عليها زوجك الأمين آلة لتسليمه بأقبح الطرق، ووسيلة لمساعدة وتقوية ألد أعدائه وأشدهم».
فلم تجب متيلدا بشيء على توبيخه سوى احتجاجها عن ولدها واعتذارها بأنه فعلت ذلك إصغاء لصوت المحبة الوالدية الذي لم يمكنها سد أذنيها دونه، فقالت له: ولم يسعني احتمال ترك روبرت يعاني الضيق والألم على حين أستطيع إنقاذه؛ فهو ولدي ودائما أفتكر به، وإني لأحبه أكثر من نفسي، وهو ذا الآن أصرح على مرأى ومسمع منك بأنه لو مات وأمكنني إرجاعه إلى الحياة بأن أموت لأجله لفعلت ذلك بكل فرح وسرور، فإذا كيف تتوهم أنه يمكنني أن أعيش هنا على السعة والرحب، وأتقلب على بساط الرخاء والرغد بينما هو يجول من مكان إلى آخر في غاية الضنك ولا أجتهد في إعانته، فسواء كان يحق لي أن أشعر هكذا أو لا لست أعلم، إنما هذا أعلم وهو أنه ينبغي لي أن أشعر هكذا، فما احتيالي هو ابننا البكر ولا أستطيع أن أهجره؟».
فخرج وليم من حضرتها يتضرم غيظا وكدرا غير قادر أن يفعل معها شيئا سوى التوبيخ، لكنه عول على معاقبة الرسول سمبسون معاقبة شديدة، فأصدر أمرا إلى القلعة حيث كان مسجونا بأن تقلع عيناه، فبلغ ذلك متيلدا ، وفي الحال أرسلت له نذيرا فلم يعتم أن هرب إلى دير كان تحت حمايتها وعنايتها، ومعلوم أن الأديرة في ذلك العهد كانت كمدن الملجأ في أيام الإسرائيليين حرما لا يجسر أحد أيا كان أن يطارد فريسته إلى داخلها، أما رئيس ذلك الدير فلكي يضمن حماية سمبسون أشار عليه أن يترهب، وهذا إذ كان راضيا أن يفعل بسرور كل ما يكفل له سلامة حياته حلق في الحال وقص شعره ولبس الحلة الرهبانية، ووقف حياته على تلك الخدمة متعهدا بوفاء نذورها، متبعا طريقة إخوانه الرهبان فيما يتعلق بالأصوام والتقشفات، وعندها تركه وليم يمارس خدمته بسلام.
وبعد اكتشاف هذه المواصلات بين الابن والأم صارت الأمور إلى حال أردأ بعدما كان ينتظر لها اطراد مجرى التحسين، فإن كثيرين داخل نورماندي وخارجها مالوا إلى جانب روبرت حتى ألف حزبه جيشا كبيرا، وعقدوا لواء قيادته له، وخرجوا به لمهاجمة مدينة روان، فأوجس الملك من ذلك خوفا عظيما، وجمع كل ما كان لديه من القوات وانطلق لمحاربة ابنه العاصي الثائر وبرفقته ابنه وليم روفوس، وجلست متيلدا ضمن قصرها مثقلة بآلام الخوف والحزن، وفي حالة كحالة كل أم وزوجة يتصل بها خبر معركة دموية بين ابنها وزوجها، فكان مجرد افتكارها فقط بأن أحدهما قد قتل الآخر كافيا لأن يطبق عليها بظلام الحزن الأبدي، وبالحقيقة إن ما توقعته متيلدا من المخاطر كان على الأبواب، فإن روبرت لم يستطع في قلعة ليفل الوصول إلى أخيه والفتك به.
أما الآن فقد تمكن من أبيه في سهر أرشمبري حيث حدثت هذه المعركة، وطعنه طعنة كانت لولا قليل صرعته قتيلا، وتفصيل ذلك أنه بينما كان الفرسان يجولون في معمعة القتال يضايقون بعضهم بعضا وهم غارقون بعددهم الحربية لا يتبين الواحد منهم وجه الآخر الواقف أمامه، إذا بروبرت قد التقى بفارس طويل النجاد عظيم الجثة، فصوب سنان رمحه نحوه، وطعنه في ذراعه فسقط على الأرض يئن من شدة الألم، ومن صوته عرفه روبرت أنه أبوه، كما أن وليم عرف أيضا أن عدوه الذي طعنه كان ابنه، فانبرى يفرغ عليه كنانة السخط والغضب، ويلعنه بأعظم اللعنات، وعندها ترجل روبرت مذعورا، وخر على الأرض بجانب أبيه صارخا مستغيثا، فأشاح وليم عنه وأبى قبول أدنى مساعدة منه.
ولم ينحصر مصاب وليم وقتئذ بسقوطه عن جواده وتأثره من جرحه البليغ، بل زاد على ذلك تقهقر رجاله، وانتصار قوم روبرت، حتى إن وليم روفوس جرح أيضا كأبيه، ولا تسل عن حالة متيلدا وقتئذ، فإنها باتت غرقى في بحار الهموم تتقاذفها تيارات الكآبة والحزن، حتى لم يعد في وسعها أن تتكبد رؤية هذه المخاصمات المريعة، فتوسلت إلى زوجها بحرارة ودموع غزيرة أن يجد طريقة لحسم هذه المنازعة التي لأجلها قضت الليالي سهرا، وصرفت الأيام نائحة باكية حتى عبثت بصحتها وقوتها أيدي النحول والخوار، ومالت بظلهما إلى التقلص والانحلال، وأصبحت ضئيلة نحيلة صفراء كالخيال، بحيث صار يتراءى للناظر إليها أنه إذا طالت مدة وطأة هذا المصاب عليها تذوب بنار حزنها وقهرها، وتنحدر بقوة يأسها إلى قبرها.
على أن وليم استجاب توسلاتها وأرسل فدعا ابنه، وبعد مداولات ومباحثات عقدت بينهما صلات الصلح والسلام، وانقطعت أسباب النزاع والخصام، وعاد وليم وروبرت إلى صداقة وطيدة البنيان، وتحاب شديد الالتحام، وبعد ذلك بقليل سافر وليم لإنكلترا لإنشاء قوة عسكرية في شماليها، فاستصحب روبرت معه إلى تلك الأقطار كأحد قواده الكبار.
الفصل الثاني عشر
الخاتمة
مضى على الملك وليم نحو عشرين سنة من معركة هستن سنة 1066 إلى وقت موته سنة 1087، قضاها ملكا مرهوب الجانب، مؤيد السلطة، مرفوع المنار في جميع جهات المملكة وإن كان لم يخل له فيها جو السيادة من أكدار المخاطر والمصاعب والمناوشات المتعددة، وكان قد استصحب معه من نورماندي إلى إنكلترا عددا كثيرا من النورماند، وألقى إليهم مقاليد القوة العسكرية والملكية، وقد اعتمد على حذقه ودرايته في كيفية إدارة الشئون وتخليص رئاسة السلطة إليه.
وقد شحن جهده في إقناع الأمة الإنكليزية بالمبدأ الخصوصي الذي بموجبه تسلط على إنكلترا، وهو أنه كان الوارث الشرعي للعرش، وأن مبعث سلطانه الجوهري هو حق السيادة وليس حق الغلبة وذلك بإجماع الشعب الإنكليزي، وبالواقع كان قسم عظيم من الإنكليز يعتقد أن حق تملك وليم فوق حق هارلود، على أنه إذا كان وليم غريبا مولدا وتهذيبا ولغة وكل حاشيته وأتباعه المقربين إليه، بل كل الجيش وسائر قادة الحملة المعتمد عليهم في حفظ السلطة كانوا غرباء أيضا - بملابس غريبة وأطوار غريبة ولهجة غريبة - كان السواد الأعظم من الإنكليز يرون نفوسهم خاضعين لنوع غريب من السلطان؛ ولأجل ذلك كثيرا ما جرت بينهم وبين النورماند المتسلطين عليهم معارك دموية هائلة؛ طمعا في كسر نيرهم، والانعتاق من عبوديتهم، فأصلوا نار ثورة كانت لا تخمد من جهة حتى تكون انتشبت من جهة أخرى.
وبذلك كان وليم لا يقر له قرار ولا يفرغ من تجريد القوات، على أنه هو لم يكن رجل حرب فقط، بل كان حاذقا محنكا وبصيرا بعواقب الأمور، فلم يفته أن استمرار ملكه ورسوخ قدمه وقدم خلفائه في إنكلترا موقوف على الأساس الذي تبنى عليه قوانين البلاد المدنية، وعلى النظامات المسنونة للهيئة الحاكمة؛ ولذا لم يغفل عن ملافاة هذا الأمر، فأفرز قسما عظيما من وقته انقطع فيه للتأمل والتدبر، وقد أتى في مباشرة ذلك ما لا يسعنا وصفه من الحذاقة والتثبت والأصالة، وبالحقيقة أن همته كانت أرفع مما يستطيع الوهم إدراكه، كيف لا وقد رشحته لاقتحام أمر خطير جلل، والإقدام على عمل شاق كان يتهيبه هرقل، فإنه كان عليه أن يوفق بين أمتين، ويصوغ من لغتين لغة واحدة، ولو أنه حينما سمع عن تملك هارلود وهو في ظاهر روان وتوهم وجود حزب قوي في إنكلترا يميل إليه، ويلبي دعوته وحده أو مصحوبا بنفر قليل من النورماند، ويحقق ثقته بالإنكليز فيعتمد عليهم، لاستطاع تجنب الأخطار التي كان وطن نفسه على مصادمتها.
لكنه لم يكن من حزب كهذا هناك، بل لم يكن له على الأقل أدنى ثقة برجل واحد ذي قوة كافية تخوله اعتمادها والاتكال عليها، وتراءى له حينئذ أنه إذا أقدم على هذه الحملة يجب عليه أن يحصر اتكاله على القوة التي يقوى على تجهيزها من نورماندي؛ ولكي يحقق اتكاله هذا ترتب عليه أن يجعل تلك القوة منيعة الجانب عظيمة الشأن، ثم إن النورماند الذين أجابوه على دعوته، وشدوا أزره ومكنوه من التغلب على إنكلترا كانوا كثيري العدد، وكلهم يستحقون المجازاة بالتي هي أحسن، ولا يمكن تحصيل الجوائز لعدد كثير كهذا إلا من ذات إنكلترا على طريق سلب أهلها، وضبط أرزاقهم؛ إذ إن ما لوليم في نورماندي أقل من أن يفي بالمقصود.
ورأى أيضا أنه إذا أقام نخبة من النورماند على إدارة الأعمال العظيمة في إنكلترا مملكته الجديدة، وعهد إليهم بالوظائف العالية، وجعلهم مبدأ الثقة في الرأي، ومرجع الاتكال في الأمر والنهي، فإنهم يكونون حينئذ على نوع ما صفا ممتازا فينظر إليهم الإنكليز بعين الغيرة والحسد، ومن ثم فلا يأمل ثبوتهم في مراكزهم ما لم يكونوا كثيري العدد، شديدي القوة، فاتضح لديه والحالة هذه أن كان الأجدر به لو أمكنه أن لا يحضر معه واحدا منهم، وأما الآن وقد سبق السيف العذل، فصار من الحكمة أن يخلي زرعه في تكثير عددهم، وتوسيع نطاق نفوذهم؛ ولذا عول على نورماندية إنكلترا، أي أن يجعلها كنورماندي في كل شيء تقريبا، فأخذ يمد رواق اللغة النورماندية، ويشيع استعمالها في ألسنة جميع السكان، ويحتم بتعميم التكلم بها والتعامل في سائر الأشغال، حتى إنه سن بها الشرائع وسجل الإحصاءات وأجرى القيود في مطلق الأشغال بحروفها، ولا يزال الإنكليز مطعمين بها إلى هذا اليوم.
وقد استغرق امتزاج الإنكليز بالشعب النورماندي وسكب لغتي الأمتين في قالب واحد نحوا من جيل، حتى إذا تم ذلك أخذ الإنكليز يرتابون فيما إذا كان تغلب وليم على إنكلترا يقضي لهم بالافتخار، أو يحكم عليهم بالذل والانخذال؛ وذلك لأنه قد انطمست في وجوههم معالم أصلهم، فلم يعودوا يعرفون بالتحقيق: أمن النورماند هم فيفتخروا ببسالة أسلافهم وأعمالهم المجيدة، أم من سلالة الإنكليز فينوحوا أو يبكوا على انكسار شوكة إبائهم، وخسوف قمر مجدهم الخالي؟ ومعلوم أنه لم يكن ليتبين لهم وجه تخلص من هذه الحيرة، ولا اهتدوا إلى سبيل حل هذا المشكل الذي لا يزال مغلقا على الإنكليز المتناسلين منهم إلى وقتنا هذا.
ومن جملة الأعمال العظيمة التي أتاها وليم في إنكلترا ولا تزال مأثورة عنه إلى الآن، هو أنه أمر بعد كل نفوس المملكة وإحصاء كل وطني متملك فيها، وذلك كان سنة 1078 - ولا يبرح المجلدان اللذان تضمنا هذا الإحصاء باللغة اللاتينية محفوظين بمزيد الاعتناء إلى هذا اليوم، وهما مختلفان في الحجم، ولهما عظيم اعتبار بالنظر إلى المسائل المتعلقة بحقوق الأملاك القديمة - وفي نحو سنة 1082 أخذت قوى الملكة متيلدا تنحط بداعي ما ألم بها من المشاغل والهموم، ولا سيما فيما يتعلق بعائلتها، وذلك صغر نفسها إن لم نقل أسرع بها نحو شفير الانسكاب والانحلال، وكانت في هذا الوقت في نورماندي، وكان من أكبر بواعث قلقها واضطرابها انشغالها بإحدى بناتها التي كانت نظيرها أليفة السقم والمرض، فعولت على الحج إلى دير مذخورة فيه بقايا أحد القديسين، متوهمة أنها تنيل ابنتها إبلالا وشفاء، فقدمت على تلك البقايا تقادم ثمينة مصحوبة بصلوات حارة وتضرعات ممزوجة بدموع الحزن الشديد، واستشفاعات مقرونة بالتذلل والرجاء والإيمان.
ولكن كل ذلك لم يجدها نفعا، بل ظلت ابنتها المحبوبة تعاني الألم حتى قضي عليها، وعندها انقطعت متيلدا إلى قلعة كاين، وهناك أغلقت على نفسها أسيرة الغم والكرب، وفريسة انكسار النفس وانخلاع القلب، وكان وليم - كما يذكر القارئ - قد بنى له داخل هذه القلعة ديرا في وقت اقترانه بمتيلدا التي حدا بها حادي التذكار على الرجوع بناقة أفكارها إلى ذلك العهد، أيام كانت شموس آمالها مشرقة في سماء العظمة والمجد والسعادة، فأيقظ فيها الذكر سواكن الشوق والحنين، وغادرها الحزن على حئول تلك الأيام قرينة التنهد والأنين، نعم إن نور عظمتها ومجدها كان لا يزال مشرقا، وبمقدار عشرة أضعاف ما صوره لها التذكار، ولكن نجم سعادتها غار، ولم يعد لها إلى استطلاعه سبيل، وكان داء الطمع قد دب إلى أعضاء كل عائلتها، واستفحل فيها مدة عشرين سنة يصارع المحبة الأهلية، ويكدر كأس السلام العائلي حتى غشي سماء أيامها الأخيرة سحب مرارة أنشئت من رياح المخاصمات بين زوجها وابنها، فطفقت ترتاد السلام، وتنتجع الراحة على طريق الفروض الدينية، فصامت وصلت وتوسلت بدموع غزيرة طالبة غفران خطاياها، وازدحمت أقدام الكهنة حول فراشها يقيمون الصلاة، ويصعدون التقدمات، ويلتمسون الغفرانات متوسلين مستشفعين، وكان وليم حينئذ في نورماندي، فبلغه خبر تهورها إلى أعمق دركات اليأس، فجاء إليها ووصل في ساعة نزعها.
وبعدما تنفست النفس الأخير احتفل بجنازتها، ونقلت جثتها من قلعة كاين إلى الدير الذي كانت قد بنته لنفسها، وهناك قوبلت بملء التجلة والاحترام، ودفنت بمزيد الإجلال والإكرام، وقد بقي لها بعد ذلك بقايا أعمال كثيرة تشهد لها على مر السنين بالعظمة ورفعة الشأن، من نحو تصوير وتطريز وأفعال خيرية وآثار تاريخية تطاولت عليها يد الزمان بالتدريج، فطمست معالمها من عالم الوجود، وجرت عليها أذيال المحو والخمود، على أنه رغما عن عاديات الأيام وصروف الليالي لا تزال منها بقية ذكر وتقليد تدل السياح إلى تلك الأطراف على عصر متيلدا المجيد السعيد، وتنازع الزمان حياة البقاء والتخليد.
ثم إن وليم ذاته لم يعمر طويلا بعد وفاة متيلدا، فإنه كان أكبر منها سنا، وقد أصبح الآن شيخا متقدما في الأيام ومثقلا بعمر الشيخوخة، وقد زاده عجزا في أواخر حياته كبر جثته التي رزح أخيرا تحت ضغطة حملها، ولم يعد يستطيع حراكا، وقد فارقه نشاط الشباب، وعداه كل ما كان يتعلق بالشبيبة من بواعث التنشيط والترويح، فصار أقل شيء يعرض له يقلق راحته، ويبعثه على الاضطراب، وقبل وفاته بسنة جدد معه ابنه روبرت القتال، واضطره على مبارحة إنكلترا إلى نورماندي لأجل إطفاء نيران الثورة التي أشعلها ضده، على أن روبرت هذه المرة كان مستندا على مساعدة فيليب ملك فرنسا حسود وليم الخصوصي المستديم. ولا يذهب من ذهن المطالع أن الملك فيليب كان حينما استشاره وليم بالحمل عن إنكلترا فتي حديث السن.
وأما الآن فقد أصبح رجلا في ريعان القوة وغلواء الشجاعة، فنشط للأخذ بناصر روبرت وإغراه على شق عصا الطاعة لأبيه الشيخ، أما وليم فلما جاء إلى نورماندي جعل يعرض نفسه على الأطباء، ويسعى في معالجة ما به من السقم تعللا بالشفاء، وذلك فرض عليه ملازمة القصر وعدم مبارحة غرفته الخاصة، فبلغ الملك فيليب ما كان عليه الملك وليم، فأخذ يسخر به حتى إنه سأل يوما رجلا جاء حديثا من نورماندي: «ألا تزال عجوز إنكلترا منزوية في غرفتها؟» وهذه الكلمات اتصلت بوليم على طريق التداول، فاغتاظ غيظا لا مزيد عليه، وهاجت به الثأر نار الانتقام رغما عن تأثره بالمرض، فأقسم بعظمة الله أنه لا بد بعد معافاته من الخروج على الملك فيليب، وإشعال نار الخراب في سائر أطراف مملكته، وقد وفى بقسمه بإشعال النيران فقط، ولكن عوضا عن تدميرها مملكة فيليب صارت بالاتفاق واسطة لشل يد الذي أشعلها، وكان تفصيل هذه الحادثة الأخيرة من تاريخ هذا الظافر العظيم كما يلي.
حينما أبل وليم وصار قادرا على الركوب امتطى ظهر جواده، وحمل بجيشه على الملك فيليب، فاجتاز تخم نورماندي وضرب في عرض الجنوب حتى بلغ أواسط فرنسا مدمرا في طريقه البلاد بحد السيف ولسان النار، حتى جاء بلدة صغيرة تدعى مانتس، وهي على نهر السين على طريقه إلى باريس، فهجم عليها رجاله ونهبوها وأحرقوا أبنيتها، وبعدما أكملوا كل ذلك تأثرهم بالدخول إليها؛ ليشاهد بعينيه إنجاز ما أقسم به ضد الملك فيليب، وفيما هو يجتاز البوابة متهاديا على ظهر جواده بسورة النصر والظفر وحده غير مصحوب بحرس، جاء في طريقه إلى حيث كانت بعض القطع الخشبية الغليظة الساقطة من بيت محروق ملقاة على الأرض، وقد غشيها رماد كثيف ستر ما تحتها من النار المحرقة، فبين هو يسير نشوان براح العجب والافتخار أجفل جواده بغتة ونكص إلى الوراء، ومن تشويط يديه واحتراقهما بالنار التي طفر عليها بدون انتباه.
فاندفع وليم بعنف على مؤخر السرج، وبالجهد استطاع أن يقي نفسه من السقوط، على أنه أوجس تفاقم الخطب عليه، فترجل وبادر البعض إلى مساعدته، فرأوه ضعيفا خائر القوى، فحمل بجماعة من الرجال الأشداء يعيدون نقله إلى روان، وهناك أحضروا له أمهر أطباء نورماندي ، وبعد الفحص حكموا جميعهم أنه مائت لا محالة، فأغرقه كلامهم هذا في وهدة اليأس، وأطبق عليه تحت لجج الكآبة والحزن، وعندما تذكر ما أتاه في حياته من الأعمال القاسية، والأفعال المنكرة المقرونة بالطمع وحب الذات، وهاله الفكر أنه عما قليل يفارق الحياة، ويقف أمام الله للدينونة عن كل هذه الجرائم التي تعد بالألوف، فصرخ إلى الله بحرارة طالبا المغفرة، وجمع حوله الرهبان، وسألهم أن يساعدوه بصلواتهم، وأمر أن ينفق كل ما لديه من الدراهم على الفقراء، وأصدر بلاغا آخر لأجل بناء كل الكنائس المحروقة في بلدة مانتس، وترميم ما فيها من البيوت المهدومة.
وبالاختصار نقول: إنه استعمل كل الوسائط الفعالة في التكفير عن آثامه وذنوبه، ولم يكن حينئذ غائبا عنه من أولاده سوى روبرت، فإن الصلح بينهما كان قد أصبح متعذرا، ولم يقدم لمشاهدة أبيه حتى في ساعة موته، أما وليم روفوس وهنري فكانا عنده ملازمين الجلوس بجانب فراشه، ليس بداعي محبتهما البنوية له، بل حرصا على وجودهما ساعة نطقه بالوصية الأخيرة بشأن أملاكه؛ لأنها وإن تكن شفاهية فلها اعتبار الكتابية، وقد أنجز فيها وعده لابنه الأكبر روبرت بخصوص إمارة نورماندي إذ قال: «قد وعدته وسأفي بوعدي، على أني لا أجهل أن البلاد التي يتسلط عليها تكون من أشقى البلدان؛ إذ إنه متكبر أحمق ولا يمكن أن ينجح» ثم زاد على ذلك: «وأما من جهة مملكتي في إنكلترا فلست أعطيها لأحد؛ لأنها لم تعط لي من أحد، بل قد تملكتها بالقوة بثمن دم، وسأتركها في يدي الله آملا أن ابني وليم روفوس يحوزها؛ لأنه كان طوعا لي في كل شيء» وعندها سأله ابنه هنري بلجاجة: «وأنا ماذا تعطيني يا أبي؟» فأجابه: «خمسة آلاف ليرة من صندوقي» فقال هنري: «وماذا أصنع بالخمسة آلاف ليرة إذا لم تعطني بيتا ولا أرضا» فأجابه الملك: «كف يا بني واتكل على الله، دع أخويك يتقدمانك، وأما نوبتك فتكون بعدهما» ولما قضى هذان وطرهما من الجلوس بجانب أبيهما خرجا من لدنه، فذهب هنري لأجل تحصيل ما عين له من الدراهم، وركب وليم روفوس البحر إلى إنكلترا يعد لنفسه طريق الجلوس على عرشها حين يقضي أبوه نحبه، ثم أمر وليم أن ينقلوه إلى دير في ظاهر روان؛ لأن ضوضاء المدينة أزعجه، فضلا عن أنه رأى أن موته في مكان مقدس كهذا خير له وأبقى، فنقل بموجب ذلك إلى هناك.
وفي صباح العاشر من شهر أيلول أفاق على أجراس المدينة، فسأل عن السبب فقيل له: إنها تقرع لأجل إقامة صلاة الصبح في كنيسة السيدة، فرفع يديه وشخص نحو السماء وقال: «أيتها السيدة مريم، أم الله الطاهرة، أستودعك نفسي» وأسلم الروح، وما أغمض عينيه حتى هجره خدامه وتفرقوا عنه ناهبين كل ما وصلت إليه أيديهم في غرفته من الأسلحة والأثاث والملابس والأشياء الثمينة، ولم تنحصر فظائعهم في ذلك فقط، بل إن قساوتهم البربرية الوحشية حملتهم على مغادرة جثته مطروحة عارية على البلاط، حتى دخل راهب الدير ولفها وجاء بالصلبان والشموع والبخور، وشرع يقدم الصلوات عن نفس الفقيد ملتمسا له غفرانا ورضوانا، ثم أرسل يستعلم من رئيس أساقفة روان عما ينبغي أن يفعل بالجسد، فأوعز إليه أن ينبغي نقله إلى كاين ليدفن هناك في الدير الذي بناه وليم وقت زيجته.
وقد روى مؤرخو ذلك العهد أنه لم يبق من ينقل جسد وليم إلى كاين، حتى جاء أحد الفلاحين ووضعه في عجلته وجرها إلى النهر، وهناك أنزله بقارب إلى مصب السين، ومن ثم نقلها بحرا إلى كاين حيث خرج رئيس الدير لملاقاته مصحوبا ببعض الرهبان والسكان، وعندها شبت نار في البلدة فأسرع جميع الذين كانوا مرافقين جسد وليم إلى مكان شبوبها، وتركوا الجسد مع حامليه فقط، وهؤلاء ظلوا يسيرون به حتى أتوا الكنيسة داخل الدير في القلعة، وهناك وضعوه وانصرفوا.
ولما دنا وقت الجناز اجتمع جمع غفير لمشاهدة الاحتفال، وفي نهايته قلعوا بعض الحجارة من أرض الكنيسة، وحفروا قبرا، وقد أعدوا لأجل تكفين وليم حجرا كبيرا (ناووسا) حفروه وأنزلوه في القبر؛ ليواروا الجثة ضمنه، وبينما هم على أهبة الدفن إذا برجل قد أقبل عليهم من بين الجمهور وأوقفهم قائلا: إن هذه الأرض التي بني فيها هذا الدير هي ملكه، وقد اغتصبه إياها وليم فاضطر أن يسلمها مكرها، وأما الآن فهو يحتج ويتظلم، ومما قاله: «إن الأرض لي وملك أبي، ولم أبعها ولا وقفتها ولا رهنتها ولا وهبتها، فهي حقي وباسم الله أمنعكم من دفن جسد مغتصبها فيها» فأخذه رئيس الدير على انفراد وفحص دعواه، وإذ وجدها صادقة نقده في الحال ثمن القبر، ووعده بدفع ثمن كل الأرض فيما بعد، فارتضى عندئذ ولم يعد يبدي أدنى ممانعة، وفيما هم يحاولون مواراة الجثة في المكان المعد لها، وجدوا أن الناووس صغير، فرأوا أن يضغطوها فيه، وبينما هم يفعلون انشق الناووس، وتمزقت الجثة، واندلقت أحشاء الفقيد بداعي الفساد الذي طرأ عليه من طول المدة، وانبعثت منه الروائح الكريهة المنتنة، فأسرع الرهبان إلى حرق البخور، وفت الأطياب، ولكن رغما عن كل ذلك اشتدت كراهة الروائح، وتعاظم نتنها في كل الكنيسة حتى أرغم جميع من فيها على الخروج ولم يبق سوى الدافنين.
أما روبرت ووليم روفوس فبعد محاورات ومصادرات بشأن الخلافة، تقرر بموجب عهدة بينهما أن وليم روفوس يحكم في إنكلترا وروبرت يستأثر بإمارة نورماندي.
صفحة غير معروفة