ثم مضى على وليم منذ تربع على دست الإمارة يدير شئونها تحت ظلال الأمن والسلام إلى وقت حمله على بلاد الإنكليز زمان طويل ينيف على العشرين سنة، وكان في غضون هذه المدة مشغولا في إدارة الأحكام، بيد الإتقان والإحكام، ومنصرف العناية نحو تشييد المعاقل وإقامة الحصون والقلاع، وبناء المدن والقرى والضياع، والتنكيل بأهل الفساد والعدوان، وقطع دابر الشقاق والعصيان، وسن الشرائع والقوانين المدنية في كل البلاد، وتنفيذ الأوامر على وجه الحق والسداد، وقد اعترك في ميدان حياته جملة من فرسان الحوادث، ونازلها بثبات نستصغر لديه كبار الكوارث، وها نحن الآن نأتي على واحدة منها تبصرة للقارئ وذكرى.
وهي أنه عقدت ذات يوم مؤامرة على اغتياله والفتك به سرا، وكان مقدام هذه الغارة وإصبع تلك الإشارة عمه المدعو «غي أف برغندي» وأما هتك ستارها وكشف أسرارها فتم بواسطة ظريف كان في بلاط وليم بصفة ماجن، أي رجل يتعاطى الهزل كأبي نواس عند هارون الرشيد، وكان المجان في تلك الأيام غاية في الكثرة، بحيث لم يخل قصر كل ملك أو أمير من واحد أو أكثر منهم، وكان بعضهم لا يمتازون عن المجانين من حيث الغرابة في التصرف والهجنة في الأخلاق، والتناهي في الحمق والبلاهة، وبعضهم متناولين من العته والخبل على الأقل نصفه، وكنت تراهم يعتورون الغريب إلى نهايته في الملابس ، ويدركون الزخرفة غايتها في الزينة على اختلاف الألوان، وتضارب أنواعها، ويلبسون البرانس والقلانس (العراقي والطواقي)، ويعلقون الرخوت (الأجراس) المختلفة الأنواع، ويجلسون في المحاكم آخذين بأطراف المجون والمزاح، وكان اسم ماجن وليم «غالت».
أما غي أف برغندي وأتباعه فانقطعوا إلى قلعة منفردة موحشة على متاخمة نورماندي، وهناك طفقوا يجتمعون لأجل استتمام مقاصدهم وتسديد مكائدهم، وحشد رجالهم وتعزيز قواتهم تحت ليل الاحتيال والدهاء، في ظلام الغموض والخفاء، وقبلما تهيأ لهم إتمام مكيدتهم حدث أن وليم خرج للصيد إلى قفر يجاورهم في عصبة من حاشيته، وكان غالت الماجن بينهم.
فلما بلغ غي وأتباعه المغتالين قدوم وليم إلى تلك الأطراف أجمعوا على إنفاذ مؤامرتهم، والاستئثار به عند رجوعه، وعليه انسحبوا من مخابئهم بين محاجئ الصخور واحدا واحدا لكي يدفعوا عنهم مظنة التآمر، وأتوا مدينة تدعى بايكس ينتظرون فيها رجوع وليم، وهناك عقدوا مؤامراتهم السرية، وارتأوا الآراء النهائية، ثم بعثوا بعصبة من رجالهم إلى مفارق الطرق التي كانوا يتوقعون مرور وليم فيها، وأوعزوا إليهم أن يتعهدوه بعين الضبط والانتباه، ويسدوا دونه كل أبواب النجاة، وهكذا أتوا على آخر إجراءاتهم بطريق التستر والخفاء، وجعلوا يقطعون بتحقق أمانيهم بلا مراء، والله من وراء ما كانوا يعملون.
فحدث أن بعضا من أتباع وليم سبقوه في الرجوع، ومن جملتهم الماجن غالت، وقدموا أبايكس يوم حلتها إقدام أولئك المغتالين، أما أهل تلك المدينة فلم يعلموا شيئا من أمر أولئك الثائرين؛ لأنه كثر حينئذ تردد العساكر إلى بلدتهم فرسانا ومشاة، فلم يستطيعوا أن يفرقوا بين أصدقاء وليم وأعدائه، أما غالت فبعدما طاف في أنحاء تلك البلدة، ورأى فيها عددا عديدا من الضباط والجنود التي لم يعرفها من رجال أميره، وجد في ذلك ما يستميله للانتباه، ويدعوه للملاحظة، فشرع يراقب حركات أولئك الغرباء بملء الفطنة والذكاء، ويصغي إليهم على حين كان يتظاهر بعدم الإصغاء، لعله يصيب منهم كلاما كانوا يخاطبون بعضهم بعضا به وهم متجمعون فرقا هنا حشد وهنالك اجتماع، أو سائرون في الشوارع مثنى وثلاث ورباع، حتى توفق بآرائه السديدة ، ودقة ملاحظاته العديدة، إلى هتك ستار المؤامرة وكشف حجاب المكيدة، وعلى الفور خلع عنه برنسه وأجراسه ولباسه، وخرج يعدو ملتهبا بنار السرعة في التفتيش على وليم ليقص عليه الخبر، وينذره بدنو الخطر، فاهتدى إليه في قرية تدعى «فالنجس» وكان وصوله إليها ليلا، فاندفع نحو المخدع، حيث كان وليم نائما، مزاحما الحراس مدافعا الخدم الذين لم يبدوا في وجهه إلا بعض الممانعة لسبب تعودهم عليه، وتحققهم سماح وليم له في كل وقت بالمثول لديه، ثم نادى بأعلى صوته موقظا أميره من سباته، مخبرا إياه بشدة الخطر الذي دنا من حياته، أما وليم فلم يصدق غالت في بادئ الأمر؛ إذ لم ير سببا لهذا الخوف كله، على أنه ما لبث أن اقتنع بصحة كلام ماجنه، وأيقن بصدق إنذاره، فنهض يلبس ثيابه بيد السرعة، ولم يأتمن أحدا على نفسه في تلك الساعة شأن الملوك والأمراء حين اكتشافهم للمكائد المنصوبة لهم؛ إذ لا يعودون والحالة هذه يعرفون المخلصين لهم ليتكلوا عليهم، وهكذا ذهب وليم بنفسه وأسرج حصانه بيده وركبه، وخرج يبذل في شاكلته المهماز، ويرد صدور الأرض على الأعجاز.
وبالحقيقة إن باب النجاة الذي خرج منه كان أضيق من سم الخياط؛ لأنه في وقت إسراع غالت إليه في فالنجس قدم المغتالون إلى تلك القرية نفسها، ومدوا عليها مطمار الحصار، وكانوا على أهبة الهجوم على محلة وليم للإيقاع به في ذات الساعة التي خرج فيها طالبا الفرار موليا الأدبار، حتى إنه لم يبعد قليلا في عدوه إلا طرق أذنيه صوت وقع الحوافر على الطريق خلفه، وصليل أسلحة العساكر من الأعداء الذين لما رأوه أركن إلى الهزيمة خرجوا يتأثرونه ليوردوه حتفه، فارتأى أن يسرع في التعريج من أمامهم إلى غاب كثيفة يختبئ فيها، ويتركهم يذهبون يطلبونه من حيث لا يجدونه، فأقام في ذلك المخبأ برهة قصيرة، ثم خرج منه متحرزا، ولم يجسر أن يعمل على المسير في الطريق العمومية مع أن الوقت كان ليلا، بل اعتسف منها في القفار المهجورة والمسالك المجهولة التي انتهت به أخيرا إلى شاطئ البحر، وعند فلق الصبح مر بقصر كبير، وعلى حين لم يكن يخطر بباله أن يرى أحدا في وقت كهذا استوقفه بغتة منظر رجل في بوابة القصر مدججا بسلاحه، تلوح على وجهه سمات الانتظار - وقد كان بالحقيقة منتظرا حصانه - فتعرف وليم حالا، وخاطبه بلسان الاندهاش قائلا: «أليس من العجيب أن تكون أنت هذا الرجل يا سيدي الدوك وليم؟» فقد أعجبه جدا أن يرى أمير نورماندي وحاكمها خارجا في وقت كهذا، أو في حالة كهذه وحيدا معيبا وثيابه غير مرتبة من جراء السرعة التي كان فيها حين لبسها، وجواده منقطع النفس، وعليه من الغبار ستار كثيف، وهو على وشك السقوط عياء وتعبا، فلما رأى وليم أن قد شق ستر الخفاء عن محيا أمره لم يعد له ندحة عن أن يقص لذلك الرجل قصته، وظهر إذ ذاك أن هذا الرجل كان هاربرت أحد الثائرين المتواطئين على اغتيال وليم.
وقد انفرد في ذلك القصر لهذا القصد، ولأمر يريده الله رجع عن تلك الغاية وقال لوليم: «ما من داع يدعوك إلى الخوف، علي نجاتك وسوف أسعى في إنقاذ حياتك كأنها حياتي» قال هذا وأهاب ببنيه الثلاثة الذين كانوا من الأبطال المجربين والشجعان المنتخبين، وأوعز إليهم «أن اركبوا خيولكم وكونوا على أهبة السفر» ثم أدخل وليم قلعته، وسعى بإحضار ما تسنى من الأطعمة والأشربة سدا لجوعه الشديد، ونقعا لظمئه الذي لم يكن عليه من مزيد، ثم خرج به إلى عرصة الدار، حيث أراه الفرسان الثلاثة راكبين مستعدين لأن يرافقوه، وفرسا كريما من جياد الخيل مسرجا له فامتطاه، وأمر هاربرت بنيه أن يوصلوا وليم إلى فاليس على جناح السرعة والأمان، وأوصاهم أن لا يستطرقوا الطرق العمومية، ولا يمروا على مدينة أو قرية في الطريق، وهكذا أطاعوا الأمر وذهبوا به على نحو ما أوصاهم أبوهم إلى فاليس، وفي صباح ذلك اليوم بعد خروج وليم من قلعة هاربرت، جاءها مطاردوه يفتشون عليه، وسألوا هاربرت عما إذا كان رآه مارا من هناك، فأجابهم بالإيجاب وامتطى في الحال جواده ، وأشار لهم أن يتبعوه ليدلهم على الطريق التي سار فيها وليم، وألح عليهم في الإسراع لعلهم يدركونه قبل أن يتوارى عنهم في أحد المخابئ، أو يصل حيث يتعذر عليهم متابعته، فحثوا الركاب بجد يفوق الحد وهاربرت يسير أمامهم، ويعدهم أنهم سوف ينالون مرامهم، ولكنه إذ ذهب بهم في غير الطريق التي اتخذها وليم كانوا يبتعدون عنه أكثر فأكثر.
وأخيرا رأوا أن لا فائدة من تأثره فانكفأوا مع هاربرت راجعين إلى قلعة تحت راية الحبوط والإخفاق، في وقت وصول وليم وبني هاربرت الثلاثة إلى فاليس بسلام.
وإذا ذاك رأى أولئك الثائرون أنه يستحيل عليهم البقاء تحت غاياتهم المستترة بذيل الخفاء والغموض، وتيقنوا أنهم أصبحوا عرضة لخطر هجوم وليم عليهم بعساكره، وإهلاكهم عن آخرهم، فلم يعد لهم والحالة هذه بد من إجراء أمرين؛ وهما: إما الهزيمة على جناح السرعة، أو المجاهرة بالعصيان، فأجمعوا على الثاني، فدارت بينه وبينهم حرب عوان دارت فيها الدائرة عليهم، ورجع كيدهم إليهم، إذ نازلهم فأصاب منهم كل مضرب، واستظهر عليهم ففرق شملهم تحت كل كوكب، وأكثرهم سقطوا بين يديه أسرى، فأذاقهم من مر القصاص ما جعلهم للغير عبرة وذكرى، وكان من جملة ما قاصهم به أنه ارتأى أن يصنع تذكارا لانتصاره هذا، بأن يمد طريقا عموميا في البلاد على الخط الذي سار فيه يوم كان هاربا من وجه أعدائه مع أولاد هاربرت، ويكلف الأسرى العصاة إنشاءه.
وقد أتى هذا المشروع بفائدة عظيمة لذلك القسم من البلاد؛ لأن طرقها القديمة كانت في غاية الصعوبة على السالك فيها بسبب تراكم الأوحال عليها؛ نظرا لانخفاض أرضها وانغمارها بالمياه في أكثر فصول السنة حتى كنت تراها كلها مستنقعات، وهكذا أخذ أولئك العصاة يشتغلون في تمهيد تلك الطريق السلطانية مكابدين الأتعاب والمشقات حتى أكملوها، فكانت خير مشروع حصل في ذلك العهد، فتطرقتها أبناء السبيل، وانطلقت ألسن سكان ذلك القطر على وليم بالثناء الجميل والشكر الجزيل، وما برحت آثار تلك الطريق إلى هذه الأيام شاهدة لوليم بحسن الصنيع، وسائقة له الرحمة والرضوان من ألسن الجميع.
صفحة غير معروفة