القضاء
ليست لدينا معلومات وافرة ثابتة عن أحوال القضاء والخصومة لدى العرب في العصر الذي سبق عصر النبي، وإنما نستطيع أن نفهم من بعض الأخبار المنشورة في تاريخ الجاهلية القليل المضطرب، وشعرها، وبعض نصوص القرآن وحكاياته لأحوال القوم قبل عصر الإسلام؛ أن الناس كانوا يتحاكمون في حل مشكلاتهم القضائية والجنائية إلى قضاة سمتهم البيئة العربية إلى هذا المنصب؛ لما امتازوا به من علم وعقل وحكمة وحنكة، وقد كان هؤلاء الحكام الحكماء يقضون في القضايا الحقوقية والقضايا الاجتماعية من ميراث ونكاح وديون وديات ودماء وأموال وأنساب ومفاخرات ومناظرات، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء نفر من قضاتهم وحكمائهم وحكيماتهم، أمثال: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، وجمعة بنت حابس، وخصيلة بنت عامر.
نظام الطبقات الاجتماعية
العرب ديمقراطيون لطبيعة البداوة، ولكن هذا لم يمنع من وجود نظام طبقي، فهناك طبقة الأرقاء، وطبقة الموالي، وطبقة العامة، وطبقة الأشراف، وطبقة الحمس، وطبقة الحكام، وطبقة الزعماء، أما الأرقاء: فهم العبيد والإماء المسبيون أو المجلوبون، وكانوا يعاملون بقسوة، وقد أبقى الإسلام الرق، ولكنه دعا إلى رحمته وفك رقبته، وأما الموالي: فهم طبقة من العرب المستضعفين الذين التجئوا لبعض القبائل القوية كما أسلفنا، وأما العامة: فهم سواد الأمة العربية كالرعاة والعمال والزراع، وأما الأشراف: فهم الرؤساء والشيوخ والسراة، وقد كانت لهم الوجاهة على الطبقة العامة، ولهم تمثيلها في النوادي والمجالس، ولهم الحقوق والمزايا التي توارثوها كابرا عن كابر، وأما الحمس أو الأحماس: فهم رجال كانوا من أشرف القبائل العربية توارثوا عن آبائهم بعض الخصائص الدينية، فترفعوا عن الناس في المواسم الدينية في مكة والطائف في الطواف والإفاضة والإنساء، وأما طبقة الحكام: فهم عقلاء القبائل وحكماؤها وقضاتها يدين الناس بفضلهم وعقلهم، ويخضعون لحكوماتهم وأمرائهم، ويقدمون إليهم الهدايا والعطايا، وأما طبقة الزعماء: فهم السادة الأعلون توارثوا زعامة قبائلهم، وفرضوا طاعتهم على قبيلتهم وعلى أحلافهم، وذاع صيتهم في الجزيرة العربية. (1-5) الحالة العقلية
مقدمة
إن معلوماتنا عن الحركات العقلية في «الجاهلية» هي معلومات ضئيلة لأسباب كثيرة، «منها»: أنه لم يصلنا أي أثر مكتوب موثوق عن ذلك العصر، وعن مدارك أهله في النواحي العقلية أو العلمية إلا الشعر وبعض الأقوال والحكم المنثورة التي لا تغني كثيرا في هذا الباب، «ومنها»: أن كل من كتبوا عنه من المسلمين أو أكثرهم صوروا ذلك العصر صورة قبيحة مغرقة في الجهالة؛ ليبينوا فضل الإسلام، وعمق أثر الحركة الإسلامية، «ومنها»: أن دراسات علمية صحيحة تعتمد على علوم الأركولوجيا والأتتوغرافيا والفيلولوجيا لم توجد بعد، «ومنها»: طول العهد وامتزاج التاريخ العربي بالأساطير والخرافات، مما جعل تمييز الصحيح من المدخول أمرا عسيرا، «ومنها»: أن كتابات المستشرقين كتابات لم تخل من الغرض - ككتاب المسلمين - ولم يكتب من كتب منهم في هذا الموضوع إلا وهو مغرض، وعلى رأسهم كاتبان: وغولدزبير وماسينيون وديمومبين وغيرهم من أعلام المستشرقين؛ لهذا كله أرى أن القرآن هو خير ما يمكن الاعتماد عليه - الآن - في تبيين الحياة العقلية قبل البعثة النبوية عند العرب قبل الإسلام، كما أرى أن نتريث الآن في أحكامنا على تاريخ العرب قبل الإسلام إلى أن توجد الأدلة والبحوث الصحيحة، ونكتفي الآن بدراسة القرآن والتنقيب داخل سطوره وتحتها، والاستعانة بما نقل إلينا من شعر الجاهلية وشعر صدر الإسلام؛ لأنه قوي الارتباط «بالجاهلية»، معتمد على ثقافتها، قائم بمقوماتها، وسيرى القارئ لهذا البحث أن أكثر الصور التي صورها المؤرخون والباحثون «للجاهلية» هي صور مغلوطة خاطئة، وإن من الجناية على الحقيقة والتاريخ أن نسمي هذا العصر «بالجاهلية»؛ لأنه بعيد كل البعد عن «الجهل» و«الجهالة».
يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل البروفسور كولذريهم في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»،
35
ومثل «البرنس كابتاني» في كتابه «سني الإسلام»؛
36
صفحة غير معروفة