واعتبر اتهام الشعب لهذا القنصل سابقة ينسج على منوالها لاتهام كل من يشتهر من القناصل بعدم مساعدته على تغيير القانون الزراعي عند انقضاء مدة انتخابه، ففي سنة 475 اتهموا القنصل سرفليوس لعدم انتصاره في موقعة حربية ولم يحكم عليه بشيء، وفي سنة 473 اتهموا مانليوس وفوريوس لمعارضتهم في تغيير القانون الزراعي، وتولى اتهامهما النائب (تريبان) جنوسيوس لاشتهاره بقوة الحجة وفصاحة اللسان، وأقسم أمام الشعب بأنه لا بد من الحصول على معاقبة هذين القنصلين حتى يلزم من يأتي بعدهما بتنفيذ هذا القانون، لكنه وجد قتيلا في فراشه يوم المحاكمة بدسيسة الأشراف حتى لا يحاكم القنصلان المتهمان، ويقال إنه قتل في هذه الليلة كثير من فصحاء الشعب المطالبين بحقوقه المسلوبة، فوقع الرعب في قلوب الأهالي وأراد السناتو انتهاز هذه الفرصة الثمينة لتثبيت سلطته وتقريرها، فأمر بجمع الشعب في الفورم لانتخاب من يليق منهم للخدمة العسكرية، وكاد يتم الأمر بسكون لعدم معارضة أحد من الأهالي أو نوابهم لولا قيام (بوبليسيوس فوليرو) وتحريضه الأهالي على الثورة وعدم الامتثال لأوامر الحكومة ما لم ترد إليهم حقوقهم المسلوبة ظلما وعدوانا، فأمر القناصل بالقبض عليه فهاج الشعب وخلصوه عنوة من أيدي القابضين وطردوا القناصل وأعضاء السناتو من الفورم بالقوة.
وفي سنة 472 انتخب فوليرو نائبا عن الشعب (تريبان) فبذل كل اهتمامه لإنالة الشعب حقا لو تحصل عليه يكون مقدمة لحصوله على حقوق كثيرة تنيله السلطة الحقيقية مع الوقت، وتفصيل ذلك أن انتخاب نواب الشعب كان يحصل بمعرفة فرق الجيش المئينية التي للأشراف النفوذ والسيطرة عليها، فارتأى فوليرو أن يكون انتخابهم بمعرفة جمعية الأهالي العمومية التي لا يحضرها أحد من الأشراف مطلقا ولا نفوذ لهم عليها، فلم يقبل السناتو هذا الطلب العادل بل ماطل وحاول حتى مضت مدة (فوليرو) ولم يقرر مشروعه الذي سمي بقانون بوبليليا نسبة له، ثم أعيد انتخابه رغم مساعي الأشراف وأشياعهم، وانتخب معه (ليتوريوس)، وكان أشد كراهة لاستبداد السناتو فأضاف إلى مشروع فوليرو الأصلي أن يكون لجمعية الشعب العمومية حق التداخل في شؤون الحكومة أيا كانت بواسطة الاقتراع العام.
ومن جهة أخرى انتخب السناتو (أبيوس كلوديوس) ضمن قنصلي هاته السنة لمعاداته للشعب ومحافظته على امتيازات الأشراف وخصوصياتهم، ولما أتى اليوم المحدد للاقتراع على مشروع فوليرو اجتمع الأهالي في الفورم الموصلة ساحته إلى محل انعقاد مجلس السناتو للتظاهر، وتعضيد المشروع وإلزام المجلس بقبوله وتهديده بالثورة والعصيان لو رفضه في هذه السنة أيضا، فلم تؤثر هذه المظاهرات في أعضائه بل رفضه فهاج الشعب بأجمعه وأعلن الإقرار عليه والعمل به رغم مجلس السناتو وعناده، وحصلت عدة معارك بين الفريقين جرح فيها ليتوريوس وكاد يقتل كلوديوس لولا أنه التجأ إلى قاعة المجلس ونجا بنفسه بكل مشقة.
ثم احتل الشعب قلعة الكابيتول وألزم السناتو بالتصديق عليه فصدق مكرها، وبذلك تم الفوز للشعب، وتحصل الأهالي على ما يمكنهم به التأثير على سير الحكومة خصوصا بما أضيف على هذا القانون الجديد من أن للأهالي الحق في الاقتراع في جمعيتهم العمومية على ما يرونه ضروريا من القوانين والنظامات، نعم إن تصديق السناتو كان واجبا لتنفيذها إلا أنه كان لم ير بدا من الموافقة على ما يعرض عليه لسبوق إقرار الأمة عليه.
هذا؛ ولما انتخب المدعو (ايسيليوس) نائبا عن الشعب (تريبان) بالطريقة الجديدة اقترح أنه لا يجوز لأحد ما مقاطعة نائب الأمة أثناء تكلمه بالفوروم، ومن يفعل ذلك يحاكم بالقتل ومصادرة الأموال إذا اقتضت الظروف ذلك، وصودق على هذا الاقتراح مع ما فيه من القسوة والصرامة حبا في منع حصول ما يكدر صفاء الاجتماعات أثناء المداولة في المسائل المهمة، والتشويش على الخطباء، ومنعهم بكيفية ما من تتميم خطابهم، والتمتع بحرية الدفاع عن مشروعاتهم.
وفي هذه السنة وهي سنة 470ق.م دارت رحى الحرب بين الرومانيين وقبائل (الفولسك) و(الأيك)؛ فخرجت الجيوش تحت قيادة القنصل (إبيوس كلوديوس) الذي كان من أقوى المعارضين في مشروع انتخاب نواب الشعب بمعرفة الجمعية العمومية كما سبق بيانه في موضعه، ولما كان الكل غير راض عنه لهذا السبب ولميله للأثرة والاستبداد؛ تقهقرت الجنود أمام العدو بدون شديد مقاومة حتى إذا انهزموا وفاز عليهم العدو بالغلبة والانتصار حوكم (إبيوس) بصفة مقصر في الواجب أو خائن للوطن، لكن أدرك إبيوس دسيستهم وعلم أن انهزامهم لم يكن لشدة بأس العدو أو كثرة عدده، بل للأسباب التي ذكرناها، فأراد الانتقام منهم قبل العودة إلى رومة فعاقب أغلب رؤسائهم بأشد العقوبات العسكرية صرامة وهو القتل تشفيا منهم، ولما عاد إلى المدينة اتهمه نواب الأمة (التريبان) بالخيانة فقابل اتهامهم له بكل أنفة وكبرياء وقتل نفسه حتى لا يحاكم على جناية هو براء منها، فاحتفل الأهالي بجنازته احتفالا باهرا اشترك فيه الأشراف والعوام لاعتبار الكل له بسبب شهامته وعلوه عن الدنايا وترفعه عن التزلف للأمة ونوابها.
هذا؛ وبالاختصار فإن طبقة العوام في رومة تحصلت - في مدة ثلاث وعشرين سنة - أي من سنة 494 إلى سنة 471 - على سلطة ونفوذ في إدارة شؤونها وشؤون الحكومة، ما كانت لتتحصل عليها لولا اتحادها بحق وتضافرها على الطلب والمثابرة عليه بكل ثبات لا ترهبها القوة ولا ترعبها السطوة ما دامت معتقدة أنها تطالب بحق مقدس، هو المساواة للأشراف الذين لا يميزهم عن باقي طبقات الأمة مميز طبيعي أو عقلي.
ففي سنة 493 تحصلوا على حق تعيين نواب عنهم، وفي سنة 476 خول هؤلاء النواب لأنفسهم حق اتهام القناصل أمام الشعب وطلب محاكمتهم، وفي سنة 471 أجيز للشعب حال اجتماعه بهيئة جمعية عمومية أن يقترع على الأمور العمومية، ويصدر عليها قرارات أهلية تكون نافذة على جميع الأهالي دون الأشراف ما لم يصدق عليها السناتو الذي كان لا يتيسر له الامتناع أمام إجماع الشعب خشية الثورة وإراقة الدماء.
هوامش
خيانة كوريولان
صفحة غير معروفة