1
وكلفته بإكراه الأهالي على الخروج للقتال، فخرجوا اضطرارا لا اختيارا وهزموا الأعداء وصدوهم عن المدينة، واستعفى الحاكم المطلق، ورجعت الأحكام إلى ما كانت عليه، وازداد الدائنون قسوة وخشونة في معاملة مديونيهم خصوصا سنة 495ق.م في عهد قنصلية (كلوديوس أبيوس) أحد المثرين المرابين حتى اشتد الكرب على الأهالي، وطلبوا ثانيا تسوية ديونهم، وعززوا طلبهم بالامتناع عن محاربة الفولسك حين تعدوا حدود رومة في هذه السنة وغزوا بعض أحيائها، فوعدهم القنصل الثاني سرفليوس بالنظر في طلبهم بعد انتهاء الحرب، وأمر بالكف عن المطالبة مدة الحرب وإخلاء سبيل المسجونين بسبب ديونهم موقتا حتى تضع الحرب أوزارها، لكن لم يصدق السناتو بعد انتهاء الحرب على هذه الوعود، بل ساعد المثرين على الفقراء في تحصيل ديونهم، فامتنعت الجنود عن الحرب مرة ثالثة، ولم يخرجوا إلا بعد أن وعدهم القنصل (منيوس فالريوس) الذي كان من إحدى العائلات الوضيعة وتثق الأهالي به وثوقا تاما بتنفيذ جميع مطالبهم، وعزز وعده بالأيمان المغلظة، إلا أن السناتو لم يؤيد هذه الوعود لوجود الأغلبية فيه بين أيدي أصحاب الديون فاستعفى فالريوس وأهاج الشعب لنوال حقوقه بالثورة حيث إن جميع الطرق السلمية لم تصادف إلا وعودا عرقوبية مبنية على أطماع أشعبية، فثار الأهالي في سنة 493ق.م واجتمع بعضهم على الجبل المقدس خارج المدينة والبعض على جبل أفانتان داخلها، فأرسل إليهم السناتو وفدا لينصحهم بالخلود إلى الراحة والسكينة مؤكدا لهم ترك ديون المعسرين وإطلاق سبيل جميع المستعبدين بسبب عدم دفع ديونهم، وكان من ضمن الوفد رجل مشهور بالفصاحة يدعى (مننيوس أجربا) فخطب فيهم وحثهم على الائتلاف ونبذ الثورة، وضرب لهم مثلا «أن أعضاء الإنسان تآمرت ذات يوم على ترك العمل وعدم تغذية المعدة قولا إنه ليس من العدل أن تشتغل جميع الأعضاء لمنفعة عضو واحد، فلما منع الغذاء عن المعدة ضعفت وامتد الضعف إلى الأعضاء المتآمرة، وعاد اعتصابها عليها بالضرر أكثر من المعدة نفسها».
لكن لم تؤثر هذه الوعود ولا هاتيك المواعظ في المتآمرين لعدم الوفاء في الماضي، بل طلبوا ضمانة على تنفيذها أن ينتخبوا نوابا للدفاع عنهم، وأن لا تنفذ الأحكام ضد من يتضح عدم اقتداره على الدفع، فقبل السناتو هذا الطلب مكرها بعد تعديله بأن يكون حق الانتخاب للجيش فقط لتأثير الأشراف عليه وقلة عدده بالنسبة لمجموع الأهالي، فانتخب الجيش نائبين عن الأهالي أعطى لهما لقب (تريبان) ثم زيد عددهم إلى خمسة في سنة 393.
وكان لانتخابهم نتائج عظمى بالنسبة للأهالي أهمها استقلالهم عن القنصلين مما يقضي بإضعاف سلطتهما بقدر ما يعطى منها للتريبان، ومساعدتهم الأهالي على عدم تنفيذ أحكام القناصل المجحفة بحقوق الفقراء والمعسرين، وجعلت سلطتهم داخل مدينة رومة فقط وعلى مسافة ميل واحد خارجا عنها، وفي سنة 486 انتخب سبوريوس كاسيوس قنصلا، وكان سبق انتخابه مرتين لهذا المنصب السامي وذلك لميله لمساعدة الأهالي ضد الأشراف المرابين، ولما كان جل سعيه تخفيف أثقال الفقراء عرض على مجلس السناتو تقسيم أراضي الحكومة بينهم والتشديد على الأغنياء في دفع الضرائب ودفع راتب معين للجنود مقابل ما يلزمهم من المؤن والأسلحة، وقد كان كل جندي ملزما بالصرف على نفسه بدون تكبد الحكومة صرف أي شيء عليه، فلم يسع السناتو إلا التصديق على هذا المشروع الزراعي مع ما فيه من الإضرار بالأغنياء القابضين على أزمة الأحكام لمجاهرة الشعب باستحسانه وإظهار الرغبة الشديدة في تنفيذه، فصادق المجلس عليه مصرا على عدم تنفيذه والإيقاع بواضعه، فأشاعوا أن كاسيوس لم يراع صالح وطنه في معاهدة كان أبرمها في قنصليته الأولى مع قبائل اللاتين ووافقت عليها قبائل (الهرنيك)، وأنه فضل صوالح الأجانب بغية الاستعانة بهم على إذلال رومة وإسقاط الجمهورية وإعادة السلطة الملوكية فيها لنفسه، وأنه يسعى الآن في إيقاع الشحناء بين الأغنياء والفقراء من الأهالي للتفريق بينهم والتمكن من تنفيذ مقصده الحقيقي وهو الاستئثار بالحكم والاستبداد بالملك.
ولما كان الشعب الروماني شديد الغيرة على استقلاله والمحافظة على حريته صدق هذه الوشايات ومال عنه، فانتهز السناتو هذه الفرصة المناسبة واتهمه بالسعي في إعادة الحكومة الملوكية؛ فحكم عليه بالإعدام، وقتل في أواخر سنة 486 شهيد مساعي من يفضل الصالح الخاص على الصالح العام، ولم يراع حرمة لمصلح، ولم يخفر ذمة لخادم صديق لوطنه.
وبعد موت كاسيوس ماطل السناتو في تنفيذ مشروعه الذي ضحى حياته للحصول على التصديق عليه، وساعدته على ذلك عائلة فابيوس الشهيرة بمعاداة الأهالي ومساعدة الأشراف على أطماعهم، وبقيت وظيفة القنصلية في عائلتهم سبع سنين متوالية من سنة 484 لغاية سنة 478 لم يسمع في أثنائها نداء الأهالي ولا نوابهم (التريبان) الذين بعد أن أعيتهم الحيل في الحصول على تنفيذه بالطرق السلمية؛ عمدوا إلى استعمال الحق الممنوح لهم من إيقاف تنفيذ أوامر القناصل لو رأوا أنها مخالفة لصالح منتخبيهم، وعارضوا فعلا في تنفيذ قانون الخدمة العسكرية وأمروا الأهالي بالامتناع عن الدخول فيها حتى يعمل بمشروع كاسيوس وتوزع عليهم الأراضي التي تقرر إعطاؤها لهم، ولما كانت سلطتهم القانونية قاصرة على مدينة رومة وضواحيها على مسافة ميل واحد فقط، نقل القنصلان مركز أعمالهم على مسافة تزيد عن الميل، وأمروا بجمع أنفار الجندية بالقوة وحرق مزروعات من يمتنع منهم امتثالا لأوامر نواب الأهالي، فكثرت الشكوى وعلا التذمر، وخيف حصول فتنة عمومية تكون عاقبتها وبالا على الجميع؛ ولذلك استمال السناتو بعض النواب وهم أقنعوا المعارضين بضرورة المسالمة وعدم المعارضة منعا للثورة، فسحبوا أمر الامتناع ونصحوا الأهالي بالدخول في الجندية فامتثلوا إلا أنهم أرادوا الانتقام من عائلة فابيوس التي كانت معضدة لهذه الاضطهادات، فامتنعوا عن القتال في واقعة كان قائدها أحد أعضاء هذه العائلة واسمه (سيزوفابيوس) حتى لا يتم النصر، ولا يكون له حق في الاحتفال الذي يعمل للقناصل المنتصرين عند عودتهم إلى المدينة.
فلما رأت عائلة فابيوس أن الأهالي ناقمين عليها لمساعدتها السناتو وأعضاءه، وأن السناتو ابتدأ يقلب لها ظهر المجن لتخوفه من نمو نفوذها بين الأشراف، وبقاء الزعامة فيها من مدة.
ولاعتقاد أعضائها بأن الفوز لا بد وأن يكون في آخر الأمر للشعب على الأشراف مالت بكلياتها عن السناتو، وصارت من أكبر مساعدي الشعب على تنفيذ القانون الزراعي، فكانت نتيجة ذلك أن الأهالي ساعدوا القنصل فابيوس في سنة 479 على محاربة قبائل الأتروسك، فغلبهم ومحا ما كان لحق بعائلته من العار بسبب انخذال (سيزوفابيوس) أمام الأعداء.
ولما عاد الجيش منصورا إلى المدينة دخلها في موكب حافل حسب العادة، وقبل فابيوس جرحى الفقراء في داره، فزاد تعلقهم به وبعائلته لدرجة أقلقت السناتو وأعضاءه على امتيازاتهم واستقلالهم، وزاد خوفهم وقلقهم لما طلب (سيزو) السالف الذكر تنفيذ القانون الزراعي الذي تقرر من سنة 484 ولم يعمل به؛ ولذلك تآمر الأشراف على إخراج هذه العائلة من رومة بدعوى أنها تسعى لإعادة الملك وأرهبوا الأهالي بهذا الخيال الوهمي فلم يبدوا أي حركة ظاهرة للدفاع عنها كما كان ينتظر، فخرجت مع أتباعها وعددهم نحو الأربعة آلاف ونزلت على ضفة نهر كراميرا الذي يصب في نهر التبر لصد هجمات الأتروسك عن مدينة رومة؛ إذ حافظت هذه العائلة على ولائها ولو لم تجد منها إلا الجحود والكفران لأن حب الوطن يجب أن لا تزعزعه الحوادث أو تؤثر فيه الكوارث، بل يبقى هذا الإحساس حيا إلى آخر رمق من الحياة.
وفي سنة 477 انقرضت هذه العائلة تقريبا في إحدى حروبها المتعددة مع القبائل بسبب عدم تحرك القنصل مننيوس لنجدتها، ومد يد المساعدة إليها مع وجوده معسكرا بجيشه بالقرب من محل القتال؛ ولذلك ثار عليه الأهالي واتهموه بالخيانة وطلبوا محاكمته بصفة خائن للوطن، فلم ينتظر المحاكمة بل امتنع عن الأكل حتى مات جوعا هربا من العقاب الصارم الذي استحقه بترك الأعداء يتغلبون على إخوانه الرومانيين؛ تشفيا لضغائن شخصية يجب أن تضحى على هيكل الوطنية.
صفحة غير معروفة