إن التضييق على أعداء الجمهورية المعاندين أو معاقبتهم، ومجازاة من يدافع عنها دفاعا شديدا كان العمل المزدوج الذي واصله بونابرت بأشد ما يكون من الحزم وأبعد ما يكون من العدالة. وكما أنه يعرف أن الاستحقاق إنما يرغب في أن يجازى، وزع مائة حسام شرف على الجنود الذين امتازوا بالأعمال المجيدة، فما كان من الشعب، الذي أبصر الشجاعة تمنح سمات الشرف التي كانت في الماضي مخصصة للنبلاء في الوراثة، إلا أن هتف لهذا التوزيع الذي، بعيدا عن أن يمس المساواة التي من أجلها انطلقت الثورة، قرر على أساس العدل الخالد ومكافأة الخدم والفضائل. والأجمل من ذلك أن يرى بونابرت مثنيا على الشجاعة ومكافئا إياها بإقامة المهرجانات على شرف الرجال الذين ظن أنهم حافظوا عليه في سن كلود من أخطار لم يقتحمها.
إذا كان صحيحا أن بونابرت كان يطلب الشهرة رغبة في تحقيق الأفكار الطماعة التي يغذيها في نفسه، وإذا كان حقا أن عظمته الشخصية، وكبره، وشهرته كانت جميعها تدخل في سائر أعماله الحربية والسياسية، فيجب أن يعرف أيضا أن عظمته وكبره إنما هما عظمة فرنسا وكبرها، وأنه إذا عمل في سبيل مجده الذاتي وفوز أطماعه، وخلوده؛ فإنما هو يعمل لرفعة الشعب ورقيه ومستقبله . أجل، إن السلطة اللا حد لها التي تمتع بها، لم تكن غير واسطة لإعطاء روح المساواة والرقي الحديث فلاحا جديدا لم تكن روح الحرية المقيدة وقتيا بأشكالها الخارجية لتستطيع بعد أن تحققه بنفسها. أما العلماء ورجال الفن فقد نالوا جميع أنواع التنشيط، ونالت الصنائع الوطنية رقيا لم تعهده من قبل، بعد أن كانت الفتن الأهلية قد عرقلت سيرها، ونظم بنك فرنسا، وصدق على عيار الأثقال والقياسات تصديقا قانونيا، وبكلمة واحدة حقق بونابرت بصفته رأس الحكومة الفرنسية كل ما فكر به قبلا، لم يكن سوى قائد جمهوري يرغب في تزيين المتحف الوطني، واستشارة المعلمين، ووضع العلماء على رأس معسكره، ويسعى إلى اكتساب ثقة الشعوب واحترامها بأن يؤثر لقب عضو في المجمع العلمي على لقب قائد للجيوش عظيم.
كان القنصل يرى نفسه سعيدا جدا بأن يرأس الفتوحات العقلية، وينشط رقي العلوم التي حلم بها وهو فتى. كان بونابرت في حداثته يفكر في أن يتفوق على نيوتن، قال: «كنت وأنا فتى أحدث نفسي بأن أصبح مخترعا كنيوتن.» وحدث السيد جوفروا ده سنت هيلير أنه سمع بونابرت يقول: «لقد أصبحت مهنة العسكرية حرفتي من غير أن أختارها.»
بقي نابوليون وفيا لميوله تحت أثقال مشاغله الحربية وفي وسط الانتصارات اليومية التي وسمت مواقعه في إيطاليا؛ ولم يقف عن ترحيب فرنسا ترحيبا سياسيا وعلميا في سبيل الرقي العام. ففي بافي استشار العالم سكاربا، وفي عام 1801 جرت له مباحثات مع العالم الطبيعي فولتا الذي أغدق عليه العطايا والمراتب العليا، وفي عام 1802 وضع جائزة قدرها ستون ألف فرنك لمن يتمكن باختباراته واكتشافاته أن يدفع الكهرباء قدما إلى الأمام كالتي دفعها فرنكلين وفولتا. وطلب أيضا من المجمع العلمي خلاصة الأعمال القيمة التي عالجتها الثورة في الفنون والآداب والعلوم.
لم يكن اهتمام القنصل الأول منحصرا في تنظيم داخل الجمهورية فحسب، بل كان يفكر في السلام الخارجي الذي أراد أن يجعله حسنة من الحسنات التي وسمت ظهوره في السلطة؛ فجعل سبيلا للمداولات مع ديوان لوندن على يد تالليران، وكتب هو نفسه الرسالة التالية إلى ملك إنكلترا في السادس والعشرين من شهر كانون أول عام 1799، منذ الأيام الأولى التي صعد بها إلى القنصلية مع كمباسيريس ولوبرون:
بونابرت، القنصل الأول في الجمهورية، إلى جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا
أمن حق الحرب التي تتلف جهات العالم الأربع منذ ثماني سنوات أن لا تقف؟ أليس هناك سبيل للتفاهم؟
كيف تستطيع الأمتان، وهما أعظم أمم أوروبا وأكثرها تنورا، أن تضحيا لأجل فكرة من المجد باطلة بخيرات التجارة، والرقي الداخلي، وهناء العيال؟ كيف لا تشعر بأن السلام إنما هو من الضروريات الأولى كما هو أول المجد؟
هذه الميول غريبة عن قلب جلالتك التي تسوس أمة حرة وترغب في إسعادها.
إن جلالتك لترى في مفاتحتي هذه رغبتي الأكيدة في العمل للمرة الثانية على الهدوء العام، بخطة سريعة ملؤها الثقة والإخلاص.
صفحة غير معروفة