المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
صفحة غير معروفة
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
صفحة غير معروفة
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
صفحة غير معروفة
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
صفحة غير معروفة
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
صفحة غير معروفة
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
تاريخ نابوليون بونابرت
تاريخ نابوليون بونابرت
1769-1821
تأليف
إلياس أبو شبكة
المقدمة
منذ وطأت الأيام كنف السلطان لنابوليون لم يقع إلا على المعجبين والمتملقين، أما سحر النبوغ فلم يتفق له يوما أن أثار حماس الخلق كما أثاره نبوغ هذا الرجل، ولم يقيض للسلطة مرة أن تتمتع بمثل ما تمتعت به سلطته، لقد كان رقية عامة، والشعب الذي لم يشأ إلا أن يحدر عن ذلك الإنسان لثام الإنسان فيجعله شبه إله، ويسير في مواكبه وجوه الأمم ممن علت بهم السن في طلائع المجد، إنما أتيح له أن يستوفي قسطه من الكرامة التي استمدها بونابرت من مشيئته وفكرته.
قال أحد المادحين سنة 1813 ما يلي: «إن أوروبا جمعاء إنما ستصبح، بفضل نبوغه وذكائه، أسرة واحدة رحبة يجمعها دين واحد وشرائع واحدة، والأجيال التي تتمتع بهذه الخيرات لن تتلفظ باسم البطل المحسن إليها إلا بفخر وإعجاب.»
صفحة غير معروفة
وقال أحدهم في ذلك العهد ما يلي: «لو عاد إلى الأرض رجل من عصر المدسيس أو عصر لويس الرابع عشر وانحط نظره على تلك العجائب العديدة فملكه الدهش فسأل: كم استوفى هذا العمل من عصور سلام ودول مجيدة؟ فأجيبوه : إنه إنما هو نتيجة اثنتي عشرة سنة حرب ونبوغ رجل واحد.»
إلا أن عهد العبادة والحماس ما لبث أن اضمحل، فلما تخلى الحظ عن الجند الفرنسي تخلى مع الحظ كل شيء، كل شيء ... إلا الشعب! الشعب الذي لم يشأ أن يميز بين نابوليون على العرش ونابوليون في المنفى، بل ظل الرجل الفرد في قلبه، كلمة المساواة ومسيح الثورة الفرنسية في أوروبا.
قال شاتوبريان عقيب رسالة بليغة حمل فيها على نابوليون ما يلي: «إن العالم إنما هو ملك نابوليون؛ فإن أخطأ الدنيا وهو حي فقد استولى عليها وهو ميت! فالجندي والمواطن، الجمهوري والملكي، الغني والفقير كلهم يضعون تماثيل بونابرت ورسومه في قصورهم أو أكواخهم، حتى إن مقهوري الأمس وقاهريه أجمعوا على أن يختموا قلوبهم على تمجيده، فما يجول أحد جولة في إيطاليا إلا ويقف بصره عليه، وما يلج ألمانيا والج إلا ويناله بالنظر فيخلد إليه إذ إن الذين زجوه عنهم في هذه الأمة قد نبت الربيع على دمنتهم أو ذهبوا.
ليس بونابرت كبيرا بكلماته، وخطبه، وكتاباته، وشغفه بالحرية التي لم يوطئ لها السبيل يوما! بل هو كبير بخلقه حكومة منظمة قوية، ومجموعة قوانين درجت عليها ممالك كثيرة، ودور عدل، ومدارس، وإدارة حازمة ما زلنا نعيش في كنفها، هو كبير؛ لأنه بعث إيطاليا وأنارها ومضى بها في سبل الرقي قدما، هو كبير لأنه جدد النظام في فرنسا بعد أن أقوت منه؛ لأنه تمكن من نواصي الطباع جميعا فما جابه رجلا إلا وتسلل إلى مداخل طبعه؛ لأنه أمال إليه جموعا من الثائرين، وكتلة غير قليلة من العلماء المتصلفين، والأدباء الفوضويين، وخطباء الشوارع، وسفاكي السجون والطرق، وبائسي المنابر، والنوادي والمشانق، هو كبير؛ لأنه سليل نفسه؛ لأنه عرف، من غير أن تدعمه سلطة إلا سلطة نبوغه، أن يخضع إليه ستة وثلاثين مليونا من الرجال في عهد لم يحط به الغرور عرشا من العروش، هو كبير؛ لأنه قهر جميع الملوك الذين وقفوا في سبيله؛ لأنه سحق الجيوش أيا كان تباين نظامهم وبسالتهم وأيا كانوا؛ لأنه طبع اسمه على شفاه الشعوب الهمجية كما طبعه على شفاه المتمدنين؛ لأنه تجاوز جميع القاهرين الذين تقدموه، وملأ اثنتي عشرة سنة من العجائب التي أوشك اليوم أن يعمى على الناس إدراكها!»
هكذا انحنى ذلك الخصم أمام عظمة الصنم الذي حاول طويلا أن يسحقه بعد أن تزيد في معاضدة الأحقاد الأجنبية والخيانات الأهلية التي هيئت للنيل من نابوليون، هكذا تزاحف شاتوبريان على استشعار الحقيقة في الدفاع عن بونابرت ضد المتهجمين الذين آلوا على نفوسهم أن يتحيفوا من حقه ويقمروه المجد الذي ما نض بيد أحد مثله، ولم يكن شاتوبريان الرجل الوحيد الذي أرغمته الصراحة النبيلة على مجاورة الحق؛ فإننا لو تمكنا من إيراد مذاهب كل عمد العصر فيه ممن فسح لهم في الفلسفة والأدب كبيرون، ولامنه، ولامرتين، وبلزاك، وهيغو، وفيني، وبلان، وكريل، وبرنجه وغيرهم لما بقي فضل لحوار ولا جدل، ولكننا نكتفي بذكر ما قاله المؤرخ الكبير، رئيس الأمة الفرنسية تيير في نابوليون: «إنه وإن كان رجل دم إلا أنه أعظم الرجال جميعا.»
إن الظروف لم تعدم رجالا مفكرين في عصر من العصور، فكلما احتاج العالم إلى فكرة جديدة لكيلا يضمحل مع العقائد، والنظم، والممالك التي كساها القدم حلة التلف مهدت له الأيام عنصرا قويا من عناصر الفكر والنبوغ فأحله الشعب محلا موفور الكرامة ... مهدت له الأيام عمدا من عمد الفلسفة السامية ليهديه إلى مطارح النور، وخطباء مبسوطي العلم بمداخل السياسة الصحيحة، وشارعين نبهاء لا ينحطون إلا على قمة الرأي، وفاتحين أقوياء يقيلون الوطن قبل أن يتحكم في شأنه غير أهله.
إن الانتصارات الكبرى، والفن العسكري، والفتوحات الغراء، وكل ما يترقى بالنبوغ في مدارج الرفعة إنما هي وحدها التي يترسمها التاريخ فيرقمها في مطاويه، وهي هي التي تقف عليها نواظر الشعوب في حياة الرجال العظماء الذين يدمرون الممالك أو يشيدونها بقوة السيف.
هو ذا القيصر الكبير؛ فإنه وإن قهر الجرمانيين، وغرس النسور الرومانية من قمة القوقاز إلى جبال كليدونيا، وإنه وإن جاز غاليا إلى إيطاليا، وروما إلى مكدونيا، وصحاري الفرسل إلى أفريقيا وأطلال قرطجنة إلى شواطئ النيل، وإنه وإن عبر البوسفور والرين، وجبال طارق والألب والبيرينه إلا أنه إنما هو يسير اسم روما ولغتها وعاداتها تحت حماية مجده الشخصي، إنه ليحمل معه عصر أغسطوس وهو يتنزى إلى مطارح الحياة والنور، ويبني أعظم وحدة سياسية عرفتها الأرض، هو ذا القيصر الكبير الذي أخذ إخذ الإسكندر في خططه، وأمده شعبه بمثل ما أمد به الإسكندر إذ لم ير فيه غير إله؛ فإنه لقد رحب بعجائب السيف واللسان نطاق ذلك المذهب السامي الذي عرف أن يدني الرفيع ويرفع الدنيء.
ولكن الدهر لم يقيض لأحد بين جميع هؤلاء الفاتحين أن يتناول من أسباب الحظ ما تناوله نابوليون الكبير؛ فإن كان الإسكندر قد فتح في الحرب فتحا أمكنه من عصر بركلس فحمله إلى مذاهب الجوزاء كما حمل القيصر عصر أغسطس، وإن كان هذان الفاتحان قد استمدا نبوغ هوميروس، وسوفوكل، وأفلاطون، وأرسطو، وشيشرون، وفرجيل وهوراس؛ فإن نابوليون حمل معه ثلاثة عصور فسح له الله في الفن، والعلم، والفلسفة، وما كان عصره أقل انطلاقا في ميدان النبوغ من عصر من تقدمه من الفاتحين: لقد اجتاز أوروبا مع مونتين وديكارت، مع كورنيل وراسين، مع فولتير وروسو، وما كانت أركان جيشه إلا جامعة متنقلة طوافة يرف فيها روح القرن الثامن عشر، وتجوب جيوب الأمم المتأخرة لتستل منها ذاتيتها الرثة وتنزلها عند طبيعتها فتتأثر بعادات أمة اعترف لها العالم بالفضل وبايعها السلطان عليه، لقد خلص نابوليون إلى غايته في كل طور نحاه؛ فإن وإن لاطف ذكريات الأريستوقراطية في فرنسا، وتملق لأوهام الحكم المطلق إذ طلاه بأنظمة زائلة تهدمت تحت ثقل القدم إلا أنه بقي ذلك الديموقراطي المبدع العظيم، ممثل تلك الثورة الكبرى التي أطلقها ميرابو مع صواعق البلاغة، ودافعت عنها جمعية السلام العام بصواعق الهول، وأيدها هو - نابوليون - ونشرها في أوروبا مع صواعق الحرب، تلك الثورة التي سميت «فرنسية» من يوم مدرجها، وما لبثت أن أصبحت وهي ثورة «عالمية».
قال الشاعر الفرنسي العظيم فيكتور هيغو كلمته في نابوليون والأدب فآثرنا تعريبها وإلحاقها بهذه المقدمة لتكون لها خاتمة صالحة: «كانت فرنسا في مطلع هذا العصر مشهدا جميلا تشخص إليه الأمم بإعجاب، وكان رجل واحد يملؤها يوم ذاك بعظمته ومجده ويجعلها كبيرة رحبة حتى تملأ أوروبا بأسرها، هذا الرجل الذي خرج من الظلمة، وكان ابن رجل كرسكي رقت حاشية حاله، قيض له في مدة لا تجاوز السنين القلائل أن يبلغ أرفع قمة من قمم الملك لم يشهد التاريخ مثيلا لها منذ نشأته، لقد كان أميرا بالنبوغ والحظ والأعمال، وكان كل ما فيه يشير إلى أنه المالك الشرعي لسلطان رباني، لقد توفرت فيه شروط العظمة الثلاثة: الحوادث، والثقة، والمسح، فالثورة ولدته، والشعب اصطفاه، والخليفة مسحه! كثير من الملوك والقواد عرفوا فيه من خلال المستقبل مصطفى القدر، لقد كان الرجل الذي قال له إسكندر روسيا قبل أن فني في تاغنروغ: «لقد اختارتك السماء!» والذي قال له كليبر قبل أن قتل في مصر: «أنت كبير كالعالم!» والذي قال له دوزه قبل أن مات في مارنغو: «أنا الجندي وأنت القائد!» والذي قال له فالهوبرت وهو يحتضر في أوسترلتز: «إني سأموت أما أنت فستملك!» أجل، إن شهرته الحربية كانت عظيمة وفتوحاته هائلة! كان كل سنة يمد حدود مملكته إلى ما وراء الحدود نفسها التي وهبها الله لفرنسا، لقد محق جبال الألب كما فعل شارلمان، ومحا البيرينه كما فعل لويس الرابع عشر، واجتاز نهر الرين كالقيصر، وكاد يقطع المانش كغليوم المنتصر! وكانت فرنسا تملك مائة وثلاثين مقاطعة يومذاك، فمن جهة كانت تصل إلى أفواه الإيلب، ومن جهة أخرى كانت تبلغ التيبر، كان ملكا على أربعة وأربعين مليونا من الفرنسيين ومحاميا عن مائة مليون من الأوروبيين، فشيد في وسط أوروبا مملكة كالقلعة الحصينة أعطاها عشر سلطات أدخلها في الوقت نفسه إلى ملكه وأسرته؛ إذ إنه وضع تيجانا على رءوس أترابه وأبناء أعمامه الذين كان يلعب معهم وهو صغير في باحة منزله في أجاكسيو، لقد أزوج ولدا تبناه من أميرة من أميرات بافيير، وأخاه الأصغر من أميرة من أميرات ويرتنبرغ، أما هو ، فبعد أن نزع من النمسا تسلط ألمانيا الذي كان قد ادعاه تحت اسم معاهدة الرين، وبعد أن نزع منها التيرول ليضيفه إلى البافيير والإيلليري ليتبعها بفرنسا، تنازل فتزوج من أرشيدوقة.
صفحة غير معروفة
كان هذا الرجل كرؤيا من الرؤى الغريبة المدهشة محلقا فوق أوروبا جمعاء، ذات يوم نظر جالسا بين أربعة عشر رأسا متوجا على كرسي أرفع من كراسيهم، ولما كان في فجر عظمته، خطر بباله أن يتلاعب بلقب البوربون في زاوية من زوايا إيطاليا وأن يرحبه حسب ذوقه، فعمل لويس دوق دي بارم ملكا على التيروري التي هي التوسكان اليوم، وفي ذلك العهد نفسه نزع من ملوك بريتانيا العظمى لقب ملوك فرنسا الذي اغتصبوه طوال أربعمائة سنة، كانت الثورة قد محقت أزاهير طغراء فرنسا فمحقها هو أيضا ولكن من طغراء إنكلترا، عندما كان يجتاز نهر الرين، كان منتخبو ألمانيا، هؤلاء الرجال الذين صعدوا إلى قمم الملك، يخفون إليه على أمل أن يتوجهم ملوكا، والأغرب من ذلك أن خلف كارلوس الخامس ملك إسبانيا والهند طلب يد أخته زوجة له، كان جنوده يعبدونه عبادة البشريين ربهم، وكانوا يرون الموت عذبا في سبيله، لم يكن له كما كان لملوك الشرق رئيس مشيخة البندقية ساقيا للراح، أو دوق بافيير ياورا له كما كان لملوك ألمانيا، بل كان يتاح له أحيانا أن يوقف قيد المحاكمة الملك الذي يقود فرقة خيالته.
كان هذا الرجل هائلا وعجيبا! فلم يبق رأس تحت السماء مهما كان عاليا وفخورا ما تمنى أن يكون له صلة به، ولم يبق عظيم من عظماء العالم لم يحي ذلك الجبين الذي وضعت عليه يد الله تاجين: أحدهما من ذهب ويدعى الملك، والآخر من نور ويدعى النبوغ، كل شيء في العالم كان ينحني أمام نابوليون، أجل كل شيء إلا ستة أدباء، اسمحوا لي أن أقول ذلك بفخر، إلا ستة أدباء ظلوا وحدهم واقفين في العالم الساجد، ستة من المفكرين العظام هم: دوسي، دوليل، مدام ده ستال، بانجمين كونستان، شاتوبريان ولو مرسيه، ما كان معنى تلك المقاومة في وسط تلك الأمة التي كان النصر والقوة والتسلط والجمال والتفوق من حلفائها؟ ما كان معنى تلك المقاومة التي وقفت في وجه المجد والنبوغ والبطولة؟ ما كان يمثله هؤلاء الستة المتمردون؟ كانوا يمثلون يوم ذاك شيئا واحدا لم تتمتع به أوروبا: الحرية!
كان نابوليون يحب الأدباء بقدر ما كان يخافهم؛ فلذلك كان يطمع في أن يجمع الأدب إلى صولجانه، كأنه لم يكتف بأن وضع لجاما في أفواه الشعب فأراد أن يخضع بانجمين كونستان، ولم يكتف بأن قهر ثلاثين جيشا فأراد أن يقهر لومرسيه، ولم يكتف بأن انتصر على عشر ممالك فأراد أن ينتصر على شاتوبريان.
لم يقف في وجه الاضطهادات في ذلك العهد إلا ستة أدمغة لا غير، لم يقف في وجه ذلك الرجل الذي ألغى الحرية من أوروبا إلا ستة من الأدباء الذين بقوا داعمين صولجان الفكرة الحرة، لقد خدموا الإنسانية بدفاعهم عن الحق ومن يستطيع أن يخدم الإنسانية كالأديب الصادق؟ إنهم لم يقاوموا الحكم المطلق والجور والظلم فحسب، بل إنهم قاوموا فكرة الحرب بكل ما أوتوه من قوة البيان وصدق الحجة، إنني من الذين يعتقدون أن الحرب مفيدة أحيانا، ومن الذين يعتقدون أن الأثلام التي تنشق في بطن الأرض ليست أكثر فائدة من الجراح التي تفصدها الحروب في الجنس البشري، منذ خمسة آلاف سنة وأغلال الأرض تنبت بفضل المحراث ورقي العالم يصعد على مدارج الحروب، ولكن عندما تقدم الحرب لتسود على الدنيا، عندما تصبح سنة من سنن الملك، عندما تمسي داء مزمنا يصعب شفاؤه، مثلا عندما تنطلق ثلاث عشرة حربا في أربعة عشر عاما، إذ ذاك لا تجد الإنسانية بدا من العذاب، إن الأخلاق والآداب لا تلبث أن تضأل وترق لدى احتكاك الأفكار الوحشية، فيصبح السيف أداة المجتمع الوحيدة وتصطنع القوة حقا لها، عند ذلك تنخسف أشعة الفضائل الإلهية، تلك الأشعة التي يجب أن تنير وجه العالم، وتصبح الإنسانية في خطر عظيم! في مثل تلك الظروف يحق للألسنة الحرة أن تنطلق من عقالها وأن يقف الذكاء اللامع في وجه القوة، في مثل تلك الظروف يجمل بالمفكرين من أبناء الأدب أن يتكاتفوا ضد الأبطال ولو في مواقف انتصاراتهم، وأن يعترض الشعراء، هؤلاء الحضريون المصلحون، على شرائع الغزاة، هؤلاء الحضريين القاسطين.»
هذا هو الرجل العجيب الذي أبى الأشراف إلا أن يروا فيه مغتصبا ظالما، وفاتحا نهما، في حين كان العملة والفلاحون والجنود يرون فيه «رجل الشعب»، رسول الله، ونتاج النبوغ في العالم.
الفصل الأول
لكل ظلمة سماء تتكشف عن نيرات، وفي كل ليلة متمردة الأمطار صواعق تنقض! كانت الأريستوقراطية الظالمة، وكان فولتير وروسو، كانت القرون الوسطى، وكانت الثروة! كانت المظالم نتاج ذلك الماضي المشئوم الملقب بالباستيل في باريس، وبرج لوندره في إنكلترا، والسبييلبرج في ألمانيا، والإسكوريال في إسبانيا، والكريملن في موسكو، وقصر سنت أنج في روما! وكان الماضي خمسة عشر قرنا تمردت فيها عهود الإقطاعية الجائرة، فكان للأسياد سيطرتهم، وللعبيد ذلهم، وللأشراف تحكمهم، كان الصولجان والعرش والملذات والحق الإلهي في جانب الملوك! وكانت سنة 1793، فإذا بهذه الاثني عشر شهرا تقف حكما على القرون الخمسة عشر.
كان الماضي وكانت المقصلة: فإذا الماضي الحكم المطلق، وإذا المقصلة نيران الثورة! يا للمقابلة الرهيبة! فمن جهة عقدة محكمة، ومن جهة أخرى فأس!
الثورة! ... وما أدراك ما الثورة المنبثقة من شفق الأجيال المظلومة؟ هجعت قرونا طوالا وانقضت في ثوان ... لقد خرجت من الأرض: ففي الأرض المرطبة بدماء المظلومين ودموعهم وعرق جباههم، تأصلت تلك الشجرة الجبارة، من تلك الأرض الملأى بالقبور والمكائد وجثث ضحايا الاستعباد والجور خرج ذلك الشبح المجهول، ذلك المنتقم، تلك الأداة القاطعة: المقصلة! ورفعت الثورة صوتها القاصف صارخة في وجه العالم القديم: «ها أنا ذا!» عند هذا حق للمقصلة أن تقول لمشارف القصور: «أنا ابنتك.»
يا له مشهدا جميلا ذلك الذي يرتفع فيه جبين الشعب عاليا فخورا! يا له مشهدا جميلا ذلك الذي تبرق فيه عيون الفلاسفة المضطهدين أمام مشعل الإنسانية الإلهي، أمام الحرية!
صفحة غير معروفة
ولكن لا بد لكل ثورة من نظم تتمشى عليها للوصول إلى المقصد الأسمى، ولا بد لهذه النظم من دماغ يسنها وسيف يدافع عنها. فبينما كان فولتير وروسو ينحنيان إلى القبر بعد أن ملآ العصر بدوي شهرتهما، وبينما كان ميرابو الذي قدر له أن ينقل صولجان الرأي من الفلسفة إلى البلاغة السياسية يمهد لكهولته شهرة الخطيب ومجد رجل الأمة، كانت الحكمة التي تقود العالم إلى الغاية التي تتوخاها في طرق لم يقيض لأحد غيرها أن يتسلل إلى مداخل أسرارها، الحكمة التي في تعاقب الأجيال والممالك، تهيئ كل شيء بأبعد ما يكون من الإتقان في سبيل رقي الأفكار وفوز الثورات الكبرى، أجل، كانت تلد، في زاوية مظلمة من زوايا البحر المتوسط، الرجل الذي سيقف روح الحرب لخدمة روح الإصلاح، ويختم القرن الثامن عشر بمعجزات عسكرية بزت جميع المعجزات التي أدهشت القرون القديمة والوسطى.
ولد نابوليون بونابرت في أجاكسيو من أعمال جزيرة كورسكا، في الخامس عشر من شهر آب سنة 1769، من شارل بونابرت وليسيا رامولينو.
عندما أشرف على تجديد المملكة في عهد القنصلية، صور لبعض الكتبة أن يختلقوا للإمبراطور المزمع سلسلة نسب تصله بالأمراء، وأن يوجدوا له أجدادا بين ملوك الشمال القدماء، إلا أن الجندي الذي كان يشعر بثورة فرنسا تتمخض فيه، ولا يجهل أن استحقاقه وحده هو الذي حمله، في عهد المساواة، من أسفل مراتب الجندية إلى أقصى طبقة من طبقات الملك، أوعز إلى جرائده أن تجيب بأن شرفه لا ينتمي إلى غير الخدم التي أداها إلى بلاده، وأن ذلك الشرف يبتدئ تاريخه من عهد موقعة مونتينوت.
أنهى والد نابوليون دروسه في بيز وروما، فكان على بسطة في العلم والفصاحة ما أتاح له أن يبرز قسطا وافرا من النشاط والجد في كثير من المواقف المهمة خصوصا في مفاوضة كورسكا، تلك المفاوضة التي انتهت باستيلاء فرنسا على تلك الجزيرة سنة 1768.
ظهر شارل بونابرت بعد ذلك في مدينة فرسايل، على رأس وفد ولايته، بداعي المخاصمات التي قامت بين القائدين الفرنسيين ماربوف وناربون بيليز اللذين كانا آمرين في كورسكا، كان نفوذ هذا الأخير عظيما لدى البلاط، إلا أنه سقط أمام الشهادة القوية الصادقة التي أداها شارل بونابرت في دفاعه البليغ عن ماربوف ليبقى وفيا للعدالة والحق، أما ماربوف فلم يفته بعد ذلك أن يمد يد المساعدة إلى أسرة بونابرت.
كان نابوليون، بالرغم من أنه ثاني أولاد شارل بونابرت، معتبرا كرأس للأسرة، وكان عمه الأكبر الأرشيدياكنوس لوسيان، الذي كان عمد ذويه، قد أعطاه هذا اللقب وهو على فراش الموت.
في سنة 1777 وضع في مدرسة بريين، فاجتهد وخص نفسه بدراسة التاريخ والجغرافية وسائر العلوم المدقق فيها، فنجح في جميع هذه المواد وخصوصا في الرياضيات، أما ميله إلى المواد السياسية فقد بدأ ينمو ويعرف منذ ذلك الحين.
أولع باستقلال وطنه، فوقف نوعا من التعبد لباولي
1
الذي كان يدافع عنه بحماسة ضد رأي والده نفسه.
صفحة غير معروفة
عزي إليه خطأ أنه كان في المدرسة ميالا إلى الوحدة والصمت، لا أصدقاء له ولا أنداد، ولا نصيب له من حب أحد لما اشتملت عليه نفسه من القساوة وخشونة الطبع، بل كان عذب الخلق، لين العريكة، أدعى إلى الحب بما تناهى إليه من الدماثة واللطف، ولم يطرأ بعض الانقلاب على طبعه إلا في عهد البلوغ فأصبح وهو كئيب النفس عبوس، هذا ما قاله عن نفسه في مذكراته التي كتبها وهو أسير في سنت هيلين.
وزعم أن ميله إلى العزلة ورغبته في الفن العسكري، تلك الرغبة التي نضجت قبل أوانها، إنما هما اللذان كانا يحببان إليه الاختلاء في حديقته التي كان يتحصن فيها ضد غارات رفاقه، إلا أن أحد هؤلاء الرفاق أخذ على نفسه تكذيب هذا الزعم فقال: «في شتاء سنة 1783-1784، الذي تراكم فيه الثلج على الطرق وفي باحات المدارس، جنح نابوليون عن تردده إلى الحدائق الصغيرة التي كان يستعذب فيها الخلوة والسكون، وأصبح في أوقات فرصه المدرسية يضطر إلى الاختلاط برفاقه والتنزه معهم في قاعة كبرى من قاعات المدرسة، ولكي يتخلص من تلك الحالة المملة، قيض له أن يحرك المدرسة جميعها، بأن هيأ لرفاقه أنهم يستطيعون أن يجدوا له مخرجا إلى التسلية واللهو إذا هم فتحوا بالمجارف معابر مختلفة في وسط الثلوج أو حفروا خنادق ورفعوا أسوارا وخيالة ... وزاد على ذلك بقوله: عندما ينتهي العمل الأول، ننقسم إلى فرق، ونعمل لنا حصنا، وبما أني مخترع هذا النوع من التسلية آخذ على عهدتي إدارة القتال، فنزل الرفاق عند فكرته بغبطة وفرح، وبقيت تلك الحرب المتنكرة مدة خمسة عشر يوما، ولم تضع أوزارها إلا عندما تخللت كرات الثلوج حصيات وحجارة صغيرة نجم عنها أن بعض التلاميذ أصيبوا بجراح بليغة، أذكر أنني كنت في عداد الذين اضطهدوا اضطهادا فظيعا في تلك المعركة.»
كان على بونابرت الفتى ليتمكن من القيام بهذا العمل، بالرغم من ميله إلى الوحدة والتأملات، أن يكون ذا سطوة على رفاقه، وهذه السطوة لا تكتسب بالخشونة والتوحش اللذين عزاهما إليه بعض المترجمين الأغبياء.
لم يكن نابوليون متمتعا باحترام رفاقه فحسب، بل كان حاصلا على ثقة معلميه وإكرامهم حتى إن كثيرين منهم كانوا يتنبئون له عن مستقبل عظيم، وقد أكد ده لاكيل، أستاذه في التاريخ، أنه إذا فتحت خزائن المدرسة الحربية قرئ في أحد سجلاتها حاشية ضمنها مستقبل تلميذه وهي: «كورسكي الملة والخلق، سيبلغ شأوا بعيدا إذا ساعدته الظروف»، وكان دو ميرون، أستاذه في الآداب، الذي امتاز بين معلمي البيان، يسمي شروحه: «حجارة من الصوان أحميت في بركان.»
في مباراة سنة 1785، اختاره الشفالييه ده كيراليو لمدرسة باريس الحربية، فسعوا عبثا أن يحولوه عن فكرته هذه؛ لأن التلميذ لم يكن بالغا السن؛ ولأنه لا يجيد إجادة تامة إلا المواد الرياضية، فلم يقنع هذا القول الشفالييه الذي كان ضابطا كبيرا ويشغل وظيفة مفتش فأجاب: «إنني إنما لا أجهل ما أعمل، وإذا كنت الآن أخترق النظام فليس ذلك إكراما لأسرته لأني لا أعرف أحدا من أعضائها، إنما يتراءى لي في هذا التلميذ جذوة متقدة من الواجب أن يواصل اضطرامها.»
عندما دخل نابوليون تلك المدرسة الجديدة، لم يلبث أن حزن من التربية اللينة المرفهة التي يتعهدون بها فتيانا يعدونهم للحياة القاسية في المعسكر ولمهنة الجندية الشاقة، فكتب مذكرة أرسلها إلى السيد بروتون قال فيها: «إن تلاميذ المدرسة الملكية يسلكون منهجا لا يصل بهم إلى الغاية التي تنتظرها منهم بلادهم، فبدل أن يخصص عدد من الخدم لقضاء حاجاتهم، أو أن تصرف الأموال الكثيرة بترويض خيولهم على يد السياس، يجدر بهم هم أنفسهم أن يقوموا بهذا العمل، أليسوا جميعا بعيدين عن طرف القصور وبهرجة الغنى، معدين للخدمة العسكرية التي من أجلها وحدها إنما وجدوا في هذه المدرسة؟ لقد قدر لهم أن يسلكوا حياة متزهدة، لا حياة ترف ورفاه، وأن يتعهدوا نفوسهم بنفوسهم فيصبحوا أشداء يقتحمون المصاعب بتجلد وقوة، ويتحملون بشجاعة وبسالة أهوال الحروب الشاخصة إليهم من خلال المستقبل، ولا يصدفون عن احترام الجنود الذين سيكونون تحت سلطتهم.»
هكذا كان نابوليون وهو لا يزال ولدا، يملي في مذكرة التلميذ قواعد نظام حققها فيما بعد وهو في أعلى ذروة من ذرى مجده.
أما الامتحانات اللامعة التي قدمها، فقد مهدت له شهرة في باريس كما مهدت له في بريين، وفي سنة 1887 خرج من المدرسة الحربية برتبة ملازم ثان، وانخرط في فرقة مدفعية لافير التي كانت وقتئذ محافظة في غرونوبل.
كان نابوليون في مدة إقامته بباريس، وهو لا يكاد يبلغ الثامنة عشرة من عمره، يتردد إلى الأب راينال فيبحث معه باطلاع وافر في أكبر مسائل التاريخ وأصول وضع الشرائع والسياسة، ثم أرسل إلى فالنس، وفيها قسم من فرقته، فما عتم الأمر أن أتيح له أن يتعرف إلى المجتمعات الراقية، خصوصا مجتمع السيدة ده كولومبييه، وهي امرأة على جانب عظيم من الذكاء والعلم، فتعرف هناك إلى السيد ده مونتاليفه الذي جعله فيما بعد وزير خارجيته.
كان للسيدة كولومبيه ابنة، أوحت إلى الضابط الفتى أولى عواطف الحب التي اختبرها في حياته، قال نابوليون: «كان ذلك الميل الطاهر مشتركا بيني وبينها، وكانت أسعد أوقاتي معها مقتصرة على قطف الكرز وأكله جنبا إلى جنب.»
صفحة غير معروفة
إلا أن الأم، مع احترامها للفتى وتعلقها به، لم تفكر قط بزواج ابنتها منه، ولكنها كانت تتنبأ له دائما عن مستقبل عظيم، حتى إنها كررت نبوءتها هذه وهي على فراش الموت، في حين كانت الثورة الفرنسية تتحفز للوثوب وتفتح ميدانها في وجه ذلك الضابط الفتى.
لم تكن مشاغل القلب ولا الفوز الذي أحرزه في العالم لتحول بينه وبين ممارسته دروسه المجهدة وانصبابه على حل أصعب المسائل الاقتصادية، حتى إنه نال تحت اسم مستعار، الجائزة التي وضعها مجمع ليون العلمي للجواب على هذا السؤال الذي اقترحه الأب راينال وهو: «ما هي القواعد والطرق التي يجب على الرجال أن يتعلموها ليصلوا إلى السعادة الممكنة؟»
أطلقت قنبلة الثورة الفرنسية فقابلها الشباب الراقي بالاستحسان؛ لأنها جاءت طبقا للمذاهب الفلسفية التي تشربها قبل حين، غير أن فئة من الأشراف الذين كانوا متمسكين بامتيازاتهم وألقابهم، وكان في الجندية عدد غير قليل منهم، لم يشاطروا تلك الفئة الأولى استحسانها لتلك الثورة، أما نابوليون فلم يحذ حذو الكثيرين من رفاقه الذين ذهبوا إلى الخارج ليظهروا عدم رضاهم بتجدد وطنهم، بل انخرط في سلك المحدثين قائلا لقائده: «إن الثورات إنما هي فرصة سانحة للجند الأشداء، ذوي الروح الناضج.» أجل، كان نابوليون مصيبا في قوله؛ إذ إنه لا ينبغي للمسائل العمومية أن تولج عن طريق الزهد إذا أريد أن يعمل في سبيل مستقبل الشعوب، ويجب أن لا يدفع العالم إلى الأمام بعدم التغرض، الذي هو عامل من عوامل الضعف، أجل، كان من حظ فرنسا وسعدها أن يكون بين واضعي الشرائع والجنود المخلصين لتنظيم 1789، نفوس تواقة إلى المجد، طامعة في القوة التي تسهل للنبوغ تحقيق أمانيه، وكان من سعد حظها أيضا، أن يكون بين هؤلاء الطامعين الذين لولاهم لما نالت الثورة قسطها من الحياة، جندي أهل لأن يرتفع إلى شهرة خالدة وسطوة عظيمة بما أتاه من الأعمال المجيدة لمصلحة أوروبا جمعاء.
أذعن نابوليون بوقت واحد إلى حججه وإلى القدر الذي شعر بجناحيه يحلقان فوق مجده وهو يعانق فئة الشعب بحمية وعطف، إلا أن هذه الغيرة الوطنية لم تحوله عن أن يغذي في نفسه مقته الفطري للفوضى، وأن يشهد بألم لا ألم بعده ذلك الإفراط في الثورات الذي كان يشير إلى احتضار سلطة ستعود إليه يوما.
في العشرين من شهر حزيران عام1792، بينما كان نابوليون واقفا على سطح التويلري،
2
أبصر لويس السادس عشر متعصبا بقبعة حمراء وضعها على رأسه رجل من رجال الشعب، فصرخ قائلا: «كيف تركوا السبيل لهذا النذل بالدخول إلى هنا؟ كان يجب أن يكنسوا أربع أو خمسمائة من هؤلاء برشاش المدافع!»
كان نابوليون، مع انحيازه إلى الثورة الفرنسية، متعلقا أشد التعلق بفكرة حفظ النظام ومداراة السلطة، فترك عاصمة فرنسا واتجه إلى كورسكا، وفي ذلك الوقت، كان باولي يبث دسائسه في تلك الجزيرة وفقا لمصلحة إنكلترا، فما كان من نابوليون، الذي استهجن ذلك التصرف السيئ، إلا أن حطم صنم حداثته واستلم قيادة في الحرس الشعبي وأخذ يحارب ذلك الشيخ الذي كثيرا ما جاهر باحترامه له وإعجابه به.
أحرق الإنكليز أجاكسيو ونال منزل بونابرت نصيبه من ذلك الحريق، فلم تجد عائلته بدا من النزوح إلى فرنسا والسكن في مرسيليا، أما نابوليون، فلم يقم طويلا بهذه المدينة، بل أسرع بالعودة إلى باريس التي كانت الحوادث فيها تتوالى بسرعة وشدة معلنة في كل يوم وفي كل ساعة عن أزمة جديدة.
كانت فرنسا الشمالية قد رفعت علم المعاهدة، وكانت الخيانة دفعت طولون
صفحة غير معروفة
3
إلى الإنكليز، فعهدت الاتفاقية إلى الجنرال كارتو بأن يصلح البروفانس
4
على قواعد الجمهورية، وأن يحث على معاقبة المتمردين والخائنين.
عندما قاد النصر هذا الجنرال إلى مرسيليا، أمر بحصار طولون، فاتجه نابوليون إليها بصفة قائد مدفعية، في ذلك العهد، وضع نبذة صغيرة تحت عنوان «عشاء بوكير»، تضمنت آراءه التي كان عليه أن يبديها بصفته مواطنا نشيطا ورجل حرب حاذقا، وكانت هذه الآراء تحتوي على نظرة في اضطرابات الشمال، وحادثة المعاهدة، أذاعت عن ضابط المدفعية البسيط تلك الحجة السامية وذلك الإدراك الصحيح اللذين أكسباه إعجاب الجمهور وهو إمبراطور.
الفصل الثاني
عندما وصل نابوليون إلى أسوار طولون وجد فرقة من المتطوعين البسلاء، إلا أنه لم يجد زعيما جديرا بقيادتهم.
كان الجنرال كارتو، وهو من أشد المتظاهرين بعظمة وجبروت لا ينطبقان على صعوبة المبادئ الجمهورية، ينطوي على جهل أكثر مما ينطوي على زهو وفخفخة، وكان فتح طولون عملا تعجز عنه قواه، غير أنه لم يكن ليعترف بذلك العجز المقنط، فكان من تلك الثقة العمياء أن أوحت إليه تلك الخطة التي حملت هذه الكلمات: «إن قائد المدفعية سيصعق طولون مدة ثلاثة أيام، أهجم في نهايتها بثلاث فرق وأستولي عليها.»
إلا أن حسن الحظ شاء أن يكون إلى جنب هذا الفنان الماهر الذي يستشعر الإيجاز في خططه، ضابط قيض له أن يكون على بسطة في العلوم العسكرية بقدر ما قدر له أن يكون في رتبة سفلى، كان هذا الضابط فتى في الرابعة والعشرين من عمره، وكان مع ما هو عليه من الضعة وخفض الجناح لا يقدر على حجب مقته للقسم الأكبر من الرجال، الذين كانت سلسلة المراتب والنظم توجب عليه أن يحترمهم كرؤساء لهم عليه واجب الإذعان، بالرغم من أن عجزهم وقصورهم كانا يهددان الجمهورية بسوء المصير، فهذا المقت الحلال، وتلك الثقة التي أكدت له أنه إنما هو فوق من حوله، كانا يشجعانه على أن يغالط رؤساءه أنفسهم، بدل أن يدعهم ينفذون من غير مخالفة مقاييس كان يراها مضرة جدا، حتى إن امرأة الجنرال كارتو لم تجد بدا من أن تقول لزوجها: «دع هذا الفتى يجري ما يراه صالحا، فهو أعرف منك بكل شيء، ألا تراه لا يسترئيك قط؟ أما المجد فهو باق لك لا ينازعك إياه أحد.»
عندما وصل نابوليون إلى المعسكر، أدرك بتلك النظرة الثاقبة التي كثيرا ما ساعدت نبوغه في ساحة الحروب، أن استرجاع طولون يتوقف على الإغارة عليها من منفذ الخليج، إلا أنه سعى طويلا مساعي خائبة حتى أتيح له أخيرا أن ينفذ فكرته، كان بين ممثلي الشعب رجل قدر له أن يكون على بسطة في الفراسة والذكاء فتوسم مستقبلا عظيما لهذا الضابط البسيط، وما عتم الأمر أن قيض لنابوليون أن ينال ما يحتاج إليه من السلطة ليحقق نجاح خططه.
صفحة غير معروفة
أبرز نابوليون في مدة الحصار مثلا في الاطمئنان والشجاعة النادرة لا يرتفع مثل عليه؛ إذ إنه لم يكن ليظهر حذاقته وخبرته في المشورة فقط بل كان يبرزهما في وسط العمل بذلك الهدوء الباسل الذي اضطر رؤساءه أن يحترموا فيه بسطة علمه ويعجبوا بسرعة ذكائه، أما هذه الجرأة المدهشة فقد كلفته سقوط جياد كثيرة تحته، وسببت له جرحا بليغا في فخذه الأيسر.
كان استعداده في العلم النظري الصرف ليس بذي أهمية، وكان احتقاره للتفوق والعلوم النظرية عظيما حتى إنه لم يكن ليستطيع أن يضع لنفسه حدا فيها، فالإدراك والتنفيذ كانا عنده أمرين متصلا بعضهما ببعض اتصالا كليا، ولكانت فكرته الرحبة قد أزعجته لو لم يشعر بروح وساعد يعملان معا على تحقيقها بشجاعة وثبات.
إن الحاجة إلى العمل تبعت نابوليون في كل مواقفه، فلقد حافظ عليها في وجوه حظوظه جميعها، وعندما أصبح من الصعب عليه أن يواصل تحقيقها، ختم الموت حياته، لقد مات في حين رأى نفسه مضطرا على أن يطوي تلك المخيلة الرحبة التي ملأت أوروبا بإبداعها العظيم.
لم يكن يطبق ذلك النشاط المتواصل في المسائل الكبرى فحسب، بل كان يضع يده على كل شيء عندما توجب عليه الظروف، ولا يخشى قط أن يعرض روحه الزاخر للمخالفة عند الاقتضاء.
ذات يوم في حصار طولون، بينما كان في أحد صفوف المدافع، قتل رجل من رجال المدفعية فاستولى على مدفع القتيل بسرعة، وأطلق بنفسه عدة طلقات، فكان من جراء ذلك أن أصيب بداء الجرب الذي كان القتيل مصابا به، وقد أسقمه ذلك الداء إسقاما لازمه في حروب مصر وإيطاليا، ولم يقيض له الشفاء إلا في عهد المملكة بعناية كورفيزار.
لم يكن في جميع رؤسائه من تملكه الحسد والسخافة ككارتو، بل إن القائدين دوتيل ودو كوميه كانا يظهران له احتراما ساميا ومراعاة لم يظهرا مثلها لأحد من مرءوسيهما قبله، حتى إن دو كوميه لم يجد بدا من الدهشة والاستغراب ساعة سمعه يقول له بعد الاستيلاء على البتي جيبرالتر: «خذ لنفسك الراحة، فلقد استولينا على طولون وتستطيع أن تنام فيها بعد غد!» إلا أن هذه الدهشة تركت محلا للإعجاب الشديد عندما تحققت تلك النبوءة الغريبة ، فكتب دو كوميه عندئذ إلى جمعية السلام العام يطلب منها رتبة قائد فرقة عسكرية للكومندان بونابرت قائلا: «كافئوا هذا الشاب وادفعوه إلى الأمام، فهو إذا بقي منكور الجميل لا يلبث أن يدفع نفسه بنفسه.» فنزل ممثلو الشعب عند هذا الطلب، ووظف القائد الجديد في إيطاليا تحت إشراف دو ميربيون وساعد بمقدرة عظيمة على أخذ ساورغيو.
كان نابوليون، مع تعلقه بقواعد الجمهوريين الغير الذين كانوا يعملون على إنقاذ البلاد بنشاط كثيرا ما رافقته مقاييس هائلة، يشرف على الأهواء والآراء التي كانت تصطدم بشدة لكيما تبقي تحت سطوة الحمى الثورية نفسها خلقا من الاعتدال وعدم التعصب، فإنه لم يستعمل نفوذه وقدرته إلا ليصون أخصامه السياسيين من الاضطهاد، وينقذ المهاجرين الذين ألقتهم الزوبعة في جهة فرنسا وكان بينهم عائلة شابريان.
كان روبسبيير في ذلك العهد في غضاضة العمر، وكان شديد الإعجاب بنابوليون، فسعى إلى أخذه إلى باريس قبل التاسع من ترميدور بوقت قصير، قال نابوليون: «لو لم أرفض بقساوة وصلابة، لما عرف أحد إلى أين قذفت بي تلك الخطوة الأولى وأي قدر كان ينتظرني.»
صادف نابوليون دوروك وجونو في حصار طولون، فملك دوروك محبة بونابرت وثقته، وأما جونو فقد امتاز في عينيه بهذه النادرة: «كان قائد المدفعية، عند وصوله إلى طولون، قد احتاج إلى الكتابة في المكان نفسه الذي كان يجهز فيه صفا من المدافع، فطلب أحد الجنود ليلازمه بصفة كاتم أسرار فمثل الجندي لديه، ولم تكد الرسالة تنجز حتى انطلقت قنبلة فملأتها ترابا، فقال العسكري بهدوء وسكينة تامة: حسنا، لم أبق بحاجة إلى التراب، كان هذا الجندي جونو، فهذا المثل في الشجاعة كان كافيا لإلفات نظر قائده إليه، فرقاه من ذلك الحين إلى أعلى رتبة في الجيش.»
لم يقدر فتح طولون الذي توقف على بونابرت الفتى أن يضعه في أمن من الاضطهادات، فذات مرة صدر أمر بقي بدون تنفيذ يطلبه إلى الديوان العرفي ليجيب على أسئلة تتعلق ببعض أوامر نظمها في تحصينات مرسيليا، ومرة غضب أحد الوكلاء من صلابة طبعه؛ إذ رآه غير مطيع لمطاليبه فلفظ ضده هذه الكلمة التي كثيرا ما كانت قتالة إلا أنها ذهبت هذه المرة أدراج الرياح: «يوضع خارج الشريعة.»
صفحة غير معروفة
قلنا: إن جميع وكلاء المعاهدة في جيش الشمال كانوا يسيئون التصرف مع نابوليون إلا واحدا لا غير، كان متزوجا من امرأة كثيرة اللطف والجمال؛ فإنه أسبغ عليه جزيلا من الإنعام، وأحله في بيته محلا موفور الكرامة وكانت امرأته تشاطره هذا الإكرام.
عندما صار نابوليون إمبراطورا، أبصر ثانية المرأة الجميلة التي أضافته في نيس، إلا أن الأحزان والمصائب كانت قد محت عنها جميع الجواذب التي استهوته في الماضي، فقال لها: «كيف لم تستعيني بمعارفنا في جيش نيس للوصول إلي؟ فلا يزال قسم كبير منهم له علاقة متواصلة معي.» فأجابته: «واحسرتاه يا مولاي! لقد انقطع تعارفنا منذ صاروا كبارا وصرت تعسة.»
كانت المسكينة قد أصبحت أرملة وعضها الفقر المدقع، فنالها نابوليون كل ما طلبت.
قال نابوليون ذات مرة، وقد مر بمخيلته ذلك العهد الجميل، على لغة الناس أو بالحري على لغة الأخلاق: «كنت في ميعة العمر يومذاك، وكنت سعيدا وفخورا بنجاحي الصغير، كنت ذات يوم أتنزه معها في وسط مواقعنا، في نواحي تاند، فخطر لي فجأة أن أريها مشهد حرب صغيرة وأمرت بالقتال، فكان النصر حليفنا، إلا أن الأمر كان مجردا من نتيجة؛ لأن القتال كان وليد هوى لا غير، مع أنه لم يخل من بعض القتلى الذين ذهبوا ضحية ذلك الهوى الفارغ، فيما بعد، كلما تذكرت ذلك العمل وبخت نفسي عليه.»
إن حوادث 9 ترميدور
1
أوقفت نابوليون موقتا في الميدان الذي ظهرت فيه طلائع نجاحه؛ إذ إن علائقه مع روبسبيير قد اشتبهت على الرجعيين، وإذ إن حاسديه على مجده الطالع قد مهدوا الطريق لخذلانه، فمنع عن مواصلة أعماله وأوقف بأمر من ألبيت ولابورت وسالسيتي الذين عزوا إليه جريمة بسبب السفر الذي كان قد قام به إلى جنوا.
صرح بأنه غير أهل لثقة الجيش وعزل، إلا أنه لم يسكت عن هذا السقوط وهذه الشكوى، فأنشأ مذكرة رفعها إلى الوكلاء الذين أوقفوه ، تضمنت ذلك الإنشاء السامي القوي الذي أعجب به بعد ذلك في جميع خطبه وإنشاءاته، ندرج هنا بعض مقاطع من تلك المذكرة النفيسة: «إنكم أوقفتموني عن أعمالي وصرحتم بعزلي ...
فها أنذا مهتوك الحرمة من غير محاكمة، أو محاكم من غير أن يصغى إلى دفاعي.
إن في المواقف الثورية أمرين: الشكوك وحب الوطن ... ففي أية مرتبة يراد أن أكون؟
صفحة غير معروفة
ألم أكن منذ بدء الثورة متعلقا بالنظم؟
ألم أشاهد دائما في الحروب تارة ضد الأعداء الداخليين وتارة ضد الغرباء؟
لقد ضحيت بمقاطعتي، وهجرت مصالحي، وفقدت كل شيء في سبيل الجمهورية.
لقد خدمت في طولون خدمة ممتازة وأكسبت جيش إيطاليا أكاليل الغار بأخذ ساورغيو وأونيل وتانارو ...
لقد كان تصرفي في اكتشاف مؤامرة روبسبيير تصرف رجل لم يتعود إلا السير على النظم.
إذن، فلا يستطيع أحد أن يجردني من لقب محب للوطن.
لماذا يصرح بعزلي من غير أن يصغى إلي؟
بريء، محب للوطن، مفترى عليه، مهما كانت المقاييس التي تتخذها الجمعية فلا يمكنني أن أتشكى منها.
إذا صرح ثلاثة رجال أنني مذنب فلا أتظلم من الجمعية التي تحكم علي.
أيحق للممثلين أن يضعوا الحكومة في مأزقين: إما أن تكون ظالمة، وإما أن تكون غير صالحة للسياسة؟
صفحة غير معروفة
أصغوا إلي، واعدلوا عن الظلم الذي يحيط بي، وأرجعوا إلي إكرام المحبين للوطن ...
إذا بقي الأردياء، ساعة بعد الآن، مصرين على أخذ حياتي فإني أنبذها كما نبذتها مرارا قبل الآن ... أجل، إن الأمر الوحيد الذي يشجعني على احتمال أثقال حياتي هو أنها قد تكون مفيدة للوطن.»
فهذا الاعتراض الشرعي، الذي انطوى على كل ما في بساطة الكلام من العزة والفخر، دعا الممثلين إلى التبصر في أنهم ينهجون مع رجل ذي قدر سام وخلق كبير وأنهم يجب أن يقنطوا من إذلاله واضطهاده من غير أن يعرضوا نفوسهم إلى مقاومته الشديدة المتواصلة، فعقد ألبيت وساليستي والجنرال دو ميربيون مجلسا فيما بينهم ورأوا من الحكمة أن يلغوا حكمهم إلى حين، فقرروا إطلاق حرية الجنرال بونابرت، قائلين: «إن معارفه الحربية قد تكون مفيدة للجمهورية .»
في غضون ذلك كانت الرجعة الترميدورية قد دفعت إدارة الجمعية الحربية إلى قائد مدفعية قديم يدعى أوبري، وكان نابوليون قد رفع من العسكرية وعين قائدا للمشاة ليذهب إلى الفانده فيقوم بخدمته هناك، فعندما وصل إلى باريس، ساخطا على تغيير مهين بحقه، غير مستعد لأن يقف ذكاءه لحرب عقيمة، أسرع برفع اعتراضاته إلى الجمعية العسكرية فبين أفكاره بكثير من الحمية والشدة، إلا أن أوبري ظل صلبا وقال لنابوليون: «إنك فتى ويجب أن يفسح السبيل للقدماء ...» فأجاب نابوليون: «إن من يشهد ساحات الحروب تدهمه الشيخوخة عاجلا»، ولم يكن رئيس الجمعية قد شهد النار بعد.
على أن هذا الجواب البديهي الحاد أغاظ أوبري بدل أن يرضيه فأصر على البقاء فيما كان عليه، أما الضابط الفتى، الذي لم يكن أقل تشبثا منه في عزمه، فقد آثر العزل على الإذعان للظلم.
الفصل الثالث
إن من الغرابة أن يرى قاهر أوروبا في الغد موقفا في وسط ميدانه، معزولا، وممحوا من قائمة القواد الفرنسيين جبرا، بإشارة من ميرلن دو دوه، وبرليه، وبواسي دانكلاس، وكمبا سيريس الذين سيجيء يوم يتبارون فيه بألوان الحمية والتمليق لينالوا بسمة رضا واستحسان من الضابط الفتى الذي كانوا فيما مضى ينهجون معه نهجا سيئا.
إلا أنه وجد بين رجعيي الترميدور رجل، لم يشأ أن تبقى مناقب بونابرت العسكرية مهملة، تلك المناقب الممتازة التي أبرزها في طولون.
كان هذا الرجل بونتيكولان، خلف أوبري، الذي، من غير أن يعرض نفسه لتوبيخ الحزب السائد، وظف نابوليون في عمل خطط المواقع.
على أن هذا المركز الخامل الذي لم ينطبق على سجية محارب جدير بالمجد وإضرام الفتن، ما لبث أن اعتبر فوق استحقاق الضابط الفتى الذي كانوا يعملون على إتلاف حظه وحطم سلاحه، فاسترجع ده لامانش الذي ناب عن بونتيكولان في رئاسة الجمعية العسكرية تلك الأحقاد القديمة التي كان أوبري متخلقا بها، وفقد نابوليون كل نوع من أنواع الخدمة.
صفحة غير معروفة
كان من جراء ذلك أن يئس نابوليون من التغلب على ذلك الحسد وتلك الأحقاد المكينة، ولم يشأ من جهة أخرى أن يخنق تحت صدمات الغباوة والحماقة كل ما كان يشعر به من المقدرة السياسية والعسكرية، فألوى بنظره فترة عن أوروبا ليشخص به إلى الشرق.
كان بحاجة إلى حظوظ كبيرة تساعده على هذا العمل، إلا أن الطبيعة كانت قد أبدعته أهلا لكل عمل كبير وتحقيق ما يرغب فيه، وإذا كانت فرنسا تأبى عليه ذلك فالشرق يمنحه إياه.
ملأت هذه الأفكار مخيلة نابوليون فأنشأ مذكرة ليفهم الحكومة الفرنسية أنه من مصلحة الجمهورية أن تساعد على إنماء وسائل الدفاع عن فرنسا ضد مقاصد الممالك الأوروبية الطماعة وتجاربها المغيرة، جاء في المذكرة: «إن الجنرال بونابرت الذي ما زال منذ حداثته يخدم المدفعية، والذي قادها في حصار طولون وفي موقعتين من مواقع جيش إيطاليا يمتثل اليوم لدى الحكومة لتسمح له بالمضي إلى تركيا بوكالة من الحكومة ...
إنه سيعمل لمصلحة وطنه في هذا الميدان الجديد، فإذا قيض له أن يشدد قوى الأتراك، ويحكم صيانة قلاعهم، ويرمم ما تداعى منها، فيكون قد أدى لبلاده خدمة صحيحة.»
قال السيد ده بوريين: «لو وضع أحد كتاب الحرب كلمة كلمة «منح» تحت هذه المذكرة لغيرت هذه الكلمة وجه أوروبا.» إلا أن هذه الكلمة لم توضع، وبقي نابوليون خاملا في باريس، محكوما عليه بالبطالة من قبل السلطة، ولكن الحكمة كانت تهيئه لأوامر الثورة.
لم تدعه الثورة ينتظر طويلا. أفاق الملكيون، وقد شجعتهم الرجعة الترميدورية، فتسللوا إلى مداخل الأقسام الباريسية ودفعوها إلى التمرد على الاتفاقية، فكان الفوز الأول للمتمردين.
إن الجنرال مينو الذي اتهم بالخيانة، وكان قد تحقق ضعفه فأظهر تساهلا محسوسا، هو الذي سهل لهم هذا الفوز، وكان عليه أن يشتت شملهم ويخضعهم، أما زعماء الاتفاقية، الذين كانوا يعرضون نفوسهم بشدة لخطر الملكيين، فقد تذكروا عندئذ، بالرغم من غضبهم على الجاكوبيين،
1
ولكيلا يجزعهم انتصار الفئة المضادة للثورة، أنهم اضطهدوا وسجنوا فئة من الوطنيين المخلصين، الذين يستطيعون في مثل هذه الأحوال الخطرة، أن يكونوا مساعدين أشداء.
عند هذا سمع الجمهوريون المضطهدون نداء مضطهديهم، فأسرعوا إلى السلاح ليتلافوا الخطر الداهم، إلا أن هذا الجيش الفجائي كان بحاجة إلى قائد بعد أن سقط مينو ووضع قيد التوقيف، وبعد أن عين باراس لرئاسة ذلك الجيش وظهر عجزه عن قيادته، غير أن باراس هذا أتاح له الفكر الصائب أن يفهم موقفه العاجز، فطلب معاونا له أخبر منه بمهنة الحرب، وعين الجنرال بونابرت، فوافقت الاتفاقية على هذا التعيين بأمر منها، وقيض لنابوليون أن يسمعه من على المنابر العمومية، التي كان قد أسرع إليها ليشهد عن قرب سلوك الجماعة الذين يقبضون بيدهم على مقدرات الجمهورية.
صفحة غير معروفة
بقي نابوليون يشاور نفسه مدة نصف ساعة تقريبا بين أن يقبل أو أن يرفض ذلك المنصب المهم؛ إذ إنه لم يكن ليرضى أن يحارب ضد الفانده، ولم يكن من السهل عنده أن يعزم من غير تردد على تصويب مدافعه على صدور الباريسيين، قال نابوليون في مذكراته التي كتبها في سنت هيلين ما يلي: «كنت أقول في نفسي: ولكن إذا سقطت الاتفاقية ماذا يحل بحقائق ثورتنا الكبرى؟ إن انتصاراتنا العديدة ودمنا الذي كثيرا ما هرقناه ما هي اليوم سوى أعمال مخجلة، والغريب الذي كثيرا ما غلبناه ينتصر ويرهقنا باحتقاره ...» هكذا يكلل سقوط الاتفاقية جبين الغريب ويلصق العار والعبودية بالوطن، فهذا الشعور، والخمس والعشرون سنة، والثقة بقواه، وحظه، كل ذلك كان يدفعه إلى الأمام، فعقد النية على العمل ومثل أمام الجمعية.
هذا العزم الثابت جاء شؤما على العصاة؛ إذ إن نابوليون عرف أن يحقق مقاييسه تحقيقا حسنا، وقدر له ببعض ساعات حرب أن يطرد الجيش الباريسي من جميع مراكزه ويقضي على التمرد قضاء مبرما.
أما الاتفاقية فجازت منقذها بأن سمته قائدا عاما لجيش الداخلية، منذ ذلك اليوم صرح نابوليون بأنه سينظم قوى فرنسا العسكرية، ووضع قدمه على الدرجة الأولى من العرش قابضا بيده على قيادة العاصمة، تلك القيادة السامية العليا، يا له انقلابا في أربع وعشرين ساعة! في الثاني عشر من فندميير كان يعيش في البطالة وزوال الحرمة، يائسا من عودة ذكائه إلى العمل والنشاط، تدفعه العقبات والنوائب إلى الريبة بمستقبله، وقد أتعبته الموانع والعراقيل التي صدمته في المسرح السياسي، حتى إنه لم يجد مفيضا من القول، ساعة تناهى إليه زواج أخيه جوزيف من ابنة تاجر كبير من تجار مرسيليا: «يا له من عفريت سعيد!»
وفي الرابع عشر من فنديميير كان الأمر بالعكس، فقد توارت جميع تلك الإرادات المدنية التي لم يكن لها قسط من الثبات، وأصبح طريد الأمس قاهر الغد، أجل، أصبح مركز المؤامرات والمطامع جميعها كما كان روحا لجميع الفتن، لقد علق قاهر الأقسام الباريسية الفتى، على مرأى من الملكيين الذين كانت روح فرنسا تدفع علمهم إلى الوراء، وفي حين لم يكن فوق رأسه سوى جماعة شاخت سريعا في وسط ميدان الصدمات الدولية والمقاصل، لقد علق بكوكبه الطالع مقدرات الثورة التي لم يبق باستطاعة كوكب الاتفاقية الشاحب أن يقودها بذلك البريق الذي كان يزينه في أولى سنوات الحرية.
أول ما بدأ به نابوليون، هو استعمال نفوذه ومقدرته لإنقاذ مينو الذي كانت الجمعيات تعمل على إهلاكه.
لم يستطع المقهورون، بالرغم من إنصافه واعتداله، أن يغفروا له هزيمتهم، إلا أن انتقامهم اقتصر على إعطائه لقب «رامي القنابل».
كان الشعب الباريسي قد جرح في صميمه، وجاءت المجاعة تضع يدها على رجال الحرب الذين سببوها، قال السيد ده لاس كاز: «ذات يوم، في حين أن توزيع الخبز لم يكف حاجة الجمهور، وبينما كان الحشد الغفير مجتمعا على أبواب الخبازين، مر نابوليون تصحبه فرقة من ضباطه ليتفقد حالة شعبه، فتألب حوله جمع غفير من الرجال والنساء يصرخون بأعلى صوتهم طالبين الخبز، هائلة البدن امتازت عمن حولها بألوان الحركات والكلام، فكانت تصرخ مخاطبة هذا الجمع من الضباط بقولها: إن جميع هذه الرمانات التي على أكتافكم إنما هي دلائل الهزء بنا، فأنتم لا يهمكم إلا أن تأكلوا جيدا وتسمنوا، وسواء عندكم أمات الشعب جوعا أم لم يمت! فخاطبها نابوليون بقوله: انظري إلي أيتها المرأة، من منا أجسم من الآخر؟ - كان نابوليون أبعد ما يكون من السقم، وكان يقول عن نفسه: كنت في ذلك الحين قطعة من الرق - فاستولى على الجمهور ضحك شديد، وأتيح لفرقة الضباط أن توالي سيرها.»
في أثناء ذلك كانت فتنة التمردات الفنديمييرية
2
ومجموع الشكاوى المرتفعة من جميع الأحزاب ضد الاتفاقية قد أصدرت أحكامها بنزع سلاح الأقسام جميعها، بينما كانت هذا الأحكام على قيد التنفيذ، دخل فتى بين العاشرة والثانية عشرة من عمره على القائد العام، وتوسل إليه بأن يعيد إليه حسام والده الذي قاد سابقا جيوش الجمهورية، كان هذا الفتى أوجين ده بوهارني، فنزل نابوليون عند طلبه وأظهر له كل محبة وإكرام، فما كان من الفتى إلا أن بكى حنوا وذكر عطف الجنرال أمام والدته التي ظنت أنه من الواجب عليها أن تذهب إليه بنفسها فتشكره على هذا الصنيع.
صفحة غير معروفة
لا شك في أن السيدة ده بوهارني، التي كانت في عنفوان الصبا، لم تحجب في تلك الزيارة اللطافة والجواذب التي امتازت بها في أظرف مجتمعات العاصمة، فأثرت هذه الأدلة في نابوليون أيما تأثير، حتى إنه أصبح بعد ذلك يتوق إلى مواصلة علائقه معها فيصرف سهر لياليه في منزل جوزيفين.
كان يجتمع في منزل السيدة ده بوهارني بعض حكام هؤلاء الأشراف القدماء من غير أن يزعجهم وجود «رامي القنابل» الصغير بينهم، وعندما ينفض الجمع، كان يبقى بعض الخاصة من الأصدقاء، كالسيد ده مونتيسكيو المسن والدوق ده نيفرنه ليتحدثوا في خلوة بأمر البلاط القديم، أو «ليجولوا جولة في فرسايل».
لم تكن علاقة نابوليون بالسيدة ده بوهارني علاقة وهمية، بل إن أشد عوامل الحب كانت تتغلغل في روحه، وقد وقف سعادته للتزوج من تلك التي كان يعبدها، ثم تم هذا الزواج في التاسع من شهر آذار سنة 1796.
كانت عبدة سوداء قد تنبأت لجوزيفين بأنها ستصير ملكة، وكانت هذه تجد لذة في ذكر ذلك من غير أن تظهر على وجهها دلائل عدم التصديق، وجاء اقترانها ببونابرت خطوة أولى في تحقيق هذه النبوءة.
كان شيرير، قائد عام جيش إيطاليا قد عرض للخطر عسكرية الجمهورية وشرفها بعدم كفاءته العسكرية وفساد إدارته؛ فإنه ترك بين أنياب التلف جياده فماتت جوعا، وكان الجيش في عوز شديد، لا يملك حطاما، حتى عجز عن الثبات في نهر جنوا، فلكي يوقف مجلس الشعب هذا العوز الشديد أرسل إلى الجيش قائدا جديدا، كان هذا القائد، لحسن الحظ، الجنرال بونابرت الذي ناب ذكاؤه عن كل شيء.
ترك بونابرت باريس في الواحد والعشرين من شهر آذار سنة 1796 مخليا قيادة جيش الداخلية لقائد مسن يدعى هاتري، وعزم على أن يلج إيطاليا من الوادي الذي يفصل أواخر قمم الألب والأبنين، وأن يفرق الجيش الأوسترو ساردي مرغما الملكيين على صيانة ميلان، والبيمونتين على التكفل بعاصمتهم، وبلغ نيس في أواخر آذار، عندما استعرض الجنود لأول مرة قال لهم: «أيها الجنود، إنكم عراة، معدمون، وإنهم مدينون لنا بكثير ولا يستطيعون إعطاءنا شيئا، إن صبركم والشجاعة التي تبدونهما بين هذه الصخور لمن الغرابة بمكان عظيم، إلا أنهما لا يقلدانكم مجدا، ولقد جئت لأقودكم إلى أخصب أراضي العالم، سيكون تحت تصرفنا مقاطعات غنية ومدن كبيرة، وهناك، تتمتعون بالغنى والشرف والمجد، جنود إيطاليا! أتفتقرون إلى شجاعة؟»
فأثارت هذه الكلمات مكمن الحمية من صدور الجيش، وأعادت إليه الأمل المفقود، فاغتنم القائد العام هذه السانحة ليطلب من مشيخة جنوا بصوت مرتفع عبور البوكشيتا ومفاتيح كافي.
في الثامن من شهر نيسان كتب إلى مجلس الشعب يقول: «لقد وجدت هذا الجيش مشتت النظام، في حالة تمرد دائم فوق ما هو عليه من الفاقة، ولكن ثقوا بأن النظام والسلام سيستتبان في القريب العاجل ... وعندما تقرءون هذه الرسالة نكون قد قاتلنا»، ولقد جرى كل ما توقعه بونابرت وأكده.
كان الجيش العدو بقيادة الضابط الممتاز بوليو الذي كسب شهرة في مواقع الشمال، فعندما تناهى إليه أن الجيش الفرنسي، الذي كان يدافع بصعوبة قبل الآن قد أتيح له فجأة أن يتأهب بجسارة لعبور أبواب إيطاليا، أسرع بإخلاء ميلان وهرول إلى نجدة جنوا.
عندما استتب نابوليون في نوفي، التي كان فيها قواد جنوده، قسم جيشه إلى ثلاث فرق، وأنشأ منشورا أرسله إلى مجلس الشعب قال فيه: إنه سيجيب عليه ثاني يوم الحرب.
صفحة غير معروفة
وقعت هذه الحرب في اليوم الحادي عشر من الشهر نفسه، وكانت فاتحة انتصارات القائد الجمهوري الذي أحب فيما بعد أن يجعلها «مصدر شرفه».
ووقعت حروب أخرى لم تكن إلا لتكسبه انتصارات، ففي الرابع عشر من هذا الشهر فاز في ميلليزيمو، وفي السادس عشر في ديغو، ثلاثة انتصارات في أربعة أيام كانت جوابا عظيما على منشور بوليو! وفي مساء موقعة ديغو، أدى بونابرت علما إلى مجلس الشعب عن أعماله المجيدة وخص بالثناء الرؤساء الذين كانوا تحت قيادته وهم جوبر، وماسينا، وأوجيرو، ومينار، ولاهارب، ورامبون، ولان؛ الذين أبلوا بلاء حسنا في تلك المواقع اللامعة، قال نابوليون: «لقد ربحنا في هذا النهار من سبعة إلى تسعة آلاف أسير بينهم ملازم عام وعشرون أو ثلاثون أميرالاي ... وأصيب الأعداء بعدد من القتلى يتراوح بين ألفين وألفين وخمسمائة رجل، سأطلعكم عن قريب على تفاصيل هذا العمل المجيد وعلى الرجال الذين امتازوا فيه بنوع خاص.»
في أثناء ذلك كتب الجنرال كوللي، قائد فرقة اليمين، إلى بونابرت يوسطه في رسول صلح يدعى مولين، وهو مهاجر فرنسي أوقف في ميرسيكو، ويهدده لمعاملته قائد الفرقة العسكرية برتيليمي، الذي أسره النمسويون، معاملة سيئة، فأجابه بونابرت: «إن المهاجر يا حضرة السيد، إنما هو ولد قاتل أباه وأمه لا يحمل خلقا يؤهله لأن يكون مقدسا، ولقد أساءوا إلى الشرف وإلى مراعاة حقوق الشعب الفرنسي، بإرسالهم السيد مولين ليفاوض في شروط الصلح، ثم إنك تعرف قوانين الحرب، فأنا لا أصدق أنك تهدد برتيليمي بالعذابات، وإذا كنت تخترق قوانين الحرب جميعها فتجيز لنفسك عملا فظيعا كهذا العمل، فاعلم أن جميع أسرى أمتك يعترضون عليك بأفظع ما في الثأر من الصرامة؛ إذ إنني أوفر لضباط بلادك الاحترام الجدير برجال الحرب البسلاء.» لم يكن تهديد بونابرت تهديدا باطلا؛ إذ إنه كان موقف قائد يعرف أن تحت تصرفه عددا كبيرا من الأسراء، ولقد رد على كوللي بهذا الجواب في الثامن عشر من شهر نيسان.
كانت نتيجة المواقع اللامعة التي اشتهر فيها جوبير وماسينا وأوجيرو، أن تجزأ أخريات الجيش العدو التي كان يقودها بوفيرا وتجبر على رمي سلاحها، وأن تهيأ انفصالات النمسويين والبييمونتيين، ويفتح في وجه جيوش الجمهوريين طريق ميلان وتورين المزدوج.
عندما بلغ القائد العام مرتفعات مونتيزيمو، التي شغلها أوجيرو يوم أرغم سيروريه كوللي على الخروج من معسكره، دل جيشه على القمم الفخورة التي كان الثلج يعلنها من بعيد، والتي كانت ترتفع كمنحدرات من الجليد جميلة فوق سهول بيينمونت الغنية، وقال لجنوده محدقا بنظره إلى تلك الجبال: «لقد اغتصب أنيبال
3
الألب، أما نحن فسنجول فيها كلها.»
في الثاني والعشرين فوز جديد، عبر نهر تانارو، ورفع متراس بيكوك، وأصبحت موندوفي ومخازنها تحت تصرف الجيش الجمهوري، وفي الخامس والعشرين أخذت شيراسك، وكان فيها مدافع، فعملوا على تقويتها بنشاط متواصل، وفي الثامن والعشرين عقدت فيها هدنة.
كان نابوليون، في الرابع والعشرين، قد أجاب الجنرال كوللي على رسالة أرسلها هذا إليه، بهذه الكلمات: «إن مجلس الشعب التنفيذي قد احتفظ لنفسه بحق المذاكرة في الصلح، إذن فيجب على مفوضي الملك سيدك أن يحضروا إلى باريس أو أن ينتظروا في جنوا المفوضين الذين قد تستطيع الحكومة الفرنسية أن ترسلهم إليها.
إن موقف الجيشين العسكري والأهلي يجعل كل توقيف بسيط مستحيلا، فمع اقتناعي بأن الحكومة ستمنح ملكك شروط صلح معتبرة، لا أقدر أن أوقف سيري استنادا إلى ظنون مبهمة، غير أن هناك وسيلة للوصول إلى غايتك، موافقة لمصالح بلاطك، وقد توفر هرق دم باطل معاكس للعقل ولقوانين الحرب: تلك الوسيلة هي أن تضع تحت تصرفي قلعتين من ثلاث قلاع كوني وألكسندري وتورتون، أترك الاختيار لك.»
صفحة غير معروفة