6
لن تدخله إلا على جثتي!»
كان هدسن لوو يخشى أن لا ينتبه الإمبراطور أنه أسير في لونكوود، فأخذ كل يوم يذكره ذلك ببعض إهانات جديدة؛ أمسك أولا الرسائل التي ترده من أوروبا، وإن كانت قد أتت مفضوضة ومن طريق غير مشبوهة، زاعما أنها لم تمر تحت نظر المراقبة، ثم نظر في نفقات الإمبراطور فرأى أن عدد الأوفياء، الذين لم يريدوا أن يفترقوا عن سيدهم، إنما هو كبير جدا، حتى إن الإمبراطور، الذي صرف حياته أمام فوهات المدافع، لم يجد بدا من الاستسلام إلى الملل وصحت عزيمته على أن لا يغادر غرفته إلا ليزور مدام ده مونتولون في بيتها.
كان لهذه السيدة ولد في السابعة أو الثامنة من عمره يدعى تريستان، فحلا للإمبراطور أن يسمع منه أمثولاته يتلوها غيبا، ولما اعترف له الولد بأنه لا يدرس كل يوم قال له نابوليون: «ألا تأكل كل يوم؟» فأجابه مونتولون الصغير: «بلى يا مولاي.» - إذن فيجب عليك أن تشتغل كل يوم، إن من لا يشتغل لا ينبغي له أن يأكل. - إذن فسأشتغل كل يوم.
فضحك نابوليون وضرب بيده على بطن تريستان قائلا: «هو ذا نفوذ البطن الصغير، هو الجوع، هو البطن الصغير الذي يحرك العالم.»
وكانت عائلة بالكومب تزور نابوليون من وقت إلى آخر، فيظهر لها كثيرا من العطف والاحترام. لم يكن سيد الحروب يخشى على رزانته وشهرته الخالدة أن تضئلهما مجاراة الناس في تسليتهم، فكان يحلو له أن يصرف بعض ساعات في تعليم إحدى أوانس عائلة بالكومب لعبة «البلياردو». كما كان يحلو له، وهو في بريار، أن يشترك مع بعض الشابات في لعبة «الكولن مايار.»
قدمت بعثة من مفوضي السلطات الأوروبية إلى سنت هيلين، ورغبت في مقابلة نابوليون، إلا أن الإمبراطور رفض مقابلة مفوضي الحلفاء، قائلا للأميرال مالكولم، الذي قدم إلى لونكوود ليستأذنه بقبول هؤلاء المفوضين: «كلانا رجل يا حضرة السيد، وإني لآخذ رأيك. أترى من الحكمة أن أستقبل في بيتي مفوض إمبراطور النمسا، الذي تزوجت من ابنته بعد أن تمنى هذا الزواج ساجدا، والذي أرجعت إليه عاصمته مرتين متواليتين، أمن الحكمة أن أستقبل مفوضه الذي لا يحمل إلي سطرا واحدا ينبئ به عن صحة ولدي؟ وهل من الحكمة أيضا أن أستقبل مفوض الإسكندر الذي تمجد بصداقتي، والذي لم تقع بيننا سوى حروب سياسية لا دخل لها بالشخصيات؟ ألم يكن حريا بجميع هؤلاء الملوك أن يحفظوا في صدورهم ذرة من القلب؟»
إلا أن كلمات التوبيخ التي ما فتئ الإمبراطور يوجهها إلى هدسن لوو، ما لبثت أن أدبت السم في أحقاد هذا الحاكم، وضاعفت مظالم حراسته. ذات يوم أرسل السيد هوبهوز إلى الإمبراطور كتابا وضعه في حوادث الأيام المائة، وقد كتب عليه «إلى نابوليون الكبير!» فحجز الحاكم هذا المؤلف زاعما أن الكاتب أساء فيه إلى كستليراغ، وبعد أيام قلائل تجاسر أن يمثل أمام الإمبراطور الذي كان يتنزه في حديقته، وحاول أن يبرئ نفسه أمامه؛ إلا أن نابوليون، الذي ضاعف كلام الحاكم سخطه، قال له بحضور الأميرال نفسه ما يلي: «إنك لم تقد يوما من الأيام إلا شرذمات من المتشردين الخائنين والسفلة الأنذال! وإني أعرف أسماء جميع القواد الإنكليز الذين أبلوا بلاء حسنا، سوى أنني لم أسمع باسمك مرة إلا ممهورا بلقب قائد لصوص! إنك لم تقد رجالا شرفاء يوما من الأيام، ولم يتح لك أن تتعود الحياة معهم!» فأجابه السير هدسن بأنه لم يسع وراء المهمة التي عهدت إليه، فاستطرد نابوليون قائلا: «إن مثل هذه المراكز لا يسعى وراءها؛ إذ إن الحكومات تمنحها للذين يتقذرون!» عند هذا أعلن الحاكم لأسيره أن الحكومة الإنكليزية تصر بشدة على تخفيض نفقات لونكوود، فأجابه الإمبراطور: «لا ترسل إلي شيئا لغذائي، إذا شئت، فأذهب أتغدى على مائدة ضباط الثالثة والخمسين البسلاء، إني واثق من أني لا أجد بينهم من لا يرى نفسه سعيدا بإخلاء مركز لجندي قديم. اغرب من وجهي، ولا تمثل أمامي إلا عندما تصحب إلي أمرا بموتي، فتجد الأبواب جميعها مفتوحة في وجهك!»
عندما اتضح لهدسن لوو أنه أصبح عنوان الاحتقار في نظر نابوليون وجميع الفرنسيين في لونكوود، صحت عزيمته على إشراك الإنكليزيين في سنت هيلين بالموقف العدائي الذي يظهره نابوليون وأتباعه؛ فأخذ يشيع أن الأسير الفرنسي إنما يقصد بموقفه هذا أن يحتقر الأمة الإنكليزية، وأن هذا الاحتقار يشمل ضباط الفرقة الثالثة والخمسين بأسرها، ولما بلغت الإمبراطور هذه الإشاعة المختلفة، طلب إليه أكبر هؤلاء الضباط سنا، وهو الكبيتان بوينتون، وأخبره أن ما يدعيه الحاكم إنما هو افتراء محض، ثم استطرد قائلا: «لست امرأة مسنة، فأنا أحب الجندي الباسل الذي تعمد بالنار من أية أمة كان!»
بعد أن حاول السير هدسن لوو، من غير جدوى، أن يبرئ نفسه أمام نابوليون، لم يجد بدا من الالتجاء إلى إهانات جديدة، فطلب إليه الدكتور أوميارا، وقال له بعنف: «قل للجنرال بونابرت إنه من الواجب عليه أن يلطف تصرفاته معي، وإلا يضطرني إلى استعمال طرق جديدة.» ثم عزا إلى نابوليون موت الملايين من الناس، واستطرد قائلا: «إني أعتبر علي باشا السفاح أدعى إلى الاحترام من بونابرت.» ولكي ينفذ هدسن لوو تهديداته الشديدة عدل نفقات لونكوود تعديلا كبيرا، حتى إن نابوليون وجد ذات يوم أن الضروريات قد نقصت كثيرا على مائدة أتباعه، إلى درجة، أنه كاد ذات مرة لا يجد على مائدتهم ما يأكلونه. منذ ذلك الوقت أمر بأن يباع قسم من أوانيه الفضية؛ ليعوض بثمنها، ما كان يجتزئه الحاكم الظالم. أما هدسن لوو، الذي ساءه أنه دفع الإمبراطور إلى بيع أوانيه الفضية ليعيش، فلقد أراد أن يستفيد من هذه السانحة ليخترع طريقة جديدة في الإساءة إلى أسيره. كان هناك مشترون يتسابقون إلى الحصول على شيء من ممتلكات الرجل العظيم، حتى ارتفع سعر الصحن إلى مائة جنيه، فصور للحاكم أن يصدر أمرا يقضي بأن لا يباع شيء من هذه الأواني إلا للشخص الذي يعينه هو، إلا أن الإمبراطور قد فكر، من جهته، في إيقاف هذه المسابقة، وأمر بأن تحذف عن الآنية الفضية أية إشارة تدل على أنها صادرة عن بيته.
صفحة غير معروفة