إلا أن مستنقعا مشبوها كان يتراءى، في وسط ذلك الرضوخ العالمي، الذي أنتجه الإعجاب عند البعض والخوف عند البعض الآخر؛ ففي زاوية من أوروبا، في أطراف إيطاليا، كان أحد الزعماء السياسيين، وهو أكثرهم ضعفا وادعاء، يتجاسر أن يقاوم وحده المتسلط العالمي فلا يخشى أن يكدر بوعيده ولعناته موسيقى الإكرام والإعجاب التي كانت تدق في جميع أطراف أوروبا. أما ذلك الزعيم، أو بالحري ذلك الأمير المتمرد، آخر عنصر من عناصر مقاومة الماضي لتطلبات رجل الحاضر، فقد كان البابا نفسه الذي ترك في الماضي قصر الكيرينال
1
ليكلل نابوليون في باريس.
أيستطيع البابا كأمير زمني غير مهاب، أن يتكل بعد على تأثير الصواعق الروحية؟ وهل القرون الوسطى، التي تنهار أو تتداعى من جميع الجهات ، تستطيع أن تجدد قواها في روما؟ ثم هل إن النظم والمعتقدات الدينية، التي كانت سببا لعظمة البابوية وازدهارها، لم تقاس نكبات الزمن كما قاستها النظم والمعتقدات السياسية التي أسست عليها الأريستوقراطية والملكية سلطانها؟
إن التاريخ يقول عكس ذلك. كتب إلى البابا من فرنسا، منذ أكثر من مائتي سنة، أن براءاته تصبح جليدا وهي عابرة جبال الألب. ومنذ ثلاثة قرون أتيح للروح الفلسفية، والعلوم النظرية الحرة أن تنزع من السلطة الباباوية نفوذها العظيم الذي ساد في شمالي أوروبا. لقد بدأت الثورة في ألمانيا ضد سيادة القرون الوسطى بعد أن اتخذت أساسا لها المسائل الدينية التي اختلف عليها وأنكرها العقل البشري. ولقد هيجت الثورة في الكنيسة ثورة إنكلترا في الأمة. أما في فرنسا فقد رئي أن الانشقاق والإلحاد بقيا يحترمان عرش القديس لويس، وقد يكون سبب ذلك أنهما لم يستطيعا أن يجلسا عليه، إلا أن الإيمان الروماني لم يربح شيئا من الاحتفاظ العلني الذي أظهرته المملكة المسيحية الصرفة. لا يبقى لنا داع لأن نتكلم عن الحملات التي وجهت إلى تقاليد الفاتيكان لدى ظهور المذهب الكليكاني، الذي حاول أن يخضع نبوغ هلدبران
2
لنبوغ بوسويه إذا قلنا إنه كان هناك عنصر ثورة أقوى وأشد بأسا من الانشقاق والإلحاد قد شن غارة على جميع مراقي المجتمع الفرنسي، وهو الفلسفة التي لم تتخذ شعارها تشييد معابد ضد معابد، بل زعزعت جميع المذاهب بتسييرها شبح الشك والريبة عليها جميعا، وفازت في ذلك أبهر فوز. ولقد كان مونتين وديكارت، فولتير وروسو أكثر خطرا على السدة الرسولية من لوتيرس وكلفين.
لم يكن بيوس السابع ليتمكن من نكران هذه الحقيقة التي أعلنها خلفاؤه أنفسهم في شكايات مرة أليمة، إلا أنه إنما كان أمين سلطة سادت على الملوك وتحكمت في ضمائر الشعوب، يوم كان الكهنوت الحارس الوحيد للعلوم والآداب، والخفير المفلح للرقي الاجتماعي، وحامي ذمار الشعوب ضد تعديات الإقطاعية الظالمة، وكان فخورا بهذا التذكار، ومستندا في آن واحد إلى الإيمان الذي يريه ينبوع سلطته في السماء؛ لذلك لم يكن يعتبر ذلك التواني في العقائد الدينية إلا ضلالا عرضيا من الروح البشرية، ولم تكن كبرياؤه لتسمح له بأن يعترف أن انحطاط مذهبه إنما سينقص من نفوذه العظيم. إلا أن ادعاء البابا هذا لم يكن سوى وهم شريف؛ فالسلطة الروحية التي هذبت العالم الإقطاعي لم تبلغ في سقوطها إلى الدركة التي بلغت إليها الإقطاعية نفسها. وكان من الطبيعي أن الأفكار الدينية، التي أعطت الإكليروس سيادته على الأشراف إبان ازدهارهم المشترك، تجعل خرائب النفوذ الإكليريكي أقل تلفا من هوان الأريستوقراطية؛ إذ إن ذهاب الأريستوقراطية لم يترك أقل فراغ في الأمة خلاف ذهاب الكهنوت؛ لأنه إذا كان من السهل على الفلسفة، التي تقلب نظاما سياسيا، أن تشيد على أنقاضه نظاما جديدا، وإذا كان من الهين عليها أن تعمل جمهورية أو ملكية، وتنظم حكومة وتخلق شرطة، وتوجد رجالا وقوانين لإنقاذ المجتمع خلال تشويش عهود الانقلابات الأدبي، فالنظام الديني لا يستطيع أن يقوم بعمل من هذه الأعمال. إذن فالعقائد القديمة، على ما يطرأ عليها من الضعف، تبقى كخرائب محترمة يأوي إليها جميع الذين يشعرون بحاجة إلى الصلاة والإيمان. فهذا الثبات الذي تواظب عليه كتلة المؤمنين على سبيل العادة، والذي يكفي وحده لأن يصون بعض الحركة في المعابد؛ هذا الاستمرار في العبادة خلال خرائب المذاهب والمعتقدات، هو الذي استطاع أن يخدع السلطة الروحية في موقفها الحقيقي ويقودها إلى الاعتقاد بأنها لا تزال تحفظ من القوى ما يسمح لها أن تخاطب الملوك والأباطرة بتلك اللهجة الفخورة التي تعودها راهب «كلوني».
3
أراد بيوس السابع عام 1805، بعد تتويج الإمبراطور بأيام قلائل، أن يحقق الآمال التي عبر من أجلها جبال الألب «ليكرس» في باريس الثورة الفرنسية في شخص نابوليون؛ فطلب أن ترجع إليه سفاراته وترحب أراضيه، إلا أن هذه المنحة لم تدخل في نظريات الإمبراطور بإيطاليا، ورفضها رفضا باتا. عند هذا ندم الخليفة على ما فعل، وتظاهر بغضبه في كلماته ورسائله وجميع أعماله، ورفض الطرق القانونية من الأساقفة الذين سماهم الإمبراطور وفقا للاتفاقية، وعزم أن يفتح مرافئه في وجه الإنكليز، فأثار هذا التصرف غضب الإمبراطور؛ فكتب إلى البابا في الثالث عشر من شهر شباط سنة 1806 ما يلي: «إن قداستك إنما هي سلطانة روما، إلا أنني إمبراطورها، ويجب على جميع أعدائي أن يكونوا أعداءها.»
صفحة غير معروفة