ملأ عددا من الأوعية الفخارية بالرصاص وستر أعاليها فوق الرصاص بقليل من الذهب والفضة، وحمل هذه الأوعية متظاهرا بالخوف والخشية عليها إلى هيكل ديانا، وهو أقدس معابدهم قائلا إنه يأتمنهم عليها وأنها كل ثروته التي لا يملك من حطام الدنيا سواها، فوعدوه خيرا وأكدوا له أنهم سيحتفظون بها بحيث لا تمتد إليها يد، وعندئذ غادرهم هنيبال ومعظم ما كان لديه من الذهب الحقيقي موجود معه، وقد صبه في أجواف عدة تماثيل من النحاس كان يحملها معه متظاهرا بأنها تحف لا قيمة لها.
وفر هنيبال من مملكة إلى مملكة ومن مقاطعة إلى أخرى، إلى أن صارت حياته شقاء ومرارة ووجوده عبئا ثقيلا، وكان الرومانيون يلاحقونه حيثما ذهب ويزعجونه ويعملون بكل الوسائل الممكنة على إقلاق راحته، وقطع كل رجاء له من العود إلى سابق عزه، فكان فكره معذبا بذكرى الماضي والخوف من المستقبل، وبالتأسف على أمور كان من حقه القيام بها وتهامل في ذلك.
فهو قد قضى فجر حياته مجاهدا ضد قوم لم يمسوه بأذى باذلا قواه في إنزال أشد الضربات على عدو لم يبادئه بعدوان ولا تعرض له في أمر، والآن في مساء ذلك العمر قد أصبح هو نفسه معرضا لما رام إلحاقه بأعدائه من الذل والشقاء والحياة المرة، وكأن أعداءه قد صمموا النية على الانتقام منه مضاعفا؛ لما صبه عليهم من الويلات، وأن يجعلوا ختام حياته ذلا وعذابا لا نهاية لهما إلا بالموت.
ولما رأى هنيبال أن أعداءه يضيقون عليه المسالك ويسدون في وجهه السبل، وأن الخطر يزداد دنوا منه كل يوم؛ استحضر شيئا من السم كان أعده لحين الحاجة؛ إذ رأى الأفضل له أن ينتحر بتلك الطريقة من أن يقع في قبضة الأعداء، فيذيقوه العذاب والذل أشكالا وألوانا. وفي ذات يوم وجد أن ساعة تناول ذلك السم قد جاءت، وكان يومئذ شريدا منفردا في بثيسينيا؛ وهي مملكة في آسيا الصغرى قبله ملكها وحماه إلى حين، ولكنه ارتأى بعد ذلك أن يسلمه إلى الرومانيين.
ولما درى هنيبال بما عول الملك عليه تأهب للفرار؛ إلا أنه وجد السبل مسدودة، فلما أراد الانسلال من القصر لم يجد منفذا من المنافذ التي فكر في الفرار منها مفتوحا، ورأى أن كل مخرج من القصر الذي هو فيه محاط بالحراس، فلم يعد الفرار ممكنا بعد هذا، وهكذا ذهب هنيبال إلى غرفته وأتى بالسم، وكان قد صار شيخا هرما بالغا من العمر السبعين سنة، وقد هدت قواه الحروب وأنهكه الفرار من مكان إلى آخر، وأتعبه الخوف من أعدائه وقلق الليالي المتسبب عنه؛ ولهذا سر أن يموت، وبعد ساعات قلائل كان جثة هامدة.
الفصل الثاني عشر
تدمير قرطجنة
إن نتائج طموح هنيبال المتناهي في التهور واعتدائه بلا موجب على حقوق الرومانيين؛ لإشباع مطامعه لم ينته بانسحاقه شخصيا فقط، فإن اللهيب الذي أشعله قد استمر على الاندلاع تدريجا مع الأيام إلى أن تناول قرطجنة بالذات، فأحرقها ودمرها إلى الحد الذي لم تقم لها بعده قائمة.
تم هذا في حرب ثالثة نهائية بين القرطجنيين والرومانيين معروفة في التاريخ بالحرب القرطجنية الثالثة، ونحن نختم سيرة هنيبال بتفصيل حوادث هذه الحرب التي أدت إلى خراب تلك المدينة الزاهرة النهائي ومحوها من الوجود، ويذكر القراء أن الحرب التي شهرها هنيبال نفسه على رومية كانت ثانية الحروب بين الأمتين، وأن العراك الذي حارب فيه روغلوس نفسه كان أول المعارك، والعراك الذي سنتكلم عنه الآن هو ثالثهما، وسندرج لهذه الحروب جدولا فيما يلي يسهل على القارئ معرفة العلاقة التاريخية الكائنة بين هاتيك الحروب.
فهذه الحروب القرطجنية الثلاث كما يرى القارئ في الجدول التالي قد شملت مدة من الزمن تزيد على المائة سنة، وكانت كل حرب منها أقصر من التي تقدمتها، ولكنها أكثر هولا وأعظم ويلا منها، أما فترة السلام والمهادنة فقد كانت أطول بين كل حرب وأخرى، وهكذا فإن الحرب القرطجنية الأولى قد استمرت أربعا وعشرين، والحرب الثانية دامت نحو سبع عشرة سنة، والثالثة نحوا من أربع سنوات.
صفحة غير معروفة