وقبل الإقدام على ذلك أعد إعلانات مختلفة ألصقها خفية في الساحات العمومية، قال فيها إن هنيبال بعيد عن التسليم بأنه قد غلب على أمره وقهر نهائيا، وهو على العكس من ذلك يعد الخطط الجديدة للبطش بأعدائه في قرطجنة واستعادة ما كان له من المكانة فيها، والزحف بعد ذلك على بلاد الرومانيين بالسيف والنار، وختم هاتيك الإعلانات بحث أصدقاء هنيبال في قرطجنة على الثبات معه والإخلاص له ومناصرة مساعيه.
وبعد أن ألصق الرسول هذه الإعلانات فر من المدينة تحت جنح الظلام ورجع إلى هنيبال، وفي ثاني الأيام ضج الأهلون كما لا يخفى لما قرءوه، وثار ثائر أعداء هنيبال عليه وهالهم أمره، كما أن هذه الأخبار شجعت أصدقاءه وأحيت في قلوبهم ميت الرجاء، وعند هذا الحد من الحدة والضجة وقفت الحالة هناك إلى أجل معلوم، وكانت قوة الحزب المقاوم لهنيبال قد رسخت في قرطجنة إلى حد يصعب معه التغلب عليها بسهولة، وفي ذلك الحين أرسل أعداء هنيبال بالخبر اليقين إلى رومية، فأطلعوا الحكومة فيها على حكاية مجيء رسول هنيبال إلى قرطجنة وما كان من نتائج قدومه، وانتهى الأمر عند هذا الحد وعادت الأمور إلى ما كانت عليه.
وعندما علمت حكومة رومية بمكان هنيبال أرسلت وفدا من قبلها لمفاوضة الحكومة السورية في شأن نياتها وخططها؛ ولكي تراقب حركات هنيبال أيضا، وقيل إن سيبيو نفسه كان من جملة أعضاء ذلك الوفد وأنه التقى هنيبال بالفعل في أفسس وتحدث معه هناك مليا مرات عديدة، وقد أورد أحد قدماء المؤرخين تفصيلا خاصا لحديث واحد دار بينهما، تكلما فيه - كما يحدث طبعا بين قائدين عظيمين - عن الأمجاد العسكرية وعظمتها.
فسأل سيبيو هنيبال عمن يظنه أعظم أبطال الحروب في التاريخ كله، فأجاب هنيبال مانحا إكليل الغار لإسكندر المكدوني؛ وذلك لأنه قد توغل بجيش صغير من المكدونيين في أقاليم سحيقة، وقهر جيوشا جرارة وأنشأ مملكة لا مثيل لها كانت تأتمر بأمره من أقصاها إلى أقصاها، فسأله سيبيو عندئذ عن الثاني للإسكندر في العظمة الحربية - فقال بيرهوس.
وكان بيرهوس إغريقيا اجتاز بحر أدريا وشهر حربا على الرومانيين، كان النصر فيها مرافقا لأعلامه، وقال هنيبال إنه منح بيرهوس المحل الثاني بعد الإسكندر؛ لأنه نظم فن الحرب وأبلغه درجة الإتقان الكامل، ولأنه كان ذا قوة على إيقاظ شعور قوي في جنوده يحملهم على التعلق به، ويحمل مثل ذلك سكان البلدان التي يجتاحها ويقهرها، الأمر الذي لم يستطعه قائد آخر سواه في التاريخ.
وسأل سيبيو هنيبال أيضا عن ثالث ذينك القائدين، فأجاب هنيبال قائلا إنه يحل نفسه في المحل الثالث، ثم زاد على هذا قوله: «لو أني تمكنت من قهر سيبيو؛ لكنت أعد نفسي فوق الإسكندر وبيرهوس وسائر القواد الذين نبغوا في العالم بأسره.» وهناك طرائف لأخبار متنوعة متعلقة بهنيبال في غضون أول ظهوره في سوريا تدل على واسع شهرته، وعلى إعجاب الناس الشديد به، وما يحدثه وجوده في صدورهم حيثما اتجه من المهابة والخشية، وترك كل عمل للتفرج عليه.
ومما يذكر من هذا القبيل أن خطيبا كثير الدعوى والعجب لم يكن يعرف عن فنون الحرب شيئا إلا ما توهم أنه يحسنه فكريا، كان يخطب في حفل من الناس وجد بينهم هنيبال بالصدفة، ولما درى بوجود هنيبال بين سامعيه ازدادت رغبته في إبداء مواهبه، وما يعتقد أنه يعرفه من شئون الحروب على مسمع من هذا الضيف الطائر الشهرة، وبعد انتهائه من الخطابة سأل القوم هنيبال رأيه في الذي أورده الخطيب، فأجابهم هنيبال: «إني قد سمعت من قبل كثيرين من أهل الهذر والهذيان، ولكني بالحق أقول لكم: إن هذا المهذار أعظمهم جميعا.»
وفشل هنيبال فيما سعى إليه للحصول على حملة عسكرية يهاجم بها الرومانيين، بالرغم من بذل أقصى جهوده في سبيل ذلك، وكان لا يمل من الطلب ولا يكل عن محاولة إقناع ملك سوريا بما هو قادر على إتمامه، ومع أن الملك كان يعده بإجابة ملتمسة حينا بعد آخر فإنه لم يبر بوعده، وبقي هنيبال في ذلك الجانب من العالم عشر سنوات محاولا جهد إمكانه التوصل إلى ما يريده، ولكنه كان في كل سنة يرى نفسه أبعد عن غرضه منه في السنة التي قبلها.
فكأن ساعة حسن طالعه ومجده قد ذهبت حسب الظاهر؛ لأن كل تدابيره أدت إلى فشل وخيبة وتلاشي نفوذه، وماتت شهرته تدريجا مع الأيام فلم يعد يذكره أحد، أما الملك أنتيوخوس فإنه بعد عراك عديم الثمرة مع الرومانيين عقد معهم صلحا، وكان من جملة شروط ذلك الصلح أن يسلم إليهم هنيبال، فصمم على الفرار ووقع اختياره على الالتجاء إلى جزيرة كريت.
ولما وصل إلى تلك الجزيرة وجد أنه غير قادر على البقاء فيها، وكان قد احتمل معه شيئا كثيرا من الذهب، فعندما عزم على مغادرة كريت قلق قلقا شديدا على الذهب الذي معه؛ إذ خشي أن يغتصبه الكريتيون منه؛ ولهذا رأى أن يبتدع طريقة أو حيلة تمكنه من نقل الكنوز معه، فكان ما فكر فيه كما يأتي:
صفحة غير معروفة