10
فلما وصل سفراء ملك إفرنجة إلى طرطوشة وأذن لهم عاملها بالمسير إلى قرطبة تقدموا في البلاد، وقطعوا جانبا عظيما من جزيرة الأندلس، وهم في ضيافة العرب بالمعهود من كرمهم، فوصلوا إلى قرطبة لم يتكلفوا إنفاق درهم واحد، وهناك استقبلوا برا وترحيبا وأنزلوا في محل على مسافة ميلين من قصر الخلافة.
ثم إن الخليفة علم بمهمة الراهب، وما هو مكلف تبليغه من قبل ملك فرنسة، فأراد أن يتجنب المباحثات الدينية، وقال: إنه لم يكن لائقا بمقام اثنين مثل الخليفة والملك أن يدخلا في مجادلات كهذه وأنه لا يسع الخليفة أن يسمع كلاما فيه نيل من الرسول
صلى الله عليه وسلم
ولا يجوز له ذلك بحسب الشريعة
11
واقترح الخليفة أن يعد كتابه إلى الملك أوتون كأنه لم يكن، ولكن جميع هذه الملاحظات لم يقبلها ذلك الراهب، وأصر على رأيه، وجاء مطران قرطبة ينصحه بترك هذا العناد، فأخشن له الجواب وأخذ يقرعه على هوادته وتساهله وتساهل جماعته في أمر الدين المسيحي، وكيف أنهم قد رضوا بختان أولادهم وبالامتناع عن أكل الخنزير مسايرة للمسلمين. ولما علم الخليفة بتصلب هذا الراهب وأنه راكب رأسه لا ينثني عن عزمه أبى أن يقبله وأرسل إليه قائلا إنه كان قد بعث إلى الملك أوتون أحد الأساقفة سفيرا عنه فانظره ثلاث سنوات ولذلك هو يريد أن يمسك سفير أوتون لديه لا ثلاث سنوات فقط بل تسع سنوات؛ لأنه يرى نفسه أكبر من أوتون بثلاث مرات، فأجاب الراهب بأنه لا يقدر أن يخرج عن الأوامر التي في يده من أوتون وتقرر عند ذلك أن يرسل الخليفة رسولا آخر يسأله عما إذا كان لا يزال مصمما على رأيه في كيفية سفارة الراهب وأخذ الخليفة ينتدب للرسالة إلى أوتون من عنده ممن يصلح لذلك، فكان المسلمون يستعفون من تلك السفارة؛ لأنه من المعلوم أن على المسلمين واجبات دينية يصعب عليهم القيام بها في بلاد النصارى، ومن أجل ذلك كان أكثر سفراء ملوك الإسلام إلى ملوك النصارى مسيحيين، وكثيرا ما كانوا أساقفة أو قسيسين، ففي تلك النوبة انتدب لهذه السفارة رجل مسيحي اسمه «رسيموندس» كوفئ فيما بعد على المهمة التي قام بها بجعله أسقفا وكان يحسن اللاتينية والعربية معا، ويظن بعضهم أن الأسقف رسيموندس هذا هو نفس رمندس الذي كان مطرانا إسبانيوليا وكانت بينه وبين المؤرخ ليوتبرند علاقة ومودة وقد جعل هذا تاريخه باسمه.
وفي تلك المدة كان أوتون مشغولا بإطفاء فتنة أثارها عليه ابنه وصهره فلما وصل السفير الإسبانيولي من قبل الخليفة أجابه الملك إلى كل ما اقترحه، وقفل الرسول إلى قرطبة وقد دبر الأمور كما شاء الخليفة، ورضي الخليفة من بعدها أن يستقبل الراهب، وكان الخليفة يعلم تقشف الراهب ومذهبه في لبس الخشن وبعده عن مظاهر الأبهة، فبعث إليه بأنه يريد أن يستقبله كسفير من قبل الملك، وأنه لا بد له إجلالا لقدر مرسله من قبول حالة السفارة وأنه ينبغي له أن يدخل على الخليفة بملابس لائقة، فأجابه الراهب بأنه لا يجد لبسا أبهى ولا أفخر من ثوب رهبانيته، فظن الخليفة أنه قد يكون الراهب عاجزا عن شراء الملابس اللازمة، فبعث إليه بعشر أقات فضة، وكانت الأقة اثنتي عشر أوقية، ولكن الراهب تصدق بهذه الفضة على الفقراء. فأرسل الخليفة إليه قائلا إنه يقبله ويحتفل به ولو جاءه في كيس خيش.
وفي اليوم المعين للاستقبال اصطفت العساكر على الجانبين، ووقف العبيد الصقالبة قابضين على الحراب، ووقف آخرون بالقسي، وكانت هناك الفرسان تلعب في الميدان وفي هذه الحالة دخل الراهب السفير، وقد فرشت أمامه مداخل القصر بالبسط والديباج، فما زال يتقدم إلى أن وصل إلى البهو الذي فيه الخليفة، فوجد الخليفة جالسا على سرير الخلافة متربعا على عادة الشرقيين، فعند وصوله إليه أعطاه باطن يده تمييزا له عن غيره فقبلها الراهب، ثم أمر له بالجلوس وبعد المراسم المعتادة في المجاملة شرع الخليفة يتكلم عن الملك آتون وما بلغه من المقام السامي بين الملوك وأثنى عليه مزيد الثناء.
ثم إنه لما كان عبد الرحمن قد بلغه كون ابن الملك أوتون ثار على أبيه أنحى بشيء من اللائمة على الملك قائلا: إنه لا ينبغي للملوك أن تقبل أقل انتقاص من سلطتها ولا ترعى في ذلك عاطفة إشارة إلى شيء كان وقع مع عبد الرحمن نفسه، فإنه عصى عليه أحد أولاده فانتهى الأمر بأن أمر بقتله.
صفحة غير معروفة