مهمة كتابة تاريخ الفلسفة
مهمة كتابة تاريخ الفلسفة
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية
آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
تأليف
كارل ياسبرز
تقديم وترجمة
عبد الغفار مكاوي
تقديم
بقلم عبد الغفار مكاوي (1) تعريف موجز بالمؤلف وبعض مؤلفاته
لا تذكر فلسفة الوجود إلا ويذكر معها كارل ياسبرز (1883-1969م) وصديقه «اللدود» مارتن هيدجر بوجه خاص (1889-1976م)، على الرغم من الاختلافات العميقة بينهما. ولا يذكر ياسبرز إلا وتذكر معه كلمات صارت أشبه بعلامات الطريق إلى فلسفته، وجرت على أقلام المثقفين وألسنتهم: الوجود الذاتي الحميم، التواصل، الشامل، شفرات الوجود، المواقف الحدية ... إلخ.
وإذا كان التعريف بفلسفة خصبة مؤثرة، كانت وما تزال رسالة روحية إلى الإنسان، أمرا بالغ الصعوبة في مثل هذا التمهيد القصير، فسوف أحاول تقديم فكرة موجزة عنها وعن هذا النص المهم الذي كان آخر ما خطته يد الفيلسوف.
ولد كارل ياسبرز سنة 1883م في شمال ألمانيا في مدينة أولدينبورج بالقرب من شاطئ بحر الشمال. ويبدو أن بيئة الشمال المفتوحة، وبحره الممتد بغير حدود، قد أثرا على فكره وحياته، وانعكسا على عقله حركة لا نهائية، وأفقا شاسعا متلألئا بالأضواء، وتفتحا على كل الأبعاد والجهات والثقافات، وومضات وبروقا ساطعة هي أشبه بوصايا ورسائل مفتوحة إلى البشر المعاصرين، مفعمة بالحكمة والإحساس بالمسئولية والتعاطف والقلق على مستقبلهم في عصر تتهدده أخطار التعصب المذهبي والحرب النووية.
بدأ ياسبرز بدراسة الطب، مدفوعا من ناحية بمجالدة مرض رئوي مستعص، والحرص على استنقاذ أقصى طاقة ممكنة من جسده الضعيف، ومن ناحية أخرى بإرضاء حاجة فلسفية إلى تدريب عقله على المنهج العلمي الدقيق، ومعرفة حدود الفكر التجريبي. وأتاحت له دراسة الطب أن يتعمق مشكلات الطب النفسي، ويقرن منهج البحث العلمي والفسيولوجي بمنهج التفهم الحدسي والكلي للأمراض النفسية والذهنية، فكانت ثمرة ذلك كتابه «علم النفس المرضي العام» (1913م)، الذي أتبعه بكتابه «سيكولوجية وجهات النظر العالمية» (1919م)، الذي يعد إسهاما مهما في نظرية الحياة النفسية السوية، ومدخلا إلى الفلسفة على السواء، بجانب بحثيه الرائدين عن «سترندنبرج» و«فان جوخ»، اللذين اتخذ منهما نموذجين لما سماه «إضاءة الوجود الكلي للإنسان».
وفي سنة 1921م عين ياسبرز أستاذا للفلسفة في جامعة هيدلبرج، فأقبل على مهام التعليم بما عرف عنه طوال حياته من جدية وشعور بالمسئولية، حتى هجمت جحافل النازية السوداء على السلطة فعزل من منصبه في سنة 1937م. وفي هذه الآونة من حياته كان أهم من تأثر بهم من الفلاسفة هم كانط (1724-1804م) وكيركجارد (1813-1855م)، كما كان أهم شركائه في الحوار من معاصريه ماكس فيبر (1864-1920م) ومارتن هيدجر. وفي هذه المرحلة أيضا أتم أعظم كتبه: «فلسفة» (1932م) و«الموقف الروحي للعصر» (1931م) و«العقل والوجود» (1935م)، فضلا عن كتابيه عن «نيتشه» و«ديكارت» (1932 و1937م)، و«فلسفة الوجود» (1938م) الذي منع النازيون نشره، ثم توالى إنتاجه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي لطخت الضمير الألماني بالذنب والإثم، فاتسم جانب كبير منه بالاهتمام بالقضايا السياسية والقومية (مسألة الذنب، فكرة الجامعة، القنبلة الذرية ومستقبل الإنسان، الحرية وإعادة توحيد ألمانيا)، بالإضافة إلى إنتاجه الفلسفي الخالص (عن الحقيقة، الإيمان الفلسفي، المدخل إلى الفلسفة، شيلنج، الفلاسفة العظام، خطب ومقالات فلسفية).
ويبقى أعظم كتب ياسبرز وأشملها هو كتابه «فلسفة» بأجزائه الثلاثة؛ فهو في الجزء الأول الذي جعل عنوانه «التوجه في العالم» يحمل حملة شعواء على العلم وموضوعيته المزعومة، وكأنما هو أصلح وسيلة للكشف عن حقيقة العالم. ولهذا يسوق حجتين لتأييد هجومه: فالمعرفة العلمية بالطبيعة لا يمكن أن تكتمل في صورة كونية تامة؛ لأن نتائج البحث العلمي تتولد عنها مشكلات جديدة وأساليب جديدة لمواجهة هذه المشكلات، كما أن المناهج العلمية من الكثرة والتعدد بحيث لا يمكن أن ترد إلى منهج واحد موحد، بل إن مجرد الوعي بأن العلم نفسه عملية تركيب وتحليل لا ينتهيان يشير إشارة كافية إلى أن الحياة العقلية والعلمية لا يمكن أن يحيط بها البحث التجريبي والعلمي نفسه؛ ولذلك فإن ياسبرز لا يحاول النظر في «ماهية» هذه الحياة العقلية كما نجدها في التراث الميتافيزيقي العريق، وإنما ينظر إليها من منظور «عملي» على نحو ما فعل كانط. وهذا مضمون الجزء الثاني الذي آثر أن يجعل عنوانه «إضاءة الوجود» لا «نظرية العقل».
وقبل أن ننتقل إلى هذا الجزء الثاني لا بد من التوقف لحظة نشير فيها إلى موقف فلاسفة الوجود بوجه عام من العلم بمعناه النظري الدقيق، أو بتطبيقاته التقنية، وتفرقتهم الحاسمة بينه وبين التفلسف بوصفه فعلا باطنيا وتجربة شخصية قبل كل شيء؛ فتأملاتهم عن الوجود الإنساني تقوم في معظم الأحيان على افتراض ميتافيزيقي صريح أو مضمر بأن الوجود في الواقع وجودان أو له على الأقل بعدان مختلفان: الوجود الذاتي الحميم أو الحقيقي الأصيل من ناحية، والوجود العلمي غير الأصيل من ناحية أخرى، الأول يشارك فيه الإنسان بوصفه وجودا قوامه التحقق والمعاناة والتجربة الباطنة، وهو وجود يفلت من البحث الموضوعي بمناهجه العقلية والتجريبية، وتعبر عنه عبارة ياسبرز: «إن الإنسان في الأساس لأكثر مما يمكنه أن يعرف عن نفسه.»
1
كما تدل عليه عبارة أخرى ل «جابرييل مارسيل» (1889-1973م) وردت في يومياته الميتافيزيقية: «إنني على الدوام وفي كل الأحوال لأكثر من مجموع الصفات التي يمكن أن يخلعها علي أي بحث أقوم به لنفسي أو يتولاه غيري عني.» ولهذا يكرر فلاسفة الوجود أنه لا سبيل للإفصاح المباشر عن هذا الوجود المستسر الحميم، ولكننا نحياه ونتصل به في لحظات نادرة من حياتنا الباطنة التي تجاوز تفسيرات العقل ومناهج التجريب العلمي. ولا عجب بعد ذلك أن يصفوه أوصافا مختلفة تدل على عدم قابليته للتحديد أو على عجزهم عن تحديده، كالوجود الأصيل «هيدجر»، والوجود الذاتي أو العلو «ياسبرز»، والسر «مارسيل»، والأنت الأبدي «مارتن بوبر وإمانويل ليفيناس». ولا عجب أيضا أن يقللوا من شأن العلم الدقيق ومناهجه، أو على الأقل من قدرته على النفاذ إلى حقيقة ذلك الوجود الحميم الصميم، وأن يتابعوا «كيركجارد» في تأكيده المستمر «بأن الحقائق والمبادئ العلمية التي تلزم العقل بتصديقها - لأنها ضرورية وعامة الصدق - لا تلزمني ولا تهزني بما أنا وجود فردي وحيد، ولا تجيب عن أسئلتي القلقة عن حقيقتي ومصيري.»
2
ونعود إلى مضمون الجزء الثاني من كتاب «فلسفة» فنقول: إنه يدور حول الوعي بوجودي الحاضر والماضي بما أنا كائن حر يحيا في ظل الحقيقة والكرامة، بحيث أتمكن من تحقيق هذا الوجود وتحمل مسئوليته. ليس ثمة معايير موضوعية جاهزة لهذا التحقق، ولا سبيل لالتماس العون من التراث المأثور ولا من أية سلطة ميتافيزيقية أو دينية لا يعترف بها الفيلسوف. والسبيل الأوحد هو أن يجرب الفرد تلك المواقف الأساسية النادرة، التي يسميها «المواقف الحدية»، فتوقظ فيه حقيقته الباطنة التي هي قانون حريته، هنالك يمر بتجارب تكشف عن تناهيه، من أهمها تجربة «التواصل» التي كتب عنها ياسبرز صفحات خالدة (يطل من خلالها ذلك الوجه الطيب الحنون لرفيقة دربه «جيرترود» التي رعت جسده العليل، وأسندت رأسه المتعب على صدرها طوال العمر). ففي التواصل يشعر الفرد بأن ثمة إنسانا يحبه حبا يفرض عليه الولاء والصدق نحو نفسه ونحو محبوبه، كما يستشعر حرية النهوض بمسئوليته تجاه نفسه وتجاه شريكه، وفي هذا الموقف الذي يعد إمكانية أساسية للإنسان لتحقيق وجوده الحقيقي، لا يتصل فهم بفهم، ولا عقل بعقل، بل وجود حميم بوجود آخر حميم (فيه تتحقق كل حقيقة أخرى، وفيه وحده أكون أنا نفسي، بحيث لا أحيا مجرد حياة، وإنما أحقق حياتي). أما التجربة الأخرى فهي تجربة «المواقف الحدية» (التي قدمها ياسبرز لأول مرة في كتابه «وجهات النظر العالمية»، الذي صدر في سنة 1919م). في هذه المواقف التي يعاني فيها الإنسان تجارب العذاب، والشعور بالذنب، والإخفاق، وفقد الأعزاء، ووطأة الصدفة المباغتة، وضياع الثقة بالعالم يحس أنه يصطدم بجدار لا منفذ منه ولا سبيل إلى تخطيه، ويتبين عجزه عن مواجهته بكل ما لديه من قوى عقلية وقدرات عملية. قد يتمكن منه الإحساس بالإخفاق ويهزمه في النهاية؛ وذلك إذا تهرب منه بالمسكنات والحلول الوهمية، وعجز عن مواجهته بأمانة، وتقبله في صمت، بوصفه الحد النهائي لوجوده، هذا الحد الذي يكشف له عن «الآخر» الذي يستعصي على التحديد والتفسير؛ «فحقيقة الإخفاق هي التي تؤسس حقيقة الإنسان».
غير أن الجرح الذي يؤلم هو نفسه الجرح الذي يشفي، «وداوني بالتي كانت هي الداء» تصدق في هذه الحالة أكثر مما تصدق في حالة السكر والنشوة كما تصورها وعبر عنها أبو نواس؛ فالإخفاق الذي يهز الإنسان من جذوره يمكن من ناحية أخرى أن يهديه الطريق إلى وجوده، ويساعده على أن يكون «هو ذاته»، ويكتشف في داخله البعد الباطن الذي كان خافيا عليه، والذي تحيا عليه الحرية والحكمة والأصالة. هذا البعد هو الذي يسميه بكلمة «العلو» الغامضة المراوغة؛ لأنه هو الإمكان الذي يتخطى آفاق جميع الإمكانات الأخرى.
حول هذا «العلو» أو «العالي» (الترانسندنس)
3
يدور الجزء الثالث الذي جعل عنوانه «ميتافيزيقيا»، كما تدور فلسفة ياسبرز بأسرها؛ فالوعي بالعلو وعي وجودي من كل ناحية، والذي ينخرط في «الموقف الحدي» يعلو فوق الحد ويتوق إلى العثور على أساس يقيم عليه حياته، ويشعر بأن حريته ليست مجرد مصادرة أولية أو مطلب أساسي، وإنما هي تجربة بالوجود غير المحدد، الذي يصفه بالعلو، وهي تجربة مختلفة كل الاختلاف عن التجارب التي نتحدث عنها في العلم التجريبي أو في الحياة اليومية، ويمكننا أن نكررها بإرادتنا؛ لأنها مرتبطة «بحدية» وجودنا الحميم واستعصائه على «التموضع» أو التجسد في موضوع. لهذا تتخذ طابع الاعتقاد أو الإيمان؛ أي التصميم على إمكان تشكيل حياتنا تشكيلا عقليا على الرغم من تناهينا المؤكد أو في مواجهته. وتجلابة العلو التي يقصدها ياسبرز يمكن أيضا أن تفصح عن نفسها في صور مختلفة مما ندركه ونلقاه في العالم الطبيعي. غير أن هذه الصور لن تكون أكثر من «شفرات» ملتبسة متعددة المعاني، ليس بينها وبين ما تشير إليه علاقة ضرورية، ولا يستطيع أن يقرأها ويفك رموزها إلا من خبر التجربة نفسها، فضلا عن أن هذه التجربة - كما سبق القول - مما يستحيل تحديده أو تسميته أو جعله موضوعا للتناول. إنها من الندرة والمفارقة بحيث لا تتفق للإنسان إلا في لحظات ومواقف استثنائية تضيء وجوده، وتقربه من معناه وحقيقته وحريته، وربما لا تتفق له على الإطلاق في حياة تستهلكها الألوان المألوفة من خداع الذات.
ولما كان تاريخ الفلسفة هو الميدان الزاخر بتجارب الحقيقة من كل العصور والحضارات، الغني بصور التواصل مع العالي والشامل، وبالنماذج البشرية التي سمت إلى ذراه أو لمست جذوره، فقد اهتم «ياسبرز » بتاريخ الفلسفة وبأعلامها الكبار منذ مرحلة اشتغاله بعلم النفس، وظل أقربهم إلى نفسه «كانط» «وكيركجارد» بجانب «نيتشه» و«ديكارت» و«هيجل» كما سبق القول. ثم تجلى هذا الاهتمام في كتابه الضخم الذي لم يصدر في حياته غير الجزء الأول منه، وهو «الفلاسفة العظام» كما ظهر واضحا في هذه الدراسة، أو هذا المشروع الذي تجده بين يديك عن كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة نظر كلية وعالمية، وقد وجد في أوراقه التي تركها بعد وفاته، وبلغت أكثر من عشرين ألف ورقة، يعكف على ترتيبها ونشرها واحد من تلاميذه المقربين، سبق له أن كتب سيرة حياته وفكره.
4
يتناول ياسبرز الفلاسفة العظام من منظور عالمي واسع الأفق، يضم فلاسفة الغرب إلى جانب حكماء الشرق الأقصى ومصلحيه ومؤسسي دياناته. والفلسفة من هذا المنظور هي مملكة العقل التي يأتينا منها نداء هؤلاء الكبار من كل العصور. والواقع أنه يؤرخ لهم من وجهة نظر تعلو على التاريخ بمعنى التتابع الزمني حقبة بعد حقبة، وتتأمل أفكارهم الحية وتستوعبها وتدربنا على استيعابها على أساس أنهم عاشوا في زمن فوق الزمن، وارتفعوا فوق أساليب وجودهم التاريخية وشروطها، وانفتحوا - بوصفهم نماذج من الوجود الإنساني الممكن - على العلو أو العالي، وشاركوا - كل على طريقته - في تلمس جذور الحقيقة الخالدة التي تتخطى حدود المكان والزمان واختلاف الآراء والمذاهب والأصول والغايات. ولهذا لا نعجب كثيرا إذا وجدناه يضع كونفوشيوس وبوذا وسقراط والسيد المسيح بوصفهم نماذج دالة على معنى التفلسف، بجانب أفلاطون والقديس أوغسطين وكانط بوصفهم المؤسسين والمطورين للتفلسف، وأرسطو وتوماس الأكويني وهيجل الذين يعدهم حفظة التراث ومنسقيه المبدعين، وأنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز وأفلوطين وأنسيلم وكوزانوس واسبينوزا ولاوتزو الصيني وناجارجونا الهندي من الميتافيزيقيين الذين تغذى تفكيرهم على الأصل وانبثق منه، وهوبز وليبنتز وشيلنج من أصحاب العقول البناءة، وأبيلار وديكارت وهيوم من أقطاب النفي الحاد والتشكك النافذ، وباسكال وليسينج وكيركجارد ونيتشه من الذين يؤثر أن يسميهم «الموقظين» العظام. (وطبيعي أن يغضب القارئ العربي ولا ينفد عجبه من تجاهل هذا الفيلسوف لعالم الإسلام وحضارته، وإغفاله لفلاسفة الإسلام وأئمته الكبار وصفوة مفكريه وعلمائه، ولكن لعله لم يعرف عنهم ولا عن الحضارة الإسلامية شيئا يذكر، أو لم يكلف نفسه مشقة المعرفة لأسباب يصعب التكهن بها وتفسيرها.)
من الواضح أن مواطني «الجمهورية العقلية» العالمية التي تدعونا إلى شرف الانتماء إليها قد مارسوا التفلسف بمعناه الوجودي ومعاناته، وانعكس عليهم نور الوجود الكلي والحقيقة الشاملة، على الرغم من اختلاف ميادين نشاطهم التي توزعت بين الدين والأدب والفلسفة والتربية والعمل السياسي وحكمة الحياة، هؤلاء المفكرون الأصلاء يقفون هناك في الأفق اللانهائي المفتوح لكل التفسيرات الممكنة، ينادوننا أن نشاركهم التفكير، ويدعوننا لأن نصبح معاصرين لهم ويصبحوا معاصرين لنا، دون أن يضطر أحد منا إلى التخلي عن خصوصيته النابعة من تفرد ذاتيته وتراثه وتجربته بالوجود.
ويبدو أن مشروع كتابة تاريخ عالمي للفلسفة قد شغل ياسبرز منذ سنة 1937م وأنه وهبه من جهده المتصل أكثر من ربع قرن، حتى أثمر ذلك الجزء الأول الذي تحدثنا عنه، بجانب هذا النص الذي كان - بقدر ما أعلم - هو آخر ما كتبه في حياته، استجابة لطلب المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو». ولا شك أن مشروع كتابة تاريخ عالمي للفلسفة كان جزءا من مشروع أكبر منه وأقدم عن الدعوة إلى إنسانية جديدة. وربما بدأ التفكير فيه كما قلت بعد عزله من منصبه في الجامعة وخوضه محنة الحرب العالمية التي هزته كما هزت كثيرين غيره من مفكري العصر وعلمائه وأدبائه وشعرائه، فأخذوا يراجعون أصول الحضارة الغربية المهددة بالانهيار أو الانتحار، مشفقين على مستقبلها ومستقبل البشرية والكوكب الأرضي الصغير من سطوة «تنينها» العقلي والتقني، ومعترفين - بعد غرور مدمر واستعلاء طويل الأمد - بأن أوروبا لم تعد هي مركز العالم، ولا عادت حضارتها هي نموذج كل الحضارات.
5
تجلت آثار هذه «العالمية» في كتاب «ياسبرز» البديع عن أصل التاريخ وهدفه «1949م»، ثم في عروضه الضافية لتفكير الفلاسفة العظام من الغرب والشرق، الذين شاركوا في غرس الجذور المشتركة للحقيقة «الشاملة » وإلقاء الضوء على الوجود الإنساني العاقل الحر. وكما حدث فيما يطلق عليه اسم «الزمن المحوري» (من القرن الثامن إلى القرن الثاني قبل الميلاد) الذي بزغت فيه شموس الديانات والحضارات الكبرى في الصين والهند وعند العبرانيين والإغريق، كذلك يتصور ياسبرز أن عصرا محوريا جديدا قد بدأ حقا وبدأت معه حضارة إنسانية وعالمية قادرة على وقف التطورات الخطيرة التي تورطت فيها المدنية التقنية الغربية، من تعصب للعلم الوضعي والتجريبي إلى الحد الذي أوشك معه أن يصبح خرافة جديدة، ومن نظم السيطرة والهيمنة والتسلط والاستبداد الفردي والشمولي في الغرب والشرق، وخصوصا في عالمنا الثالث الذي لم يكد الفيلسوف يتذكره أو يفكر فيه، وكأنه برغم دعوته للعالمية لم يتطهر تماما من رواسب مركزية أوروبية متمكنة! ومن جماهيرية ضاعت معها ملامح الفردية الحرة العاقلة. ولذلك كان تناوله للمؤسسين والبنائين العظام من العصور الماضية بمثابة العودة إلى النماذج الإنسانية التي اتصلت بالعلو أو حاولت القرب منه، كما كانت بمثابة إعداد مركب جديد يتمثل في حضارة عالمية وإنسانية جديدة، لم يكف عن دعوة الضمائر إليها، على الرغم من ضياع صوته وخيبة أمله داخل بلاده وخارجها.
والفكرة الموجهة لهذا المشروع الذي ستطلع على ترجمته العربية هي أن تاريخ الفلسفة كل متكامل، فإذا اقتربنا منه لكي نبحثه تفتت إلى وحدات متعددة ومذاهب وأنظار متباينة. وكل وجهات النظر في تفسير هذا التاريخ مفتوحة وممكنة، ولكن المهم هو أن نختار وجهة النظر «الجوهرية» التي تبين كيف جاءت الفلسفة إلى العالم عن طريق أفراد عاشوا في تاريخ معين لحضارة معينة وعصر معين، «وحققوا» فلسفتهم بما هم أفراد وأشخاص فكروا في معاني ومضامين، وعاشوا قضايا وإشكالات. بذلك يصير تاريخ الفلسفة هو تاريخ إشكالات تحاوروا حولها، وطرحوا أسئلة وقدموا أجوبة عنها. إن كل مفكر من مواطني جمهورية العقل، التي تمثل مجموع تاريخ الفلسفة، هو قبل كل شيء فرد متفرد، وشخصية متميزة لا تنوب عنها شخصية أخرى، وترتيبه في المجموع الكلي يخضع لمكانته ونوع تفكيره وأسلوب تحقيقه لفلسفته ومدى تأثيرها في العالم. وتفكيره يعكس الأصول والمنابع التي نهل منها، لغة كانت أو أسطورة أو أدبا أو دينا أو فنا. وهو من ناحية أخرى ينعكس عليها ويؤثر فيها. ثم إن كل مفكر منهم له علاقة بغيره من المفكرين؛ فهو يأخذ تفكيرهم ويستوعبه، ويتصارع معه، ويكتشف وعيه بالإشكالات الكبرى وصياغته الجديدة لها. بذلك يكون تاريخ الفلسفة هو تاريخ الحوار والتواصل في إطار ما يسميه ياسبرز ب «الفلسفة الخالدة» التي تظل من خلال هذا التاريخ الكلي - المرتفع فوق التاريخ، والمهتم مع ذلك بكل التفصيلات التاريخية المحددة والممكنة - فلسفة معاصرة وحاضرة. وهكذا يسجل هذا التاريخ الكلي ملحمة الوعي البشري في تطوره عبر التاريخ الحي للأفكار والمفكرين، في محاولة ل «تفهم» صراعهم مع الحقيقة «من الباطن»، بعيدا عن كل نزعة مسبقة تدعي المذهبية، ولإشراكنا نحن القراء في استيعاب الحق الشامل واكتشاف حقيقتنا وذاتيتنا وحريتنا وعلونا بالتواصل «الوجودي» الحميم معه. وهكذا يكون تاريخ الفلسفة نفسه طريقا مفتوحا إلى التواصل العالمي والحضارة الإنسانية الجديدة، من خلال التواصل بين العقول الكبرى التي استمعت إلى دعاء الحقيقة، واستجابت لنداء العلو، وشدتنا للاستماع إليه والتحاور معه والتمرس عليه بالفكر الجاد، والتجربة الذاتية الحميمة، والفعل الاجتماعي والسياسي المسئول عن البشرية الممتحنة المهددة في «قريتنا الصغيرة» التي نسميها الأرض. (2) تصور ياسبرز للفلسفة (1)
يكاد النص المنشور مع هذا التقديم أن يكون مرآة مصغرة لفلسفة ياسبرز، فهو يردد أصداء نداءاته الفكرية التي ألح على توجيهها طوال حياته، ويركز في بؤرته أكثر الأشعة المتفرقة في معظم كتبه المشهورة (كالمدخل إلى الفلسفة، والموقف الروحي لعصرنا، والعقل والوجود، والإيمان الفلسفي، والتمهيد الضافي لآخر كتبه الذي لم يقدر له أن يتمه وهو الفلاسفة العظام). وقبل أن ننظر في هذا النص بقدر ما يعكس الاتجاهات النقدية المعاصرة، أو بقدر ما تنعكس عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يحسن بنا أن نقف قليلا عند معنى «التفلسف» عنده، ثم نلخص أهم الأفكار التي يدور حولها النص نفسه، وتتشابك فيها وحولها ظلال متباينة من وجهات نظر ومناهج متعددة (كالمنهج النفسي، والظاهري أو «الفينومينولوجي»، ومنهج الفهم والتفسير أو التأويل «الهيرمنيوطيقي»).
يمكننا - مع الاعتذار عن التبسيط المخل - أن نلخص تصور ياسبرز لمعنى «التفلسف» والغاية منه فيما يلي:
أن ترى الواقع الحقيقي في منبعه الأصلي.
أن ندرك هذا الواقع في مواقفنا الفكرية من أنفسنا وفي أفعالنا الباطنة.
أن ننفتح على «الشامل» بكل مداه (والشامل هو المصطلح الذي يؤثره الفيلسوف للدلالة على الأبدي والكلي والحق والعلو - أو العالي - الذي لا يمكن تحديده ولا الإحاطة به لأنه ليس موضوعا ولا موضوعيا).
أن نبادر إلى «التواصل» الحق من إنسان إلى إنسان بنوع من الحوار الحميم أو التصارع الفكري (الذي لا ينقلب إلى الإدانة والتصادم بل يقوم على التنافس المفعم بالحب).
أن ندعم يقظة العقل في صبر وإصرار إزاء الغرابة البالغة وفي مواجهة العجز والإخفاق (فالفلسفة لا تعطي، وكل ما تستطيعه هو أن توقظ، وتذكر، وتساعد على الضمان والإبقاء.
6
أما ما نستطيعه نحن ويتوجب علينا النهوض به فهو التعلم من «الموقظين الكبار» في كل العصور والحضارات، وإن كان ياسبرز نفسه قد حددهم في أربعة لم يسعفه الوقت لتناولهم في كتابه السابق الذكر عن الفلاسفة العظام، وهم: باسكال وليسينج وكيركجور ونيتشه).
أن تكون الفلسفة هي «بؤرة التركيز» التي تجعل الإنسان يصبح هو نفسه بمشاركته في الواقع مشاركة حرة.
ولما كانت الصياغة الواعية لحقيقة التفلسف وهدفه لا تكتمل أبدا في صورة نهائية يمكن الإجماع عليها (كما هو الشأن مع الحقائق العلمية التي تظل ملزمة للعقل وعامة الصدق ما لم تظهر حقائق أخرى تعدلها أو تنسخها) فلا بد لكل منا أن يضطلع بها مرة أخرى، وأن يعدها مهمة ومسئولية يتعين عليه أن يواجهها ويتحمل تبعاتها ما بقي إنسانا. ولا بد في كل الأزمان من النظر إلى الفلسفة بوصفها كلا حيا، ذا حضور دائم، يتحقق في تاريخها كله، وفي نصوص عظماء الفلاسفة التي يجب أن «نتحاور» معها و«نكابدها» و«نتواصل» معها تواصلا وجوديا حميما حتى توقظ الحقيقة الشاملة الكامنة فينا وفي كل ما يحيط بنا. ذلك بأن كل قول فلسفي يكون بطبيعته ناقصا إلى أبعد حد؛ لأنه يطالب من يسمعه بأن يعمل على إكماله من وجوده الخاص، كما أن الفلسفات جميعا تنطوي على فلسفة واحدة خالدة لا يملكها أي إنسان، وإنما اتجهت إليها الجهود الجادة في كل زمان، وفي الشرق والغرب على السواء. ولا غنى لنا عن إقامة جهدنا الفلسفي على هذا الأساس، ولا عن المشاركة في هذا المسرح التاريخي الذي يتقارب فيه أفذاذ الفلاسفة ويتباعدون، ويتخاصمون ويتنافسون، ويتناقشون ويتحاورون فيما يشبه أن يكون جمهورية حكماء تعلو وترتفع فوق التاريخ.
والأفكار الأساسية الموجهة للنص الذي نحن بصدده لا تخرج عن الأفكار السابقة وإن زادتها تفصيلا. وسوف نقتصر على عرضها بالقدر الذي يسمح لنا بمناقشتها في ضوء المناهج الجمالية والنقدية السابقة الذكر، راجين أن نوفق إلى تحليل النص من داخله بغير أن نفرض عليه شيئا من عندنا، أو نقسره على الدخول في قالب غريب عليه، أو نسلط عليه وجهة نظر أو حكما مسبقا يتعارض مع روحه العامة. (أ)
إن كل مفكر من مواطني «جمهورية العقل» أو «ملكوت الحكمة» هو قبل كل شيء فرد متفرد، وشخصية متميزة، لا تنوب عنها شخصية أخرى، ولا يستعاض عنه بفرد سواه، وتفكيره يعكس الأصول والمنابع التي نهل منها، لغة كانت أو أسطورة أو أدبا أو دينا أو فنا أو علما (بقدر ما تحث فروض العلم الأساسية أو حدوده النهائية على التفلسف)، كما ينعكس من ناحية أخرى عليها ويؤثر فيها، وكأن تاريخ الفلسفة (وربما استطعنا أن نضيف إليه تاريخ الأدب والفن والعلم بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه) هو تاريخ الحوار والتواصل بين أولئك المواطنين الأفراد وبيننا في إطار ما يمكن تسميته بالحقيقة الخالدة؛ وهي التي تظل خلال هذا التاريخ الكلي الشامل - أو العالمي - حقيقة معاصرة وحاضرة فيهم وفي كل من يعايش نصوصهم ويحاول القرب منهم ومن منابعهم الأصلية. (ب)
إن دراسة هذا التاريخ الكلي في تطوره عبر تجارب المفكرين هي محاولة «لتفهم» صراعهم مع الحقيقة من الباطن، بعيدا عن كل نزعة مسبقة إلى «المذهبة» أو «القولبة» أو «الأدلجة»، كما هي محاولة لإشراكنا في اكتشاف الحقيقة من ناحية، والتبصر بحقيقة وجودنا وذاتيتنا وعلونا بالتواصل الحميم معها من ناحية أخرى. (ج)
كل مؤرخ للفلسفة (ونستطيع أيضا أن نقول مؤقتا: وكل مؤرخ للأدب والفن) ينبغي أن يعرف نفسه معرفة واضحة، بجانب معرفة الكل الذي ينطلق منه، وما دامت الحقيقة الفلسفية ليست معرفة دقيقة وضرورية ملزمة للعقل، وإنما هي استيعاب باطني، ومحاولة تملك ذاتي أو شخصي خاص، فلا بد أن يتغير وجهها ويتحول شكلها من عمل فلسفي (وأدبي وفني ...) إلى آخر، ربما نسارع قائلين: إذن فلا شيء حق؛ إذ إن الحقيقة الفلسفية والفنية تتغير مع تغير الإنسان وتطوره وتبدل شروطه وأحواله، ولكننا بهذا لن نجد شيئا مؤكدا، وسنقع حتما في النسبية، ولن نعثر على الحقيقة في أي مكان، بيد أننا قد نكتشف أن المعرفة «الموضوعية» أو «المطلقة» موجودة بمعنى آخر على الدوام، وأن «الحقيقة» حاضرة في الشكل أو الثوب الذي تفرضه لحظتها التاريخية. ستكون مهمة المؤرخ والناقد في هذه الحالة هي «تفهم» كل شيء، والوعي بأن ما هو حق لا تقتصر حقيقته على عصر أو شخص معين، ولا تنحصر داخل حدود تاريخية ضيقة وعابرة؛ لأن «ما لا يصدق على كل العصور والأزمان بصورة مطلقة وشاملة فليس من الحق في شيء». (د)
يمكن أن تعبر الفلسفة عن نفسها في صورة نظام خاص مكتمل، يحمل الطابع الشخصي لصاحبه، ويدل على الأسلوب الأصيل للتحقق الفلسفي. وكل نظام من هذه الأنظمة يمثل نسقا أو مجموعا حيا متماسكا لا يمكن تخطيه؛ إذ يبقى قيمة متفردة نسيج وحدها؛ لأنها تكمن في صميم الكل وتعبر عن «الفلسفة الخالدة» تعبيرها عن الحقيقة الخالدة التي لا يستحوذ عليها أحد، ومع ذلك تظل «حاضرة» على الدوام ولا تتحدد - كما قلنا - بأي أسلوب أو منهج أو مذهب ولا تنغلق فيه؛ لأنها تظل كذلك واحدة متغلغلة في أعماق كل شيء. لقد تجلت في أشكال تاريخية متعددة، وكان كل شكل منها بالنسبة لصاحبه كليا وحقيقيا، ولم يزل كذلك بالنسبة إلينا، دون أن يلزم عن هذا نضطر أن نلتزم به أو نقيد وجودنا الخاص به، اللهم إلا بقدر ما يكشف عن «الشامل» أو «العالي» الذي نتطلع إليه جميعا، ويحاول كل منا أن يجربه تجربته الخاصة به، وأن يضيئه بعقله بقدر ما يستطيع. (ه)
يمكننا من الناحية الصورية أو الشكلية أن نقارن بين تاريخ الفلسفة - بالمعنى الذي شرحناه في الفقرة السابقة - وتاريخ الأدب والفن؛ فالفلسفة والفن يشتركان في كونهما حقائق كلية باقية في كل زمان، تصدق قيمتها بهذه الصفة الكلية أو لا تصدق على الإطلاق، وكل فيلسوف وفنان عظيم يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية، مهما تكن هذه الصورة جزئية أو غامضة أو متهافتة. وكلما تفتح الكل واكتمل واتضح، وجدنا أنفسنا أمام عمل من أعمال الفلاسفة أو الفنانين العظام. وطبيعي أن كل فيلسوف أو فنان عظيم لا يمكنه - من حيث هو إنسان - أن ينفصل عن العمل الذي أبدعه؛ فالشامل أو الحق الخالد يتجلى في عمله، وهو لا يتجلى إلا في صورة شخصية، ولهذا كان تاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب والفن هو تاريخ فلاسفة وأدباء عظام، قبل أن يكون تاريخ أفكار وقيم ونظم ومذاهب أثرت على الواقع التاريخي والاجتماعي، أو تأثرت به، ضمن شروط وسياقات معينة. (و)
إن الحق الخالد أو الواقع الشامل لا يتحدد بشيء آخر، وهو يستعصي على الإحاطة به من أي مكان أو في أي عمل على انفراد. ومع ذلك يمكننا أن نلمح حقيقته من المنبع الذي انبثق عنه كل ما اشتق منه وتفرع عنه. وهنا ينبغي علينا أن ننتبه إلى أمرين: تجربة المفكر أو الفنان بالواقع الحي الشامل وأسلوبه في التعبير عنه (لا سيما إذا كانت تفصلنا عنه مسافة زمنية ومكانية شاسعة)، وواقع ما حققه بالنسبة إلينا اليوم (هنا والآن). وغني عن الذكر أن «تفهم» تلك التجربة أمر لا ينفصل عن الشخص (أو الذات والوجود الحميم) الذي يحاول فهمها، ومدى قدرته على الإحساس بمعنى الواقع وإعادة تكوينه واستحضاره. وفهمنا وتفسيرنا لهذا الواقع لا يمكن أن يحالفه التوفيق إلا بقدر ما يتجه الشامل الحاضر فينا نحو الشامل الحاضر في التاريخ ، المتجلي في أشخاص المبدعين العظام وفي أعمالهم التي «تدعونا» لتحقيق وجودنا الحر المسئول، وتساعدنا على أن نكون نحن أنفسنا . (ز)
هذا التفهم من خلال التواصل القائم على المحبة والتعاطف والجد والاحترام لا ينفي أنه صراع من نوع خاص، لا من أجل القوة أو السيطرة أو إثبات التفوق أو غير ذلك من الصغائر التي يحرص عليها صغار النقاد والمفسرين البعيدين عن التواصل بمعناه الأصيل، بل من أجل الحقيقة الكلية المشتركة التي يكتشف فيها الطرفان نفسيهما. ولا ضير في أن يتخذ التواصل مع تفكير آخر، مختلف في جذوره وشروطه وأنماطه عن تفكيري، شكل الصراع والتساؤل، والاعتراض، والتفنيد، ولا بأس أيضا في أن يتبين لي أنه آخر وغريب عني وعن واقعي التاريخي، بحيث يمتنع تداخل أفق مع أفق، واندماج ذات في ذات، فالمهم هو أن أضع نفسي بقدر الطاقة في موضع السؤال والسائل، وأن أنصت بأمانة لما يدور في نفسه، وأتحسس ألوان «الشامل» وخيوطه في نسيجه الخاص الذي استعصى علي أو استعصيت عليه. ذلك أن تاريخيته الخاصة لا تقوم إلا على تاريخية الكل، ولا بد في النهاية أن تستقر سكينة الحقيقة وصفاؤها في هذا الصراع المتعاطف المحب. (2)
هل يمكن أن نكتشف من الأفكار السابقة بعض المناهج النقدية التي يحتمل أن يكون ياسبرز قد طبقها عن قصد في هذه الدراسة وغيرها من دراساته، أو أفاد منها على الأقل بصورة غير مباشرة؟ إن علينا الآن أن نتقدم خطوة نحو التحقق من ذلك، وأول ما يخطر على البال من حديثه المستمر عن العظمة وعظماء الفلاسفة «الأفراد»، أو عن بعض كبار الفنانين والأدباء الذين توفر على دراسة شخصياتهم «المرضية»، أنه قد لجأ إلى المنهج النفسي. وينبغي علينا، قبل أن نؤكد هذا أو ننفيه، أن نثبت حقيقتين أساسيتين كان لهما تأثير لا ينكر على كتاباته:
أولاهما: إنه قد تخصص في بداية حياته في الطب النفسي والعقلي، وكان من أوائل الذين شاركوا في تأسيس ما يسمى اليوم علم النفس الوجودي، كما أنه انطلق منه في اتجاهه بعد ذلك إلى فلسفة الوجود التي أصبح من أبرز أعلامها. ويكفي في هذا المقام أن نذكر كتابيه المبكرين: «علم النفس المرضي العام » (1913م) و«علم نفس وجهات النظر إلى العالم» (1919م)، ثم كتابه عن سترندبرج وفان جوخ: محاولة تحليل مرضي مع الإشارة إلى سويدنبورج وهلدرلين
7 (1922م) وهو الكتاب الذي تتبع فيه «صيرورة» التكوين النفسي لسترندبرج بوجه خاص من خلال كتاباته المختلفة عن سيرته الذاتية، منذ أن بدأت وساوس الغيرة وجنون الاضطهاد في التسلط عليه، كما تناول غيره من «الفصاميين»، وانعكاس مرضهم على شخصيتهم، ومضمون إبداعهم ونظرتهم للكون، أو على رؤاهم الحدسية والصوفية الكاشفة، بجانب كتبه الأخرى عن ماكس فيبر (1932م)، ونيتشه (1936م)، وديكارت (1937م)، ونيتشه والمسيحية (1947م)، وليوناردو فيلسوفا (1953م)، وشيلنج (1955م)، وعظماء الفلاسفة (1957م)، ونيقولا الكوزاني (1964م)؛ وهي كتب لم تخل من النظر إلى وجودهم المتفرد بالأصالة والحرية، أو تجاربهم المتميزة بالتمزق والخيبة والانكسار.
وثانية هذه الحقائق، أن تأكيده المستمر لخصوصية تجارب الفلاسفة والفنانين والأدباء، مع حسبانها تجليا تاريخيا للحقيقة الخالدة المتعالية على التاريخ، دليل على تأثره بالمنهج أو المنحى النفسي بوجه عام، وانشغاله بالمواقف الحدية - على حد تعبيره المشهور - في حياة الإنسان، كالألم والعجز والإخفاق والموت وإدراك تناهي العالم.
وعلى الرغم من أن المنهج النفسي في نقد الأدب والفن قد تراجع في العقود الأخيرة تراجعا شديدا أمام زحف المناهج الجديدة، وأنه قد أثار الشك من حوله والهجوم عليه من أكثر من ناحية، فلا يمنع هذا من القول بالتأثير المتبادل بين الأدب وعلم النفس. إن الإحساسات، والمشاعر، والأفكار، والخيالات، والحالات، والمواقف النفسية، تؤلف جميعا مادة لا غنى عنها للأديب والشاعر والفنان، كما أن افتراض وجود «النفس» ضروري لإثبات استجابتها للأدب والفن والفكر (بالرغم من الارتياب في وجودها نفسه، منذ أن تشكك «هيوم» في وحدتها الجوهرية، وأنكرها الماديون والوضعيون التقليديون والجدد، واستبعدها السلوكيون من تسمية العلم نفسه ليصبح في رأيهم هو علم السلوك ...) ومع أن حدود التأثير المتبادل الذي سبق ذكره غير واضحة، كما أن الحدود الفاصلة بين الأدب وعلم النفس غير واضحة أيضا، فإن العمليات الذهنية والمضامين الباطنية واقع لا شك فيه، كما أن هذا الواقع يدخل في أي لون من ألوان الأدب والفن، ويمكن أن يكون موضوعا من موضوعات البحث النفسي ، وأن تشهد عليه حياة الأدباء والفنانين وأعمالهم، وحياة بعض الفلاسفة والمفكرين على مر العصور.
وإذا كانت كتابات ياسبرز عن بعض عظماء الفلسفة والفن والأدب توحي في ظاهرها بما يسمى بالسيرة النفسية، أو تقدم تحليلات علمية، وتطبق مناهج وأساليب وصفية وعلاجية معروفة في علم النفس المرضي النفسي والعقلي، فلا يصح في الحقيقة أن نتسرع بإطلاق صفة «النفسي» عليها، أو نجعل من صاحبها «سيكلوجيا» نفسانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وتتلخص حجتنا على هذا في الأمور التالية: (أ)
كان انشغال ياسبرز بالطب النفسي والعقلي، ومشاركته في تأسيس علم النفس الوجودي تعبيرا عن اتجاهه الأساسي إلى النظر الكلي للإنسان بوصفه «شيئا» أكثر بكثير مما يمكن أن تسفر عنه نتائج العلوم والبحوث الطبيعية والحيوية والطبية والاجتماعية والنفسية التي تتناوله أو تطبق عليه. ومن ثم كان تحوله من الطب النفسي إلى الفلسفة تأكيدا لرغبته الأصلية في إضاءة الوجود الإنساني الحميم بالوعي الفلسفي. وإذا كان في بداية حياته قد اعتمد منهج التواصل الوجودي بين الطبيب والمريض، حتى ينير الأول وجود الأخير ويعيده إلى السواء والشفاء، فقد تلفع بعد ذلك بمسوح طبيب الأرواح والنطاسي المداوي لأمراض العصر، وظل التواصل عنده هو لب الوجود الإنساني وسبيله إلى سر الوجود الشامل وإلى تجربة الأفراد العظام لحقيقته الغامضة والنابضة مع ذلك بالحياة فينا وفي كل شيء. لذلك لم تكن العظمة الشخصية للفيلسوف أو الأديب والفنان، ولا كانت الأحوال المرضية والظواهر الاستثنائية عند بعض العظماء منهم، مجرد حالات يمكن إدراكها بوسائل علم النفس. فالإنسان دائما أكثر مما يمكن أن نعرف عنه من الزوايا النفسية. والعظمة في الفرد صورة من عظمة الكلي، وقيمتها لهذا السبب قيمة كلية. وإذا كانت وقائع حياة العظيم، وسلوكه في حياته ووسطه، وأعماله وسجيته، ومظاهر قلقه وتمزقه ومرضه وشذوذه؛ إذا كانت كلها تصلح لأن تكون موضوعا للبحث النفسي، فإن هذا البحث يهتم بدلالتها الميتافيزيقية والوجودية لا بدلالتها «السيكولوجية» الخالصة.
8
ثم إن معنى العظمة يغيب عنا إذا لجأنا إلى البحث النفسي والاجتماعي؛ فمن شأن «طراز الفكر في علم النفس والاجتماع أن يعشي البصر ويحجب العظمة عندما نعد ذاك الطراز مطلقا، ذلك أن العظمة في نظر هذين العلمين تنحل إلى كيف، إلى خصائص، إلى ما تمكن مشاهدته موضوعيا وكميا».
9 (ب)
إذا كانت دراسات ياسبرز لبعض الظواهر والشخصيات المرضية التي أشرنا إليها تنتمي إلى الطب النفسي وعلم النفس الوجودي، فقد نشأت من السؤال عن حدود التفهم الممكن للوجود والإبداع الإنساني. ففي كل وجود فعلي، بما في ذلك الوجود العقلي، لحظة أو لحظات غامضة يمكن أن نصفها بأنها مستعصية على الفهم. وعندما يتعلق الأمر بالأمراض العقلية والنفسية، يمكن إخضاع الوجود الفعلي للتجريب والتحليل والمقارنة الدقيقة، غير أنه يظل محتفظا بقدر من الغموض الذي لا يسمح برؤيته والكشف عنه كشفا نهائيا؛ لأنه آخر الأمر جزء من لغز الوجود نفسه، أو من «شفرته» التي يحاول الوعي الفلسفي أن يضيئها ويحل رموزها.
ومع التقدير لكل الجهود العلمية والموضوعية التي تبذل للبحث في أمراض النفس والعقل وعلاجها، فلا بد أن تنبع هذه الجهود من الوجود الحميم أو الأصيل وتصب فيه، ولا بد أن تتجه من وراء الوقائع والمقارنات والتحليلات إلى إنارة هذا الوجود والاستبصار بألغازه وإمكاناته وحريته الأصيلة.
10 (ج)
يؤكد ياسبرز بصفة مستمرة أن الفكر الفلسفي بالمعنى الصحيح لا يمكن أن ينفصل عن شخص صاحبه، وإذا عزلناه بوصفه تعبيرا موضوعيا وحسب، لم يبق فكرا حقيقيا بالمعنى ذاته. وقد عرفنا من الصفحات السابقة أن الفلسفة الحقيقة تتركز حول شخصيات عظيمة وتنبثق وتتدفق منها، وأن اللغة التي كتبوا بها نصوصهم يمكن أن تفهم من حيث تعبيرها عن موجودات بشرية.
ومع ذلك فإن كثرة الفلاسفة وتنوع الفروق الفردية بينهم تمثل الفيلسوف الحقيقي الواحد، أو تعبر عن وحدة الحق التي تتمثل كذلك في تواصلهم جميعا مع الحقيقة السرمدية الواحدة. إن المفكرين العظام يظهرون حقا في التاريخ. ولكن جوهرهم - وهو أشبه بلغة الحقيقة - يفوق وجودهم الطبيعي والنفسي، وانتماءهم التاريخي، وأخص ما يخصهم هو معناهم فوق-التاريخي. وهذا المفهوم لا يجعلنا ننفي التاريخ ولا علم النفس، وإنما يجعلنا نؤكد أن الشخصية العظيمة تعلو عليهما، فمضمون الحقيقة الجوهرية يكمن في وحدة الزماني والسرمدي التي تتمثل في شخصية العظيم وإبداعه. (د)
وأخيرا فقد يعاني الفيلسوف أو الفنان أو الأديب أمراضا نفسية، وقد يكشف نسقه الفكري أو عمله الفني عن خصائص أو علامات وأحوال مرضية، غير أن هذه الخصائص والأحوال المرضية لا تفسر فكره أو عمله كما يزعم النقاد المتأثرون بالتحليل النفسي (وإن كان بعض النقاد قد استغل فكرة يونج عن النموذج الأولي وعن «النفس»
anima
والاتجاهات والوظائف والأنماط النفسية بطريقة ناجحة في تحليل شعر إليوت وقصيدة كيتس الشهيرة «أنشودة للعندليب»). ويحتمل - في تقديري المتواضع - أن يكون ياسبرز قد تأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة ب «يونج» في محاولته إيجاد ما يمكن أن يسمى بظاهريات النفس التي تتخطى الفردية الواقعية وتغوص في أعماق الوعي واللاوعي الجمعي المتأصل فيه (على نحو مشابه لما فعله باشلار في تفسيره للخيال الخلاق والصورة الشعرية)، وليس من المستبعد أيضا أن يكون قد تأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بكتابات «دلتاي» و«هسرل» وتلاميذهما، وأن يكون قد أخذ عن الأول ما وصفه ب «علم نفس الفهم» أو التفهم للحياة الشعورية، وتجربتها من الباطن، والاندماج المتعاطف فيها، ومحاولة تفسيرها، وتأويل حوافزها وإمكاناتها، وأن يكون قد تابع الثاني في هجومه الساحق على النزعة النفسية والبشرية في المنطق والمعرفة، وفي محاولته جعل فلسفته في الظاهريات (أو الفينومينولوجيا) نوعا من علم النفس الخالص للوعي المحض الذي ترى الماهيات أو تعاين في مجاله الحي، ويبدأ منه وحده تأسيس كل مناطق الوجود والمعرفة والتقويم. (3)
هل يعني كل ما ذكرناه الآن أن ياسبرز قد تأثر بالمنهج الظاهري ووليده الأحدث عهدا، وهو منهج التفسير (أو التأويل - الهرمنيوطيقا) الذي تطور إلى فلسفة شاملة عند بعض أقطابه، مثل جادامر وريكور وبولنو وبيتي ... إلخ؟ وهل نجد لهما مكانا لديه على الرغم من تحفظه إزاء المناهج بعامة، وخلو كتاباته من الإشارة الصريحة إليها؟
يعلم القارئ أن «الظاهرية» تعد نفسها منهجا معرفيا محايدا لوصف معطيات الوعي أو الشعور وتمحيصها بغية «الحدس» بماهيات الظواهر التي تتجلى فيه ، أو رؤيتها وعيان حقائقها ومعانيها عيانا حيا. وقد عرفها مؤسسها إدموند هسرل (1859-1938م) بأنها «عودة إلى التجربة»، وراح في بداية عهدها يردد نداءه الشهير: «لنرجع إلى الأشياء نفسها.» ولم يقتصر الأمر بعد ذلك على الوصف المباشر لظاهرات الشعور دون أي أحكام أو فروض مسبقة، إلى حد وضع العلم الطبيعي والعلم الوضعي «بين قوسين» أو تعليقهما (وهو ما يعرف عنده بمصطلح الإيبوخية الذي استخدمه قدماء الشكاك الإغريق)، بل تعداه إلى تحديد نسيج هذا العالم الحي الذي سميناه الشعور، بوصفه قطب الوعي العيني المباشر، الذي يتميز بأنه يتوجه إلى كل ما يعيه أو «يقصد» إليه (ومن ثم كانت القصدية هي بنيته الأساسية). ثم تطورت الظاهرية وتنوعت تطبيقاتها ومناهج الرد فيها، وبلغت مرحلة مثالية متعالية، عجز كثير من تلاميذ هسرل عن ملاحقته فيها أو إقراره عليها. بيد أن هدفها المزدوج قد بقي على كل حال كما حدده مؤسسها على الصورة التالية: (أ)
أن تكون الظاهرية علم نفس محضا، موازيا للعلم الطبيعي، بحيث يميز النفسي عن الطبيعي تمييزا حاسما (ولا ننس أنه شن حملة ساحقة على النزعة النفسية في المعرفة والمنطق فلم تقم لها قائمة بعده). (ب)
وأن تكون منهجية كلية شاملة لإعادة بناء العلوم والمعارف بأسرها؛ أي فلسفة متعالية وعلم وجود عام (أنطولوجيا) مهمتها الكشف عن البنى الأساسية للشعور ذاته ومقولاته الدائمة التي تؤسس أو تكون مناطق الوجود ومجالات المعرفة ووحدات المعنى وماهيات الحقائق والقيم ... إلخ، التي «تظهر» نفسها في عالمه الحي.
والحق أن أهداف «الظاهرية» ومناهجها تشترك في أمور كثيرة مع أهداف الفن والأدب والشعر بوجه خاص، ومناهج فهمها وتفسيرها؛ فبقدر ما تكشف الظاهرية من خلال اللغة عن «كينونة» التجربة ونسيج العالم المعيش، يمكن - بغير تجاوز كبير - أن نصف مبحثها بأنه في صميمه وفي روحه المتغلغلة في الوجدان الباطن مبحث أدبي بوجه عام. بهذا توفق بين النزعة الوجودية الحميمة ووحدة التجربة وعدم قابليتها لأن ترد إلى شيء عداها؛ وبذلك أيضا ترفض التحليل المنطقي الذي يمكن أن يهدد وحدة الشعور وتكامله، على نحو ما يعبر «موريس ميرلو-بونتي» (1908-1961م): «ليس العالم هو ما أفكر فيه، بل هو ما أعيشه وأحياه.»
ولعل هذا هو الذي حدا ببعض فلاسفة العصر - مثل هيدجر (1889-1976م) وسارتر (1905-1980م) وميرلو-بونتي نفسه - إلى التعبير عن كثير من حدوسهم وأنظارهم الفلسفية بلغة تقترب أحيانا من لغة الأدب والفن، وأن يقيموها في أحيان أخرى على حدوس الأدباء والشعراء (مثل هيدجر في شروحه لشعر هلدرلين وريلكه وتراكل، وسارتر في تفسيره لشعر بودلير ولأعمال عدد كبير من أدباء العصر، ومثل غيرهما من النقاد الظاهريين الذي اهتموا بشعراء غنائيين مثل مالارميه وريلكه ووالاس ستيفنز ورينيه شار وسواهم ممن أبدعوا عوالمهم الخيالية الخاصة). إنهم يوحون إلينا بأن الأدب يمكن أن يكون أصدق شكل من أشكال التعبير الفلسفي، كما يمكن أن ينهل الفكر الفلسفي من ينابيع الشعر والفن، وأن يلجأ إلى الفن وإلى الشعر بوجه أخص، بوصفه مصدرا أساسيا لمعرفة طبيعة الإدراك الحسي وغيره من ظواهر النشاط العقلي، كالخيال على سبيل المثال.
11
والواقع أنه لا عجب في هذا كله؛ فالأدب في النهاية وصف وتحليل لمعطيات الوعي؛ وكم قدم من الشواهد على «اللاوعي» في صور لغوية واعية، وكم «علق» وجود العالم المكاني - الزماني أو وضعه بين قوسين (كما يقتضي منهج الرد الذي توسعت فيه الظاهرية) ليحقق امتلاء التجربة وتدفقها. ولعل الأدباء والشعراء أنفسهم أن يكونوا أكثر من تعمق هذا المنهج - الذي طبقته الظاهرية - كما سبق القول - بطريقة معرفية «وماهوية» قصدية لكي يتأملوا الأشياء والمعاني في الشعور المحض تأملا يتسم بالجدة والأصالة والنضارة، ويوظفوا اللغة في سبيل استدعاء عالمهم الشعري وإبداع عالمهم الخيالي الذي لا يتعلق بعالم الوقائع بقدر ما يتعلق مباشرة بالشعور الخالص، ذلك لأن الشاعر - شأنه في هذا شأن الفيلسوف الظاهري - ينطلق من التسليم بأولوية الشعور، وبأن الأشياء لا تفهم، وربما لا توجد أصلا، إلا في علاقتها بالشعور الذي يتوجه إليها بطبيعته، أو يقصدها؛ كما سبق القول. ويكفي في هذا المجال المحدود أن نورد عبارة مالارميه (1848-1892م) التي توضح قدرة الشعور الخلاق على تكوين عالمه الشعري من خلال اللغة الرمزية المصفاة من كل أثر للشيئية إلى حد التماس مع العدم: «أقول زهرة! ومن داخل ذلك النسيان لأي معلم من المعالم التي يمكن أن يرتبط بها الصوت الذي نطقت به، تتصاعد بشكل موسيقي، وبفكرتها أو مثالها الرقيق تلك الزهرة المفتقدة في كل باقات الزهور.»
وحسبنا هذا المثل الواحد دليلا على استفادة نقاد الأدب والشعر من خصوصية عالم التجربة الشعورية الحي، ومن غناه وامتلائه الدائب لكي يرد إلينا «جسد العالم» كما يعبر عنه الشعر الذي لا يستمد وجوده - في نظرهم - إلا من الشعور وفي الشعور؛ لأنه ببساطة جزء منه ولا استقلال له عنه.
ولقد نبهنا النقد الظاهري إلى عدد من الحقائق التي يمكن إجمالها على النحو التالي: (أ)
حسبان الخيال أو التخيل مصدرا للتحرر، فبقدر ما يجذبنا العالم الفني الخيالي للاستغراق فيه، نجده يساعدنا كذلك على التحرر منه والشعور بنوع من الصفاء والسكينة الجمالية الخالصة. وهو بقدر ما يجعلنا نغوص في خصوصيته، يتيح لنا أن نجرب خصوصية شعورنا الباطني الحميم. (ب)
حسبان العمل الفني والأدبي موضوعا قصديا مستقلا، مع تأكيد أن تجربة هذا العمل نوع من التذوق أو التأمل الذي يحقق إنسانيتنا ويزيدها عمقا وغنى وامتلاء. ومن ثم لا يكون النقد الظاهري تقويما، بقدر ما يكون تجلية للتجربة الجمالية، وإشادة بثرائها. (ج)
حسبان الاستجابة الجمالية والأدبية استجابة فعالة؛ أي عملية «وضع بين قوسين» يتخلى فيها الناقد والمتلقي عن كل افتراضاته وأحكامه المسبقة، بحيث يقصد إلى الموضوع الجمالي ذاته على نحو ما هو معطى له «بلحمه ودمه» وبحيث يستغرق فيه، كما تقدم القول، وينفتح عليه، ويسلم نفسه له كما يقضي بذلك مبدأ التفاعل بين الآفاق، أو المشاركة بين الذوات، الذي طالما أكدته الفلسفة الظاهرية، وكأننا نتعلم منها كيف نرى وكيف نقرأ كما ينبغي أن تكون الرؤية والقراءة، دون أي تحفظ عقلي، أو رغبة في الاحتفاظ بحكم عقلي مستقل (وهو درس في التواضع للمغرورين والمعذبين في أرض الأدب والفكر والفن) وعند ذلك نلتزم الالتزام المنشود من القارئ بما يقرأ، ونشعر شعورا حدسيا مباشرا بشعورنا نحن بالموضوع الجمالي الذي استغرقنا حتى جعلنا نتخلى عن التعارض أو التضاد المعتاد في المواقف الإدراكية بين شعوري أو وعيي من جهة والموضوعات أو الأشياء الطبيعية المطروحة أمامه من جهة أخرى، وفي ذلك تكمن المفارقة التي نبه إليها «دوفرين» إزاء التجربة الجمالية؛ فهي استغراق عميق مصحوب بتحرر وجداني، كما أنها تعبير عن وصف «باشلار» للخيال بأنه ضرب من التحويل الذي يحررنا من إحساسنا العادي بالواقع؛ لأن التجربة الجمالية عنده هي نوع من «الحلم» الذي تتم فيه حالة استجابة يكون فيها الشعور شديد الاستغراق وشديد الانتباه في وقت واحد؛ بل إن هذه التجربة - في رأي باشلار - تجربة نموذجية أولية (على حد تعبير يونج المشهور)، أي عودة إلى الصور والبنى الأصلية للشعور؛ وهي بهذه المثابة نوع من تحقيق إنسانيتنا وتعميقها وإثرائها. (3) نظرة تحليلية لمحتويات الكتاب
لننظر الآن في نص ياسبرز لنرى مدى تطبيقه للمنهج الظاهري في قراءته لنصوص الفلاسفة، وفي تأريخه للفلسفة من وجهة نظر عالمية. وأول سؤال يخطر على البال، هو هذا السؤال:
كيف يمكن لحواري مع الأموات أن يجعلهم أحياء؟ وكيف يستطيع الاتصال بنصوصهم أن يلبسها ثوب الحياة؟
والجواب في السؤال نفسه، وهو جواب تمتزج فيه عناصر ظاهرية وتفسيرية في وقت واحد؛ لأنه كامن في الحوار معهم ومع نصوصهم. فعندما أسأل يجيبني النص الذي لا يرد على من يمر عليه مرور الكرام. غير أن إجابة النص - أو أجوبته الممكنة - لن تصل إلى سمعي إلا إذا استطعت أن أسوغها بحسب المعنى القصدي الذي يضمره النص. وإذا لم يستجب هذا المعنى ظل الأموات صامتين. وعندما أستوعب المضمون الحقيقي وأتملكه بحق، يمكنني كذلك أن أفهم المعنى المختفي بين السطور أو تحتها ووراءها، ولن يتيسر هذا حتى تتفاعل أفكار المفكر «الميت» مع أفكاري، ويتداخل أفقه مع أفقي - كما يقول اليوم فيلسوف التفسير أو التأويل هانز جورج جادامر.
ومما يرجح هذا المنحى الظاهري أن ياسبرز يؤكد على الدوام الأسس التي يقوم عليها؛ إذ يفترض استبعاد أي أحكام مسبقة، بل يفترض وضع العالم الطبيعي والوضعي، لا معارفي وأحكامي السابقة وحدها، بين قوسين، قبل أن أحاول القرب من النص واستكناه قصده ودلالته في حيدة تامة. ومعنى هذا أن من التبجح على الفيلسوف ونصوصه أن أعد كلامه مجرد سلم أتصرف به أو أتسلق عليه، وأمضي في اتباع درب لا يقودني هو نفسه إليه،
12
أو أن أقحم عليه معنى لا ينطوي عليه، أو أقسره على الدخول في وجهة نظر مسبقة للعالم، شاء ذلك أم أبى؛ فمثل هذا السلوك لا يمكن أن يوصف من الناحية الأخلاقية إلا بانعدام الحياء.
الفلسفة إذن تجربة معيشة قبل كل شيء. هي تجربة الحقيقة التي تحياها الذات في تواصلها مع ذات أخرى - عبر رموز لغتها وعلاماتها ودلالاتها الممكنة - وفق إمكاناتها الوجودية الصميمة. وما دامت تجربة وجودية وذاتية تتم في التاريخ، فلن يتم تفسيرها على الوجه الملائم إلا بمنهج ذاتي وتاريخي أيضا. وغني عن الذكر أن هذا المنهج يقترب الآن أشد الاقتراب من منهج التأويل (الهرمنيوطيقا)، ويبتعد بالتدريج عن المنهج الظاهري بمعناه الدقيق عند مؤسسه الأول الذي استنكر أن تدخل فيه عناصر الذاتية البشرية من أي سبيل، أو قل إنه يقترب من منهج تفسيري انطلق من أساس ظاهري، كما حدث مع كل أصحابه الذين تبنوه بصور وأشكال مختلفة (خصوصا من هيدجر إلى جادامر وتلاميذهما).
والحق أن التاريخ لم يغب أبدا عن عيني ياسبرز؛ فهو لم يتوقف عن التفكير في أصله وهدفه (كما ينطق بهذا كتابه المشهور بالعنوان نفسه (1949م، 1963م)، وكتاباته المتأخرة عن مستقبل الإنسانية ومصيرها في مواجهة الخطر النووي المنذر بالإبادة والكارثة الجماعية)، وإذا كان التاريخ عنده هو قبل كل شيء تاريخ الأفراد العظام، فإننا لا نتصل بتراثه الماضي والحاضر لإشباع فضولنا للمعرفة، ولا لإثبات تميزنا بالعلم أو تفوقنا على الآخرين - كما يتصور بعض الصغار في بلادنا، من الأدعياء الاستعراضيين والمتضخمين الجوف، الذين ارتفع ضجيج طبولهم، واشتد سعارهم النرجسي إلى الشهرة الرخيصة والأضواء الكاذبة - بل لكي نوجد بعمق وصدق حين نتواصل مع وجود العظماء ومع عظمة الذين وجدوا أنفسهم في الحقيقة، ولكي نوقظ في أنفسنا ينابيع المسئولية والجد والإنسانية، ونؤكد حريتنا في أن نكون ونأمل ونعمل في سبيل مستقبل نشارك في صنعه مع بقية «الأحياء» الذين ضمهم حضن الأرض منذ مئات السنين أو آلافها، أو من الذين ما فتئوا يضطربون على ظهرها. ومن لا يتدبر وجوده على «خلفية» من آلاف السنين في عمر البشرية فلن يعرف ذاته، ولن يدرك الهدف من الماضي والحاضر والمستقبل. ومن ثم يصبح التاريخ والتراث وجودا حيا يصل الأمس بالغد في لحظة سرمدية هي لحظة الفعل الحاضر في الحقيقة الشاملة العالية، لحظة الوعي الحر المسئول عن وجودها وعملها الدائب فينا وفي كل شيء وكل إنسان، فالتاريخ في النهاية هو مجلى هذه الحقيقة وسجل حضورها الحي، وما لم يتواصل وجودنا مع وجود أولئك الذين جسدوها فيه فلن نفهم شيئا عن معنى الفلسفة ولا غير الفلسفة. (4)
لعلنا أن نكون قد رأينا من العرض السابق أن «ياسبرز» قد اقترب أشد القرب من منهج الفهم والتأويل «الهرمنيوطيقي»، وإن لم يحرص هو نفسه على التصريح بذلك، ولا حرص أصحابه الذين تبلور المنهج على أيديهم في السنوات الأخيرة على ضمه إلى صفوفهم أو الإشادة بدوره في صياغته وتطبيقه. إن قراءاته لنصوص الفلاسفة وبعض الفنانين والأدباء تشهد على أنه ينظر فيها من الداخل ويحاول أن يتملك مضامينها الباقية بالتعاطف والحوار النقدي الحر معها، لا من وجهة نظر يفرضها عليها، ولا بمعيار مذهبي أو «شعاري» خارجي يدعي الصحة أو «الموضوعية» المطلقة،
13
ولا لانتقادها ومناظرتها وهدمها؛ فالنقد الحقيقي يفترض الحب، ويقوم على التفهم والكشف، وهو يبتعد عن كل شهوة رخيصة لإثبات التفوق والتحذلق. هذا التعاطف لا يمنع بطبيعة الحال من التصارع مع النصوص وإدراك حدودها وتناقضاتها وجوانب ضعفها وقصورها، ولا يتعارض مع تطبيق المناهج والأدوات العلمية الدقيقة لتحقيقها وتمحيص لغتها وبناءاتها ومستوياتها المختلفة، ووضعها في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية ... إلخ، فكل ذلك يقوي من أواصر اتصالنا بها، ويوقظ معرفتنا بحدود وجودنا وإمكاناتنا، وسواء استوعبنا مضامينها وتملكناها بحيث صارت شيئا خاصا بنا، أو رددناها وفندناها بوصفها «الآخر» المباين لحقيقتنا وغايتنا، فإن ذلك لن يقلل في شيء من موقفنا المبدئي القائم على «تجربة» النص، وإعادة استحضاره وإنتاجه، وضرورة بذل كل الجهود الذاتية والموضوعية الممكنة للاندماج فيه والاتصال بحقيقته المحدودة بحدود النقص والتناهي والقصور البشري المحتوم.
وليست هنالك طريقة (أو وصفة) معينة يمكن التوصية بها لتفسير نص معين أو تأويله. فلا مفر من اختلاف التفسير باختلاف النصوص والمفسرين. صحيح أنه ينبغي علينا أن نلجأ إلى المقولات العامة، وأساليب البحث وقواعده «العلمية» المتفق عليها، ولكن المهمة الملحة هي تحقيق المشاركة فيها، والتواصل معها، وبغيرهما يستحيل النقد الحقيقي كما يستحيل «التفلسف» الحقيقي الذي أوصانا به كانط (1724-1804م) عندما كان يكرر قوله لتلاميذه: «أنا لا أعلمكم الفلسفة - بمعنى تاريخ الآراء والأفكار والمذاهب - وإنما أعلمكم التفلسف، قفوا على أقدامكم، فكروا بأنفسكم!» ولا ننسى في هذا السياق أن نقاد فلسفة التأويل يأخذون عليها أنها لم تتوصل إلى مبادئ أو قواعد يمكن الإجماع عليها، ناسين هم أيضا أنه لم يتوصل أحد حتى اليوم إلى مبادئ ثابتة أو قواعد مطلقة، لا في الفلسفة ولا في النقد، وأن من الطبيعي أن تختلف المبادئ والقواعد - إذا صح استخدام هاتين الكلمتين - باختلاف المفسرين الذين تختلف قراءاتهم وتفسيراتهم للنص الواحد، دون أن يلزم عن ذلك بالضرورة أن نتهمهم بالذاتية والنسبية، وتنكب سبيل الموضوعية؛ لأن هذه المفاهيم نفسها بحاجة دائمة إلى التحديد والتوضيح، كما أن أصحاب فلسفة التأويل يؤكدون أن منهجهم ذاتي وتاريخي ونسبي، وأن الموضوعية «المطلقة» هنا شيء مستحيل؛ ذلك لأن الفهم أو التأويل عملية دائرية تنصهر فيها الآفاق وتتداخل، أو تتنافر وتتباعد، فتحاول «ترجمة» الغريب والآخر الأجنبي عنها من موقفها الخاص لتزداد معرفة به. وهو على كل حال ليس عملية أفقية أحادية الاتجاه (وقد ألح على هذا فلاسفة التأويل، من هيدجر إلى جادامر وبولنو) والمهم هو فتح أبواب الإمكانات المختلفة للقراءات المتعددة والممكنة للعمل الفكري أو الفني وللوجود الإنساني.
ربما جاز لنا في النهاية أن نعترض على النظر إلى الأعمال والتجارب الفلسفية والفنية بوصفها مجرد رموز، أو بالأحرى شفرات تحتاج إلى الحل، لبيان دلالتها على العلو أو الحقيقة الشاملة كما يفهمها ياسبرز نفسه، أو كما يوحي إلينا بأنها مستعصية على الفهم. وسيكون من حقنا في هذه الحالة أن نأخذ عليه تقييده للمعاني الممكنة للرمز في معنى واحد، بالرغم من أن الرمز يختلف عما يدل عليه ويزيد عنه، ولا يمكن أن يقتصر على العالي أو الشامل وحده. وربما جاز لنا كذلك أن نقول إن هذا في نهاية المطاف تفسير أحادي لا يستقيم مع استقلال العمل أو النص وخصوصية تركيبه وسياقه، ولا مع قابليته لتفسيرات وتأويلات متعددة، يمكن أن ينفتح عليها وأن تنفتح عليه، كما أن مختلف النصوص والأعمال ستصبح في هذه الحالة مجرد أمثلة أو نماذج لا تكتسب معناها وحقيقتها الخاصة إلا من حيث دلالتها على تلك الحقيقة الشاملة، أو بالأحرى من حيث تعبيرها عن فلسفة «ياسبرز» نفسه، التي تدور حولها دوران السواقي والأراجيح حول محور واحد، أو الأغاني والتنويعات على لحن لا يتغير (وهذا ما يمكن أن يقال أيضا بمعان مختلفة عن تفسيرات فلاسفة كبار آخرين لنصوص غيرهم، مثل تفسيرات أرسطو قديما، وهيجل حديثا، وهيدجر في عصرنا الحاضر؛ إذ يبرزون من تلك النصوص ما يؤكد فلسفاتهم هم) كل هذا جائز ومشروع. ولا يملك أحد أن يحرمنا حقنا في تفسير «تفسير» ياسبرز أو غيره، ولا في تقديم تفسير مختلف تحكمه عوامل تكوين ذاتيتنا ووجودنا التاريخي، وتأثير تجاربنا اللغوية والثقافية والتراثية التي تضافرت على تشكيلهما، بجانب انعكاس المقولات والأحكام والتصورات السائدة على معرفتنا وفهمنا ونقدنا، بل جنايتها في كثير من الأحيان على محاولاتنا في تفسير الأعمال والنصوص، وبخاصة ما ينتمي منها إلى عصر غير عصرنا، وإلى ثقافة وتاريخ وتقاليد مختلفة عن تلك التي كونتنا. صحيح أن التفسير الجوهري - إذا صح هذا التعبير - ينطوي دائما على محاولة لمجاوزة النص نفسه إلى السؤال أو الإشكال الأساسي الذي بعث ذلك النص إلى الوجود. ومهما حاولنا أن نفتح أفقنا على أفق النص والذات التي أبدعته، فلا بد أن يبقى تفسيرنا محدودا بالحدود والعوامل التي سبق ذكرها، ولا مفر من أن يكون مختلفا عن أي تفسير آخر لذات أخرى غير ذاتنا، فلا مجال هنا للحديث عن «موضوعية» مطلقة، نعلم اليوم أكثر من أي يوم مضى أنها مستحيلة، ولا مناص من الاعتراف بأننا نفهم دائما من خلال أسلوبنا في الرؤية والوجود، وهو أسلوب قد لا نعيه إلى حد كبير، ولا نستطيع في الوقت نفسه أن نعيش بدونه.
مهما يكن الأمر فإن تدخل التأمل الفلسفي (أو التأمل النقدي القائم بالضرورة على أسس فلسفية) ما يزال بنظرياته واتجاهاته الكثيرة التي تشغلنا اليوم - ولا حاجة بي لذكر أسمائها أو الجدل حولها - أقول إنه ما يزال موضع السؤال والإشكال، ولم يفلح معظمها - كما أسلفت - في تقديم معايير مضمونة أو قواعد متفق عليها من الجميع (ربما لأننا ننسى أحيانا أن التفسير يقوم على الفهم والتذوق، ولا بد أن يختلف كلاهما باختلاف النصوص والمتذوقين ...) ولو نجحت الفلسفة في تقديم أسس نظرية متينة للتمييز بين التفسير «العلمي» والفهم «الإنساني» - أو الذاتي التاريخي - (كما حاول فلاسفة الهرمنيوطيقا وما زالوا يحاولون دون أن يصلوا إلى مبادئ أو نتائج عامة الصدق، ربما لأسباب كامنة في فلسفتهم نفسها)؛ أقول لو أمكن هذا ذات يوم في حدود معينة، لكان للفلسفة تأثير أكبر وأكثر فعالية على النقد الأدبي والفني، ولا شك عندي في أنها تسعى دائبة على الطريق إلى هذا التأسيس، كما يتبين من بحوث بعض المعاصرين (مثل رومان إنجاردين، وج. ه. فون رايت، وك. و. آنيل، وت. م. زيبوم، وغيرهم). وسيبقى تفسير التفسيرات نفسها ومراجعتها أمرا يحتمه مبدأ تعدد التفسيرات وثراء النصوص العظيمة - في الفلسفة والأدب والفن - بالإمكانات التي لا حد لها. ويكفي النص الذي نقدمه أن يكون قد سمح لنا بتفسيره، بعد أن سمح بالانفتاح على مختلف التفسيرات، ومن بينها تفسيرنا المحدود بقدراتنا وإمكاناتنا وأدواتنا المحدودة.
مهمة كتابة تاريخ الفلسفة
التصور التاريخي للفلسفة
تتراكم أمامنا النصوص الوفيرة والمعارف المتواترة من التراث؛ فما معناها بالنسبة إلينا؟ وكيف تتسق فيما بينها؟ وعلى أي نحو تمثل كلا متكاملا؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة لتنبع من طريقة فهمنا لهذه النصوص والمعارف. فتصورنا للتراث المأثور وتفسيرنا له هو وحده الذي يجعله حاضرا أمام عقولنا.
والصعوبة التي تواجه أية محاولة لإعادة كتابة تاريخ الفلسفة تكمن في ضرورة الانفتاح على هذا التاريخ في مجموعه وتصوره تصورا كليا حتى يمكن أن يصبح موضوعا للتأمل. فليس هناك عرض نهائي وموضوعي، ولا توجد موسوعة معتمدة لتاريخ الفلسفة يمكنها أن تفي بطبيعة التجربة الفلسفية أو توضح ماهية التفكير الفلسفي. إن النصوص وحدها هي التي يمكن أن توصف بالموضوعية، وذلك بقدر ما تكون قد نقلت إلينا أو أعيد بناؤها بأمانة، وتعمق النصوص يبين لنا أن حجمها - في نطاق التاريخ العالمي للفلسفة - من الضخامة بحيث يصبح من المحال على إنسان واحد أن يعرفها جميعا معرفة دقيقة، كما يبين من ناحية أخرى أن النصوص الأصلية تحتمل تفسيرات لا نهاية لها.
إن كل العروض التي تزعم أنها تصنف المادة التاريخية وترتبها وتعممها وتؤلف بينها في إطار الموضوعية الخالصة إنما تنطبع في الواقع بأسلوب التفكير الفلسفي الخاص بأصحابها. وهي تختلط - دون أن يقصدوا إلى ذلك في معظم الأحوال - بالنزعات المدرسية المتزمتة، التي تغفل عما تنطوي عليه من تبريرات عقلية وتركيبات مصطنعة تتسم بالتوفيق والتلفيق. ويظل تصور هؤلاء المؤلفين مقيدا باستخلاص الدروس التعليمية، وتحليل ما بينها من علاقات عقلية، وما يترتب عليها من نتائج وتناقضات. كذلك يظل مضمون هذا التصور في نهاية المطاف أمرا غامضا من الناحية الوجودية.
ينبغي علينا إذن أن نسأل عن موقف مؤرخ الفلسفة ووجهة نظره لكي نتمكن من تقدير أهمية تصوره وحدوده، والكشف عن العوامل الذاتية التي تدخلت فيه. والواقع أن المؤرخ الجدير بهذا الاسم يتعين عليه أن يعرف نفسه معرفة واضحة. فكل وجهة نظر يتبناها عن وعي لا تعدو أن تكون زاوية واحدة من زوايا الرؤية التي تكون في مجموعها صورة شاملة لتاريخ الفلسفة. وهو في الحقيقة لا يريد أن تكون له وجهة نظر؛ لأنه يسعى إلى أن يفهم ابتداء من الكل، وأن يرجع بتفلسفه إلى الأصل في هذا الكل، مدفوعا بتاريخ الفلسفة بأسره، بل إنه ليتمنى - مهما تكن أمنيته بعيدة المنال - أن تهتدي جهوده في هذا السبيل بفكرة معرفة عامة بحصيلة الموروث الفلسفي الذي لا نهاية له، وطبيعي ألا يكون تصوره تصورا جامدا أو محدودا بوجهة نظر ثابتة؛ لأنه يصب في نهر التفلسف العام، ويشارك في مجراه الواحد، لكي يستطيع في هذه اللحظة أن يجربه في نفسه، انطلاقا من موقفه، واعتمادا على وسائله وإمكاناته، حتى تنبثق عنه في النهاية صورة خاصة به، أو بالأحرى صور كثيرة يلقي بعضها الضوء على بعضها، ويتفاعل بعضها مع بعضها في حركة مستمرة. وعلينا الآن أن نستوعب هذا التصور لتاريخ الفلسفة وننظر إليه عن قرب. (1) الفلسفة بمعناها الصحيح وتاريخ الفلسفة (فكرة الفلسفة الخالدة)
ترتبط الفلسفة بتاريخها بعلاقات متعددة: (1)
فقد يكون التاريخ سلسلة من الأخطاء التي تم تجاوزها، أو يكون هو التقدم الذي تحقق بتحصيل المعارف الدقيقة وتجميعها، بحيث تمثل اللحظة الحاضرة في هذا التقدم أقصى ذروة بلغها.
هكذا ترتسم أمامنا الصورة التالية لتاريخ الفلسفة: فليس ثمة غير حقيقة واحدة في ذاتها، صادقة في كل زمان، وهي ثابتة لا يمكن أن تتغير، متماثلة مع نفسها إلى أبد الآبدين، غير أن الإنسان يكتشفها على مدار الزمن خطوة فخطوة، وجزءا بعد جزء، بحيث تكون كشوفه حصيلة نهائية لا رجعة فيها. والمعنى الكامن في الحقيقة التي تم الكشف عنها لا يتوقف على العصر ولا على الحضارة، وهو لا يعتمد على المواقف والظروف التي أمكن العثور عليه في ظلها، فالحقيقة نفسها مستقلة عن الظروف التي خضع لها اكتشافها. كانت نظرية فيثاغورس صادقة قبل الكشف عنها، وسوف تظل صادقة إلى آخر الزمان. وفهم هذه النظرية يتطلب دراستها هي نفسها، لا دراسة تاريخ اكتشافها؛ إذ كان من الممكن اكتشافها قبل ذلك التاريخ أو بعده، وليس التاريخ إلا المجال الزمني الذي تم فيه التوصل إلى حقائق دقيقة تخطت كل زمان، حقائق عرفها الإنسان هنا وهناك، وظلت تنمو وتتطور على نحو متصل. والوجود التاريخي هو الشكل الخارجي الذي تتخذه رؤية الحقيقة وهي في سبيل تحققها، ربما يكون فهم التاريخ أمرا مهما ، ولكن التاريخ لا أهمية له بالنسبة إلى الحقيقة نفسها؛ لأنه لا يخبرنا إلا عن تتابع الاكتشافات بصورة عرضية أو محتملة، ونحن نتعلم من الماضي ما وفره لنا من معارف مكتسبة، ولكننا نفضل دائما أن يكون ذلك على هيئة عرض منهجي وموضوعي منظم، لا على هيئة الدراسة التاريخية، ونحن ندرس الكيمياء، أما تاريخ الكيمياء فلا ندرسه في أحسن الأحوال إلا على سبيل الهواية أو المتعة الشخصية، وقياسا على هذا يلزم دراسة الفلسفة من حيث هي مجموع الأنظار الفلسفية الراهنة. صحيح أن تاريخ الفلسفة يبين التطور الذي أدى إليها، ولكن هذا التطور يقتصر في الواقع على تتبع ظهور هذه الأنظار النهائية التي ثبتت صحتها، والتي كان من الضروري استخلاصها من سحب الأخطاء التي كانت تغلفها. لقد تقدمنا وتخطينا أفلاطون وكانط. ولنمثل لهذا الزعم بصورة متواضعة في ظاهرها: لقد كان المفكرون السابقون عمالقة بحق، أما أنا، وإن كنت مجرد عصفور، فإني أحط على رأس العملاق وأرى أبعد مما رآه.
إن هذا التصور سيقصر مهمة تاريخ الفلسفة على البحث عن شيء غريب عن موضوعه الحقيقي، وتفسير جوانبه العرضية تفسيرا نفسيا أو اجتماعيا، وتعرف الطبيعة الإنسانية التي أمكنها أن تقع في مثل هذه الأخطاء، أو تتوصل لمثل هذه الآراء في ظل ظروف معينة، بحيث يسهل تجنب العثرات في ضوء معرفتها.
بيد أن هذه الصورة التي قدمناها لتاريخ الفلسفة - على الرغم من صحة بعض تفصيلاتها - هي في مجموعها صورة خاطئة خطأ جذريا.
هناك فرق كبير بين تاريخ العلوم المتخصصة وتاريخ الفلسفة؛ فالواقع أن تاريخ الكيمياء أو تاريخ الرياضيات لا يبدو أنه جزء أساسي من دراسة تلك العلوم، على حين أن تاريخ الفلسفة يمثل منذ عهد طويل المجال الحقيقي لدراسة الفلسفة، حتى في تلك العصور التي بلغ فيها الإبداع الفلسفي غاية ازدهاره. ولما كانت الفلسفة مختلفة عن العلم، فإن ما يصدق على تاريخ العلوم - وإن لم يكن هذا بصفة مطلقة - لا يتحتم بالضرورة أن يصدق على تاريخ الفلسفة.
هنالك عالم يمثل كل ما هو «دقيق»، ويمكن أن يتحقق فيه التقدم إلى ما لا نهاية، وتتسع المعارف بصورة مستمرة، ويتم توصيلها إلى أفهام الناس جميعا ونقلها من حضارة إلى أخرى بغير تغيير. ويضم هذا العالم قدرا هائلا من المعارف المحددة التي يمكن البرهنة على صحة محتواها، كما يتفق الإجماع العام على الاعتراف بنتائجها. غير أن هذا العالم ليس هو كل العالم؛ فعالم المعارف الدقيقة أو الضرورية يفتقر قبل كل شيء إلى الكلية، ونحن نستطيع أن نميز فيه جوانب جزئية، ولكننا لن نميز الكل أبدا، اللهم إلا إذا كان كلا نسبيا في علاقته بكل آخر، لا الكل ذاته وبصورة مطلقة. أضف إلى هذا أننا لا ندرك في هذا العالم إلا بعض الوقائع الموضوعية المحددة، في حين يوجد خارجها شيء آخر مختلف عنها، وأقصد به الذات التي تعرفها، بجانب موضوعات أخرى ترتبط في علاقة معها.
ثم إن هذا العالم يفتقر كذلك إلى قيمة مطلقة تهم وجودنا الحميم؛ ذلك لأنه لا يقدم أية إجابة عن الأسئلة المتعلقة بحقيقتنا الذاتية أو كينونتنا الخاصة، ونحن نملك شعورا أصيلا بجدية هذه الأسئلة: فحقيقة كوننا موجودين تنطوي في صميمها على سر معتم غامض؛ هذا السر يعطي الحياة وزنا لا نهائيا، ففي هذه الحياة يتقرر شيء ما، ومن المهم أن أعرف كيف أعيش ولأجل أية غاية أعيش. ونحن نملك كذلك شعورا بالمطلق، يمكنه أن يقف في مواجهة كل ما هو جزئي، هذا الشعور شامل محيط؛ لأنه ليس بحاجة للخضوع لأي موضوع، ونحن نجد كذلك أن ما يمكن إثبات صحته يظل من ناحية المضمون شيئا لا يكترث به وجودنا الذاتي الحميم (صحيح أن الجهد الذي نبذله للتوسع في معارفنا لا يمكن أن يكون شيئا نقف منه موقف عدم الاكتراث، ولكن مضمون الشيء الدقيق وحسب هو الذي لا يهم وجودنا الشخصي). إن الحقيقة التي تشد أزر حياتنا وتوجهها لا يمكن أن تحتاج إلى إثبات أو برهان ملزم.
هنالك طرق عدة لإيقاظ شعورنا بالكل، وتنبيه وعينا بما لا يمكن إثباته بصورة ضرورية، وعلى أمثال هذه الطرق تسير الفلسفة. إنها تضع ما ليس بموضوعي في قالب المعرفة الموضوعية، وتظهر ما يهم الوجود في صورة مرئية للعين، ولا بد أن يكون لتاريخ هذه الفلسفة طابع مختلف عن تاريخ العلوم.
والواقع أن تاريخ العلوم نفسه لا يخلو من أهمية بالنسبة لموضوع العلم ذاته، وذلك بقدر ما ينطوي على شيء من تاريخ الفلسفة؛ فالفلسفة في نهاية الأمر هي المحرك للبحث العلمي، ولا بد أن يكون «الدقيق» أو «الصحيح» من الأهمية بحيث يستحق البحث عنه، وقد تنبع هذه الأهمية من أهداف محددة، ودوافع تقنية، وقد تستجيب لحاجات عملية، ولكن هناك وراء ذلك أهمية لا يتيسر إثباتها بطريقة ملزمة ومؤكدة، وإنما تأتي من علاقة بالكل وبالوجود، وتكون العنصر الفلسفي الذي لا يستغني عنه أي علم حقيقي. ولهذا تظهر أهمية تاريخ العلم أمام الباحث أيا كان مجال بحثه، لا بوصفه نوعا من تراكم الكشوف، بل من حيث هو إبراز ل «المهم» وتوضيح ل «المبادئ» الكامنة في صميم الكل. هذا الاهتمام التاريخي الذي نجده في جميع العلوم الجزئية يعبر عن اللحظة الفلسفية الحاضرة في كل معرفة أصيلة. (2)
ولكن كيف يكون تاريخ الفلسفة على الدوام أمرا جوهريا لا غنى عنه للفلسفة؟ هذا هو السؤال. فإذا لم تكن الحقيقة الفلسفية معرفة دقيقة ملزمة للفهم، بل كانت استيعابا باطنيا للوجود، فلا بد أن يتغير وجهها، ويتحول شكلها، من عمل فلسفي إلى آخر. ومن ثم يمكننا أن نقول: كل شيء حق على نحو معين، بالنسبة إلى هذا الإنسان وإلى هذا العصر. ويمكننا - على العكس من ذلك - أن نقول: لا شيء حق؛ إذ لا يمكن لشيء مما مضى أن ينقل بالطريقة نفسها، كما أن الحقيقة الفلسفية تتغير مع تطور الإنسان وتبدل مواقفه وأحواله. بهذا لن نجد شيئا نهائيا مؤكدا، ولن نعثر على الحقيقة في أي مكان، وسنكتشف أن الإنسان لم يحقق المثل الأعلى ولم يبلغ المعرفة المطلقة في أي مكان؛ أو ربما اكتشفنا أن هذه المعرفة المطلقة موجودة بمعنى آخر على الدوام، وأنها حاضرة في الشكل الذي تفرضه عليها لحظتها التاريخية. وستكون مهمة تاريخ الفلسفة في هذه الحالة هي تفهم كل شيء، وعدم استبعاد شيء، وتقبل الأعمال على ما هي عليه وتسليط الضوء عليها.
مثل هذا الموقف من التاريخ لا بد أن يصدم إحساسنا بمعنى الحقيقة، ولا بد أن نسخط عليه ونرفضه حتى لا يتحول تاريخ الفلسفة في مجموعه إلى خليط مضطرب، وصور من الصراع اليائس العقيم، ومبارزة زائفة بغير طائل بين الآراء الذاتية وأشكال الحياة المختلفة، ولن يكون تاريخ الفلسفة في هذه الحالة سوى تاريخ الأوهام والأخطاء البشرية، ولن يحظى في النهاية إلا باهتمام نفسي أو مرضي.
هذا الموقف نفسه؛ أعني هذه النزعة التاريخية التي تجعل كل شيء نسبيا؛ ستدمر معنى الحياة، ولن يكون في وسعنا أن نقيم علاقة بين الحقيقة الخالدة والتاريخ بغير إفساد الحقيقة، ما دام التاريخ يعلمنا أن نشك في كل شيء، وألا نؤمن بشيء. ولهذا يتعين علينا أن نؤكد دائما بكل وضوح أن ما هو حق لا تقتصر حقيقته على عصر أو زمن معين، ولا تنحصر قيمته داخل حدود تاريخية ضيقة، وما لا يصدق على كل العصور والأزمان بصورة مطلقة شاملة فليس من الحق في شيء. (3)
وتسعى الفلسفة التي وعت طابعها الخاص للوصول إلى تصور عن تاريخها يجمع أطراف التصورات المضادة والسابقة يصهرها في بوتقته. إنها لتسعى إلى الفلسفة الخالدة التي لا يستحوذ عليها أحد، ومع ذلك فهي حاضرة على الدوام، لا تحدد بأي أسلوب فكري ولا تنغلق فيه، وتظل واحدة متغلغلة في أعماق كل شيء، وهي تتجلى في أشكال متعددة كان كل شكل منها بالنسبة إلى صاحبه شيئا كليا وحقيقيا، ولم يزل كذلك بالنسبة إلينا، دون أن نضطر للالتزام به أو لتقييد وجودنا الخاص به. هذه الفلسفة الخالدة تتطلع إلى الشامل الذي يتطلع إليه الجميع، ويمكن أن نقدم الآن بعض سماتها المميزة: (أ)
إن الفلسفة تتضمن عنصرا أو مستوى يتم فيه التوصل إلى الدقة، وتحصيل المعارف، وتحقيق التقدم على غرار العلوم الجزئية. ويتمثل هذا بوجه خاص في مجال المنطق في شمول المقولات ووضوحها، كما يتمثل في العلوم، بقدر ما تحدد موقف البحث الفلسفي وشروطه الضرورية. في هذا المستوى الفلسفي نجد أخطاء أسقطت، وفروضا تم تجاوزها، كما نجد فكرة حقيقية عامة الصدق، بيد أن من الصعب دائما تحديد معالم هذا المستوى؛ لأن الخطأ نفسه يمكن أن يتخذ شكل رؤية فلسفية فريدة لا يمكن أن تستبدل بها رؤية أخرى، ولا يمكن إصدار حكم نهائي على قضية سقطت وفسد محتواها ولم تزل مع ذلك تحتفظ بحيوية لغة تاريخية لم تسقط ولم تفسد. صحيح أن البحث الفلسفي يوسع مجاله، ويتطهر من شوائبه، ولكن بغير أن يتحول إلى شكل منهجي منسق للفلسفة الحقة التي يمكن أن يوافق عليها جميع الناس، وعملية التوسع والتطهير المذكورة تعد أحد العوامل الداخلة في تكوين الفلسفة الخالدة، ولكنها ليست نسقا أو نظاما يكفل المعرفة الدقيقة. (ب)
يمكن أن تعبر الفلسفة عن نفسها في صورة نظام خاص مكتمل، يحمل الطابع الشخصي لصاحبه، ويدل على الأسلوب الأصيل للتحقق الفلسفي، وكل نظام من هذه الأنظمة يمثل مجموعا حيا متماسكا لا يمكن تخطيه؛ إذ يبقى قيمة متفردة هي نسيج وحدها؛ لأنها تكمن في صميم الكل، وتعبر عن الفلسفة الخالدة. ويمكننا من الناحية الصورية أن نقارن بين هذا الجانب من تاريخ الفلسفة - بوصفة صيغة زمنية وشكلا متغيرا من أشكال الفلسفة الخالدة - وتاريخ الفن، فالفلسفة والفن يشتركان في كونهما حقائق كلية باقية في كل زمان، تصدق قيمتها بهذه الصفة الكلية أو لا تصدق على الإطلاق.
إن كل إنسان - إذا كان فيلسوفا - يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية، مهما تكن هذه الصورة متهافتة أو جزئية أو غامضة. وكلما تفتح هذا الكل واكتمل واتضح، رأينا أمامنا عملا من أعمال الفلاسفة الأعلام. ولكن ما من إنسان يمكنه أن يكون فيلسوفا على نحو ما يمكنه مثلا أن يكون عالما في الرياضيات؛ أي مبدع عمل أو إنجاز خاص يقف تجاهه وينظر إليه من الخارج، وينفصل عنه انفصالا جذريا من حيث هو إنسان. إن الفلسفة هي البذرة الأولى والزهرة الأخيرة للتفكير العقلي الذي يتحرك في ميدان المعرفة بما هو جزئي ونهائي محدود، وهي تتحقق عندما تخرج عن نفسها بشكل من الأشكال، وتعبر عن نفسها في العلوم الخاصة وفي الحياة وكل مجالاتها العينية واليومية. ولكنها كذلك هي «الشامل» الذي يتبين نفسه بوضوح من خلال تأثيره وفاعليته؛ ولا يتم هذا بكل ما فيه من جلال وصدق وعمق إلا في صورة شخصية. ولهذا كان تاريخ الفلسفة قبل كل شيء هو تاريخ الفلاسفة العظام. (ج)
إن الفلاسفة العظام يتحاورون حوارا عقليا مستمرا عبر آلاف السنين، ويحيون في مجال مشترك لا يقتصر على كونه مجال التفكير العقلي الذي يتطور فيه الإنسان ويتقدم، ولا يقف عند حد المجال الذي يتجسد فيه نموذج إنسان فريد. إنه مجال الفلسفة الخالدة الذي يخلق التعاون المشترك، ويوحد بين الأطراف المتباعدة، ويجمع بين الصينيين والغربيين، بين مفكرين مضى عليهم ألفان وخمسمائة سنة ومفكرين يعيشون في أيامنا الراهنة، ونور هذه الفلسفة الخالدة يجعلنا نشعر في معظم الأحيان بأننا أقرب إلى بدايات الفلسفة الغربية عند المفكرين قبل سقراط منا إلى الألعاب العقلية والدروب الجانبية المصطنعة التي تتكرر في كل العصور. إنها لنغمة أساسية عميقة تربط كل شيء بكل شيء، ولكن كيف؟ ليس من السهل إدراك السر في هذا، إن التفكير الفلسفي نفسه يظل تفكيرا واحدا على اختلاف الشخصيات التي يتم التواصل بينها، وهو ذلك الشيء الذي لا يمكن أن يتحدد بشيء آخر، وإنما نعرف من المنبع الذي انبثق عنه كل ما اشتق منه وما تفرع عنه، في حين يبقى هو نفسه مستعصيا على الإحاطة به من أي مكان، إنه يتولد بطاقته الخاصة، ويندفع بلا توقف خلال جميع الشخصيات لكي يصل إلى المنبع الذي صدر عنه. (2) إدراك الحقيقة والواقع في تاريخ الفلسفة (اختيار الأساسي والجوهري)
لن يتحقق عندي المعنى من تاريخ الفلسفة إذا اكتفيت بالنظر في المادة الموضوعية اللانهائية التي يقدمها إلي التراث، أو اقتصرت على إخضاعه لمعايير معرفية محددة، وعلى اختياره وتنظيمه. إن ذلك كله لن يكون إلا عملية ذهنية تتعامل مع موضوعات ميتة، دون أن أشارك فيها بنفسي مشاركة أساسية. ولن ينفتح علي تاريخ الفلسفة حتى أنفتح في الوقت نفسه عليه. ولهذا يتحتم علي أن أغوص بكل كياني في هذا العالم، وأن أرى وأشعر وأجرب ما يتحرك في نفسي ويتضح ويصبح شيئا جوهريا. ولا بد أن يسبق فعل الحضور كل عملية منهجية، وسنحاول الآن أن نصف هذا عن قرب: (2-1) الإحساس بواقع «الشامل»
يمكننا أن نصف التاريخ بأنه تجربة الواقع، ويمضي الإنسان عبر الزمان وهو يزاول فعله ونشاطه في العالم، ويراقب الكائنات والدلالات، ويستعين بالأفكار والمفاهيم، يمضي متجها نحو الوجود الذي يتكشف له من خلال الأهداف التي يسعى لتحقيقها، والشخصيات التي يلتقي بها، والأفكار التي يستوعبها، دون أن يتجلى له هذا الوجود أبدا على نحو نهائي في صورة الواقع الواحد الكلي. وفي أثناء عملية التكشف هذه - التي لا تكتمل أبدا - يصبح الوعي هو الشرط الضروري لنمو الإنسان وتقدمه وإصراره على تجربة الواقع. وغني عن الذكر أن هذه التجربة نفسها تتحول وتتطور مع تطور المعرفة.
وتفهم طبيعة هذه التجربة التي يفترض أن تظهر - بكل ما يميزها من وضوح وصفاء - في تاريخ الفلسفة أمر يتوقف على الشخص الذي يقوم بعملية الفهم، وعلى مدى إحساسه بمعنى الواقع الذي لا يتضح له إلا عن طريق هذا الفهم نفسه. وقد يحدث في يسر أن تضيق حدود هذا الإحساس بمعنى الواقع ضيقا شديدا، فينحصر فهمه للعلم الوضعي في الوقائع التجريبية، ويقف إدراكه للاهوت عند وحي إلهي بعينه، وتقتصر حماسته الرومنطيقية على بعض الرؤى الأسطورية، وتتحدد اهتماماته في مجال الحياة السياسية بما يتعلق بالدولة والسلطة، وفي كل بعد من هذه الأبعاد، كما في غيرها، يتم إدراك جانب من الواقع، ولكن المهم هو الإحساس بالواقع كله في أعماق الشامل، لكي نتعرف المضمون الحقيقي لتاريخ الفلسفة، ولهذا يتعين علينا أن نلاحظ أمرين: أما الأول فهو تجربة المفكر القديم بالواقع الحي وأسلوبه في التعبير عنها، وأما الثاني فهو واقع ما حققه وقيمته بالنسبة إلينا اليوم.
وإذا صح أن تفهم تجربة الواقع التي انتقلت إلينا عبر تاريخ الفلسفة لا ينفصل عن الشخص الذي يريد فهمها ومدى قدرته على الإحساس بمعنى الواقع، فإن من واجب هذا الأخير أن يعي الواقع بكل أبعاده واتجاهاته ولا يهمل شيئا منها؛ فالعلم في نظره هو مجموع المعارف الدقيقة والمناهج الصحيحة، والتصور الواضح للمعرفة التي حصلها الإنسان وطبقها بنجاح هو الشرط الذي لا غنى عنه لكل فهم لاحق. غير أن من الخطأ أن نتصور أن تطور العلم هو المحور الذي يدور عليه تاريخ الفلسفة، أو أنه هو لب المشكلة، فلقد تبين منذ عهد بعيد أن العلم بما هو كذلك ليس له هدف في ذاته، وأنه يخيب الآمال، ولا يضع قيما، ولا يقدم أساسا تقوم عليه الحياة؛ بل إن الحياة لتفقد معناها إذا تصور صاحبها أن العلم بما هو علم خالص هو الغاية الأخيرة.
ليس هناك مطلق، فضروب الواقع تنشأ وتنمو، والإنسان لا يقتصر على معرفتها بوصفها وقائع، بل ينظر إليها بوصفها كائنات. وما يوضحه العالم لكل الناس ويلزمهم به - وإن يكن علامة على الطريق الذي لا غنى عنه - لا يبلغ أعماق الواقع، ولا يتمثل الواقع أيضا فيما يبقى ويدوم، في حين يعد العابر والمتلاشي غير واقعي. لا، ليس الأمر كذلك، فكل شيء واقعي؛ لأن كل شيء يسمح بالتغلغل إلى الأساس، حيث لا يتحدث الواقع بلغة الوقائع الجزئية بل بلغة الأسرار الكبرى. ومن فهم اللغة التي تنطق بلسانها «أثينا» و«كاساندرا» و«برونهيلد» فقد فهم قدرا أكبر من الواقع، بل واقعا آخر مختلفا عما يلقنه العلم إياه. وإن كل الوقائع الجزئية لتشحب وتتسطح إذا قورنت بذلك الواقع الحقيقي.
إن المعرفة بمفهومها الفلسفي (والمعرفة العملية لا تمثل إلا جانبا واحدا منها) ينبغي أن تؤخذ بمعنى أوسع. وما يعد وهما بالنسبة لمن عميت عيناه عن الواقع - ولم يحكم عليه إلا المقاييس التجريبية - هو نفسه شكل من أشكال المعرفة بالوجود.
لهذا فإن فهم تاريخ الفلسفة يقتضي التجرد من الأحكام المسبقة، والإدراك الواضح لكل أساليب الوعي بالواقع، وكل أساليب تجلي هذا الواقع ذاته. والواقع متضمن في جميع أحوال الشامل وأنحائه، التي ينبثق عنها في أشكال محددة ونسبية، وهو موجود في وحدة الشامل؛ في الكينونة أو الوجود الواحد الذي يمكنه؛ بوصفه المتعالي، أن يتكلم خلال كل شيء. إن تاريخ الفلسفة هو التحقيق التاريخي للأبدي على النحو الذي تم به تصوره، وهو يفترض أن الإنسان، في علاقته المباشرة بالله، قادر في كل لحظة على أن يلمس الأبدية من خلال الوجود الحاضر في شموله وإحاطته.
ومن انفتاح الفهم على الواقع في كليته وفي أعماقه ينشأ الحس النقدي الذي يكتشف الانحرافات الممكنة في تفسير الواقع. إن لدينا في علوم الطبيعة معايير محددة تمكننا من التثبت من الوقائع التجريبية أو الكشف عن المزاعم الباطلة التي تقرر وجودها بغير أساس. ولكن عندما نكون بصدد واقع نؤمن به، واقع لا يلغي إيماننا به أنه يناقض الوقائع ويخيب التوقعات المنتظرة، فليس التعبير عن هذا الإيمان إلا شكلا من أشكال الإدراك لواقع يستعصي على الإثبات والتحقيق التجريبي.
لكل حالة من حالات الواقع دلالتها النوعية، ولكل أسلوب من أساليب خدمته معنى مختلف باختلاف خدمة الوقائع أو الهدف أو الأسطورة أو الله. ولكن الانحراف يبدأ عندما يزعم عنصر معين من عناصر الواقع أنه هو الواجب نفسه في كليته ومعناه المطلق، ومن الخطأ أن ننكر الواقعية على شيء لا تنطبق عليه المعايير التجريبية المعمول بها في مجال التقنية والتأثير العملي. ومن الخطأ كذلك أن ننظر إلى موضوع يمكن معرفته بطريقة سببية، واستخدامه استخداما تقنيا، على أنه هو الواقع ذاته، كما أن من الخطأ أن نأخذ الصور الأسطورية على أنها الواقع، ونتوهم وجود الواقع في ذاته في الرؤى السامية، فلن تكون هذه كلها غير جوانب جزئية، وحقائق مشتقة من الواقع، ولن يفهم معناها وتأثيرها وشكلها المحدد إلا من خلال ذلك الواقع.
ونحن لا نملك - لهذه الأسباب كلها - أن نطبق معايير واحدة ثابتة على تفسيرنا لتاريخ الفلسفة. فلا يمكن أن نوفق في هذا التفسير إلا بقدر ما يتجه الشامل الحاضر في أنفسنا - الذي نشعر أنه دائب الحركة فينا - نحو الشامل الحاضر في التاريخ. عندئذ ينكشف لنا الوجود في أعماقه، في أثناء فهمنا للتاريخ، وتتبين لنا الصور التي تجلى فيها حتى الآن، وعندئذ يتضح أمامنا تسلسل مراتب الواقع، وتتبين لنا الانحرافات التي تمخضت عنه لتتخذ صورا مختلفة مما هو سطحي ومحدود بحدود عقلية ضيقة، أو مما هو موضوعي، ومتناه، ومادي، وشيئي، وذري، أو تافه يؤخذ مأخذ الواقع. (2-2) الوجود الممكن يستجيب للوجود الماضي
لا وجود لفلسفة حقيقية واحدة على هيئة رصيد منهجي منسق من المعارف التي تفرض نفسها على كل إنسان وتلزمه بالتسليم بها، وكأنها موضوع لا يتطلب منه إلا أن يبذل جهدا عقليا لتعلمه، كما يفعل مع سائر المعارف الموضوعية في العلوم الطبيعية والرياضية. ومن تصور أن الحقيقة الفلسفية موجودة أمامه ولا تحتاج منه إلا أن يتعلمها فلن يبلغ من الفلسفة شيئا؛ فالواقع أن الإنسان يشرع في دراسة الفلسفة بوصفه وجودا ممكنا يتواصل مع وجود آخر، وهو يحقق هذا التواصل من خلال تاريخ الفلسفة مع أولئك الذين بلغوا أقصى درجات المطلق والوضوح. إنه يدخل في حوار مع أكبر عقول الماضي وأكرمها، ويستطيع أن يطرح عليها أسئلته، وإذا لم يفعل هذا فلن يكون لدراسة الفلسفة أي معنى.
ويكون الإنسان حرا بقدر ما يكون موجودا ممكنا أو مدعوا للوجود؛ فهو هذا الكائن الذي لا يفهم، والذي يحيا حياته وهو على وعي بضرورة اتخاذ قرارات ذات قيمة أبدية، ولهذا فإنه لا يحيا حياته وحسب، وإنما يعرف الجد الذي تصبح الحياة نفسها بالقياس إليه شيئا غير ذي بال. وعندما يردد الناس: «يا إلهي! هكذا خلقت! هذه هي طبيعتي!» فإن هذه العبارة لا تبدو له خاطئة لمجرد أن مضمونها غير قابل للمعرفة؛ بل لأنه يشعر بأنها تخدعه تحت ستار معرفة مزعومة، وتنصب له فخا يغريه بالتخلي عن مسئوليته والاستسلام السلبي ل «هكذا خلقت وهذه هي طبيعتي»، والتردي في تفاهته أو انفعالاته.
وليس الوجود في الزمان مجرد حلقات متتابعة من التجارب والخبرات، ولا هو مجرد تذكر لما لم ينس بعد، فالواقع - على العكس من ذلك - أن السابق يحدد اللاحق، وأن المستقبل يرتبط ارتباطا واعيا بما تم إنجازه واستيعابه وتقريره في الماضي. وبالمثل يمكن القول إن اللاحق يحدد السابق، وذلك بقدر ما كان الماضي ملتزما بمستقبل لا يسمح لذلك الماضي بأن يحيا حياته كيفما اتفق، وما من وجود يخلو من الوعي بماض - كنته أنا نفسي - يدفعني في الحاضر لاتخاذ قرارات قد حددها المستقبل من قبل.
إنني أتواصل مع نفسي ما دمت موجودا؛ فلست أحيا ببساطة وكأنني موجود فحسب، وإنما أنا وجود له علاقة بذاته ومن ثم بالمتعالي، غير أنني لا أوجد نفسي في علاقة بالوجود في ذاته، هذا الذي يعد «آخر» لا سبيل إلى النفاذ إليه، والذي يواجهني وتتأسس عليه حياتي، وإنما أوجد كذلك في علاقة بوجود الذين يمكنني أن أتواصل معهم.
ولما كان التفلسف وجوديا، فإنه يتحقق عن طريق استيعاب تفكير أولئك الذين وجدوا في الماضي والتحاور معه. وإذا كان الوجود (الذاتي الحميم) يتسم دائما بالأصالة، فإنه لا يبدأ أبدا بداية مطلقة؛ لأن هناك سياقات متتابعة على الطريق الذي أدى به إلى موقفه الراهن. ويتوقف عمق التفكير الفلسفي على مدى قدرة الإنسان على استيعاب الروح التاريخية الفعالة التي انبثقت منها شخصيات الماضي.
ولكن العلاقة التي يمكن أن تربطنا بشخصية ظهرت في الزمن الماضي هي علاقة بعد واحد. فكل ما هو تاريخي يضع الإنسان الحاضر أمام إمكانات مختلفة. وكل ما عرفته عن ماض - كان واقعا ذات يوم - لا يعدو أن يكون مجموعة متنوعة من آثار من سبقوه على الدرب، وضروبا من التنظيم والتصنيف المؤقت، وعددا من الأشكال والاتجاهات والمواقف الأساسية، غير أن الأمر المهم في كل الأحوال هو أن يحرص في أثناء وجوده الزمني على الدخول في علاقة أصيلة ومباشرة بالمتعالي، وأن يكون هو نفسه، ولا بد له من أن يسمع في الحاضر ما قد سمع قديما في الماضي، ومع ذلك فإن الماضي لا يقدم ضمانا كافيا لمجرد أنه قد وجد من قبل؛ إذ يتحتم علينا أن نجربه تجربة جديدة إذا أردنا أن يحتفظ بحقيقته وواقعه في أنفسنا.
ولهذا فإن كل محاولة لتكرار الوجود الماضي أو محاكاته لا يمكن أن تخلو من خداع النفس، وهذا هو السر في ألوان الانحراف التي تؤدي بالإنسان إلى التشبث بغيره بدلا من أن يكون هو نفسه وأن يجرب تجربته، كما تفسر حرصه على التمسك بالمعارف اليقينية التي انتقلت إليه بدلا من حرصه على الارتباط المباشر بوجود المتعالي. وطبيعي أن تتخذ هذه الانحرافات شكل المعرفة (الدقيقة)، والاعتقاد المتزمت، والنزوع إلى الأحكام المطلقة، وأن تستمد يقينها من المؤسسات والضمانات الموضوعية. (2-3) الماضي بوصفه شرطا لا غنى عنه للاستيعاب
لاحظنا التعارض القائم بين حقيقة ضرورية ثابتة تتسم بالموضوعية البحتة من ناحية، وحقيقة الوجود في الزمان من ناحية أخرى، هذه الحقيقة التي تتضح بالتواصل، وتعي ماضيا ينتمي إليها، وحاضرا تتخذ فيه القرارات الحاسمة، ومستقبلا تحدده وتجربه قدرا لها؛ لأنها حقيقة لا تعطى أو توجد كغيرها من المعطيات والموجودات، وإنما تتحقق من خلال الحرية، وتقوم على أساس معتم.
هناك معارف دقيقة تتخطى الزمان. هذا أمر لا ينكره أحد، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه المعارف هي كل شيء؟ وهل تنحصر الحقيقة في إدراك العلاقات الدقيقة؟ أم أن بجانب المعرفة الموضوعية المضبوطة ومن فوقها معرفة أخرى ممكنة تضيء كل أحوال الشامل وجهاته، معرفة لا تتوقف ولا تنغلق على نفسها، بل تتيح للحرية أن تشف وتتكشف لذاتها؟ من هنا تصبح كل معرفة بالموضوعات مجرد وسيلة، وهي لن تبلغ الكمال في ذاتها أبدا، على حين أن وضوح الشامل - الذي يعد وعيا بالحاضر الأبدي - لن يتحقق إلا في صورة زمنية، ولن يكون إلا وعيا تاريخيا. وإذن فلن تغدو الدقة التي تتخطى الزمان حقيقة نهائية في ذاتها، بل سيصبح الماضي، بكل ما يملؤه، أساسا يرتكز عليه وجودي. صحيح أننا نجرب الزمانية بوصفها ظاهرة، أو نجربها على مستوى الظواهر ، ولكن هذه الزمانية وحدها هي التي تسمح لنا ببلوغ ما هو حق وجوهري. وليس من سبيل إلى تجاوزها إلا بالعلو والاتجاه نحو المتعالي، نحو اليقين بحضور أبدي لا أحصل عليه إلا إذا بلغ إحساسي بالزمان أقصى درجاته، كما أفقده فقدا تاما حين أواجه لا زمانية المعارف الدقيقة التي تزعم لنفسها الأبدية. ذلك أن هذه المعارف الدقيقة تنطوي في الواقع على تجاوز زائف للزمان عن طريق نفيها له، في حين يتحتم على التجاوز الصحيح - بوصفه ظاهرة - أن يتخذ صورة زمنية. إن الحقيقة هي الماضي، ولكن ليس هو الماضي الميت الذي يتمثل في المعرفة بما مضى، بل هو الماضي الذي لا يمكن أبدا أن يقال عنه ببساطة إنه قد انقضى، والذي يبقى بفضل حريتي. وهذه الحرية تكون حرة بقدر ما ألتزم - في وجودي نفسه - بالإحساس بالمسئولية والذنب تجاه أفعال قديمة قدم الماضي الذي التزمت بنفسي خلاله، ولا زلت ألتزم بها إلى اليوم.
إذا كانت الحقيقة ترتبط بالزمان بوصفه الشكل الضروري لظهورها وتجليها، وإذا كانت الحقائق العلمية الدقيقة التي تتخطى الزمان لا تعدو - إن صح هذا التعبير - أن تكون هي الهيكل العظمي الذي يتضح الوجود ويتكشف من خلاله - وبذلك لا تكون شيئا مستقرا في ذاته بل شيئا مضادا للحرية؛ إذا صح هذا كله فلن يكون التاريخ شيئا نعرفه من الخارج، بل سيصبح حاضرا نحيا فيه. إنني لم أصبح ما أنا عليه من فراغ؛ فماضي هو التاريخ. وأنا أحصل الفلسفة الماضية عندما أتفلسف، ويرقى تفلسفي إلى المستوى الوجودي ويزداد حظه من الامتلاء بقدر ما تتكشف علاقتي بفلاسفة الماضي العظام وتزداد حضورا، وبقدر ما أتلقى عنهم، وأدخل في عراك معهم، وأجد نفسي من خلالهم. وإذا كنت فردا له مصيره الفردي، فإنني لا أكون إنسانا بحق حتى أشارك في مصير العقل البشري، أي في تاريخه، وأجل الذين صنعوه، وأحبهم، أو أنقدهم وأدخل في صراع معهم.
من المحال أن نلغي شيئا تم وقوعه حقا، أو نجعل الماضي كأن لم يكن، وكما أن استيعاب الماضي - خلال الزمان - وإضاءته وتوضيحه هي التي تتيح لي تعميق وجودي الشخصي وتغييره أو إضاعته وفقده، فإن التاريخ الذي يحيا في الحاضر ليس على الإطلاق مجرد رصيد من الآراء الجامدة والمعارف الثابتة التي لا يمكن تغييرها، ولا هو مجموعة من الأفعال التي حسمت وانتهى الأمر، ولكنه يظهرنا - عن طريق الحرية - على أعماق جديدة وإمكانات لن تخطر على البال. والتاريخ يتحول من الناحية الباطنة تحولا لا يتوقف، في حين يظل ثابتا لا يقبل التغيير في واقعه الخارجي. ونحن كلما استوعبناه استيعابا باطنيا استعاد حضوره، وبعثت أطيافه حية بدم الأحياء الذين يقتربون منها بكل ما في وجودهم من جدية. عندئذ تستأنف الأطياف حياتها وتتفتح وتزدهر.
بهذا المعنى يتصل المتفلسف بفلاسفة الماضي ويصبح شاهدا على تواصل تم تحقيقه. وكلما تغلغل بعمق في هذه المملكة التي تهيم فيها العقول والأرواح وتحفها الأسرار، تبين له بوضوح كيف يتصارع بعضهم مع بعضهم، وكيف يتشابكون في تفاعل تسوده المحبة، وكيف يردون الحياة لبعض الموتى ويعيدونهم إلى الحاضر في صورة جديدة، أو يهملون بعضهم الآخر ويسلمونهم للضياع والنسيان. أليس عجيبا أن يكون أوفر الناس حظا من الحياة هو أقدرهم على السكن مع الموتى، وأن يكون ناسيهم فقيرا في الحياة؟ إن علامة الوجود الطبيعي الخالص أن صاحبه يحيا حياته يوما بيوم. أما علامة الوجود الحق فهي عدم الاستسلام للدورة الموضوعية للزمان اللانهائي، وإحالتها إلى شكل زمني - أي إلى حاضر فماض فمستقبل - دون أن يفقد القدرة على رؤية ذاته أو رؤية الحقيقة. عندئذ يصبح الزمن كيانا باطنا، ويغوص الوجود الحميم في الماضي كأنه يغوص في الأبدية، كما يلقي التفكير التأملي وإرادة التحقيق والإنجاز العملي بنفسهما أمام المستقبل. حينئذ يبدو كأن الأدوار تعكس أو تتبادل؛ إذ لا يكتسب المستقبل عمقه إلا من الماضي، كما أن الماضي يصبح مجرد امتداد ميت بدون الحرية والحاضر والمستقبل. وها هو ذا الشاعر كونراد فرديناند ماير (1825-1898م) يعبر عن هذا في أنشودته «جوقة الموتى» التي تبدأ بهذه السطور:
آه آه! نحن الموتى! نحن الموتى! نحن جحافل جرارة
أكثر عددا من أكثركم في اليابسة وفوق بحور هدارة.
ثم يستطرد فيقول:
وكل ما بنينا أو بدأنا في ظروف صعبة
لا زال يجري في الينابيع مياها عذبة،
وكل حبنا، وكرهنا، صراعنا على الطريق
لا يزال ينبض كالحياة في الدماء والعروق،
وكل قانون كشفنا أمس كنهه وصدقه
يغير الأرض ويهدي للحياة الحقة.
إلى أن يختتمها بهذه السطور:
لا زلنا حتى الآن نفتش عن معنى قدر الإنسان،
فاحنوا الهامات خشوعا، ضحوا، هاتوا القربان!
إذ لا زلنا أكثر منكم حتى الآن!
إن الموتى يلوذون بالصمت، ونحن لا نسمعهم إلا من خلال كتاباتهم، نتكلم عنهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونا إلا بما سبق أن قالوه في مؤلفاتهم، وسنجد في هذه المؤلفات عبارات تبعث حية بعد رقاد طال أمده آلاف السنين؛ لأنها يمكن أن تقدم الإجابة عن أسئلة نطرحها اليوم، بل إننا لنستطيع أن نتوصل من قراءة النصوص المشهورة إلى كشوف قادرة على تغيير آراء كنا نحسبها ثابتة.
والتعامل مع الموتى لا يقوم إلا على الخشوع والاحترام، كأنما نقول لأنفسنا: أليس من الممكن أن ينهضوا فجأة من رقادهم ونراهم أمامنا؟! وكيف نتحمل المسئولية تجاههم، بماذا نرد عليهم إذا سألونا عما قلناه عنهم؟ إن دعاة الواقعية التافهة هم وحدهم الذين يتصورون أن الموتى قد ماتوا، وهم الذين لا يطلبون عندهم شيئا. وربما تطلعنا - في ساعات الحسرة والاكتئاب - إلى أجيال أخرى تنصفنا بعد موتنا ممن يشوهون أعمالنا ويسيئون إليها. ويدفعنا الشعور بالمخاطر التي تهدد ذاكرة التاريخ إلى القيام بواجبنا وتقديم كل ما في وسعنا للمحافظة على معاني الجلال والحقيقة التي يزخر بها وإلقاء الضوء عليها. وإزاء المحاولات المستمرة التي تبذل دون طائل منذ عهد الفراعنة لمحو آثار الماضي ونسيانه وإفساده، يمكننا أن نتصور مدى الرعب الذي أحس به نيتشه عندما تخيل أن من الممكن أن يظهر في المستقبل وحش رهيب يسخر التاريخ بأسره لخدمته، ويعمل على تشويهه، وتزييفه، وتدميره. وإذا كانت العاطفة الصادقة التي تدفع الإنسان للمحافظة على نقاء ذاكرته التاريخية مرتبطة بوجوده الزمني، فإن هذه العاطفة نفسها تصدق على الوجود الأصيل الحميم الذي يحيا في الزمان ويعلم في الوقت نفسه أن التاريخ في مساره الموضوعي ليس هو الحساب أو القضاء الأخير. إن المتعالي وحده هو المرجع الأخير، ولا يمكن لإنسان أو شعب، بل لا يمكن للجنس البشري بأسره ، أن يستأثر به لنفسه. وقد كان الاعتقاد بأن التاريخ العالمي يمثل القضاء الأخير هو الخطأ الذي وقع فيه فكر انغلق على نفسه داخل حدود المباطنة (أو المحايثة). ومع ذلك يصدق على الوجود الحميم في الزمان أن الماضي هو الأساس الذي يستند عليه، وأن تذكر التاريخ واستيعابه هما لبه وجوهره. ولهذا فسوف نحافظ على عاطفتنا نحو التاريخ ما بقينا أحياء، وسنشعر نحوه بعاطفة أكبر إذا عرفنا كيف نتمثل تجارب أولئك الذين حققوا العلو فوق الزمان وتمكنا من استيعاب أفكارهم. هناك، في هذا العلو، لا يكون الموتى أمواتا، بل أحياء حاضرين، وكل ما نفعله الآن معهم، كل ما يدور بينهم وبيننا، يتصل اتصالا مشحونا بالأسرار بذلك الحاضر الأبدي الذي اختفى فيه كل صراع ونزاع؛ لأن الحكم الأخير قد صدر فيه بكل حسم ووضوح.
هنا والآن يتم التحصيل التاريخي واستيعاب معطيات التاريخ. وعلى حياتنا الخاصة - وعليها وحدها - يعتمد الفلاسفة العظام لكي نردهم إلى الحياة.
ولكننا بهذا لا نكاد نلمس إلا لب المشكلة التي تستحوذ على اهتمامنا، ولا نعبر عما يحدث حقا في أثناء البحث التاريخي بمعناه الحقيقي. فلا بد هنا من العمل المضني، ولا بد من تحصيل المعارف الضرورية والمعلومات الممكنة حتى نقترب، في اللحظات المشرقة، من العقول الكبرى، ونبلغ الحاضر الأبدي للتاريخ.
يمكننا إذن أن نصور الصعود التدريجي نحو ما هو جوهري وأساسي في الخطوات التالية: (1)
نذكر في البداية العلم الخارجي: المعرفة التجريبية بالوقائع، والقضايا والأبنية أو السياقات، والتأثرات والتأثيرات، وهذا هو ميدان تاريخ الفلسفة بوصفه علما متخصصا. (2)
ويأتي بعد ذلك تمييز الأشكال، والصور، والمجاميع الكلية ذات الطابع الشخصي أو النسقي. هنا تبقى المعطيات الواقعية موضوعية خالصة، ترى عن بعد، بنظرة النسر المحيطة الشاملة، كأنها مشاهد متتالية، وتكون رؤية الأعمال الكبرى المؤثرة رؤية باردة غير ملتزمة، وموضوعية ذات مسحة جمالية. (3)
وأخيرا يأتي دور الاستيعاب، فيبدأ التحاور والجدال مع شخصيات تعد مثلا ونماذج أو خصوما وأعداء، وفي أثناء هذا الاستيعاب يتنبه الإنسان لنفسه ويفهم نفسه. ويتحول الموضوعي البحت إلى دالة على الوجود الحميم ، ويصبح الغريب خصوصيا، ويصير الماضي حاضرا، والوقتي العابر أبدية، وتتبدل الملاحظة السلبية فتصبح إعدادا للوجود الحميم الفعال. ومن خلال هذا الاستيعاب عن طريق التواصل الشخصي يصير الإنسان نفسه.
والخطوة الثالثة والأخيرة مسألة تخص كل فرد على حدة. أما العرض الموضوعي فيستلزم الخطوتين السابقتين، وإذا كانت تلك الخطوة الثالثة التي تحرك الدفعة وتدل على الهدف تتراجع خلف الخطوتين الأخريين، فإنها لا تستطيع أن تعبر عن نفسها إلا من خلالهما ولهذا فإن ما ندركه منها بشكل غير إرادي يبقى أمرا مباشرا. (2-4) النقطة المرجعية ليست وجهة نظر معينة، بل هي الانفتاح على الوجود الواقعي (أي على الحقيقة بوصفها الشامل الأبدي)
إن إدراك الحقيقة والواقع في تاريخ الفلسفة لا يتم بتطبيق معيار من الخارج عليه. وهو لا يتم كذلك باللجوء إلى حقيقة جزئية معينة تشغل حيزا من ذلك التاريخ وتطمح مع ذلك إلى السيطرة عليه كله وإصدار حكم القاضي عليه، وباختصار لن نفهم تاريخ الفلسفة إذا سطحناه وأخضعناه لحقيقة معروفة سلفا، وسنخفق أيضا في محاولة فهمه إذا لجأنا إلى نظام كلي شامل للوجود، يعد كل تفلسف سابق مجرد إسهام جزئي فيه، أو إلى معيار التقدم في المعرفة أو تتبع التطورات والتحولات التي طرأت على المشكلات وحلولها.
وكذلك لن نفهمه إذا أدرجناه تحت تصنيفات شكلية ومقولات تقويمية، أو أحلنا جميع أفكاره إلى أفكار نسبية تخضع للتعسف والهوى.
وسيكون من العبث أيضا أن نحول هذا التاريخ إلى ميدان حرب يقسم فيه المفكرون السابقون إلى خصوم تفكيرنا الخاص وأصدقائه.
وأخيرا لن نفهم تاريخ الفلسفة إذا اعتمدنا على التصورات الاجتماعية البشرية في مجموعها، أو ربطناه بغاية مطلوبة أو منفعة يمكن أن تعود على أهداف نسعى إلى تحقيقها في الوقت الحاضر.
كل هذا الذي ذكرناه يمكن أن يستغل في عملية استيعاب التاريخ كما يمكن أن يكون أداة في يد البحث العلمي، وأن يسمح بإنشاء سياقات معينة. وبهذا يمكن أن تتضح الواقعة التاريخية بفضل إحدى الحقائق التي تفتح أمامي - حتى ولو رفضتها - آفاقا جديدة، وتكشف لي عن إمكانات كامنة فيها . وبهذا أيضا يمثل الجدل المستمر بعدا ثابتا من أبعاد الحوار المتنوع بين الفلاسفة.
غير أن هدفنا النهائي هو الوصول إلى تصور لتاريخ الفلسفة في مجموعه؛ تصور يتغلغل إلى الأعماق وتصلح الأسس التي يقوم عليها لأن تكون نقطة مرجعية يرتبط بها الكل؛ أريد أن أرى كيف يرتفع الإنسان - في حياته الزمنية - إلى الوعي الباطن بالوجود، وكيف يتوصل إلى اليقين بالمتعالي انطلاقا مما يعرف عن الخليقة، وكيف يتخذ هذا اليقين لديه صورة موضوعية في فكرته عن الله، ومعرفته بالعالم، وتصوره لوجود الإنسان. وأحب - من خلال تجربتي للإمكانات - أن أفتح مغاليق الوجود الأصيل، كما أتوق كذلك - وأنا أغوص فيما يقدمه كل مفكر من شيء فريد في تاريخيته - أن أتوصل إلى تأمل الجوهر الذي يحمل كل فكرة جوهرية ويحيط بها إحاطة شاملة. (3) الخصائص الأساسية لتصور تاريخ الفلسفة تصورا له معناه
سنحاول الآن أن نضع أيدينا على العناصر الجوهرية العميقة في علاقة الفلسفة بتاريخها، وذلك من خلال تصور كلي يفسر هذا التاريخ في مجموعه، ويتصف بالخصائص التالية: (3-1) يجب أن يكون تاريخ الفلسفة عالميا (أ) امتداده في المكان والزمان (تناهي المكان الأرضي وتفرد اللحظة التاريخية)
تتم اليوم حركة فذة غير مألوفة مهد لها قرن من الزمان؛ فقد أصبح الناس على وعي بأن الكرة الأرضية التي يعيشون عليها مكان محدود. وبدأت الشعوب يتعرف بعضها بعضا في مواجهة واقع واحد، وأخذ البشر يشعرون بمستقبلهم ويخططون له، واضعين المكان الأرضي المحدود نصب أعينهم؛ فلم يعد في إمكان الجغرافي أن يقصر ملاحظاته على مناطق معينة، بل أصبح من واجبه أن يتوسع فيها لتشمل الكوكب كله. ورجل الدولة يجد اليوم لزاما عليه أن يضع في حسابه موازين القوة المؤثرة على مصير الكرة الأرضية قبل أن يتخذ قراراته المهمة، والسياسة العالمية لم تعد فكرا على مستوى القارات فحسب، وإنما تغلغلت في الواقع في وعي الرأي العام؛ والتاريخ بوجه عام قد أصبح تاريخا عالميا لا مجرد تاريخ غربي مغلق على نفسه على زعم أنه هو تاريخ العالم. بهذه المعاني كلها تغير كذلك تاريخ الفلسفة. فالمفكر يهتم اليوم بالضرورة بكل فكر حقيقي يتم على وجه الأرض، وفي حين يكافح رجل الدولة لتدعيم مجال الواقع وتشكيله، نجد رجل الفكر يكافح في سبيل الوصول إلى العمق ورحابة الأفق اللذين تتيحهما له أصالة وضعه الإنساني، يؤيده كل المفكرين الحقيقيين ويشدون أزره حتى يجد نفسه. ولن يشعر الإنسان حقا بأن العالم قد أصبح بيته حتى يجتاز كل نقد يتعرض له من أي مكان، ويحس أنه قد وسع أفقه وثبت خطاه.
إن المكان الأرضي لا يملؤه إلا التاريخ، ونحن لا نبلغ الرؤية العالمية حتى نتغلغل في أعماق الزمن، ولا يكون الإنسان إنسانا بحق، ولا يفهم نفسه، إلا عن طريق الماضي؛ فمعرفة التاريخ هي التي تفتح أمامنا العالم على اتساعه، وهي التي تسمح لنا بفهم الوجود الإنساني في مجموعه بوصفه وجودنا الخاص، ولهذا فنحن في حاجة إلى تاريخ عالمي للفلسفة البشرية بأسرها.
إننا نأمل، ونحن نتفلسف على هدي التاريخ، أن نكون معاصرين لكل المفكرين الأصلاء، أو نأمل - والأمر سواء - في أن نجعلهم معاصرين لنا. ونحن نطمح لتوسيع أفق حاضرنا بحيث نعايش تلك اللحظة الفذة التي تمت فيها صحوة الإنسان على وجوده في العالم، وندرك بأنفسنا أن صحوة الوعي هذه كانت فعلا فريدا متسقا، وأنها قد تمت - من وجهة النظر الكونية الشاملة - في لحظة خاطفة نسميها التاريخ العالمي. ونحن نتمنى أيضا أن تكون لدينا القدرة الكافية على التحليق فوق قرون من التطور المتصل بحيث تتقلص في لحظات تبدو في مجموعها جهدا واحدا نشارك في كفاحه من أجل الوضوح، والواقع، والأبدية.
ونحن نرجو أخيرا أن نتمكن من الوثوب في الحاضر الأبدي للوجود؛ هذا الحاضر الذي يتجلى في كيان الإنسان على تلك الصورة التاريخية.
ونحن نحاول، بقدر ما في وسعنا، أن ننفذ إلى الأزمنة السحيقة والأماكن الموغلة في البعد، حريصين على التحرر من كل وجهات النظر التي نجدها فيها لكي نحتفظ بالمرونة الكافية للمشاركة في كل واحدة منها. ويظل هدفنا الأخير - ونحن نتغلغل بأرواحنا في الأبعاد الشاسعة - هو تولي مسئولية وضعنا الخاص في التاريخ وتحقيقه بمزيد من الحرية والتصميم والوعي، بحيث لا نتخلى عنه إلا بالموت؛ إذ إن الأبدية وحدها هي التي تجعله أمرا نسبيا وهي التي تحفزنا على إطاعة الحقيقة الواحدة. (ب) العالمية بوصفها مرآة
إن النظر إلى الواقع البشري في سياق التاريخ العالمي هو الطريق المؤدي إلى الوجود الإنساني في تمام حريته ونقائه؛ فالصورة العالمية وحدها هي المرآة المستوية الصافية التي يمكن أن يرى فيها الإنسان نفسه ويفهم نفسه. وفي هذه المرآة وحدها تتحقق جميع الإمكانات الإنسانية، ويتم إدخال التعديلات الضرورية على الصورة المحدودة المرتبطة بمعرفة الذات. غير أن الحصول على هذه المرآة العالمية - التي لا تتوافر أبدا بصورة مكتملة - أمر يتوقف على المستقبل ويحتاج إلى المعرفة المحيطة الشاملة، كما أن بحثنا الدائب عنها هو الذي يحفزنا على تفجير كل الحدود وتخطيها. إن الحدود تشدنا إليها بقوة، ولكن الاستثناء الخارق يسطع أمامنا كالمنارة. وما يبدو لأعيننا كأنه أغرب الغرائب يستثير شغفنا ويؤثر علينا عن كثب.
وبعد أن نحبس أنفسنا داخل عالم ثقافي رائع ومتنوع إلى أبعد حد، نجد أنفسنا مندفعين للرجوع إلى الأصل الذي نبع منه، هنالك نعود لاكتشاف الخصائص الأولية للإنسان، وننفتح على دوافعه الأساسية ومواقفه الجدية. ونعتقد عندئذ أننا نتعرف شيئا ظل خافيا عنا في كل ثقافة رفيعة، ونحاول أن نلتمسه في جذور الحضارات الكبرى؛ عند الإغريق وغير الإغريق، وعند الشعوب البدائية. ويدفعنا تعطشنا إلى أصلنا إلى الإمساك بمرآة تعكس كل الأصول الأخرى. إن الجوهر الذي انبثقت منه الفلسفة الحقيقية قد كان ولا يزال كامنا في أنفسنا منذ عهود بعيدة ممتدة إلى ما قبل التاريخ، دون أن نشعر به في أي وقت من الأوقات شعورا واضحا جليا، ولكننا نبدأ في تعرفه في التاريخ العالمي، هذا التاريخ العالمي في مجموعه هو مرآة الوجود الإنساني التي تكشف عما يكمن فينا من إمكانات، وما حققناه في الواقع، وما لا يزال راقدا في أعماقنا. وتاريخ الفلسفة هو أداة استيعاب الفلسفة بصورة عالمية، وهو في الوقت نفسه مرآة الوجود الإنساني كما هو مرآة الفلسفة التي نحققها في أنفسنا. (ج) العالمية في تعدد الظواهر
هناك شيء واحد غير محدد - متعلق بالوضع الإنساني، والوجود، والعلو - يخاطبنا من ثنايا التاريخ العالمي ويشدنا إليه، دون أن نتمكن من الإمساك به بصورة مباشرة، ولهذا نسأل أنفسنا: كيف نتوصل إلى هذا الشيء الواحد من خلال ما هو عالمي، ما دمنا لا نطلب هذا الأخير إلا من أجله؟
إن التفكير الفلسفي - بكل ما يتسم به من التشتت واتساع الرقعة - يتجه نحو تفهم الأصيل تفهما حقيقيا. ولا بد لهذا السبب أن يكون تاريخ الفلسفة جذريا؛ فتتبع جذور الأفكار هو الذي يمكنه من فهم فروعها، وكلما تقدم هذا البحث اتضح أن الوجود يتجلى في العالم بصور مختلفة وأساليب متباينة، فهناك عدة لغات أولية تعبر عن الأصول الفلسفية، لدينا بالمعنى الحرفي اللغات الهندو-أوروبية واللغات الصينية، ولدينا بالمعنى المجازي الأشكال الأساسية للمقولات العقلية ورموز الكتابة بالشفرة.
غير أن هذه الأصول الفلسفية المتجاورة ليست منقطعة الصلة فيما بينها؛ فتعدد الأصول يتيح للناس من كل مكان أن يحتكوا بعضهم ببعض عبر جسور التاريخ، وأن يتبادلوا الأفكار ويفهم بعضهم بعضا، وتنشأ بينهم أواصر قرابة تربطهم بالأصل - على الرغم من اختلاف ظواهره؛ قرابة تجمع بين كل أولئك الذين مروا في حياتهم وفكرهم بتجربة تجلي الوجود، وعرفوا كيف يعبرون عن هذه التجربة وينقلونها إلى غيرهم. والواقع أن كثرة الأصول التاريخية لا تحول دون التواصل بل تجعله أمرا مطلوبا؛ فالحقيقة تتوق دائما إلى التعبير عنها، وتتجه بندائها إلى الآخرين، وتنتظر الجواب منهم، وتضع نفسها منهم موضع الاختبار. والتنافر الشديد بين اللغات المختلفة التي تعبر عن الأصل يدفعهم إلى اللقاء والمواجهة. ويمكن أن يمتد التواصل ليشمل الأرض بأسرها، وذلك بقدر ما يستيقظ الوعي بوحدة البشرية في ضمير كل إنسان، بل يبدو أن كل الحركات العقلية تستمد أهميتها من حتمية كونها مسألة تهم البشرية جمعاء.
إن العالمية هي الاستعداد لهذا التواصل والقدرة عليه، والدولة أو المجتمع الذي يغلق حدوده في وجه إبداعات المجتمعات الأخرى في الفكر والعلم والدين والفلسفة والفن أو يحرمها من إبداعاته هو مجتمع أنكر إنسانيته. عندئذ تتصدع الإنسانية، وتفقد القدرة على سماع صوتها وفهم ذاتها. والواقع أن عملية التواصل التي تعبر عن القدرة العالمية على تلقي التأثير الروحي وممارسته عملية ذات مستويات متنوعة ومعاني متعددة. (أ)
إننا نفهم ماهية الشيء الجزئي فهما أعمق إذا عرفنا شيئا آخر نقارنه به ونضعه في مقابله، بحيث تظهر أوجه التباين بينهما، والمقارنة هي التي توجه الرؤية وتثير التساؤل. وكلما اتسعت آفاق المقارنة اتضحت نقط الالتقاء والافتراق، وظهرت عوامل الاختلاف والاتفاق.
إنني أقارن ما هو خاص بي بما هو غريب عني، وأحاول عن طريق هذه المقارنة أن أنظر إلى أفكاري بأقصى حد ممكن من التجرد. وبهذه المقارنة تتدرب عيني على اكتشاف أنواع التحيز فيما أسلم به كأنه أمر بديهي. وتتضح هذه التحيزات عندما أقابل بينها وبين ما هو غريب عني. فالفكر الصيني على سبيل المثال يمكنه أن يحررنا، على الرغم من أنه هو نفسه ظل أسير أفكار مسبقة عن العالم لم يستطع التخلص منها.
بيد أن المقارنة بين ما يجيء مني وما يأتي من مصدر أجنبي عني تقتصر دائما على ما تم إبداعه والتفكير فيه، وما أريد قوله أو تصوره، ولا تنصب أبدا على الأصل. تلك هي حدود المقارنة. فهي تتطلب النظر من الخارج، وتقتضي الوقوف من بعيد، فإذا تعلق الأمر بالوجود الأصيل الحميم أصبحت المقارنة من المحال، وإذا حاول المرء القيام بها أضاع وجوده وفقد صدقه. إنني هنا لا أنظر من الخارج، وإنما ألتمس الأساس التاريخي الذي تقوم عليه إنسانية واحدة شاملة. وأنا لا أريد أن أتحول إلى كائن محدود ضيق الأفق، وإنما أحاول - بقبول الوضع التاريخي لوجودي - أن أكون إنسانا ممتد الجذور إلى أعماق هذا الوجود، غنيا بمضمونه. وليس يكفيني كذلك أن أميز نفسي عما هو غريب عني، وإنما أطمح إلى استيعابه وتمثله، وأتواصل معه لكي أعارضه وأتحد به في آن واحد؛ فلا أنا أقلده، ولا أنا أنكره، بل أسعى إلى صحبته على الطريق المؤدي إلى قلب التواصل. (ب)
ربما صور لي الظن أني بالغ هذا كله بالفهم، فأنا أفهم ما لا أحتاج أن أكونه أو أصير إليه. وباستطاعتي أن أفهم أفلاطون دون أن أكون أفلاطون. والفهم يمكنني من مشاركة غيري في الموضوعات التي يفكر فيها، والدوافع التي يصدر عنها، والمشاعر التي يحسها، والانفعالات التي يجيش بها وجدانه. والفهم - أو بالأحرى التفهم - أداة صالحة لإدراك حركات النفس، والعقل، والوجود. وإذا فهمت غيري ووجهت جهدي نحو الإنسانية بأسرها فقد صرت عالميا، وشعرت كأني في كل مكان في بيتي.
لكن الأمر في الواقع ليس كذلك.
فالاعتقاد بأنني أصبحت كل شيء لمجرد أنني فهمت كل شيء لا بد أن يلغي ذاتي ويردني إلى نقطة اللاوجود والملاحظة الصرف، ويحيل حياتي إلى شيء عرضي لا مطلب له ولا مصلحة فيما يفهمه. كما أن الفهم نفسه يضيق أفقه ويزداد شحوبه كلما قل وجودي أنا نفسي، هنالك يفلت مني الآخر في الوقت الذي اعتقدت فيه أنني فهمته وأصبحت قادرا على التصرف فيه، وربما صورت لي معرفتي المزعومة - حين أشبهها تشبيها خاطئا بالمعارف التي تقدمها العلوم الطبيعية - أنني أستطيع أن أستخلص منها مناهج فعالة وصالحة للتحكم في الجماهير والسيطرة على شعوب أخرى وأناس آخرين يحيون حياة تاريخية مختلفة عن حياتي.
إن الحد الذي يميز الفهم يتمثل في أنه لا يكون تأملا موضوعيا خالصا إلا في مرحلة انتقالية عابرة؛ فأنا في النهاية لا أفهم إلا إذا كنت قادرا على أن أكون أنا نفسي، كما أنني لا أتقدم في الفهم إلا إذا حولته إلى فعل باطن، إلى استيعاب، وحركة وحركة أخرى مضادة، وأزمات يتولد عنها وجودي الحميم. (ج)
إن الفهم من خلال التواصل يعني في الوقت نفسه أنه صراع، وهو صراع من نوع خاص، لا من أجل القوة، بحيث ينتصر طرف على طرف ، بل من أجل الحقيقة التي يكتشف فيها الطرفان نفسيهما.
والجدال خاصية أساسية من خصائص التواصل الفلسفي، ولكن الجدال المنحرف أو المجادلة هي التي تصر على أن تنتصر، وأن يكون معها الحق، وأن تستبعد الطرف الآخر وتجعله نسيا منسيا ... إلخ . وهي تلجأ في سبيل ذلك إلى تطبيق مناهج نفسية وحيل تقنية معينة، وكلما وجدنا الجدال يساء استخدامه بهذا المعنى في تاريخ الفلسفة كان ذلك دليلا على أن هذا التاريخ قد جانب الحقيقة، غير أن التواصل مع تفكير آخر مختلف يتخذ شكل الصراع، والتساؤل، والاعتراض، والدحض، كما يدفعه إلى أن يضع نفسه موضع السؤال وينصت بأمانة لما يدور في نفسه.
وهكذا تستقر سكينة الحقيقة وصفاؤها في هذا الصراع الأخوي الفياض بالحب، ويعمل الجدال على تدعيم أواصر المشاركة الروحية الباقية. (د)
إن التواصل العالمي يعمل بصفة أساسية على توسيع أفق الوجود الإنساني عن طريق الاستيعاب المتبادل بحيث يكسب طرفا الحوار ويزدادان ثراء، وهو يفتح لهما الطريق إلى أعماق الوضع الإنساني، ويثبت في الوقت نفسه انتماءهما إلى جذور التاريخ العالمي. ولهذا تدل المشاركة في التاريخ العالمي على تفتح إمكانات الإنسان من هذا الأساس التاريخي هنا والآن، في هذا الموقف وهذا الزمان. (د) العالمية هي الطريق المؤدية إلى الكلية
تقوم التاريخية الخاصة على أساس تاريخية الكل: (أ)
ينبغي التفرقة بين العالمية المشتركة بين الجميع، والكل التاريخي الواحد الذي يشارك فيه كل منا؛ فالمعرفة الدقيقة الملزمة، وبعض القوانين والمطالب الأخلاقية، والقدرة على التفاهم المتبادل - أيا كان نوعه وكانت حدوده - كلها أمور عالمية. أما صور الإيمان وأساليبه، وفعل العلو، ورؤية ماهيات الموجودات، فلا تتحقق إلا في الكل التاريخي أو من خلال التاريخ في كليته.
وينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة عالميا؛ أن يجذب إلى دائرته أغرب الأشياء وأبعدها عنا، أن يقترب من صميم الكل وأساسه، ويلمس ذلك الذي يربط كل إنسان بكل إنسان - وليس هذا الرباط مجرد وسط أو مجال عام يجمع بينهم، وإنما هو ذلك الذي ينشئ العلاقة بين جميع الأفكار ويجعلها تتبادل التأثير والتأثر بصورة حية مباشرة.
إننا نحس بهذا الكل الشامل ينبثق أمامنا كلما استمعنا إلى شيء يكلمنا بصوت يختلف عن صوت «العام» وحده ويزيد عليه، وكذلك نحس بأننا ننجذب - بفضل فكرة التواصل العالمي الممكن، وارتباط جميع العبارات بعضها ببعض - نحو الحضور الأبدي الذي يحتفظ بوحدته على الرغم من تغير الظواهر وتشتتها. بذلك نجرب الوحدة التي هي أصل الكل وهدفه، وهي وحدة المتعالي التي تتخطى كل وسائط التعبير العالمي ووحدة تاريخية العالم والوجود الإنساني.
ومن الخطأ الظن بأن هذه الوحدة يمكن أن توجد في عالمية الوعي بوجه عام، أو في فكرة روح كلي تعبر الحضارات عن بنيته «هيجل» ويحتل فيه كل شيء مكانه العضوي، وكأن التاريخية بما هي كذلك ليست إلا عنصرا يدخل في تكوين الكل ويمكن معرفته عن طريق هذا الكل المعروف من قبل. (ب)
ذلك أن كلية الواحد التاريخي لا تكون أبدا تحت تصرفنا، فنحن نميل بطبعنا إلى تمثلها - بالإحساس المسبق - في صورة عمومية عالمية أو شكل نوعي ونهائي للتاريخية، ولكن الفكرة المحركة لتاريخ الفلسفة تظل هي الكشف عن أقصى درجة من الوحدة في التفكير وفي الصورة. وهذه الوحدة تتجلى في تفتح العقل، والحرص الدائم على التواصل، لا في معرفة تامة منتهية.
ولن نجد الكلية أبدا، لا في العام ولا في حقيقة ندعي أننا قد اكتشفناها في مكان ما من العالم، وأنها هي الحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن يهتدي الناس بها، والوحي الخاص الذي ينبغي أن يلتزم به الجميع. (ج)
إن فكرة الفلسفة العالمية المقبلة فكرة لا مفر منها، ولكنها لن تتحقق في مذاهب ماسخة تتظاهر بأنها عالمية، ولا بالرجوع إلى الرواقية القديمة، ولا في لغة براجماتية «نفعية وعملية» أنجلوسكسونية، تسمع اليوم في كل مكان من الكرة الأرضية؛ فالفلسفة العالمية لن تصبح حقيقة إلا بالانفتاح على الكل الذي يتجلى تجليا تاريخيا في انعكاسات النور الأصلي وإشعاعاته المتشابكة المتتالية.
إن الفلسفة العالمية المقبلة ستكون بالضرورة هي المكان الذي يزداد فيه وضوح التاريخية النوعية لكل تفكير فلسفي خاص بقدر اتصاله بتاريخية الوجود الإنساني في مجموعه .
وستكون الفلسفة العالمية هي أورجانون (أداة) العقل، والنسق الكامل لجميع إمكانات الفكر؛ إنها تخلق الانفتاح غير المحدود للفهم، وتمهد الأرض الصالحة لتحقيق التاريخية الخاصة - والمطلقة بغير أن تكون نهائية - لكل إنسان، وتهيئ أنضج صياغة ممكنة للأفكار، وتحرص على أن تكون صورة التاريخ العالمي للفلسفة كلية وتاريخية إلى حد مطلق. (3-2) ينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة عيانيا (أو حدسيا) (أ) لا يوجد عيان (أو حدس) إلا بما هو جزئي خاص
لا تتكشف ماهية العمل أو المؤلف حتى يستعاد العالم والموقف الذي أبدع فيه، ويتجدد التفكير في الفكرة التي ألهمته بكل ما تزخر به من معان، وعندئذ تتجلى الفلسفة الخالدة من خلال وضعه التاريخي. (أ)
ينبغي إعادة التفكير في كل ما أنجزه المفكر بمعايشة الموقف الذي وجد نفسه فيه، والظروف والعالم الذي قضى حياته في ظله، ولا غنى عن المعرفة التاريخية بالتفصيلات الدقيقة لكل الموضوعات التي استوحى منها أفكاره، واستمد منها تشبيهاته واستعاراته؛ وذلك للاقتراب من مضمون تلك الأفكار وإدراك معانيها الدالة ودوافعها ومقاصدها. (ب)
ثم ينبغي أن تدرك الفكرة نفسها في نقائها وتكاملها؛ فالتغلغل في النص بغية تفسيره تفسيرا شاملا مستقصيا يقتضي التوقف عند أدق التفصيلات، والعناية بتتبع تطوراته وأخص تفريعاته، ولا تتضح الفكرة إلا من خلال عمق مضمونها الموضوعي. ويتعين على من يعيد التفكير في أفكار مؤلف قديم لتبين دلالتها أن يهتم بالموضوع أو المشكلة المطروحة، وأن يفهمها ويطرحها على نفسه كما لو كانت مشكلته الخاصة؛ وبذلك يستخلص القيم الموضوعية والكامنة في النص المأثور. ولا بد من الفهم النافذ لما يدور حوله النص من الناحية الموضوعية؛ إذ إن الفهم الكامل للنص يشترط أن يطرح القارئ أو الشارح على نفسه المشكلة التي يطرحها النص، أو أن يجعل الموضوع الذي يدور حوله موضوعا خاصا به؛ عندئذ يمكن أن يتوصل الشارح إلى فهم المؤلف أفضل مما فهم به هذا المؤلف نفسه (وذلك على حسب تعبير كانط). (ج)
وأخيرا فإن العيان الفلسفي يتيح إدراك الأبدي فيما هو جزئي ذو صفة تاريخية.
إن الفلسفة الخالدة وكل الأشكال التي تتخذها الأبدية لا يمكن أن تدرك كما هي في ذاتها، بل تدرك من خلال الظواهر التاريخية، فالأبدي لا يوجد أبدا بصورة مطلقة أو نهائية في أي شكل من الأشكال الجزئية، وإنما يوجد في كل مكان وزمان، في كل موجود جزئي، وفي مجموع حركات هذه الموجودات تجاه بعضها، وهو لا يتجلى إلا للعيان الفلسفي الذي ينفذ في اللانهائي، والذي يحقق العلو على نفسه حين يحقق نفسه، لا في ذلك النوع من العيان الذي يكتفي بملامسة الظواهر ولا يتجاوز سطوح الأشياء. (ب) الرؤية العيانية تلجأ للنماذج والصور
يتعرض العيان للضياع في اللانهائي إذا لم يتشبث بصور تظل على الدوام مؤقتة ونسبية، وكل الروايات التاريخية تبلور في صور ما قد كان في حينه حركة حية، وتوحد وتثبت وتتم ما لم يكن في الواقع إلا توترا، وتصدعا، وتخطيطا غير مكتمل. ولكن العيان لم يكن ليتسنى له، بغير هذه النماذج والصور، أن يصل إلى الثبات والاستقرار، أو يرى نفسه رؤية واضحة، أو يتقدم في سيره في الأعماق المضيئة.
صحيح أنه لا توجد صورة صادقة في ذاتها؛ فهي تتوقف على النشاط العياني، كما أنها مجرد وسيلة يلجأ إليها العيان وليست شيئا بلغ ذروة الكمال. ولهذا يجب التفكير من الناحية المنهجية في وضع نماذج واضحة وملموسة، ثم يجب بعد ذلك وبالوضوح نفسه أن نجعلها نسبية، وأن نذيبها ونلقي بها مرة أخرى في تيار الحركة، وذلك بعد أن تكون قد نجحت - ولو للحظة واحدة - في خلق الوهم بالكمال. (ج) الارتباط بين ملكة العيان والعالمية
إن الانفتاح على العالمية ليتوه في الفراغ إذا استغنى عن الرؤية العيانية واكتفى بالتعميمات المجردة. كذلك تضل الرؤية العيانية للجزئي في الغموض والاضطراب الذي لا حد له إذا لم تستند إلى العالمية.
إن الكل ينعكس في الجزئي كما ينعكس العالم في قطرة الماء، والمعرفة الكاملة بالجزئي مساوية للمعرفة بالكل؛ لهذا يتعذر الوصول للعالمية الأصيلة بغير الرؤية العيانية العميقة للجزئي، كما أن الطاقة اللازمة للنفاذ في الجزئي تستمد قوتها من رحابة العالمي. ولا تتحقق العالمية إلا بقدر ما تقوم في أساسها على التغلغل في صميم الجزئي.
إن تجميع الدقائق والتفاهات التي لا نهاية لها، وإطلاق التعميمات الفارغة، أمران متلازمان تلازم الرؤية العيانية الخصبة للجزئي والعالمية الغنية بالمعنى والمضمون.
والاستقطاب (أو التقابل الضدي ) بين الرؤية العيانية والعالمية هو الذي تتولد عنه المناهج المتنوعة التي تلقي الضوء على تاريخ الفلسفة. ويتحقق هذا على أفضل صورة في المؤلفات التي تعرض لموضوع واحد أو شخصية واحدة (المونوجرافات). وهو يستلزم في كل مرة أن نحاول تقديم صورة تخطيطية عامة لتاريخ الفلسفة؛ هذه الصورة التي تكون بحسب الفكرة المقصودة منها أهم شيء، في حين أنها في الواقع شيء هش وواه إلى أبعد حد. ويرجع هذا إلى أن المفكر الفرد يعجز بطبيعته عن التعمق الحقيقي المطلق إلا في المواضع القليلة النادرة، ولهذا يضطر في بقية الحالات إلى الاكتفاء بالنتائج التي تقدمها له «المونوجرافات»، والقناعة ببعض الحقائق التي يعثر عليها بالصدفة المواتية. ولكن إذا تيسر وجود مفكر تعمق تاريخ الفلسفة تعمقا حقيقيا فينبغي عليه أن يغامر بتقديم لوحة إجمالية عنه؛ لأن ذلك في الواقع واجب يتعين القيام به مرة بعد مرة. ولو لم تكن لدينا مؤلفات تضم المعرفة الشاملة المحيطة بتاريخ الفلسفة لما كان للمونوجرافات مكان بيننا. (د) بهجة العيان الفلسفي
يبلغ الإنسان ذرى الحكمة والبصيرة عندما يتحالف عالم الفكر مع فهمنا للنص فنكتشف بأعيننا ما ينطوي عليه الموضوع (الذي يتناوله هذا النص) من غنى وثراء، ويتضح أمامنا صدق العبارة، وتوافق الأسلوب مع استخدام الكلمات، ونشعر أن هذا كله قد تآلف مع وضوح الوعي المعبر عن نفسه، واتحد مع الدوافع والقوى المبدعة التي اكتسبت لغة تنطق بها، ومع المتعالي الذي يفصح عن نفسه في هذه الرموز والشفرات؛ عندئذ تتخذ الظاهرة التاريخية العينية شكلا مجازيا يرمز لذلك الذي يعود عودا أبديا، ذلك الذي يعد فريدا نسيج وحده، والذي يختلف اختلافا جذريا عن أي شكل من الأشكال التي تتصف بالعمومية.
ما أروع السعادة والبهجة التي نشعر بها إذا استطعنا أن نهب أنفسنا لمثل هذا التأمل العياني! لن نشاهد أحلاما، بل سنعاين الواقع الحاضر الحي. ولن نكون بصدد بناءات عقلية مصطنعة، بل سنجرب - عبر هذه البناءات التي استعان بها التفسير - ذكريات عن الواقع الذي استعدناه. وسوف يفتح المنهج التجريبي أبوابه لأعجب التجارب قاطبة ، فكل ما تلقيته من الخارج على هيئة معلومات تاريخية أحفظها في ذاكرتي يصبح كأنه ذاكرتي الخاصة، ويلقي أضواءه الساطعة على ما كنت أعرفه من قبل، وليس هذا تأملا سلبيا، وإنما هو النشوة التي تحلق بوجودي، والأصل الذي ينبع منه نشاط جديد. وهذا هو الذي يعبر عنه «جوته» في الجزء الثاني من فاوست حين يقول:
أشعر أن الروح الحي تغلغل في،
تتراءى لي الأشكال جليلة،
والتذكارات أجل. (البيتان رقم 1789 و1790) (3-3) ينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة بسيطا
لو نظرنا إلى تاريخ الفلسفة نظرة خارجية لوجدنا أن مادته لا حد لها ولا نهاية، وعندما يركز هذا التاريخ في كل واحد، يتحول غياب الحد والنهاية إلى تجربة باللانهائية.
وينبغي على تاريخ الفلسفة في مجموعه أن يتوخى البساطة (فدوائر المعارف وحدها هي التي تحرص على تجميع المادة المهمة، أو المادة التي يمكن أن تصبح مهمة في يوم من الأيام). كما يجب أن يجتهد تفسير هذا التاريخ في إلقاء الضوء على الفكرة الأساسية، وأن يحرص على البساطة دون تبسيط، ويبرز الجوانب الجوهرية مع العدول عن الجوانب العرضية والثانوية. ولا تتأتى البساطة بلصق الشعارات السريعة، وإجراء التصنيفات السطحية، بل بالنظرة النافذة التي تدرك البسيط وتفطن لإمكانية التطور اللامتناهية الكامنة فيه. وليس تأثر المرء إلى حد الانفعال، ولا شغفه بتحقيق هذه الغاية أو تلك، دليلا على البساطة، وإنما الدليل عليها هو أن تستولي عليه وتأخذ بمجامع نفسه. وليس البسيط هو ما نفهمه في سهولة ويسر، وإنما هو الذي يساعد على تركيز العقل وتجمع الروح.
ويتحتم على تاريخ الفلسفة بمعناه الحقيقي أن يحاول إدراك الأصول والخصائص الأساسية، بجانب إدراك الوثبات الجديدة والقمم الرفيعة؛ بحيث يجعلنا نفهم علاقتها بالكل، ونشعر بتعبيرها الأمين عن الواقع. كذلك يتعين عليه أن يتخلى عن الاهتمام بالوفرة في المعلومات التي يسهل الحصول عليها لكي يتمكن من إظهار الثراء الكامن في الأفكار والحقائق التي تملك النفس وتستولي عليها. وينبغي عليه في النهاية أن يتوصل إلى عنصرها البسيط الذي يحسم الأمر ويفصل في اتخاذ القرار.
بهذا يمكن لهذا التاريخ - الذي يسير على طريق البحث عن المبادئ الأساسية، وحركات الوعي المطلق ومواقفه الكبرى، والعوالم والأبنية الرئيسية - أن يتحول إلى مدخل إلى الفلسفة. إنه يكشف لنا عن المسار الفلسفي نفسه، وما انتهى إليه خلال صيرورته عبر الظواهر والأشكال التاريخية، ولكنه يكشف عن هذا المسار في بساطته، وهذه البساطة تكثف حضور الفكر، وتحول دون تلاشيه في التجريدات، وهي تبرز من أعماق الباطن وتحقق في الحاضر ما لو رأيناه من الخارج لوجدناه يتبدد في تشتت الآراء وتعددها بغير نهاية. (3-4) ينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة نفسه فلسفة
لماذا نشغل أنفسنا بتاريخ الفلسفة؟
ربما كان الدافع على ذلك هو الفضول: لكي نتعرف تاريخ الأوهام البشرية، أو ربما كان وراءه الاعتقاد بضرورة نفسية واجتماعية مزعومة؛ لفهم مرحلة منتهية من مراحل التطور الإنساني، وهي المرحلة السابقة على عصر العلم، وتتبع سياق الأسباب والمسببات العجيبة التي أدت إلى اكتشاف الصواب من ثنايا الخطأ، وظهور الحق من خلال طوايا الباطل. وربما جاء الاهتمام بتاريخ الفلسفة عن ميل إلى الترف العقلي: فينكب الإنسان على لعبة عقيمة يملأ بها أوقات فراغه، أو عن حذلقة جوفاء تسجل كل ما وقع بحذافيره، وتضع كل ما يمكن أن تطلق عليه صفة الفلسفة في موسوعة تضم وقائع التاريخ العقلي التي لا حصر لها.
غير أن أمثال هذه الدوافع وما شابهها غير كافية؛ وهي ترتد في النهاية إلى نفي الفلسفة وإنكار حقيقتها. إنها تبين أن السبب الكافي للاشتغال بتاريخ الفلسفة لا يمكن إلا أن يكون هو التفلسف أو التأمل الفلسفي نفسه، ولن يكون لهذا الاشتغال معنى إلا إذا انشغلنا بالأسئلة والأجوبة التي نلتقي بها في تاريخ الفلسفة. وإذا لم نفعل هذا فلن يخرج الأمر عن تحصيل معلومات عقيمة، معلومات خارجية عن واقع مضى ولم يعد يعنينا في شيء. أو ربما لا نخرج - بإنكارنا للفلسفة على هذه الصورة - عن تحقيق بقية من الفلسفة أو فلسفة سلبية تتسلى باللهو الطائش بالأفكار الفلسفية، وتفرغها من معانيها، وتعبث مع ذلك بعظام أجسادها الميتة عبث المشعوذين، أو تستخدمها في تعذيب النفس.
ولا معنى لتاريخ الفلسفة إلا بالقياس إلى التفكير الفلسفي نفسه، الذي يشعر بانتمائه الأصيل إلى الشخصيات التاريخية المعبرة عنه، ويحرص على تأكيد حياته بمداومة النظر فيها. إننا نريد أن نجد فيه ما يحثنا على التفلسف، نريد أن نجرب في الحاضر ما هو بطبيعته أبدي، وإن كان لا يظهر في التاريخ إلا في صور وأشكال جزئية. ونحن نفهم أنفسنا حين نفهم تاريخ الفلسفة، ونستمد الشجاعة من النماذج التي يقدمها لنا. كما أننا نتواضع ونعرف حدودنا عندما نرى أن كل ما هو عظيم قد كتب عليه الفناء والعزلة، وأنه يظل في نهاية المطاف شخصيا وفريدا. ونحن ندخل في حوار باطن مع الماضي، ونمد آفاق حاضرنا عبر آلاف من السنين، إن هذه الآلاف من السنين لم تنطو بالنسبة إلينا، فعلى كل واحد منا أن يقرر بنفسه ماذا يبقى منها حيا، وماذا يستحق أن يبعث للحياة، ماذا سيطويه النسيان، أو سيلحق بنا على جناحيه، أو يتركنا في حال من اللامبالاة وعدم الاكتراث.
إن إقبالنا على تاريخ الفلسفة عن رغبة واهتمام هو نفسه نوع من التفلسف. ولا بد الآن من توضيح هذا عن كثب: (1)
لن يفهم الفكرة الفلسفية إلا من يقدر على التفلسف. ويعتقد بعض الناس اعتقادا ساذجا أن معرفة اللغة التي كتب بها النص الفلسفي تكفي لفهمه فهما عقليا واضحا، ويأخذون هذه المسألة كأنها أمر بديهي. ولكننا نطرح هذا السؤال: وماذا نفهم نحن حقا من فلسفة الماضي؟ إن الإحاطة بالمؤلفات الموجودة، ومعرفة المضمون العقلي للأفكار المثبتة فيها، والإلمام باستدلالاتها الصورية، والقدرة على تحديد التصورات والمفاهيم؛ كل هذا الذي ذكرناه لا يرقى إلى مستوى الفهم؛ فالفهم معناه أن نضع أنفسنا فيما نريد فهمه، لنتمكن من إعادة التفكير فيه انطلاقا من الأصل الذي انبثق عنه ، تتبع الفكرة العقلية لإدراك الحدس (أو العيان) اللامعقول الذي عبرت عنه ومشاركة المؤلف فيه، السماح لما لا يمكن قوله باللغة المباشرة بالتأثير على أنفسنا، الإنصات لما أراد المفكر أن يوصله إلينا بطريقة غير مباشرة. مثل هذا الفهم الحقيقي لا يتيسر إلا في حدود معينة، وبشروط ترجع إلى القارئ نفسه الذي يسعى إلى الفهم، وترتبط بحياته العقلية، وموقفه، وواقعه.
إن الذي يقدر على طرح السؤال الفلسفي هو الذي يستطيع أن يكتشف الجوانب الفلسفية المهمة في النص. والقاعدة تقول: «لا يدرك الشبيه إلا الشبيه.» ولكن ليس معنى هذا بحال من الأحوال أن نلتمس من النص تأييد رأي أو فكرة تشغلنا، وليس معناه كذلك أن تاريخ الفلسفة «ترسانة» نستخرج منها الأسلحة والحجج التي تبرر تفكيرنا الراهن (وكأن أمر التاريخ في ذاته سواء، أو كأن الحاضر يمكنه أن يستقل بنفسه ويستغني عن أساس يستند عليه). فالواقع أن الأمر على العكس من ذلك، وأن القارئ الذي يتفلسف بنفسه يستطيع أن يدرك الأفكار الفلسفية ولو كانت مضادة له، غريبة عليه، نابعة من أصول أخرى مختلفة عن أصوله تمام الاختلاف. إن المهم في الحقيقة هو التفلسف في حد ذاته، فهو الذي يتيح لي أن أتفلسف مع كل فيلسوف وأن أشارك في كل فلسفة ممكنة. ومع ذلك فثمة حد جديد يقف عقبة أمامنا، ويتصل بما نسميه «المستوى». فعلى المستوى الذي يستند إليه وجودنا وتفكيرنا يتوقف فهمنا لما هو قريب منا، أو مضاد لنا وغريب عنا. ومن السهل علينا أن ننفذ ببصرنا إلى المستويات الدنيا ونحيط بها، أما المستوى الذي يرتفع عن مستوانا فيظل عصيا ممتنعا علينا. من أجل هذا يثير فينا التفلسف الأصيل موقفا أساسيا: فنكون على استعداد لتسلق المستوى الأعلى، أو على الأقل لرؤيته والانتباه إلى وجوده، بحيث يصبح بالنسبة إلينا حدا ودافعا يحفزنا على التقدم، ويدلنا على سر لم ينكشف حتى الآن، وهذا الموقف الذي ذكرناه يتطلب القدرة على الإنصات ورد الفعل، والشعور بأننا لم نفهم بعد، وأن علينا أن نبذل الجهد للتوصل إلى الفهم، بحيث يكون هذا الفهم فعلا باطنا تكابده النفس بكل كيانها لا مجرد نظر عقلي.
وينتج عن هذا من ناحية أخرى أن نفقد كل اهتمامنا بالمؤلف الذي اعتقدنا يوما - وهذا أمر نادر - أننا قد أحطنا بتفكيره كله؛ ذلك لأن مثل هذا المؤلف لن يكون في نظرنا فيلسوفا، ولن يبقى منه إلا الفكر العقلاني الذي يتعامل مع المفاهيم، ويعرفها، ويوفق بينها، ويتصور أنه قد وضع يده على الكل. بيد أن المفكرين الذين لهم شأن في تاريخ الفلسفة هم أولئك الذين يكافحون ويصارعون، أولئك الذين لا يدعون أن السر قد كشف لهم القناع عن وجهه، والذين ندرسهم فلا نتعلم منهم مادة معرفية فحسب، بل يشدوننا في مجرى الصراع الدائر في داخلهم، ويعينوننا على تجربة دوافعهم ومطامحهم. ولن تكون لدراسة تاريخ الفلسفة أية قيمة ما لم يستمر فيه الكفاح المتصل للوصول إلى الرؤية الفلسفية الخاصة.
لنتمسك إذن بالتواضع ونحن نقبل على هذه الدراسة، فلم يتسن حتى الآن لإنسان واحد أن يطلع على جميع مؤلفات جميع الفلاسفة، أو يعرف كل اللغات التي تم بها التفلسف معرفة كافية. أضف إلى هذا أن حدود تفلسفنا الخاص هي نفسها التي تحد من قدرتنا على تصور تاريخ الفلسفة وفهم قدامى الفلاسفة. ولهذا فإن هذه القدرة تنمو وتتزايد بمقدار نمو تفكيرنا الخاص واتساع أفقه. (2)
إن استيعاب تاريخ الفلسفة متضايف مع التفلسف الشخصي. وليس معنى هذا على الإطلاق أن يوجه هذا التاريخ أو يبنى ويقوم من وجهة نظر فلسفية محددة؛ لأننا بهذا سننظر إليه من الخارج نظرة غير تاريخية. ولن يكون استيعابنا لتاريخ الفلسفة فلسفيا إلا إذا وفقنا في الاحتفاظ بوعينا بالشامل، وتمسكنا بفضل هذا الوعي بقدرتنا على الحركة وسط وجهات النظر المتعددة، وحرصنا على الانفتاح العالمي على كل ما يتسم بالطابع الفلسفي الحق.
من أجل هذا كله تتعذر كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة نظر محددة؛ فليست الفلسفة عبر تاريخها كالوجه الإنساني الذي يمكننا رؤيته ووصف ملامحه بنظرة واحدة؛ من حيث مراحل تطوره الموضوعي، وظروفه وشروطه الاجتماعية والنفسية والبشرية ... إلخ (فكل هذه مناهج بحث مفيدة تتصل بوقائع، وظواهر، وجوانب جزئية مختلفة، دون أن تمس ماهية الفلسفة نفسها). وليس من سبيل إلى الفلسفة إلا بالتفلسف نفسه ومن داخله؛ قد يستطيع الإنسان أن ينفذ إليه، ولكنه لن يستطيع أن يحيط به إحاطة شاملة.
والنفاذ إلى صميم التفلسف لا يعني تبني وجهة نظر محددة، كما أن الاستيعاب التاريخي لا يعني تطبيق نسق ثابت أو تخطيط مسبق. إن فهم أفكار التراث وفلسفاته بفضل المعرفة المشتركة التي يكفلها «الشامل» هو الذي يجعلنا قادرين على التواصل الذي تتضح الأصول في ضوئه. ومن يدرس مؤلفات أحد الفلاسفة السابقين في إطارها التاريخي، ويلمس أعماقها الدفينة، سيحس هو نفسه بواقعه التاريخي الخاص، وتنكشف له أعماقه التي لا يسبر غورها. والمهم قبل كل شيء هو مدى توغل ذلك الشيء - الذي ينبثق من التاريخ ليوقظني - في أعماق الشامل الذي أكونه أنا نفسي. والمهم أيضا هو من ينصت في داخلي وما الذي ينصت إليه. إن التفلسف المشترك لينفذ - عبر التاريخ - في مجال إنسانيتنا ويكون التاريخية الواحدة التي يقوم عليها وجودنا بأكمله، والذي يهدينا ويقود خطانا هو وعينا بالأصل الواحد، والمصير الإنساني المشترك. كذلك فإن تاريخيتي الخاصة وتاريخية المفكر الغريب عني لا تفصلنا فصلا مطلقا، وإنما تربط بيننا برباط التاريخية المشتركة التي لن نتمكن أبدا من إدراك كنهها أو تحديد شكلها، وإن كان التواصل هو الذي سيجعلنا نشعر بها في صيرورة الوجود الكوني بأسره.
لهذه الأسباب لا توجد حقيقة وحيدة في صورة وجهة نظر أو نسق محدد. ولا يمكن أن تدعي الحقيقة أنها هي الحصيلة النهائية للمعرفة الراهنة وأن كل معرفة يجب أن ترتب على أساسها بحيث تكون مجرد إعداد وتمهيد لها.
وليس في تاريخ الفلسفة كذلك مركز واحد أو نقطة ثابتة ونهائية - كتلك التي يتصورها التفسير المسيحي للتاريخ في صلب المسيح، بل هنالك المكان اللانهائي الذي تعبر فيه الحقيقة عن نفسها بأصوات متعددة المعاني. وكل محاولة لتثبيت دائرة المفكرين العظام ستكون أشبه بلاهوت جديد، إن لم تكن نوعا من التعبير الجمالي عن عدم الإحساس بالمسئولية.
لا شك أن المفكرين الكبار يتفوقون علينا تفوقا لا حد له في عظمتهم وقوة إبداعهم وعمق وجودهم، ولكنهم بشر يشاركوننا المصير نفسه وليسوا آلهة. وإذا كنا ننظر إليهم نظرتنا إلى القدوة والمثل، فليس معنى هذا أن نقلدهم أو نقتفي آثارهم على طريق محدد مرسوم، بل معناه أن نتابعهم في السير على الدروب الباطنة التي لم تكتشف بعد. (3)
إن رفض تجميد تاريخ الفلسفة في مجموعة من الحقائق الموضوعية، القطعية، النهائية، لا يمنع ضرورة اكتسابه شكلا ملائما، فلا بد له من أن يتخذ شكلا كليا بالنسبة لعصره ولقدرة المفكرين المعاصرين على الفهم. وهذا التصور التاريخي الشامل يسهم في تحديد شكل التفلسف الحاضر. فإذا تغير التفلسف تغيرت معه طريقة تصور تاريخ الفلسفة واستيعابه.
ومعرفة هذه التغيرات تؤثر حتما على طريقة الاستيعاب. صحيح أن هذا الاستيعاب يلجأ إلى صور ثابتة، ولكنه يحرص على الاحتفاظ بقدرته على الحركة والتغير الممكن. وتنشأ رؤية جديدة لتاريخ الفلسفة عندما يتغير التفكير الفلسفي نفسه فجأة بحيث تبدو الصور التي دأب تاريخ الفلسفة على استخدامها حتى ذلك الحين محرفة أو مشوهة، ويطرح الناس على أنفسهم هذا السؤال: ما الصورة التي يجب أن يتخذها تاريخ الفلسفة في ظل الظروف والأوضاع الجديدة؟ كيف نتصوره، على سبيل المثال، تصورا وجوديا؟ وكيف يتعرف تفكيرنا الفلسفي الخاص على تفكير العصور القديمة؟ بل كيف نعرف أن تفكيرنا - الذي تصورنا للحظة واحدة أنه جديد كل الجدة - ينعكس على صفحة التفكير القديم الموغل في القدم؟ وكيف نقضي على وهم الجدة بحيث تشف من خلال الثوب التاريخي المعاصر تلك الفلسفة الخالدة التي تربطنا بجميع الفلاسفة السابقين؟ (4)
إذا كان الاستيعاب الأمثل للفلسفة يقتضي التخلي عن كل وجهة نظر، وإسقاط كل نسق أو تخطيط مسبق، فإن رائدنا في ذلك لن يكون شيئا قليلا (كأن نقع في السوقية والفوضى)، بل سيكون كثيرا، سيكون هو الواقع وهو الحقيقة التي نحيا عليها، ونقيس ونحكم، ونقبل ونرفض وفقا لها، بحيث لا نجمد أو نثبت عند معيار موضوعي معين. وسيكون علينا أن نحافظ على رحابة هذا الواقع وعمقه وثراء معانيه كما خبرناه في تفكيرنا الفلسفي، وتعرفناه في فلسفات الماضي. وستزداد قدرتنا على الكشف بمقدار قربنا من الواقع.
إن أية محاولة تهدف للوصول إلى معرفة ثابتة - حتى ولو كانت غامضة - بالواقع والحقيقة بمعناهما الفلسفي ستكون في النهاية معرفة غير كافية، وستلجأ إلى التفسير السطحي الذي يبسط كل شيء، سواء في ذلك أقدمت المنفعة العملية للمعرفة أم جعلت الصدارة للدقة اليقينية الملزمة. وسترجع بوجه خاص إلى المعرفة التجريبية والموضوعية في علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الحياة (وعندئذ تصبح الفلسفة وظيفة للحياة، ويستوي في ذلك أن تمد الناس بالأوهام الضرورية وتحجب عنهم العيوب والشرور، أو أن تصبح نوعا من العلاج النفسي أو قوة دافعة على الانطلاق)، أو ترد إلى الوضوح العلمي للوعي بوجه عام، أو إلى الأخلاقية التي تضع المثل العليا وتشرع قواعد السلوك. لا شك أن كل هذه الاتجاهات تحتوي على جزء من الحقيقة، ولكن التفسير الذي يستوعب تاريخ الفلسفة بأكمله ينبغي عليه أن يجعل تعدد أبعاد حقيقة فعلية تتمثل في تشابكها اللانهائي وحركتها المتصلة (ولا تجعل منها مجموعا مركبا من عناصر بسيطة)، كما ينبغي عليه ألا يهمل المعطيات المباشرة الملموسة (كالمواقف الاجتماعية والأمراض العقلية ... إلخ) بل يقبلها على ما هي عليه، ويسجلها ويحدد أهميتها، دون أن يتجاهل الجوانب الخيالية العجيبة، بل يحاول جهده أن يكتشفها ويستخلص منها مضمونا واقعيا. غير أن تعدد التفسيرات على هذه الصورة أمر يتهدده التشتت والتفتت، فأين نجد المركز؟ أين نعثر على الواحد والكل الذي يتعلق به كل شيء ويرجع إليه كل تفسير؟ إنه تكشف الوجود في الإنسان؛ فمن خلال جميع أشكال الشامل - الذي يكون هو نفسه، ويعرف فيه نفسه بوصفه وجودا يستشرف العالي - يحقق الإنسان ما يدرك أنه وجوده الأبدي تحقيقا تاريخيا، بحيث يرتبط وجوده بالمعرفة التي يحصلها، ويصبحان شيئا واحدا. (5)
إذا كان «الشامل» هو الأصل في كل محاولة لاستيعاب تاريخ الفلسفة، وهو الموضوع الذي لا سبيل للوصول إليه، فإن هذا الاستيعاب يتم بطريقة عينية ومحددة من خلال موضوعية المعطى في الواقع؛ أي من خلال دلالته، وتخطيطه، ومشروعه، والهدف منه ... إلخ، وينظر مؤرخ الفلسفة فيرى أمامه المجال الشاسع الذي تتراكم فيه مواد لا حياة فيها، ويبدأ بفرز هذه المواد على مستوى الوقائع ووضعها في غربال النقد العلمي. والحقيقة أن «الشامل» هو المعنى والواقع في آن واحد، وكلاهما لا يفهم إلا بطريقة غير مباشرة في شيء اتخذ صورة موضوعية محدودة. وعلينا أن نتحسس حركات الشامل من خلال الوقائع. ولهذا ينبغي البدء بفحص الوقائع وتمحيصها للتأكد مما حدث في الواقع، ثم تأتي لحظة الإنصات والاستبار واستكناه حقيقة ما كان.
بهذا ينشق الواقع للحظة إلى واقع تجريبي وآخر جوهري. ونلاحظ شيئا يتحقق بأعمق ما للتحقق من معنى، ولكنه يبقى معزولا، معدوم الأثر، ويسقط في النسيان. ومن طبيعة الذروة العالية أن تتخذ محاولة الاقتراب منها في تاريخ الفلسفة هذا الطابع المؤقت؛ فليس من الممكن أن نثبتها في صميم الأصل، بل يتحتم محاصرتها والدوران حولها من الخارج - ربما يستطيع المؤرخ أن ينفذ إليها بتفسيره، ولكن يستحيل عليه الإحاطة بها. وأسباب تأثيرها أو عدم تأثيرها على مجال الواقع لا تكمن فيها هي وحدها، وإنما ترجع كذلك إلى مواقف جزئية وشروط خارجية؛ بحيث إن التفسيرات التجريبية التي تقدم لها لا تكون أبدا تفسيرات نهائية شاملة.
وعمليات التحريف والتعديل التي تتعرض لها «الذروة» وتجعلها تتحول إلى أشكال تساعد على انتشارها واتساع نطاق تأثيرها عمليات ملازمة لطبيعتها، ولكنها ليست قوانين مطلقة بغير استثناء؛ فهي تلقي الضوء على النتائج، ولكنها لا توضح الجوهر نفسه.
إن تاريخ الفلسفة بمعناه الحقيقي هو حركة صيرورة التفلسف الذي ندركه عندما نقترب منه لمحاولة فهمه، ونتأمل عالمه، ونتدبر نتائجه، ولكن أصول هذا التفلسف هي الحد الذي ينطلق منه كل شيء، ويتجه إليه كل شيء، وإن كان من المحال أن تصبح موضوعا أو واقعا يمكن بيانه بطريقة موضوعية محددة. وأكثر تفسيرات تاريخ الفلسفة حظا من التفلسف هي تلك التي تمكننا من الإحساس بالذرى، والأصول التي يتوقف عليها كل شيء، وتساعدنا على ألا نفقد علاقتنا معها، وأن نبقى على صلة مستمرة بها.
بهذا يمكن أن يتحول البحث في تاريخ الفلسفة في نهاية الأمر إلى مصدر تأثير وفاعلية فلسفية متجددة، فلا يستبعد أن ينطوي المجال الفسيح - الذي تتكدس فيه أنقاض المواد والمعلومات التي يخيم عليها الموت - على بذور خفية يمكن أن تبعث إلى الحياة أو أن تدب فيها الحياة لأول مرة، وذلك إذا استطعنا أن نعثر عليها، ونتعرفها، ونعيد غرسها مرة أخرى. لقد كان هنا شيء لم يسمع له صدى، وهو ينتظر من يستخرجه من النصوص ويفسره، عندئذ يظهر للنور وتزدهر فيه الحياة. ولا يندر في التاريخ أن نعثر على حركات جديدة انبثقت من معطيات أو «لقى» تاريخية تم الكشف عنها، فقد تعلم الإنسان كيف يقرأ نصا ويفك رموزه، بعد أن ظل قرونا طويلة ضحية عدم الفهم أو سوئه. (6)
إن مؤرخ الفلسفة يجد أمامه فرصة اختيار المفكرين الذين يمكنه أن يرتبط بهم ويتخذهم قدوة أو يعدهم على العكس أضدادا له، وهناك تنفسح أمامه طرق ودروب غير مطروقة يكون حرا في أن يسير فيها أو يتجنبها. كذلك فإن وضوح اختياره هو الذي يلقي الضوء على ميوله ودوافعه.
لهذه الأسباب كلها تكون دراسة تاريخ الفلسفة دراسة فلسفية. وينبغي أن يكون التاريخ الصحيح للفلسفة مدخلا إلى صميم الفلسفة نفسها، كما يتحتم أن يؤدي الاشتغال به إلى تعمق التفكير الفلسفي.
صفحة غير معروفة