تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
لم تزد معرفة ابن رشد عن العلوم الشائعة في عصره، فكانت معرفته بالطب محدودة بعلم جالينوس، وفلسفته مستمدة من أرسطو، وفلكه مأخوذا عن المجسطي، وفقهه فقه معاصريه وأسلافه من أئمة المالكية، فلم يكن الحكيم ابن رشد مبتكرا ولا مبتدعا؛ أي إنه لم يؤسس علما جديدا، ولكنه امتاز عن معاصريه بمقدرة في الانتقاد نادرة في زمنه وغير زمنه، وهي ظاهرة في نقده فلك بطليموس، وفيه مبادئ وتقدم فكري لا تصدر إلا عن عقل من أقوى العقول. (راجع النبذة 13 من القسم الأول من تلخيص مقالات أرسطو فيما بعد الطبيعة).
كان ابن رشد طبيبا وفيلسوفا، ولكن فلسفته أعظم من طبه، فإن مؤلفاته الطبية التي اعتمد فيها على جالينوس لم تبلغ شأو قانون ابن سينا، وكان فقيها وفلكيا. على أننا لم نقف على آثاره في خدمة الشريعة ولم يحفظ لنا التاريخ أحكامه وفتاواه.
ويظهر أن جده كان أكثر منه توفيقا في القضاء والتشريع، فله مجموعة فتاوى في مكتبة باريس، عني أحد تلاميذه بجمعها وتنظيمها، ولكن الذي ميز ابن رشد حقا هو شرحه الكبير لأرسطو، ذلك الشرح الذي جعله في مصاف كبار الفلاسفة المتقدمين، وصدق إرنست رينان حيث قال: «ألقى أرسطو على كتاب الكون نظرة صائبة، ففسره وشرح غامضه، ثم جاء ابن رشد فألقى على فلسفة أرسطو نظرة خارقة ففسرها وشرح غامضها.»
ألف ابن رشد في كل فن شريف مثل الطب والفلسفة والفلك والفقه، وكان يحفظ موطأ مالك عن ظهر قلب.
وكان في جنب اشتغاله بتلك العلوم محبا لفنون الأدب، فقرأ شعر العرب في الجاهلية والإسلام، وحفظ كثيرا من قصائد عنترة وامرئ القيس والأعشي وأبي تمام والنابغة والمتنبي. وأثر محفوظاته ظاهر في أسلوبه ومقتبساته لدى شرح كتاب الشعر لأرسطو، ونستنتج من هذا عرضا أن العقول الكبيرة القوية تفوق غيرها باتساع دائرتها واقتدارها على الإلمام بأنواع العلوم والآداب ولا ترى في ذلك تناقضا. (29) جهله باليونانية
يلفت نظر الباحث في حياة ابن رشد وكتبه عدم إلمامه بلغة غير العربية. أهو اعتداد بالنفس واكتفاء بما حوته اللغة العربية من العلم والأدب، أم ازدراء بما في غيرها من اللغات والكتب، أم يأس من التحصيل لتعذر التعليم؟ لم يعرف ابن رشد اليونانية التي وضعت بها مؤلفات أستاذه ورئيسه أرسطو، ولم يعرف غيرها من اللغات الأخرى الشائعة لعهده، مثل السريانية والفارسية، حتى ولا الإسبانية وهي لغة القوم الذين شب وشاب في بلادهم.
على أن ابن رشد لم يكن وحيدا في عدم الأخذ باللغات؛ لأن معظم أسلافه من حكماء العرب لم يأخذوا بها، وقد ضاعت عليهم لهذا السبب جميع كنوز آدابها الغنية فلم يقفوا على شعر هوميروس ولا بندار ولا سوفوكليس، فضلا عن إيشيل وإريستوفان وديموستين. بل إنهم أهملوا أفلاطون نفسه وقصروا كل همهم على درس فلسفة أرسطو، لأن تراجمة الشرق عنوا بكتبه دون غيرها.
ولا شك في أن مؤلفات أرسطو التي شرحها ابن رشد وصلت إليه باللغة العربية التي نقلت إليها في القرن الثالث الهجري قبل ظهور ابن رشد بثلاثة قرون، ويرجع فضل تلك التراجم إلى عصبة من أدباء الشام أمثال حنين بن إسحق وإسحق بن حنين ويحيى بن عدي وأبو بشر متى.
كان ابن رشد حريصا على الجوهر، فإن فاتته اللغة الأصلية (وهذا يدعو إلى الأسف) فلم تفته فكرة المقارنة بين جميع التراجم المعروفة لعهده، فقد جمعها وفحصها وناقشها بحذق فائق، حتى يكاد من لا يعرف الواقع يحسب أنه كان يعرف اللغة الأصيلة، وقد عزيت إلى جهله باليونانية أغلاط وقع فيها وأخذها عليه ألد أعدائه لويس فيفيس، ولا شك أن التعصب الديني وعمى البصيرة دفعا لويس إلى المعاندة والمعاكسة، ولكن هذا لا ينفي صدق انتقاده في أمور.
فقد خلط ابن رشد بين بروتاغوراس وفيثاغورس، وبين فراطل وديموقريط، وحسب هيراقليط جماعة من أتباع هرقل أولهم سقراط، وزعم أن أناكساغور رئيس المذهب الإيطالي ... على أن لويس فيفيس الذي أعماه التعصب أخذ هذه الأغلاط على علاتها وحاسب ابن رشد عليها، ولم يدرك عذره لنقلها عن التراجمة الذين كان جهلهم بآداب اليونان وتاريخهم عظيما.
صفحة غير معروفة