تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
ثم أعمال غايتها الأشكال الروحانية الخاصة، وهي تختلف باختلاف طبيعة الأشياء التي تقصد إليها نبلا وخسة. (أ) مثل ذلك غرور بعض الناس بلبس الملابس الجميلة في الظاهر وهم يهملون الملابس الباطنية، إن اللذة التي تعود عليهم ليست شهوانية، إنما راجعة إلى حاسة باطنية فيها شيء روحاني. (ب) الأعمال الموجهة نحو العرض الروحاني الكامن في الخيال، كأن يتسلح الإنسان في غير وقت الحرب. (ج) الأعمال التي غايتها التسلية والسرور، كاجتماع الأحباب والألعاب وعلاقات الرجل بالمرأة لغير التناسل والترفه في السكن واقتناء الأثاث والبلاغة والشعر. (د) الأعمال التي غايتها التكمل في العقل والفكر ، كأن يدرس رجل علما لذاته ليكمل عقله لا ليعود عليه بنفع مادي، أو كأن يعمل عمل كرم أو شرف بدون انتظار نتيجة مقصودة أو منفعة، كل هذه الأعمال ينبغي أن تتم لذاتها، وأن لا تكون لها غاية أخرى سوى تكميل الشكل الروحاني للإنسان. ومع ذلك يوجد أشخاص يقصدون بهذه الأعمال الشهرة والمجد، ويظنون أن أعظم سعادة للرجل أن يبقى اسمه على مر الدهور، والعرب يعلقون على الذكر أهمية كبرى ويقول شاعرهم: الذكر للإنسان عمر ثان.
الأعمال التي يقصد بها الأشكال الروحانية العامة، وهي أكمل أعمال الرجل، والأعراض المقصودة هنا هي متوسطة بين الأعمال السابقة التي هي ممتزجة بالجسمانية والروحانية المطلقة، وهي الغاية النهائية لمن يبحث عن السعادة أو غاية المتوحد الكبرى.
الفصل الخامس
بعد أن قسم الأعمال الإنسانية تبعا للأعراض المقصودة بها، أخذ الحكيم يعين غايات هذه الأعمال لكل شكل خاصة، فقال إن الأغراض على ثلاثة أقسام: أغراض متعلقة إما بالأعراض الجسمانية. وإما بالأعراض الروحانية الخاصة. وإما بالأعراض الروحانية العامة.
أما الأعمال الجسمانية المحضة التي يشترك فيها الإنسان والحيوان فلا محل لها هنا.
أما الروحانية العامة فهي تحرك الإنسان إلى الصفات الخلقية والعقلية، وإن بعض أخلاق الإنسان توجد أيضا في الحيوان كالشجاعة في الأسد والعجب في الطاووس والتيقظ في الكلب. ولكن هذه الصفات ليست خاصة ببعض الأفراد من النوع، إنما هي صفات غريزية راكزة في كل الجنس، ولا توجد فردية إلا في الإنسان، فكل الكلاب يقظة ولكن اليقظين من الرجال قليل، ولذا فهي تسمى في الرجال فضائل إذا استعملها الرجل بمقدار معتدل وعلى الدوام كلما اقتضتها الحال.
أما الصفات العقلية فتكون في الأعراض الروحانية الإنسانية قسما خاصا ليس له بالصفات الأخرى علاقة. فإن الأعمال العقلية والعلوم في حقيقتها كلها كمالات مطلقة تعطي للإنسان الوجود الحقيقي التام، أما العرض الروحاني الفردي فيعطي وجودا محدود الزمن، مثل العرض الروحاني الذي ينتج عن الشهرة، فإنه ليس بينه وبين ذاك الذي يحصل عليه بواسطة الصفات العقلية مقارنة.
إن من يقتصر على الأعراض الجسمانية يضع نفسه في صفوف الحيوان، كذلك يكون إهمال الوجود الجسماني ضد الطبيعة، وهذا لا يباح إلا في بعض الظروف المستثناة، حيث يكون احتقار الحياة فرضا على الإنسان مثل وجوب موت الإنسان في سبيل الدفاع عن الوطن أو الدين، ولا يمكن لأي رجل مادي أن يصل إلى السعادة، إنما لا يصل الرجل إلى السعادة إلا إذا كان روحانيا محضا وإلهيا حقيقة. إن الرجل الروحاني ينبغي له أن يعمل أعمالا جسمانية للضرورة لا لذاتها، أما الأعمال الروحانية فيعملها لذاتها، كذلك ينبغي للفيلسوف أن يعمل أعمالا روحانية كثيرة بدون أن يكون فعلها لذاتها. أما المعقولة فهو يعملها لذاتها. فلا يتناول من الأعمال الجسمانية إلا ما كان أداة في مد أجله، ولن يقدم الشيء الجسماني مطلقا على الروحاني، ولا يأخذ من أرفع درجات الروحاني إلا ما كان ضروريا للمعقول، ثم يتعلق في النهاية بالمعقول المطلق؛ لأنه بواسطة الجسماني يكون مخلوقا إنسانيا، وبالروحاني يكون مخلوقا أرفع، وبالمعقول يصير مخلوقا ساميا إلهيا.
فالفيلسوف هو بطبيعة الحال إنسان سام إلهيا، على شرط أن يختار في كل نوع من الأعمال ما كان أرفعها، وأن يختلط بأهل كل طبقة من الناس لأجل أسمى ما في كل واحد منهم من الصفات، وأن يمتاز عنهم جميعا بأرفع الأعمال وأكثرها مجدا. فإذا وصل إلى الغرض النهائي أي عندما يفقه العقول البسيطة في كل معانيها والمواد المنفصلة، يصير واحدا منها ويمكن أن يسمي موجودا إلهيا. فتبعد عنه صفات الجسمانية الغير الكاملة كذلك الصفات الروحانية السامية، ويجدر أن يكون له صفة الإلهي بدون أن يكون به شيء جسماني أو روحاني. كل هذه هي صفات المتوحد ابن الجمهورية الكاملة.
الفصل السادس
صفحة غير معروفة