تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
الفصل الأول
غاية الرسالة شرح تدبير المتوحد بين أهل المدينة، فشرع المؤلف في الكلام على لفظ «تدبير» قال: إن هذا اللفظ يدل في أكبر معانيه على مجموعة من الأعمال ترمي إلى مقصد معلوم، فلا يمكن أن يستدل بها على عمل مفرد، إنما على جملة أعمال تنجز على وتيرة واحدة بناء على خطة مرسومة للوصول إلى غرض معلوم كالتدبير السياسي والتدبير الحربي، ويقال في هذا المعنى إن الله يدبر الكون لأن تدبيره جل وعلا - على زعم العامة - يشبه تدبير الحكومات، وإن كان هذا التدبير في رأي الحكماء، ليس مشابها إلا في اللفظ دون المعنى؛ لأن تنظيم جملة من الأعمال على خطة معلومة والتفكير فيها قبل إنجازها هو من خواص البشر.
ينبغي أن يكون تدبير المتوحد على مثال تدبير الحكومة الكاملة، لذا شرع المؤلف يتكلم في التدبير السياسي، قال: ومن علامات الحكومة الكاملة أن لا يكون بها أطباء أو قضاة، فإن أهل المدينة الكاملة ليسوا في حاجة إلى المداواة؛ لأنهم لا يتناولون من الغذاء إلا ما يوافقهم، وبذا تختفي الأمراض الصادرة عن الغذاء. أما الأدواء الخارجة عن الإنسان، أي التي تصيبه بدون تفريط أو إفراط منه، فإنها تزول بذاتها. أما الاستغناء عن القضاة فلأن العلاقات بين أبناء البلد يكون أساسها المحبة فلا يقع الخلاف بين الأصدقاء. ثم إن الحكومة الكاملة كفيلة بأن يبلغ الفرد فيها أرقى ما يمكن بلوغ الفرد إليه من مراتب الكمال؛ لأن الكل يفكرون بأعدل وسائل التفكير، وينظرون إلى الأمور أدق نظر، ويطيع كل فرد ما تأمر به القوانين؛ لأن الفرد يكون عالما بما يجوز وما لا يجوز. كذلك تخلص الأعمال من الخطأ والهذر والختل، فتصفو الطباع وتكرم الأخلاق، بحيث لا تكون بالناس حاجة إلى طب النفوس، وهو ما لا غنى للجمهوريات الناقصة عنه مثل الأرستقراطية والأوليجارقية والديمقراطية والمونارقية.
فالمتوحدون في حكومة غير كاملة ينبغي لهم أن يعيشوا كأنهم أفراد في حكومة كاملة، فهم كالنبات الذي ينمو بذاته وبالطبيعة بين ظهراني أمثالهم، الذين هم كالنبات الذي ينمو نموا صناعيا.
يقول ابن باجه: وغايتنا من هذا الكتاب أن نشرح تدبير تلك النباتات التي ينبغي لها أن تسترشد بقواعد الجمهورية الكاملة، بحيث لا تحتاج إلى أنواع الطب الثلاثة (طب النفس وطب الخلق وطب البدن) لأن الله وحده هو شافيها، والمتوحد قد يكون فردا أو جماعة ما لم تتبع الأمة بأسرها خطتهم وطريقهم؛ لأنهم يكونون متميزين عن البقية بالسعي إلى الكمال، وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم المتصوفون اسم الغرباء؛ لأنهم بما فطروا عليه من الفضائل وما اكتسبوه من الحكمة غرباء في أوطانهم يشذ عنهم الأهل وينأى عنهم الأصدقاء، ثم إنهم ينتقلون بفكرهم من الوسط الذي هم فيه إلى الجمهورية الكاملة التي هي لهم بمثابة الوطن والمستقر.
ملحوظة: راجع ما كتبناه عن الفارابي؛ فإنه في السيرة الفاضلة ذكر مثل هذا القول في كلامه على خلاصة المنورين من الخاصة
Les ames bien nées .
الفصل الثاني
شرع ابن باجه في الكلام على أعمال الإنسان، ففصل أنواعها للتمييز بين الأعمال التي تنتهي به إلى غرض، وبين الأعمال الإنسانية المحضة فقال: إن بين الإنسان والحيوان رابطة كالتي بين الحيوان والنبات والتي بين النبات والمعادن الجامدة. أما الأعمال البشرية المحضة والخاصة بالإنسان دون سواه فهي الناشئة عن الإرادة المطلقة أي عن إرادة صادرة عن التفكير لا عن غريزة ثابتة في البشر ثبوتها في الحيوان، فلو أن رجلا كسر حجرا لأنه جرح به فإنه يعمل عملا حيوانيا، أما من يكسر حجرا لئلا يجرح به سواه فعمله هذا يعد عملا إنسانيا، ومن يأكل خيار شنبر لينقي بدنه بحيث لا يكون الطعم اللذيذ الذي يستوعبه إلا عارضا إنما يأتي عملا إنسانية بغايته، حيوانيا عرضا.
وزبدة القول هي أن العمل الحيواني تدفعنا إليه الغريزة الثابتة في الروح الحيواني. أما العمل الإنساني فيدفعنا إليه الرأي أو الاعتقاد، بقطع النظر عما إذا كان الفكر مسبوقا أو غير مسبوق في الوقت ذاته بمؤثر غريزي. وأغلب أعمال البشر الدخلة في نطاق الأنواع الأربعة التي سبق الكلام عليها مركبة من عناصر حيوانية وأخرى إنسانية، ويندر أن تكون أعمال الإنسان حيوانية على الإطلاق، إنما يغلب أن تكون إنسانية وهذا ما ينبغي للمتوحد. ومن لا يعمل إلا متأثرا بالفكر والعدل بدون اكتراث للروح الحيواني فعمله جدير بأن يسمى عملا إلهيا لا إنسانيا، وهو موضع عنايتنا في هذه الرسالة، وينبغي لمن يرمي إلى هذا المقصد أن يسمو بفضائله، بحيث إذا عزمت النفس العاقلة على إنجاز شيء انقاد إليها الروح الحيواني دون أن يخالفها، ما دام الفكر يريد ذلك، وبذلك يصل الروح الحيواني ذاته إلى فضائل الخلق؛ لأن تلك الفضائل إنما هي «إبراز الوجود للروح الحيواني».
صفحة غير معروفة