تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
وقد انفرد ابن خلدون بين مؤلفي العرب باتخاذه (يوميات) ومذكرات شخصية يدونها يوما فيوما (أجندة)، وأطلق عليها اسم (التعريف بابن خلدون)، وفيها ترجمته ونسبه وتاريخ أسلافه على نسق أوروبي، وشرح في خلالها ما عاناه في حياته، ويتخلل ذلك مراسلات وقصائد نظمها في بعض الأحوال وكثير مما أصابه من دهره، وتنتهي حوادث هذه المذكرات سنة 807ه؛ أي قبل وفاته بعام واحد.
وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية من هذه المذكرات في مائة وخمسين صفحة بخط جميل مذهب، ومنها ملخص في ذيل بعض النسخ من تاريخه المطول. (2) فلسفة ابن خلدون الاجتماعية
سبق ابن خلدون كل كتاب أوروبا إلى وضع قواعد علم الاجتماع الذي لم يطرق بابه قبله إلا فلاسفة اليونان، وقد صدق من قال إن التاريخ لم يكن شيئا مذكورا في جانب المقدمة، فإن مقدمة ابن خلدون كتاب لفت نظر أوروبا أكثر مما لفت أنظار أهل الشرق؛ لأنه كتاب بالمعنى الصحيح قلبا وقالبا، فهو منظم ومنسق شكلا، وجليل الفائدة جديد المباحث موضوعا. وقد أجمع العلماء على أن هذا الحكيم العربي المغربي الأفريقي هو من واضعي أساس علم الاجتماع الحديث.
وقد قسم ابن خلدون ظواهر المدنية إلى ظواهر خارجة عن الاجتماع، ويقصد بالظواهر الخارجة عن الاجتماع الظواهر الطبيعية مثل العقائد الدينية والطقس والبيئة، وإلى الظواهر الداخلة في الاجتماع وهي التي تنشأ في حضن الجماعة وتؤثر فيها بقوتها.
وبنى ابن خلدون نظريته على كون الإنسان ميالا للاجتماع بفطرته، وهذه هي نظرية حكماء الإغريق والعرب التي عالجها بعد ذلك أوجست كومت نفسه في الجزء الرابع من فلسفته الوضعية. ويتفق ابن خلدون مع أرسطو حكيم اليونان في أن الجماعة ليست إلا وسيلة لسعادة الفرد، وهذا هو الرأي الذي نشره وقواه هربرت سبنسر في مذهبه الفلسفي. وقد أصاب ابن خلدون كبد الحقيقة في نقط لم يسبقه إليها فلاسفة اليونان، فقد ميز بين الجماعة الإنسانية والجماعات الحيوانية، فقال إن اجتماع الحيوان يكون عادة مدفوعا إليه بالفطرة، أما اجتماع الإنسان فالدافع إليه الفطرة والعقل والتفكير معا.
لقد شبه مكيافيلي بابن خلدون، ويمكننا تشبيهه بمونتسكيو، فإن كلا منهما حاول استنباط قوانين الاجتماع من حوادث التاريخ ووقائعه، وقد رأى ابن خلدون حوله أمما كثيرة تعيش بغير دين منزل وأن لها ملكا واسعا وسلطانا قاهرا وأنظمة مرعية وقوانين مطاعة وجيوشا فاتحة ومدنا عامرة آهلة. ورأى أن الأمم التي انتشرت فيها الأديان المنزلة تعد أقلية بجانب الأمم الأخرى، فاستنبط من ذلك الرأي القائل بعدم ضرورة النبوة لتأسيس الممالك والدول.
وقد خالف ابن خلدون بهذا الرأي معظم الفلاسفة والمؤرخين في الإسلام، ولكنه عاد فقال إن النبوة وإن لم تكن ضرورية لتأسيس الممالك العادية، إلا أنها ضرورية لتأسيس الممالك الراقية القريبة جدا من الكمال؛ لأن المملكة التي تشاد على أساس النبوة تجمع بين منافع الدنيا ومنافع الدين.
يعتبر ابن خلدون الطقس أول العوامل الخارجة عن الاجتماع، وقد تكلم عن الأقاليم فقسم الأرض إلى سبعة أقاليم، يختلف الطقس فيها من البرودة الشديدة إلى الحرارة القصوى وما بينهما من درجات الاعتدال المتتالية، وقال بما قال به بعده «بوكل» الإنكليزي من أن للبرد والحر تأثيرا في جسم الإنسان وخلقه، وبعبارة أخرى في الأمم والممالك من حيث المدنية والحضارة.
وقال إن قاطني الأقاليم المتطرفة لا نصيب لهم في المدنية. وإن الإقليم الرابع، وهو أشد الأقاليم اعتدالا في البرد والحر، هو أوفق الأقاليم للعمران والمدنية ونمو العلوم وظهور الأديان وانتظار الأحكام والقوانين. وقد عين ابن خلدون لهذا الإقليم بلاد سوريا وبلاد العراق، وأثبت أنها مظهر للحضارة والأديان من قديم الزمن.
وقد اتفق ابن خلدون ومونتسكيو في هذه النظرية اتفاقا كاملا، والثابت أن ابن خلدون ومونتسكيو مسبوقان إلى اكتشاف هذه النظرية ببقراط وأرسطو الحكيمين الإغريقيين وجان بودان الحكيم الفرنساوي.
صفحة غير معروفة