تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
ولكن ابن رشد كان يعيش في عهد انحطاط المعرفة وانتعاش التعصب، فلم ينفعه ظهوره بالتقوى ولم يحفظه من الاضطهاد، فنكل به الخليفة الذي كان يبجله، وجريمته في نظره نشر آراء القدماء وبها ضرر الإسلام. وقد حرم النظر في كتب اليونان وفلسفتهم، وأتلفت جميع الكتب التي كانت تبحث فيها، ومات ابن رشد في مراكش سنة 1198، ولم يطل عهد العرب في الأندلس بعده، فلما أفل نجم سعدهم كان الدين قد حل محل الفلسفة، وبذا دللت دولة الأندلس في جو من التقوى!
هذه هي الصورة التي رسمها قلم جون روبرتسون، وهو من مشاهير أحرار الفكر، ويعد زعيمهم في جزر بريطانيا بعد عميدهم برادلو الشهير، وهي صورة فيها شيء كثير من المبالغة، على أن رينان الذي تفرغ لدرس ابن رشد وزمنه قال إن عداء الشعب الأندلسي للفلاسفة كان قويا جدا، ولكن اللوم فيه راجع إلى عنصر المسيحيين المغلوبين، وهم أهل البلاد أصلا وكانوا من قديم الزمن متشددين في الدين، وكانوا معرضين عن العلوم الصحيحة مثل الفلك والطبيعيات (صفحات 31-36).
ونحن نرى رأي رينان ونزيد عليه أن ما أصاب ابن رشد وأصحابه كان مظهرا من مظاهر أخلاق أهل إسبانيا؛ لأن أمثاله في الشرق لم ينلهم أقل أذى، ولو كان الاضطهاد من لوازم الإسلام ما نجا منه أمثال الكندي والفارابي وابن سينا. (44) اليهود وابن رشد
كان الفضل في نشر فضل العرب وعلومهم في أوروبا لليهود؛ فإن الذين اضطهدوا منهم وطردوا من إسبانيا وطنهم لجئوا إلى جنوب فرنسا، وأقاموا بمقاطعة برونصة وأسسوا المكاتب والمدارس في ناربون وبزييرس ونيم وكاراسكون ومونبليه، وكانت كلية مونبليه تعلم الطب والنبات والرياضة على طريق العرب. وكانت الفلسفة والعلوم العربية تعلم في تلك الأرجاء كما لو كانت ولاية إسلامية، وفي مدارسها درست فلسفة ابن رشد وحكمته وحفظت شروحه، وقد عاشت في كنف فلسفته فلسفة أخرى هي فلسفة ابن ميمون الحكيم الإسرائيلي.
يمتاز مذهب أرسطو برأي جعل فلسفته من دعائم العقل الإنساني، هذا الرأي هو أزلية المادة، وقد انتحله ابن رشد وسائر المعتزلة قبله وبعده. وقد قلنا إن فلسفة ابن ميمون عاشت في كنف ابن رشد؛ لأن ابن ميمون وغيره من حكماء ملته ما عدا ليفي بن جرشوم جحدوا أزلية المادة وفندوها؛ لا حبا بالحقيقة أو تبعا لمبادئ الفكر، ولكن حبا بالتوراة.
ولكن الفضل في نقل فلسفة ابن رشد إلى العبرانية فاللاتينية يرجع إلى ابن ميمون وأصدقائه وتلاميذهم، وقد حاولوا تحويرها وتحريفها لتنطبق على مبادئهم ولتحل في معابدهم المحل الأول بعد كتبهم المقدسة، ولكن هذه المحاولة فشلت لأن البون شاسع بين سفر التكوين وفلسفة ابن رشد! (45) ثمار الفلسفة الرشدية في أوروبا
في أواخر القرن الثاني عشر ظهر في مقاطعة بريتانيا بفرنسا مفكر مصلح اسمه أموري البنياوي، وصاحبه داود الدنيانتي، فخالفا تعاليم الكنيسة واستجلبا سخطها، فحوكم أتباعهما وعوقبوا بالإحراق أحياء، أما المصلحان فقد فرا طلبا للنجاة، ولكن يد الكنيسة في القرون الوسطى كانت طولى، وكان صبرها أطول، فإنها ترقبت موتهما ونبشت قبرهما وأحرقت رفاتهما ليكونا عبرة للمؤمنين!
وقد ظهر للكنيسة أن سبب هذا البلاء فلسفة أرسطو كما شرحها ابن رشد، فاجتمع في باريس مجمع ديني علمي (سنة 1209) وحظر درس الفلسفة الأرسطية والشروح الرشدية، فحرمت أولا الطبيعيات، ثم كتب ما بعد الطبيعة، وقد استمر هذا المنع ثلاثين عاما.
وفي سنة 1269 حمل أسقف باريس حملة كبرى على الفلسفة في شخص ابن رشد، وخص باللعن والتكفير المبادئ الآتية: (1) أزلية العالم. (2) إنكار آدم. (3) وحدة العقل الإنساني. (4) القول بأن العقل، وهو شكل الإنساني ومهيئ ذاته، يهلك مع البدن. (5) في أن أفعال البشر خارجة عن حكم العناية. (6) أن العناية عاجزة عن تخليد ما مآله للفناء، وصيانة ما مآله للفساد.
ولما كانت كتب ابن رشد الطبية انتشرت من جنوب فرنسا إلى شمال إيطاليا وذاعت في مدارس بدوا، فقد ذاعت أيضا فيها تعاليمه الفلسفية، ومال الأطباء الذين تعلموا عليها إلى حرية الفكر وأخذوا بفلسفته، وأشهر من نذكر من علماء هذا البلد جاتياد السيناوي، الذي بدأ بدرس الشرح الكبير سنة 1436 وأوعز بطبعه فلم يدركه، ولكنه طبع سنة 1476. وقد خلفه في منصب تدريس الفلسفة سينكوفرنياس، ولم يبال هذان الحكيمان بالاعتراض، بل نشرا مذهب «روح العالم» على ما فيه من مخالفة الدين المسيحي في عقيدة الخلود، وقد ازداد النقد وانقلب سخطا إذ نشر تلميذهما نينو كتابه في العقل.
صفحة غير معروفة