تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
لا أعلم أحدا من الحكماء قال إن النفس حادثة حدوثا حقيقيا ثم قال إنها باقية إلا ما حكاه عن ابن سينا، وإنما الجميع على أن حدوثها هو إضافي وهو اتصالها بالإمكانات الجسمية القابلة لذلك الاتصال، كالإمكانات التي في المرايا لاتصال شعاع الشمس بها، وهذا الإمكان عندهم ليس هو من طبيعة إمكان الصور الحادثة الفاسدة، بل هو إمكان على نحو ما يزعمون أن البرهان أدى إليه، وأن الحامل لهذا الإمكان طبيعة غير طبيعة الهيولى. ولا يقف على مذاهبهم في هذه الأشياء إلا من نظر في كتبهم على الشروط التي وضعوها مع فطرة فائقة، ومعلم. (42-19) مسألة الزمان
وهي من أهم المسائل عند الفلاسفة القدماء والمحدثين، وقد تكلم فيها ابن رشد توضيحا ونقدا لما كتبه الغزالي، فتناول أزلية العالم وحدوثه وأدلة الفلاسفة وأهل الشرع في الأمرين، فإن الفلاسفة يقولون بالأزلية والشرعيين يقولون بالحدوث، فمثلا أبو الهذيل العلاف موافق للفلاسفة في أن كل محدث فاسد وأشد التزاما لأصل القول بالحدوث. ومخالف لهم في كون العالم أزليا من الطرفين، وابن رشد يرد عليه بقوله إنه إذا سلم أن العالم لم يزل إمكانه، وإن إمكانه يلحقه حالة ممتدة معه يقدر بها ذلك الإمكان كما يلحق الموجود الممكن إذا خرج إلى الفعل على تلك الحال وكان يظهر من هذا الامتداد أنه ليس له أول صح لهم أن الزمان ليس له أول، إذ ليس هذا الامتداد شيئا إلا الزمان وتسمية من سماه دهرا لا معنى لها.
وإذا كان الزمان مفارقا للإمكان والإمكان مفارقا للوجود المتحرك، فالوجود المتحرك لا أول له لأن الفلاسفة لا يضعون للحركة الدورية ابتداء، فليس يلزمهم أن يكون لها انقضاء لأنهم لا يضعون وجودها في الماضي وجود الكائن الفاسد، وإن ما دخل في الماضي بالحقيقة فقد دخل في الزمان، وما دخل في الزمان فالزمان يفضل عليه بطرفيه وله كل وهو متناه ضرورة، وكل مبدأ حادث هو حاضر وكل حاضر قبله ماض، وما يوجد مساوق للزمان والزمان مساوق له، فقد يلزم أن يكون غير متناه.
وقد تخلص ابن رشد من هذا البحث النظري الجليل إلى الكلام على أزلية العالم، فقال إن أهل الشرع جعلوا امتناع الفعل أزليا ووجوده أزليا، وذلك غاية الخطأ، لكن إطلاق اسم الحدوث على العالم كما أطلقه الشرع أخص به من إطلاق الأشعرية، لأن الفعل بما هو فعل فهو محدث، وإنما يتصور القدم فيه لأن هذا الإحداث والفعل المحدث ليس له أول ولا آخر، ولذلك عسر على أهل الإسلام أن يسمي العالم قديما والله قديم وهم لا يفهمون من القديم إلا ما لا علة له.
ولا يخفى أن مسألة قدم العالم هي أول مسألة تناولها البحث بين الغزالي وابن رشد وهي أولى المسائل التي يكفرون بها الفلاسفة. (42-20) دفاع ابن رشد عن الفلسفة
قال ابن رشد، وهذا يعد من أبلغ وأجمل ما كتبه فيلسوف عربي، في شرح مذاهب الفلاسفة، بعد أن رد على بعض مسائل الغزالي، وقصده أن يكون قوله مما يحرك من أحب الوقوف على الحق، ويحرضه على النظر في علوم الفريقين، أهل الشرع وأهل الحكمة، ويعمل في هذا كله على ما وفقه الله إليه وقيمة هذا القول تاريخية ولا تفيد عقلنا حالا:
أما الفلاسفة فقد طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم لا مستندين إلى قول من يدعوهم إلى قبول قوله من غير برهان، بل ربما خالف الأمور المحسوسة، وقد أثبتوا أسبابا أربعة هي الصورة والمادة والفاعل والغاية.
أما السبب الفاعل، وهو الذي يسميه جالينوس القوة المصورة أو الخالق وشك هل هي الإله أو غيره، لأن السبب الفاعل هو معطي النفس ومعطي الصورة والحركة. وفحصوا أيضا عن السماوات بعد ما اتفقوا أنها مبادئ الأجرام المحسوسة، واعتقدوا أن الأجرام السماوية عاقلة وأنها ذوات نفوس ، ورأوا أنها أشرف من العقل الإنساني، ولما نظروا إلى الجرم السماوي رأوا في الحقيقة جسما واحدا شبيها بالحيوان الواحد، له حركة واحدة كلية وهي الحركة اليومية، واعتقدوا أن ارتباط هذه الأجسام الكروية بعضها ببعض ورجوعها إلى جسم واحد وتعاونها على فعل واحد وهو العالم بأسره؛ أنها ترجع لمبدأ واحد وأن هذا النظام والترتيب هو السبب في سائر النظامات والترتيبات، وأن العقول تتفاضل في ذلك بحسب حالها منه في القرب والبعد.
والأول عندهم لا يعقل إلا ذاته، وهو يتعقل ذاته بعقل جميع الموجودات، فعلى هذا ينبغي أن يفهم مذهب الفلاسفة في هذه الأشياء والأشياء التي حركتهم إلى مثل هذا الاعتقاد في العالم، فإذا تؤملت فليست بأقل إقناعا من الأشياء التي حركت المتكلمين من أهل الملة؛ أعني المعتزلة أولا والأشعرية ثانيا، إلى أن اعتقدوا في المبدأ الأول ما اعتقدوا؛ أعني أنهم اعتقدوا أنه ههنا ذات غير جسمانية ولا في جسم، حية عالمة فريدة قادرة متكلمة سميعة بصيرة.
وقد قام عندهم البرهان على أن في الحيوان قوة واحدة، بها صار واحدا وبها صارت جميع القوى التي فيه تؤم فعلا واحدا؛ وهو سلامة الحيوان. وهذه القوى مرتبطة بالقوة الفائضة عن المبدأ الأول، ولولا ذلك لافترقت أجزاؤه ولم تبق طرفة عين.
صفحة غير معروفة