وفي كل يوم يسير الخليفة في دجلة مراكب، مملوءة بمقانب فيها المجانيق الخفاف، والعرادات اللطاف، والرماة الكماة، والجرخية الكفاة. فيحاذون المعسكر المحمدي في دجلة ويرمونهم، ويشوونهم ويصمونهم، حتى رأى السلطان محمد التنقل إلى حوالي سور بغداد، فجاء ونزل على الصراة بدار يرنقش الزكوي، وعبر أمراؤه الكبار إلى الجانب الشرقي مثل أتابك آياز، وعز الدين ستماز، ومن يجري مجراهما من ذوي الاعتزاز، وبقي على كوجك بالعسكر الموصلي في الجانب الغربي، والسلطان معه، وهو يعبر في دجلة إلى دار السلطنة في جانب بغداد كل وقت ويعود، والبيض قد هجرتها الغمود، والعقول قد انحلت منها العقود. وتبرز خيل بغداد في كل يوم منها من يأتي سور السلطان والظفرية، ويقفون خلف الباشورة المبنية للحملة على من يكون منهم في الجاليشية1. فهم يخرجون، ويجرحون ويجرجون. فيأمر لهم الخليفة بالعطاء، على قدر البلاء.
وكان لكل جراحة على مقدارها عطاء، ولكل عمل مبرور جزاء. فتوفرت دواعي العوام على التهافت في نار الحرب تهافت الفراش في النار، للفوز عند العود بالدين والدينار. فقامت الحرب على بغداد بالمساء والصباح، والغدو والرواح. وطالت مدة الحصار، ولم يؤثر في الأسعار، وما عز غير اللحم، ولا عز الملح. والأمل مقترب النجح، وخسران الخصم دليل الربح. وكانوا قد نصبوا من الجانب الذي من دجلة على مسناة دار العميد، وبقرب القمرية، منجنيقين عظيمين، وهموا بنصب منجنيق آخر على الخان الذي بناه سرخك مقابل التاج. ولو تم ذلك لأعضل داء الإزعاج.
فعين الخليفة ليلا رجالا أتوا بنيانه من القواعد، وكان لوقوعه سحرا رجفات كأصوات الرواعد. وكانت السفن المترددة في دجلة برماة الجروح والنشاب والقوارير المحرقة، والنفاطات المزرقة، وقد آذتهم وآذنتهم بعجزهم، وعزت بإزهاقهم فأزهقت روح عزهم. وما كانت لهم مراكب إلا عدة يسيرة يسخرون ملاحيها، ويخسرون مالكيها.
ثم لا يثقون بالركوب معهم فيها، فحاروا وخاروا، وتشاوروا واستشاروا.
صفحة ٣٤٧