سلمنكه تجلس وهي ضاحكة على ثلاث تلال، وتنام على نغمات الأوتار، وتستفيق مذعورة من جلبة أولاد المكاتب الصغار، طرطوشة غالية على القديس بطرس، بويسرده الغنية فيها المرمر مثل الأحجار، تويه تفتخر بقلعتها المثمنة الشكل، طراكونة تفتخر بأسوارها التي بناها أحد الملوك، سموره يجري من تحتها نهر دورو، طليطلة فيها القصر العربي، إشبيلية فيها جيرالدة، برغه وضعت ثروتها على قمتها، بيتافلور مركيزه، جيرونه دوقة، بيغاره كأنها زهدت في الحلي الفخيمة، بامبلونه المظلمه متهيئة دائما للحرب، وقبل أن تنام على ضوء القمر تقفل الأبراج المحاطة بها كالمنطقة.
فهذه المدن الإسبانية إما منثرة في السهول، أو مرتفعة على الجبال، وفي جميعها قلاع لم تضرب يد الأعداء فيها بالنواقيس، وفي جميعها كنائس جامعة لها جرسيات حلزونية الشكل،
38
ولكن غرناطة فيها الحمراء.
الحمراء وما أدراك ما الحمراء قصر زوقته الجن وملأته بالمحاسن كأنما هو في الحلم، بل وقلعة ذات شرف مخرمة، مقلبة إذا جن الليل سمعت منها أصواتا سحرية، وإذا طلع القمر من وراء أقواسها العربية الكثيرة، وانعكس نوره على الجدران أحدث عليها نقوشا بيضاء عجيبة، غرناطة فيها من العجائب أكثر ما في الرمانة من الحب الذي لونه كلون العقيق، وينبت الرمان في وديانها بكثرة، غرناطة اسم على مسمى، غرناطة إذا اشتعلت نار الحرب فقعت في وجوه أعدائها أشد من فقع القنبلة الحمراء بمائة مرة.
إذا أجابت «فيفاتوين» (فيقاقونلد) بدفها المزين بالأجراس، أو تتوجت (جنة العريف) بالنور وأمست كأنها خليفة، ورفعت في ظلام الليل قمتها المضيئة، فلا شيء أجمل من ذلك ولا شيء أعظم من ذلك، وتعزف الأبواق من «أبراج العقيق» كأنها جمهور نحل تسوقه الرياح، وفي القوافة نواقيس مهيئة دائما لإعلان الأفراح، وتطنطن في أبراجها الأفريقية لتوقظ من في البيضاء، غرناطة لا تجاريها الرقباء ولا في شيء، غرناطة تغني الأغاني الرقيقة بأرق مما هي، وتصبغ دورها بأبهى الألوان، ويقال: بأن النسيم تحبس أنفاسها إذا نثرت غرناطة في ليلة من ليالي الصيف نساءها وأزهارها في سهولها.
جزيرة العرب جدتها، والعرب الرحل المقتحمون إنما قطعوا آسيا وإفريقيا من أجلها فقط، ولكن غرناطة كاثوليكية، غرناطة ضحكت منهم، غرناطة تلك المدينة الظريفة لو أمكنها أن تكون اثنتين لكانت إشبيلية أخرى. انتهى.
فإن كان هذا وصف غرناطة عند فيكتور هوكو، فكيف يكون وصف إشبيلية، ولا يخفى ما في تعداد هذه المدن الإسبانية من الأهمية في تاريخ آداب العرب لانتساب الكثير من العلماء والأدباء إليها، كالشريشي شارح المقامات والشاعر الإشبيلي والشاطبي ناظم الشاطبية، وكثير من أمثالهم، وأما قوله: إذا أخرجت غرناطة نساءها وأزهارها للسهول تحبس النسيم أنفاسها، فهو من تشابيه أصحاب الطريقة المدرسية على حد قول العرب: إذا برزت الحسناء احتجبت الشمس خجلا ونحو ذلك.
أما غرناطة فهي في أسفل جبال نفاده (سيبرانفاده)، وعلى مجتمع نهري دارو وجنيل المنصب في الوادي الكبير، وهي مبنية على ثلاث تلال يمتد تحتها سهل واسع من أجمل السهول يسمى لافيكه، وغالب أبنيتها من القرميد الأحمر رصفت بعضها فوق بعض، فأشبهت الرمانة الملفوفة؛ ولذا سميت غرناطة ومعناها الرمانة. وأشهر أبنيتها الحمراء وهي على تلة يجري من تحتها نهر دارو، وفيها برج عظيم على رأسه شرف ولونه عقيقي؛ ولذا قيل له «ثورفيرمبل»، وتجاه الحمراء «البايسين» أي البيضاء وهي حارة من حارات غرناطة، وهي مشتملة على دور لطيفة للسكن، وبقرب الحمراء جنة العريف (جنراليف) وهي قصر للصيف من أبدع القصور مرتفع على قمة عالية، وسميت الحمراء؛ لأنها مبنية بالقرميد الأحمر، ومنظرها الخارجي ليس بعجيب فإذا دخل الزائر من بابها انبهر مما يراه داخلها من التزيين والنقش العربي (أرابسك) والتزويق والترصيع بالفسيفساء، والتصفيح بأنواع المرمر والقيشاني وكتبت عليه آيات قرآنية وعبارة «لا غالب إلا الله»، وفي كل زينة من تزيناتها أو تزويقة من تزاويقها دليل على سلامة الذوق والمهارة التامة في الصنعة وحسن الانتخاب.
ومشتملات الحمراء دوائر كثيرة وساحات ومخادع وأروقة، وجنات تجري من تحتها الأنهار، وفيها جامع وحمامات وأشهر مشتملاتها حوش السباع؛ وهي ساحة سماوية مبلطة بالرخام الأبيض يقرب طولها من 30 مترا، وعرضها 16 مترا وعلى جوانبها أروقة قائمة على عمدان من الرخام وأقواس بديعة، وفي وسط الساحة قصعة بيضاء قائمة على اثني عشر سبع من المرمر الأسود يتفجر الماء من أفواهها، ويجري في قنوات مكشوفة إلى البيوت والمخادع، ولكن الماء منقطع اليوم عنها. ومن مشتملاتها الظريفة قاعة السفراء وقاعة الأختين وغير ذلك، وقد مثلت الحمراء في كثير من المدن الأوروبية، ومثلت في معرض باريس الأخير أحسن تمثيل.
صفحة غير معروفة