فيكتور هوكو: احتفال الفرنساويين له باليوبيل القرني
فيكتور هوكو: علم الأدب عند الإفرنج والعرب
الخاتمة
فيكتور هوكو: احتفال الفرنساويين له باليوبيل القرني
فيكتور هوكو: علم الأدب عند الإفرنج والعرب
الخاتمة
تاريخ علم الأدب
تاريخ علم الأدب
عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو
تأليف
صفحة غير معروفة
روحي الخالدي
فيكتور هوكو: احتفال الفرنساويين له باليوبيل القرني
تذكار فيكتور هوكو لمائة عام مرت من ولادته، احتفلوا بتدشينه في 25 فبراير سنة 1902 في ميدان فيكتور هوكو بباريس.
احتفل الفرنساويون في أوائل سنة 1902 للشاعر فيكتور هوكو في البانتيون، كما احتفلوا في أواخر العام السابق بيوبيل الكيماوي برتلو في الصوربون، والبانتيون هيكل فخيم على رابية من روابي باريس بالقرب من الصوربون، وهو اليوم مدفن أعاظم الرجال الذين يعترف لهم الوطن الفرنساوي بالفضل والحسنى.
ففي السادس والعشرين من شباط الماضي (فبراير) الموافق لختام القرن الأول من ميلاد فيكتور هوكو ابتدأ موسم الاحتفال بيوبيل هذا الشاعر، واجتمع في البانتيون الرؤساء والسفراء والعلماء والشعراء والمشخصون والمشخصات، وكل من اشتهر في باريس من الرجال والنساء، وأكثرهم بالألبسة الرسمية والعسكرية والكساوي العلمية والقضائية موشحون بوسامات الافتخار، أو متمنطقون بمناطق الحرير المثلثة الألوان، أو مكتفون بتزيين صدورهم بأزرار الوسامات، وإشارات المداليات على اختلاف درجاتها وأشكالها، وافتتح هذا الاحتفال الموسيو جورج ليغ ناظر المعارف الفرنساوية بخطبة شائقة.
وتلاه في الخطابة السياسي الشهير الموسيو غابريل هانوتو بالنيابة عن الأكاديمية الفرنساوية، فاختلب الأسماع بجواهر لفظه، واجتذب القلوب ببلاغة معانيه، فانتقل كلامه بالتلغراف والتلفون لجميع المدن الفرنساوية، وربما تجاوزها إلى كثير من البلاد الأجنبية؛ لأن الموسيو هانوتو بعد أن حاز قصب السبق في ميدان السياسة، وحل عقدة ماداغشكر وألحقها ببلاده، وفك العراقيل السياسية في أفريقيا الغربية ونهر النيجر، تنحى عن كرسي الوزراة وقد شغله مدة تزيد على أربع سنوات، وجلس على كرسي الأكاديمية وأقبل على نشر الكتب، وطبع المقالات التي اشتهرت في العالم كله، وكان لها شأن في مصر وغيرها من بلاد الشرق، وهو على رفعة قدره وعلو شأنه لم يزل كما كان في صباه مقيما في الطابق الخامس من بيت يستطرق بابه على بولفار سن جرمن، ويصعد إلى مسكنه بدون مصعدة (أسانسور) مائة درجة.
ثم أنشد بعض المشخصين والممثلات شيئا من قصائد فيكتور هوكو، وتلوا جزءا من أحاديثه وانفض الجمع ليستأنفوا الاحتفال في مواضع أخرى من باريس؛ لأن حفلة البانتيون لم تكن إلا افتتاح موسم أدبي في عموم البلاد الفرنساوية، ودامت الزينات والأفراح فيها سبعة أيام بلياليها، وهم في كل يوم وليلة يرفعون الأعلام، ويضيئون الأنوار، ويجمعون الجموع، ويلقون الخطب، ويأدبون المآدب، ويشربون النخب، ويمثلون على المراسح الروايات، وينشدون الأناشيد، ويحررون المقالات المبتكرة، ويصورون الرسوم البديعة، ويعملون أنواعا كثيرة من المظاهرات والزينات احتفالا بهذا الموسم.
وقرر مجلس نواب الأمة إنفاق ثمانين ألف فرنك لهذا الاحتفال عدا ما تنفقه مجالس البلدية والجمعيات الخيرية والعلمية، مما يفوق أضعاف هذا المبلغ، فجاء هذا الاحتفال على أتم منوال وأحسن نظام؛ لأن الفرنساويين أقدر الأمم المتمدنة على إتقان الزينات، وإتمام معدات الاحتفال للطافة أذواقهم، وخفة أرواحهم، وميلهم إلى البهرجة والزينة، وهم يتهافتون على تعظيم رجال العلم والأدب ويبالغون في إجلالهم حتى كادوا يعبدونهم من دون الله، ويتنسكون في ادخار آثارهم وجمع مناقبهم، وحفظ أخبارهم، ورفع الهياكل والتماثيل والأنصاب لهم، كان الواحد منهم معبود من معبودات قدماء المصريين، أو إله من آلهة اليونان أو الفينيقيين، وهم - والله أعلم - يعتاضون بهذه الاحتفالات عما فاتهم من الاحتفال بتتويج الملوك ويوبيل القياصرة، وقد رفعوا لفيكتور هوكو تمثالا عظيما بل تماثيل، وسموا باسمه الشوارع والميادين، واتخذوا داره متحفا سموه باسمه، وسيجمعون فيه متاع الشاعر وأثاث بيته وكل ما له أدنى علاقة به أو ذكر في أشعاره، ولم يفرطوا بشيء من ذلك ولا أضاعوا له قلما ولا دواة ولا ورقة من الأوراق التي تعلم بها، وهو في المدرسة، وقد كتب على واحدة منها: «أريد أكون شاتوبريان أو لا شيء»، ولا الأوراق التي كان يلاعب بها أولاده، ورسم لهم فيها الرسوم الهزلية والمضحكة، ولا الكيس الذي وضع فيه مبلغ المائة وخمسة وعشرين ألف فرنك ثمن المجلدين الأولين من تأليفه المسمى ميزيرابل .
ولو أردنا وصف هذه الاحتفالات، وإيراد الخطب التي تليت فيها، والإتيان على ما حررته الجرائد من الفصول الطوال لاستغرق الكلام مجلدا ضخما؛ لأن هذه الاحتفالات كان لها رنة عظيمة في أوروبا كلها. وقد نشرت جريدة التيمس الإنكليزية ترجمة هذا الشاعر بالفرنساوية إعظاما لشأنه؛ لأن شهرة فيكتور هوكو ليست في فرنسا وحدها، بل هي طائرة في آفاق العالم المتمدن، وقد وصلت إلى بلادنا الشرقية منذ سنين. أتذكر أني قرأت في «المقتطف» وهو لا يزال في سورية أبياتا لفاضل من الأدباء لخص فيها فكرا من أفكار فيكتور هوكو المذكورة في كتابه المشار إليه، وصف بها حالة البائس المسكين الذي اشتدت حاجته، واضطره الجوع حتى كسر قفل الخباز، وأخذ رغيفا لسد رمقه فانتبه له الخفير، وانقض عليه انقضاض البازي على العصفور، وقاده إلى حبس التوقيف، ثم رفعه إلى محكمة العدل فلم يشفق عليه حكام العدلية، ولا رحمه قضاة الحقانية فارتعدت نفس الشاعر من هذا الظلم القاهر حتى صرخ قائلا: «أين العدالة في أوهام شرعكم؟»
ثم لما أتيت الأستانة وجدت أدباء الأتراك وشعراءهم ترجموا كثيرا من نظم فيكتور هوكو، ونثره فيما نشر من مؤلفات كمال بك، وعبد الحق حامد بك، وأكرم بك، ومدحت أفندي صاحب جريدة «ترجمان حقيقت» سابقا، وفي «مجموعة أبو الضيا»، و«كتبخانة أبو الضيا»، وترجم شمس الدين سامي باشا صاحب قاموس الأعلام جزءا كبيرا من كتاب «ميزيرابل»، وسماه بإضافة أداة الجمع التركية على كلمة «سفيل» العربية، فقال: «سفيللر» أي: السفلة من الناس، ثم بلغني أن بعض أدباء مصر شرع في ترجمة هذا المؤلف الجليل وسماه «البؤساء» أو نحو ذلك، فجمعت شيئا من أخبار فيكتور هوكو؛ ليحصل لنا علم إجمالي بترجمة حياته، وحقيقة فلسفته، وسبب شهرته.
صفحة غير معروفة
الدور الأول من حياته: من ولادته سنة 1802 إلى نفيه سنة 1852
كانت فرنسا في افتتاح القرن التاسع عشر في هرج ومرج من هول «الانقلاب الكبير»، الذي حدث فيها؛ فغير معالمها وثل منها عرش الاستبداد، وحرر العقول، وبدل الظلام بالنور، ووضع العدل في موضع الظلم، وجرى بسبب ذلك من الفظائع الدموية ما تقشعر من سماع حديثه الجلود، لبث الانقلاب من سنة 1790 إلى سنة 1795، ثم نبغ بونابرت، واكتسح بالعساكر الفرنساوية إيطاليا، ثم مصر وفلسطين، وطاف بها أوروبا من مشرقها إلى مغربها، وقهر الملوك والإمبراطور والقيصر، واستقدم البابا من رومية إلى باريس ليلبسه تاج الإمبراطورية ويسميه نابوليون الأول، وأجلس زوجته جوزيفين على سرير الملكة ماري أنتوانيت ثم لم يستحسن التاج على رأسها لأنها أرملة الجنرال بوهارنه، فأبدلها بماري لويز بنت إمبراطور ألمانيا، وجعل أخاه الأكبر يوسف بونابارت ملكا على نابولي، ثم ملكا على إسبانيا، وحشد عساكره في هاتين المملكتين، وكان سيجسبر هوكو والد صاحب الترجمة ضابطا في عسكر الفرنساويين ومأمورا مع جنودهم بالمحافظة على بيزانسون، وهي مدينة على طريق السكة الحديدية بين مرسيليا وباريس، وكان أبوه نجارا وجده فلاحا.
وفي 26 شباط سنة 1802 وضعت امرأته ماري في تلك المدينة غلاما نحيفا ضعيفا، فقيده في سجل نفوس البلدة باسم «فيكتور ماري هوكو»، وكان له ولدان أكبر من فيكتور أحدهما يسمى أبيل والآخر أوجين، وبعد شهرين من ولادة فيكتور تلقى والداه الأمر بالمسير إلى جزيرة كورسيكا، ومنها إلى جزيرة إيليا فحمل إليها امرأته وأولاده وأقام فيها إلى سنة 1805، ثم دعي سيجسبر هوكو إلى باريس فذهب إليها بعائلته، ودخل في خدمة الملك يوسف بونابارت، ورافقه إلى نابولي ومعه عائلته فشاهد فيكتور بركان فيزوف، وهو في السادسة من عمره، وانطبعت في ذهنه صورة هذا الجبل وما يتصاعد من فوهته من اللهيب والدخان، وارتسمت في مخيلته مناظر إيطاليا الطبيعية وجوها الصافي، فلما كبر ونظم هذه الرحلة وصف هذه المناظر في أشعاره أحسن وصف.
ولما ذهب يوسف بونابارت إلى إسبانيا ليلبس فيها تاج الملك اصطحب سيجسبر هوكو، وعاد فيكتور مع أمه وأخويه إلى باريس، وسكنوا في دير فيليانتين بجوار مدرسة الطب العسكرية التي يقال لها: «فال دوغراس»، وهي قريبة من البانتيون، فكان فيكتور يقرأ مع أخويه أشعار فرجيل على راهب متضلع في الآداب اللاتينية، واستمر على ذلك إلى سنة 1811، وقد ترقى والده وصار قائدا على الجيش، وبلغ راتبه إلى ثلاثين ألف فرنك إسبانيولي (ريوس)، ومنحه الملك يوسف لقب كونت، وعينه ناظرا على مطبخه العام، فأحضر حينئذ امرأته وأولاده إلى مادريد. فاستفاد فيكتور هوكو من هذه الأسفار فوائد كبيرة، وتمكن مع حداثة سنه من مراقبة جمال الطبيعة، وحفظ أسماء المدن والبقاع التي مر بها، وشاهد في قصور مادريد آثار العمران الشرقي، وصور أعاظم الرجال الذين قامت بهم القرون الماضية، فاتسعت مخيلته وانفتق ذهنه، ونفح بنفحات شعرائنا الأندلسيين، فرقت ألفاظه، وراقت معانيه، وظهر النفس الأندلسي في أشعاره، وسمعت النفحة الأندلسية من أكثر قوافيه، وذكر في قصيدته التي سماها غرناطة أكثر مدن الأندلس، ووصف ما فيها من المباني والقصور، وذكر في غير هذه القصيدة جميع البلدان التي مر بها في طريقه مثل أيرون، وعين العرب التي يقال لها اليوم: «فونت أرابي» وقلعة إيرناني، وجعل اسم هذه القلعة عنوانا لرواية من رواياته، ودخل وهو في مادريد مدرسة أولاد الأشراف، وخالط فيها أبناء الأمراء من الإسبانيوليين، وعرف أخلاقهم وعاداتهم، فنظمها في رواية «إيرناني»، و«ريوبلاس» وغيرهما من مؤلفاته، واستعار أسماء كثير من رفاقه؛ ليشخصهم في قصصه ورواياته، وكان يدقق في أحوال الجند، ويتأثر بأصوات أبواقهم وصدى موسيقاهم، فأبدع في وصف حركاتهم العسكرية، وفتحهم القلاع، ونزولهم مساء ورحيلهم صباحا، وسيرهم ليلا إلى غير ذلك من الأوصاف التي شخص بها حال العساكر تشخيصا تاما.
ولما انقلبت السياسة في إسبانيا، واشتد الخطر على عساكر الاحتلال أعاد الجنرال هوكو عائلته إلى باريس، ولم يبق عنده إلا ابنه الأكبر أبيل، فأدخله في خدمة الملك، ورجع فيكتور هوكو مع أمه وأخيه إلى الدير الذي كان فيه، وعكف على مطالعة ما عند أمه من الكتب كمؤلفات فولتير، وجان جاك روسو، وديدرو أحد مؤلفي الإنسلكوبيدي، ومؤلفات السائح كوك وغيرهم. وكان لأمه ألفة بعائلة فوشر أحد مستخدمي نظارة الحربية، فكانت مدام فوشر تكثر التردد عليها، ومعها ابنتها الصغيرة عادلة (أديل) لتلعب مع فيكتور وأخيه أوجين، وتستنشق الهواء الصافي في بستان الدير، ولما ضبطت الحكومة هذا الدير في جملة ما ضبطته من أملاك الرهبان سكنت زوجة الجنرال هوكو بالقرب من دار فوشر، فكثر اختلاط فيكتور هوكو بعادلة، وألفها حتى صارت فيما بعد زوجته.
ولم يمض كثيرا من الزمان حتى اشتدت الأزمات السياسية، وتوالت الحوادث المرهبة، وعاد نابوليون بالخيبة من سفر موسكو، وعاد أخوه يوسف بعساكره من إسبانيا ومعه الجنرال سيجسبر هوكو، فالتمس الرجوع لمأموريته والدخول في سلك العساكر الفرنساوية، فلم يقبلوه إلا برتبته السابقة، وبعد أن دارت الدائرة على نابوليون الأول، وحبطت أعمال الحكومة الإمبراطورية وعاد آل بوربون إلى كرسي المملكة الفرنساوية تقرب الجنرال هوكو إلى لويس الثامن عشر، وتملق إليه حتى صار من المقربين لديه، فخلع عليه رتبة الجنرالية، وسلمه قيادة العسكر، فأراد إدخال ولديه الأصغرين في هذا السلك كما أدخل أخاهما الأكبر من قبل، فوضع فيكتور وأخاه أوجين في مدرسة «لوي لوغران»؛ ليدخلهما فيما بعد مدرسة الفنون الحربية وهما من المدارس التي لم يزل يتردد إليهما بعض أبناء الشرق في باريس، فأقبل فيكتور هوكو على تحصيل العلوم الرياضية، ولم يترك مع ذلك نظم الأشعار، فنظم عدة قصائد في الغزل والمدح والهجو والهزل والرثاء، وقصيدة في الطوفان، ولم ير مباينة بين العلوم الرياضية المبنية على حقائق برهانية، وبين علوم الشعر التي كان يظنها الناس خيالات باطلة وأوهاما كاذبة، وإن أعذب الشعر أكذبه، بل كان يعتقد بأن الشاعر لا بد له من تعلم العلوم الرياضية والطبيعية، وكان يعتبر تصور حوادث الكون، وتخيل مناظر الطبيعة، وجمع معاني ذلك في الذهن ثم إفراغ المعاني في قوالب الألفاظ، ونسجها في أبيات الشعر كل ذلك أشبه بتصوير المسائل الحسابية والهندسية، وحل المعادلات الجبرية؛ ولذا قال: بأن صباه لم يكن إلا تخيلا طويلا ممزوجا بدرس مدقق، وأن لا مباينة بين التدقيق والشعر؛ لأن القواعد الرياضية تطبق في الشعر كما تطبق في العلم، وقال أيضا: «إن الكلمة كائن حي فاعلموه.»
وكان شاتوبريان من أفحل أدباء العصر، وله مؤلفات جليلة في النظم والنثر، وقد طاف بلاد الشرق، وزار مصر وسوريا واليونان، وألف بعد ذلك كتابه المسمى «روح النصرانية»، وبحث عن حكمة الديانة المسيحية، فطالعه فيكتور هوكو وأعجب به، وتشرب منه آراء المذهب الكاثوليكي وسياسة الحزب الملوكي، فكتب على دفتره، وهو في المدرسة بتاريخ 10 يوليو سنة 1816: «أريد أن أكون شاتوبريان أو لا شيء.» وبعد سنة من هذا التاريخ فتحت الأكاديمية الفرنساوية مسابقة للشعراء، وجعلت موضوع السباق «فوائد المطالعة»، فنظم فيكتور هوكو في هذا المعنى 320 بيتا عرضها على لجنة التحكيم، ولم يكن له من العمر إلا خمس عشرة سنة، فاستحسنوا أبياته، واستصغروا سنه، وظنوه سارقا شعره فلم يعطوه الجائزة، واكتفوا بقيد اسمه في دفتر الشعراء، وفي السنة التالية بعث إلى جمعية «لعب الأزهار» - وهي جمعية أدبية تأسست قديما في طولوز - القصيدة التي سماها «عذارى فيردون»، وتشبب فيها ببنات تلك المدينة التي على الحدود الألمانية، وبعث أيضا بقصيدة أخرى في مدح هنري الرابع، فنال بهما جائزة الجمعية.
وفي سنة 1818 أكمل فيكتور هوكو دروسه في مدرسة «لوي لوغران»، واستنكف من الدخول في امتحان المسابقة لأجل قبوله في المكتب الحربي، وكتب لأبيه بأنه عدل عن سلك العسكرية، واتخذ الشعر صنعة يتعيش منها وأن لا حاجة له بالراتب القليل المعين له، وأقبل على الجد والاشتغال ومثابرة الأعمال، واشترك مع أخيه الكبير أبيل، وكان له مشاركة في علوم الأدب، فأسسا جريدة أدبية عنوانها «المحافظ الأدبي»، ونشر فيكتور هوكو الأشعار البديعة، والمقالات الانتقادية.
وكان لويس الثامن عشر الذي جلس على سرير الملك سنة 1824 عاقلا ماهرا لم يصغ لأقوال الذين يريدون إطفاء نور العلم والحرية، وإعادة المظالم القديمة، بل أعطى الشعب حقوقه، وسن لبلاده القوانين، وكان ولي عهده أخاه شارل العاشر وله ولد اسمه دوك دوبري قتله أحد الرعاع، وهو خارج من مرسح الأوبرة سنة 1820، وخلف دوك دوبري طفلا صغيرا اسمه دوك دوبوردو، فنشر فيكتور هوكو في جريدته قصيدة هنأ فيها بالمولود وأخرى رثى فيها الوالد والقصيدتان موافقتان لسياسة الحزب الملوكي، فاستحسنهما لويس الثامن عشر، وأجازه عليهما بخمسمائة فرنك، وفي تلك السنة بعث فيكتور هوكو إلى جمعية لعب الأزهار في طولوز بالقصيدة التي عنوانها «موسى على النيل»، فكافأته عليها بالمدالية الذهبية، وكانت على شكل الزهرة ومنحته لقب الأستاذ في جمعيتها.
فاشتهر هوكو وانتشر شعره، ولقبه شاتوبريان بالولد النجيب، وفتحت الشعراء له أبوابها، فتعارف على ألفرد دوفينيه ولامارتين مؤلف «الرحلة الشرقية»، وسومه وإميل دوشان وغيرهم من شعراء العصر وفحول أدبائه، وفرح به جميع المنتصرين للحزب الملوكي؛ لأنه على مذهبهم السياسي ودينهم الكاثوليكي، وترنموا بأبياته في مجامعهم، وأنشدوا قصائده في نوادي سمرهم، وكان ينظم لهم القصائد الهزلية والمدائح الملوكية على ما يوافق مشربهم مثل «التلغراف»، و«المقيد السياسي»، و«القريحة»، وغيرها.
صفحة غير معروفة
فانشرح صدر الشاعر بهذه الشهرة، وارتاح باله من جهة تأمين معاشه في المستقبل، ولعب الهوى في رأسه فرأى بجانبه صاحبته من الصغر قد انتقلت إلى سن الشباب، وانتصبت قامتها كالغصن، ولبست أثواب الجمال والحسن، فهام في حبها، وأراد الاقتران بها فمنعته أمه لفقر البنت وعدم وجود مهر كاف (دوته) معها، وقطعت علائقها مع عائلة فوشر، فتألم الشاعر بألم الفراق، وأخذ يراسل حبيبته برسائل الحب والاشتياق، ونشرت هذه الرسائل بعد موته تحت عنوان «مراسلات الخطيبة».
وفي سنة 1821 توفيت والدته فحزن عليها حزنا شديدا لزيادة حنوها عليه، وكثرة إحسانها إليه، ولم يمض شهر على وفاتها حتى تزوج والده بواحدة من الغنيات الشريفات لقلة وارده وكثرة نفقاته، وبقي فيكتور هوكو وحيدا فريدا، وانتقل من الدار التي كان فيها مع أمه إلى مسكن صغير، وتضايق في أمر معاشه لقلة ما في يده، ولاحتياجه لمن يدبر له البيت ويهيئ له الطعام، وأخذ يفكر في معشوقته وفي الوصول للاقتران بها؛ لأن أباه افتقر بعد سقوط الحكومة الإمبراطورية، وأبو حبيبته لم يكن من أصحاب الثروة العظيمة، فاجتهد فيكتور هوكو في تحصيل المال، وأقبل على النظم والتأليف، ونشر سنة 1822 ديوان قصائده، فكان له رواج عظيم، وقرأه لويس الثامن عشر، وأعجب به وأحسن على الشاعر من خزينته الخاصة براتب سنوي قدره ألف فرنك، فافترج الشاعر بهذا المعاش، وتزوج بعادلة فوشر ولها من العمر 19 سنة، وبينما هم في حفلة العرس على مائدة الطعام، نهض أخوه أوجين، وأجرى أفعالا منكرة ، وفاه بكلام غير معقول، فحملوا ذلك أولا على إكثاره من شرب المدام، وذهبوا به إلى بيته، وفي الصباح وجدوه مختل الشعور، وفهموا أنه يحب عادلة محبة شديدة، وكان يخفي حبها فلما تزوجت بأخيه هاجت عواطفه وذهب عقله فوضعوه في بيمارستان سارانتون، وهو في أرباض باريس، واستمر فيه إلى أن مات، وكانت عادلة بديعة الحسن رقيقة الحواس غير أنها بسيطة الفكر غير مفرطة الذكاء، وكان زوجها متيما في حبها، فسكن مدة عند صهره، ولما بلغ راتبه من الملك 2000 فرنك في السنة خرج بها من دار أبيها، وسكنا في بيت على حدة، فولدت له أولادا كبروا وماتوا في حياته، وهم ليوبولدين ماتت غريقة في نهر السين، وشارل مات فجأة عند صاحبة له في بوردوا، وفرانسوا مات في باريس، وعادلة تزوجت على كره من أبيها، وأصيبت بداء الجنون مثل عمها وهي لم تزل في قيد الحياة، فكانت هذه المصائب باعثة على نظم القصائد التي عنوانها «أولادي»، ورثاهم أيضا في كتاب «التأملات» وغيره بأرق المراثي، وكان موحدا في الاعتقاد، ولم يتبع مذهب المسيحيين في البقاء على زوجة واحدة، بل شغف بعد ذلك بحب إحدى الممثلات، وأسكنها مع زوجته، وعمل عمل القائلين: بتعدد الزوجات مع رعايته واحترامه لزوجته الأولى.
وأخذ فيكتور هوكو يحرر في مجلة «الموز الفرنساوية» التي أنشأها الأديبان سومه وديشان، ويتردد على بيت شارل نوريه، وكان هذا الفاضل مديرا لمكتبة أرسنال، وهي إحدى المكاتب الأربع الكبيرة في باريس، ونال معاشا وافرا بسبب هذه الوظيفة، وفتح بيته للعلماء والشعراء حتى صار مجمعا للأدباء، وأسسوا فيه سنة 1824 جمعية أدبية على الطرز الجديد، وفي هذه السنة توفي لويس الثامن عشر، ولبس أخوه شارل العاشر تاج الملك، فمدحه الشاعر بقصيدة عنوانها «التتويج» فحازت القبول، وأنعم عليه الملك بوسام الافتخار من رتبة شيفاليه كما أنعم بذلك على الشاعر الشهير لامارتين، ولما نشر فيكتور هوكو ديوانه في المدح والغزل، وحاد فيه عن مسلك الشعر القديم المسمى «كلاسيك»، وسلك في النظم مسلكا جديدا انتقد عليه أصحاب الطريقة القديمة، وسلقوه بألسنتهم .
ونشر الشاعر «سنت بوف» في جريدة الغلوب بتاريخ 6 كانون ثاني سنة 1827 مقالة انتقادية كانت سببا لتحويل أنظار الناس إلى الطريقة الجديدة؛ ولتعارف الشاعرين حتى صارا من أعز الإخوان، وكان شارل العاشر قد حاد عن طريقة أخيه العادلة في سياسة الملك، ومال إلى الاستبداد، فنفر منه الأدباء والأحرار، واغتنم سفير النمسا في باريس هذه الفرصة، وندد في أمراء العساكر الذين خدموا مصالح نابوليون الأول، وأهانهم في الكلام فانتصر لهم فيكتور هوكو؛ لأن أباه كان في زمرتهم، ونظم قصيدة في مدح «العمود» أي: العمود الذي رفع لنابوليون في ميدان فاندوم، وطلي بنحاس المدافع التي غنمها في حروبه، ونقش عليه أسماء المواقع الحربية، والأمراء العسكرية. وكان الشاعر في ذاك التاريخ قد بلغ سن الرجولية، وهو السن الذي يتأهل فيه الرجل لحقوق الانتخاب، فظن كبقية أدباء العصر المتخوفين من استبداد شارل العاشر أن الحكومة الإمبراطورية أكثر عدلا وحرية من الحكومة الملوكية؛ ولذا أقبل على إظهار فضل نابوليون وإشهار مجده بدون أن يتعرض بالقدح لآل بوربون.
ونشر عقب مدحه العمود قصة كرومول، وشرح في مقدمتها طريقته الجديدة في علم الأدب، وشكل جمعية من أنصار هذه الطريقة وفي مقدمتهم ألفرد دوفينيه، وسنتابوف، وإميل دوشان، وألكساندر دوماس، وبولانجه، وغيرهم مثل لامارتين، وسموا طريقتهم «رومانتيك» كما كان المتقدمون يسمون طريقتهم «كلاسيك»، وصار فيكتور هوكو إمام المدونين في هذه الطريقة الجديدة، فانتقد عليه الكثير من أرباب السياسة وحملة الأقلام، ولاموه من وجهين أحدهما لمدحه نابوليون، وإشهاره مجد الحكومة الإمبراطورية، وثانيهما لعدوله عن مذهب الشعر القديم وسلوكه في النظم والنثر مسلكا جديدا، غير أن الشاعر لم يصغ للوم اللائمين، واستمر يتردد على بيت صاحبه شارل نوريه، وينشد قصائده أمام الحاضرين، ويستميلهم لطريقته واحدا بعد واحد، ولما اتجهت أنظار العموم نحو الشرق بسبب ثورة اليونان، وذهاب العساكر المصرية للموره، وغدر الدول في وقعة نافارين نشر فيكتور هوكو ديوانه المترجم «بالشرقيات»، ولم يزر الشرق ولا رأى نساءه مثل شاتوبريان ولامارتين، ولكنه درس أحواله درسا مدققا، وقرأ ما ترجم من كتب أدبائه مثل كلستان سعدى، وديوان حافظ شيرازي، وما ترجم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فراج ديوان الشرقيات لحداثة موضوعه، وبحث فيه عن الممالك العثمانية، والعوائد الشرقية، وعن بلاد اليونان، وإيتاليا، وإسبانيا، وكانت النفوس متشوقة للاطلاع على ما في زوايا الشرق من الخبايا.
ثم نشر قصة عنوانها «آخر أيام المحكوم عليه»، وصور فيها الاضطراب الذي يحصل للمقتول قبل قتله. وفي سنة 1839 وجه الشاعر التفاته نحو المرسح الفرنساوي (كوميدي فرانسه)، وشرع في اكتساب الرزق من تحرير الروايات المحزنة التي يسمونها «درام»، وحرر رواية «ماريون دو لورم»، وهي غانية من غواني باريس أحبها أحد الرهبان، وكان لها نبأ عجيب على عهد لويس الخامس عشر، ولما أراد مدير المرسح تشخيص الرواية منعه المراقب، فرفع شكواه من ظلم مراقب المطبوعات إلى الملك، فلم يأذن له بتشخيصها ومع ذلك قربه إليه، ولاطفه بالكلام، وقال: «أحب قريحتك الشعرية، وليس عندي أشعر منك ومن ديزوجيه»، وزاد في راتبه حتى أبلغه 4000 فرنك، فرفض فيكتور هذا الراتب مع شدة احتياجه إليه، وشرع في تحرير رواية «إيرناني» فأكملها في بضعة أسابيع، وشخصت على المرسح الفرنساوي ليلة 25 شباط سنة 1830، واشتد بسببها القيل والقال، وعلا في المرسح الصفير والجدال بين أصحاب المذهب القديم والمذهب الحديث في علم الأدب، وتم النصر في تلك الليلة لهوكو وشيعته، ولم يبق معه من النقد سوى خمسين فرنكا، فتقدم إليه ملتزم الطبع، وبارك له بنجاح الرواية، ونقده في مقابلة حق طبعها ستة آلاف فرنك، واستلم منه النسخة الخطية، وعقد معه مقاولة على تحرير قصة «نوتردام دو باري»، وتسليمها في ظرف ستة أشهر، فأكب الشاعر على المطالعة والتحرير، وأكمل القصة قبل انتهاء الأجل المحدود، فطبعت وكان لها رواج عظيم، واسم الرواية مأخوذ من كنيسة باريس الجامعة، وهي بناء فخيم بالقرب من دار البلدية ودار الحقانية.
ولما أصدر شارل العاشر أمره بإلغاء الحرية التي منحها سلفه للشعب، وبتعطيل أحكام القانون الأساسي هاج أهالي باريس، وحدث انقلاب تموز سنة 1830، وسالت الدماء في العاصمة ثلاثة أيام بلياليها، ففر شارل العاشر من فرنسا، وتنازل عن الملك لابنه وولي عهده دوك إنكوليم - وإنكوليم بلدة بين بوردو وباريس - غير أن هذا الدوك استعفى أيضا، وانتقل الملك بالإرث الشرعي إلى دوك بوردو، وهو حفيد شارل المشار إليه، فالجمهور من الفرنساويين لم يلتفتوا إلى حقوق هذا الصبي، وانتخبوا ملكا عليهم لويس فيليب ابن عم شارل العاشر؛ لقبوله إعطاء الأهالي حقوقهم وتعهده بحماية القوانين، فهوكو - شاعر الملك والمدافع عن حقوق الملكية، وناظم القصائد الغراء في ولادة دوك بوردو صاحب الميراث الشرعي، وفي رثاء أبيه دوك بري - لم يهتز لهذه الحوادث، بل أظهر استحسانه ما فعله الشعب، ولم يعبأ بالمسائل السياسية، وظل يشتغل في فنون الأدب فنشر ديوانه المسمى «أوراق الخريف»، وشخص على المرسح الفرنساوي سنة 1831 رواية ماريوم دولورم التي منع تشخيصها سابقا، ثم رواية «الملك يتسلى»، وهي رواية تاريخية موضوعها فرانسوا الأول الذي التجأ إلى ساكن الجنان السلطان سليمان القانوني من شر عدوه شارلكين؛ فمنع مراقب المطبوعات إعادة تشخيص هذه الرواية للتعريض فيها بالملوك، فرفع الشاعر شكواه إلى محكمة التجارة، ودافع عنها بنفسه أمام الحكام، فلم يسمحوا له بالتشخيص، ولم يجر تشخيصها مرة أخرى إلا سنة 1882، وكان الذي ربحه فيكتور هوكو من مؤلفاته كافيا لإنقاذه من مخالب الفقر وسعادة حاله ففتح بيته للزائرين؛ حتى صار مجمع الأدباء ومركز الشعراء، وفي جملتهم الكاتب الشهير تيوفيل غوتيه إلا أن الشقاق وقع بينه وبين صاحبه القديم ألكساندر دوماس، ودام الخصام أعواما كثيرة؛ لأن غيرة الشعراء والعلماء بعضهم من بعض أشد من غيرة الأمراء.
وجفاه أيضا حبيبه سنت بوف الماهر في فن الانتقاد، وقال عن مؤلفاته: بأنها ممزوجة بآراء السياسة الملكية، والديانة الكاثوليكية، والفلسفة السيمونية - وهي التي وضعها الكونت سن سيمون في آواخر القرن الثامن عشر، وفرض فيها تعلم الصنائع على كل فرد من أفراد الأمة، فلم يتبعه إلا القليل من الناس مثل كارنو والد رئيس الجمهورية الأسبق - فعمل برأيه ومع جلالة قدره جعل أحد أولاده نجارا، والآخر مهندسا وكلاهما من أكابر رجال الدولة، ثم ألف فيكتور هوكو رواية «لوكريس بورجيا»، وهي أخت قيصر بورجيا الشهير بالإسراف وفساد الأخلاق، وكانت بديعة الحسن ولها حديث غريب، فشخصت هذه الرواية في 2 فبراير سنة 1833، فأقبل الناس على استماعها، ثم شخصت مرارا على المرسح الذي بباب سن مارتن، وكانت الممثلة التي شخصت دور الأميرة نيكروني هي ماد موازيل جوليت دروه التي سبت الشعراء بحسنها وعقلها، فشغف فيكتور هوكو بحبها، وبعد أن تردد على بيتها كثيرا أسكنها في بيته عند زوجته فلامه أحد أصحابه، فحرر إليه يعتذر بأن زوجته أذنت له وسامحته على ما فرط به من حب جوليت، ولم تزل زوجته تحبه وتعزه، واستمرت في صحبة الشاعر، ورافقته في منفاه، وكانت تحرر له القصائد وهو يملي عليها، ودامت معه إلى بعد وفاة زوجته ورافقته أيضا في سن شيخوخته، ونشر فيكتور هوكو أيضا رواية «ماري تيدور»، وهي ملكة الإنجليز، ورواية «أنجلو»، وهو أمير ظالم من أمراء الطليان، ورواية «ربوبلاس»، وهو اسم خادم الوزير الذي خدعت به ملكة إسبانيا، وكثيرا ما تشخص اليوم على المراسح الفرنساوية هي ورواية «إيرناني»، ورواية «كلودكو»، وهي مما ترجم من مؤلفات هوكو إلى التركية، وفيها دفاع بليغ عن المحكوم عليهم بالإعدام وتشنيع هذا القصاص.
ومما نشره في هذا التاريخ من الأشعار الموسيقية غير أوراق الخريف «أغاني الشفق»، و«الأصوات الداخلية»، و«الأشعة والظلال»، وغير ذلك؛ فصار فيكتور هوكو بهذه التآليف يعد من فحول أدباء العصر، وانتسب لدوك أورليان وزوجته ووجه عليه لويس فيليب نشان الافتخار من درجة أوفيسيه، وأهداه صورته، وانتخبته الأكاديمي الفرنساوية عضوا في جمعيتها بأكثرية صوتين فقط بعد أن عارض أعضاؤها زمانا طويلا في قبوله لشدة تمسكهم بالقواعد، وأساليب الإنشاء القديمة، ولم يدخلوه بينهم إلا بعد أن اشتهر فضله كالشمس في رابعة النهار.
وسنة 1839 ساح فيكتور هوكو في جبال الألب على حدود إيطاليا وسويسرا، وشاهد مناظرها البديعة وزار بعد سنتين ضفاف الرين، ودرس أحوال بلاد الألمان، وكتب سياحته في مجلدين نشرا بعد موته، وألف أيضا رواية «بورغراف» التاريخية وبين فيها أخلاق أمراء الألمان في القرون الوسطى، فشخصت على المرسح الفرنساوي سنة 1843، ولم يقبل عليها الجمهور ولا حصل منها أرباح للمشخصين، فتكدر الشاعر من سوء طالعه، وعدل عن تأليف الروايات، وترك رواية «التؤام» التي شرع في تأليفها بدون أن يكملها، وكانت الأفكار العمومية تحولت عن طريقة الأدب الجديدة (رومانتيك)، وعادت للإقبال على طريقة (كلاسيك) القديمة لظهور بعض المؤلفات الجديدة فيها، وبمناسبة ذلك هزأت بعض الجرائد الهزلية بفيكتور هوكو وصورته برأس كبير، وهو واقف أمام المرسح بجانب إعلان هذه الرواية ينظر إلى السماء، وقد طلع ذو ذنب وكأنه يناجي ربه وهو يقول: «لماذا جعلت للنجوم أذنابا وتركت البورغراف بلا أذناب»، وتطلق كلمة بورغراف على ذوي الآراء السخيفة في ضروب السياسة، والمقصود تركت الرواية بلا جمهور يزدحم على باب المرسح، فيتألف منه ذنب طويل كما هي العادة في إقبال الناس على الروايات المهمة، واصطفافهم الواحد وراء الآخر لاشتراء أوراق الدخول.
صفحة غير معروفة
وخرج فيكتور هوكو من باريس إلى جبال البيرنة على حدود إسبانيا يروض فيها أفكاره، ويزيل أكداره، ولم يلبث فيها كثيرا حتى فاجأه مصابه ببنته، وكانت في التاسعة عشرة من عمرها، وقد فارقها وهي في أثواب العرس فخرجت بزوجها تتنزه في زورق على نهر السين في مدينة فيلكيه، فانقلب بهما الزورق وماتا غريقين قبل أن يمضي على زفافهما أربعة أشهر، وزوجها شارل فاكيري هو أخ الأديب المشهور أوغست فاكيري، فزاد كدر فيكتور هوكو، واختبر بهذه المصيبة آلام الحياة وهمومها ودخل الحزن قلبه ولعلمه أفانين الرثاء، فأجاد وأبدع في المراثي التي نظمها، وأكثرها مدرج في كتاب «التأملات». غير أنه من هول هاتين المصيبتين وهما موت ابنته، وعدم رواج روايته يئس في بادئ الأمر من هذا العالم الفاني، وانقطع رجاؤه بالله وضعف اعتقاده، ورفض الشعر مدة، وأقبل على الإشغال بالعلوم السياسية، ودرس المسائل الاجتماعية، فنشر كتابا عنوانه «مكاتيب على الرين» حاول فيه حل مسألة الموازنة الأوروباوية، وتوهم تقسيم ممالك أوروبا بين فرنسا وبروسيا، وأراد تقليد لامارتين في الدخول لميدان السياسة - لأن الشاعر لامارتين بعد أن خدم طويلا في كتابته السفارات الفرنساوية، وصار سفيرا في طوسقانة وأتينة ترقى إلى مسند الوزارة، ولما زار الشرق نال شرف المثول بين يدي السلطان عبد المجيد خان، وحاز على الالتفات الشاهاني، وأحسن إليه بأبعدية «جفتلك» في ولاية أزمير، فأقام فيها وحرر تاريخ الممالك العثمانية في ثمانية مجلدات - ففتح لويس فيليب باب الحكومة لفيكتور هوكو، وعينه عضوا لمجلس الأعيان سنة 1845، فجلس مع أصحاب اليمين، وانضم لحزب الأكثرية، وهو حزب الوزارة، وقال بقولهم، وتكلم في بعض المسائل فخطب خطبة في «ماركة الفابريكات»، وأخرى في «المسألة البولونية»، ومدح البابا الحر وطلب إرجاع عائلة بونابرت، فلم يكن لكلامه تأثير على أعضاء المجلس كما كان لأشعاره، ورواياته تأثير في نفوس الجمهور عند صدورها على المراسح من أفواه الممثلين، والمشخصات؛ لأنه لم ينل من القوة النطقية ما ناله من القلمية والفكرية.
ولما قوي حزب الجمهورية، وحدث انقلاب سنة 1848، وأنزل لويس فيليب عن عرش الملك، وأعلنت حكومة الجمهورية الثانية على فرنسا انتخب فيكتور هوكو عضوا في مجلس الأمة من إبالة السين، وأسس في تلك السنة جريدة الوقائع (إيفينمان)، وكتب عليها «البغض الشديد للفوضوية، والهيام في الشعب والحنو عليه»، وكان يعينه في تحرير الجريدة ابناه شارل وفرنسوا، وأصدقاؤه من أفاضل المحررين مثل بول موريس، وأوغوست فاكيري، وتيوفيل غوتيه والبر لوقروا وغيرهم، وكان المترشح لرئاسة الجمهورية اثنين وهما نابوليون الثالث، والجنرال كافينياك فمالت جريدة الوقائع في خطتها السياسية لنابوليون؛ لأن فيكتور هوكو كان يترنم في قصائد «المدح في العمود»، ويطرب لذكر مجد نابوليون الأول؛ ولذا فإنه أحب في بادئ الأمر ابن أخيه نابوليون الثالث، وظن أنه يتقرب إليه ويكون مستشارا له فرجحه في الانتخاب على الآخر، واكتسب نابوليون الثالث أكثرية الأصوات، وكانت تزيد على خمسة ملايين ونصف مليون، فأعلن رئيسا على الجمهورية، واستلم زمام الإدارة ولم يلتفت لفيكتور هوكو، فلما خاب ما أمله الشاعر انقلب عن أصحاب اليمين إلى أصحاب الشمال، وصار من أكبر رؤساء الحزب المخالف فاتهمه العقلاء بأنه مذبذب يتردد بين اليمين والشمال، ودافع عنه أصحابه بقولهم: إن الشاعر لا يهتم بالأحزاب، وإنما يرى مصلحة الأمة فيسير معها، وكان كلما خطب في المجلس خطبة شددوا عليه النكير وذكروه بسوابق أعماله وأشعاره، ولما تمت الرئاسة لنابوليون مالت نفسه للبس التاج، وشرع في إعداد المعدات وتهيئة الأسباب، فتظاهر فيكتور هوكو له بالعداوة، ونشر في تقبيح سياسته فصولا، وعرض باسمه في جريدة الوقائع، فسماه نابوليون الصغير فاتهم مراقب الجرائد ابنيه المحررين لتلك الجريدة وحاكمهما وألقاهما في السجن، ثم استبد نابوليون بالأمر وأجرى حادثة 2 ديسمبر سنة 1851، وألقى القبض على زعماء الحزب الجمهوري وجميع المتهمين بمخالفة السياسة الإمبراطورية، وكان اسم فيكتور هوكو في رأس قائمة المتهمين، فساعدته حبيبته الممثلة جوليت دروه على الاختفاء، واستحصلت له على تذكرة مرور، فخرج من باريس فارا؛ وهنا تم الدور الأول من أدوار حياته.
الدور الثاني: وهو مدة وجوده منفيا من سنة 1852 إلى رجوعه لباريس سنة 1870
بعد أن فر فيكتور هوكو من باريس تجاوز الحدود الفرنساوية، وأتى بروكسل عاصمة البلجيك، وكان في غاية الضيق من قلة النقود، فحرر لزوجته يوصيها بالتدبير والتقتير، ويعرفها بأن مصروفه في الشهر لا يتجاوز مائة فرنك، وأقبل على التحرير، والتأليف وهو يستشيط غضبا فنشر كتابه «نابوليون الصغير»، وكان أول صاعقة من الصواعق التي رماه بها، ثم نشر «تاريخ جرم»، فتهافت الناس في فرنسا وعموم أوروبا على مطالعة هذين الكتابين، فمنع نابوليون دخولهما لممالكه، وأمر سفيره في بروكسل بأن يطلب من حكومة البلجيك إبعاد فيكتور هوكو عنها، فلم تجسر الحكومة على ذلك إلا بعد أخذها قرار مجلس النواب، فدعته للخروج فذهب إلى جزيرة جرسي التابعة لإنكلترة، وهي جزيرة في بحر المانش بين فرنسا وجزائر بريطانيا العظمى، وجلب إليها عائلته، وكانت حبيبته جوليت سبقتهما، وأقامت معه في بروكسل، وشاركته في السراء والضراء، وكان في ضيق من جهة المعاش، ولم يكن معه إلا سبعة آلاف فرنك فعرف الجوع بقوله: «إن المخمصة تثقب في قلب الإنسان ثقبا وتملأه بالحقد»، ونشر كتاب «القصاص» سنة 1853، وكان صاعقة على نابوليون أشد من الأولى، وراج رواجا عظيما في فرنسا وأوروبا، وربح ملتزم طبعه في بروكسل ربحا وافرا لم يعد منه على المؤلف إلا اليسير .
ولم يزل نابوليون الثالث يضطهد رجال الحزب الجمهوري، وينفيهم من الأرض، فعارضه فيكتور هوكو ونظم عدة قصائد في وصف حالة أولئك المضطهدين الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا، فطلب سفير فرنسا في لوندره إخراج هوكو من جزيرة جرسي وإبعاده، فأخرجته الحكومة الإنكليزية إرضاء لنابوليون، ولكنها لم تضيق عليه، فذهب إلى جزيرة كيرنيزي وهي بجوار الجزيرة الأولى في بحر المانش وتابعة مثلها للإنكليز، واشترى فيها دارا خربة مهجورة مبنية على صخرة عالية مطلة على الأوقيانوس المحيط، وتسمى «هوت فيل هوس»، فرممها وسكنها واتخذ الطبقة العليا منها غرفة لأعماله، فكان يشتغل فيها بالنظم والتأليف، ويفكر في تقلبات الدهر وأحوال العالم، وبصره شاخص إلى لجة البحر المحيط، وكان يعينه في التحرير والمطالعة ابناه وزوجتاه وصاحبه الشاعر أوغست فاكيري، فنشر سنة 1856 كتاب التأملات، وعرفه بسانحات البال، ثم أخذ يسلي همومه بمطالعة أخبار المتقدمين، ودرس سير الإنسان في مدارج الترقي والعمران، فنشر القسم الأول من كتاب «سير الدهور» سنة 1859، ثم ألف قصته الشهيرة المترجمة ب «البؤساء»، وكان له صديق حميم، وهو موسيو لوقروا ناظر البحرية في الوزارة الفرنساوية السابقة؛ أي وزارة الموسيو ميلين، فكان هذا الأديب يعين الشاعر على طبع مؤلفاته في البلاد الأجنبية، فلما بعث إليه بالمجلدين الأولين من كتاب البؤساء باعهما لملتزم الطبع في إنكلترة بمبلغ قدره 125 ألف فرنك ذهب إنكليزي.
ولما نشر هذا الكتاب سنة 1862 أقبل المترجمون على ترجمته، ونشروه في تسع لغات من لغات أوروبا في آن واحد، وكان أصحاب المطابع تستدعي الموسيو لوقروا من جميع الجهات في إنكلترة، وألمانيا، والنمسا ليشتروا منه حق الترجمة والطبع، ولما ذهب إلى لوندره عند الكتبي الشهير في بترنوستر رود سأله بعنف: كم تطلب بحق نشر كتاب البؤساء في اللغة الإنكليزية؟
فأجابه: ثلاثة آلاف ليرة إنكليزية، فتناول دفتر الشك، وحرر المبلغ والاسم، وقال له: - خذ نحن على وفاق
فيكتور هوكو وحفيداه.
فسعد حال فيكتور هوكو من جهة المعاش، وذهب عنه الضيق، فنظم داره، وغرس أرضها بالأشجار والرياحين، وطار ذكره في العالم المتمدن، وقصده الزوار، وكاتبه الرجال، وكان البعض يحرر عنوانه «فيكتور هوكو في الأوقيانوس»، فكانت المكاتيب تصله بهذا العنوان المبهم لسعة شهرته، واشتهر اسمه لاقترانه باسم نابوليون، وكبره البعد والاعتزال في مخيلات الناس حتى اعتقدوه من أكبر العقول البشرية، وكانت العيون ترقب طلوع مؤلفاته كما ترقب شمس الشتاء، وفي سنة 1864 نشر كتاب «وليم شكسبير» في الفلسفة، وبعدها بسنة نشر ديوان «أغاني الشوارع والأحراج»، وفي سنة 1866 نشر قصة «المشتغلين في البحر»، ووصف فيها ما يكابده الفلاحون من المشاق وما يتورطون فيه من الأخطار، وفي سنة 1869 نشر قصة «الإنسان الضاحك»، ولم يأل جهدا وهو في تلك الجزيرة عن الانتصار للأقوام الذين غدر بهم الزمان، ورماهم سوء الطالع بالخسران، وفعل ما فعله فولتير وهو في فيرين، فدافع عن عصاة أيرلاندة وعن مكسميليان إمبراطور المكسيك، وهو أخ إمبراطور النمسا أغراه نابوليون الثالث على لبس التاج، وأمده بالعساكر الفرنساوية ثم تخلى عنه، فحاكمه المكسيكيون وقتلوه.
ثم إن المسائل العائلية أخلت براحة الشاعر وأقلقت أفكاره، وذلك أن ابنته عادلة أحبت قومندان المركب المحافظ على الجزيرة، وتزوجت به رغما عن والدها، وذهبت معه إلى الهند منشأ الطاعون ومهب الريح الأصفر، فمات فيها وعادت لفرنسا مختلة الشعور سنة 1872، فأدخلوها البيمارستان مثل عمها وهي التي ورثت أباها، وفي سنة 1868 توفيت زوجة فيكتور هوكو في بروكسل بعد أن كف بصرها، وذهب ابناه في السنة التالية إلى باريس مع صاحبهما أوغست فاكيري؛ لينشئوا فيها جريدة «رابل» وينددوا بالحكومة الإمبراطورية، وذهب فيكتور هوكو إلى بلاد سويسرا؛ ليحضر مؤتمر لوزان ويخطب فيه خطبته المشهورة، ولما جرت الانتخابات في أوائل سنة 1870 نشر فيكتور هوكو رسالة اعتراضية عنوانها «لا»، ثم انتشبت الحرب بين فرنسا وبروسيا، ودارت الدائرة على نابوليون الثالث، فسلم سيفه في ميدان القتال إلى ملك بروسيا، وطار الخبر إلى باريس، فاجتمع رؤساء الحزب الجمهوري في دار البلدية، وأعلنوا الحكومة الجمهورية مكان الإمبراطورية في 4 سبتمبر سنة 1870، وهي حكومة الجمهورية الثالثة الحالية، ولم يعد مانع لفيكتور هوكو من الرجوع إلى فرنسا، وبذلك انتهت أيام نفيه.
صفحة غير معروفة
الدور الثالث من حياة فيكتور هوكو، وهو دور شيخوخته أي: من رجوعه إلى فرنسا سنة 1870 إلى وفاته سنة 1885
بعد أن أقام فيكتور هوكو في منفاه ثماني عشرة سنة عاد إلى باريس مع من عاد من أركان الحزب الجمهوري، واستقبله أحباؤه وأشياعه، وأنزلوه على الرحب والسعة، فحرر خطابا بليغا للألمانيين يحضهم فيه على الصلح وترك الحرب، وكان من رأيه السياسي وضع اتفاق بين الأمة الفرنساوية والبروسيانية وتقسيم البلاد بينهما؛ فلم يصغ الألمانيون لخطابه وظلوا هاجمين حتى بلغوا خنادق باريس، وألقوا الحصار عليها، فترك فيكتور هوكو القلم من يده، وأمسك السيف، وانتظم في سلك الجنود المحافظين من الأهالي، ودافع عن أوطانه، وتألم بآلام إخوانه، ولما احتلت العساكر البروسيانية باريس هاجر منها أهلها، واتخذت الحكومة الجمهورية مدينة بوردو مركزا لها عوضا عن باريس، وانتخبت أيالة السين فيكتور هوكو مبعوثا لها في مجلس النواب، فلما قام يخطب عارضه أصحاب اليمين، وأكثروا اللغط، وأبوا الإنصات له، فقال لهم: «منذ ثلاثة أسابيع رفض المجلس الإصغاء لغاريبالدي، واليوم يرفض الإصغاء لي فأقدم استعفائي».
وغاريبالدي هو من القواد الذين حاربوا لأجل استقلال إيطاليا، وهاجم رومة العظمى وانتزعها من يد البابا، وسلمها إلى ملك إيطاليا ليتخذها عاصمة للملك، فلما انتشبت الحرب بين فرنسا، وبروسيا دخل متطوعا في العسكر الفرنساوي، ودافع عن فرنسا أشد المدافعة، فانتخب مبعوثا في مجلس النواب مع كونه طلياني الأصل، وكانت الأكثرية في المجلس من حزب الملوكيين والرهبانيين فاتهموه بالكفر والإلحاد لتجاوزه على رومة، ونزعه سلطة البابا منها؛ ولذا لم يصغوا لكلامه.
وفي ذاك التاريخ أعيد طبع كتاب «القصاص» نكالا من حزب الإمبراطورية، وكان يباع بالمائة ألف نسخة معا، ولما كان ابن فيكتور هوكو المسمى شارل في بوردو دخل عند صاحبة له يقضي ليلته، فتوفي فجأة في فراشها وحزن أبوه حزنا شديدا، فجاء بجثته إلى باريس، ودفنها يوم حدوث ثورة الكومين، وانعطف بالحنو والرأفة على ولديه الأصغرين وهما جورج وجان، وبالغ في دلالهما حتى أثر هذا الدلال في أخلاقهما، وأصبحت جان لا تستطيع معاشرة زوجها حتى طلقها لشدة ميلها إلى اللهو والخلاعة، وبعد وفاة شارل تزوج الموسيو لوقروا بزوجته لتربية الولدين لإحياء بيت فيكتور هوكو، فتبناه الشاعر وأحبه حبا شديدا.
ولزم فيكتور هوكو الحيادة في المسائل السياسية لحزنه على ولده، وفلذة كبده. غير أنه لم يطق الصبر على ما شاهده من فظائع الرعاع، فلامهم على قلبهم العمود المنصوب لنابوليون الأول، كما لام حكومة فرسايل على إطلاقها القنابل على قنطرة النصر المنصوبة له، وبرأ نابوليون الأول مما جناه ابن أخيه على البلاد من الحرب التي جلبت عليهم الويل والدمار، وذهب هوكو في أثناء تلك المعامع إلى بروكسل وإلى لوندره، ونشر كتابه المعنون «بألسنة المهولة» وشدد فيه النكير على دخول الأجانب لفرنسا، وعلى الفظائع التي أجراها الرعاع والسفلة وهم الكومين.
ثم عاد فيكتور هوكو لباريس وأنشأ فيها جريدة سماها «الشعب الحاكم»، وجعل ثمنها خمسة سنتيمات لكل نسخة ليتمكن الفقراء من مطالعتها، ولم يهدأ بال الشاعر برجوعه لأوطانه، واجتماعه على أحبائه وخلانه إلا وأصيب بموت ابنه الثاني فرانسوا، فصبر على مصائب العمر ونكبات الزمان، وسلم الأمر لله؛ لأنه كان من الموحدين، وعكف على النظم والنثر فنشر سنة 1874 قصة عنوانها «ثلاث وتسعون»، وتكلم فيها عن الانقلاب الفرنساوي الكبير، وفي سنة 1875 انتخب فيكتور هوكو عضوا لمجلس الأعيان (سينا)، فجلس في نهاية أصحاب الشمال، ولم يتكلم في المجلس إلا قليلا مثل طلبه العفو عن مجرمي الكومين؛ والكومين هم القوة المحزبة، أو الإدارة العرفية التي تتشكل في العاصمة وتحدث انقلاب الدولة، ويحصل بسبب ذلك من تعدي الرعاع وتسلط السفلة ما تقشعر من سماعه الجلود، وقد تأسست هذه الإدارة المرهبة في باريس مرتين إحداهما سنة 1792 والأخرى سنة 1871، واستمرت هذه السنة من 18 مارس إلى غاية مايو، وجرى في أثناء ذلك كثير من التعديات والمظالم، فكان فيكتور هو يشير في المجلس بالعفو عما مضى ولم يظهر له اقتدار كبير في السياسة، ولا في فن الخطابة مثل غامبتا وأمثاله من فحول السياسيين، وإنما صرف كل قواه في الاشتغال بعلوم الأدب والتاريخ، ونشر «الأقوال والأعمال»، و«أولادي»، و«معرفة ما يكون به الإنسان جدا».
وفي سنة 1877 نشر القسم الثاني من «سير الدهور»، و«الأملاك العمومية التي تدفع الرسوم»، ونشر من سنة 78 إلى سنة 1881 أربع منظومات فلسفية وهي «البابا»، و«الرحمة العالية»، و«الأديان والدين»، و«الحمار».
وحاز في شيخوخته احتراما كبيرا وثروة عظيمة زادت على ثلاثة ملايين فرنك، ولما بلغ الثمانين من عمره احتفل به أهالي باريس احتفالا عظيما، وزينت له المدينة في 26 شباط سنة 1881، ووفد عليه المهنئون من جميع الولايات والنواحي، وأكثر الممالك الأجنبية فاستقبلهم وهو واقف بين حفيده جورج وحفيدته جان وكان مغرما في حبهما، وفي حب جميع الأطفال، وقد خصهم بالذكر في أشعاره وتغزل بهم؛ ولذا كان في جملة الوفود المهنئين وفد من أجمل الأطفال الصغار يحملون له باقات الأزهار، ولم يبق أحد في باريس إلا ومر ببابه، وصاح جمهورهم بالدعاء له فوقف في نافذته وحياهم كما يحيي الملك شعبه، ودموعه تذرف من شدة التأثر والإشفاق، وكان مشاهير الرجال وأمراء الناس وأعيانهم كلما جاءوا باريس زاروه في داره وحضروا مجلسه، وكان في جملة من زاره إمبراطور البرازيل، فكان الاحتفال ببلوغه الثمانين من أجمل الاحتفالات التي لم يسبق مثلها إلا للشاعر الفيلسوف فولتير قبل موته بقليل.
ونشر فيكتور هوكو في آخر أيامه منظومة طويلة سماها «رياح العقل الأربع»، ورواية «توركماده»، والقسم الثالث من «سير الدهور»، و«أرخبيل بحر المانش»، وغير ذلك من الآثار التي نشرت بعد وفاته، وسيأتي وصفها في أواخر هذا الكتاب.
ولما توفي فيكتور هوكو سنة 1885 لبست باريس عليه أثواب الحداد، والتبس فيها الأمر على الغرباء حتى لم يعلموا هل القوم في مأتم عظيم أم في عيد كبير، وجيء بجثته فوضعت في تابوت عال تحت قنطرة النصر بعد أن كسيت بالسواد، وزينت بالأزهار والرياحين، واصطف الشعراء حولها صفوفا، واحتاط بهم الفرسان يحملون بأيديهم المشاعل، وسهروا عليه طول ليلتهم والناس يمرون أمام تابوته أفواجا أفواجا، ولما أصبح الصباح اجتمعت الجموع، وزينت الصفوف، وكانت أكثر المدن الفرنساوية والممالك الأجنبية قد بعثت بالوفود والأكاليل، فحملوا الجنازة من تحت قنطرة النصر إلى البانتيون ، وصار له مشهد لم يسبق لشاعر قبله ولا لفولتير، وكانت وصية هوكو أن لا يحضر جنازته راهب ولا أحد من الأكليروس وأن يدفن كالفقراء؛ ولذا كانت العربة التي حملوه عليها من عربات الفقراء لا تناسب دبدبة هذا الاحتفال، ولم يجر له احتفال ديني بل كان الاحتفال بجنازته أهليا. ا.ه.
صفحة غير معروفة
فيكتور هوكو: علم الأدب عند الإفرنج والعرب
أدب كل لسان ما حصل فيه الإجادة من الكلام المنظوم والمنثور، ويشتمل على فنون الشعر والأغاني، والروايات والقصص، وضروب الأمثال والحكم والنوادر، والحكايات والمقامات، والتاريخ والسياسة والرحلة وغير ذلك. وقد جمع نخبة من كلام العرب المتقدمين كتاب مجاني الأدب المطبوع في بيروت، والأصل في الكلام للمعاني لا للألفاظ؛ لأن اللفظ قالب أو ظرف للمعنى يتخذه المتكلم أو الكاتب لسبك ما يصوره في نفسه، ويشكله في قلبه من المعاني فينقل بذلك مقصوده للسامع، أو القارئ حتى يعلمه كأنه يشاهده، قال الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس يسمى «الفصاحة» و«البيان»؛ لأن المتكلم يفصح عما في ضميره ويبينه بكلمات عذبة سلسة، وبعبارات جلية خفيفة على القلب واللسان، فالمتكلم على هذا النسق «فصيح» وكلامه ملفوظا كان أو مكتوبا «كلام فصيح»، وحيث كان المعنى سابقا للفظ وجب أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني وخادمة لها، وليس المعنى تابعا للفظ كما حكي عن بعض الأمراء أنه ولى أحدهم قضاء «قم»، وهي من مدن العراق العجمي بين طهران، وكاشان ثم كتب إليه بلا سبب موجب: «أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم» يعني بلفظ «قم». فقال القاضي: والله ما عزلني إلا محبة الأمير في التزام السجع.
فيكتور هوكو.
ولا يكمل علم الأدب للمتبحر فيه إلا بعد أن ينظر في أدب الأمم المتمدنة، ولو نظرة عامة يطلع بها على مجمل تاريخ أدبهم، وعلى بعض ما ترجم من مؤلفات المشاهير من كتبهم، فيقف على ما عندهم من سعة الفكر، وسمو الإدراك وبلاغة المعاني، ويعرف أساليبهم في النظم والنثر وتصرفهم في الكلام، ويميز بين طرق المتقدمين والمتأخرين منهم.
فإذا أحاط علمه بذلك فهم الغرض الذي يتطلبه أئمة البلاغة من أي لسان وملة، ورأى الهدف الذي يروم كل منهم إصابته، فيصوب نحوه القلم عسى أن يكون له مع الخواطئ سهم صائب؛ لأن البلاغة لا تختص باللسان العربي وحده، وكلما ارتقت الأمة في سلم الحضارة كان لسانها أبلغ وأدبها أوسع وأكمل لتهافت أدبائها على تنميق الكلام، وتهذيب مناحيه وفنونه؛ فيدركون بالتدريج حقائق المعاني التي ربما استعملها آباؤهم وأجدادهم في غير مواضعها بسبب الجهل الناشئ من ضيق العمران، وقلة العلوم، ويفرغون ما أوجدوه وما أصلحوه من المعاني في قوالب تناسبها من الألفاظ والتراكيب، «فالبلاغة» هي مطابقة اللفظ للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة المعنى المقصود الذي يقتضيه الحال والمقام، وفي المثل لكل مقام مقال، سواء كان المقال؛ أي اللفظ عربيا فصيحا بإعراب، أو حضريا بلا إعراب، أو أعجميا بأن كان عثمانيا،
1
أو إنكليزيا، أو فرنساويا، أو فارسيا، أو غير ذلك، فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى التركيب المفيد لمقصوده على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه قدر ما يتيسر له، فإذا لازم قراءة الطبقة العالية من كلام العرب الأقدمين حصلت له ملكة فيه، وسهل عليه التركيب على أسلوبهم حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى نبا عنه سمعه، وإذا كثر اشتغاله بالترجمة والكتب المترجمة كانت أساليبه أعجمية مع بقاء الألفاظ في كلامه عربية، كما يتضح لمن أمعن النظر في رسائل ابن رشد المطبوعة في أوروبا، ومنها ما طبع في مصر، وفي رسائل غيره من فلاسفة الإسلام وأهل المنطق، فإنه يرى فيها الأساليب الأعجمية واللهجة التي لم يلهجها أدباء الجاهلية.
صفحة غير معروفة
وامتاز لسان العرب وخصوصا لغة مضر بخاصتين: الأولى تشمل حركات الإعراب في أواخر الكلم، وكيفية تركيب الألفاظ، فالحركات هي التي تدل في لغة مضر على تعيين الفاعل أو المفعول، وأما في غيرها من لغة الحضر وبقية اللغات، فيدل على ذلك التقديم والتأخير، أو القرائن المبنية لخصوصيات المقاصد، وخواص التركيب هي التي تدل في لغة مضر على ما تقتضيه الأحوال من التأكيد، والتعريف، والتنكير مثل تقديم لفظ، أو تأخيره لوصف المعنى وتكييفه، ومثل زيادة حرف أو تنقيصه لزيادة شيء في المعنى الأصلي؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى كقولنا: زيد قائم، وإن زيدا قائم، وإن زيدا لقائم، وفي القرآن الكريم حكاية عن الرسل قولهم في المرة الأولى: «إنا إليكم مرسلون»، وفي المرة الثانية «ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون»، فالألفاظ بأعيانها تدل على المعاني بأعيانها في كل لسان، وخواص التركيب في لغة مضر من تقديم وتأخير، وزيادة حرف تدل على الأحوال المكتنفة بذلك المعنى.
وأما في لغة الحضر وفي الألسن الأعجمية فأكثر ما يدل على هذه الأحوال بألفاظ وكلمات مخصوصة؛ ولذا كان الكلام العربي أوجز، وأقل ألفاظا وعبارة من غيره؛ ولهذا أشار نبينا محمد - عليه السلام - بقوله: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا.» على أن بقية الألسن لم تخل بالكلية من هذه الخاصة الأولى للسان مضر، وحركات الإعراب موجود منها في اللسان العثماني تقول: «زيد كلدي» بسكون آخر زيد ومعناه: جاء زيد، و«زيدي جلب ايتدم» بكسر آخر زيد ومعناه جلبت زيدا، وإن لم يكسر آخر زيد لا يستقيم المعنى.
وأما في لغات أوروبا فالإعراب من خصائص اللغتين اليونانية، واللاتينية، واللغة الألمانية، غير أن هذه الخاصة ربما كانت في لسان مضر أكثر وأعرف وأثبت، وإذا لم يراع الإنسان هذه الخاصة في اللسان الذي يتكلمه وقع له ما وقع للوليد مع الأعرابي، وذلك أن الوليد بن عبد الملك بن مروان كان لحانا، وكان أبوه عبد الملك فصيحا فعرف بلحن ابنه، وقال له: إنك يا بني لا تصلح للولاية على العرب وأنت تلحن، وجعله في بيت وجعل معه من يعلمه الإعراب، فمكث كذلك مدة ثم خرج وهو أجهل مما دخل، فلما بويع الوليد وجلس على كرسي الخلافة دخل عليه أعرابي يشكو صهرا له.
فقال الوليد: ما شانك؟ (بفتح النون).
فقال الأعرابي: أعوذ بالله من الشين.
فقال سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك (بضم النون).
فقال الأعرابي: ختني ظلمني.
فقال الوليد: من ختنك؟ (بفتح النون).
فقال الأعرابي: إنما ختنني الحجام ولست أريد هذا.
فقال سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول: من ختنك (بالضم).
صفحة غير معروفة
فقال: هذا، وأشار إلى خصمه.
والخاصة الثانية هي ما في لسان مضر من الاستعارات، والتشبيهات، والمجازات، وأنواع البديع من الكلام، وورد أحسنه في القرآن الكريم مثل: «اشتعل الرأس شيبا»، ومنه في الشعر كقول ابن المعتز: «والشمس كالمرآة في كف الأشل»، فجميع ذلك أتم وأكمل في لسان العرب. ويعدون من الكلام البديع لفيكتور هوكو تشبيهه موج البحر بقطيع الغنم وقوله: غنم البحر، وقول كمال بك إمام الأدب في اللسان العثماني: «برق الحقيقة يلمع من تصادم الأفكار»، فهذه البلاغة والبيان ديدن العرب، وفي كلامهم كثير من البديع أتوا به بغير تكلف ولا تعمل، وبعضهم تصنع له وتكلف ظنا بأنه أساس البلاغة، والمقصود منها بالذات فملأوا بالبديع والاستعارات النظم والنثر، وصرفوا الذهن وأجهدوا العقل حتى قالوا:
مودته تدوم لكل هول
وهل كل مودته تدوم
وتغافلوا عن إيضاح معنى المودة، وهو من المعاني الكلية الجليلة التي أوضحها أدباء اليونان، والرومان، والإفرنج فيما ألفوه من الروايات المضحكة، أو الفاجعة وعرضوه في المراسح على أنظار الجمهور فقدره الخواص حق قدره، واستفاد منه العوام.
على أن تلك الحسنات البديعة والخصائص اللسانية؛ وإن كان لها تأثير عظيم على النفس، فهي لم تزل في نظر العقلاء كالحلي والمصوغ للعروس، فالعاقل يجتهد بأن تكون عروسه من ربات الجمال والدلال والأدب والكمال، فإن وجد معها شيء من الحلي فنعم، وإلا فالمقصود منها هو نفسها وذاتها، فهي الضالة التي ننشدها ونأتي بها ولو من جبال القوقاس فنعلمها لساننا، ونلبسها ما عندنا من اللباس، ونتمتع بها فهذا أولى من إلباس الجارية السوداء الحلي والحلل، وصرف النقد والوقت في تزيينها، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
فالتكلف في زماننا لتقليد الإنشاء العالي، ونظم قصيدة ثامنة للمعلقات السبع، أو سجع مقامات ثالثة لمقامات الحريري، والهمذاني ليس فيه كبير فائدة ما دام الأصل في الكلام للمعاني والمقصود من المعاني إظهار أسرار هذا الكون الذي نصبح فيه، ونمسي ونحن غافلون عن كثير من حقائقه، ولا ندري بأية عبارة نترجم عنها، ولا كيف نوضح شعورنا وإحساسنا بهذا الوسط الذي نحن فيه وهو سجن لنا، والدنيا سجن المؤمن. فهذه المعاني البليغة العالية ينبغي لأدباء العصر سبكها في السهل الممتنع من الكلام الفصيح بغير تهافت منهم على الكلمات اللغوية، والمحسنات اللفظية من جناس وطباق، وقراءة الكلام طردا وعكسا، وأمثال ذلك مما يعده العقلاء من الملاعب الصبيانية إذ ليس هذا غاية الأدب والغرض منه.
وخير اللفظ ما جاء بالطبع والبداهة بلا تكلف، ولا تحر في القواميس والمنشآت، فخطبة ناظر المعارف الفرنساوية الذي تلاها بمناسبة يوبيل الكيماوي برتلو هي نموذج في بلاغة المعاني لمطابقتها لمقتضى الحال، وإيجاب المصلحة وهي من أحسن ما يقال في مثل تلك الجلسة، وفي مناسبة ذاك الاجتماع، غير أن ذوقنا ربما يمجها لركاكة الترجمة، فإن الألفاظ وإن كانت عربية فتركيب هذه الألفاظ بعضها مع بعض لم يجر على أسلوب قس بن ساعدة، أو سحبان وائل، ولا على طريقة الجاحظ إمام الأدب، ولا يشبه رسائل عبد الحميد، أو ابن العميد اللذين قال فيهما الثعالبي: «فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد»، بل جرى تركيب ألفاظ تلك الخطبة على أسلوب الفرنساوي المترجمة عنه، فأكثر الألفاظ في موضوعاتها التي وضعها فيه العرب الأولون.
والركاكة بالنظر إلى التراكيب؛ وربما كانت بالنظر إلى بعض المفردات أيضا؛ لأن مفردات ألفاظها لم تنتخب من القاموس المحيط ببلاغة هذا اللسان كالذي ألفه الزمخشري، وسماه أساس البلاغة، وطبع بمصر.
ثم هناك أسباب أخرى أيضا تحول بيننا وبين إدراك بلاغة تلك الخطبة، وهي عدم وقوفنا على دقائق تاريخ القوم، وعلى مزايا لغتهم وتعبيراتهم، وفقداننا الملكة في هذا الأسلوب من الخطابة؛ ولذا ينبو سمعنا عما لم يأت على أساليب بلغاء العرب، وعما لم يحرر على وفق مذاهبهم في فنون الأدب، حيث لكل قوم منهج معروف ومسلك مألوف، بل كل إمام في الأدب من أية أمة كان يذهب فيه مذهبا جديدا، ويستخلص لنفسه طريقة مخصوصة يخالف فيها طرق المتقدمين ومذاهبهم؛ ولذا فأهل الذوق في الكلام إذا عرض عليهم شيء منه قالوا: هو على طريقة فلان وأسلوب فلان، وهو من إنشاء فلان دون فلان، كما لو عرضت خمر من خمور بوردو على أهل الذوق المشهورين باسم «ديكوستاتور» لقبض الواحد منهم بكفه على الزجاجة حتى إذا سخنت بحرارة اليد، وفاح منها الشذا المعروف عندهم باسم «بوكه» هزها، ونظر فيها فإذا الخمر في الزجاجة ياقوتة سيالة، ثم جرع منها جرعة ذاقها بطرف لسانه، وقال: لك هي من كرم «شاتولافيت» أو «شاتولاتور» أو «شاتومارغو»، وفي هذه الثلاثة انحصرت الطبقة العليا من طبقات الخمر المعصور بأرض «ميدوق»، واتفق أهل الذوق، والطب على أنها من أطيب البقاع وأبركها لإنبات هذا الشراب الذي فيه منافع للناس وإثمه أكبر من نفعه؛ لأنه من جهة ترياق نافع، ومن أخرى سم ضار. •••
صفحة غير معروفة
والشعر كالنثر لا يختص بلسان العرب فقط، بل يوجد في كل لسان من ألسن الأمم المتمدنة، والهمجية فإن لأهالي أفريقيا أشعارا يمدحون بها على آلات طربهم ويرقصون على أنغامها. وكان في الأمم السالفة شعراء مجيدون مثل فياسه صاحب ديوان ماهابهاراته، ومثل فالميكي صاحب ديوان رامايانه وهما من شعراء الهند وكهنتها نظما الديوانين المذكورين باللسان السانسكريتي قبل الميلاد بقرون كثيرة، وترجمهما العلماء في زماننا إلى أكثر اللغات الأوروبية، فوجدوا أشعارهما حماسية دينية، وفي الديوان الأول نحو مائتي ألف بيت أو قطعة، وهما عند الهنود بمثابة ما عند اليونان من الإيلياذة والأوديسة نظم هوميروس الشاعر الشهير. ولعل البستاني يتحفنا بنشر ما جناه من أدبه،
2
فإن هوميروس شيخ الشعراء بأجمعهم. ومثل شعراء الروم الذين كانوا في القسطنطينية، وما حولها من أرض الروم قبل أن يفتحها الفاتح. وشعراء الرومان اللاتينيين، وشعراء الفرس وإمامهم الحسن بن إسحاق الفردوسي ناظم الشهنامه في القرن الرابع للهجرة، وهو عند العجم كهوميروس عند اليونان، وفرجيل عند الرومان، ودانتي عند الطليان، وميلتون عند الإنكليز. وتشتمل الشهنامه على تاريخ أكاسرة الفرس وأخبارهم، وقد طبعت مرارا في الفارسية وترجمت للإنكليزية والفرنساوية، وترجمها نثرا للعربية الفتح بن علي البنداري الأصبهاني، وقدمها لخزانة أحد الملوك الأيوبية.
ذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين «أن الفارسي سئل فقيل له: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل،
3
وسئل اليوناني عنها فقال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وسئل الرومي عنها، فقال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة، وسئل الهندي عنها، فقال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وقال مرة: التماس حسن الموقع، والمعرفة بساحات القول.»
وفي الأمم الأوروبية، والأميركية اليوم شعراء أعلى طبقة، وأبلغ كلاما ممن تقدمهم من شعراء الأمم السالفة. وموازين الشعر في جميع اللغات على نسبة واحدة في أعداد المتحركات والسواكن، والشعر الفرنساوي تبنى أعاريضه على عدد الهجاء، فالبحر الإسكندري (ألكساندرين) على اثني عشر هجاء في الأصل، والروي أي: القافية - وهو الحرف الأخير من كل بيت - موجود في لسان العرب وفي ألسن غيرهم، ولكن الفرنساويين قبل اختلاطهم بعرب الأندلس لم يكن لأشعارهم روي ولا قواف، فأخذوا عن جيرانهم الأندلسيين علم القوافي كما سيجيء تفصيله. فقبل الشروع في بيان الطريقة التي سلكها فيكتور هوكو في علم الأدب، وشرح أساليبه في النظم والنثر، وفي تصوير القصص والروايات نذكر شيئا من أخبار العرب ليتبين لنا التأثير الذي أثره أدبهم على أشعار الإفرنج وقوافيهم بوجه العموم، وعلى فيكتور هوكو بوجه الخصوص؛ لأن هذا الشاعر الحكيم نفح بنفحة من النفس الأندلسي، واغتذى بلبان من ارتضع قديما ثدي الأدب العربي، وبيان ذلك أن مدينة بيزانسون التي ولد فيها فيكتور هوكو دخلت في حوزة الإسلام، حينما قطع أهله جبال البيرينة، وأغاروا على مملكة أكيتانيا، وليون وفتحوا ما في شمالها من المدن مثل ماقون، وديجون، ثم دخلت بيزانسون في طاعة شارلكان صاحب الوقائع الشهيرة مع فرانسوا الأول ملك الفرنساويين، ومع معاهده وحاميه السلطان سليمان القانوني، وذلك في القرن السادس عشر للميلاد، فنقل الإمبراطور شارلكان عائلات كثيرة من الإسبان وأنزلهم بيزانسون، فاستمروا زمنا طويلا وامتزجوا بأهلها، ولم يزل لأهل بيزانسون شبه بالإسبان في ملامح الوجوه وفي اللهجة، وفي كثير من الكلمات والتعبيرات مع أن مدينتهم لا تبعد عن باريس أكثر من أربعمائة كيلومتر، وقد أشار فيكتور هوكو إلى ذلك في القصيدة الأولى من ديوان أوراق الخريف، ووصف بيزانسون بالمدينة القديمة الإسبانية فذهبت مثلا، وصار الكتاب لا يفترون عن وصفها بهذا الوصف، وعلاقة الإسبان بالعرب وباللسان العربي معلومة لا تحتاج إلى إيضاح. •••
أما العرب فلو نظرنا إلى تاريخ أدبهم لوجدنا في مقدمته أشعار الحماسة كما نجد ذلك عند بقية الأمم كالفرنساويين مثلا، فإن النظم في لسان أدبهم دون قبل النثر؛ لأن النظم يحصل التأنق في تأليفه والعناية في جمعه فيضم أطراف الكلام وحواشيه، ويكون في بادئ الأمر أبلغ مما عاصره من النثر فيحفظ في الصدور ويتداول على الألسنة، ثم تزيد العناية به فيدون بالنقش، أو الكتابة ويعلق على الجدران.وهذا معنى قولهم: النظم في تاريخ لأدب سابق للنثر.
وإلا فأول ما يبدأ من الكلام بالنثر لقرب تناوله وسهولة استعماله، ذكر الباقلاني في إعجاز القرآن المطبوع في مصر أن العرب بدءوا بالنثر وتوصلوا منه إلى الشعر، وكان عثورهم عليه في الأصل بالاتفاق غير مقصود إليه، فلما استحسنوه واستطابوه ورأوا الأسماع تألفه والنفوس تقبله؛ تتبعوه وتعلموه وتكلفوا له، فنبغ فيهم الشعراء وأقبل الناس رجالا ونساء على حفظ أشعارهم ورواية أخبارهم، والتفاخر بإنشاد القصائد الكثيرة في المواضيع المختلفة، والاستشهاد بكل بيت من أبياتها عند الحاجة، فجعلوا الشعر من بين الكلام ديوان علومهم وأخبارهم وحكمهم، وشاهد صوابهم وخطائهم، وأنزلوا الشاعر البليغ منزلة الإمام العالم الذي يهتدى بنبراس قريحته، ويفزع لرأيه في مشاكل الأقضية ومعضلات الأمور، فكانت كلمة الشاعر هي الكلمة العليا، وقوله: أمضى من السيف، وأحد من السنان وحكمه نافذ كحكم الشرع في القضاء.
وربما رفع الشاعر بالبيت الواحد عز القبيلة أو هدمه، كما وقع لشاعر قبيلة أنف الناقة بعد أن كان اسمها مجلبة للعار بين القبائل. وكان السجع من الكلام يجري على ألسنة الكهان، والحكماء، والعرافين، وأهل الزحر
صفحة غير معروفة
4
والفال، وأنواع الحكم والطب مثل شق، وسطيح، وحنظلة بن صفوان كاهن حمير، وخالد بن سنان العبسي الذي قالت ابنته حينما سمعت قراءة
قل هو الله أحد : كان أبي يقرأ مثل هذا، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان افتتاح كلامه «باسمك اللهم» وقس بن ساعدة ورباح بن عجلة عراف اليمامة والأبلق الأسدي عراف نجد وغيرهم.
غير أن تاريخ أدب العرب قبل الإسلام لم يزل في حيز الخفاء؛ لعدم تمكن العلماء من درس اللغات، أو اللهجات العربية السابقة على لغة مضر كلغة حمير مثلا، فإنه لم يشتهر عندنا من قواعدها أكثر من حديث «ليس من امبر امصيام في امسفر» حيث استعمل فيه (ام) عوضا عن (ال) التعريف، ولا يكشف الغطاء عن هذا القسم من تاريخ الأدب إلا بعد استخراج ما في أرض اليمن من الألواح التي تدعى بالمسند الحميري، وما في خرائب مدائن صالح، وأرض الحيرة وسائر جزيرة العرب من الآثار القديمة العادية التي كان لأصحابها نصيب من الحضارة، وكان لأدبهم تأثير على أدب مضر.
وقد تفرغ نخبة من مستشرقي الإفرنج للبحث عن تلك المستندات والآثار القديمة العربية؛ ولعل التشبث بإتمام السكة الحديدية الحجازية يسهل لهم هذا البحث، فممن عرفت من أولئك المستشرقين إيدوارد غلازر من الألمانيين، وكان أطلعني ونحن في الأستانة على ما اكتشفه من المسند الحميري وجاء به من أرض اليمن، والمسند لوح من الحجر عليه كتابة بأحرف مقطعة قائمة الزوايا وبعضها مدور كالدائرة، وحدثني هذا المستشرق الفاضل عن رحلته في جزيرة العرب، وهو يتكلم العربية بلهجة يمانية بدوية.
وفي سنة 1895 نشر في ميونيخ كتابا بالألمانية عن مأرب، وحمير، والحبشة، ثم نشر كتابا آخر في برلين وقدمه لمؤتمر المستشرقين الحادي عشر المنعقد في باريس سنة 1897، ولما أتيت هذه المدينة حضرت الأستاذ هارتويغ ديرنبورغ في الصوربون، وهو يلقي دروسه في اللغة الحميرية، ويفسر المسندات ويترجمها للفرنساوية، وله رسالة ترجم فيها ما في متحف اللوفر من آثار حمير وسبأ، ومن المشتغلين باللسان الحميري هاليفي الفرنساوي مدرس اللغة الحبشية في الصوربون، وله مقالات في المجلة السامية بحث فيها عن اتفاق الحبشة مع أهل سبأ على أهل حمير النازلين في شرقي حضرموت.
وللعلماء اشتغال بهذه اللغة في إنكلترة وإيطاليا أيضا؛ لاهتمام الأولى بجمع ما يتعلق بالعالم الإسلامي والعربي، ولمناسبة بين الثانية وبين الحبشة واختلاط تاريخ الحبشة بتاريخ حمير، إلا أن هذا العلم لم يزل في النشأة الأولى محتاجا للتدقيق، والتمحيص حتى يتيسر للعلماء أن يوضحوا لنا كيف كان اللسان الحميري مع اللسان المضري، فإن ابن خلدون يقول في مقدمته: «ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بمثابة ما هو اليوم اللسان المضري مع لغة العرب لهذا العهد - وهي التي بدون إعراب، فقد منها دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعول وعوض عنها بالتقديم والتأخير، وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد - وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري، وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقايس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول، وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح، ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها، وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة؛ أي القرآن والسنة حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها، ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر.» ا.ه.
فأخذ ذلك المستشرقون من الإفرنج واعتنى بعضهم بتدوين اللسان العامي واستقراء أحكامه، كما فعل موسيو هوداس الفرنساوي في لغة الجزائر العربية ونشر فيها كتابا، ولم يزل يدرسها في مدرسة الألسن الشرقية في باريس، كما تدرس أيضا في مدرسة المستعمرات وفي المدارس العسكرية بباريس وغيرها، ولهم في ذلك مآرب سياسية لا نخوض فيها، إلا أن تدوين اللغات العامية - بالنظر إلى انتشار العلم وتوسع الحضارة - له محاذير كثيرة وموجب للتفرقة، ونصب الحواجز بين أمم هذا العالم العظيم الممتد من المحيط الغربي إلى بلاد العجم والهند، والعلماء في عصرنا يجتهدون في إزالة الموانع التي استلزمها تباين اللغات بين الأمم ويسعون في إيجاد لغة عامة لعموم بني البشر، وفي جميع أفراد الإنسان على لسان واحد، فكيف يجوز حينئذ تفريق لسان أمة كبيرة إلى ألسنة همجية عامية ووضع لسان مخصوص لكل من الجزائر، وتونس، ومصر، وسوريا، وبغداد، والموصل، والزنجبار، والهنزوان، ثم لمراكش وغيرها من المتكلمين بلسان جزيرة العرب، وتدوين كل واحد من هذه الألسن التي يراد وضعها كما تدون الألسن الجديدة الهمجية مثل لسان حوصه وغيره من لغات أفريقيا.
وإنا نجد اللغة الفرنساوية على ما فيها من التباين بين ما يتكلمه سكان المدن، وما يتكلمه أهل القرى وعدم فهم الباريزي ألسن الباتوا التي يتكلمها القاطنون في جبال البيرينة، وأوفيرنيه، وفي الأيالات الغربية والجنوبية من أراضي فرنسا لم يجوزوا فيها تدوين لغة الأيالة بروفانس، أو بريطانيا مثلا، ولا سمحوا بإنشاء جريدة فيهما، وانتهى بهم التعصب إلى محو ما كتب بلسان الباسك، وهم سكان جبال البيرينة من جهة المحيط مع أن المتكلمين بها يفتخرون بقدمهم على سائر الأمم الأوروبية، فكيف يصوغ إذن تدوين لغة الجزائر وأهلها لا يتعذر عليهم فهم «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» لاستعمالهم مواد هذه الكلمات الأصلية من وقوف، وبكاء، وذكر، وحب، ونزول؟ وإذا لم يفهموا ما بعد ذلك فالقصور ناشئ من الجهل بالجغرافية لا بأصل اللغة التي لم يزل لهم بأصولها وموادها ملكة راسخة، فإن سقط اللوى، والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة المذكورة في قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
صفحة غير معروفة
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
هي أماكن معروفة عند أهل الحجاز كما أن مقرة، ومقطع الحديد من الأماكن المعروفة عند أهل الجزائر لشهرتها باستخراج معدن الحديد. فبدلا من تدوين لغة الجزائر العامية كما دونت لغة حوصه، ومن نشر المؤلفات والمطبوعات فيها والإجبار على تعليمها في المدارس للأطفال؛ لو سعى أهل العلم وأرباب القلم في التقرب من لغة مضر المدونة، وأزالوا منها «العامية» كما أزيلت «الباتوا» من اللغة الفرنساوية، وهذبوها من الجناسات والتشابيه الغامضة، واختاروا فيها السهل من الألفاظ والتراكيب، وأصلحوا إملاءها وكتابة أسماء الأعلام فيها؛ لكان فعلهم على ما نظن أسهل وأنجح من تدوين لسان عامي، بل ألسن همجية وإقامة الحواجز بين المتكلمين بها، مع أن ازدياد وسائط النقل والمخابرة يستدعي كثرة اختلاط بعضهم ببعض. وعما قريب سيتم مد الخطوط الحديدية، ويصبح السفر من مراكش إلى بغداد والهند، أو إلى الحجاز أسهل مما كان قديما بين مصر القاهرة والإسكندرية، فلا يحتاج المسافر إلى استصحاب كتاب (جامع اللغات)؛ ليعلم منه ألسن الجزائر، وتونس، وطرابلس، ومصر، وفلسطين، وسوريا، وبغداد، والحجاز، أما انتشار المطبوعات العربية فهو آخذ بالترقي، ونجد لمطبوعات مصر رواجا في تونس والجزائر، ولا بد أن تمتد يوما على عموم سكان القارة الأفريقية.
أما لغة مضر فبدون أن نقف على حقيقة الأدوار التي دارت عليها، ولا على الأطوار التي تقلبت فيها نجدها في العصر السابق للإسلام على جانب من الفصاحة والبلاغة مشتملة على أنواع التشبيه والاستعارة والبديع، وأكثرها حماسية وفيها من التصورات البديعية، والتخيلات الشعرية واللطف والرقة والأدب؛ ما يدلنا على أن اللغة لم تكن إذ ذاك في عهد الطفولية، فإن الفرق بين أشعار المعلقات، وبين أشعار «التروبادور» الفرنساوية عظيم لما في الأخيرة من الخشونة وعدم الرقة، وإذا غازل شاعر الجاهلية فتاة الحي حسبته أديبا من أدباء باريس ...
ونجد للعرب قبل الإسلام أنواعا كثيرة من فنون الأدب والشعر منها القصيد، والرجز، والأغاني، ومنها ما ينشد في الحرب على الدفوف، ومنها ما يحدى به للعيس أو يغنى به للرقص وتسكيت الأطفال، ومنها السجع، والترسل، والخطب، والرسائل، وضروب الأمثال والحكم، والحاصل كانت فنون أدبهم أتقن من معيشتهم البدوية، وكان لهم مؤتمر وأكاديمية للتفاخر باللسن والفصاحة، وكانوا يقيمون لذلك المواسم والأعياد فيجتمعون أولا في سوق عكاظ، وهو واد بين مكة والطائف فيه ماء وظل وخضرة فيقيمون فيه شهرا، ويذهبون منه إلى سوق مجنة ثم إلى سوق ذي المجاز وهما بناحية مكة، ثم يذهبون في ذي الحجة إلى البيت الحرام موضع حجهم، فكان أدباؤهم وهم ذوو الرئاسة والمكانة فيهم يتنافسون بالآداب والحكم، ويقفون بهذه الأسواق لإنشاد الشعر وإلقاء الخطب، فإذا اجتمعوا بسوق عكاظ ضربت قبة لأكبر الشعراء في عصره كالنابغة الذبياني الذي سمي أشعر العرب فجلس في القبة، وجاءته الشعراء كما جاءه حسان مثلا وعرضوا عليه أنفس أشعارهم، وقام الحارث بن حلزة يتبختر بين الجموع بتبختر الجاهلية، ويقول:
آذنتنا ببينها أسماء
رب ناء يمل منه الثواء
بعد عهد لها ببرقة سمرا
ء فأدنى ديارها الخلصاء
صفحة غير معروفة
حتى يأتي على آخر همزيته فيحكم في مقاله أولو الذوق الصحيح، والطبع السليم، ويميزون فيه بين الغث والسمين، ويقابلونه بغيره من كلام المعلقات. ثم وقف قس بن ساعدة على بعير له أحمر، وقال: «أيها الناس اجتمعوا، وإذا اجتمعتم فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت»، فيكون الناس قد اجتمعوا حوله فيبدأ لهم في الخطبة بقوله: «أما بعد ... إلخ» كأنه خطيب فرنساوي بل إنكليزي يخطب في هايدبارك.
وكان لكل شاعر مبلغ يبلغ عنه الجمهور وراوية يروي له الأشعار، فكانت الرواة في أيامهم كالجرائد في يومنا؛ ولذا كانت الأشعار تنتشر وتشتهر في مدة قليلة بين جميع القبائل في جزيرة العرب، وانتهوا في العصر السابق للهجرة إلى المناغاة في كتابة قصائدهم بالذهب، وتعليقها بأركان الكعبة كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وهم: (1) امرؤ القيس واسمه جندح بن حجر الكندي، وكان أبوه يملك في جهة الحيرة على بني أسد، ويضرب المثل في شهرة معلقته، فيقال: «أشهر من قفا نبك»، وله غيرها ديوان مشروح ومطبوع ومترجم إلى اللغات الأوروبية، ويقال: إن أحسن ما في شعره وصفه الفرس؛
5
ولذا ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب. وقيل: إن امرء القيس توفي سنة 540م وكان مغرما باللهو، والزهو، والخمر، والنساء وكلامه في المعلقة منادمة ومداعبة، ومدح في شعره تغلب على بكر. (2) طرفة بن العبد وديوانه ترجم للفرنساوية في الصوربون، وطبعه الموسيو سليغصون
Seligsohn ، ومعلقته تبحث في النساء والخمر واللهو وطيب العيش. (3) عمرو بن كلثوم و(4) الحارث بن حلزة اليشكري من قبيلة بكر بن وائل، وله ديوان وفي معلقته الهمزية، وفي معلقة عمرو المذكور خبر حرب البسوس التي وقعت بين بكر وتغلب. (5) زهير بن أبي سلمى و(6) عنترة بن شداد وفي معلقتيهما ذكر حرب داحس التي وقعت بين عبس وذبيان، وقصة عنتر الشهيرة المطبوعة في بيروت ومصر، ترجمها سابقا للألمانية المستشرق النمساوي همر
Hammer
صاحب تاريخ الدولة العثمانية، وتاريخ الأدب العثماني، وتاريخ الأدب العربي. ثم ترجم شيئا من قصة عنتر للفرنساوية مارسل ديفيك
Devic
معلم العربية في كلية مون بيليه وهي من أقدم مدارس الإفرنج، وكان أطباء العرب واليهود المستعربون يدرسون فيها الطب. (7) لبيد بن ربيعة العامري القائل: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل»، وفي كلامه كثير من الحكم، ووصف في أشعاره أخلاق عرب البادية وأطوارهم وعوائدهم، وله غير المعلقة ديوان أشعار طبع منه الجزء الأول في فينا عاصمة النمسا الشيخ يوسف ضياء الدين باشا الخالدي المقدسي سنة 1880، وجعل له مقدمة وشرحا فنرجو منه إتمامه.
وظهر من فطاحل الشعراء غير من ذكر النابغة الذبياني، وطبع ديوانه الأستاذ هارتولغ ديربنورغ
صفحة غير معروفة
H. Derenbourg
سنة 1869 وفسره وحشاه، ومنهم حاتم طي الشهير بالسخاء، وقد جمع أشعاره غضبان أفندي وطبعها في لوندره، وسماها ديوان حاتم طي، ومنهم دريد بن الصمة، والشنفرى الأزدي، والأعشى الأكبر، وتأبط شرا وكثير غيرهم.
يحكى عن حماد الراوية أنه أنشد بحضرة الوليد من كلام الجاهلية مائة قصيدة لكل قافية من قوافي الحروف العربية لا تنقص القصيدة عن عشرين بيتا، وفيها ما يربو على المائة بيت، فمهما بالغ الحاكي لا تنكر كثرة ما قرض من الشعر على عهد الجاهلية، ولهم غير الشعر والرجز خطب ورسائل، وكثير من ضروب الأمثال التي نقلت عنهم ودونت في المجاميع.
وسمي كلام هذه الطبقة من الأدباء «كلام الجاهلية» لجهلهم بما جاء به الإسلام، وإلا فهم أئمة في الأدب يقتدى بهم؛ ولذا اتخذ من جاء بعدهم كلامهم منوالا نسجوا عليه مثله، وقالبا أفرغوا فيه شبهه من الألفاظ والتراكيب، ولم يزل الأدباء على ذلك إلى يومنا هذا كما فعل أصحاب «عكاظ الأدب» المطبوع في الأستانة عقب الحرب اليونانية الأخيرة.
وإذا تأملنا كلام الجاهلية نجدهم وصفوا الطبيعة أحسن وصف، وصوروها أكمل تصوير بالنسبة لحالتهم البدوية، ولصحاريهم الرملية فميزوا بين أنواع الرمل، وسموا كل نوع باسم مخصوص مثل «الخفف» وهو الرمل المنفرج، و«العقنقل» الرمل المنعقد الداخل بعضه في بعض، و«البطن» من الأرض، و«الخبت» من الأرض، كل ذلك من أشكال الأرض المختلفة كما قال امرؤ القيس في معلقته:
فقمت بها أمشي تجر وراءنا
على أثرنا أذيال مرط مرجل
فلما أجزنا ساحة الحي انتحى
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
والمرط نوع من أثوابهم يقال: لو شبه الترجيل حسب «مودة» ذاك الزمان، فوصفوا في هذا النمط جميع ما شاهدوه في الطبيعة، ونطقوا بما شعروا به في قلوبهم ووجدوه في أنفسهم من التأثر الحسي، وإن ذكروا بعيرا أو فرسا لم يتركوا شكلا إلا شرحوه شرحا مفصلا. فحيث كانت الفصاحة هي الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس كانت غاية الأديب منهم إثبات اقتداره على إيراد صور مختلفة للشيء الواحد، وإظهار تعمقه في معرفة اللغة، وحسن تصرفه في استعمال الكلمات المترادفة المتقاربة، وكان لهم نظر جيد في العوالم والكائنات كقول قس في بعض الروايات: «ليل داج وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر وبحار تزخر، وجبال مرساة وأرض مدحاة، وأنهار مجراة إلخ.» ولهم أساليب بديعة في ذكر البرق والسحاب والمطر، وسائر التغيرات الجوية، وكذا في ذكر الرسوم والطلل والمنازل والروض والأشجار ومنابت العشب، إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم ومعروف.
صفحة غير معروفة
ولغزارتهم وتمكنهم من اللغة لم يكونوا يتصنعون لتأليف المحاسن البديعة في الكلام إنما كانت نوابغ الكلم تتفق لهم اتفاقا، وتطرد في كلامهم اطرادا بخلاف من أتى بعدهم، فإنهم صنفوا المحاسن البديعة تصنيفا وتحروا عليها، ومع ذلك فالبليغ من الكلام لم يصدر من أفواه الجاهلية إلا بعد التروي، والتصنع، والتنقيح، والتهذيب وقد تعبوا وكدوا أنفسهم وجاهدوا خواطرهم، وكان زهير يسمي كبير شعره الحوليات المنقحة.
وقال عدي بن الرقاع:
وقصيدة قد بت أجمع بيتها
حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته
حتى يقيم ثقافه منآدها
وقال سويد بن كراع:
أبيت بأبواب القوافي كأنما
أصادي بها سربا من الوحش نزعا
وسموا زهيرا والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر؛ لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، قال الباقلاني: «وكانت العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، ويسمون ذلك الوضع الميتر واشتقاقه من المتر، وهو الجذب والقطع، يقال: مترت الحبل بمعنى قطعته أو جذبته»، والفرنساويون يسمون العروض ميتر وميتريك ويقولون: إنه مشتق من معنى القياس باليونانية، وله دروس مخصوصة، وأساتذة في الصوربون، وألف في العروض العربي المستشرق إستانسلاي كوبار معلم العربية في (كلية فرنسا) عدة رسائل، واستنبط فيه قواعد جديدة نال عليها الجائزة وثناء العموم.
صفحة غير معروفة
وعبر العرب عن قول الشعر ونظمه بالقرض، وعن الشعر بالقريض، ومعنى القرض القطع؛ لأن الشعر مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة. وكانت عنايتهم في الجاهلية مصروفة للكلام على المنظوم من شعر وسجع؛ لأن تأثيره في النفوس أشد لما يحدثه من النغمة التي تطرب لها الأذن، وتلهو بها عن تمحيص الحق من الباطل في الكلام، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم؛ أي المسبوك تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا وتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني على وجه بديع وترتيب لطيف، وهذا القسم الأخير شبيه بالكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له، بخلاف القصيد من الشعر فإنه يلتزم فيه قافية واحدة إلى آخر الكلام، ويشترط أن يكون كل بيت كلاما وحده مستقلا عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدح، أو غزل، أو رثاء، أو هجاء، أو حماسة، والرجز ضرب من الشعر ولو لم يلتزم فيه أن يكون على قافية واحدة.
والسجع يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، ويذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء، والمقفى قد انتصر له في زماننا عبد الحق حامد بك مستشار السفارة العثمانية في لوندره وألف فيه رواية باللسان التركي على الطرز الجديد. وأما المرسل فهو الذي يرسل فيه الكلام إرسالا بدون تقييد بقافية أو سجع أو وزن، أو شيء ما بل يطلق إطلاقا. ويتأتى في هذا القسم من الفصاحة، والبلاغة ما لا يتأتى في السجع ولا في الشعر؛ لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع أو القافية، وكذلك الشعر يضيق نطاق الكلام ويمنع القول من انتهائه ويصده عن تصرفه على قواعده، ومن يلتزم في كلامه السجع أو الوزن أو القافية فهو يلفق بهما ما ينقصه من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال، ويجبره بذلك القدر من التزيين بالأسجاع ورن الصوت بالوزن والنغمة كما يزينه ببقية الصنائع البديعية، ويغفل عما سوى ذلك من بلاغة المعاني، فلما سلك الشعراء في الجاهلية حفظ الألفاظ، وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها؛ عرض بهم القرآن الكريم، فقال:
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، قال الباقلاني: «فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم، واللفظ كيف أطاعهم، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم، وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب.» ولما شرعت دية الجنين جاء بعض العرب إلى النبي - عليه السلام - وكلموه في هذا الشأن، ولفقوا كلامهم بالسجع ليجعلوا فيه قوة الحجة الدافعة، والبرهان القاطع، فقالوا: كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهل أليس دمه قد بطل؟
فقال: أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ أسجعا كسجع الكهان؟
نعم إن الشعر إذا تهذب ووفي له بجميع الأسباب لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب، ولكن قلما يفلح الشاعر المجيد إلا في بعض الأبيات سيما في الشعر العربي حيث ضيق فيه النطاق على الشعراء، وألزموا باتباع القواعد التي تخطاها شعراء الإفرنج، على أن أكثر فحول الأدب في البلاد المتمدنة صارفو عنايتهم في يومنا إلى النثر المرسل دون النظم، كما فعل فيكتور هوكو في آخر عمره، وكما يفعل اليوم أميل زولا وغيره مثل تولستوي أديب الروس. •••
ثم ظهر الإسلام وجاء القرآن بأفصح لفظ، وأبلغ معنى على أسلوب جديد يخالف أساليب العرب في النظم والنثر، فلا هو مرسل ولا مسجع، بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى من غير التزام حرف يكون سجعا أو قافية، وسميت آخر الآيات فواصل؛ لأنها ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضا قواف، ووقع اللفظ في القرآن تابعا للمعنى؛ ولذا فاق كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغتهم؛ لأن الواحد منهم إن برع في فن من فنون النظم أو النثر قصر فيما دونه، والقرآن أبدع في جميع ضروب الكلام وطرق الإفادة، واشتمل على قصص وأخبار، وشرائع، وأحكام، ووعد، ووعيد، وترهيب، وترغيب، وتنزيه، وتحميد، وحجج على التوحيد وأمثال سائرة ومواعظ زاجرة وأصول إدارية وسياسية، وغير ذلك مما لم يحط بنصفه، بل ولا بربعه أديب من الأدباء، ولا شاعر من الشعراء، وناضل عن الحرية وخفف أذى العبودية، وندد بالظلمة وتوعدهم بما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، فقال في الوعيد:
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، وبين استبداد المستبدين من الملوك والسلاطين وكيفية إيقاعهم التفرقة بين رعاياهم، ثم إيصال الجور والأذى إليهم فرقة بعد أخرى، كما كانت سياسة فراعنة مصر ونماردة بابل وقياصرة الرومان والروم وأكاسرة الفرس، فقال في تصوير هذا الاستبداد:
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
قال الباقلاني:
6 «ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان، وسبي النساء وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما؛ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظلم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره.
صفحة غير معروفة
ثم ذكر وعده تخليصهم وجعلهم مستقلين بأمرهم وارثين لأرضهم»، ومما ورد في القرآن الكريم في السياسة والمناسبات الدولية التي كانت بين مملكة فلسطين وعاصمتها، إذ ذاك أورشليم، وبين مملكة سبأ وعاصمتها مأرب، وما كتب به سليمان بن داود - عليهما السلام - إلى بلقيس، وما اشتغلت به من التدبير والمشورة، واستطلاع عواقب الأمور وإرسال الهدية لفك عراقيل السياسة بالوسائط الديبلوماتية إلى غير ذلك ما نصه:
7
قال:
اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون .
قالت:
أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين .
قالت:
يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون .
قالوا:
نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين .
صفحة غير معروفة
قالت:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون * وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون . فلما جاء سليمان قال:
أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون - إلى آخر القصة - وترى فيها مجئ أهل سبأ مسلمين إلى أورشليم والاحتفال باستقبالهم، وإرائتهم عز الملك وارتقاء الصنائع، وما أتى به الذي عنده علم من الكتاب من عرش لملكتهم حتى قيل:
أهكذا عرشك قالت كأنه هو ، واصطناعهم لها صرحا يذكرنا قصر الزجاج الذي أنشئ في معرض باريس الأخير، و
قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، قال:
إنه صرح ممرد من قوارير .
قال الباقلاني؛ وهو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني، وكان ملك الإسلام في بغداد عضد الدولة من آل بويه أرسله سنة 371ه سفيرا إلى قيصر الروم في القسطنطينية، وهو قسطنطين التاسع من سلالة مكدونيا، وكانت السفارة في جواب رسالة وردت عليه منه - قال: «متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان - عليه السلام - بعد ذكر العنوان والتسمية هذه الكلمة الشريفة العالية
ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ، والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه بلقيس من التدبير، واشتغلت به من المشورة، ومن تعظيمها أمر المستشار، ومن تعظيمهم أمرها، وطاعتها بتلك الألفاظ البديعة والكلمات العجيبة البليغة، ثم كلامها بعد ذلك لتعلم تمكن قولها:
يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ، وذكر قولهم:
قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين
صفحة غير معروفة
لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به وقوله:
الأمر إليك
تعلم براعته بنفسه، وعجيب معناه، وموضع اتفاقه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة وملاءمته لما قبله، وذلك قوله:
فانظري ماذا تأمرين
ثم إلى هذا الاقتصار وإلى البيان مع الإيجاز، فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه، ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه.
وكم جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الأفهام، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام، ثم لو وقع على الأفهام ... فما يجب فيه من شروط الإحكام كله، أو بمعاني القصة وما تقتضي من الإعظام، ثم لو ظفرت بذلك كله رأيته ناقصا في وجه الحكمة، أو مدخلا في باب السياسة، أو مصفوفا في طريق السيادة، أو مشترك العبارات إن كان مستجود المعنى، أو جيد البلاغة مستجلب المعنى، أو مستجلب البلاغة جيد المعنى، أو مستنكر اللفظ وحشي العبارة، أو مستبهم الجانب مستكره الوضع، وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد، وإذا اختصر كمل في بابه وجاد ، وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه لم يقع إلا على محاسن تتوالى وبدائع تترى، ثم فكر بعد ذلك في آية آية أو كلمة كلمة في قوله:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون
هذه الكلمات الثلاث كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره. ثم تأمل تمكن الفاصلة وهي الكلمة الثالثة، وحسن موقعها، وعجيب حكمها، وبارع معناها، وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر، ولكن بينت بما فسرت وقررت بما فصلت الوجه الذي سلكت فيه، والنحو الذي قصدت، والغرض الذي إليه رميت، والسمت الذي إليه دعوت، ثم فكر بعد ذلك في شيء أدلك عليه، وهو تعادل هذا النظم في الإعجاز في مواقع الآيات القصيرة، والطويلة والمتوسطة، فأجل الرأي في سورة سورة، وآية آية، وفاصلة فاصلة وتدبر الخواتم، والفواتح، والبوادي، والمقاطع، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع التنقل والتحول، ثم اقض ما أنت قاض وإن طال عليك تأمل الجميع فاقتصر على سورة واحدة أو على بعض سور، ما رأيك في قوله:
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين
هذه تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف، وهي تشتمل على جملة وتفصيل وتفسير ذكر العلو في الأرض ... إلخ.» ا.ه.
صفحة غير معروفة
ومن ذلك يعلم اقتدار هذا السفير الكبير في «الانتقاد الأدبي»
8
الذي له المقام الأسمى بين علوم الأدب، وللإفرنج فيه عناية زائدة، وجرائدهم تنشر فيه المقالات الضافية، ولجريدة الطان محرر ماهر في «الانتقاد الأدبي»، وهو «غاستون ديشان»؛ وإذا أمعنا النظر في القرآن الكريم نجده مملوءا بالمحاسن والبلاغة، ولكننا نتلوه في الغالب تلاوة تعبد بدون نظر في حقائق معانيه وتاريخه، وإلا تأمل قوله: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» تجد في هاتين الكلمتين من البلاغة والفصاحة ما لم يأت بمثله غابرييل هانوتو على ما هو عليه من الاقتدار في الأدب، والعلم، والسياسة، والحرية الفرنساوية، وما أدراك ما الحرية الفرنساوية؛ هي الحرية التي أنقذت أمما كثيرة من الظلم والاستبداد، وجل ما أتى به في الخطبة التي خطبها أخيرا في الجزائر عن سياسة الاستعمار في إفريقية، وعما يجب على الدولة المتمدنة في جانب أهاليها المسلمين قوله: «يجب لهم علينا الأمن، يجب لهم علينا العدل، يجب لهم علينا كذلك التساهل» أي بالدين.
وقد نشر ملخص هذه الخطبة في جريدة طرابلس الشام في نيسان هذه السنة، فقابل بين تينك الكلمتين، وبين هذه الكلمات الثلاث وحكم ضميرك الحر إن كنت من الأحرار، واحكم بعد ذلك بما شئت، لو قرأنا القرآن وفهمناه كما ينبغي لوجدنا فيه مقاومة شديدة للظلم والاستبداد، وميلا زائدا للعدل والحرية، ولقد رفع الاستبداد بسببه يوما، ولكن الأمم الآسيوية والأفريقية أبت الخروج من تحت نير العبودية، أو كما عبر أحد الأفاضل بقوله: «لما ساد عليهم الجهل ولم يستطيعوا أن يصعدوا إلى القرآن بعقولهم أنزلوه من مكانه الرفيع، ووضعوه مع جهلهم في مستوى واحد.» •••
وبظهور الإسلام ظهرت طبقة جديدة من الأدباء قيل لهم: أهل الطبقة الإسلامية، وهم الذين كانوا صدر الإسلام وأيام الدولة الأموية التي امتدت إلى سنة 129ه، وفي أوائل الدولة العباسية، وسمي المتأخرون منهم شعراء الدولتين الأموية والعباسية، ولخص حسان بن ثابت شاعر النبي
صلى الله عليه وسلم
الطريقة المثلى في الشعر بقوله:
وإنما الشعر عقل المرء يعرضه
على البرية إن كيسا وإن حمقا
وإن أحسن بيت أنت قائله
صفحة غير معروفة