فيكتور هوكو: احتفال الفرنساويين له باليوبيل القرني
فيكتور هوكو: علم الأدب عند الإفرنج والعرب
الخاتمة
فيكتور هوكو: احتفال الفرنساويين له باليوبيل القرني
فيكتور هوكو: علم الأدب عند الإفرنج والعرب
الخاتمة
تاريخ علم الأدب
تاريخ علم الأدب
عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو
تأليف
روحي الخالدي
فيكتور هوكو: احتفال الفرنساويين له باليوبيل القرني
تذكار فيكتور هوكو لمائة عام مرت من ولادته، احتفلوا بتدشينه في 25 فبراير سنة 1902 في ميدان فيكتور هوكو بباريس.
احتفل الفرنساويون في أوائل سنة 1902 للشاعر فيكتور هوكو في البانتيون، كما احتفلوا في أواخر العام السابق بيوبيل الكيماوي برتلو في الصوربون، والبانتيون هيكل فخيم على رابية من روابي باريس بالقرب من الصوربون، وهو اليوم مدفن أعاظم الرجال الذين يعترف لهم الوطن الفرنساوي بالفضل والحسنى.
ففي السادس والعشرين من شباط الماضي (فبراير) الموافق لختام القرن الأول من ميلاد فيكتور هوكو ابتدأ موسم الاحتفال بيوبيل هذا الشاعر، واجتمع في البانتيون الرؤساء والسفراء والعلماء والشعراء والمشخصون والمشخصات، وكل من اشتهر في باريس من الرجال والنساء، وأكثرهم بالألبسة الرسمية والعسكرية والكساوي العلمية والقضائية موشحون بوسامات الافتخار، أو متمنطقون بمناطق الحرير المثلثة الألوان، أو مكتفون بتزيين صدورهم بأزرار الوسامات، وإشارات المداليات على اختلاف درجاتها وأشكالها، وافتتح هذا الاحتفال الموسيو جورج ليغ ناظر المعارف الفرنساوية بخطبة شائقة.
وتلاه في الخطابة السياسي الشهير الموسيو غابريل هانوتو بالنيابة عن الأكاديمية الفرنساوية، فاختلب الأسماع بجواهر لفظه، واجتذب القلوب ببلاغة معانيه، فانتقل كلامه بالتلغراف والتلفون لجميع المدن الفرنساوية، وربما تجاوزها إلى كثير من البلاد الأجنبية؛ لأن الموسيو هانوتو بعد أن حاز قصب السبق في ميدان السياسة، وحل عقدة ماداغشكر وألحقها ببلاده، وفك العراقيل السياسية في أفريقيا الغربية ونهر النيجر، تنحى عن كرسي الوزراة وقد شغله مدة تزيد على أربع سنوات، وجلس على كرسي الأكاديمية وأقبل على نشر الكتب، وطبع المقالات التي اشتهرت في العالم كله، وكان لها شأن في مصر وغيرها من بلاد الشرق، وهو على رفعة قدره وعلو شأنه لم يزل كما كان في صباه مقيما في الطابق الخامس من بيت يستطرق بابه على بولفار سن جرمن، ويصعد إلى مسكنه بدون مصعدة (أسانسور) مائة درجة.
ثم أنشد بعض المشخصين والممثلات شيئا من قصائد فيكتور هوكو، وتلوا جزءا من أحاديثه وانفض الجمع ليستأنفوا الاحتفال في مواضع أخرى من باريس؛ لأن حفلة البانتيون لم تكن إلا افتتاح موسم أدبي في عموم البلاد الفرنساوية، ودامت الزينات والأفراح فيها سبعة أيام بلياليها، وهم في كل يوم وليلة يرفعون الأعلام، ويضيئون الأنوار، ويجمعون الجموع، ويلقون الخطب، ويأدبون المآدب، ويشربون النخب، ويمثلون على المراسح الروايات، وينشدون الأناشيد، ويحررون المقالات المبتكرة، ويصورون الرسوم البديعة، ويعملون أنواعا كثيرة من المظاهرات والزينات احتفالا بهذا الموسم.
وقرر مجلس نواب الأمة إنفاق ثمانين ألف فرنك لهذا الاحتفال عدا ما تنفقه مجالس البلدية والجمعيات الخيرية والعلمية، مما يفوق أضعاف هذا المبلغ، فجاء هذا الاحتفال على أتم منوال وأحسن نظام؛ لأن الفرنساويين أقدر الأمم المتمدنة على إتقان الزينات، وإتمام معدات الاحتفال للطافة أذواقهم، وخفة أرواحهم، وميلهم إلى البهرجة والزينة، وهم يتهافتون على تعظيم رجال العلم والأدب ويبالغون في إجلالهم حتى كادوا يعبدونهم من دون الله، ويتنسكون في ادخار آثارهم وجمع مناقبهم، وحفظ أخبارهم، ورفع الهياكل والتماثيل والأنصاب لهم، كان الواحد منهم معبود من معبودات قدماء المصريين، أو إله من آلهة اليونان أو الفينيقيين، وهم - والله أعلم - يعتاضون بهذه الاحتفالات عما فاتهم من الاحتفال بتتويج الملوك ويوبيل القياصرة، وقد رفعوا لفيكتور هوكو تمثالا عظيما بل تماثيل، وسموا باسمه الشوارع والميادين، واتخذوا داره متحفا سموه باسمه، وسيجمعون فيه متاع الشاعر وأثاث بيته وكل ما له أدنى علاقة به أو ذكر في أشعاره، ولم يفرطوا بشيء من ذلك ولا أضاعوا له قلما ولا دواة ولا ورقة من الأوراق التي تعلم بها، وهو في المدرسة، وقد كتب على واحدة منها: «أريد أكون شاتوبريان أو لا شيء»، ولا الأوراق التي كان يلاعب بها أولاده، ورسم لهم فيها الرسوم الهزلية والمضحكة، ولا الكيس الذي وضع فيه مبلغ المائة وخمسة وعشرين ألف فرنك ثمن المجلدين الأولين من تأليفه المسمى ميزيرابل .
ولو أردنا وصف هذه الاحتفالات، وإيراد الخطب التي تليت فيها، والإتيان على ما حررته الجرائد من الفصول الطوال لاستغرق الكلام مجلدا ضخما؛ لأن هذه الاحتفالات كان لها رنة عظيمة في أوروبا كلها. وقد نشرت جريدة التيمس الإنكليزية ترجمة هذا الشاعر بالفرنساوية إعظاما لشأنه؛ لأن شهرة فيكتور هوكو ليست في فرنسا وحدها، بل هي طائرة في آفاق العالم المتمدن، وقد وصلت إلى بلادنا الشرقية منذ سنين. أتذكر أني قرأت في «المقتطف» وهو لا يزال في سورية أبياتا لفاضل من الأدباء لخص فيها فكرا من أفكار فيكتور هوكو المذكورة في كتابه المشار إليه، وصف بها حالة البائس المسكين الذي اشتدت حاجته، واضطره الجوع حتى كسر قفل الخباز، وأخذ رغيفا لسد رمقه فانتبه له الخفير، وانقض عليه انقضاض البازي على العصفور، وقاده إلى حبس التوقيف، ثم رفعه إلى محكمة العدل فلم يشفق عليه حكام العدلية، ولا رحمه قضاة الحقانية فارتعدت نفس الشاعر من هذا الظلم القاهر حتى صرخ قائلا: «أين العدالة في أوهام شرعكم؟»
ثم لما أتيت الأستانة وجدت أدباء الأتراك وشعراءهم ترجموا كثيرا من نظم فيكتور هوكو، ونثره فيما نشر من مؤلفات كمال بك، وعبد الحق حامد بك، وأكرم بك، ومدحت أفندي صاحب جريدة «ترجمان حقيقت» سابقا، وفي «مجموعة أبو الضيا»، و«كتبخانة أبو الضيا»، وترجم شمس الدين سامي باشا صاحب قاموس الأعلام جزءا كبيرا من كتاب «ميزيرابل»، وسماه بإضافة أداة الجمع التركية على كلمة «سفيل» العربية، فقال: «سفيللر» أي: السفلة من الناس، ثم بلغني أن بعض أدباء مصر شرع في ترجمة هذا المؤلف الجليل وسماه «البؤساء» أو نحو ذلك، فجمعت شيئا من أخبار فيكتور هوكو؛ ليحصل لنا علم إجمالي بترجمة حياته، وحقيقة فلسفته، وسبب شهرته.
الدور الأول من حياته: من ولادته سنة 1802 إلى نفيه سنة 1852
كانت فرنسا في افتتاح القرن التاسع عشر في هرج ومرج من هول «الانقلاب الكبير»، الذي حدث فيها؛ فغير معالمها وثل منها عرش الاستبداد، وحرر العقول، وبدل الظلام بالنور، ووضع العدل في موضع الظلم، وجرى بسبب ذلك من الفظائع الدموية ما تقشعر من سماع حديثه الجلود، لبث الانقلاب من سنة 1790 إلى سنة 1795، ثم نبغ بونابرت، واكتسح بالعساكر الفرنساوية إيطاليا، ثم مصر وفلسطين، وطاف بها أوروبا من مشرقها إلى مغربها، وقهر الملوك والإمبراطور والقيصر، واستقدم البابا من رومية إلى باريس ليلبسه تاج الإمبراطورية ويسميه نابوليون الأول، وأجلس زوجته جوزيفين على سرير الملكة ماري أنتوانيت ثم لم يستحسن التاج على رأسها لأنها أرملة الجنرال بوهارنه، فأبدلها بماري لويز بنت إمبراطور ألمانيا، وجعل أخاه الأكبر يوسف بونابارت ملكا على نابولي، ثم ملكا على إسبانيا، وحشد عساكره في هاتين المملكتين، وكان سيجسبر هوكو والد صاحب الترجمة ضابطا في عسكر الفرنساويين ومأمورا مع جنودهم بالمحافظة على بيزانسون، وهي مدينة على طريق السكة الحديدية بين مرسيليا وباريس، وكان أبوه نجارا وجده فلاحا.
وفي 26 شباط سنة 1802 وضعت امرأته ماري في تلك المدينة غلاما نحيفا ضعيفا، فقيده في سجل نفوس البلدة باسم «فيكتور ماري هوكو»، وكان له ولدان أكبر من فيكتور أحدهما يسمى أبيل والآخر أوجين، وبعد شهرين من ولادة فيكتور تلقى والداه الأمر بالمسير إلى جزيرة كورسيكا، ومنها إلى جزيرة إيليا فحمل إليها امرأته وأولاده وأقام فيها إلى سنة 1805، ثم دعي سيجسبر هوكو إلى باريس فذهب إليها بعائلته، ودخل في خدمة الملك يوسف بونابارت، ورافقه إلى نابولي ومعه عائلته فشاهد فيكتور بركان فيزوف، وهو في السادسة من عمره، وانطبعت في ذهنه صورة هذا الجبل وما يتصاعد من فوهته من اللهيب والدخان، وارتسمت في مخيلته مناظر إيطاليا الطبيعية وجوها الصافي، فلما كبر ونظم هذه الرحلة وصف هذه المناظر في أشعاره أحسن وصف.
ولما ذهب يوسف بونابارت إلى إسبانيا ليلبس فيها تاج الملك اصطحب سيجسبر هوكو، وعاد فيكتور مع أمه وأخويه إلى باريس، وسكنوا في دير فيليانتين بجوار مدرسة الطب العسكرية التي يقال لها: «فال دوغراس»، وهي قريبة من البانتيون، فكان فيكتور يقرأ مع أخويه أشعار فرجيل على راهب متضلع في الآداب اللاتينية، واستمر على ذلك إلى سنة 1811، وقد ترقى والده وصار قائدا على الجيش، وبلغ راتبه إلى ثلاثين ألف فرنك إسبانيولي (ريوس)، ومنحه الملك يوسف لقب كونت، وعينه ناظرا على مطبخه العام، فأحضر حينئذ امرأته وأولاده إلى مادريد. فاستفاد فيكتور هوكو من هذه الأسفار فوائد كبيرة، وتمكن مع حداثة سنه من مراقبة جمال الطبيعة، وحفظ أسماء المدن والبقاع التي مر بها، وشاهد في قصور مادريد آثار العمران الشرقي، وصور أعاظم الرجال الذين قامت بهم القرون الماضية، فاتسعت مخيلته وانفتق ذهنه، ونفح بنفحات شعرائنا الأندلسيين، فرقت ألفاظه، وراقت معانيه، وظهر النفس الأندلسي في أشعاره، وسمعت النفحة الأندلسية من أكثر قوافيه، وذكر في قصيدته التي سماها غرناطة أكثر مدن الأندلس، ووصف ما فيها من المباني والقصور، وذكر في غير هذه القصيدة جميع البلدان التي مر بها في طريقه مثل أيرون، وعين العرب التي يقال لها اليوم: «فونت أرابي» وقلعة إيرناني، وجعل اسم هذه القلعة عنوانا لرواية من رواياته، ودخل وهو في مادريد مدرسة أولاد الأشراف، وخالط فيها أبناء الأمراء من الإسبانيوليين، وعرف أخلاقهم وعاداتهم، فنظمها في رواية «إيرناني»، و«ريوبلاس» وغيرهما من مؤلفاته، واستعار أسماء كثير من رفاقه؛ ليشخصهم في قصصه ورواياته، وكان يدقق في أحوال الجند، ويتأثر بأصوات أبواقهم وصدى موسيقاهم، فأبدع في وصف حركاتهم العسكرية، وفتحهم القلاع، ونزولهم مساء ورحيلهم صباحا، وسيرهم ليلا إلى غير ذلك من الأوصاف التي شخص بها حال العساكر تشخيصا تاما.
ولما انقلبت السياسة في إسبانيا، واشتد الخطر على عساكر الاحتلال أعاد الجنرال هوكو عائلته إلى باريس، ولم يبق عنده إلا ابنه الأكبر أبيل، فأدخله في خدمة الملك، ورجع فيكتور هوكو مع أمه وأخيه إلى الدير الذي كان فيه، وعكف على مطالعة ما عند أمه من الكتب كمؤلفات فولتير، وجان جاك روسو، وديدرو أحد مؤلفي الإنسلكوبيدي، ومؤلفات السائح كوك وغيرهم. وكان لأمه ألفة بعائلة فوشر أحد مستخدمي نظارة الحربية، فكانت مدام فوشر تكثر التردد عليها، ومعها ابنتها الصغيرة عادلة (أديل) لتلعب مع فيكتور وأخيه أوجين، وتستنشق الهواء الصافي في بستان الدير، ولما ضبطت الحكومة هذا الدير في جملة ما ضبطته من أملاك الرهبان سكنت زوجة الجنرال هوكو بالقرب من دار فوشر، فكثر اختلاط فيكتور هوكو بعادلة، وألفها حتى صارت فيما بعد زوجته.
ولم يمض كثيرا من الزمان حتى اشتدت الأزمات السياسية، وتوالت الحوادث المرهبة، وعاد نابوليون بالخيبة من سفر موسكو، وعاد أخوه يوسف بعساكره من إسبانيا ومعه الجنرال سيجسبر هوكو، فالتمس الرجوع لمأموريته والدخول في سلك العساكر الفرنساوية، فلم يقبلوه إلا برتبته السابقة، وبعد أن دارت الدائرة على نابوليون الأول، وحبطت أعمال الحكومة الإمبراطورية وعاد آل بوربون إلى كرسي المملكة الفرنساوية تقرب الجنرال هوكو إلى لويس الثامن عشر، وتملق إليه حتى صار من المقربين لديه، فخلع عليه رتبة الجنرالية، وسلمه قيادة العسكر، فأراد إدخال ولديه الأصغرين في هذا السلك كما أدخل أخاهما الأكبر من قبل، فوضع فيكتور وأخاه أوجين في مدرسة «لوي لوغران»؛ ليدخلهما فيما بعد مدرسة الفنون الحربية وهما من المدارس التي لم يزل يتردد إليهما بعض أبناء الشرق في باريس، فأقبل فيكتور هوكو على تحصيل العلوم الرياضية، ولم يترك مع ذلك نظم الأشعار، فنظم عدة قصائد في الغزل والمدح والهجو والهزل والرثاء، وقصيدة في الطوفان، ولم ير مباينة بين العلوم الرياضية المبنية على حقائق برهانية، وبين علوم الشعر التي كان يظنها الناس خيالات باطلة وأوهاما كاذبة، وإن أعذب الشعر أكذبه، بل كان يعتقد بأن الشاعر لا بد له من تعلم العلوم الرياضية والطبيعية، وكان يعتبر تصور حوادث الكون، وتخيل مناظر الطبيعة، وجمع معاني ذلك في الذهن ثم إفراغ المعاني في قوالب الألفاظ، ونسجها في أبيات الشعر كل ذلك أشبه بتصوير المسائل الحسابية والهندسية، وحل المعادلات الجبرية؛ ولذا قال: بأن صباه لم يكن إلا تخيلا طويلا ممزوجا بدرس مدقق، وأن لا مباينة بين التدقيق والشعر؛ لأن القواعد الرياضية تطبق في الشعر كما تطبق في العلم، وقال أيضا: «إن الكلمة كائن حي فاعلموه.»
وكان شاتوبريان من أفحل أدباء العصر، وله مؤلفات جليلة في النظم والنثر، وقد طاف بلاد الشرق، وزار مصر وسوريا واليونان، وألف بعد ذلك كتابه المسمى «روح النصرانية»، وبحث عن حكمة الديانة المسيحية، فطالعه فيكتور هوكو وأعجب به، وتشرب منه آراء المذهب الكاثوليكي وسياسة الحزب الملوكي، فكتب على دفتره، وهو في المدرسة بتاريخ 10 يوليو سنة 1816: «أريد أن أكون شاتوبريان أو لا شيء.» وبعد سنة من هذا التاريخ فتحت الأكاديمية الفرنساوية مسابقة للشعراء، وجعلت موضوع السباق «فوائد المطالعة»، فنظم فيكتور هوكو في هذا المعنى 320 بيتا عرضها على لجنة التحكيم، ولم يكن له من العمر إلا خمس عشرة سنة، فاستحسنوا أبياته، واستصغروا سنه، وظنوه سارقا شعره فلم يعطوه الجائزة، واكتفوا بقيد اسمه في دفتر الشعراء، وفي السنة التالية بعث إلى جمعية «لعب الأزهار» - وهي جمعية أدبية تأسست قديما في طولوز - القصيدة التي سماها «عذارى فيردون»، وتشبب فيها ببنات تلك المدينة التي على الحدود الألمانية، وبعث أيضا بقصيدة أخرى في مدح هنري الرابع، فنال بهما جائزة الجمعية.
وفي سنة 1818 أكمل فيكتور هوكو دروسه في مدرسة «لوي لوغران»، واستنكف من الدخول في امتحان المسابقة لأجل قبوله في المكتب الحربي، وكتب لأبيه بأنه عدل عن سلك العسكرية، واتخذ الشعر صنعة يتعيش منها وأن لا حاجة له بالراتب القليل المعين له، وأقبل على الجد والاشتغال ومثابرة الأعمال، واشترك مع أخيه الكبير أبيل، وكان له مشاركة في علوم الأدب، فأسسا جريدة أدبية عنوانها «المحافظ الأدبي»، ونشر فيكتور هوكو الأشعار البديعة، والمقالات الانتقادية.
وكان لويس الثامن عشر الذي جلس على سرير الملك سنة 1824 عاقلا ماهرا لم يصغ لأقوال الذين يريدون إطفاء نور العلم والحرية، وإعادة المظالم القديمة، بل أعطى الشعب حقوقه، وسن لبلاده القوانين، وكان ولي عهده أخاه شارل العاشر وله ولد اسمه دوك دوبري قتله أحد الرعاع، وهو خارج من مرسح الأوبرة سنة 1820، وخلف دوك دوبري طفلا صغيرا اسمه دوك دوبوردو، فنشر فيكتور هوكو في جريدته قصيدة هنأ فيها بالمولود وأخرى رثى فيها الوالد والقصيدتان موافقتان لسياسة الحزب الملوكي، فاستحسنهما لويس الثامن عشر، وأجازه عليهما بخمسمائة فرنك، وفي تلك السنة بعث فيكتور هوكو إلى جمعية لعب الأزهار في طولوز بالقصيدة التي عنوانها «موسى على النيل»، فكافأته عليها بالمدالية الذهبية، وكانت على شكل الزهرة ومنحته لقب الأستاذ في جمعيتها.
فاشتهر هوكو وانتشر شعره، ولقبه شاتوبريان بالولد النجيب، وفتحت الشعراء له أبوابها، فتعارف على ألفرد دوفينيه ولامارتين مؤلف «الرحلة الشرقية»، وسومه وإميل دوشان وغيرهم من شعراء العصر وفحول أدبائه، وفرح به جميع المنتصرين للحزب الملوكي؛ لأنه على مذهبهم السياسي ودينهم الكاثوليكي، وترنموا بأبياته في مجامعهم، وأنشدوا قصائده في نوادي سمرهم، وكان ينظم لهم القصائد الهزلية والمدائح الملوكية على ما يوافق مشربهم مثل «التلغراف»، و«المقيد السياسي»، و«القريحة»، وغيرها.
فانشرح صدر الشاعر بهذه الشهرة، وارتاح باله من جهة تأمين معاشه في المستقبل، ولعب الهوى في رأسه فرأى بجانبه صاحبته من الصغر قد انتقلت إلى سن الشباب، وانتصبت قامتها كالغصن، ولبست أثواب الجمال والحسن، فهام في حبها، وأراد الاقتران بها فمنعته أمه لفقر البنت وعدم وجود مهر كاف (دوته) معها، وقطعت علائقها مع عائلة فوشر، فتألم الشاعر بألم الفراق، وأخذ يراسل حبيبته برسائل الحب والاشتياق، ونشرت هذه الرسائل بعد موته تحت عنوان «مراسلات الخطيبة».
وفي سنة 1821 توفيت والدته فحزن عليها حزنا شديدا لزيادة حنوها عليه، وكثرة إحسانها إليه، ولم يمض شهر على وفاتها حتى تزوج والده بواحدة من الغنيات الشريفات لقلة وارده وكثرة نفقاته، وبقي فيكتور هوكو وحيدا فريدا، وانتقل من الدار التي كان فيها مع أمه إلى مسكن صغير، وتضايق في أمر معاشه لقلة ما في يده، ولاحتياجه لمن يدبر له البيت ويهيئ له الطعام، وأخذ يفكر في معشوقته وفي الوصول للاقتران بها؛ لأن أباه افتقر بعد سقوط الحكومة الإمبراطورية، وأبو حبيبته لم يكن من أصحاب الثروة العظيمة، فاجتهد فيكتور هوكو في تحصيل المال، وأقبل على النظم والتأليف، ونشر سنة 1822 ديوان قصائده، فكان له رواج عظيم، وقرأه لويس الثامن عشر، وأعجب به وأحسن على الشاعر من خزينته الخاصة براتب سنوي قدره ألف فرنك، فافترج الشاعر بهذا المعاش، وتزوج بعادلة فوشر ولها من العمر 19 سنة، وبينما هم في حفلة العرس على مائدة الطعام، نهض أخوه أوجين، وأجرى أفعالا منكرة ، وفاه بكلام غير معقول، فحملوا ذلك أولا على إكثاره من شرب المدام، وذهبوا به إلى بيته، وفي الصباح وجدوه مختل الشعور، وفهموا أنه يحب عادلة محبة شديدة، وكان يخفي حبها فلما تزوجت بأخيه هاجت عواطفه وذهب عقله فوضعوه في بيمارستان سارانتون، وهو في أرباض باريس، واستمر فيه إلى أن مات، وكانت عادلة بديعة الحسن رقيقة الحواس غير أنها بسيطة الفكر غير مفرطة الذكاء، وكان زوجها متيما في حبها، فسكن مدة عند صهره، ولما بلغ راتبه من الملك 2000 فرنك في السنة خرج بها من دار أبيها، وسكنا في بيت على حدة، فولدت له أولادا كبروا وماتوا في حياته، وهم ليوبولدين ماتت غريقة في نهر السين، وشارل مات فجأة عند صاحبة له في بوردوا، وفرانسوا مات في باريس، وعادلة تزوجت على كره من أبيها، وأصيبت بداء الجنون مثل عمها وهي لم تزل في قيد الحياة، فكانت هذه المصائب باعثة على نظم القصائد التي عنوانها «أولادي»، ورثاهم أيضا في كتاب «التأملات» وغيره بأرق المراثي، وكان موحدا في الاعتقاد، ولم يتبع مذهب المسيحيين في البقاء على زوجة واحدة، بل شغف بعد ذلك بحب إحدى الممثلات، وأسكنها مع زوجته، وعمل عمل القائلين: بتعدد الزوجات مع رعايته واحترامه لزوجته الأولى.
وأخذ فيكتور هوكو يحرر في مجلة «الموز الفرنساوية» التي أنشأها الأديبان سومه وديشان، ويتردد على بيت شارل نوريه، وكان هذا الفاضل مديرا لمكتبة أرسنال، وهي إحدى المكاتب الأربع الكبيرة في باريس، ونال معاشا وافرا بسبب هذه الوظيفة، وفتح بيته للعلماء والشعراء حتى صار مجمعا للأدباء، وأسسوا فيه سنة 1824 جمعية أدبية على الطرز الجديد، وفي هذه السنة توفي لويس الثامن عشر، ولبس أخوه شارل العاشر تاج الملك، فمدحه الشاعر بقصيدة عنوانها «التتويج» فحازت القبول، وأنعم عليه الملك بوسام الافتخار من رتبة شيفاليه كما أنعم بذلك على الشاعر الشهير لامارتين، ولما نشر فيكتور هوكو ديوانه في المدح والغزل، وحاد فيه عن مسلك الشعر القديم المسمى «كلاسيك»، وسلك في النظم مسلكا جديدا انتقد عليه أصحاب الطريقة القديمة، وسلقوه بألسنتهم .
ونشر الشاعر «سنت بوف» في جريدة الغلوب بتاريخ 6 كانون ثاني سنة 1827 مقالة انتقادية كانت سببا لتحويل أنظار الناس إلى الطريقة الجديدة؛ ولتعارف الشاعرين حتى صارا من أعز الإخوان، وكان شارل العاشر قد حاد عن طريقة أخيه العادلة في سياسة الملك، ومال إلى الاستبداد، فنفر منه الأدباء والأحرار، واغتنم سفير النمسا في باريس هذه الفرصة، وندد في أمراء العساكر الذين خدموا مصالح نابوليون الأول، وأهانهم في الكلام فانتصر لهم فيكتور هوكو؛ لأن أباه كان في زمرتهم، ونظم قصيدة في مدح «العمود» أي: العمود الذي رفع لنابوليون في ميدان فاندوم، وطلي بنحاس المدافع التي غنمها في حروبه، ونقش عليه أسماء المواقع الحربية، والأمراء العسكرية. وكان الشاعر في ذاك التاريخ قد بلغ سن الرجولية، وهو السن الذي يتأهل فيه الرجل لحقوق الانتخاب، فظن كبقية أدباء العصر المتخوفين من استبداد شارل العاشر أن الحكومة الإمبراطورية أكثر عدلا وحرية من الحكومة الملوكية؛ ولذا أقبل على إظهار فضل نابوليون وإشهار مجده بدون أن يتعرض بالقدح لآل بوربون.
ونشر عقب مدحه العمود قصة كرومول، وشرح في مقدمتها طريقته الجديدة في علم الأدب، وشكل جمعية من أنصار هذه الطريقة وفي مقدمتهم ألفرد دوفينيه، وسنتابوف، وإميل دوشان، وألكساندر دوماس، وبولانجه، وغيرهم مثل لامارتين، وسموا طريقتهم «رومانتيك» كما كان المتقدمون يسمون طريقتهم «كلاسيك»، وصار فيكتور هوكو إمام المدونين في هذه الطريقة الجديدة، فانتقد عليه الكثير من أرباب السياسة وحملة الأقلام، ولاموه من وجهين أحدهما لمدحه نابوليون، وإشهاره مجد الحكومة الإمبراطورية، وثانيهما لعدوله عن مذهب الشعر القديم وسلوكه في النظم والنثر مسلكا جديدا، غير أن الشاعر لم يصغ للوم اللائمين، واستمر يتردد على بيت صاحبه شارل نوريه، وينشد قصائده أمام الحاضرين، ويستميلهم لطريقته واحدا بعد واحد، ولما اتجهت أنظار العموم نحو الشرق بسبب ثورة اليونان، وذهاب العساكر المصرية للموره، وغدر الدول في وقعة نافارين نشر فيكتور هوكو ديوانه المترجم «بالشرقيات»، ولم يزر الشرق ولا رأى نساءه مثل شاتوبريان ولامارتين، ولكنه درس أحواله درسا مدققا، وقرأ ما ترجم من كتب أدبائه مثل كلستان سعدى، وديوان حافظ شيرازي، وما ترجم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فراج ديوان الشرقيات لحداثة موضوعه، وبحث فيه عن الممالك العثمانية، والعوائد الشرقية، وعن بلاد اليونان، وإيتاليا، وإسبانيا، وكانت النفوس متشوقة للاطلاع على ما في زوايا الشرق من الخبايا.
ثم نشر قصة عنوانها «آخر أيام المحكوم عليه»، وصور فيها الاضطراب الذي يحصل للمقتول قبل قتله. وفي سنة 1839 وجه الشاعر التفاته نحو المرسح الفرنساوي (كوميدي فرانسه)، وشرع في اكتساب الرزق من تحرير الروايات المحزنة التي يسمونها «درام»، وحرر رواية «ماريون دو لورم»، وهي غانية من غواني باريس أحبها أحد الرهبان، وكان لها نبأ عجيب على عهد لويس الخامس عشر، ولما أراد مدير المرسح تشخيص الرواية منعه المراقب، فرفع شكواه من ظلم مراقب المطبوعات إلى الملك، فلم يأذن له بتشخيصها ومع ذلك قربه إليه، ولاطفه بالكلام، وقال: «أحب قريحتك الشعرية، وليس عندي أشعر منك ومن ديزوجيه»، وزاد في راتبه حتى أبلغه 4000 فرنك، فرفض فيكتور هذا الراتب مع شدة احتياجه إليه، وشرع في تحرير رواية «إيرناني» فأكملها في بضعة أسابيع، وشخصت على المرسح الفرنساوي ليلة 25 شباط سنة 1830، واشتد بسببها القيل والقال، وعلا في المرسح الصفير والجدال بين أصحاب المذهب القديم والمذهب الحديث في علم الأدب، وتم النصر في تلك الليلة لهوكو وشيعته، ولم يبق معه من النقد سوى خمسين فرنكا، فتقدم إليه ملتزم الطبع، وبارك له بنجاح الرواية، ونقده في مقابلة حق طبعها ستة آلاف فرنك، واستلم منه النسخة الخطية، وعقد معه مقاولة على تحرير قصة «نوتردام دو باري»، وتسليمها في ظرف ستة أشهر، فأكب الشاعر على المطالعة والتحرير، وأكمل القصة قبل انتهاء الأجل المحدود، فطبعت وكان لها رواج عظيم، واسم الرواية مأخوذ من كنيسة باريس الجامعة، وهي بناء فخيم بالقرب من دار البلدية ودار الحقانية.
ولما أصدر شارل العاشر أمره بإلغاء الحرية التي منحها سلفه للشعب، وبتعطيل أحكام القانون الأساسي هاج أهالي باريس، وحدث انقلاب تموز سنة 1830، وسالت الدماء في العاصمة ثلاثة أيام بلياليها، ففر شارل العاشر من فرنسا، وتنازل عن الملك لابنه وولي عهده دوك إنكوليم - وإنكوليم بلدة بين بوردو وباريس - غير أن هذا الدوك استعفى أيضا، وانتقل الملك بالإرث الشرعي إلى دوك بوردو، وهو حفيد شارل المشار إليه، فالجمهور من الفرنساويين لم يلتفتوا إلى حقوق هذا الصبي، وانتخبوا ملكا عليهم لويس فيليب ابن عم شارل العاشر؛ لقبوله إعطاء الأهالي حقوقهم وتعهده بحماية القوانين، فهوكو - شاعر الملك والمدافع عن حقوق الملكية، وناظم القصائد الغراء في ولادة دوك بوردو صاحب الميراث الشرعي، وفي رثاء أبيه دوك بري - لم يهتز لهذه الحوادث، بل أظهر استحسانه ما فعله الشعب، ولم يعبأ بالمسائل السياسية، وظل يشتغل في فنون الأدب فنشر ديوانه المسمى «أوراق الخريف»، وشخص على المرسح الفرنساوي سنة 1831 رواية ماريوم دولورم التي منع تشخيصها سابقا، ثم رواية «الملك يتسلى»، وهي رواية تاريخية موضوعها فرانسوا الأول الذي التجأ إلى ساكن الجنان السلطان سليمان القانوني من شر عدوه شارلكين؛ فمنع مراقب المطبوعات إعادة تشخيص هذه الرواية للتعريض فيها بالملوك، فرفع الشاعر شكواه إلى محكمة التجارة، ودافع عنها بنفسه أمام الحكام، فلم يسمحوا له بالتشخيص، ولم يجر تشخيصها مرة أخرى إلا سنة 1882، وكان الذي ربحه فيكتور هوكو من مؤلفاته كافيا لإنقاذه من مخالب الفقر وسعادة حاله ففتح بيته للزائرين؛ حتى صار مجمع الأدباء ومركز الشعراء، وفي جملتهم الكاتب الشهير تيوفيل غوتيه إلا أن الشقاق وقع بينه وبين صاحبه القديم ألكساندر دوماس، ودام الخصام أعواما كثيرة؛ لأن غيرة الشعراء والعلماء بعضهم من بعض أشد من غيرة الأمراء.
وجفاه أيضا حبيبه سنت بوف الماهر في فن الانتقاد، وقال عن مؤلفاته: بأنها ممزوجة بآراء السياسة الملكية، والديانة الكاثوليكية، والفلسفة السيمونية - وهي التي وضعها الكونت سن سيمون في آواخر القرن الثامن عشر، وفرض فيها تعلم الصنائع على كل فرد من أفراد الأمة، فلم يتبعه إلا القليل من الناس مثل كارنو والد رئيس الجمهورية الأسبق - فعمل برأيه ومع جلالة قدره جعل أحد أولاده نجارا، والآخر مهندسا وكلاهما من أكابر رجال الدولة، ثم ألف فيكتور هوكو رواية «لوكريس بورجيا»، وهي أخت قيصر بورجيا الشهير بالإسراف وفساد الأخلاق، وكانت بديعة الحسن ولها حديث غريب، فشخصت هذه الرواية في 2 فبراير سنة 1833، فأقبل الناس على استماعها، ثم شخصت مرارا على المرسح الذي بباب سن مارتن، وكانت الممثلة التي شخصت دور الأميرة نيكروني هي ماد موازيل جوليت دروه التي سبت الشعراء بحسنها وعقلها، فشغف فيكتور هوكو بحبها، وبعد أن تردد على بيتها كثيرا أسكنها في بيته عند زوجته فلامه أحد أصحابه، فحرر إليه يعتذر بأن زوجته أذنت له وسامحته على ما فرط به من حب جوليت، ولم تزل زوجته تحبه وتعزه، واستمرت في صحبة الشاعر، ورافقته في منفاه، وكانت تحرر له القصائد وهو يملي عليها، ودامت معه إلى بعد وفاة زوجته ورافقته أيضا في سن شيخوخته، ونشر فيكتور هوكو أيضا رواية «ماري تيدور»، وهي ملكة الإنجليز، ورواية «أنجلو»، وهو أمير ظالم من أمراء الطليان، ورواية «ربوبلاس»، وهو اسم خادم الوزير الذي خدعت به ملكة إسبانيا، وكثيرا ما تشخص اليوم على المراسح الفرنساوية هي ورواية «إيرناني»، ورواية «كلودكو»، وهي مما ترجم من مؤلفات هوكو إلى التركية، وفيها دفاع بليغ عن المحكوم عليهم بالإعدام وتشنيع هذا القصاص.
ومما نشره في هذا التاريخ من الأشعار الموسيقية غير أوراق الخريف «أغاني الشفق»، و«الأصوات الداخلية»، و«الأشعة والظلال»، وغير ذلك؛ فصار فيكتور هوكو بهذه التآليف يعد من فحول أدباء العصر، وانتسب لدوك أورليان وزوجته ووجه عليه لويس فيليب نشان الافتخار من درجة أوفيسيه، وأهداه صورته، وانتخبته الأكاديمي الفرنساوية عضوا في جمعيتها بأكثرية صوتين فقط بعد أن عارض أعضاؤها زمانا طويلا في قبوله لشدة تمسكهم بالقواعد، وأساليب الإنشاء القديمة، ولم يدخلوه بينهم إلا بعد أن اشتهر فضله كالشمس في رابعة النهار.
وسنة 1839 ساح فيكتور هوكو في جبال الألب على حدود إيطاليا وسويسرا، وشاهد مناظرها البديعة وزار بعد سنتين ضفاف الرين، ودرس أحوال بلاد الألمان، وكتب سياحته في مجلدين نشرا بعد موته، وألف أيضا رواية «بورغراف» التاريخية وبين فيها أخلاق أمراء الألمان في القرون الوسطى، فشخصت على المرسح الفرنساوي سنة 1843، ولم يقبل عليها الجمهور ولا حصل منها أرباح للمشخصين، فتكدر الشاعر من سوء طالعه، وعدل عن تأليف الروايات، وترك رواية «التؤام» التي شرع في تأليفها بدون أن يكملها، وكانت الأفكار العمومية تحولت عن طريقة الأدب الجديدة (رومانتيك)، وعادت للإقبال على طريقة (كلاسيك) القديمة لظهور بعض المؤلفات الجديدة فيها، وبمناسبة ذلك هزأت بعض الجرائد الهزلية بفيكتور هوكو وصورته برأس كبير، وهو واقف أمام المرسح بجانب إعلان هذه الرواية ينظر إلى السماء، وقد طلع ذو ذنب وكأنه يناجي ربه وهو يقول: «لماذا جعلت للنجوم أذنابا وتركت البورغراف بلا أذناب»، وتطلق كلمة بورغراف على ذوي الآراء السخيفة في ضروب السياسة، والمقصود تركت الرواية بلا جمهور يزدحم على باب المرسح، فيتألف منه ذنب طويل كما هي العادة في إقبال الناس على الروايات المهمة، واصطفافهم الواحد وراء الآخر لاشتراء أوراق الدخول.
وخرج فيكتور هوكو من باريس إلى جبال البيرنة على حدود إسبانيا يروض فيها أفكاره، ويزيل أكداره، ولم يلبث فيها كثيرا حتى فاجأه مصابه ببنته، وكانت في التاسعة عشرة من عمرها، وقد فارقها وهي في أثواب العرس فخرجت بزوجها تتنزه في زورق على نهر السين في مدينة فيلكيه، فانقلب بهما الزورق وماتا غريقين قبل أن يمضي على زفافهما أربعة أشهر، وزوجها شارل فاكيري هو أخ الأديب المشهور أوغست فاكيري، فزاد كدر فيكتور هوكو، واختبر بهذه المصيبة آلام الحياة وهمومها ودخل الحزن قلبه ولعلمه أفانين الرثاء، فأجاد وأبدع في المراثي التي نظمها، وأكثرها مدرج في كتاب «التأملات». غير أنه من هول هاتين المصيبتين وهما موت ابنته، وعدم رواج روايته يئس في بادئ الأمر من هذا العالم الفاني، وانقطع رجاؤه بالله وضعف اعتقاده، ورفض الشعر مدة، وأقبل على الإشغال بالعلوم السياسية، ودرس المسائل الاجتماعية، فنشر كتابا عنوانه «مكاتيب على الرين» حاول فيه حل مسألة الموازنة الأوروباوية، وتوهم تقسيم ممالك أوروبا بين فرنسا وبروسيا، وأراد تقليد لامارتين في الدخول لميدان السياسة - لأن الشاعر لامارتين بعد أن خدم طويلا في كتابته السفارات الفرنساوية، وصار سفيرا في طوسقانة وأتينة ترقى إلى مسند الوزارة، ولما زار الشرق نال شرف المثول بين يدي السلطان عبد المجيد خان، وحاز على الالتفات الشاهاني، وأحسن إليه بأبعدية «جفتلك» في ولاية أزمير، فأقام فيها وحرر تاريخ الممالك العثمانية في ثمانية مجلدات - ففتح لويس فيليب باب الحكومة لفيكتور هوكو، وعينه عضوا لمجلس الأعيان سنة 1845، فجلس مع أصحاب اليمين، وانضم لحزب الأكثرية، وهو حزب الوزارة، وقال بقولهم، وتكلم في بعض المسائل فخطب خطبة في «ماركة الفابريكات»، وأخرى في «المسألة البولونية»، ومدح البابا الحر وطلب إرجاع عائلة بونابرت، فلم يكن لكلامه تأثير على أعضاء المجلس كما كان لأشعاره، ورواياته تأثير في نفوس الجمهور عند صدورها على المراسح من أفواه الممثلين، والمشخصات؛ لأنه لم ينل من القوة النطقية ما ناله من القلمية والفكرية.
ولما قوي حزب الجمهورية، وحدث انقلاب سنة 1848، وأنزل لويس فيليب عن عرش الملك، وأعلنت حكومة الجمهورية الثانية على فرنسا انتخب فيكتور هوكو عضوا في مجلس الأمة من إبالة السين، وأسس في تلك السنة جريدة الوقائع (إيفينمان)، وكتب عليها «البغض الشديد للفوضوية، والهيام في الشعب والحنو عليه»، وكان يعينه في تحرير الجريدة ابناه شارل وفرنسوا، وأصدقاؤه من أفاضل المحررين مثل بول موريس، وأوغوست فاكيري، وتيوفيل غوتيه والبر لوقروا وغيرهم، وكان المترشح لرئاسة الجمهورية اثنين وهما نابوليون الثالث، والجنرال كافينياك فمالت جريدة الوقائع في خطتها السياسية لنابوليون؛ لأن فيكتور هوكو كان يترنم في قصائد «المدح في العمود»، ويطرب لذكر مجد نابوليون الأول؛ ولذا فإنه أحب في بادئ الأمر ابن أخيه نابوليون الثالث، وظن أنه يتقرب إليه ويكون مستشارا له فرجحه في الانتخاب على الآخر، واكتسب نابوليون الثالث أكثرية الأصوات، وكانت تزيد على خمسة ملايين ونصف مليون، فأعلن رئيسا على الجمهورية، واستلم زمام الإدارة ولم يلتفت لفيكتور هوكو، فلما خاب ما أمله الشاعر انقلب عن أصحاب اليمين إلى أصحاب الشمال، وصار من أكبر رؤساء الحزب المخالف فاتهمه العقلاء بأنه مذبذب يتردد بين اليمين والشمال، ودافع عنه أصحابه بقولهم: إن الشاعر لا يهتم بالأحزاب، وإنما يرى مصلحة الأمة فيسير معها، وكان كلما خطب في المجلس خطبة شددوا عليه النكير وذكروه بسوابق أعماله وأشعاره، ولما تمت الرئاسة لنابوليون مالت نفسه للبس التاج، وشرع في إعداد المعدات وتهيئة الأسباب، فتظاهر فيكتور هوكو له بالعداوة، ونشر في تقبيح سياسته فصولا، وعرض باسمه في جريدة الوقائع، فسماه نابوليون الصغير فاتهم مراقب الجرائد ابنيه المحررين لتلك الجريدة وحاكمهما وألقاهما في السجن، ثم استبد نابوليون بالأمر وأجرى حادثة 2 ديسمبر سنة 1851، وألقى القبض على زعماء الحزب الجمهوري وجميع المتهمين بمخالفة السياسة الإمبراطورية، وكان اسم فيكتور هوكو في رأس قائمة المتهمين، فساعدته حبيبته الممثلة جوليت دروه على الاختفاء، واستحصلت له على تذكرة مرور، فخرج من باريس فارا؛ وهنا تم الدور الأول من أدوار حياته.
الدور الثاني: وهو مدة وجوده منفيا من سنة 1852 إلى رجوعه لباريس سنة 1870
بعد أن فر فيكتور هوكو من باريس تجاوز الحدود الفرنساوية، وأتى بروكسل عاصمة البلجيك، وكان في غاية الضيق من قلة النقود، فحرر لزوجته يوصيها بالتدبير والتقتير، ويعرفها بأن مصروفه في الشهر لا يتجاوز مائة فرنك، وأقبل على التحرير، والتأليف وهو يستشيط غضبا فنشر كتابه «نابوليون الصغير»، وكان أول صاعقة من الصواعق التي رماه بها، ثم نشر «تاريخ جرم»، فتهافت الناس في فرنسا وعموم أوروبا على مطالعة هذين الكتابين، فمنع نابوليون دخولهما لممالكه، وأمر سفيره في بروكسل بأن يطلب من حكومة البلجيك إبعاد فيكتور هوكو عنها، فلم تجسر الحكومة على ذلك إلا بعد أخذها قرار مجلس النواب، فدعته للخروج فذهب إلى جزيرة جرسي التابعة لإنكلترة، وهي جزيرة في بحر المانش بين فرنسا وجزائر بريطانيا العظمى، وجلب إليها عائلته، وكانت حبيبته جوليت سبقتهما، وأقامت معه في بروكسل، وشاركته في السراء والضراء، وكان في ضيق من جهة المعاش، ولم يكن معه إلا سبعة آلاف فرنك فعرف الجوع بقوله: «إن المخمصة تثقب في قلب الإنسان ثقبا وتملأه بالحقد»، ونشر كتاب «القصاص» سنة 1853، وكان صاعقة على نابوليون أشد من الأولى، وراج رواجا عظيما في فرنسا وأوروبا، وربح ملتزم طبعه في بروكسل ربحا وافرا لم يعد منه على المؤلف إلا اليسير .
ولم يزل نابوليون الثالث يضطهد رجال الحزب الجمهوري، وينفيهم من الأرض، فعارضه فيكتور هوكو ونظم عدة قصائد في وصف حالة أولئك المضطهدين الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا، فطلب سفير فرنسا في لوندره إخراج هوكو من جزيرة جرسي وإبعاده، فأخرجته الحكومة الإنكليزية إرضاء لنابوليون، ولكنها لم تضيق عليه، فذهب إلى جزيرة كيرنيزي وهي بجوار الجزيرة الأولى في بحر المانش وتابعة مثلها للإنكليز، واشترى فيها دارا خربة مهجورة مبنية على صخرة عالية مطلة على الأوقيانوس المحيط، وتسمى «هوت فيل هوس»، فرممها وسكنها واتخذ الطبقة العليا منها غرفة لأعماله، فكان يشتغل فيها بالنظم والتأليف، ويفكر في تقلبات الدهر وأحوال العالم، وبصره شاخص إلى لجة البحر المحيط، وكان يعينه في التحرير والمطالعة ابناه وزوجتاه وصاحبه الشاعر أوغست فاكيري، فنشر سنة 1856 كتاب التأملات، وعرفه بسانحات البال، ثم أخذ يسلي همومه بمطالعة أخبار المتقدمين، ودرس سير الإنسان في مدارج الترقي والعمران، فنشر القسم الأول من كتاب «سير الدهور» سنة 1859، ثم ألف قصته الشهيرة المترجمة ب «البؤساء»، وكان له صديق حميم، وهو موسيو لوقروا ناظر البحرية في الوزارة الفرنساوية السابقة؛ أي وزارة الموسيو ميلين، فكان هذا الأديب يعين الشاعر على طبع مؤلفاته في البلاد الأجنبية، فلما بعث إليه بالمجلدين الأولين من كتاب البؤساء باعهما لملتزم الطبع في إنكلترة بمبلغ قدره 125 ألف فرنك ذهب إنكليزي.
ولما نشر هذا الكتاب سنة 1862 أقبل المترجمون على ترجمته، ونشروه في تسع لغات من لغات أوروبا في آن واحد، وكان أصحاب المطابع تستدعي الموسيو لوقروا من جميع الجهات في إنكلترة، وألمانيا، والنمسا ليشتروا منه حق الترجمة والطبع، ولما ذهب إلى لوندره عند الكتبي الشهير في بترنوستر رود سأله بعنف: كم تطلب بحق نشر كتاب البؤساء في اللغة الإنكليزية؟
فأجابه: ثلاثة آلاف ليرة إنكليزية، فتناول دفتر الشك، وحرر المبلغ والاسم، وقال له: - خذ نحن على وفاق
فيكتور هوكو وحفيداه.
فسعد حال فيكتور هوكو من جهة المعاش، وذهب عنه الضيق، فنظم داره، وغرس أرضها بالأشجار والرياحين، وطار ذكره في العالم المتمدن، وقصده الزوار، وكاتبه الرجال، وكان البعض يحرر عنوانه «فيكتور هوكو في الأوقيانوس»، فكانت المكاتيب تصله بهذا العنوان المبهم لسعة شهرته، واشتهر اسمه لاقترانه باسم نابوليون، وكبره البعد والاعتزال في مخيلات الناس حتى اعتقدوه من أكبر العقول البشرية، وكانت العيون ترقب طلوع مؤلفاته كما ترقب شمس الشتاء، وفي سنة 1864 نشر كتاب «وليم شكسبير» في الفلسفة، وبعدها بسنة نشر ديوان «أغاني الشوارع والأحراج»، وفي سنة 1866 نشر قصة «المشتغلين في البحر»، ووصف فيها ما يكابده الفلاحون من المشاق وما يتورطون فيه من الأخطار، وفي سنة 1869 نشر قصة «الإنسان الضاحك»، ولم يأل جهدا وهو في تلك الجزيرة عن الانتصار للأقوام الذين غدر بهم الزمان، ورماهم سوء الطالع بالخسران، وفعل ما فعله فولتير وهو في فيرين، فدافع عن عصاة أيرلاندة وعن مكسميليان إمبراطور المكسيك، وهو أخ إمبراطور النمسا أغراه نابوليون الثالث على لبس التاج، وأمده بالعساكر الفرنساوية ثم تخلى عنه، فحاكمه المكسيكيون وقتلوه.
ثم إن المسائل العائلية أخلت براحة الشاعر وأقلقت أفكاره، وذلك أن ابنته عادلة أحبت قومندان المركب المحافظ على الجزيرة، وتزوجت به رغما عن والدها، وذهبت معه إلى الهند منشأ الطاعون ومهب الريح الأصفر، فمات فيها وعادت لفرنسا مختلة الشعور سنة 1872، فأدخلوها البيمارستان مثل عمها وهي التي ورثت أباها، وفي سنة 1868 توفيت زوجة فيكتور هوكو في بروكسل بعد أن كف بصرها، وذهب ابناه في السنة التالية إلى باريس مع صاحبهما أوغست فاكيري؛ لينشئوا فيها جريدة «رابل» وينددوا بالحكومة الإمبراطورية، وذهب فيكتور هوكو إلى بلاد سويسرا؛ ليحضر مؤتمر لوزان ويخطب فيه خطبته المشهورة، ولما جرت الانتخابات في أوائل سنة 1870 نشر فيكتور هوكو رسالة اعتراضية عنوانها «لا»، ثم انتشبت الحرب بين فرنسا وبروسيا، ودارت الدائرة على نابوليون الثالث، فسلم سيفه في ميدان القتال إلى ملك بروسيا، وطار الخبر إلى باريس، فاجتمع رؤساء الحزب الجمهوري في دار البلدية، وأعلنوا الحكومة الجمهورية مكان الإمبراطورية في 4 سبتمبر سنة 1870، وهي حكومة الجمهورية الثالثة الحالية، ولم يعد مانع لفيكتور هوكو من الرجوع إلى فرنسا، وبذلك انتهت أيام نفيه.
الدور الثالث من حياة فيكتور هوكو، وهو دور شيخوخته أي: من رجوعه إلى فرنسا سنة 1870 إلى وفاته سنة 1885
بعد أن أقام فيكتور هوكو في منفاه ثماني عشرة سنة عاد إلى باريس مع من عاد من أركان الحزب الجمهوري، واستقبله أحباؤه وأشياعه، وأنزلوه على الرحب والسعة، فحرر خطابا بليغا للألمانيين يحضهم فيه على الصلح وترك الحرب، وكان من رأيه السياسي وضع اتفاق بين الأمة الفرنساوية والبروسيانية وتقسيم البلاد بينهما؛ فلم يصغ الألمانيون لخطابه وظلوا هاجمين حتى بلغوا خنادق باريس، وألقوا الحصار عليها، فترك فيكتور هوكو القلم من يده، وأمسك السيف، وانتظم في سلك الجنود المحافظين من الأهالي، ودافع عن أوطانه، وتألم بآلام إخوانه، ولما احتلت العساكر البروسيانية باريس هاجر منها أهلها، واتخذت الحكومة الجمهورية مدينة بوردو مركزا لها عوضا عن باريس، وانتخبت أيالة السين فيكتور هوكو مبعوثا لها في مجلس النواب، فلما قام يخطب عارضه أصحاب اليمين، وأكثروا اللغط، وأبوا الإنصات له، فقال لهم: «منذ ثلاثة أسابيع رفض المجلس الإصغاء لغاريبالدي، واليوم يرفض الإصغاء لي فأقدم استعفائي».
وغاريبالدي هو من القواد الذين حاربوا لأجل استقلال إيطاليا، وهاجم رومة العظمى وانتزعها من يد البابا، وسلمها إلى ملك إيطاليا ليتخذها عاصمة للملك، فلما انتشبت الحرب بين فرنسا، وبروسيا دخل متطوعا في العسكر الفرنساوي، ودافع عن فرنسا أشد المدافعة، فانتخب مبعوثا في مجلس النواب مع كونه طلياني الأصل، وكانت الأكثرية في المجلس من حزب الملوكيين والرهبانيين فاتهموه بالكفر والإلحاد لتجاوزه على رومة، ونزعه سلطة البابا منها؛ ولذا لم يصغوا لكلامه.
وفي ذاك التاريخ أعيد طبع كتاب «القصاص» نكالا من حزب الإمبراطورية، وكان يباع بالمائة ألف نسخة معا، ولما كان ابن فيكتور هوكو المسمى شارل في بوردو دخل عند صاحبة له يقضي ليلته، فتوفي فجأة في فراشها وحزن أبوه حزنا شديدا، فجاء بجثته إلى باريس، ودفنها يوم حدوث ثورة الكومين، وانعطف بالحنو والرأفة على ولديه الأصغرين وهما جورج وجان، وبالغ في دلالهما حتى أثر هذا الدلال في أخلاقهما، وأصبحت جان لا تستطيع معاشرة زوجها حتى طلقها لشدة ميلها إلى اللهو والخلاعة، وبعد وفاة شارل تزوج الموسيو لوقروا بزوجته لتربية الولدين لإحياء بيت فيكتور هوكو، فتبناه الشاعر وأحبه حبا شديدا.
ولزم فيكتور هوكو الحيادة في المسائل السياسية لحزنه على ولده، وفلذة كبده. غير أنه لم يطق الصبر على ما شاهده من فظائع الرعاع، فلامهم على قلبهم العمود المنصوب لنابوليون الأول، كما لام حكومة فرسايل على إطلاقها القنابل على قنطرة النصر المنصوبة له، وبرأ نابوليون الأول مما جناه ابن أخيه على البلاد من الحرب التي جلبت عليهم الويل والدمار، وذهب هوكو في أثناء تلك المعامع إلى بروكسل وإلى لوندره، ونشر كتابه المعنون «بألسنة المهولة» وشدد فيه النكير على دخول الأجانب لفرنسا، وعلى الفظائع التي أجراها الرعاع والسفلة وهم الكومين.
ثم عاد فيكتور هوكو لباريس وأنشأ فيها جريدة سماها «الشعب الحاكم»، وجعل ثمنها خمسة سنتيمات لكل نسخة ليتمكن الفقراء من مطالعتها، ولم يهدأ بال الشاعر برجوعه لأوطانه، واجتماعه على أحبائه وخلانه إلا وأصيب بموت ابنه الثاني فرانسوا، فصبر على مصائب العمر ونكبات الزمان، وسلم الأمر لله؛ لأنه كان من الموحدين، وعكف على النظم والنثر فنشر سنة 1874 قصة عنوانها «ثلاث وتسعون»، وتكلم فيها عن الانقلاب الفرنساوي الكبير، وفي سنة 1875 انتخب فيكتور هوكو عضوا لمجلس الأعيان (سينا)، فجلس في نهاية أصحاب الشمال، ولم يتكلم في المجلس إلا قليلا مثل طلبه العفو عن مجرمي الكومين؛ والكومين هم القوة المحزبة، أو الإدارة العرفية التي تتشكل في العاصمة وتحدث انقلاب الدولة، ويحصل بسبب ذلك من تعدي الرعاع وتسلط السفلة ما تقشعر من سماعه الجلود، وقد تأسست هذه الإدارة المرهبة في باريس مرتين إحداهما سنة 1792 والأخرى سنة 1871، واستمرت هذه السنة من 18 مارس إلى غاية مايو، وجرى في أثناء ذلك كثير من التعديات والمظالم، فكان فيكتور هو يشير في المجلس بالعفو عما مضى ولم يظهر له اقتدار كبير في السياسة، ولا في فن الخطابة مثل غامبتا وأمثاله من فحول السياسيين، وإنما صرف كل قواه في الاشتغال بعلوم الأدب والتاريخ، ونشر «الأقوال والأعمال»، و«أولادي»، و«معرفة ما يكون به الإنسان جدا».
وفي سنة 1877 نشر القسم الثاني من «سير الدهور»، و«الأملاك العمومية التي تدفع الرسوم»، ونشر من سنة 78 إلى سنة 1881 أربع منظومات فلسفية وهي «البابا»، و«الرحمة العالية»، و«الأديان والدين»، و«الحمار».
وحاز في شيخوخته احتراما كبيرا وثروة عظيمة زادت على ثلاثة ملايين فرنك، ولما بلغ الثمانين من عمره احتفل به أهالي باريس احتفالا عظيما، وزينت له المدينة في 26 شباط سنة 1881، ووفد عليه المهنئون من جميع الولايات والنواحي، وأكثر الممالك الأجنبية فاستقبلهم وهو واقف بين حفيده جورج وحفيدته جان وكان مغرما في حبهما، وفي حب جميع الأطفال، وقد خصهم بالذكر في أشعاره وتغزل بهم؛ ولذا كان في جملة الوفود المهنئين وفد من أجمل الأطفال الصغار يحملون له باقات الأزهار، ولم يبق أحد في باريس إلا ومر ببابه، وصاح جمهورهم بالدعاء له فوقف في نافذته وحياهم كما يحيي الملك شعبه، ودموعه تذرف من شدة التأثر والإشفاق، وكان مشاهير الرجال وأمراء الناس وأعيانهم كلما جاءوا باريس زاروه في داره وحضروا مجلسه، وكان في جملة من زاره إمبراطور البرازيل، فكان الاحتفال ببلوغه الثمانين من أجمل الاحتفالات التي لم يسبق مثلها إلا للشاعر الفيلسوف فولتير قبل موته بقليل.
ونشر فيكتور هوكو في آخر أيامه منظومة طويلة سماها «رياح العقل الأربع»، ورواية «توركماده»، والقسم الثالث من «سير الدهور»، و«أرخبيل بحر المانش»، وغير ذلك من الآثار التي نشرت بعد وفاته، وسيأتي وصفها في أواخر هذا الكتاب.
ولما توفي فيكتور هوكو سنة 1885 لبست باريس عليه أثواب الحداد، والتبس فيها الأمر على الغرباء حتى لم يعلموا هل القوم في مأتم عظيم أم في عيد كبير، وجيء بجثته فوضعت في تابوت عال تحت قنطرة النصر بعد أن كسيت بالسواد، وزينت بالأزهار والرياحين، واصطف الشعراء حولها صفوفا، واحتاط بهم الفرسان يحملون بأيديهم المشاعل، وسهروا عليه طول ليلتهم والناس يمرون أمام تابوته أفواجا أفواجا، ولما أصبح الصباح اجتمعت الجموع، وزينت الصفوف، وكانت أكثر المدن الفرنساوية والممالك الأجنبية قد بعثت بالوفود والأكاليل، فحملوا الجنازة من تحت قنطرة النصر إلى البانتيون ، وصار له مشهد لم يسبق لشاعر قبله ولا لفولتير، وكانت وصية هوكو أن لا يحضر جنازته راهب ولا أحد من الأكليروس وأن يدفن كالفقراء؛ ولذا كانت العربة التي حملوه عليها من عربات الفقراء لا تناسب دبدبة هذا الاحتفال، ولم يجر له احتفال ديني بل كان الاحتفال بجنازته أهليا. ا.ه.
فيكتور هوكو: علم الأدب عند الإفرنج والعرب
أدب كل لسان ما حصل فيه الإجادة من الكلام المنظوم والمنثور، ويشتمل على فنون الشعر والأغاني، والروايات والقصص، وضروب الأمثال والحكم والنوادر، والحكايات والمقامات، والتاريخ والسياسة والرحلة وغير ذلك. وقد جمع نخبة من كلام العرب المتقدمين كتاب مجاني الأدب المطبوع في بيروت، والأصل في الكلام للمعاني لا للألفاظ؛ لأن اللفظ قالب أو ظرف للمعنى يتخذه المتكلم أو الكاتب لسبك ما يصوره في نفسه، ويشكله في قلبه من المعاني فينقل بذلك مقصوده للسامع، أو القارئ حتى يعلمه كأنه يشاهده، قال الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس يسمى «الفصاحة» و«البيان»؛ لأن المتكلم يفصح عما في ضميره ويبينه بكلمات عذبة سلسة، وبعبارات جلية خفيفة على القلب واللسان، فالمتكلم على هذا النسق «فصيح» وكلامه ملفوظا كان أو مكتوبا «كلام فصيح»، وحيث كان المعنى سابقا للفظ وجب أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني وخادمة لها، وليس المعنى تابعا للفظ كما حكي عن بعض الأمراء أنه ولى أحدهم قضاء «قم»، وهي من مدن العراق العجمي بين طهران، وكاشان ثم كتب إليه بلا سبب موجب: «أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم» يعني بلفظ «قم». فقال القاضي: والله ما عزلني إلا محبة الأمير في التزام السجع.
فيكتور هوكو.
ولا يكمل علم الأدب للمتبحر فيه إلا بعد أن ينظر في أدب الأمم المتمدنة، ولو نظرة عامة يطلع بها على مجمل تاريخ أدبهم، وعلى بعض ما ترجم من مؤلفات المشاهير من كتبهم، فيقف على ما عندهم من سعة الفكر، وسمو الإدراك وبلاغة المعاني، ويعرف أساليبهم في النظم والنثر وتصرفهم في الكلام، ويميز بين طرق المتقدمين والمتأخرين منهم.
فإذا أحاط علمه بذلك فهم الغرض الذي يتطلبه أئمة البلاغة من أي لسان وملة، ورأى الهدف الذي يروم كل منهم إصابته، فيصوب نحوه القلم عسى أن يكون له مع الخواطئ سهم صائب؛ لأن البلاغة لا تختص باللسان العربي وحده، وكلما ارتقت الأمة في سلم الحضارة كان لسانها أبلغ وأدبها أوسع وأكمل لتهافت أدبائها على تنميق الكلام، وتهذيب مناحيه وفنونه؛ فيدركون بالتدريج حقائق المعاني التي ربما استعملها آباؤهم وأجدادهم في غير مواضعها بسبب الجهل الناشئ من ضيق العمران، وقلة العلوم، ويفرغون ما أوجدوه وما أصلحوه من المعاني في قوالب تناسبها من الألفاظ والتراكيب، «فالبلاغة» هي مطابقة اللفظ للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة المعنى المقصود الذي يقتضيه الحال والمقام، وفي المثل لكل مقام مقال، سواء كان المقال؛ أي اللفظ عربيا فصيحا بإعراب، أو حضريا بلا إعراب، أو أعجميا بأن كان عثمانيا،
1
أو إنكليزيا، أو فرنساويا، أو فارسيا، أو غير ذلك، فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى التركيب المفيد لمقصوده على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه قدر ما يتيسر له، فإذا لازم قراءة الطبقة العالية من كلام العرب الأقدمين حصلت له ملكة فيه، وسهل عليه التركيب على أسلوبهم حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى نبا عنه سمعه، وإذا كثر اشتغاله بالترجمة والكتب المترجمة كانت أساليبه أعجمية مع بقاء الألفاظ في كلامه عربية، كما يتضح لمن أمعن النظر في رسائل ابن رشد المطبوعة في أوروبا، ومنها ما طبع في مصر، وفي رسائل غيره من فلاسفة الإسلام وأهل المنطق، فإنه يرى فيها الأساليب الأعجمية واللهجة التي لم يلهجها أدباء الجاهلية.
وامتاز لسان العرب وخصوصا لغة مضر بخاصتين: الأولى تشمل حركات الإعراب في أواخر الكلم، وكيفية تركيب الألفاظ، فالحركات هي التي تدل في لغة مضر على تعيين الفاعل أو المفعول، وأما في غيرها من لغة الحضر وبقية اللغات، فيدل على ذلك التقديم والتأخير، أو القرائن المبنية لخصوصيات المقاصد، وخواص التركيب هي التي تدل في لغة مضر على ما تقتضيه الأحوال من التأكيد، والتعريف، والتنكير مثل تقديم لفظ، أو تأخيره لوصف المعنى وتكييفه، ومثل زيادة حرف أو تنقيصه لزيادة شيء في المعنى الأصلي؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى كقولنا: زيد قائم، وإن زيدا قائم، وإن زيدا لقائم، وفي القرآن الكريم حكاية عن الرسل قولهم في المرة الأولى: «إنا إليكم مرسلون»، وفي المرة الثانية «ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون»، فالألفاظ بأعيانها تدل على المعاني بأعيانها في كل لسان، وخواص التركيب في لغة مضر من تقديم وتأخير، وزيادة حرف تدل على الأحوال المكتنفة بذلك المعنى.
وأما في لغة الحضر وفي الألسن الأعجمية فأكثر ما يدل على هذه الأحوال بألفاظ وكلمات مخصوصة؛ ولذا كان الكلام العربي أوجز، وأقل ألفاظا وعبارة من غيره؛ ولهذا أشار نبينا محمد - عليه السلام - بقوله: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا.» على أن بقية الألسن لم تخل بالكلية من هذه الخاصة الأولى للسان مضر، وحركات الإعراب موجود منها في اللسان العثماني تقول: «زيد كلدي» بسكون آخر زيد ومعناه: جاء زيد، و«زيدي جلب ايتدم» بكسر آخر زيد ومعناه جلبت زيدا، وإن لم يكسر آخر زيد لا يستقيم المعنى.
وأما في لغات أوروبا فالإعراب من خصائص اللغتين اليونانية، واللاتينية، واللغة الألمانية، غير أن هذه الخاصة ربما كانت في لسان مضر أكثر وأعرف وأثبت، وإذا لم يراع الإنسان هذه الخاصة في اللسان الذي يتكلمه وقع له ما وقع للوليد مع الأعرابي، وذلك أن الوليد بن عبد الملك بن مروان كان لحانا، وكان أبوه عبد الملك فصيحا فعرف بلحن ابنه، وقال له: إنك يا بني لا تصلح للولاية على العرب وأنت تلحن، وجعله في بيت وجعل معه من يعلمه الإعراب، فمكث كذلك مدة ثم خرج وهو أجهل مما دخل، فلما بويع الوليد وجلس على كرسي الخلافة دخل عليه أعرابي يشكو صهرا له.
فقال الوليد: ما شانك؟ (بفتح النون).
فقال الأعرابي: أعوذ بالله من الشين.
فقال سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك (بضم النون).
فقال الأعرابي: ختني ظلمني.
فقال الوليد: من ختنك؟ (بفتح النون).
فقال الأعرابي: إنما ختنني الحجام ولست أريد هذا.
فقال سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول: من ختنك (بالضم).
فقال: هذا، وأشار إلى خصمه.
والخاصة الثانية هي ما في لسان مضر من الاستعارات، والتشبيهات، والمجازات، وأنواع البديع من الكلام، وورد أحسنه في القرآن الكريم مثل: «اشتعل الرأس شيبا»، ومنه في الشعر كقول ابن المعتز: «والشمس كالمرآة في كف الأشل»، فجميع ذلك أتم وأكمل في لسان العرب. ويعدون من الكلام البديع لفيكتور هوكو تشبيهه موج البحر بقطيع الغنم وقوله: غنم البحر، وقول كمال بك إمام الأدب في اللسان العثماني: «برق الحقيقة يلمع من تصادم الأفكار»، فهذه البلاغة والبيان ديدن العرب، وفي كلامهم كثير من البديع أتوا به بغير تكلف ولا تعمل، وبعضهم تصنع له وتكلف ظنا بأنه أساس البلاغة، والمقصود منها بالذات فملأوا بالبديع والاستعارات النظم والنثر، وصرفوا الذهن وأجهدوا العقل حتى قالوا:
مودته تدوم لكل هول
وهل كل مودته تدوم
وتغافلوا عن إيضاح معنى المودة، وهو من المعاني الكلية الجليلة التي أوضحها أدباء اليونان، والرومان، والإفرنج فيما ألفوه من الروايات المضحكة، أو الفاجعة وعرضوه في المراسح على أنظار الجمهور فقدره الخواص حق قدره، واستفاد منه العوام.
على أن تلك الحسنات البديعة والخصائص اللسانية؛ وإن كان لها تأثير عظيم على النفس، فهي لم تزل في نظر العقلاء كالحلي والمصوغ للعروس، فالعاقل يجتهد بأن تكون عروسه من ربات الجمال والدلال والأدب والكمال، فإن وجد معها شيء من الحلي فنعم، وإلا فالمقصود منها هو نفسها وذاتها، فهي الضالة التي ننشدها ونأتي بها ولو من جبال القوقاس فنعلمها لساننا، ونلبسها ما عندنا من اللباس، ونتمتع بها فهذا أولى من إلباس الجارية السوداء الحلي والحلل، وصرف النقد والوقت في تزيينها، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
فالتكلف في زماننا لتقليد الإنشاء العالي، ونظم قصيدة ثامنة للمعلقات السبع، أو سجع مقامات ثالثة لمقامات الحريري، والهمذاني ليس فيه كبير فائدة ما دام الأصل في الكلام للمعاني والمقصود من المعاني إظهار أسرار هذا الكون الذي نصبح فيه، ونمسي ونحن غافلون عن كثير من حقائقه، ولا ندري بأية عبارة نترجم عنها، ولا كيف نوضح شعورنا وإحساسنا بهذا الوسط الذي نحن فيه وهو سجن لنا، والدنيا سجن المؤمن. فهذه المعاني البليغة العالية ينبغي لأدباء العصر سبكها في السهل الممتنع من الكلام الفصيح بغير تهافت منهم على الكلمات اللغوية، والمحسنات اللفظية من جناس وطباق، وقراءة الكلام طردا وعكسا، وأمثال ذلك مما يعده العقلاء من الملاعب الصبيانية إذ ليس هذا غاية الأدب والغرض منه.
وخير اللفظ ما جاء بالطبع والبداهة بلا تكلف، ولا تحر في القواميس والمنشآت، فخطبة ناظر المعارف الفرنساوية الذي تلاها بمناسبة يوبيل الكيماوي برتلو هي نموذج في بلاغة المعاني لمطابقتها لمقتضى الحال، وإيجاب المصلحة وهي من أحسن ما يقال في مثل تلك الجلسة، وفي مناسبة ذاك الاجتماع، غير أن ذوقنا ربما يمجها لركاكة الترجمة، فإن الألفاظ وإن كانت عربية فتركيب هذه الألفاظ بعضها مع بعض لم يجر على أسلوب قس بن ساعدة، أو سحبان وائل، ولا على طريقة الجاحظ إمام الأدب، ولا يشبه رسائل عبد الحميد، أو ابن العميد اللذين قال فيهما الثعالبي: «فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد»، بل جرى تركيب ألفاظ تلك الخطبة على أسلوب الفرنساوي المترجمة عنه، فأكثر الألفاظ في موضوعاتها التي وضعها فيه العرب الأولون.
والركاكة بالنظر إلى التراكيب؛ وربما كانت بالنظر إلى بعض المفردات أيضا؛ لأن مفردات ألفاظها لم تنتخب من القاموس المحيط ببلاغة هذا اللسان كالذي ألفه الزمخشري، وسماه أساس البلاغة، وطبع بمصر.
ثم هناك أسباب أخرى أيضا تحول بيننا وبين إدراك بلاغة تلك الخطبة، وهي عدم وقوفنا على دقائق تاريخ القوم، وعلى مزايا لغتهم وتعبيراتهم، وفقداننا الملكة في هذا الأسلوب من الخطابة؛ ولذا ينبو سمعنا عما لم يأت على أساليب بلغاء العرب، وعما لم يحرر على وفق مذاهبهم في فنون الأدب، حيث لكل قوم منهج معروف ومسلك مألوف، بل كل إمام في الأدب من أية أمة كان يذهب فيه مذهبا جديدا، ويستخلص لنفسه طريقة مخصوصة يخالف فيها طرق المتقدمين ومذاهبهم؛ ولذا فأهل الذوق في الكلام إذا عرض عليهم شيء منه قالوا: هو على طريقة فلان وأسلوب فلان، وهو من إنشاء فلان دون فلان، كما لو عرضت خمر من خمور بوردو على أهل الذوق المشهورين باسم «ديكوستاتور» لقبض الواحد منهم بكفه على الزجاجة حتى إذا سخنت بحرارة اليد، وفاح منها الشذا المعروف عندهم باسم «بوكه» هزها، ونظر فيها فإذا الخمر في الزجاجة ياقوتة سيالة، ثم جرع منها جرعة ذاقها بطرف لسانه، وقال: لك هي من كرم «شاتولافيت» أو «شاتولاتور» أو «شاتومارغو»، وفي هذه الثلاثة انحصرت الطبقة العليا من طبقات الخمر المعصور بأرض «ميدوق»، واتفق أهل الذوق، والطب على أنها من أطيب البقاع وأبركها لإنبات هذا الشراب الذي فيه منافع للناس وإثمه أكبر من نفعه؛ لأنه من جهة ترياق نافع، ومن أخرى سم ضار. •••
والشعر كالنثر لا يختص بلسان العرب فقط، بل يوجد في كل لسان من ألسن الأمم المتمدنة، والهمجية فإن لأهالي أفريقيا أشعارا يمدحون بها على آلات طربهم ويرقصون على أنغامها. وكان في الأمم السالفة شعراء مجيدون مثل فياسه صاحب ديوان ماهابهاراته، ومثل فالميكي صاحب ديوان رامايانه وهما من شعراء الهند وكهنتها نظما الديوانين المذكورين باللسان السانسكريتي قبل الميلاد بقرون كثيرة، وترجمهما العلماء في زماننا إلى أكثر اللغات الأوروبية، فوجدوا أشعارهما حماسية دينية، وفي الديوان الأول نحو مائتي ألف بيت أو قطعة، وهما عند الهنود بمثابة ما عند اليونان من الإيلياذة والأوديسة نظم هوميروس الشاعر الشهير. ولعل البستاني يتحفنا بنشر ما جناه من أدبه،
2
فإن هوميروس شيخ الشعراء بأجمعهم. ومثل شعراء الروم الذين كانوا في القسطنطينية، وما حولها من أرض الروم قبل أن يفتحها الفاتح. وشعراء الرومان اللاتينيين، وشعراء الفرس وإمامهم الحسن بن إسحاق الفردوسي ناظم الشهنامه في القرن الرابع للهجرة، وهو عند العجم كهوميروس عند اليونان، وفرجيل عند الرومان، ودانتي عند الطليان، وميلتون عند الإنكليز. وتشتمل الشهنامه على تاريخ أكاسرة الفرس وأخبارهم، وقد طبعت مرارا في الفارسية وترجمت للإنكليزية والفرنساوية، وترجمها نثرا للعربية الفتح بن علي البنداري الأصبهاني، وقدمها لخزانة أحد الملوك الأيوبية.
ذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين «أن الفارسي سئل فقيل له: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل،
3
وسئل اليوناني عنها فقال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وسئل الرومي عنها، فقال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة، وسئل الهندي عنها، فقال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وقال مرة: التماس حسن الموقع، والمعرفة بساحات القول.»
وفي الأمم الأوروبية، والأميركية اليوم شعراء أعلى طبقة، وأبلغ كلاما ممن تقدمهم من شعراء الأمم السالفة. وموازين الشعر في جميع اللغات على نسبة واحدة في أعداد المتحركات والسواكن، والشعر الفرنساوي تبنى أعاريضه على عدد الهجاء، فالبحر الإسكندري (ألكساندرين) على اثني عشر هجاء في الأصل، والروي أي: القافية - وهو الحرف الأخير من كل بيت - موجود في لسان العرب وفي ألسن غيرهم، ولكن الفرنساويين قبل اختلاطهم بعرب الأندلس لم يكن لأشعارهم روي ولا قواف، فأخذوا عن جيرانهم الأندلسيين علم القوافي كما سيجيء تفصيله. فقبل الشروع في بيان الطريقة التي سلكها فيكتور هوكو في علم الأدب، وشرح أساليبه في النظم والنثر، وفي تصوير القصص والروايات نذكر شيئا من أخبار العرب ليتبين لنا التأثير الذي أثره أدبهم على أشعار الإفرنج وقوافيهم بوجه العموم، وعلى فيكتور هوكو بوجه الخصوص؛ لأن هذا الشاعر الحكيم نفح بنفحة من النفس الأندلسي، واغتذى بلبان من ارتضع قديما ثدي الأدب العربي، وبيان ذلك أن مدينة بيزانسون التي ولد فيها فيكتور هوكو دخلت في حوزة الإسلام، حينما قطع أهله جبال البيرينة، وأغاروا على مملكة أكيتانيا، وليون وفتحوا ما في شمالها من المدن مثل ماقون، وديجون، ثم دخلت بيزانسون في طاعة شارلكان صاحب الوقائع الشهيرة مع فرانسوا الأول ملك الفرنساويين، ومع معاهده وحاميه السلطان سليمان القانوني، وذلك في القرن السادس عشر للميلاد، فنقل الإمبراطور شارلكان عائلات كثيرة من الإسبان وأنزلهم بيزانسون، فاستمروا زمنا طويلا وامتزجوا بأهلها، ولم يزل لأهل بيزانسون شبه بالإسبان في ملامح الوجوه وفي اللهجة، وفي كثير من الكلمات والتعبيرات مع أن مدينتهم لا تبعد عن باريس أكثر من أربعمائة كيلومتر، وقد أشار فيكتور هوكو إلى ذلك في القصيدة الأولى من ديوان أوراق الخريف، ووصف بيزانسون بالمدينة القديمة الإسبانية فذهبت مثلا، وصار الكتاب لا يفترون عن وصفها بهذا الوصف، وعلاقة الإسبان بالعرب وباللسان العربي معلومة لا تحتاج إلى إيضاح. •••
أما العرب فلو نظرنا إلى تاريخ أدبهم لوجدنا في مقدمته أشعار الحماسة كما نجد ذلك عند بقية الأمم كالفرنساويين مثلا، فإن النظم في لسان أدبهم دون قبل النثر؛ لأن النظم يحصل التأنق في تأليفه والعناية في جمعه فيضم أطراف الكلام وحواشيه، ويكون في بادئ الأمر أبلغ مما عاصره من النثر فيحفظ في الصدور ويتداول على الألسنة، ثم تزيد العناية به فيدون بالنقش، أو الكتابة ويعلق على الجدران.وهذا معنى قولهم: النظم في تاريخ لأدب سابق للنثر.
وإلا فأول ما يبدأ من الكلام بالنثر لقرب تناوله وسهولة استعماله، ذكر الباقلاني في إعجاز القرآن المطبوع في مصر أن العرب بدءوا بالنثر وتوصلوا منه إلى الشعر، وكان عثورهم عليه في الأصل بالاتفاق غير مقصود إليه، فلما استحسنوه واستطابوه ورأوا الأسماع تألفه والنفوس تقبله؛ تتبعوه وتعلموه وتكلفوا له، فنبغ فيهم الشعراء وأقبل الناس رجالا ونساء على حفظ أشعارهم ورواية أخبارهم، والتفاخر بإنشاد القصائد الكثيرة في المواضيع المختلفة، والاستشهاد بكل بيت من أبياتها عند الحاجة، فجعلوا الشعر من بين الكلام ديوان علومهم وأخبارهم وحكمهم، وشاهد صوابهم وخطائهم، وأنزلوا الشاعر البليغ منزلة الإمام العالم الذي يهتدى بنبراس قريحته، ويفزع لرأيه في مشاكل الأقضية ومعضلات الأمور، فكانت كلمة الشاعر هي الكلمة العليا، وقوله: أمضى من السيف، وأحد من السنان وحكمه نافذ كحكم الشرع في القضاء.
وربما رفع الشاعر بالبيت الواحد عز القبيلة أو هدمه، كما وقع لشاعر قبيلة أنف الناقة بعد أن كان اسمها مجلبة للعار بين القبائل. وكان السجع من الكلام يجري على ألسنة الكهان، والحكماء، والعرافين، وأهل الزحر
4
والفال، وأنواع الحكم والطب مثل شق، وسطيح، وحنظلة بن صفوان كاهن حمير، وخالد بن سنان العبسي الذي قالت ابنته حينما سمعت قراءة
قل هو الله أحد : كان أبي يقرأ مثل هذا، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان افتتاح كلامه «باسمك اللهم» وقس بن ساعدة ورباح بن عجلة عراف اليمامة والأبلق الأسدي عراف نجد وغيرهم.
غير أن تاريخ أدب العرب قبل الإسلام لم يزل في حيز الخفاء؛ لعدم تمكن العلماء من درس اللغات، أو اللهجات العربية السابقة على لغة مضر كلغة حمير مثلا، فإنه لم يشتهر عندنا من قواعدها أكثر من حديث «ليس من امبر امصيام في امسفر» حيث استعمل فيه (ام) عوضا عن (ال) التعريف، ولا يكشف الغطاء عن هذا القسم من تاريخ الأدب إلا بعد استخراج ما في أرض اليمن من الألواح التي تدعى بالمسند الحميري، وما في خرائب مدائن صالح، وأرض الحيرة وسائر جزيرة العرب من الآثار القديمة العادية التي كان لأصحابها نصيب من الحضارة، وكان لأدبهم تأثير على أدب مضر.
وقد تفرغ نخبة من مستشرقي الإفرنج للبحث عن تلك المستندات والآثار القديمة العربية؛ ولعل التشبث بإتمام السكة الحديدية الحجازية يسهل لهم هذا البحث، فممن عرفت من أولئك المستشرقين إيدوارد غلازر من الألمانيين، وكان أطلعني ونحن في الأستانة على ما اكتشفه من المسند الحميري وجاء به من أرض اليمن، والمسند لوح من الحجر عليه كتابة بأحرف مقطعة قائمة الزوايا وبعضها مدور كالدائرة، وحدثني هذا المستشرق الفاضل عن رحلته في جزيرة العرب، وهو يتكلم العربية بلهجة يمانية بدوية.
وفي سنة 1895 نشر في ميونيخ كتابا بالألمانية عن مأرب، وحمير، والحبشة، ثم نشر كتابا آخر في برلين وقدمه لمؤتمر المستشرقين الحادي عشر المنعقد في باريس سنة 1897، ولما أتيت هذه المدينة حضرت الأستاذ هارتويغ ديرنبورغ في الصوربون، وهو يلقي دروسه في اللغة الحميرية، ويفسر المسندات ويترجمها للفرنساوية، وله رسالة ترجم فيها ما في متحف اللوفر من آثار حمير وسبأ، ومن المشتغلين باللسان الحميري هاليفي الفرنساوي مدرس اللغة الحبشية في الصوربون، وله مقالات في المجلة السامية بحث فيها عن اتفاق الحبشة مع أهل سبأ على أهل حمير النازلين في شرقي حضرموت.
وللعلماء اشتغال بهذه اللغة في إنكلترة وإيطاليا أيضا؛ لاهتمام الأولى بجمع ما يتعلق بالعالم الإسلامي والعربي، ولمناسبة بين الثانية وبين الحبشة واختلاط تاريخ الحبشة بتاريخ حمير، إلا أن هذا العلم لم يزل في النشأة الأولى محتاجا للتدقيق، والتمحيص حتى يتيسر للعلماء أن يوضحوا لنا كيف كان اللسان الحميري مع اللسان المضري، فإن ابن خلدون يقول في مقدمته: «ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بمثابة ما هو اليوم اللسان المضري مع لغة العرب لهذا العهد - وهي التي بدون إعراب، فقد منها دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعول وعوض عنها بالتقديم والتأخير، وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد - وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري، وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقايس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول، وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح، ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها، وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة؛ أي القرآن والسنة حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها، ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر.» ا.ه.
فأخذ ذلك المستشرقون من الإفرنج واعتنى بعضهم بتدوين اللسان العامي واستقراء أحكامه، كما فعل موسيو هوداس الفرنساوي في لغة الجزائر العربية ونشر فيها كتابا، ولم يزل يدرسها في مدرسة الألسن الشرقية في باريس، كما تدرس أيضا في مدرسة المستعمرات وفي المدارس العسكرية بباريس وغيرها، ولهم في ذلك مآرب سياسية لا نخوض فيها، إلا أن تدوين اللغات العامية - بالنظر إلى انتشار العلم وتوسع الحضارة - له محاذير كثيرة وموجب للتفرقة، ونصب الحواجز بين أمم هذا العالم العظيم الممتد من المحيط الغربي إلى بلاد العجم والهند، والعلماء في عصرنا يجتهدون في إزالة الموانع التي استلزمها تباين اللغات بين الأمم ويسعون في إيجاد لغة عامة لعموم بني البشر، وفي جميع أفراد الإنسان على لسان واحد، فكيف يجوز حينئذ تفريق لسان أمة كبيرة إلى ألسنة همجية عامية ووضع لسان مخصوص لكل من الجزائر، وتونس، ومصر، وسوريا، وبغداد، والموصل، والزنجبار، والهنزوان، ثم لمراكش وغيرها من المتكلمين بلسان جزيرة العرب، وتدوين كل واحد من هذه الألسن التي يراد وضعها كما تدون الألسن الجديدة الهمجية مثل لسان حوصه وغيره من لغات أفريقيا.
وإنا نجد اللغة الفرنساوية على ما فيها من التباين بين ما يتكلمه سكان المدن، وما يتكلمه أهل القرى وعدم فهم الباريزي ألسن الباتوا التي يتكلمها القاطنون في جبال البيرينة، وأوفيرنيه، وفي الأيالات الغربية والجنوبية من أراضي فرنسا لم يجوزوا فيها تدوين لغة الأيالة بروفانس، أو بريطانيا مثلا، ولا سمحوا بإنشاء جريدة فيهما، وانتهى بهم التعصب إلى محو ما كتب بلسان الباسك، وهم سكان جبال البيرينة من جهة المحيط مع أن المتكلمين بها يفتخرون بقدمهم على سائر الأمم الأوروبية، فكيف يصوغ إذن تدوين لغة الجزائر وأهلها لا يتعذر عليهم فهم «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» لاستعمالهم مواد هذه الكلمات الأصلية من وقوف، وبكاء، وذكر، وحب، ونزول؟ وإذا لم يفهموا ما بعد ذلك فالقصور ناشئ من الجهل بالجغرافية لا بأصل اللغة التي لم يزل لهم بأصولها وموادها ملكة راسخة، فإن سقط اللوى، والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة المذكورة في قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
هي أماكن معروفة عند أهل الحجاز كما أن مقرة، ومقطع الحديد من الأماكن المعروفة عند أهل الجزائر لشهرتها باستخراج معدن الحديد. فبدلا من تدوين لغة الجزائر العامية كما دونت لغة حوصه، ومن نشر المؤلفات والمطبوعات فيها والإجبار على تعليمها في المدارس للأطفال؛ لو سعى أهل العلم وأرباب القلم في التقرب من لغة مضر المدونة، وأزالوا منها «العامية» كما أزيلت «الباتوا» من اللغة الفرنساوية، وهذبوها من الجناسات والتشابيه الغامضة، واختاروا فيها السهل من الألفاظ والتراكيب، وأصلحوا إملاءها وكتابة أسماء الأعلام فيها؛ لكان فعلهم على ما نظن أسهل وأنجح من تدوين لسان عامي، بل ألسن همجية وإقامة الحواجز بين المتكلمين بها، مع أن ازدياد وسائط النقل والمخابرة يستدعي كثرة اختلاط بعضهم ببعض. وعما قريب سيتم مد الخطوط الحديدية، ويصبح السفر من مراكش إلى بغداد والهند، أو إلى الحجاز أسهل مما كان قديما بين مصر القاهرة والإسكندرية، فلا يحتاج المسافر إلى استصحاب كتاب (جامع اللغات)؛ ليعلم منه ألسن الجزائر، وتونس، وطرابلس، ومصر، وفلسطين، وسوريا، وبغداد، والحجاز، أما انتشار المطبوعات العربية فهو آخذ بالترقي، ونجد لمطبوعات مصر رواجا في تونس والجزائر، ولا بد أن تمتد يوما على عموم سكان القارة الأفريقية.
أما لغة مضر فبدون أن نقف على حقيقة الأدوار التي دارت عليها، ولا على الأطوار التي تقلبت فيها نجدها في العصر السابق للإسلام على جانب من الفصاحة والبلاغة مشتملة على أنواع التشبيه والاستعارة والبديع، وأكثرها حماسية وفيها من التصورات البديعية، والتخيلات الشعرية واللطف والرقة والأدب؛ ما يدلنا على أن اللغة لم تكن إذ ذاك في عهد الطفولية، فإن الفرق بين أشعار المعلقات، وبين أشعار «التروبادور» الفرنساوية عظيم لما في الأخيرة من الخشونة وعدم الرقة، وإذا غازل شاعر الجاهلية فتاة الحي حسبته أديبا من أدباء باريس ...
ونجد للعرب قبل الإسلام أنواعا كثيرة من فنون الأدب والشعر منها القصيد، والرجز، والأغاني، ومنها ما ينشد في الحرب على الدفوف، ومنها ما يحدى به للعيس أو يغنى به للرقص وتسكيت الأطفال، ومنها السجع، والترسل، والخطب، والرسائل، وضروب الأمثال والحكم، والحاصل كانت فنون أدبهم أتقن من معيشتهم البدوية، وكان لهم مؤتمر وأكاديمية للتفاخر باللسن والفصاحة، وكانوا يقيمون لذلك المواسم والأعياد فيجتمعون أولا في سوق عكاظ، وهو واد بين مكة والطائف فيه ماء وظل وخضرة فيقيمون فيه شهرا، ويذهبون منه إلى سوق مجنة ثم إلى سوق ذي المجاز وهما بناحية مكة، ثم يذهبون في ذي الحجة إلى البيت الحرام موضع حجهم، فكان أدباؤهم وهم ذوو الرئاسة والمكانة فيهم يتنافسون بالآداب والحكم، ويقفون بهذه الأسواق لإنشاد الشعر وإلقاء الخطب، فإذا اجتمعوا بسوق عكاظ ضربت قبة لأكبر الشعراء في عصره كالنابغة الذبياني الذي سمي أشعر العرب فجلس في القبة، وجاءته الشعراء كما جاءه حسان مثلا وعرضوا عليه أنفس أشعارهم، وقام الحارث بن حلزة يتبختر بين الجموع بتبختر الجاهلية، ويقول:
آذنتنا ببينها أسماء
رب ناء يمل منه الثواء
بعد عهد لها ببرقة سمرا
ء فأدنى ديارها الخلصاء
حتى يأتي على آخر همزيته فيحكم في مقاله أولو الذوق الصحيح، والطبع السليم، ويميزون فيه بين الغث والسمين، ويقابلونه بغيره من كلام المعلقات. ثم وقف قس بن ساعدة على بعير له أحمر، وقال: «أيها الناس اجتمعوا، وإذا اجتمعتم فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت»، فيكون الناس قد اجتمعوا حوله فيبدأ لهم في الخطبة بقوله: «أما بعد ... إلخ» كأنه خطيب فرنساوي بل إنكليزي يخطب في هايدبارك.
وكان لكل شاعر مبلغ يبلغ عنه الجمهور وراوية يروي له الأشعار، فكانت الرواة في أيامهم كالجرائد في يومنا؛ ولذا كانت الأشعار تنتشر وتشتهر في مدة قليلة بين جميع القبائل في جزيرة العرب، وانتهوا في العصر السابق للهجرة إلى المناغاة في كتابة قصائدهم بالذهب، وتعليقها بأركان الكعبة كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وهم: (1) امرؤ القيس واسمه جندح بن حجر الكندي، وكان أبوه يملك في جهة الحيرة على بني أسد، ويضرب المثل في شهرة معلقته، فيقال: «أشهر من قفا نبك»، وله غيرها ديوان مشروح ومطبوع ومترجم إلى اللغات الأوروبية، ويقال: إن أحسن ما في شعره وصفه الفرس؛
5
ولذا ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب. وقيل: إن امرء القيس توفي سنة 540م وكان مغرما باللهو، والزهو، والخمر، والنساء وكلامه في المعلقة منادمة ومداعبة، ومدح في شعره تغلب على بكر. (2) طرفة بن العبد وديوانه ترجم للفرنساوية في الصوربون، وطبعه الموسيو سليغصون
Seligsohn ، ومعلقته تبحث في النساء والخمر واللهو وطيب العيش. (3) عمرو بن كلثوم و(4) الحارث بن حلزة اليشكري من قبيلة بكر بن وائل، وله ديوان وفي معلقته الهمزية، وفي معلقة عمرو المذكور خبر حرب البسوس التي وقعت بين بكر وتغلب. (5) زهير بن أبي سلمى و(6) عنترة بن شداد وفي معلقتيهما ذكر حرب داحس التي وقعت بين عبس وذبيان، وقصة عنتر الشهيرة المطبوعة في بيروت ومصر، ترجمها سابقا للألمانية المستشرق النمساوي همر
Hammer
صاحب تاريخ الدولة العثمانية، وتاريخ الأدب العثماني، وتاريخ الأدب العربي. ثم ترجم شيئا من قصة عنتر للفرنساوية مارسل ديفيك
Devic
معلم العربية في كلية مون بيليه وهي من أقدم مدارس الإفرنج، وكان أطباء العرب واليهود المستعربون يدرسون فيها الطب. (7) لبيد بن ربيعة العامري القائل: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل»، وفي كلامه كثير من الحكم، ووصف في أشعاره أخلاق عرب البادية وأطوارهم وعوائدهم، وله غير المعلقة ديوان أشعار طبع منه الجزء الأول في فينا عاصمة النمسا الشيخ يوسف ضياء الدين باشا الخالدي المقدسي سنة 1880، وجعل له مقدمة وشرحا فنرجو منه إتمامه.
وظهر من فطاحل الشعراء غير من ذكر النابغة الذبياني، وطبع ديوانه الأستاذ هارتولغ ديربنورغ
H. Derenbourg
سنة 1869 وفسره وحشاه، ومنهم حاتم طي الشهير بالسخاء، وقد جمع أشعاره غضبان أفندي وطبعها في لوندره، وسماها ديوان حاتم طي، ومنهم دريد بن الصمة، والشنفرى الأزدي، والأعشى الأكبر، وتأبط شرا وكثير غيرهم.
يحكى عن حماد الراوية أنه أنشد بحضرة الوليد من كلام الجاهلية مائة قصيدة لكل قافية من قوافي الحروف العربية لا تنقص القصيدة عن عشرين بيتا، وفيها ما يربو على المائة بيت، فمهما بالغ الحاكي لا تنكر كثرة ما قرض من الشعر على عهد الجاهلية، ولهم غير الشعر والرجز خطب ورسائل، وكثير من ضروب الأمثال التي نقلت عنهم ودونت في المجاميع.
وسمي كلام هذه الطبقة من الأدباء «كلام الجاهلية» لجهلهم بما جاء به الإسلام، وإلا فهم أئمة في الأدب يقتدى بهم؛ ولذا اتخذ من جاء بعدهم كلامهم منوالا نسجوا عليه مثله، وقالبا أفرغوا فيه شبهه من الألفاظ والتراكيب، ولم يزل الأدباء على ذلك إلى يومنا هذا كما فعل أصحاب «عكاظ الأدب» المطبوع في الأستانة عقب الحرب اليونانية الأخيرة.
وإذا تأملنا كلام الجاهلية نجدهم وصفوا الطبيعة أحسن وصف، وصوروها أكمل تصوير بالنسبة لحالتهم البدوية، ولصحاريهم الرملية فميزوا بين أنواع الرمل، وسموا كل نوع باسم مخصوص مثل «الخفف» وهو الرمل المنفرج، و«العقنقل» الرمل المنعقد الداخل بعضه في بعض، و«البطن» من الأرض، و«الخبت» من الأرض، كل ذلك من أشكال الأرض المختلفة كما قال امرؤ القيس في معلقته:
فقمت بها أمشي تجر وراءنا
على أثرنا أذيال مرط مرجل
فلما أجزنا ساحة الحي انتحى
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
والمرط نوع من أثوابهم يقال: لو شبه الترجيل حسب «مودة» ذاك الزمان، فوصفوا في هذا النمط جميع ما شاهدوه في الطبيعة، ونطقوا بما شعروا به في قلوبهم ووجدوه في أنفسهم من التأثر الحسي، وإن ذكروا بعيرا أو فرسا لم يتركوا شكلا إلا شرحوه شرحا مفصلا. فحيث كانت الفصاحة هي الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس كانت غاية الأديب منهم إثبات اقتداره على إيراد صور مختلفة للشيء الواحد، وإظهار تعمقه في معرفة اللغة، وحسن تصرفه في استعمال الكلمات المترادفة المتقاربة، وكان لهم نظر جيد في العوالم والكائنات كقول قس في بعض الروايات: «ليل داج وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر وبحار تزخر، وجبال مرساة وأرض مدحاة، وأنهار مجراة إلخ.» ولهم أساليب بديعة في ذكر البرق والسحاب والمطر، وسائر التغيرات الجوية، وكذا في ذكر الرسوم والطلل والمنازل والروض والأشجار ومنابت العشب، إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم ومعروف.
ولغزارتهم وتمكنهم من اللغة لم يكونوا يتصنعون لتأليف المحاسن البديعة في الكلام إنما كانت نوابغ الكلم تتفق لهم اتفاقا، وتطرد في كلامهم اطرادا بخلاف من أتى بعدهم، فإنهم صنفوا المحاسن البديعة تصنيفا وتحروا عليها، ومع ذلك فالبليغ من الكلام لم يصدر من أفواه الجاهلية إلا بعد التروي، والتصنع، والتنقيح، والتهذيب وقد تعبوا وكدوا أنفسهم وجاهدوا خواطرهم، وكان زهير يسمي كبير شعره الحوليات المنقحة.
وقال عدي بن الرقاع:
وقصيدة قد بت أجمع بيتها
حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته
حتى يقيم ثقافه منآدها
وقال سويد بن كراع:
أبيت بأبواب القوافي كأنما
أصادي بها سربا من الوحش نزعا
وسموا زهيرا والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر؛ لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، قال الباقلاني: «وكانت العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، ويسمون ذلك الوضع الميتر واشتقاقه من المتر، وهو الجذب والقطع، يقال: مترت الحبل بمعنى قطعته أو جذبته»، والفرنساويون يسمون العروض ميتر وميتريك ويقولون: إنه مشتق من معنى القياس باليونانية، وله دروس مخصوصة، وأساتذة في الصوربون، وألف في العروض العربي المستشرق إستانسلاي كوبار معلم العربية في (كلية فرنسا) عدة رسائل، واستنبط فيه قواعد جديدة نال عليها الجائزة وثناء العموم.
وعبر العرب عن قول الشعر ونظمه بالقرض، وعن الشعر بالقريض، ومعنى القرض القطع؛ لأن الشعر مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة. وكانت عنايتهم في الجاهلية مصروفة للكلام على المنظوم من شعر وسجع؛ لأن تأثيره في النفوس أشد لما يحدثه من النغمة التي تطرب لها الأذن، وتلهو بها عن تمحيص الحق من الباطل في الكلام، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم؛ أي المسبوك تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا وتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني على وجه بديع وترتيب لطيف، وهذا القسم الأخير شبيه بالكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له، بخلاف القصيد من الشعر فإنه يلتزم فيه قافية واحدة إلى آخر الكلام، ويشترط أن يكون كل بيت كلاما وحده مستقلا عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدح، أو غزل، أو رثاء، أو هجاء، أو حماسة، والرجز ضرب من الشعر ولو لم يلتزم فيه أن يكون على قافية واحدة.
والسجع يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، ويذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء، والمقفى قد انتصر له في زماننا عبد الحق حامد بك مستشار السفارة العثمانية في لوندره وألف فيه رواية باللسان التركي على الطرز الجديد. وأما المرسل فهو الذي يرسل فيه الكلام إرسالا بدون تقييد بقافية أو سجع أو وزن، أو شيء ما بل يطلق إطلاقا. ويتأتى في هذا القسم من الفصاحة، والبلاغة ما لا يتأتى في السجع ولا في الشعر؛ لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع أو القافية، وكذلك الشعر يضيق نطاق الكلام ويمنع القول من انتهائه ويصده عن تصرفه على قواعده، ومن يلتزم في كلامه السجع أو الوزن أو القافية فهو يلفق بهما ما ينقصه من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال، ويجبره بذلك القدر من التزيين بالأسجاع ورن الصوت بالوزن والنغمة كما يزينه ببقية الصنائع البديعية، ويغفل عما سوى ذلك من بلاغة المعاني، فلما سلك الشعراء في الجاهلية حفظ الألفاظ، وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها؛ عرض بهم القرآن الكريم، فقال:
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، قال الباقلاني: «فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم، واللفظ كيف أطاعهم، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم، وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب.» ولما شرعت دية الجنين جاء بعض العرب إلى النبي - عليه السلام - وكلموه في هذا الشأن، ولفقوا كلامهم بالسجع ليجعلوا فيه قوة الحجة الدافعة، والبرهان القاطع، فقالوا: كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهل أليس دمه قد بطل؟
فقال: أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ أسجعا كسجع الكهان؟
نعم إن الشعر إذا تهذب ووفي له بجميع الأسباب لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب، ولكن قلما يفلح الشاعر المجيد إلا في بعض الأبيات سيما في الشعر العربي حيث ضيق فيه النطاق على الشعراء، وألزموا باتباع القواعد التي تخطاها شعراء الإفرنج، على أن أكثر فحول الأدب في البلاد المتمدنة صارفو عنايتهم في يومنا إلى النثر المرسل دون النظم، كما فعل فيكتور هوكو في آخر عمره، وكما يفعل اليوم أميل زولا وغيره مثل تولستوي أديب الروس. •••
ثم ظهر الإسلام وجاء القرآن بأفصح لفظ، وأبلغ معنى على أسلوب جديد يخالف أساليب العرب في النظم والنثر، فلا هو مرسل ولا مسجع، بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى من غير التزام حرف يكون سجعا أو قافية، وسميت آخر الآيات فواصل؛ لأنها ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضا قواف، ووقع اللفظ في القرآن تابعا للمعنى؛ ولذا فاق كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغتهم؛ لأن الواحد منهم إن برع في فن من فنون النظم أو النثر قصر فيما دونه، والقرآن أبدع في جميع ضروب الكلام وطرق الإفادة، واشتمل على قصص وأخبار، وشرائع، وأحكام، ووعد، ووعيد، وترهيب، وترغيب، وتنزيه، وتحميد، وحجج على التوحيد وأمثال سائرة ومواعظ زاجرة وأصول إدارية وسياسية، وغير ذلك مما لم يحط بنصفه، بل ولا بربعه أديب من الأدباء، ولا شاعر من الشعراء، وناضل عن الحرية وخفف أذى العبودية، وندد بالظلمة وتوعدهم بما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، فقال في الوعيد:
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، وبين استبداد المستبدين من الملوك والسلاطين وكيفية إيقاعهم التفرقة بين رعاياهم، ثم إيصال الجور والأذى إليهم فرقة بعد أخرى، كما كانت سياسة فراعنة مصر ونماردة بابل وقياصرة الرومان والروم وأكاسرة الفرس، فقال في تصوير هذا الاستبداد:
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
قال الباقلاني:
6 «ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان، وسبي النساء وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما؛ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظلم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره.
ثم ذكر وعده تخليصهم وجعلهم مستقلين بأمرهم وارثين لأرضهم»، ومما ورد في القرآن الكريم في السياسة والمناسبات الدولية التي كانت بين مملكة فلسطين وعاصمتها، إذ ذاك أورشليم، وبين مملكة سبأ وعاصمتها مأرب، وما كتب به سليمان بن داود - عليهما السلام - إلى بلقيس، وما اشتغلت به من التدبير والمشورة، واستطلاع عواقب الأمور وإرسال الهدية لفك عراقيل السياسة بالوسائط الديبلوماتية إلى غير ذلك ما نصه:
7
قال:
اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون .
قالت:
أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين .
قالت:
يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون .
قالوا:
نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين .
قالت:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون * وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون . فلما جاء سليمان قال:
أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون - إلى آخر القصة - وترى فيها مجئ أهل سبأ مسلمين إلى أورشليم والاحتفال باستقبالهم، وإرائتهم عز الملك وارتقاء الصنائع، وما أتى به الذي عنده علم من الكتاب من عرش لملكتهم حتى قيل:
أهكذا عرشك قالت كأنه هو ، واصطناعهم لها صرحا يذكرنا قصر الزجاج الذي أنشئ في معرض باريس الأخير، و
قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، قال:
إنه صرح ممرد من قوارير .
قال الباقلاني؛ وهو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني، وكان ملك الإسلام في بغداد عضد الدولة من آل بويه أرسله سنة 371ه سفيرا إلى قيصر الروم في القسطنطينية، وهو قسطنطين التاسع من سلالة مكدونيا، وكانت السفارة في جواب رسالة وردت عليه منه - قال: «متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان - عليه السلام - بعد ذكر العنوان والتسمية هذه الكلمة الشريفة العالية
ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ، والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه بلقيس من التدبير، واشتغلت به من المشورة، ومن تعظيمها أمر المستشار، ومن تعظيمهم أمرها، وطاعتها بتلك الألفاظ البديعة والكلمات العجيبة البليغة، ثم كلامها بعد ذلك لتعلم تمكن قولها:
يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ، وذكر قولهم:
قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين
لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به وقوله:
الأمر إليك
تعلم براعته بنفسه، وعجيب معناه، وموضع اتفاقه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة وملاءمته لما قبله، وذلك قوله:
فانظري ماذا تأمرين
ثم إلى هذا الاقتصار وإلى البيان مع الإيجاز، فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه، ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه.
وكم جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الأفهام، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام، ثم لو وقع على الأفهام ... فما يجب فيه من شروط الإحكام كله، أو بمعاني القصة وما تقتضي من الإعظام، ثم لو ظفرت بذلك كله رأيته ناقصا في وجه الحكمة، أو مدخلا في باب السياسة، أو مصفوفا في طريق السيادة، أو مشترك العبارات إن كان مستجود المعنى، أو جيد البلاغة مستجلب المعنى، أو مستجلب البلاغة جيد المعنى، أو مستنكر اللفظ وحشي العبارة، أو مستبهم الجانب مستكره الوضع، وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد، وإذا اختصر كمل في بابه وجاد ، وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه لم يقع إلا على محاسن تتوالى وبدائع تترى، ثم فكر بعد ذلك في آية آية أو كلمة كلمة في قوله:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون
هذه الكلمات الثلاث كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره. ثم تأمل تمكن الفاصلة وهي الكلمة الثالثة، وحسن موقعها، وعجيب حكمها، وبارع معناها، وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر، ولكن بينت بما فسرت وقررت بما فصلت الوجه الذي سلكت فيه، والنحو الذي قصدت، والغرض الذي إليه رميت، والسمت الذي إليه دعوت، ثم فكر بعد ذلك في شيء أدلك عليه، وهو تعادل هذا النظم في الإعجاز في مواقع الآيات القصيرة، والطويلة والمتوسطة، فأجل الرأي في سورة سورة، وآية آية، وفاصلة فاصلة وتدبر الخواتم، والفواتح، والبوادي، والمقاطع، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع التنقل والتحول، ثم اقض ما أنت قاض وإن طال عليك تأمل الجميع فاقتصر على سورة واحدة أو على بعض سور، ما رأيك في قوله:
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين
هذه تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف، وهي تشتمل على جملة وتفصيل وتفسير ذكر العلو في الأرض ... إلخ.» ا.ه.
ومن ذلك يعلم اقتدار هذا السفير الكبير في «الانتقاد الأدبي»
8
الذي له المقام الأسمى بين علوم الأدب، وللإفرنج فيه عناية زائدة، وجرائدهم تنشر فيه المقالات الضافية، ولجريدة الطان محرر ماهر في «الانتقاد الأدبي»، وهو «غاستون ديشان»؛ وإذا أمعنا النظر في القرآن الكريم نجده مملوءا بالمحاسن والبلاغة، ولكننا نتلوه في الغالب تلاوة تعبد بدون نظر في حقائق معانيه وتاريخه، وإلا تأمل قوله: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» تجد في هاتين الكلمتين من البلاغة والفصاحة ما لم يأت بمثله غابرييل هانوتو على ما هو عليه من الاقتدار في الأدب، والعلم، والسياسة، والحرية الفرنساوية، وما أدراك ما الحرية الفرنساوية؛ هي الحرية التي أنقذت أمما كثيرة من الظلم والاستبداد، وجل ما أتى به في الخطبة التي خطبها أخيرا في الجزائر عن سياسة الاستعمار في إفريقية، وعما يجب على الدولة المتمدنة في جانب أهاليها المسلمين قوله: «يجب لهم علينا الأمن، يجب لهم علينا العدل، يجب لهم علينا كذلك التساهل» أي بالدين.
وقد نشر ملخص هذه الخطبة في جريدة طرابلس الشام في نيسان هذه السنة، فقابل بين تينك الكلمتين، وبين هذه الكلمات الثلاث وحكم ضميرك الحر إن كنت من الأحرار، واحكم بعد ذلك بما شئت، لو قرأنا القرآن وفهمناه كما ينبغي لوجدنا فيه مقاومة شديدة للظلم والاستبداد، وميلا زائدا للعدل والحرية، ولقد رفع الاستبداد بسببه يوما، ولكن الأمم الآسيوية والأفريقية أبت الخروج من تحت نير العبودية، أو كما عبر أحد الأفاضل بقوله: «لما ساد عليهم الجهل ولم يستطيعوا أن يصعدوا إلى القرآن بعقولهم أنزلوه من مكانه الرفيع، ووضعوه مع جهلهم في مستوى واحد.» •••
وبظهور الإسلام ظهرت طبقة جديدة من الأدباء قيل لهم: أهل الطبقة الإسلامية، وهم الذين كانوا صدر الإسلام وأيام الدولة الأموية التي امتدت إلى سنة 129ه، وفي أوائل الدولة العباسية، وسمي المتأخرون منهم شعراء الدولتين الأموية والعباسية، ولخص حسان بن ثابت شاعر النبي
صلى الله عليه وسلم
الطريقة المثلى في الشعر بقوله:
وإنما الشعر عقل المرء يعرضه
على البرية إن كيسا وإن حمقا
وإن أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وفي مقدمة هذه الطبقة عمر بن أبي ربيعة كبير قريش، وكان له في الشعر مقامات عالية وطبقة مرتفعة، وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به. ومنهم الحطيئة العبسي المشهور في الهجاء وحكم عليه بقطع اللسان في خلافة عمر (رضه) ثم عفا عنه. وكان جرير، والفرزدق، والأخطل من أعظم شعراء الدولة الأموية وحصل بينهم محاورات ومهاجاة، وكان لكل منهم فرقة من الناس تفضل شعره وتطرب لقوله وتنتصر لرأيه، وكثيرا ما كان يفضي بينهم الجدال على تفضيل الشعر إلى القتال، والمشهور بين الأدباء أن جرير مرجح على الفرزدق في أكثر أنواع الشعر، وعلى الأخطل في جميع أنواعه. وكان الفرزدق والأخطل متفقين على هجاء جرير ومعاداته، واستخرج المستشرق بوشه من مكتبة جامع أيا صوفيا بالأستانة ديوان الفرزدق، وطبعه وحشاه وترجمه للفرنساوية وحرر شيئا عن عروة بن الورد أيضا.
وممن عاصر الفرزدق غيلان ذي الرمة الثقفي صاحب مي بنت مقاتل، ومن هذه الطبقة نصيب. وبشار المتوفى سنة 167ه وهو القائل: «والأذن تعشق قبل العين أحيانا»، وكثير غيرهم، ويجمع كلامهم كتاب الأغاني الذي ألفه أبو الفرج الأصفهاني المتوفى سنة 356ه. وكان من نسل مروان الحمار آخر ملوك بني أمية، وكتابه هذا مطبوع في بولاق، ومختصره أي رواياته مطبوع في بيروت. وممن اشتهر بالنثر وكتابة الرسائل عبد الحميد الكاتب، وكان كاتبا لمروان الحمار فمات منكوبا حينما انقرضت الدولة الأموية، وجمعت رسائله في كتاب.
فأهل هذه الطبقة وإن نسجوا على منوال شعر الجاهلية، فكلامهم أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منظومهم، ومنثورهم، وخطبهم، وترسيلهم، ومحاوراتهم للملوك، والسبب في ذلك حصول الانقلاب في الأمة، وتأسس الملك والدولة وتوسع حدود المملكة بالفتوحات، واختلاط الأقوام بعضها ببعض فاتسعت بذلك دائرة العقول، ونهضت طباع أهل الطبقة الإسلامية، وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم، فكان كلامهم في نظمهم، ونثرهم أحسن ديباجة وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفاده من انفتاق الذهن وتوسع دائرة الفكر، وبما سمعوه من الكلام العالي الطبقة في القرآن والحديث. •••
ثم حصل انقلاب كبير في الأمة وقامت الدولة العباسية مقام الدولة الأموية، وترجمت كتب العلم والحكمة عن خمس لغات أعجمية، وهي: (1)
الفارسية والبهلوية. (2)
الهندية والسنسكرية. (3)
السريانية. (4)
العبرانية، وسمي المترجم عنها بالإسرائيليات. (5)
اليونانية.
وعكف أهل العلم والفضل على النظر في هذه الكتب، ونقلوا للعربية شيئا قليلا من أدب اللغات الأعجمية، وكان في مقدمة الناقلين ابن االمقفع (109-145ه)، واسمه عبد الله بن داذبه، وأصله من مجوس الفرس، أسلم ودخل في خدمة عيسى بن علي عم السفاح أول الخلفاء العباسيين، واشتهر ابن المقفع بالفصاحة، والبلاغة حتى قيل بأنه ألف كتابا يعارض فيه القرآن كما فعل المتنبي. قال الباقلاني: «فليس يوجد له كتاب يدعي مدع أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيى لنفسه من إظهاره ... إلخ. ثم ذكر له الدرة اليتيمة، وقال إنهما كتابان أحدهما يتضمن حكما منقولة عن كتاب بزرجمهر في الحكمة، والآخر في شيء من الديانات، وقد تهوس فيه بما لا يخفى.» ا.ه.
على أن الكتاب المشهور لابن المقفع هو كتاب كليلة ودمنة المطبوع في بيروت، وهو قصة أدبية فلسفية سياسية أول من وضعها أحد أدباء الهند وفلاسفتها ويدعى بيدبا أو بيدبائي، وحررها باللغة الهندية، فترجمت عنها إلى اللغة البهلوية على عهد أنوشروان، ثم جاء ابن المقفع وترجمها للعربية نثرا، ثم ظهر على عهد هارون الرشيد إبان بن عبد الحميد من شعراء العرب، وانتسب للبرامكة وغمر بإنعامهم ونظم لهم كتاب كليلة ودمنة فقال بعد المقدمة:
هذا كتاب أدب ومحنه
وهو الذي يدعى كليلة ودمنه
فيه احتيالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
وكان له نظر جيد في العلم والحكمة، ونظم قصيدة فلسفية في مبدأ العالم نسبت لأبي العتاهية. وكان أبو نواس يأنف من مشاعرته؛ لأن كلامه كلام فلاسفة، وحكماء لا كلام شاعر أديب متخصص بعلم الأدب، واسترحم إبان بن عبد الحميد يوما من يحيى بن خالد البرمكي بإدخاله على الرشيد، وعرض أشعاره عليه فأشار عليه يحيى بنظم قصيدته السياسية التي قال فيها:
نشدت بحق الله من كان مسلما
أعم بما قد قلته العجم والعرب
أعم رسول الله أقرب زلفة
لديه أم ابن العم في رتبة النسب
وأيهما أولى به وبعهده
ومن ذا له حق التراث بما وجب
فإن كان عباس أحق بتلكم
وكان علي بعد ذاك على سبب
فأبناء عباس هم يرثونه
كما العم لابن العم في الإرث قد حجب
فلما سمعها الرشيد تهلل وجهه بالبشر، وأنعم على الشاعر بعشرين ألف درهم.
ثم ظهر سهل بن هارون الكاتب، وصنف للمأمون كتاب قله وعفره يعارض به كتاب كليلة ودمنة في أبوابه وأمثاله، ويزيد عليه في حسن نظمه، ثم جاء ابن الهبارية واسمه الشريف أبو يعلي محمد بن محمد، ونسبه يتصل بعبيد الله بن عباس - رضي الله عنه - وكان ابن الهبارية من شعراء نظام الملك وزير ألب أرسلان ثم انتسب لابنه ملكشاه ومدحهما بقصائد، ونظم كليلة ودمنة وسماه «نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة». وله كتاب آخر على هذا الأسلوب سماه «الصادح والباغم» ونظم فيه ألفي بيت، وأشعاره سلسلة سهلة ومنها:
يقول أبو سعيد إذ رآني
عفيفا منذ عام ما شربت
على يد أي شيخ تبت قل لي
فقلت على يد الإفلاس تبت
توفي سنة 504 هجرية.
وترجم غير كتاب كليلة ودمنة من لغات الأعاجم أمثال لقمان الحكيم، ولطائف الوزراء ولطائف الملوك، وكثير من النصائح والمشورات السياسية والإدارية، وشيء من كتاب زرادشت وكتاب ماني؛ قال المسعودي في مروج الذهب: «وانتشر بأيدي الناس في ذاك الوقت كتاب أصله من بلاد العجم، واسمه ألف ليلة وليلة غير أن حكاياته لا تشبه حكايات الكتاب المعروف بهذا الاسم المتداول بيننا». واشتهر في الكتابة والإنشاء أيضا الجاحظ (165-255ه)، وهو أبو عثمان الكناني الليثي البصري، وله طريقة في الإنشاء يقال لها طريقة الجاحظ، كما أن له مذهبا في الفلسفة، وقيل لأتباعه: الجاحظية.
وله مؤلفات كثيرة في الأدب منها كتاب البيان والتبيين، وكتاب الأمصار، وكتاب الحيوان وقد اختصر المؤلف هذا الكتاب الأخير، ويوجد نسخة من المختصر في مكتبة أسكوريال بإسبانيا، وهي التي طبع فهرست كتبها المستشرق الأستاذ هارتويغ ديرنبورغ، ويوجد نسخة أصلية من كتاب الحيوان في مكتبة هامبورغ، وقد سلك مسلك الجاحظ وأخذ طريقته، ولم يقصر عنه أبو الفضل محمد بن العميد (توفي 360ه)، وكان مؤدبا لعضد الدولة، ومن أعظم وزراء آل بويه، وله رسائل كبيرة وأشعار، وكتاب «الخلق والخلق» لم ينقحه. وأثنى عليه الباقلاني فقال: إنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهب الجاحظ، ويكملها على شروط صنعته ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه؛ كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه متى ذكر من كلامه سطرا أتبعه من كلام الناس أوراقا؛ وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتابا، وكان ابن عباد وزير فخر الدولة يصحب أبا الفضل بن العميد؛ ولذا قيل له: الصاحب بن عباد.
وممن اشتهر من الشعراء أبو تمام حبيب بن أوس الطائي (190-231ه) وهو ميال للتصنع والتكلف والتعويص في المعاني، وأحسن ما ألفه كتاب الحماسة، وهو مختار من كلام الشعراء المتقدمين ومطبوع، وله أيضا كتاب فحول الشعراء وكتاب الاختيارات. ومنهم أبو نواس (توفي 195ه)، وله سبك جيد وحلاوة ورقة. ومنهم ابن الرومي وابن المعتز وأشعرهم البحتري (204-284ه)، وفضله الباقلاني على جميع أهل عصره لبهجة كلامه، وبديع رونقه، وديباجة شعره، وكثرة مائه. وقال المعري: أبو تمام والمتنبي من الحكماء، وأما الشاعر فهو البحتري، قالوا: والبحتري يغير على أبي تمام إغارة ويأخذ منه صريحا وإشارة ويستأنس بالأخذ منه بخلاف ما يستأنس بالأخذ من غيره، وقد طبعت الموازنة بينهما في مطبعة الجوائب.
وكان الخلفاء، والرؤساء يشوقون شعراء الطبقة الإسلامية، ويجيزونهم بأعظم الجوائز كما يفعل في يومنا الإفرنج، ولو كان فعلهم مقيدا بالقواعد والنظامات، فإن الأكاديميات تحكم في كل سنة بتوزيع الجوائز النقدية التي تقرر صرفها نظارة المعارف، أو يتبرع بها أصحاب الخير ومحبو العلم من ذوي الثروة، فهذا الأمر شائع بينهم وله دائما ذكر في جرائدهم. وكان للخلفاء معرفة بفنون الأدب وتبصر بجيد الكلام ورديئه ويحفظون أشعارا كثيرة، ويعانون النظم والنثر لتقوى ملكتهم في اللغة حتى إذا رقوا منابر الخطابة، أو تكلموا في صدور المحافل تمكنوا من استمالة الناس إليهم، وألفوا بين قلوبهم كما يفعل ملوك الإفرنج في زماننا، ولا سيما خطيبهم الشهير إمبراطور ألمانيا، فإنه من أبلغ الخطباء في الملوك. وهكذا كان الخلفاء يستجلبون القلوب ببليغ الكلام لا بحد الحسام. وظهر في ذوي الرياسة فحول من الأدباء مثل ابن الخليفة العباسي المعتز بالله بن المتوكل، واشتهر بابن المعتز (247-296ه)، وتولى الخلافة يوما واحدا وقتل وهو أفضل شعراء بني هاشم. ومثل أبي فراس الحمداني ابن عم ناصر الدولة، وسيف الدولة من آل حمدان المنتسبين لبني تغلب من قبائل العرب، وامتدت حكومة آل حمدان في حلب والموصل نحو 60 سنة، ومن شعر أبي فراس الحمداني قوله:
نطقت بفضلي وامتدحت عشيرتي
وما أنا مداح وما أنا شاعر
وطبع ديوانه في بيروت وكان المتنبي يفضله على نفسه.
وممن اشتهر في الأدب أبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني وكلاهما من أدباء القرن الرابع للهجرة، ونشرت الجوائب رسائلهما، ونسج الحريري على منوال الهمذاني في تأليف مقاماته المشهورة، ولم تزل تدرس في الصوربون، وقد شرحها شيخ المستشرقين في فرنسا سيلفيستر دوساسي، وينتقد عليها أدباء الإفرنج من جهة قصر المقامات وعدم اعتناء المؤلف في تصوير الحكايات، وتشخيصها على نسق ما ألفه الإفرنج أو اليونان قديما، وإنما صرف الحريري عنايته إلى سبك الألفاظ وتصنيعها، وكانت ولادته في البصرة ثم نفي إلى مشان بقرب البصرة (446-515ه).
ومن المعلوم أن إيراد خلاصة تاريخ أدب اللسان العربي، وذكر المشاهير من الأدباء وتعيين طبقاتهم ليس بالأمر السهل؛ ولذا نكتفي بالإشارة إلى بعض من دون أخبار الشعراء، فمنهم ابن قتيبة المروذي (213-276ه) صاحب «أدب الكاتب»، وله «ديوان الكتاب» و«طبقات الشعراء» وغير ذلك، ومنهم المبرد الأزدي (210-286ه)، وله كتاب الكامل، والمقتضب، والروضة، ومنهم ابن المنجم (241-300ه)، وكان أبوه من كتاب المأمون ومن نسل يزدجرد آخر ملوك فارس فألف هو في تاريخ الأدب كتاب الباهر، أو البارع في أخبار الشعراء. ثم جاء أبو منصور الثعالبي (350-429ه)، وهو عربي النسب نيسابوري المولد، وكان يحترف بعمل فراء الثعالب، فوضع للكتاب المذكور ذيلا في 4 مجلدات سماه «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر»، وجمع فيه أخبار شعراء زمانه، ونوادرهم، وأشعارهم، ثم جاء أبو الحسن علي الباخرزي نسبة لباخرز ناحية بالقرب من نيسابور بخراسان، وكان من ذوي المراتب العالية وأهل الديوان، وتوفي مقتولا سنة 467ه فحرر ذيلا ليتيمة الثعالبي سماه «دمية القصر وعصرة أهل العصر» ومنه نسخة في الأستانة. وزاد عليه أبو الحسن بن زيد البيهقي - وبيهق ناحية بالقرب من نيسابور أيضا - ذيلا سماه «وشاح الدمية» ثم جاء عماد الدين الكاتب الأصفهاني (519-597ه) وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي، وألف كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» ومنه نسخة في الأستانة وأخرى في باريس، وفيه تراجم الشعراء وأشعارهم من سنة 500 إلى سنة 572ه. وألف أيضا كتاب «السيل على الذيل» وجعله ذيلا لخريدة القصر. ثم جاء الوراق وهو أبو المعالي سعد بن علي الأنصاري المتوفى سنة 568ه، وذيل ما تقدم بكتابه «زينة الدهر وعصرة أهل العصر».
فهذه المدونات من أهم الأجزاء في تاريخ الأدب العربي، ويمكن إتمامها باختيار ما يروق من مؤلفات أبي شامة (596-665ه) وأبوه المقدسي، نشأ هو في مصر، وكتابه «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية» يدرس في الصوربون وطبع في مصر، ومن مؤلفات الكاتب الدمشقي (700-759ه) وكتابه مسالك الأبصار في الممالك والأمصار، لا يقتصر على التاريخ والجغرافيا، بل فيه كثير من التراجم أيضا ومجلداته نحو ثلاثين وقيل أربعين، وهو مرقم في كتبخانة أيا صوفيا في الأستانة من عدد 3415 إلى 3439، ومنه نسخة في مكتبة باريس الأهلية والهمم جارية في طبعه.
ولما كنت في الصيف الماضي بالأستانة شاهدت في كتبخانة الكوبريلي - أحد المستشرقين من الإنكليز - يستنسخ بآلة التصوير الشمسي كتابا كبير الحجم حسن الخط ليس فيه من التراجم إلا حرف العين، فسألت فإذا هو «إرشاد الألباء في معرفة الأدباء» تأليف ياقوت الحموي الرومي (574-626ه) صاحب معجم البلدان، الذي طبعه المستشرق ووستنفلد في ليبزيك سنة 1869 في أربعة مجلدات، وطبع حاشية له في مجلد خامس. وللحموي من المؤلفات النافعة: معجم الأدباء، ومعجم الشعراء، وكتاب أخبار المتنبي، وعنوان كتاب الأغاني، ومجموع كلام أبي علي الفارسي ... فإذا كان حرف العين من ذاك السفر الجليل لم يكمل في مجلد ضخم، فما بالك في بقية أجزاء هذا الكتاب، ومما يمكن مراجعته من الكتب في هذا الموضوع: نزهة الألباء في طبقاب الأدباء لمحمد بن شاكر الأنباري ونسخته في الأستانة، وكتاب ريحانة الألباء المطبوع في بولاق، ونفحة الريحانة في طبقات الشعراء للمحبي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وفوات الوفيات للكتبي، والوافي بالوفيات لصلاح الدين بن بيك الصفدي، وأعيان العصر وأعوان النصر له أيضا، ثم تاريخ المحبي في أعيان القرن الحادي عشر، والمرادي في أعيان القرن الثاني عشر، وهكذا ينتهي الباحث إلى العصر الذي نحن فيه فيجد شيئا من آثار المعاصرين في الجزء الأول من عكاظ الأدب المطبوع في الأستانة عقب الحرب مع اليونان.
وقد استعار صاحب عكاظ، وهو أبو النصر السلاوي باشا لكل واحد من شعراء العصر لقبا من ألقاب المتقدمين، وسمى به أصحاب معلقات هذا القرن الرابع عشر للهجرة، فامرؤ القيس الثاني لنقيب الأشراف السيد توفيق أفندي البكري، وأبي العلاء الثاني للأستاذ عبد الجليل أفندي براده المدني، ونابغة العراق لجميل أفندي الزهاوي، ونابغة مصر لأحمد بك شوقي، وزهير البلاغة لمحمد ولي الدين بك يكن، وصاحب المعجز لأحمد محرم أفندي، وحسان الموصل لشاعر العراق عبد الباقي أفندي العمري، وشيخ الأدباء لأحمد عزت باشا الفاروقي الموصلي، ولبيد العصر للفيلسوف يوسف ضياء الدين باشا الخالدي، ودريد الحكم لحسن حسني باشا الطويراني، وأبو الثناء للشيخ محمود قبادو التونسي.
وأما اللغويون والنحاة فأحسن جامع لأخبارهم ما ألفه جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911ه، وسماه «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة»، ورأيت نسخة منه في مكتبة يكي جامع، وهي عند الجسر في الأستانة العلية، وطبع في مصر وسوريا وأوروبا كثير من مؤلفات الأصمعي وأبي زيد الأنصاري البصري، وأبي عبيدة النحوي، وابن السكيت وغيرهم من اللغويين الأفاضل. •••
لما حدث الانقلاب الكبير في انتقال الخلافة الإسلامية من الأمويين إلى العباسيين، وترجمت كتب العلم والحكمة إلى لسان العرب قرأ أدباء المسلمين كتاب المنطق لأرسطو، ورأوا فيه ذكر أوميروس الشاعر والثناء عليه فلم يحفلوا بشعره، ولا بشعر أحد من الأعاجم، ولا التفتوا إلى أساطير اليونان ولا لما وضعوه من الروايات الشخصية، ولا قدروا حرية فكرهم ولا ذوقهم في الكلام حق قدره؛ لاشتغالهم عن ذلك بما لديهم من فنون الشعر، وأنواع الخطب، والرسائل، والدواوين، والمعلقات سيما ما أدهشهم من كلام الحديث والقرآن فترجموا كتب المنطق، والنجوم، والطبيعيات، والطب، والهندسة، ولكنهم لم يترجموا لأديب من أدباء اليونان، ولا أدباء الرومان لا قصيدة ولا خطبة ولا رواية ولا حكاية من حكايات أساطيرهم. ولعلهم خافوا على الناس من الرجوع إلى عبادة الأوثان إن بحثوا لهم في آلهة اليونان، ومع ذلك فترجمة كتب العلم، والحكمة إلى لسان العرب ظهر لها تأثير في توسيع أفكار الشعراء الإسلاميين، وظهر فيهم طبقة جديدة هي طبقة المتنبي، والمعري في الشرق، وابن هاني في إشبيلية وهو المسمى بمتنبي الغرب، فحيث كان لأهل هذه الطبقة نظر في كتب العلم والحكمة، فكلامهم أبلغ معنى وأكثر فوائد لاشتماله على آراء فلسفية، وسياسية ومباحث عقلية، وعلمية غير أنهم خرجوا عن أساليب الشعر القديم ووضعوا من عندهم أساليب مخصوصة، فقام عليهم المتعصبون لأساليب العرب الأقدمين وسلقوهم بألسنة حداد، وشددوا عليهم النكير كما فعل أصحاب طريقة كلاسيك مع فيكتور هوكو حينما شهر طريقة «رومانتيك».
فالمتمسكون بالأساليب القديمة من أدباء العرب يقولون: إن نظم المتنبي والمعري ليس من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أساليب العرب المخصوصة، إذ ليس كل كلام منظوم عند العرب يسمى شعرا، بل الشعر هو «الكلام البليغ والمبني على الاستعارة والأوصاف والمفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، ومستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة»، فلا بد أن تجتمع هذه القيود في الكلام المنظوم حتى يسمى شعرا، فما خلا عن الاستعارة، والأوصاف مثل منظومات المتون العلمية المدرسية، والأرجوزات الأخلاقية، وقول العامي: «أغلق الباب وائتني بالطعام»، أو ما خلا عن تساوي الأوزان واتحاد الروي كقولهم: «رب أخ كنت به مغتبطا أشد كفي يغري صحبته تمسكا مني بالود، ولا أحسبه بغير العهد ولا يحول عنه أبدا فخاب فيه أملي ...» لأن الوزن لم تتساو أجزاؤه في الطول، والقصر، والسواكن، والحركات، أو لم يجر على أساليب العرب المعروفة فهو حينئذ لا يكون شعرا، وإنما هو كلام منظوم. أما الأسلوب في عرفهم فهو القالب الذي يفرغ فيه الشعر، أو المنوال الذي ينسج عليه ، وذلك أنهم يقولون: إذا أراد الطالب قرض الشعر ينبغي له أن يكثر من مطالعة أشعار العرب الأقدمين، وأن يحفظها ويرتاض فيها حتى تصير له ملكة في كلامهم فحينئذ يحصل في ذهنه قالب كلي من التراكيب التي رآها في كل شعر من أشعارهم، وهذا القالب الكلي ينطبق على جميع تلك التراكيب، فسؤال الطلول قالب كلي يكون بخطاب الطلول كقوله: «يا دار مية بالعلياء فالسند»، ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله: «قفا نسأل الدار التي خف أهلها»، أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله: «ألم تسأل فتخبرك الرسوم»، وكذا تحية الطلول قالب كلي يكون بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله: «حي الديار بجانب الغزل»، أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
9
أسقى طلولهم أجس هذيم
وغدت عليهم نضرة ونعيم
أو بسؤاله السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلا بالأبرق
واحد السحاب لها حداء الأنيق
وكذا التفجع في الجزع قالب كلي يكون باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب وليقذع الأمر
وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:
أرأيت من حملوا على الأعواد
أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لا حام ولا راع
مضى الردى بطويل الرمح والباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهنئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألقى الرماح ربيعة بن نزار
أودى الردى بفريقك المغوار
وأمثال ذلك ... فمن أراد قرض الشعر كان هو كالبناء، أو النساج والصورة الذهنية المنطبقة في ذهنه كالقالب الذي يبنى فيه، أو المنوال الذي ينسج عليه، فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا؛ ولذا رأى أهل الذوق في قول الشاعر:
لم أدر حين وقفت بالأطلال
ما الفرق بين قديمها والبالي
كلام فقيه لقوله: ما الفرق بين قديمها؛ لأن هذا من تعبيرات الفقهاء واصطلاحاتهم لا من تعبيرات الأدباء مع ما فيه من الوقوف بالأطلال. فلم يستحسن أهل الذوق هذا البيت، ولا وجدوا فيه رقة، ولا بهجة، ولا ماء؛ ولذا لم يستحسنوا في الأدب كلام الفقهاء ولا الفلاسفة مع ما في كلامهم من المنطق والحكمة؛ لخلوه عن هذا النور الذي يتلألأ في كلام الأدباء، ويخرج من نفس الأديب ومن قلبه وروحه، وأما كلام الفقيه، أو الفيلسوف فيخرج من عقله ومحاكمته ومقايسته، فهو وإن كان برهانه قاطعا؛ إلا أن تأثيره على النفوس أقل من تأثير كلام الأديب. ومن كثرة حفظهم لأشعار المتقدمين رسخت لهم ملكة في كلامهم حتى كاد ذوقهم يمج الأسماء التي لم ترد في أشعار الجاهلية. روي أن جرير أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته:
بان الخليط برامتين فودعوا
أو كلما جدوا لبين تجزع
كيف العزاء ولم أجد مذ بنتم
قلبا يقر ولا شرابا ينفع
قال: وكان الخليفة يزحف من حسن هذا الشعر حتى بلغ قوله:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
هلا هزيت بغيرنا يا بوزع
فقال الخليفة: أفسدت شعرك بهذا الاسم؛ لأن سمع الأديب لم يألف اسم بوزع كما ألف هند ومي أو فاطم، التي مشى بها امرؤ القيس حتى أجاز ساحة الحي وهي تجر أذيال المرط الموشى بالذهب، ولا مشية فيكتور هوكو بمعشوقته جوليت في مراقص باريس ومراسحها. ولم يزل الأدباء يبنون كلامهم في ذاك القالب، وينسجونه على ذاك المنوال حتى يومنا هذا كما فعل أصحاب المعلقات السبع التي نشرها صاحب عكاظ، وكلماتهم السبع التي خصت بكرامة التعليق هي: كلمة نقيب الأشراف السيد توفيق أفندي البكري ومطلعها:
أما ويمين الله حلفة مقسم
لقد قمت بالإسلام عن كل مسلم
وكلمة عبد الجليل أفندي برادة المدني:
كذا فليكن ما يحرز المجد والفخر
كذا فليكن ما يجمع الفتح والنصر
وكلمة جميل أفندي الزهاوي البغدادي:
هو الفتح ألقى في قلوب العدى هولا
وأثبت أن الحق يعلو ولا يعلى
وكلمة أحمد شوقي بك المصري:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب
وينصر دين الله أيان تضرب
وكلمة محمد ولي الدين بك يكن المصري:
أبت ضيمها في الناس كيف أضيمها
حياة تساوى بؤسها ونعيمها
وكلمة أحمد محرم أفندي المصري:
منازل سلمى لا عدتك الغمائم
ولا درست بالجزع منك المعالم
وكلمة أبي النصر السلاوي باشا المصري:
على مثلها فلتحمد الهمم الغر
فما هي إلا الحرب أعقبها النصر
فالمتنبي والمعري خرجا عن هذا القالب، وذاك المنوال الذي وضعه شعراء الجاهلية، وجعل كل منهما له مذهبا مخصوصا في الأدب وأساليب معروفة في الشعر؛ ولذا قال ابن خلدون: «وكان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أساليب العرب.»
وبعد أن كان حسان يقول:
وإن أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه - صار أهل هذه الطبقة من الشعراء المستنيرين بنور ما ترجم من كتب العالم يمدحون بأشعارهم أمراء العجم، الذين لا يفقهون دقائق البلاغة العربية طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب، والبحتري، والمتنبي، وابن هاني ومن بعدهم، فإن حبيبا الملقب بأبي تمام ولد في قرية بجوار دمشق، ونشأ في مصر، وطاف الشام، والعراق، وخراسان ومدح الخلفاء والملوك والأمراء بقصائد كثيرة. والبحتري ولد في قرية بجوار حلب ثم ذهب لبغداد، ومدح الخليفة المتوكل، ثم طاف بلاد الشام ومدح الأمراء، واجتمع في حمص على أبي تمام. والمتنبي ولد في الكوفة وأبوه سقاء من قبيلة جعف فجاء دمشق ومدح سيف الدولة من آل حمدان، ثم ذهب لمصر ومدح كافور الإخشيدي الخصي الأسود، ثم ذهب لبغداد، وخراسان ومدح عضد الدولة من آل بويه وغيرهم، وهو ممن حاول أن يأتي بمثل القرآن كابن المقفع، ولكنهما عجزا وأبطلا ما كتباه؛ ولذا هجا بعضهم المتنبي، فقال:
أي فضل لشاعر يطلب الفض
ل من الناس بكرة وعشيا
عاش حينا يبيع في الكوفة الما
ء وحينا يبيع ماء المحيا
وكذا ابن هاني - متنبي الغرب - ولد في إشبيلية، وطاف بلاد أفريقية، ومدح أمراء البربر وهو القائل في المعز لدين الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فصار عرض الشعر في الغالب إنما هو الكذب والاستجداء لذهاب المنافع، التي كانت فيه للأولين، وصار يقال: أحسن الشعر أكذبه. وقلد شعراء العرب العجم في مبالغاتهم وغلقهم للأمراء دفعا للشر واستجلابا للإحسان والخير، واستبد الرؤساء بالأمر وقويت فيهم الشوكة والسلطة، فلم يبق بهم لاستعمال فن الخطابة، وطلاقة اللسان لاجتذاب قلوب الأمة إليهم، بل رأوا من المصلحة الذاتية قهرهم بالقوة، وإرهابهم بحد السيف فاستخفوا بالأمة، وبالرأي العام.
وتمثلوا بقول أبي تمام:
السيف أصدق إنباء من الكتب
وبقول عمارة اليمني السياسي:
وشفرة السيف تستغني عن القلم
10
وفعلوا بالأمة ما قاله لها الحجاج سابقا: لأعصبنكم عصب السلمة، وألحونكم لحو العصا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني والله سمعت لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الله في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، يا عبيد العصا، وأشباه الإماء إنما مثلي ومثلكم ما قاله ابن براقة الهمداني:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يا أهل همدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
وقال المعتضد عند وفاته في سنة 289ه، وهو سادس عشر الخلفاء العباسية، ولعله ندم على هذا الاستبداد:
ولا تأمنن الدهر إني أمنته
فلم يبق لي خلا ولم يرع لي حقا
قتلت صناديد الرجال ولم أدع
عدوا ولم أمهل على طغيه خلقا
وأخليت دار الملك من كل نازع
فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزا ورفعة
وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي
فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ألقى
ولكن الرؤساء من الأعاجم فعلوا فعلا بلا قول لعجمة لسانهم، وأصبح تعاطي الشعر هجنة في الرئاسة، ومذمة لأهل المناصب الكبيرة، وقدموا الجهلاء على الشعراء ودعوهم بالظرفاء، وأهملت فنون الأدب وبلغ التفريط في جانب الفصاحة اللسانية إلى درجة كاد فيها الرؤساء لا يفوهون بكلمة في المجالس، ويعتبرون السكوت عين الأدب؛ وإذا اجتمعوا في حفلة اكتفوا بسماع الدعاء المأثور، وكثيرا ما يتلوه أجهل المجتمعين ويكون قد حفظ الدعاء من الصغر بالسماع.
شاهدت أحد الولاة انخدع بمن يتلو الدعاء المأثور؛ وظنه من العلماء لطول لحيته وكبر عمته فأراد تعيينه في منصب فقيل له أمي، فلم يصدق، ودعاه ليلة وطلب منه أن يقرأ عليه ما كتبته جريدة الجوائب إذ ذاك، فلما أمسك الجريدة بالعكس فهم الوالي وتلاهى عنه ولم يعينه.
ولقد دقق في هذا المبحث عبد الرحيم أفندي أحمد مبعوث مصر في مؤتمر المستشرقين الحادي عشر المنعقد في باريس سنة 1897، ووجد نسبة تامة بين الحرية، وبين ارتقاء لسان العرب، فكلما اتسع نطاق الحرية في الدولة اتسع معه نطاق الأدب في العربية، وزادت فصاحة هذا اللسان وبلاغته، وكلما زاد الاستبداد تقيدت عقول الأدباء بالسلاسل، وصاروا ينطقون بما يوافق الزمان والمشرب، لا بما يشعرون به ويعلمونه ويرونه.
قال مبعوث مصر المشار إليه: ولقد لاحظت في المتكلمين بلسان العرب أن الحرية إذا فقدت منهم كثر في كلامهم تكرار (اللازمة)، مثل نعم، فاهم، هكذا أحلم يا سيدي، الخلاصة، النتيجة ... وأمثال ذلك من الكلمات التي يرددها المتكلم، هذا في المخاطبات بين اثنين. وأما في الاجتماعات العمومية كالأفراح، والعزاء، واستقبال الولاة والقضاة، فإما أن ينقضي الاجتماع بالسكوت والهمس، أو بتلاوة الدعاء المأثور. وإن جعل للأدب حرمة فيتلى في ذاك الاجتماع قصيدة مدح أو تبريك أو عزاء، وينفض الجمع بغير أن يفوه الرئيس بما يقتضيه الحال والمقام، ويصور بكلامه حالة تلك الهيئة المجتمعة. •••
أما أهل الأندلس فلما وجدوا في جزيرتهم سماء صافية وأرضا طيبة، وهواء نقيا، وأشجارا مزهرة، وأنهارا جارية، وجبالا راسية، وسهولا واسعة اتسعت أفكارهم واستبحر عمرانهم، وراقت أشعارهم ورقت معانيهم وتهذبت فنون الشعر ومناحيه في قطرهم، وبلغ التنميق فيه الغاية وكثر فيهم الأدباء والشعراء، فوسعوا دائرة الأدب ونظموا الشعر في جميع الأعاريض المعروفة عند العرب، وأتوا بالمطولات في جميع مذاهب الشعر وأغراضه من نسيب، ومدح، ورثاء ، وهجاء. ثم لم يكتفوا بكل هذا بل وجدوا الزمان والمكان يقتضي لهما فنون جديدة من الشعر ينسج على منوال غير المنوال الذي وضعه عرب الجاهلية، ويقرض في عروض غير عروضهم، فغيروا أسلوب الشعر وعروضه كما فعل فيكتور هوكو، وأهل طبقته في تغيير عروض الشعر الفرنساوي. واستحدث المتأخرون من الأندلسيين الموشح، والزجل، والمربع، والمخمس، والمعصب على أربعة أجزاء، والمزدوج، والكاري، والملعبة والغزل، وعروض البلد، والأصمعيات، والحوراني، والمواليا، والدوبيت وهما لأهل الشرق وغير ذلك من التفنن الذي لا يدخل تحت حصر، فأول من وضع الموشح مقدم بن معافر الضريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه (246-348ه) صاحب كتاب العقد الفريد.
وقد انتشر هذا الكتاب انتشارا عجيبا، ولم أدخل مكتبة من مكتبات الأستانة
11
إلا وأجد فيها نسخة أو أكثر من هذا المؤلف، ثم شاع استعمال الموشح في الأندلس واستظرفه الناس، ونظم فيه كثير من الأدباء، ونسج على منوالهم أدباء الشرق وطبع كثير من الموشحات واشتهر؛ فمنها ما نظمه الوزير أبو عبد الله بن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب، وكان معاصرا لابن خلدون، وكأنه ندب حضارة الأندلس بمطلع هذا الموشح حيث قال:
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
ومن أبدع ما أتوا به في الموشحات قول بعضهم:
كحل الدجى يجري
من مقلة الفجر
على الصباح
ومعصم النهر
في حلل خضر
من البطاح
ثم نسج أهل الأمصار على منوال الموشح، ونظموا مثله بلغتهم الحضرية من غير التزام إعراب، وسموا هذا النوع من الموشح بالزجل، وأول من أبدعه أبو بكر بن قرمان، ومع أنه قرطبي الدار كان يتردد كثيرا إلى إشبيلية مركز الأدباء ومجمع الظرفاء، وهي على نهر الوادي الكبير تشبه حمص القريبة من نهر العاصي؛ ولذا أطلقوا عليها اسم حمص. فكان أبو بكر بن قرمان يركب مع أصحابه في النهر للنزهة، والصيد وتدور بينهم المحاضرات الشعرية والمحاورات الأدبية وهم في الزورق ، وقد استخرج صاحب جريدة الأرز من مكتبة في رومة شيئا من زجل الأندلسيين ونشره في مجلد. وأما الأصمعيات فهي الشعر البدوي، وسميت أصمعيات نسبة للأصمعي راوية العرب (122-216ه)، وهي قصيدة طويلة بلا إعراب بل هي بلغتهم الدارجة، ويبتدأ فيها غالبا باسم الشاعر وفيها كثير من البلاغة والفوائد التاريخية. والمعصب يجيئون فيه على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه، ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة. والحوراني نسبة لحوران بأرض الشام، ولا نطيل الكلام ببيان هذه الفنون وأقسامها، وفيها من البلاغة والفوائد التاريخية ما لا ينكر، بخلاف ما أحدثوه من الصنائع اللفظية.
وبيان ذلك أن أدباء العرب في الجاهلية والإسلام صرفوا عنايتهم في النظم والنثر إلى الألفاظ لا إلى المعاني، فالهدف الذي كان الأديب منهم يروم إصابته هو التفنن في طرق الإفادة، وبيان المعنى الواحد بأساليب مختلفة من الكلام، وشبهوا المعنى بالماء والألفاظ والتراكيب بالإناء؛ فمنه آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، فغرض الشاعر منهم إسقاء سامعه الماء الواحد الذي لا يختلف ولا يتغير بأجمل إناء يصوغه له حسب قدرته، ولم يكن غرضه إسقاء سامعه أنواع المياه الخفيفة المهضمة من منابع مختلفة معدنية، ولا إسقاءه أنواع الخمور أو المرطبات والبزورات بأي إناء كان؛ ولذا أظهر الأدباء كل مهارتهم في الألفاظ وبينوا اقتدارهم في معرفة اللغة، وحفظ الأسماء الكثيرة والمترادفات، وإفادة المعنى الواحد بطرق مختلفة، فكانت الألفاظ طوع قريحتهم يتصرفون بها كما يتصرف الصائغ في سبك الفضة، فألفوا في الألفاظ المهمل، والمنقوط، والمشجر وما يقرأ طردا وعكسا، ولزموا في القوافي ما لا يلزم ونظموا الخالية وأمثالها؛ يروى عن أديب أنه أجاب من شتمه بقوله: الكلب من لا يعرف للكلب مائة اسم. وحفظوا أسماء كثيرة للبعير والناقة والسيف، ولكل ما اشتهر بالخسة والشرف، وقالوا: كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى أو خسته.
ونجد امرأ القيس إذا وصف الفرس لم يدع عضوا من أعضائه إلا شرحه تشريحا، وألفوا كتبا كبيرة من الأحرف المهملة أو المعجمة؛ مثل التفسير الذي ألفه مفتي الشام السابق المرحوم محمود أفندي حمزه بالحروف المهملة، ولما طبع هذا التفسير بدمشق بعثني والدي بنسخة منه إلى المرحوم مفتي الخليل التميمي، وكان علامة الديار المقدسية، فنظر في التفسير طويلا ثم رده إلي وقال: لو لم يقيد قلمه بالأحرف المهملة لأفادنا بأكثر من هذا. وكتاب عنوان الشرف المشتمل على عدة علوم في متن واحد يقرأ بصور مختلفة وهو مطبوع في مصر، وعلى نسقه كتاب آخر مطبوع في الأستانة. ولما قال العماد الكاتب: «سر فلا كبا بك الفرس» أجابه القاضي الفاضل: «دام علاء العماد»، والجملتان مما يقرأ طردا أو عكسا. وكان القاضي الفاضل رئيسا للمراسلات السياسية عند السلطان صلاح الدين الأيوبي، والعماد الكاتب بمعيته رئيسا لقلم المصالح الشامية، وكتابه الفتح القدسي طبع في السنين الأخيرة. وقال أبو عبد الله بن بيس من علماء الأندلس، وهو شيخ لسان الدين بن الخطيب المشهور:
أساجعه بالواد بين تبوئي
ثمارا جنتها حاليات خواضب
دعن ذكر روض زانه سقي شربه
صباح ضحى طي ظباء عصائب
غرام فؤادي قاذف كل ليلة
متى ما نأى وهنا هواه يراقب
فجمع في أول الكلمات حروف الهجاء من الألف إلى الياء على الترتيب.
فأدباء الإفرنج يقولون: نعم، إن الشعر العربي فيه كثير من الصنائع البديعية وله رونق وبهجة، وفيه تهييج للمسامع وهو على أسلوب التوراة، وعلى نسق اللغات السامية، ولكن الكلام الذي فيه تصنع في الألفاظ، وتعمل في الشكل الخارجي لا يكون فيه حركة ذهنية ولا تخيل فكري، وما لم يكن فيه ذلك ليس فيه إحساس ولا عظمة مطلقا، وإذا ارتفع نفس الشاعر أو الكاتب في الكلام الذي فيه تصنع، وتعمل لم يبق على ارتفاعه بل ينقطع حالا، وينتقل إلى غير ما هو فيه، بخلاف الشعر اليوناني، أو الإفرنجي كرواية إيرناني مثلا، فإن فيكتور هوكو نظمها على نفس واحد ونسق واحد، وأبدع فيها بما قاله عن لسان شارلكين من الكلام العالي الملوكي، فإذا نطق به المشخص على مرسح التشخيص أخذ بمجامع القلوب، واستمر المشخص يهدر كما يهدر النهر حتى يصل كلامه لأعماق أفئدة السامعين، ويؤثر فيها تأثيرا عظيما.
ومن قاس بنظره بين مقامات الحريري، وبين رواية مضحكة من روايات موليير التشخيصية فهم معنى اعتراضهم وحقيقة انتقادهم على مقامات الحريري والهمذاني وأمثالهما. وينتقدون على المقامات أيضا من جهة التهتك بالأخلاق، والتغزل بالبنين كالتغزل بالبنات ووضع الحب في غير موضعه الطبيعي مما لم نعهده في كلام أدباء الإفرنج المشهورين، إلا من ندر منهم مثل الأديب الإنكليزي الذي حكم عليه منذ سنوات في لوندرا، ودافع عن نفسه بمشروعية هذا الحب في أصل الخلقة والطبيعة وبوجوده عند اليونان والرومان.
والحق أن هؤلاء الأفاضل لم يقصدوا بتأليف المقامة تصوير رواية مضحكة على أسلوب الكوميدية، ولا رواية محزنة على نسق التراجيدية، وإنما قصدوا إظهار المقدرة على تصنيف الكلام وتدبيجه بديباج الاستعارات، وإلباسه حلل التشابيه، وترصيعه بلآلئ البديع كقول الحريري في وصف الخطيب: «يختلب الأسماع بجواهر لفظه، ويجتذب القلوب بزواجر وعظه» من الكلام المدبج المصنع المرصع الذي لو نطق به على مرسح التشخيص لا يفهمه العوام، ويحتاج الخواص إلى النظر في صنائعه وإعمال الفكر في بدائعه، وإلا لو صرف الواحد من أولئك الأفاضل عنايته لتصوير رواية على نسق روايات اليونان أو الرومان أو الإفرنج لسقانا بكأس من الزجاج الشفاف أطيب الخمور وأعلاها طبقة. ولكنه أراد أن يغترف من ماء البحر بإناء صاغه لنا من الذهب الخالص وطلاه بالمينا الثمينة ورصعه فوق ذلك بعروق وأوراق من الجواهر واللآلئ؛ ليخفي لنا الماء بأبهى إناء ويرينا أحسن المصوغ والمجوهر.
وقد يغرق فكر الكاتب الغربي الملتزم للصنائع البديعية في لجج تلك الاستعارات والجناسات، ويحتاج في استخراجه إلى غواص ماهر له ملكة راسخة في اصطلاحاتهم؛ لأن الكاتب منهم لم يكتب للعوام وأهل السوق، وإنما يكتب للخواص من علماء الرجال وأدبائهم ولأصحاب الذوق منهم في الكلام وفي معانيه؛ ولذا فهو يتجنب الكلمات السوقية المبتذلة، وينتقي أعلى طبقات الكلام وأعوصها في اللغة. فالمعري على ما له من جلالة القدر في الأدب لم يسقنا الحكمة من كأسه إلا وهو يغوص في المباحث اللغوية، ويأتي بالشواهد والأمثال كما يتضح لمن طالع رسالة الغفران، وهي التي شبهها مندوب مصر في مؤتمر المستشرقين الحادي عشر برسالة الجحيم التي ألفها الشاعر دانتي الطلياني. ومن طالع رسالة دانتي أو ترجمتها رآها تسيل على نسق واحد كما يسيل الماء ليس فيها تصنع في الألفاظ والتراكيب، ولا فيها احتياج إلى تفسير الألفاظ اللغوية، والاستشهاد بالكلام المعترض.
فالأندلسيون أصلحوا كثيرا من الخلل الموجود في أدب العرب، وجاءوا بالمطولات في فنون كثيرة من الشعر والنثر، وأوجدوا فنونا مستحدثة، واتبعوا في الكلام شعورهم وإحساسهم القلبي، فطافوا على قرائهم بصحاف من ذهب، وأكواب فيها بعض ما تشتهي الأنفس، ونرى في توصيفهم المناظر الطبيعية، وتصويرهم وجوه الأرض مشابهة بأشعار الإفرنج كوصف حمدونه، وهي من بنات الأندلس الشواعر لوادي آش وهو في أيالة غرناطة قالت:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيب العميم
12
حللنا
13
دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظماء زلالا
ألذ من المدامة للنديم
تروع حصاه حالية العذارى
فيلمس جانب العقد النظيم
وقال أبو الفدا: لا بل الأبيات لأحمد بن يوسف المنازي، المتوفى سنة 437ه وزير أبي نصر أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر وترسل إلى القسطنطينية، ومر في بعض أسفاره بوادي بزاعا فأعجبه حسنه فقال فيه الأبيات. ووادي بزاعا في ولاية حلب وإليه ينسب أبو فراس الحمداني وغيره من الشعراء.
ولو طال على الأندلسيين الأمد في الحضارة، وتعاقبت الأدوار على اللغة، وتوالت عليها الانقلابات لأتوا بأحسن مما جاء به فيكتور هوكو وأميل زولا من محصول العقل ومجتنى الفكر البشري، ولكن عاجلهم الانقراض وفاجأهم الاستبداد فأمحلت عقولهم وسدت قرائحهم، وقد اجتمعت في باريس بوفد السلطنة المراكشية، وهو ذاهب لحضور الاحتفال بيوبيل فيكتوريا ملكة الإنكليز، فوجدت رئيس الوفد الذي هو السفير الكبير أميا.
ثم إن العارفين باللغات نصوا على أن لأدب اللسان العبراني تأثيرا على أدب العرب قبل الإسلام وبعده، وذكروا مشابهة وتواردا في الخواطر بين ما جاء في شعر امرئ القيس الذي يضرب فيه المثل إذا ركب، وبين ما ورد في سفر أيوب من التوراة في وصف الفرس، ونقل بعد الإسلام من العبرانية إلى العربية ما سمي بالإسرائيليات مثل التواريخ، وقصص الأنبياء، ومناقب الصالحين مما هو في التوراة والتلمود، وكان نقلها عن أحبار اليهود الذين أسلموا مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه وأمثالهما - رضي الله عنهم.
وقد رأينا فيما سبق كيف ترجم عن اللغة الفارسية والهندية كتاب كليلة ودمنة وما شابهه، وكيف نسج الأدباء على منواله واعتنوا بنظمه؛ مما كان له مفعول قوي في الحركة الذهنية والتصورات الأدبية والاختلاقات الفكرية. ومع ذلك فجميع ما ذكر لم يكن له كبير تأثير على الشعر العربي، ولم يغير شيئا من أساليبه القديمة، ودامت أساليب شعراء الجاهلية هي الهدف الذي يصوب نحوه كل شاعر بالعربية في قديم الزمان وحديثه.
فيتضح مما تقدم أن العرب لم يأخذوا من الأمم الذين ترجموا كتبهم، إلا العلم والحكمة فقط ولم يحفلوا بشعر اليونان، ولا برواياتهم الشخصية، ولا بشعر اللاتين وخطبهم، ولا ترجموا شيئا من ذلك، مع أنهم رأوا في كتاب المنطق لأرسطو ثناء طيبا على أوميروس الشاعر اليوناني، ولكنهم لم يقلدوه ولا اتبعوه ولا نهجوا منهجه في شيء، ولم يكن للكتب المترجمة تأثير على طبقة المتنبي، والمعري وابن هاني، إلا من جهة إفادتهم الآراء الفلسفية لا من جهة إفادتهم أساليب النظم وطرق الكلام.
ومن فحول هذه الطبقة أبو العتاهية، وكان في أيام المهدي، وهارون الرشيد، والمأمون وأكثر في أشعاره من ذم الدنيا لغدرها بأبنائها، ومن تذكير الغافلين بالموت ولم يشوق للآخرة ونعيمها، ومن لطيف شعره:
ألا أننا كلنا بائد
وأي بني آدم خالد
وبدؤهم كان من ربهم
وكل إلى ربه عائد
فيا عجبا كيف يعصى الإل
ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
ومن فلاسفة الشعراء أيضا ابن الشبل أبو علي حسين بن عبد الله البغدادي، المتوفى سنة 474ه، وكان له وقوف على كثير من علوم الحكمة والفلسفة، وله ديوان وقصيدة فلسفية يقول فيها:
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء
سوى هذا الفضاء به تدار
وعندك ترفع الأرواح أم هل
مع الأجساد يدركها البوار
إلخ.
ولابن سينا والرازي أشعار فلسفية، وقصيدة ابن سينا في النفس مشهورة ومنها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع ... إلخ.
وله أشعار بالفارسية أيضا يرد بها على من اتهمه بالكفر والإلحاد. ومن كلام أبي بكر الرازي محمد بن زكريا قوله:
لعمري ما أدري وقد آذن البلى
بعاجل ترحال إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجها
من الهيكل المنحل والجسد البالي
إلى غير ذلك مما أتى على هذا النسق من كلام أهل هذه الطبقة.
فإن لم يكن لفنون الأدب الأعجمية كبير تأثير على شعر العرب ونثرهم، فهل لفنون الأدب العربي تأثير على شعر الإفرنج؟
بينا أبحث عن جواب هذا السؤال، وإذ رأيت في جريدة طرابلس الشام عدد 462 مقالة في الزجل والتوشيح وكتاب العذارى المائسات، الذي استخرجه صاحب جريدة الأرز من سفر قديم العهد مخطوط بالحرف المغربي المثبج عثر عليه في خزانة كتب بدير القديس أنطونيوس للرهبانية الحلبية في رومة، وقال فيه: فتصفحته فإذا فيه طائفة كثيرة من الشعر الفائق مقطعات ومختارات، خرج بها ناظموها عن أوزان الشعر العربي المعينة، وأجزاء بحوره المفروضة، وأحكام أعاريضها وضروبها المطردة بيد أنهم أجادوا في ذلك منتهى الإجادة، فانتقيت مما عثرت عليه كل نفيس ... خدمة لأهل الأدب وإثباتا لسبق العرب إليها؛ وبعد أن ذكر صاحب المقالة تعريف الموشح، والزجل وعروض البلد، والمزدوج، والكاري، والملعبة، والغزل وغير ذلك قال:
وقد استحسن شعراء الإفرنج من الإسبان، والألمان، والطليان، والفرنساويين هذه الضروب من فنون الشعر العربي، ونسجوا على منوالها كما يرى ذلك من دواوين شعرائهم، ولا مراء بأن ذلك انتقل إليهم من العرب حيث لم يأنسوا بأنوار هذه المستحدثات، إلا في أواخر القرن الثالث عشر. والمتصفح لكتب العرب والإفرنج يرى شذرات من هاتيك العذارى، ولكن قل أن يراها مجتمعة في صفحات عديدة أو كتاب واحد مع أنها في درجة عليا من الحسن والجودة، وتطريب السامع. (انتهى).
فإيضاحا لمجمل هذا القول رأينا أن نبحث في منشأ الأدب الإفرنجي، وفي دخول العرب بلاد الإفرنج. •••
كانت فرنسا في قديم الزمان تسمى أرض الغول، وكان يسكنها قبائل الغولوا والسلت (القلت) من البربر المتوحشين، فلما استبحر عمران الرومانيين في رومة وقويت شوكتهم ساقوا العسكر من إيطاليا على سواحل فرنسا الجنوبية، واستولوا على إسبانيا لجياده الهواء والأرض فيها وشكلوا في أطراف مرسيليا، ومصب نهر الرون ولاية سموها بروفانس، ومعناها الأيالة وجعلوا عاصمتها مدينة إكس، وهي في شمالي مرسيليا، وبنوا على الحدود الإسبانية مدينة نربون بالقرب من مستنقع على شاطئ البحر، واتخذوها محطا لرحالهم في سفرهم إلى إسبانيا وإلى الحمامات المعدنية التي في جبال البيرينة.
وقبل الميلاد بخمسين سنة تعين يوليوس قيصر واليا على بروفانس، فوسع حدود الولاية وفتح أرض الغول، وألحقها بأملاك الدولة الرومانية فصارت الولاة ترسل إليها من رومة، ومعهم العسكر والمأمورون؛ فنظموا إدارتها وفتحوا طرقها، وعمروا فيها القلاع والحصون والمدن، ونشروا فيها شيئا من حضارتهم ومن لغة عوامهم وهي اللغة اللاتينية الدارجة، وأدخل المبشرون بالمسيحية الدين فيها فصارت اللاتينية لغة الدين والدولة، واستمرت بلاد الغول في أيدي الرومانيين نحو أربعمائة سنة، وحينما انقسمت دولة الرومان إلى شرقية مقرها القسطنطينية، وإلى غربية مقرها رومة وذلك في سنة 395م؛ كانت فرنسا في قسمة الغربية ضرورة غير أن تسبب الولاة، وضعف قوتهم العسكرية أباح لقبائل الجرمان التجاوز على أرض الغول والاستيطان فيها، كما استوطن من قبلهم قبائل القوط، والفاندال أرض إسبانيا وسموا الأندلس باسمهم، فقالوا: فاندالوسيا، أو أندالوسيا. ففي أوائل القرن الخامس للميلاد نزلت قبائل الويزي قوط في جنوب نهر لوار المار في وسط فرنسا، والمنصب في المحيط بالقرب من مدينة نانت، ونزلت قبائل البورغوند في وادي الرون وجبال جورا، ونزلت قبائل الفرنك في شمالي أرض الغول؛ أي في بلاد البلجيك. ونزلت الألمان على ضفاف الرين العليا، واستمرت حكومة الرومانيين محصورة وسط بلاد الغول على ضفاف نهر السين، غير أن القبائل النازلة سالموا الحاكم الروماني وقاتلوا تحت قيادته قبائل الهون الآسيوية، وكانت قد هجمت على غربي أوروبا وخربت البلاد وأراقت الدماء، فهزموا رئيسهم أتيلا سنة 450م أمام مدينة شالون التي على نهر مارن، فلمت قبائل الهون شعثها وجمعت جموعها وفاضت على الممالك الرومانية في إيطاليا كالسيل الجارف، واستولوا على رومة سنة 476م وأبادوا ملكها، فتفردت قياصرة الروم في القسطنطينية بالحكم على الرومانيين، واستقلت القبائل النازلة في أرض الغول، وكان أشجعهم وأقدرهم قبائل الفرنك فاستبدوا بالأمر وطرد رئيسهم قلوفيس الوالي الروماني، وقام مقامه في حكومة الغول، وتزوج بمسيحية من البورغوند فنصرته هو وقومه، ونصره الرهبان على قبائل البورغوند، والويزي قوط؛ فحكم عليهم وأسس سنة 481م الدولة التي سميت باسم جده «ميروفة»، فقيل لها: «ميروفينجيان» أي آل ميروفة، وهي أول دولة من الإفرنج ودام حكمها ثلاثة قرون. وحيث كان ملوك الإفرنج يقسمون الملك بين أولادهم انقسمت دولة الميروفينجيان إلى أقسام متفرقة، فضعفت قوتها وتضعضعت وأصبحت، أيام دخول العرب إليها، منقسمة إلى أربع ممالك يملكها ملوك من آل ميروفة: (1)
أوستراسيا؛ أي المملكة الشرقية، وهي عبارة عن الألزاس، واللورين وما جاورهما من ضفاف نهر الرين، ولم يكن لملكها من آل ميروفة نفوذ فيها، بل كانت الكلمة فيها لأعيانها وكبيرهم دوق أوستراسيا ومقرهم مدينة مج. (2)
نوستريا؛ أي المملكة الغربية، وهي على ضفاف السين إلى أورليان جنوبا وعاصمتها باريس، وكذا أورليان والمالك عليها من سلالة ميروفنجيان أصحاب الملك الشرعي على عموم فرنسا. (3)
بورغونيا، وهي على ضفاف الرون والسون، وعاصمتها ديجون. (4)
أكيتانيا، وهي ما بين جبال البيرينة ونهر غارون المنصب في المحيط بعد مروره بطولوز وبوردو، وكانت إذا ذاك تحت حكم الدوق أود الملقب بدوق أكيتانيا، وهو من نسل ميروفه ومقره طولوز، وتسمى الأيالة المحيطة بها لانغيدوق وما في جنوبها سبتيمانيا، كما يسمى القسم الذي على ساحل الأوقيانوس المحيط غسكونيا، وأطلق عليه في كتب العرب أرض غشكونية.
ففي سنة 687م تداخل دوق أوستراسيا المسمى ببين دريسنال في شئون مملكة نوستريا لغفلة ملوكها من آل ميروفة، وإهمالهم مصالح الملك حتى أطلق عليهم اسم الملوك البطالين لقعودهم وتخنثهم، وجعل ببين نفسه مشيرا للملك في باريس وأميرا للأمراء في المملكة على مثال ما حدث في عهد الخلفاء العباسيين، ثم انضمت إليهم بورغونيا فصار لدوق أوستراسيا نفوذ في أكثر المملكة، وهيأ الأمر لابنه شارل مارتل صاحب الوقائع مع العرب، ولحفيده من بعده، فحقد على ببين الأمراء من آل ميروفة لا سيما أود دوق أكيتانيا لتفوقهم عليه في الأصالة وشرف النسب.
وقبل دخول الرومانيين أرض الغول كان لسكانها من قبائل الغولوا، والسلت النازلين أرض بريطانية ألسن مخصوصة همجية، فلما انتشر بينهم عسكر الرومانيين، ومأموروهم ومن تبعهم من التجار والسوقة صاروا يتكلمون لغة عوام اللاتين وسوقتهم؛ أي اللاتينية الدارجة ويلوكون بها ألسنتهم كما يلوك الزنجي لسانه بالعربية أو السنغالي بالفرنساوية، فلما استولت قبائل الفرنك على أرض الغول، وطردوا منها والي الرومان اقتبسوا لسان أهلها، وما لديهم من الحضارة الرومانية وضموا إلى هذه اللاتينية المحرفة كلماتهم الفرانكية البربرية، فظهر من هذا الاختلاط لغة سميت «رومان»، وهي لاتينية سوقية تحرفت بلسان الغولوا، والسلت ثم امتزجت بلسان الفرانك، وحيث كان اللسان والدولة تابعين لقانون واحد في الترقي والانحطاط والانقسام انقسمت لغة رومان بانقسام الدولة إلى قسمين؛ أحدهما كان يتكلم به أهل الجنوب، ويسمى «أوق»، ومنه لسان بروفانسال المنسوب لأيالة بروفانس وهو أقرب للسان الطليان والإسبانيول منه إلى اللسان الفرنساوي الجديد، والثاني كان يتكلم به أهل الشمال ويسمى «أويل»، ثم انقسمت لغة أهل الشمال إلى لهجات متعددة غلبت على الجميع لهجة جزيرة فرنسا، وهي الأيالة التي عاصمتها باريس، وتعممت في الولايات الشمالية حتى صارت اللغة الفرنساوية الحالية، ثم انتشرت في الأيالات الجنوبية حينما استولى عليها سنة 987م هوغ قابت مؤسس الدولة الثالثة من دول الإفرنج في فرنسا.
ولم تزل الحكومة الفرنساوية تسعى في نشرها وتعميمها وإصلاحها إلى يومنا هذا، ومع ما تصرفه من العناية في تعليمها لم يزل في أهل القرى من لا يعرف منها الكلمة الواحدة، ونزلت ذات يوم قرية من قرى الفرنساويين في جبال البيرينة، فلم أستطع التفاهم مع أهلها حتى جاءني رجل من القرية المجاورة، وله تردد على الأمصار الفرنساوية ومدنها العامرة.
فالفرنساويون أخذوا لسانهم من قوم ليس لهم به قرابة جنسية، وسموا أنفسهم باسم قبيلة أجنبية من قبائل الجرمان الذين خرجوا من ألمانيا، وتغلبوا على فرنسا، وأسسوا فيها حكومتهم وسموها باسمهم، وتناسوا اسمها القديم وهو أرض الغول واسم سكانها الغولوا.
ولما دخل العرب فرنسا كان أهلها يتكلمون لغات كثيرة همجية غير مدونة؛ إذ كانت القراءة والكتابة باللسان اللاتيني الفصيح في فرنسا، وفي عموم أوروبا الغربية بما فيه إنكلترة. فمن تلك اللغات التي لم تدون حينئذ لغة الباسك، وكان يتكلم بها قبائل الواسكون سكان البلاد في قديم الزمان، ومنهم سميت إكيتانيا بأرض غسكونية، ولم يزل من المتكلمين بلسان الباسك نحو 120000 في فرنسا، ونصف مليون في إسبانيا. ومنها لغة بروفانسال، ولم يزل لها عدة لهجات (باتوا) يتكلم بها أهل القرى في الولايات الجنوبية وفي ضواحي مرسيليا، ومنها لغة بريتون وهي بقية لغة القلت أو السلت، ولم يزل من المتكلمين بها نحو مليون ونصف في شبه جزيرة بريطانيا غربي فرنسا، ومنها لغة فلاماند وهي نوع من الألمانية ولم يزل يتكلم بها نحو 165000 من سكان الحدود الشمالية. وغير ما ذكر من اللغات التي انقرضت بدون أن يبقى لها أثر في اللغة الفرنساوية كلغة أكيتانيا، أو بقي لها أثر فيما يسمونه باتوا من لغات أهل القرى؛ إذ لكل ناحية باتوا مخصوصة بها لا يفهمها أهل الناحية الأخرى بخلاف اللغة العربية الدارجة؛ فإن المرسيني، والإسكندروني، والبيروتي، واليافي، والإسكندري، والطرابلسي، والتونسي، والجزائري، والطنجي يفهم بعضهم بعضا بأدنى تأمل وأقل فكر مهما تحرفت كلماتهم، وكذا أهل المدن في داخل تلك السواحل، فلا يتعذر عليهم فهم لهجات بعضهم بعضا مع أنه لم يحصل عناية ولا همة في نشر اللغة العربية وتعليمها، بل الهمم مصروفة في تلك البلاد العربية لنشر غير العربية من اللغات الأعجمية كالفرنساوية، والإنكليزية، والطليانية ، والتركية. فبينما كانت فرنسا متفرقة الكلمة لغة وسياسة إذ دهما العرب واستولوا على أكثرها. •••
لما جلس الوليد بن عبد الملك بن مروان (ولد 48-96ه) سادس الخلفاء الأمويين والثالث من آل مروان، كانت ولاية إفريقية ملحقة بولاية مصر ، والعامل عليهما عبد العزيز بن مروان، فلما أتاه الحسن بن النعمان بالغنائم التي غنمها من البربر طمع فيه، فشكاه الحسن بن النعمان إلى الوليد، ففسخ عن مصر إفريقية وولاها موسى بن نصير، وكانت مملكة القوط في اختلال من استبداد رودريك بالأمر، وتغلبه على طليطلة عاصمة الملك، وظلمه في قبائل الغوط وتسلطه على أعراض بناتهم، فاستجار الإسبانيول بالعدالة الإسلامية واغتنم موسى الفرصة، وكتب للخليفة يستأذنه في فتح بلاد أطيب هواء من الشام، وأخصب أرضا من اليمن، وأعطر زهرا من الهند. وبعد استحصاله على إذن الخليفة سير طارق بن زياد بجيش من البربر، فاجتاز بحر الزقاق على المراكب من أضيق محل فيه، ونزل بساحل أوروبا عند صخرة هائلة كأنها الجبل فسميت باسمه، وقيل لها: جبل الطارق وقيل لمجمع البحرين المكتنفين بها: بوغاز جبل الطارق (جبل التار)، وكان ذلك سنة 92 للهجرة، وسنة 710م، وألف عبد الحق حامد مستشار سفارة لوندره رواية تشخيصية باللسان العثماني سماها طارق، وأبدع في نظمها ونثرها، وبين فيها هذا الفتح المبين، فانتصر طارق في محاربة وادي ليتة بالقرب من جزيرة قادس، ولحقه موسى بن نصير بجيوش من العرب وأشراف قريش، وفتحوا مالقة وإشبيلية، وهي على شاطئ الوادي الكبير، وقرطبة، وطليطلة عاصمة ملوك القوط، وهي على نهر باجة المسمى بنهر تاج، وظلوا سائرين حتى بلغوا أسفل جبال البيرينة الفاصلة بين إسبانيا، وفرنسا وفتحوا أستورغة، وهي في أسفل تلك الجبال. وهذه أول مرة رأى فيها القرشيون جبال البيرينة، وهم تحت قيادة موسى بن نصير وسموها «جبل البرنات» بكسر الراء؛ هذا من جهة الغرب.
وأما من جهة الشرق فسير الحجاج والي العراق جيشا عقد لواءه لابن عمه محمد بن القاسم الثقفي تجاوز به نهر السند وفتح الهند، وسير جيشا آخر تحت قيادة قتيبة بن مسلم تجاوز به نهر جيحون من خراسان، وفتح ما وراء النهر وتقدم حتى بلغ كاشغر، وأخذ الجزية من ملك الصين. وأصبح ما بين المشرق والمغرب تابعا للوليد، وهو منعم في قصره لم يخرج في غزوة، واستوثقت له الأمور ولم تتغلل عساكره المنصورة إلا في بلاد الترك، وهي في قيادة الحجاج وفي بلاد الروم، وهي في قيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك. وبلاد الترك هي تركستان وما بين بحر الخزر، وبحر خوارزم (بحيرة أرال) وما في شمالها من أراضي سيبريا، وكانت في حكم خاقان الترك كما هي اليوم في حكم قيصر الروس. وبلاد الروم هي بر الأناضول والروم إيلي، وكانت تابعة لقيصر الروم؛ أي لدولة الرومان الشرقية كما هي اليوم من أجزاء الممالك العثمانية، ومن حسن حظ الوليد توفقه لبناء المسجد الأقصى، ومسجد المدينة، وجامع دمشق، وفي كل بنيان منها دليل شاهد على حضارة ذاك الزمان، وترقي أهله في الصنائع والعمران.
ثم جلس على كرسي الخلافة أخوه سليمان (54-99ه) ابن عبد الملك بن مروان، وجازى قتيبة بن مسلم فاتح الشرق بما جازى به أخوه الوليد فاتح الغرب، وهو موسى بن نصير. وهكذا كانت الخلفاء تجازي فاتحي الممالك الإسلامية بأشنع مما جوزي به سنمار، فماتوا منكوبين قهرا لا يملكون شيئا مما جنته أيديهم من أموال الغنائم. وزادت نكبة موسى بن نصير بقتل ولده عبد العزيز مكافأة على حسن إدارته في ولاية إشبيلية. وكان موسى متأهبا للإغارة على الأمم التي بين جبال البيرينة وخليج القسطنطينية، وإدخالها جميعا في الإسلام كما دخلت أمم آسيا وأفريقية ولم يكن هذا الأمر على موسى بعزيز لوجود الاختلاف والتفرقة بين أمراء الإفرنج، وعدم النجابة في ملوكهم الملقبين بالبطالين، ولكن سوء تدبير الأمويين صده عن هذا العمل العظيم، ومكن الإفرنج في فرنسا مما لم يتمكن منه القوط في إسبانيا من الائتلاف والاتحاد وصد هجمات العرب.
وبسوء تدبير الخلفاء أيضا وعدم غرسهم المعروف في أهله، وعدم مكافأتهم المخترعين، والمكتشفين كما كانوا يكافئون الشعراء والمغنيين التحق البعلبكي مخترع النار اليونانية بقيصر الروم ، وأسر إليه كيفية عمل هذه النار، فأمر باصطناعها في معامل القسطنطينية برا وبحرا؛ لأن مسلمة بن عبد الملك أخا الخليفة اخترق بعسكر الإسلام بر الأناضول وعبر من مضيق الدردنيل المسمى «بوغاز چنا قلعه»، وطلع لأوروبا واتبع ساحل بحر مرمرة حتى وصل أسوار القسطنطينية، ووضع الحصار عليها كما حاصرها من قبل سفيان بن عوف الأزدي في خلافة معاوية سنة 48ه، واستشهد إذ ذاك 30 ألفا من أهل الإسلام وفيهم خالد أبو أيوب الأنصاري، ولم يزل ضريحه يزار في الحي المنسوب إليه على ساحل الخليج المسمى بقرن الذهب، وبينما كانت عساكر مسلمة تحاصر من جهة البر كان أسطول الإسلام المجهز في سواحل سورية ومصر من خشب أحراج لبنان راسيا في مياه القسطنطينية، فالذي منع العرب من فتح القسطنطينية هي النار اليونانية؛ لأنها أضرت بعسكر المسلمين وأحرقت مراكبهم، وكانت عدتها ألف وثمانماية مركب، والكبار منها عشرون مركبا أمام عاصمة الروم كأنها ألغاب من الصواري والكماة فيها كالأسود، فاحترقت بأجمعها ولم يعد منها للإسكندرية سوى خمسة مراكب؛ فالمخترع لهذه النار السيالة - على ما ذكره المؤرخ الإنكليزي جيبون - هو رجل من بعلبك يسمى كالينيقوس كان يصطنعها من النفط، والكبريت، وفحم الصنوبر بطريقة مخصوصة ومقدار معين، فكانت تشتعل في الماء والهواء، وتدمر ما تنصب عليه؛ ولذا سميت أيضا النار البحرية.
وما زال العسكر في الحرب يعولون عليها ويتقون ضرها إلى أن اكتشف العرب على ما يظن بارود المدافع بإضافتهم إلى مسحوق الفحم والكبريت ملح البارود، ونقله عنهم في القرن الثالث عشر للميلاد روجر باكون الإنكليزي (1214-1294م) وغيره من كيماويي الإفرنج، واشتهر استعمال البارود في المدافع سنة 1346 في المحاربة التي وقعت بين فرنسا وإنكلترة في قريسي، وهي في شمال باريس على نهر صوم، فكان ملك الإنكليز إدوارد الثالث يقود العساكر هو وابنه البرنس دوغال، وكانوا مسلحين بالقوس والنشاب ومعهم بعض المدافع التي ظهر استعمالها في ذاك الوقت، فغلب الإنكليز مع قلة عددهم بسبب الانتظام والترتيب العسكري، فهذه أول محاربة في أوروبا استعملت فيها المدافع، ولكن المظنون أن العرب استعملوها قبل هذا التاريخ أي في أواخر القرن الثالث عشر للميلاد في محاصرتهم جزيرة صقلية سنة 672ه؛ وعلى كل فلا ندري كيف ترك هذا الكيماوي البعلبكي خدمة الخلفاء الأمويين والتحق بقيصر الروم، وفي الدولة الأموية في ذاك العصر من يحرص على الكيمياء ، وعلى تفرعات مسائلها مثل خالد وجعفر وجابر، ومن أخذ عنهم.
توفي سليمان بن عبد الملك مرابطا في مرج دابق من أرض قنسرين وأخوه مسلمة منازل القسطنطينية، ثم جلس عمر (61-101ه) ابن عبد العزيز بن مروان، وأبقى ابن عمه مسلمة على حصار القسطنطينية، وتجاوزت عساكر الأندلس إلى وراء جبال البيرينة من أرض فرنسا ليحققوا آمال موسى بن نصير في الذهاب برا إلى القسطنطينية. وكانت مدينة نربون تفوق مرسيليا في العمران، وتتصل في البحر الشامي بترعة طولها ثماني كيلومترات، فتدخلها المراكب كما تدخل اليوم حاضرة تونس الخضرا، فحاصرها علقمة بجيوش المسلمين من البر والبحر، وامتد الحصار سنتين لتحصنها بالمستنقعات وبالقلاع الرومانية.
ثم جلس يزيد (76-105) ابن عبد الملك بن مروان تاسع الأمويين وسادس المروانيين، وفي أيامه دخل علقمة بالسيف إلى نربونه فرممها وزاد في تحصينها، واتخذها مركزا لحركاته العسكرية في فرنسا وصار العرب يسمونها أربونة، وافتتحوا ما حولها من القرى والقصبات التي في أرض سبتمانية، وظلوا سائرين حتى دخلوا أيالة لانغيدوق وألقوا الحصار على مدينة طولوز (طلوشه)، وكانت إذ ذاك مقر دوق أكيتانيا المسمى أود، فخرج لهم الدوق بجيوشه من الويزي قوط، والواسكون، والفرانك واقتتلا قتالا شديدا قتل فيه كثير من الجانبين، وكان علقمة يستشيط غيرة وحمية ويكر بنفسه ويشجع الأبطال بكلامه، فأصابه سهم قضى به نحبه وافترق الجمعان، وكان ذلك في شهر مايس سنة 721م وسنة 103ه، فاستلم قيادة الجيش عبد الرحمن وكان من ذوي الحمية والاقتدار، ومن أصحاب عبد الله بن عمر، وانقلب راجعا إلى ضواحي نربون وإلى مصب نهر الرون.
وفي سنة 105ه أو سنة 724م توفي يزيد بن عبد الملك حزنا على حبابة، فجلس على كرسي الخلافة أخوه هشام (70-125ه) ابن عبد الملك بن مروان، وعين واليا على الأندلس عنبسة فأراد الأخذ بثأر سلفه علقمة، وتجاوز بالعساكر جبال البيرينة ونزل أيالة سبتمانية وهي اليوم ولاية البيرينة الشرقية، وولاية أود وما جاورها، وافتتح مدينة قرقسون وسموها «قرقشونة»، وهي في غرب نربون وعلى سكة الحديد الواصلة بين مرسيليا، وطولوز، وبوردو، وتقدم عنبسة بالعسكر فجاءه أهل مدينة نيم ، وهي في الشمال الغربي من مرسيليا وطلبوا منه الأمان، فأمنهم ودخل مدينتهم بالصلح وسموها نيمة، وأخذ أبناء أعيانها رهنا على طاعة آبائهم وحفظهم في برشلون (برشلونة)، وهي على ساحل البحر الشامي في أيالة قطالونيا المشرفة عليها جبال البيرينة، وتقدمت جيوش عنبسة على ضفاف الرون حتى دخلت مملكة برغونية وغزت مدينة أتون سنة 107ه، وسنة 725م، وفي هذه السنة قتل عنبسة في إحدى المعارك، وبلغ ما غنمه المسلمون في زمن ولايته ضعف ما غنموه في السنين السابقة من بلاد فرنسا، واستلم قيادة الجيش بعده حديثة ورجع بالعسكر إلى الحدود الإسبانية، فلاقى بها المدد الذي بعث به المرابطون في الأندلس فكر بهم على بلاد الإفرنج، وألقى الرعب في قلوب أهلها، وأوغل في الأرض الشمالية وفي مملكة برغونية.
ويزعم مؤرخو الإفرنج أن العرب أكثروا في هذه الحروب من إراقة الدماء، وهدم البناء، وإحراق الكنائس، والأديرة وتخريبها وإتلاف الأموال وغصبها، ومنهم من يعترف بأن العرب أخف وطأة على بلادهم من قبائل الهون الآسيوية الذين أتوهم من الشمال الشرقي تحت قيادة أتيلا، ودمروا بلادهم تدميرا.
ولم يزل الفرنساويون ينسبون إلى العرب تخريب كل خرابة يشاهد أثرها في الأراضي الجنوبية من فرنسا، ويظهر من تواريخ الإفرنج أن العرب بعد فتحهم هذه البلاد قسموها إلى أيالات، وجعلوا الأرض التي على جانبي البيرينة في فرنسا، وإسبانيا من جهة البحر الشامي المتوسط ولاية اسمها سيردانية، وهي اليوم عبارة عن قطالونيا في إسبانيا وعن ولاية البيرينة الشرقية في فرنسا، وكان الوالي عليها قائدا من البربر مثل طارق بن زياد يسميه الإفرنج مونيزا، فاتفق الدوق أود مع هذا القائد المسلم وزوجه بنته وعاهده على عدم الغزو في بلاده، فأصبح في جبال البيرينة حاجزا أمام غزاة المسلمين، فاغتاظوا من هذا الاتفاق وأظهروا ميلهم لعبد الرحمن الذي كان استلم قيادة الجيش بعد قتل علقمة.
وكان عبد الرحمن من أصحاب عبد الله بن عمر متخلقا بأخلاق الخلفاء الراشدين، وأكابر الصحابة والتابعين حريصا على إعلاء كلمة الله، وعلى نشر الدين في جميع أقطار الأرض، فكان يجتهد في تحقيق آمال موسى بن نصير والاستيلاء على أوروبا والوصول منها إلى القسطنطينية، فعينه الخليفة هشام واليا على الأندلس سنة 112ه، أو سنة 720م فدخل بالعسكر مدينة بويسردا وهي عاصمة ولاية سيردانية، وقتل القائد المتفق مع أود وبعث بزوجته وهي بنت الدوق إلى دمشق، وقيل: بل انتحر هذا القائد المسمى مونيزا خزيا وحياء، وكانت مدينتا نيم ومون بيليه؛ تابعتين للمسلمين فتقدم عبد الرحمن بالعسكر إلى ضفاف الرون وعبر إلى شاطئه الأيسر، وألقى الحصار على مدينة آرل فأنجدها الفرنساويون بمفرزة من العسكر، وحميت نار الحرب وكثر فيها عدد القتلى حتى امتلأ النهر بأجسادهم، ثم سار على ضفاف نهر الرون صاعدا في الشمال وألقى الحصار على مدينة أفينون وافتتحها، وهذه المدينة هي التي صارت في القرن الرابع عشر للميلاد مركزا للبابوية بدلا عن رومة، واستمرت تابعة للباباوات إلى ما بعد الانقلاب الكبير؛ أي لسنة 1791م.
وكانت فرنسا إذ ذاك في حكم الملوك الذين هم أواخر سلالة ميروفينجيان، ويلقبون لبطالتهم وعطالتهم «فينيان» أي الذين لا يعملون شيئا بل كانوا يملكون بلا حكم ولا قدرة ويموتون بلا عز ولا نصرة كما وصفهم المؤرخون.
وكانوا يقيمون في قصر بجوار مدينة قومبينيه، وهي في شمال باريس وفيها حصلت ملاقاة قيصر الروس في زيارته الأخيرة لفرنسا، فكانوا كأنهم في حبس لا يأتون عاصمة الملك إلا مرتين في السنة مرة في شهر مارس، وأخرى في مايس؛ لحضور المجلس المؤلف من أعيان الإفرنج، أو لملاقاة السفراء فإذا انعقد المجلس أركب الملك في كارة يجرها ستة رءوس من فحول البقر لا من عدم وجود الخيل والبغال؛ وإنما للراحة وعدم الانزعاج بكثرة الحركة والجري، وأتى به إلى المجلس ليصدق على المقررات التي يتخذها ناظر السراي أو أمير الأمراء، وهو في ذاك التاريخ دوق أوستراسيا المسمى شارل مارتيل، وكانت بقية الأمراء أشبه بالمستقلين في إماراتهم يبغضون بعضهم بعضا وكلمتهم متفرقة، ولو دخل عليهم موسى بن نصير سنة 92ه حينما افتتح إسبانيا لامتلك أوروبا بأجمعها؛ ولأدخل جميع القبائل الجرمانية الوثنيين في الدين الإسلامي.
غير أن الإفرنج لما سمعوا بظهور العرب ومحاصرتهم القسطنطينية، وكانوا يترقبون ورودهم من شرق أوروبا فلما رأوهم نازلين عليهم من جبال البيرينة أخذهم الرعب فانضموا بأجمعهم إلى أمير الأمراء شارل مارتيل، وكان أشدهم بأسا وأدهاهم سياسة وأحسنهم رأيا وعقلا، فلم يدر عبد الرحمن بأن الوقت فات على فتح بلاد الإفرنج، وأخذ يتأهب لقتالهم وحشد العساكر من الشام، ومصر، وإفريقية، والمغرب وسار بهم من جهة المحيط لا من جهة البحر الشامي المتوسط على سابق العادة في دخول غزاة المسلمين لفرنسا ومر بهم من رونسيفو، وهو ممر ضيق في جبال البيرينة تمر منه جيوش الفاتحين في قديم الزمان وحديثه، فمنه مر هنيبال القائد القرطجني، ومنه مرت جيوش شارلمان حينما قاتل العرب، ومنه مرت جيوش نابوليون حينما فتح إسبانيا، ومنه مر فيكتور هوكو في ذهابه لإسبانيا وإيابه منها، فممر رونسيفو واقع بين مدينتي بامبلونه في إسبانيا، وبايون في فرنسا وهي التي سماها العرب «ببونة»، ويقطع المسافر منها بالقطار ستين كيلومترا إلى منتهى الحدود الفرنساوية، ثم يسير على الخيل والعجل 15 كيلومترا أخرى فيصل حلق الوادي المسمى رونسيفو، فسار عبد الرحمن في هذا الطريق وخرج لأرض غسكونيا التي سموها «غشكونية» وهي سهول واسعة كثيرة المياه والأحراج، والقسم الساحلي منها أشبه بتهامة من جزيرة العرب؛ ولذا سماها بعض الجغرافيين تهامة الإفرنج. غير أن الوديان التي تسيل في تهامة العرب تبتلعها الرمال المحرقة، وأما المياه التي تسيل في رمال تهامة الإفرنج التي تدعى «لاند» فتروي أرضها وتكثر عشبها وأشجارها.
فظل عبد الرحمن سائرا في هذه الأراضي المخصبة آمنا على عسكره ودوابه من العطش؛ حتى بلغ نهر غارون المار لطولوز وبوردو، وعرضه ربما يقرب في بعض الأماكن من عرض النيل، وطول الجسر الذي عليه في مدينة بوردو 487 مترا، فهو أطول من جسر القاهرة الذي على النيل نحو ماية متر. فلقي عبد الرحمن على ضفاف النهر الدوق أود بما جمعه في العسكر من قبائل الواسكون، وبقية أهالي أكيتانيا وانتشب القتال بين الفريقين، وكانت معركة شديدة انجلت عن انهزام الدوق وعسكره، وتحصنهم في قلعة بوردو فلحقهم عبد الرحمن وحصر المدينة، وفتحها بالسيف وأباح الغزو فيها لعسكره فكانوا يسمونها مدينة «برغشت»، وأصبح ما بين مصب نهر غارون في المحيط، وما بين مصب نهر الرون في البحر الشامي دارا للإسلام تلقن فيه الشهادة ويعلم القرآن، وهذا القسم العظيم من أوروبا قد أصبح اليوم جزيرة بسبب قناة الجنوب التي أنشأها الفرنساويون، ويسمونها أيضا قناة لانغيدوق باسم الأيالة القديمة، والبضاعة الواردة من البحر المحيط تدخل نهر غارون وتمر ببوردو، ثم تدخل هذه القناة عند طولوز على مراكب مخصوصة تسير موازية لنهر أود حتى تخرج في شمال نربون للبحر الشامي.
وهم يتحدثون اليوم في توسيع هذه القناة وجعلها صالحة لسير السفن الكبيرة لتمر منها، وهي آتية من قنال السويس وتستغني عن المرور في جبل طارق والطواف حول إسبانيا.
فانتشر خبر فتح بوردو في بلاد الإفرنج، ودخل الرعب في قلوب الناس، وفرح أكثرهم بفشل الدوق أود لمظالمه؛ لأن المظلومين من الأهالي يفرحون دائما بنكبة الجبابرة المستبدين، الذين يحكمون فيهم ولا يراعون حقوقهم، ويسومونهم أنواع العذاب لمنافعهم وأغراضهم؛ ولذا كان الكثير منهم يهرعون لعبد الرحمن ويشوقونه للدخول في بلادهم، وإجراء العدالة الإسلامية فيما بينهم، أما الدوق أود فلما رأى ذهاب ملكه هضم نفسه، واستجار برقيبه شارل مارتيل، وطلب نصرته رغم بغضه إياه؛ لأن الدوق أود، وإن لم يرق إلى رتبة ملك إلا أنه كان مستبدا في أكيتانيا كالملك يفعل فيها ما يشاء ويختار، وهو ذو أصالة، وينتسب إلى قلوفيس مؤسس سلالة ميروفينجيان صاحبة السيادة والحق الشرعي في الملك على قبائل الإفرنج وعموم فرنسا، فأصالته كانت فائقة على أصالة شارل مارتيل؛ لأن شارل لم يولد من زوجة شرعية، وإنما زنى بأمه ببين دوق أوستراسيا فولدته وكبر حتى خلف والده في مسنده، وتغلب على ملوك واستراسيا، ونوستريا، وبورغونيا من آل قلوفيس حفيد ميروفة، وكان في الظاهر أمير الأمراء وناظر السراي الملوكية، وفي الباطن صاحب الأمر والنهي في عموم فرنسا سيما بعد استيلاء العرب على مملكة أكيتانيا.
فلما استجار الدوق أود بشارل أجابه: «دعهم الآن فإنهم كالسيل الجارف لا يصطدمون بشيء إلا أبادوه، وفيهم حمية تغنيهم عن التدرع بالدروع، وفيهم شجاعة تكفيهم عن التحصن في داخل القلاع، ولا يزالون على ذلك إلى أن تمتلئ أيديهم بأموال الغنائم، فإذا تنعموا بنعيم الدنيا وذاقوا لذائذ الحياة وقع الطمع في رؤسائهم، فانقسموا وتفرقوا فحينئذ نهاجمهم ونخرجهم من ديارنا.»
وكان الأمر كما قال، فإن عبد الرحمن بعد فتحه بوردو رأى الأهالي مائلة إليه، ووعدوه بالتسليم والانقياد وشوقه بعض رؤسائهم إلى فتح تور وبوانيه لما فيهما من الأموال والخيرات؛ لأن البلاد لم تكن في ذاك الوقت غنية ومعمورة كما هي اليوم، وإنما الأموال كانت مدخرة في الكنائس، والأديرة، وقصور الحكام الجبابرة، فتجاوز عبد الرحمن بالعسكر نهر غارون ووطئ بخيله ورجله تلك الأراضي الخصبة، والكروم التي يعصر فيها أحسن خمر في الدنيا، وعبر نهر دوردونيا وهو يجتمع في نهر غارون بقرب بوردو، ويسميان حينئذ نهر جيروند كما يجتمع الفرات، ودجلة ويقال لمجتمعها: شط العرب. ويصب لاجيروند في المحيط الغربي عند مدينة روايان الشهيرة بحماماتها البحرية، والتي ينسب إليها سمك روايان المشابه للسردين. وتسمى ضفة لاجيروند اليسرى من بوردو إلى البحر أرض ميدوق، وفيها شاتو لافيت، وشاتو لاتور، وشاتو مارغو وجميع كروم العنب والقصور التي يعصر فيها أطيب الخمر، وتتلى أسماؤها المتنوعة على الزجاجات التي تباع في أوتيلات الأزبكية، وتفتح على موائد أعاظم الرجال، وعلى شاطئ نهر غارون قبل دخوله بوردو أرض سوتيرن، وفيها شاتو أبكيم وبقية القصور التي يعصر فيها الخمر الأبيض، الذي يشرب في أوائل الطعام عند أكل لحوم السمك.
ولما وصل عبد الرحمن مدينة أنكوليم وجد جيشا من الإفرنج، ففرق جمعهم ودخل المدينة منصورا ظافرا ، وفي غربيها مدينة كونياك المنسوب إليها خمر الكونياك المعروف، وظل عبد الرحمن سائرا بعساكره المظفرة في تلك المروج والغابات الكثيرة المياه، وكانت كجنات تجري من تحتها الأنهار بالنسبة لصحاري أفريقية ولجزيرة العرب، والفرسان ترتع وتلعب على خيولها ومعهم نساؤهم وأولادهم، حتى وصلوا مدينة بوانيه ففتحت لهم أبوابها، ويزعم مؤرخو الإفرنج أن العرب سلبوا ما في كنيستها من أواني الذهب والفضة والأقمشة المزركشة، والمنصفون من هؤلاء المؤرخين يعترفون للعرب بالعدل والحق، والرفق بالمغلوبين. ثم عبر عبد الرحمن نهر فينا المار بأيالة فينا وهي التي مركزها بوانيه بخلاف فينا عاصمة النمسا التي حاصرها الأتراك، وأقاموا عساكرهم المظفرة على أبوابها. وفي جنوب أيالة فينا أيالة أخرى يقال لها: فينا العليا ومركزها ليموج، وما زال عبد الرحمن يتقدم حتى وصل مدينة تور وهي على نهر لوار المنصب في المحيط، وألحق أكثر من نصف فرنسا بممالك الدولة الأموية الحاكمة إذ ذاك على الهند وما وراء النهر إلى كاشغر، والصين، وتركستان، وكان الفاتح لها سنة 119ه أسد بن عبد الله القسري، فإنه دخل بغزاة المسلمين بلاد الترك، وقتل ملكهم خاقان وغنموا شيئا كثيرا.
فمنتهى الحدود التي وصل إليها العرب في أوروبا، هي نهر لوار ومدينة تور وفي شرقيهما مدينة ديجون ثم مدينة بزانسون، فالخط المار بهذه النقط يقسم فرنسا إلى قسمين شمالي وجنوبي، والجنوبي بأجمعه دخل في ملك المسلمين، وأقاموا في بعضه قليلا وفي بعضه كثيرا، واستسلموا كثيرا من أهله وتزوجوا ببناتهم وأعقبوا منهم، ولم يزل لأهل الجنوب من الفرنساويين شبه بالعرب في سيماء الوجوه.
قال المؤرخ الإنكليزي جيبون في ذكر حوادث سنة 742م: «تقدم العرب في أوروبا أكثر من ثلاثمائة مرحلة
lieues
من صخرة جبل الطارق إلى مصب نهر لوار كلها مظفرات، ولو تقدموا ثلاثماية مرحلة أخرى لوصلوا حدود بولونيا في شرق أوروبا أو جبال أيقوس من إنكلترة ولسهل عليهم عبور نهر الرين المار بألمانيا، كما سهل عليهم عبور الفرات والنيل، ولكان الأسطول العربي من جهة أخرى دخل نهر التميس بلا محاربة بحرية - لعدم وجود أسطول إنكليزي في ذاك الوقت يضاهي أسطول مصر، وسورية أو أسطول تونس - ولرأينا اليوم علماء يفسرون القرآن في مدارس أوكسفورد، ويفقهون أفراد أمة الإنكليز المختتنين، ويشرحون لهم وهم مرتفعون على كراسي الوعظ معجزات النبي العربي، فالذي خلص العالم المسيحي من ذلك هو ابن الزانية شارل مارتيل ناظر سراي الملوك الفرنساويين من سلالة ميروفينجيان.» ا.ه.
وذلك أن شارل المذكور لما رأى المسلمين لم يبق بينهم وبين باريس إلا 234 كيلومترا حشد إليه العساكر الجرارة من القبائل الشمالية الألمانية، وهم يمتازون عن سكان الأيالات الجنوبية في فرنسا بطول القامة، وزرقة الأعين، وشقرة اللون وبالصبر في الحرب والمهارة في الطعن والضرب، ولم يزالوا متصفين بهذه الأوصاف إلى يومنا هذا؛ ولذا اختار مقام السرعسكرية منهم المعلمين للمكاتب الحربية في الأستانة مثل غولج باشا، وقبله مولتكه باشا مرتب حركات الجيش في حرب السبعين الفرنسوية.
وكان عبد الرحمن نازلا بالعسكر أمام مدينة تور في الوادي الذي يجري فيه نهر لوار، ويحيط به سلسلتان من التلال تتقاربان كلما قربتا من المدينة، فبغت شارل مارتيل المسلمين وهم في هذا الموقف الحرج، وحاربهم من أعالي التلال، وانتشب القتال بين الفريقين، وأظهر عبد الرحمن من المهارة في حركات الجيش، وسوق الفرسان ما حير أخصامه وانجبر أخيرا على الخروج من ذاك الموقع الضيق والرجوع إلى سهول بواتيه وفيها التقى الجمعان، واصطف الجيشان في محل لم يزل يقال له إلى يومنا: (موسه-لا-بانايل)، ويراه المسافر من بوردو إلى باريس في القطار الحديدي على بعد عشرين كيلومترا عن بواتيه شمالا؛ أي على الضفة اليمنى لنهر كلين المنصب في نهر فينا المنصب في نهر لوار، واستمر الفريقان بضعة أيام على أهبة الحرب والطعان، وشارل لا يجسر على الهجوم خدعة منه وحذرا، ففتح عبد الرحمن الحرب وأنزل للميدان مفرزة من فرسانه، ودام القتال ستة أيام والنصر فيها للمسلمين، وفي اليوم السابع هجمت عساكر شارل هجمة اليأس والقنوط على مكان الحريم والغنائم، فانشغلت أفكار المسلمين على أموالهم، وعيالهم وقتل عبد الرحمن على رواية مؤرخي الإفرنج بعد مقاومة شديدة، وكان ذلك في شهر تشرين أول سنة 732م وسنة 114ه، ورجعت بقية السيوف من أهل الإسلام لا عن طريق رونسيفو بل عن طريق طولوز، وقرقسون، ونربون لرسوخ قدمهم في تلك الجهات.
ولحقهم شارل مارتيل واسترجع مدينة أفينيون، ولم يقدر على استرجاع نربون فهدم ما في شمال نهر أود من الحصون والقلاع، وصيره قفرا لكيلا يطمع فيه العرب، وقد نظم أحد شعراء الفرنساويين المسمى «قارل دوسنت غارد» في حدود سنة 1684 ديوانا عنوانه «إخراج العرب من فرنسا»، وجعل فيه البطل المغوار في هذه الحروب شيلوبرانداخ شارل مارتيل، فنكت عليه الشاعر بوالو وجهله على مدحه بطلا لم يحقق التاريخ وجوده بين أبطال تلك الحروب.
فاشتهر شارل في البلاد وصار الناس يتحدثون به في فرنسا، وإيطاليا، وعموم أوروبا ويروون عن شجاعته أحاديث ملفقة، ويزعمون أن بلطته أو فأسه المسمى مارتو أو مارتل قتل ما يربو على ثلاثمائة ألف من العرب، غير أن واقعة بواتيه على التحقيق لم يكن فيها تغلغل كبير على عساكر الإسلام، ولو بقي في شارل بعدها قوة لأخرجهم من ناربون ورمى بهم إلى ما وراء جبال البيرينة، وحصن منافذ الجبال وجعلها مانعة لهجومهم ولكنه لم يستطع ذلك، واستمر العرب في جنوب فرنسا حقبة من الزمان سيما في أطراف مارسيليه، ولم نزل نشاهد في متحف نربون كثيرا من آثارهم وأوانيهم الخزفية، وإليهم تنسب «جبال المور»
14
وهي في شمال طولون ومارسيليه، كما نسبت إليهم قسطل سارازين، وهي مدينة بين بوردو، وطولوز، والقسطل هو الحصن أو القلعة، ولم يزل في ضواحي القدس قرية يقال لها: القسطل، فقسطل سارازين معناها حصن العرب وقيل غير ذلك، والله أعلم.
شارل مارتيل يحارب العرب في فرنسا.
وكان هشام بن عبد الملك عاشر الخلفاء الأمويين قد عين على إفريقية عبيدة بن عبد الرحمن بعد استشهاد واليها بشر بن صفوان الكلبي في فتح صقلية، وهي جزيرة سيسليا التابعة اليوم لإيطاليا، غير أن ولاية عبيدة لم تطل بل عزل ونصب مكانه عبيد الله بن الحبحاب، وهو الذي زين تونس بالمباني الفاخرة وأنشأ في ساحلها دار صناعة للسفن؛ أي (ترسانة) كما يسميها الأتراك، أو «شانية» كما يقول الإفرنج، فلما بلغ عبيد الله وفاة عبد الرحمن في واقعة بواتيه بعث واليا على جزيرة الأندلس عبد الملك بن قطن، فأصلح حال الجيش وزوده وساقه على فرنسا سنة 117ه سنة 735م، فاستردوا الأيالات الجنوبية التي في أطراف نربون وقرقسون وعلى ضفاف أود، وعبروا نهر الرين وضبطوا أيالة بروفانس بأجمعها سنة 120ه، أو سنة 737م من حاكمها مورونت ومركزه إكس في شمال مرسيليه، وظلوا سائرين على سواحل البحر الشامي حتى دخلوا إيطاليا، وأغاروا فيها على مملكة لومبارديا التي عاصمتها ميلان فاتفق ملكها لوي بران مع المتغلب على ملك الإفرنج، وهو شارل مارتيل دوق أوستراسيا وناظر السراي الملوكية، وأرجعا العرب إلى قرب جبال البيرينة سنة 122ه أو سنة 739م، ولم يقدرا على إخراجهم من نربون ولا من قرقسون.
ثم إن عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقية عين عقبة بن الحجاج على الأندلس، فحضر إليها واستلم زمام الأمر فحصلت فتنة، وتغلب عليه عبد الملك بن قطن الفهري فذهب عقبة بن الحجاج إلى قرقسون في فرنسا، وكانت عامرة بالمسلمين وبقي هناك إلى أن مات ودفن في تربة قرقسون. فغضب هشام وعزل عبيد الله وولى مكانه كلثوم بن عياض واليا على إفريقية وبعث معه اثني عشر ألف فارس من فرسان الشام يقودهم بلج بن بشر، فقتل كلثوم في المغرب الأقصى في واقعة جرت له مع البربر، ودخل بلج بن بشر بعسكره جزيرة الأندلس، وقاتل عبد الملك بن قطن وتولى مكانه، فبعث هشام لإفريقية حنظلة بن صفوان الكلبي والي مصر فجاء القيروان سنة 124ه أو سنة 741م، وأصلح ما فسد في قبائل إفريقية والمغرب الأقصى، وبعث أبا الخطار الكلبي واليا على الأندلس فورد إليها ونزل قرطبة وفرق عساكر الإسلام في البلاد، فأنزل الدمشقيين في البيرة (ألويره)، وهي الولاية التي عاصمتها غرناطة وتكثر فيها المياه والغوطات والرياض، ومدينة غرناطة مبنية على ثلاث تلال يمر من وسطها نهر حداره (دارو) المنصب في نهر شنيل، وهو ينصب في الوادي الكبير (غواد الكفير) المار بإشبيلية؛ ولذا دعاه العرب نهر إشبيلية.
وفي غرناطة قصر الحمراء الشهير، وغرناطة في جنوب مادريد وعلى خط الطول المار منها، وأما خط الحديد بينهما فمسافته 696 كيلومترا؛ لذا أطلق على البيرة وغرناطة دمشق، وأنزل الحمصيين في إشبيلية (سفيلة) ويمر منها الوادي الكبير وفيها القصر المشهور عند الإفرنج باسم «القازار»، وكان دار الملك بني عباد؛ ولذا أطلق على إشبيلية حمص، وأنزل أهل قنسرين على ضفاف الوادي الأبيض (غواد لفياد) المنصب في البحر الشامي قرب بلنسية فأطلق على تلك النواحي قنسرين، وأنزل أهل الأردن في مالقة (مالاغة)، وهي على ساحل البحر الشامي شرقي جبل طارق ويمر منها «وادي المدينة»، وإليها ينسب الخمر المعروف باسم «مالاغة»، وأنزل أهل فلسطين في سيدونيا؛ أي مدينة شريش (أكسيرس) وما جاورها، وهذه المدينة بالقرب من قادس على مسافة 22 كيلومترا عن البحر المحيط، وإليها نسب كثير من الأدباء فقيل لهم: الشريشي، ومنهم شارح المقامات، وكتابه مطبوع في مصر وينسب إليها اليوم الخمر المشهور باسم «شري» و«إكسبرس»، وفيها فاز طارق بن زياد على رودريك ملك القوط وشتت عساكره وأخذ ملكه. وأنزل أبو الخطار الكلبي المصريين في تدمير، وهي الأيالة المشتملة على مرسية، وهي على نهر سفورة تبعد عن ساحل البحر الشامي المتوسط بين البحور 35 كيلومترا، وبجانبها سهول هوثرتة المشابهة لوادي النيل في بركة المحصول وقوة الإنبات؛ ولذا أطلق عليها مصر. ولم يزل فيه بقايا الترع العربية والقنوات، وبينما كان المسلمون في الأندلس ينظمون شئونهم ويستعدون لفتح بلاد الإفرنج،
15
ونشر الدين الإسلامي فيها، وإذ ظهر الفساد في دمشق عاصمة الممالك الإسلامية ودار خلافتها، واختلت أمور الدولة بعد وفاة هشام وجلوس الوليد (84-126ه) ابن يزيد بن عبد الملك بن مروان حادي عشر خلفاء بني أمية، وجلس بعده في تلك السنة يزيد (80-126ه) ابن الوليد بن عبد الملك ثم أخوه إبراهيم، ثم رابع عشر خلفاء بني أمية وآخرهم وهو مروان الحمار (70-132ه) ابن محمد بن مروان بن الحكم، ولم ينتظم الأمر ولا لواحد منهم بعد موت هشام، ولا سكنت الفتن في أيامهم؛ ولذا لم تتقدم الفتوحات في بلاد الإفرنج. (1) داخلية أوروبا بعد رجوع العرب عنها
أما فرنسا فاستيقظت بسبب هذه الحروب من غفلتها، واجتمعت كلمتها على شارل مارتيل ناظر سراي الملوك من آل قلوفيس حفيد ميروفه، فاستبد بالأمر وصار الآمر الناهي في المملكة، وزال نفوذ الملوك من سلالة ميروفينجيان، وأصبحوا كالخلفاء العباسيين في آخر أمرهم، ولم يستطع شارل مارتيل أن يملك على الفرنساويين لشدة ظلمه وسوء سيرته وتعديه على أملاك الأديرة والرهابين، ولكنه هيأ الملك لولده ولحفيده من بعده، وأما هو فلم يرض بعمله المسلمين ولا النصارى؛ لأنه ضبط أوقاف الأديرة، والكنائس ليجهز العساكر ويقوم بنفقات هذه الحروب العظيمة، فأغضب بذلك الأساقفة والرهابين المتمتعين بهذه الأموال، فلم يغفروا له هذه السيئة، وأغمضوا العين عن جميع حسناته عليهم وحكموا في مجتمعهم الرهباني (قونصل) في فرنسا بكفره وخلوده في نار جهنم، ورآه أحد أوليائهم بعين الكشف وهو يعذب في النار والأفاعي تنهش في جثته المنتنة، فشارل مارتيل واضع أساس الدولة الثانية في ملك الإفرنج لم يرض عنه المسلمون ولا النصارى، ولما مات قام بالأمر بعده ابنه بيبن القيصر وحارب قبائل الجرمان في ألمانيا وقبائل اللومبارد في إيطاليا، وكانوا معادين للباباوات في رومة فاكتسب بذلك نفوذا وقوة، وانتخبته قبائل الإفرنج ملكا عليها، وأمر البابا بدهنه بالزيت المقدس وتتويجه فدهنه، وتوجه القديس بونيفاس أسقف مايانس سنة 752، وانقرضت دولة ميروفينجيان بعد أن ملكت (448-752م) ثلاثة قرون، وسميت الدولة الثانية قارلوفينجيان نسبة إلى شارلمان بن بيبن القيصر وحفيد شارل مارتيل.
وملكت الدولة الثانية (752-987م) قرنين ونصف قرن تقريبا، وفي سنة 760م أو سنة 143ه أغار بيبن القيصر على بلاد المسلمين، واسترجع منهم نربون وجميع أيالة سبتمانيا فلم يستطيعوا الدفاع عنها؛ لاشتغالهم بما حدث عندهم من الانقلاب العظيم بسبب انقراض الدولة الأموية، وقيام الدولة العباسية مقامها، فقتلوا بني أمية واستخفى من سلم منهم، فهرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، ودخل الأندلس سنة 139ه أو 25 أيلول (سبتمبر) سنة 759م، فأطاعه بعض المسلمين فيها واستولى على إشبيلية وجعل قرطبة دار المملكة وأخضع لحكمه جميع جزيرة الأندلس، ونكل بالمتشيعين منهم للخلفاء العباسيين؛ فيفهم السبب الذي مكن الإفرنج من استرجاع نربون وقرقسون.
ولما مات بيبن سنة 768م وسنة 151ه جلس مكانه على كرسي ملك الإفرنج ابنه شارلمان (سنة 742-814م)، ومعناه شارل الكبير فنسبت إليه السلالة الثانية من سلالات ملوك الإفرنج، وقيل لها: «قارلو فينجيان» أي آل قارلو؛ لأن اسم شارل يلفظ بصور مختلفة حسب اللغات واللهجات، فالألمان يلفظونه قارل وعند الإسبانيول قارلوس، وعند الإنكليز چارلس بالجيم الفارسية، ففتح شارلمان ممالك لومبارديه وعاصمتها ميلان، وهي القسم الشمالي من إيطاليا، وكان بين ملوكها وبين باباوات رومة ضغائن وعداوة؛ فامتن البابا من ذلك وبارك شارلمان ورضي عنه، ثم فتح بافاريه وصاقسونيا، وهما من ممالك ألمانيا وأخضع أيالة أكيتانيا التي كانت ميدانا ترمح فيه غزاة المسلمين، فجمع شارلمان في حكمه بين فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا ومزج الأقوام الجرمانية بالأقوام الرومانية، وهم الذين كانوا في حكم دولة الرومان.
ولما تولى شارلمان كان مشتركا في الملك مع أخيه اتباعا للقواعد المرعية في ذاك الزمان، وهي تقسيم الملك بين الأولاد، ففي سنة 771م استقل بالملك وجعل عاصمته إكس لاشابل، وهي على نهر الرين في ألمانيا وزينها بالمباني والقصور؛ ولذا يعتبره الألمانيون في عداد ملوكهم كما يعتبره الفرنساويون، وفي سنة 778م، وسنة 162ه تجاوز شارلمان بعساكره جبال البيرينة من ممر رونسيفو الذي مر منه عبد الرحمن حينما فتح بوردو وبوانيه وتور، ومر منه قبلا هنيبال القائد القرطاجني حينما قهر الرومانيين، وهو ممر صعب في جبال البيرينة قريب من البحر المحيط؛ ولذا لم يرجع العرب منه بل كانوا يتجاوزن على فرنسا من جهة البحر الشامي عن طريق «بويسيردا» و«نربون»، فضبط شارلمان ولاية نافار وولاية قطولونيا وتقدم على ضفاف أيبر حتى بلغ مدينة سرقسطة مركز ولاية أراغون وألقى الحصار عليها، وكانت بيد المسلمين، فبعث إليه عبد الرحمن الأول سنة 113-171ه (731-787م) الملقب بالعادل، بجيش منظم طرد عساكر شارلمان من إسبانيا وأرجعها إلى ما وراء البيرينة، وكان المسيحيون من النفاريين والواسكون؛ أي الباسك متفقين مع المسلمين حبا في العدل الإسلامي، وكرها في ظلم شارلمان لوطئه بالعسكر بلادهم وقتله رجالهم وأولادهم؛ ولذا رجحوا الاتفاق مع المسلمين مع أنهم على غير دينهم، وانتقموا من شارلمان وجنوده وهو يدين بما هم يدينون به.
والدين إنصافك الأقوام كلهم
وأي دين لآبي الحق إن وجبا
والمرء يعيبه قود النفس مصحبة
للخير وهو يقود العسكر اللجبا
فلما ارتدت جنود شارلمان على عقبها خاسرة اغتنم أهالي نافارا وغسكونيا المسيحيون هذه الفرصة، وانقضوا عليهم وهم في ممر رونسيفيو وأبادوهم عن آخرهم، وقتل في هذه المعركة رولان قائد الجنود البريطانية نسبة إلى أيالة بريطانيا في غرب فرنسا ورفيقه أوليفيه، ونظمت في هذه الواقعة أغاني رولان الآتي ذكرها، وهي عند الفرنساويين كقصة عنتر عندنا لا بل كقصة بني هلال أو الزير، واسترد عبد الرحمن العادل، وهو المعروف بالداخل ولاية أراغون وقطالونية واسترد ابنه هشام (140-180ه) مدينة جيرونية ونربون وجميع أيالة سبتمانيا سنة 792م (سنة 176ه)، واستخدم الأسرى في بناء جامع قرطبة، وكان أبوه قد باشر عمارته، فنصب شارلمان ابنه لويس ملكا على أكيتانيا وأمره بمحاربة العرب، فكانت بينهما حروب على سفح جبال البيرينة من سنة 180ه (796م)، وهي السنة التي توفي بها هشام، وجلس فيها ابنه الحكم خلفا له وخرج عليه عماه سليمان، وعبد الله ابنا عبد الرحمن وتحاربوا مدة، وكان النصر للحكم على عميه ودامت الحروب مع الإفرنج إلى سنة 197ه (812م)، وأخذ الإفرنج في هذه الحروب ولاية نافارا وسبتمانيا وجزءا من قطالونيا، وهو المشتمل على مدينة برشلونة التي على ساحل البحر الشامي، فشارلمان لم يتمكن من إسبانيا، ولكن حكمه كان نافذا في عموم أوروبا الغربية، وكان البابا وعموم الكهنة يميلون إليه ويرغبون في إعادة نفوذ إمبراطورية الرومان الغربية؛ ليضاهوا بذلك الإمبراطورية الشرقية القائم بها قياصرة الروم، ويحصلوا على العز الذي حصل عليه بطاركة القسطنطينية وكهنتها المنشقون؛ ولذا دهن البابا شارلمان بالزيت المقدس، وألبسه تاج الإمبراطورية في آخر القرن الثامن؛ أي سنة 800م (سنة 184ه).
وكانت الخلافة العباسية في بغداد بلغت منتهى العز وأوج الرفعة على عهد الرشيد، فأخذ شارلمان يتقرب منه، وبعث إليه بسفارة مؤلفة من سفيرين فرنساويين يصحبهما يهودي اسمه إسحق، وكان الخليفة يحارب قيصر الروم فرأى من السياسة التمايل إلى الإفرنج أعداء الأمويين، فأحسن ضيافة الوفد الإفرنجي وأكرم مثواه وأجاب طلبه بالرخصة لحجاجهم في زيارة بيت المقدس، وبعث إلى شارلمان بهدية فاخرة منها سرادق كبير من الحرير، وساعة دقاقة، وشطرنج لم يزل بعض أحجاره محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس، وهي من العاج دقيقة الصنعة والقطعة منها كبيرة الحجم، وكان ذلك قبل موت الرشيد بسنة؛ أي في سنة 192ه (807م)، وتوفي شارلمان بعد ذلك بسبع سنين؛ أي سنة 814م وجلس في مقامه ابنه لويس إلى سنة 840م، ثم انقسمت المملكة إلى ثلاثة أقسام ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا وضعف حال ملوك فرنسا وهجم عليهم الأقوام الشمالية الذين يسمونهم نورمان من بلاد أسوج، ونوروج، والدانيمارك وأسسوا في شمال فرنسا دوقية نورماندية، وانقسمت المملكة إلى دوقيات وكونتيات، وكان حكامها أشد نفوذا من الملك، وصارت السلالة الثانية من سلالات ملوك الإفرنج إلى ما صارت إليه السلالة الأولى، فاستبد بالأمر دوق فرنسا كما استبد قبله دوق أوستراسيا، وفعل هوغ قابت ما فعله ابن شارل مارتيل وأحدث السلالة الثالثة في مملكة الإفرنج، وهي سلالة قابتيان.
وملكت هذه السلالة الثالثة من سنة 987م إلى سنة 1428م، وفي زمنها ظهرت فرنسا للوجود، وسميت مملكة فرنسا نسبة إلى هوغ قابت دوق فرنسا وانتقل الملك بعد ذلك إلى فرع ثان من تلك السلالة، وهو المسمى فالوا ثم إلى فرع ثالث، وهو آل بوربون. (2) فتوح المسلمين في جنوب أوروبا والحروب الصليبية
ثم إن المسلمين عدلوا عن فتح فرنسا، ولعلهم فعلو ذلك لشدة البرد في الأقاليم الشمالية، وعدم توسع العمران فيها إذ ذاك، ولصعوبة المرور من جبال البيرينة وهي أشد بردا من جبال لبنان التي يقول فيها المتنبي:
وجبال لبنان وكيف بقطعها
وهي الشتاء وصيفهن شتاء
ومالوا إلى فتح جزر البحر الشامي، فاستولوا على جزائر باليار، وهي مايورقة، ومينورقة، وأفبس وما يتبعها سنة 820م (سنة 205ه)، وكانوا يسمونها «مايرقة» و«منرقة» ويابسة، واستمروا فيها إلى سنة 1232م، واستولوا سنة 226ه على جزيرة قورسيقة فبقيت مستقلة عن غيرها بالحكم إلى سنة 236 (850م)، وأغاروا على سواحل مرسيليا مرارا وأسسوا سنة 276ه (889م) مستعمرة فراقسينة فيما بين وينيس طولون، وكان الفينيقيون أسسوا قبلهم مستعمرة في جوار موناقو، ومكث المسلمون في فراقسينة طول القرن العاشر، وتزوج بعضهم بنساء تلك الأيالة الفرنساوية، واشتغلوا بفلاحة أرضها حتى أصبحت زاهية بحضارتهم، ثم جالوا سنة 324ه (935م) في إقليمي تارنتيزه، ووالس ثم في بلاد السويس (سويسرا) التي نهبها المجر قبل ذلك، ومدوا نفوذهم سنة 331ه (942م) على فريجوي، وطولون وجميع سواحل البحر الشامي في فرنسا، ولم يزل يقال للجبال التي في شمال مرسيليا، وطولون «جبال المور» ومدوا نفوذهم على إيطاليا أيضا، فإن بني الأغلب استولوا على جزر سيسيليا، (صقلية) ومالطة وسردانية، وجميع القسم الجنوبي من إيطاليا في حدود سنة 213ه (828م) إلى سنة 265ه (878م) ورسخت لهم قدم في جميع هذه البلاد واستبحر فيها عمرانهم وحسنت بهم الزراعة والصناعة، وكانت مدينة أمالفي ومدينة ساليرم، وهما في جنوب نابولي (وكتبوها نابل) زاهيتين بحضارتهم، وهما اليوم قريتان خربتان لم يزل يشاهد فيهما آثار العرب وبقايا الطواحين التي عمروها ولسان الحال يقول: إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار، واستولوا على أوستيه، وكانت مينا رومية العظمى، وهي بقرب مصب نهر التيبر وعلى بيزا ذات البرج المائل، وكانوا يسمونها «بيش» وعلى جنوة التي في شمالها، وبقي المسلمون في جزيرة «سردانية» سردينية إلى سنة 408ه (1017م) وفي طارانت التي في جنوب إيطاليا إلى سنة 435ه (1043م)، وفي سيسيليا إلى سنة 1071م، وفي بيزا إلى سنة 396ه (1005م)، وفي جين (جنوة) إلى سنة 325ه (936م)، (انظر خريطة مملكة العرب في أطلس شرادر الفرنساوي المطبوع أخيرا في باريس).
واختلف المؤرخون في التاريخ الذي أغار فيه العرب على ليون وما في شمالها من الأيالات الفرنساوية - لا ليون التي في شمال إسبانيا الغربي وتكتب
Léon ، ويكثر ذكرها في تواريخ العرب - هل كان في عهد شارل مارتيل فقط أم في عهده، وبعد ذلك أيضا حينما دخلوا من سواحل طولون، وتقدموا في الشمال حتى بلغوا بلاد السويس، ولكن المؤرخين متفقون على أن المسلمين ضبطوا أيالة دوفينة، وهي في شمال بروفانس على ضفة الرين اليسرى وضبطوا في شمالها أيضا أيالة بورغونية، وسموها «أرض بورغونة»، وأيالة فرانش كونتة وأيالتي فينا - وفينا؛ هذه أيالة في وسط فرنسا الغربي بخلاف سميتها عاصمة أوستريا، والمجر وكان حاصرها الأتراك - وضبطوا في فرنسا جميع ضفاف الرون، وغزوا القرى والمدن التي في تلك الأيالات، وأمهات هذه المدن هي؛ ليون وهي على نهر الرون وأول مدينة في فرنسا بعد باريس، ثم ماقون وإليها ينسب الخمر المسمى باسمها من خمور بورغونيه، وشالون التي على نهر السون، وبون وسماها العرب «بونة»، وأوتون واحترقت فيها كنيستان عظيمتان حينما هاجمها العرب، كنيسة سان ناظير، وكنيسة سان جان وكذا دير سان مارتن، وديجون وهي منتهى ما أخذوه في الشمال من المدن العظيمة، وفي شرقي ديجون وبالقرب منها مدينة بيزانسون التي ولد فيها فيكتور هوكو.
وجميع هذه المدن هي في ممر السكة الحديدية من باريس - ليون - البحر المتوسط؛ أي مرسيليا وما جاورها من المواني البحرية، ولم يجد العرب أموالا كثيرة في غزواتهم؛ لأن البلاد لم تكن في الثروة والعمران التي هي عليها اليوم، ولكن مقصدهم الأصلي كان إعلاء كلمة التوحيد ودعوة الأمم بقولهم:
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله .
الحروب الصليبية
فجميع الحروب التي وقعت بين المسلمين والنصارى من ابتداء ظهور الإسلام بمكة، وفتح المسلمين للقدس على عهد ثاني الخلفاء الراشدين هي من نوع الحروب الصليبية، إلا أن المؤرخين اصطلحوا على إطلاق هذا الاسم على الحروب التي وقعت بين المسيحيين من الأمم الأوروبية، وبين المسلمين من الأمم الشرقية وامتدت من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر للميلاد، وكان الباعث عليها التعصب الديني، والغاية منها تخليص قبر السيد المسيح - عليه السلام - واتخذ المحاربون من الأمم الأوروبية الصليب شعارا لهم، ونقشوه على أثوابهم وجلودهم؛ ولذا قيل لهم: الصليبيون، وعدة الحروب الصليبية ثمانية وهي؛
الأولى: (1096-1099م): الحرب التي دعا إليها بطرس الناسك، وقرر أجراها البابا أوروبين الثاني في المجمع الروحاني المنعقد سنة 1095م في مدينة كليرمون فيران، وهي بالقرب من مدينة ليون في فرنسا، وكانت النتيجة إرسال جيشين للشرق أحدهما تحت قيادة بطرس الناسك والقائد غوتيه، وكان مؤلفا من أناس لا خبرة لهم في الحرب ومعهم نساؤهم وأولادهم بغير تأهب للسفر، فمات أكثرهم في الطريق وقتل آخرهم السلجوقيون في بر الأناضول. والثاني جيش متأهب للسفر ومتسلح للحرب تحت قيادة غود فروا دوبوليون دوق أيالة اللورين، عبروا بوغاز لدردنيل واستولوا في بر الأناضول على أزنيق وطرسوس وهي مينا أطنة، وعلى أنطاكية، وكانت هذه المدن تابعة للدولة السلجوقية ومركزها قونية، ثم استولوا على القدس، وكانت تابعة لخليفة مصر العلوي، وقتلوا فيها كثيرا وألبسوا غودفروا تاج الملك، وذهب المستنفرون إلى بغداد فلم يستطع أهلها غير البكاء وقال المظفر الأبيوردي أبياتا منها:
وكيف تنام العين ملء جفونها
على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
الثانية: (1147-1149): الحرب التي دعى إليها القديس برنار وقادها قونراد الثالث إمبراطور ألمانيا، ولويس السابع ملك فرنسا، فوصلوا دمشق الشام وحاصروها ورجعوا عنها.
الثالثة: (1189-1193م): الحرب التي دعى إليها غليوم أسقف صور بسبب استرداد صلاح الدين الأيوبي للقدس، وقادها فريدريك بارباروس إمبراطور ألمانيا من جهة، وفيليب أوغست ملك فرنسا وريشار قلب الأسد ملك إنكلترة من جهة أخرى، فالأول غرق في النهر بعد أخذه قونية، والآخران أخذا قلعة عكا وعقدا الصلح مع صلاح الدين.
الرابعة: (1202-1204م): الحرب التي دعى إليها فولك وقادها بغدوين، وهو بودوين التاسع كونت أيالة فلاندر، وكانت أيالة مستقلة بين فرنسا وبلجيكا، فلما وصلت هذه البعثة إلى فينيسية (البندقية) استدعاها قيصر الروم في القسطنطينية لنصرته على أخيه ، وكان قد أراد التغلب عليه فأجابت دعوته وأيدته على كرسي مملكته، وبعد وفاته انتخب الصليبيون مكانه بودوين المذكور بعد أن خربوا المدينة، وأتلفوا ما فيها من الآثار النفيسة والمباني الظريفة، واستمرت دولة اللاتين في القسطنطينية 57 سنة (1204-1261).
الخامسة: (1217-1221): الحرب التي أشهرها جان دوبريين ملك القدس وأندره الثاني ملك هونغارية، وذهبوا فيها إلى مصر وعادوا منها خائبين.
السادسة: (1228-1229م): الحرب التي قادها فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا لادعائه بميراث مملكة القدس عن جان دوبريين، فعقد مع الملك الكامل معاهدة الصلح واستلم بموجبها القدس.
السابعة: (1248-1254م): الحرب التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا إيفاء بنذر نذره، فخرج لمصر، وغلبه الملك الكامل خامس الملوك الأيوبية في محاربة المنصورة، وأسره فأخلى دمياط وسلمها للمسلمين فكاكا لأسره.
الثامنة: (1270م): الحرب التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا الملقب بالقديس لويس، ومات فيها أمام أسوار تونس الخضرا، فاسترجع المسلمون حينئذ مدن فلسطين وسوريا من الإفرنج واحدة بعد الأخرى، وكان آخرهن فتح عكا سنة 1291م، وانتهت بذلك الحروب الصليبية.
وكان لهذه الحروب نتيجتان إحداهما مادية عسكرية، والأخرى معنوية أدبية، فالنتيجة المادية رجوع الإفرنج عن الغنيمة بعد الكد بالقفل وتخليتهم القدس، وجميع ما ملكوه في الشرق، والنتيجة المعنوية انتباههم من الغفلة التي كانوا فيها بمخالطتهم المسلمين، وأهل الشرق وسلوكهم منذ ذاك التاريخ سبيلي «الانتظام» و«الترقي»، ويسميهما الإفرنج (أوردر وبروغرة)، قال رينان: «حدث بعد الحرب الصليبية الثامنة التي قام بها لويس التاسع، ومات على أبواب تونس حركتان واضحتان من جهتين مختلفتين، الأولى انحطاط العالم الإسلامي والأخرى نهوض العالم المسيحي؛ لأن العلوم الإسلامية لما لقحت جراثيم الحياة في جسم البلاد الأوروبية انطفأت جراثيم حياتها، وأخذ العالمان يسيران في وجهتين متعاكستين علوا وهبوطا.»
سارت مشرقة وسار مغربا
شتان بين مشرق ومغرب (3) ما اقتبسه الإفرنج من قواعد الشعر العربي
فيتضح لك من هذه النبذة التاريخية المعترضة في هذه الرسالة أن الاختلاط بين العرب والإفرنج لم ينقطع لا في الحروب الصليبية، ولا قبلها حينما دخل العرب أرض فرنسا، وتوطنوا في جنوبها، وحرثوا أرضها، وتزوجوا ببناتها ، وتاجروا مع أهلها، وعمروا مدن نربون (نربونة)، وقرقسون (قرقشونة)، وفراقسينة وأخذوا الأسرى من الإفرنج وشغلوهم في عمارة جامع قرطبة القائم ليومنا هذا على ألف وثلاثة وتسعين عمودا، وفي غيره من المباني الفاخرة كالقصر والزهراء والحمراء والقنطرة، فكانت الأفكار تتبادل بين الفريقين ضرورة، ولو كانا على طرفي نقيض.
وحيث كان المسلمون في ذاك العصر أرقى حضارة، وأدبا من جيرانهم المسيحيين كانت الإفرنج تقتبس من معارف المسلمين، وتحصل العلم في مدارسهم وجوامعهم كما فعل البابا سيلفستر الثاني، واسمه الذي سماه به أبوه جربر (930-1004م)، فإنه بعد أن حصل مبادئ العلوم اللاهوتية باللغة اللاتينية في مدينة أورياق التي ولد فيها، وهي بالقرب من طولوز وفي شمالها الشرقي ارتحل في طلب العلم إلى الأندلس، فقطع عقاب البيرينة والوادي الكبير المار بجوار قرطبة، ومن إشبيلية والمنصب في خليج قادس من المحيط غير بعيد عن شريش، وجاور في مدرسة إشبيلية ثلاث سنين وعاد لأوروبا متبحرا في العلوم والمعارف حتى حسبه الناس ساحرا واتخذه الملوك مؤدبا لأولادهم، وتقلب في المناصب حتى أحرز رتبة الباباوية، وقيل: إنه أول من أدخل لبلاد الإفرنج ما يسمونه الأرقام العربية، ونسميه الأرقام الهندية، وهي التي تدل بذاتها على عدد، وبمنزلتها على عدد آخر، وكانوا لذاك العهد يستعملون الأحرف اللاتينية التي هي بمثابة الحروف الأبجدية.
واقتفى طلاب العلم أثر هذا البابا الحكيم، وكذا المنتحلون منهم للشعر والأدب كانوا يقلدون شعراء العرب وأدباءهم. وكان المجاورون للعرب من أهالي فرنسا، وشمال إسبانيا يحيدون عن تعلم أشعار اللاتين، ويكبون على تعلم أشعار العرب وأزجالهم، وكان فقراؤهم في القرن الحادي عشر للميلاد ينشدون الأناشيد والمدائح العربية، وهم يستعطون على الأبواب وفي الطرقات، فيستمع الناس لهم ويتصدقون عليهم، لا لفهمهم ما يقولون وإنما شوقا منهم وحنانا للألحان والأنغام والقوافي الرنانة، كما كانت العربية هي اللسان الرسمي في صقلية على عهد رجار، ومن خلفه من الملوك بعد انقراض الحكومة الإسلامية منها، وكانوا يحررون بالعربية على المباني العمومية في تلك الجزيرة.
وذكرنا فيما تقدم أن لغة «رومان»، وهي لاتينية سوقية محرفة بكلام الغولوا، والفرنك انقسمت إلى شعبتين: (1) لسان أوق تكلم به أهل الجنوب لا سيما سكان بروفانس (2) لسان أويل تكلم به أهل الشمال لا سيما سكان جزيرة فرنسا، وهي الأيالة التي عاصمتها باريس، وكان في الشمال شعراء يقال لهم «تروفير»، وفي الجنوب شعراء يقال لهم «تروبادور».
فالتروبادور الذين كانوا في أيالة بروفانس هم صنف من المداحين يطوفون من قصر لقصر، ومن قلعة لأخرى يغنون قصائدهم ويمدحون الأمراء وذوي الوجاهة، ويسمون أدبهم بالعلم المطرب، ولم تكن أشعارهم ذات قواف كأشعار العرب، وإنما لها بدل القافية مراكز ومواقف كالأشعار التي يتغنى بها رعاة الغنم، وكان لهم فن من الشعر يسمونه تنسون
Tenson
على شكل المخاطبات يشابه ما أوجده الأندلسيون من الفنون الشعرية.
وأجمع العارفون على أن القوافي أول ما ظهرت في الشعر البروفانسال، وأنها مأخوذة من العرب، فالقافية عند الفرنساويين هي اتحاد الأحرف الصوتية الأخيرة وما يتبعها من الأحرف الساكنة في نهاية كل بيتين، أو قطعتين من الشعر مثل ساج وباج
Sàge, Pàge ، فالذي أخذوه عن العرب بالسماع والتقليد هو علم القوافي، وكانوا يستعملون قبل ذلك عوضا عن القافية ما يسمونه «أسونانس»، وهو اتحاد الأحرف الصوتية الأخيرة بقطع النظر عما بعدها من الأحرف الساكنة في نهاية كل بيتين مثل ساج
Sàge
وآرم
àrme .
وكان استعمالهم للقوافي في القرن الثالث عشر، وأخذوا عن العرب في المنظوم أنواع المدح، والغزل، والنسيب، والهجو، والهزل؛ أي ما يسمونه ليريك وما يسمونه ساتيريك، كما أخذوا عنهم في المنثور القصص، والملح وضروب الأمثال ومنها ما نقلوه نثرا ثم نظموه في لغتهم، وجاروا العرب في الفكاهات أيضا فألفوا حكايات وتظريفات على أقسة القرى، وخدمة الكنائس؛ ليضحكوا منهم الأمراء والفرسان الذين يسمونهم «شيفاليه»، وفي هذه الحكايات والنوادر المأخوذة عن العرب ما أصله الأول من حكايات الفرس والهنود، وترجمت إلى العربية ثم نقلت للإفرنجية، فلو كان الحكم والغلبة لأهل الجنوب المجاورين للعرب وللغتهم المسماة «أوق» لوجدنا في اللغة الفرنساوية الحالية شيئا كثيرا من فنون الأدب العربية، ولكن الحكم والغلبة كانتا لأهل الشمال وللغتهم المسماة «أويل»، وكان شعراؤهم التروفير لا يعرفون غير أشعار الحماسة، وقصائدهم قصيرة والبيت مؤلف من عشرة هجاءات ليس له قافية، وإنما له «أسونانس» كما في أغاني رولان الآتي ذكرها، واستمروا على هذا النظم إلى آخر القرن الثاني عشر.
وفي القرن الثالث عشر أخذ شعراء الشمال وهم التروفير ينسجون على منوال «التروبادور»، وتعلموا منهم القوافي ورقة الغزل واللحن الموسيقي، وصار فرسان الإفرنج يقلدون فرسان العرب في انتحال الشعر، فكانت فضائل الفارس المهارة في الفروسية، وحفظ الشعر والتمثل به وفي لعب الشطرنج، فتحسن الشعر الإفرنجي بإدخال القوافي العربية فيه، وباقتباس أدب الأندلسيين ورقة غزلهم. (4) اقتباس الإفرنج أقاصيصهم عن العرب
والحاصل أن الرومانيين لما فتحوا أرض الغول أدخلوا إليها مدنيتهم ولغة عوامهم، وهي اللاتينية الدارجة فلما استولى قبائل الإفرنج على أرض الغول أخذوا ما وجدوه فيها من اللسان والمدنية، فنتج من هذا الاختلاط لغة جديدة قيل لها : «رومان»، وأقدم المدونات في هذه اللغة هريمين ستراسبورغ، وهو صورة القسم الذي أقسم به العسكر لأحفاد شارلمان حينما عقدوا معاهدة فيردون، وقسموا مملكة شارلمان إلى ثلاثة أقسام فرنسا وجرمانيا وإيطاليا، وأخذ كل منهم قسما وذلك في سنة 843م، وسنة 229ه؛ أي في خلافة الواثق بالله هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد في بغداد، وعبد الرحمن بن الحكم في قرطبة، فهذه أول مرة دونت فيها لغة رومان، وقامت مقام اللغة اللاتينية، ثم انقسمت لغة رومان إلى لسان أويل، وإلى لسان أوق، وانقسم لسان أويل وهو لسان الشمال إلى لهجات غلب على الجميع لهجة جزيرة فرنسا - وهي الجزيرة المحاطة بالأنهار المشتملة على باريس وما في جوارها - فصارت اللغة الفرنساوية. ثم عم استعمال هذه اللغة في الأيالات الجنوبية، وغلبت على لسان أوق سنة 987م حينما تأسست الدولة الثالثة من دول الإفرنج، وهي الدولة التي دامت إلى حدوث الانقلاب الكبير، وظهور الحكومة الجمهورية، وكان مؤسس الدولة الثالثة هوغ قابت دوق جزيرة فرنسا، فأطلق هذا الاسم على عموم المملكة وعلى اللغة.
ولما كان اتساع دائرة النظم في تاريخ الأدب سابقا لاتساع دائرة النثر، كان الكلام المنظوم أساسا للأدب الفرنساوي، وأقدم نظم فيه هو «أغاني رولان» وتاريخ نظمها في النصف الأخير من القرن الحادي عشر وناظمها أو ناظموها مجهولون، ولا دليل على أنه تيرولد المذكور اسمه في آخر بيت منها، ورولان هو قائد جنود شارلمان الذين حاربوا الأندلسيين، وذلك أن شارلمان لما فتح الفتوحات العظيمة، وتتوج بتاج الإمبراطورية واستحصل من الخليفة العباسي على الإذن لحجاج النصارى في زيارة بيت المقدس طار له ذكر في الآفاق، وتحدث الناس به، ونظموا فيه القصائد، وقصوا عنه القصص والحكايات وأنشدوا الأناشيد، وفعل الإفرنج له ما فعله العرب لهارون الرشيد، غير أن فنون الأدب الإفرنجية لم تكن زاهرة كفنون الأدب العربية، بل كانت حديثة النشأة لم تهذب بعد، وكانوا يكتبون باللغة اللاتينية ما يحتاجون إلى كتابته وتدوينه، ولم يكن الملوك والأمراء ولا الرعية يفهمون اللاتينية الفصحى، وإنما كان يفهمها بعض الأساقفة والرهابين، فنظمت «أغاني رولان» و«حج شارلمان» باللسان الفرنساوي الذي كان يتكلمه أهل ذاك العصر؛ أي بعد شارلمان بأكثر من قرن.
وفي أغاني رولان من المبالغات ما في قصة عنتر، وجسمت فيها الحرب التي حصلت بين الإفرنج وعرب الأندلس، وجعلت رولان عنتر زمانه وألحقته بنسب شارلمان وادعت بأنه ابن أخيه وذراعه اليمنى، وذكر في هذه الأغاني أن سبب هزيمة رولان هو خيانة غانيلون، وذلك أن رولان بعث بتابعه غانيلون إلى والي سرقسطة - مركز ولاية أراغون - بمهمة حربية، وكان في ذهابه إليها خطر على حياته، فاغتاظ هذا المأمور من آمره وانضم إلى المسلمين ودبر في قتل رولان وانهزامه، فلما رجع رولان ببقية الجنود إلى فرنسا، ووصل مضيق رونسيفو في جبال البيرينة هجم عليهم أهالي نافارا وغاسكونية المتفقون مع المسلمين في جيوش جرارة عدتها أربعماية ألف فارس، وكان لرولان مستشار ورفيق اسمه أوليفيه فنصحه بالاستمداد من شارلمان واستدعائه لنجدته، فلم يصغ في بادئ الأمر لمقاله، ولما أراد أن يعمل برأي أوليفيه العاقل ويتبع مشورته فات الوقت وذهب الأوان وغلبهم العدو بكثرة عدده، وأمسوا مختبطين في ظلام النقع وقتل بعضهم بعضا، وضرب أوليفيه صاحبه رولان بالسيف ضربة خطاء لا عمد فجرحته وسببت موته، فصورت تلك الأغاني موت رولان، ثم موت أوليفيه وطلب كل منهما السماح من الآخر ومباركة الأسقف توربين عليهما وغفران ذنوبهما.
وأراد رولان قبل موته أن يكسر سيفه المسمى «دوراندال»؛ لئلا يقع في أيدي أعدائه، أو يصل إلى مارسيل
Marcile
والي المسلمين في سرقسطة فلم يستطع كسر هذا السيف؛ لأنه من السيوف التي لا تكسر ولا تفل، ولعله من المعدن المسبوك منه صمصامة عنترة، وذو الفقار علي - رضي الله عنه - وهو الذي قيل فيه: لا سيف إلا ذو الفقار، وقد تهور الإفرنج في وصف «دوراندال» كما تهورت الشيعة في وصف ذي الفقار، وجعلوا القوة والشجاعة بأجمعها في السيف حتى لم يبق منها شيء لصاحب السيف، ولم يزل أثر الضربة التي ضرب بها رولان الصخرة بسيفه باقيا إلى يومنا هذا يشاهده السائحون والمارون بمضيق رونسيفو، كما يشاهدون تل العلائف في جوار قرية أريحا من فلسطين، وهو التل الذي أحدثه على زعمهم جيش أبي زيد الهلالي حينما مروا بقرية أريحا وأرادوا الصعود إلى جبل القدس، فنفضوا مخالي الشعير في أسفل العقبة فتكوم من الغبار الذي فيها هذا التل العظيم؛ لأنهم كانوا لا يحصون عدا لكثرتهم، هذا ما تتناقله الألسنة ويرويه الآباء عن الأجداد. ولعل الباحثين في الآثار القديمة لو حفروا في تل العلائف لوجدوا فيه أثرا من الآثار، كما لو بحث العارفون بطبقات الأرض وبشكل الجبال لذكروا سببا «لضربة رولان» في صخرة رونسيفو.
ولرولان حصان كأنه هو وأبجر عنترة بن شداد فرسا رهان، ولم يفت ناظم أغاني رولان ذكر الملائكة، وكيفية نزولهم واصطفافهم حوله لقبض روحه، فصور في منظومته الجهاد المسيحي وجعل فضائل المجاهدين الشجاعة العسكرية، والطاعة لأولي الأمر وهم «السوزيرين» من لم يعتقدوا بما أمر به وينتهوا عما نهى عنه بغضا لوجه الله لا لعداوة دنيوية، ولا لمال ودولة.
وهذه الأغاني مطبوعة ومترجمة للفرنساوية العصرية، ومنها يظهر اعتقاد الإفرنج إذ ذاك في الإسلام والمسلمين، فإنهم كانوا يحسبون المسلمين دعاة إلى عبادة الأصنام ويعدون من أصنامهم أبولون، ولم يزل الكثير من أهل القرى الفرنساوية يعتقدون هذا الاعتقاد إلى يومنا هذا، كما تبين لي من محادثة الكثيرين منهم، وكان لأغاني رولان شأن في عموم أوروبا وفي إنكلترة، وترجمت في القرن الثاني عشر للميلاد للغة الألمانية، ولغة السويد والنوروج.
ومما نظم على نسق أغاني رولان حج شارلمان إلى بيت المقدس، وقصائد وحكايات كثيرة في الحروب الصليبية ربما يعتني في المستقبل بترجمتها ومطالعتها المشتغلون بالتاريخ العربي، كما يعتني الإفرنج في زماننا في استخراج الكتب العربية وطبعها وترجمتها؛ ليقفوا منها على حقيقة تاريخية يوضحون فيها ما غمض من تاريخهم، وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر أقبل شعراء الشمال ينسجون على منوال شعراء الجنوب، ويقتبسون منهم المحسنات الشعرية ورقة الغزل والقوافي العربية، ووضعوا الألحان الموسيقية وتغزلوا بها وطبع من ذلك دواوين ورسائل كثيرة لا حاجة لذكرها.
ثم ظهرت الأشعار الهجوية، والهزلية، والملح، والفكاهات مما هو على نسق كليلة ودمنة وضروب أمثال لقمان، وبقية الحكايات المؤلفة على ألسنة الحيوانات، فمن ذلك «رومان الثعلب» و«أمثال أيزوب» و«رومان روز» وغير ذلك، وقيل للمنظوم من ذلك: «الأغاني» أو «أغاني القصص». (5) اقتباس الإفرنج العلوم عن العرب
ولما اختلط ملوك أوروبا وأمراؤها بملوك الشرق، وأمراء المسلمين في أثناء الحروب الصليبية رأوا بأعينهم أدباء العرب، وشعراءهم، ومؤرخيهم، وأطباءهم، وحكماءهم سيما من كان منهم بمعية صلاح الدين الأيوبي مثل القاضي الفاضل والعماد الكاتب وعمارة اليمني الشاعر، والطبيب الحاذق الذي طبب ريشار قلب الأسد فقدروا الأدب حق قدره، واعترفوا بلزوم وضع تاريخ لدولتهم، فألف بعض الرهبان السالكين طريقة القديس ديني
St. Denis
تاريخا لدولة الإفرنج، وكان ذلك على عهد لويس التاسع الملقب بالقديس، وهو المتوفى سنة 1270م في تونس أثناء الحرب الصليبية الثامنة، فكان هذا التاريخ أول سجل لضبط وقائع ملوك الإفرنج، وتاريخ جلوسهم، ووفاتهم، وذكر شيء من أخبارهم وحروبهم، وداموا على هذا السجل إلى أن ملك لويس الحادي عشر المتوفى سنة 1483، وأنشئوا في مدينة مون بيليه مدرسة للطب، وذلك في القرن الثالث عشر ، وهي أقدم مدرسة طبية في أوروبا بعد مدرسة ساليرن التي بجوار نابولي، وكانت الأندلس في منتهى عزها وحضارتها، فجلبوا منها لمدرسة مون بيليه المعلمين والمدرسين من العرب واليهود المستعربين، وفي سنة 1323م أنشئوا في مدينة طولوز جمعية أدبية دعوها مدرسة العلم المفرح
Collége du gai sçavoir ، وجعلوا جوائز الشعر أزهارا مصوغة من الذهب والفضة تفرق على نوابغ الشعراء بعد تقدير الجمعية وحكمها.
وفي أواخر القرن الخامس عشر للميلاد أوقفت إحدى المحسنات من نساء طولوز أموالها على هذه الجمعية، فاتسعت ثروتها وزادت رغبة الشعراء فيها وأقبلوا على انتحال فنون الأدب، وحسنوا المنطق والكلام باللسان الفرنساوي، ولم تزل هذه الجمعية الأدبية زاهرة إلى يومنا هذا، وتسمى جمعية أو «أكاديمية لعب الأزهار»، وتتألف من أربعين محافظا ومن معلمين كثيرين. وسمي أعضاء هذه الجمعية بالمحافظين إشارة إلى ما يجب عليهم بحسب قانونهم من المحافظة على قواعد اللسان وفنون أدبه، ويحتفلون في اليوم الثالث من الشهر مايو في كل سنة، ويوزعون الجوائز والنقود على مستحقيها، ولهم تسع جوائز من الذهب والفضة كل جائزة على شكل زهرة مخصوصة مثل الأقحوان، والياسمين، والسوسن ومنها ما هو للشعر، ومنها ما هو للنثر والخطب - ورأينا فيما سبق كيف نال فيكتور هوكو جائزة هذه الجمعية.
وفي القرن الرابع عشر للميلاد ترجم الإفرنج الكتب اللاتينية للفرنساوية، ونقلوا علوم اليونان وفلسفتهم عن العرب، ولم يكن لهم معرفة باللغة اليونانية، ولا بما دون فيها فترجموا كتب أرسطو عن اللاتينية المترجمة عن العربية، والعربية مترجمة من اليونانية أو السريانية، ثم ظهر فن التشخيص وكان منشأه من الكنيسة، ومن تشخيص آلام المسيح - عليه السلام - وما شبه لهم فيه من القتل والصلب، فهذا أساس فن التشخيص ثم وسعوا دائرة هذا الفن ووضعوا فيه المؤلفات الكثيرة، واستحدثوا فيه أنواعا مختلفة وطرقا متنوعة، وأقبلوا على درس أدب اللغة اللاتينية وأدب اللغة اليونانية، وتبحروا فيهما فانتقشت أساليب هاتين اللغتين في نفوسهم، وحذوا حذو شعراء الرومان واليونان، واتخذوا أشعارهم ورواياتهم منوالا نسجوا عليه أمثالها من كلمات أخرى فرنساوية، ولم يزالوا كذلك حتى بلغوا شأوا كبيرا على عهد لويس الرابع عشر (1638-1715م) الملقب بالكبير، وأصلحوا فنون الأدب وهذبوها، وفتحت الماركيزة رامبويه دارها للأدباء من سنة 1635 إلى سنة 1665م، وكانت تستقبلهم هي وبناتها ويعقدون في حضرتها منتدى أدبيا يحضره الشعراء، والأدباء، والظرفاء ويتسامرون فيه وينشدون الأشعار، ويقصون القصص والنوادر الأدبية والعلمية، فكان هذا أول ناد في باريس خدم انتشار الأدب والمعارف، وساعد على ترقي اللغة وعلى اجتماع الرجال بالنساء في جلسة أدبية محترمة، وتقرب الأدباء من الأمراء وأرباب الوجاهة بعد أن كانوا مختصرين لا يحترفون بالأدب إلا لاستجداء المعروف وطلب الإحسان. وصارت السيدات الفرنساويات يقلدن الماركيزة في الإقبال على تحصيل الأدب والمعارف، وفتح أبوابهن للشعراء والكتبة، وأرادت بعض سيدات الأستانة في عصرنا تقليد الماركيزة في حماية الأدب والمعارف، فنجح عملهن مدة ثم أقفلت دورهن.
وفي سنة 1635 أسس الكاردينال ريشيليو الأكاديمية الفرنساوية من أربعين عضوا وفوض إليهم جمع قاموس اللغة الفرنساوية، ثم أسست أكاديمية الفنون والآداب واشتغلت بالتاريخ والآثار القديمة، ثم أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية واشتغلت في الفلسفة وعلوم الاقتصاد، ثم أكاديمية العلوم الرياضية والطبيعية، وأكاديمية الصنائع النفيسة وغير ذلك من المؤسسات العلمية النافعة، وظهر من الأدباء بالزاق وفولتير وديكارت (1596-1650م)، وهو الذي أحيا الفلسفة وأوجد التعبيرات الفلسفية في اللغة الفرنساوية، وكان إماما في الأدب فسلك فيه مسلكا جديدا، واتخذ لنفسه طريقة مخصوصة تنسب إليه وتسمى باسمه.
ثم أنشأ ألكساندر هاردي مرسحا في باريس شخص فيه روايات كثيرة أخذ موضوعها من إسبانيا لتقدم فنون الأدب فيها لسبب مجاورتهم للعرب. وظهر من فحول الأدباء بيرقورنيل (1606-1684م) صاحب رواية هوراس التي صور فيها فضائل الرومان ومحبتهم لأوطانهم وبذلهم دونها المال والبنين. وأبدع ما في هذه الرواية حديث المرأة التي أتت شيخا من قبيلة هوراس تخبره بموت ابنيه في حرب لهم مع قبيلة كورياس وبنجاة ولده الثالث بالفرار من ميدان الحرب، فتجلد الشيخ على موت ابنيه وغضب من فرار ولده الثالث، فقالت له المرأة: «ماذا تريد أن يفعل وهو وحده مع ثلاثة من أعدائه؟» فأجابها الشيخ: «أريد أن يموت.»
ومن أئمة الأدب المؤسسين لطريقة «كلاسيك» راسين (1649-1699) وكان معاصرا لقورنيل ورقيبا له، نظم رواية أندروماخه ونسجها على منوال رواية بهذا الاسم لأحد شعراء اليونان الأقدمين، ثم درس تاريخ العبرانيين ونظم رواية «أستير» ورواية «أتالي» التي قال فيها فولتير: بأنها أحسن ما ألفه العقل البشري، وسموا هذا النوع من الروايات الفاجعة التاريخية «تراجيدي»، ومن مشاهير أدبائهم المتقدمين بوالو الشاعر الهجاء مؤلف الهزليات وصاحب المذهب في فن الأدب، ومولير مؤلف المضحكات المسماة كوميدي، وفنلون مؤلف تيلماك المترجم للعربية والمطبوع في بيروت، وترجمه للتركية يوسف كامل باشا بألفاظ لغوية وعبارة عويصة، وترجمه أحمد وفيق باشا بألفاظ سهلة. ولافونتين مؤلف الحكايات المنظومة على ألسنة الحيوانات، وكانت المدارس الابتدائية تعول عليها في تدريس اللغة الفرنساوية وتحفظها للأطفال، وأما اليوم فقلت الرغبة فيها.
ثم ظهر مونتسكيو مؤلف «أسباب اعتلاء الرومانيين وسقوطهم» و«روح القوانين» و«الرسائل العجمية»، وبوفون مؤلف التاريخ الطبيعي، وفولتير الشهير الذي لم يدع بابا من أبواب الكتابة، وفنون الشعر والإنشاء إلا طرقه، وديدرو صاحب الإنسكلوبيديا، وجان جاك روسو الذي هيج الأفكار بمؤلفاته، وهيأ حدوث الانقلاب الكبير، وبرناردن دوسن بير مؤلف بول وفيرجيني وغيرها من القصص والسياحات. (6) الطريقة المدرسية والطريقة الرومانية في أدب الإفرنج، وما أخذوه من ذلك عن العرب
أدب كل لسان - كما لا يخفى - هو مجموع ما حصلت الإجادة في تأليفه بذلك اللسان من فني المنظوم والمنثور، فمن أمعن النظر في أدب اللسان العربي وجد فيه طرقا كثيرة ومذاهب شتى للكلام، ورأى فريقا من الذين أحرزوا قصب السبق في أدب العرب يتوخى حفظ الألفاظ وتصنيعها، وفريقا آخر يختار ضبط المعاني وترتيبها، وعلم أن لكل واحد من أئمة البلاغة وأمراء الفصاحة منهاجا معروفا وطريقة مألوفة، فلو راجعنا البصر في رسائلهم المنثورة وتأملنا طرز إنشائها لتبين لنا أن منهم من سلك طريقة الأصل، أو طريقة السجع، أو طريقة الجاحظ إمام الأدب، ومنهم من جمع بين طرق المتقدمين وطريقة المتأخرين حتى خلص لنفسه طريقة. ثم لو أعدنا النظر ثانية في نظم أشعارهم لظهر لنا أن منهم من نسج على منوال شعر الجاهلية، ولم يخرج عن الأساليب التي راعوها، ومنهم من لم يجر على أساليب العرب المتقدمين كالمتنبي والمعري، بل اتخذ كل منهما منوالا خاصا لنسج كلامه، وأوجد قالبا جديدا لبناء شعره فأصبح في الأدب إماما يقتدى به. ثم إذا بحثنا في مؤلفات أولئك الأئمة باعتبار آخر رأينا منهم من أطلق العنان للمخيلة الشعرية، فأتى بالمعجز من آيات البيان، ومنهم من استغرق في الحب استغراق ابن الفارض وتجليه، وإذا وصفوا الأمكنة والأشخاص أو المواد والمعاني، منهم من يصور لك الموصوف على حقيقته بلا خلف فيه، ومنهم من يجعل وصفه يربو على الموصوف ويتعداه أو يقصر عنه، ثم إذا استقصينا البحث نجد طائفة من أمراء البلاغة قد تركوا لغة مضر وما فيها من الإعراب، ونظموا أشعارهم بلسان الحضر، وهي اللغة الدارجة في أمصارهم؛ لأن البلاغة لا تختص بلسان مضر، بل توجد فيه وفي لسان الحضر وفي غيرهما من الألسن الأعجمية، ونجد منهم أيضا طائفة أخرى في الأندلس وغيرها خرجوا عن أوزان العروض المعروف عند العرب إلى أعاريض مختلفة ومقاطيع متفاوتة، إلى غير ذلك مما هو مفصل في مواضعه ومعلوم عند أربابه سيما بعد طبع كتب الباقلاني والجرجاني، وغيرهما من الأئمة الواضعين لفن الانتقاد الأدبي.
فالأمم الأوروبية على اختلاف قومياتهم، وتفرق لغاتهم ظلوا لأواخر القرن الحادي عشر للميلاد محرومين من الأدب وفنونه، ولم يكن فيهم إلا أفراد من القسوس، والأساقفة يحفظون في الأديرة شعر فرجيل اللاتيني ولا يفهمون مغزاه كما يحفظ مشايخ الأعاجم في زماننا شعر المتنبي والمعلقات، ففي أوائل القرن الثاني للهجرة والثامن للميلاد أخذت الأفكار تتبادل بين المسلمين وبين أمم أوروبا من الإسبانيين، والطليان، والإفرنج ودامت الصلات لا تنقطع بين الفريقين المتحاربين لا في الحرب - بواسطة الأسرى والسفراء - ولا في السلم بسبب الأخذ والعطاء، وكان الأرسخ قدما في الحضارة يكسب جاره أدبا وعرفانا. وفي القرن العاشر للميلاد تغلب البابا سيلفستر الثاني على التعصب الديني، وخرج من مدينة أورياق مسقط رأسه، وقطع عقاب البيرينة ومياه الوادي الكبير، وجاور في إشبيلية ثلاث سنوات، وفتح لقومه باب العلم والمعارف فدخلوه طوعا أو كرها، وارتحل الإفرنج في طلب العلم إلى مدارس الأندلس، وحضروا على مشايخها، وعادوا لأوطانهم متنورين يلقون الدروس في ساحات المدن الكبيرة، وتجتمع حولهم الطلبة والعوام على مألوف العادة الجارية ليومنا في المدارس والجوامع الإسلامية، فأدرك الناس فوائد العلم، وقرب الملوك والأمراء منهم علماء المسلمين، وأغدقوا عليهم، فكان الشريف الإدريسي صاحب الجغرافية عند رجار المعروف عندهم بروجر الثاني ملك صقلية ونابولي، وهو من سلالة الملوك النورمانديين، وكان أحفاد ابن رشد المتضلعون في علم الحيوان والنبات عند خلفاء رجار في مملكة صقلية، ونابولي المعبر عنهما بالصقليتين، فكان مثل هؤلاء كمثل الأوروبيين المستخدمين اليوم في الممالك الشرقية.
وظل الإفرنج بعد استرداد صقلية يكتبون بالعربية على المباني العمومية والعمارات الملوكية، واستعمل علماؤهم اصطلاحات العرب العلمية في جميع أوروبا، وفي القرن الثالث عشر للميلاد فتحوا مدرسة للطب والعلوم في مدينة مون بيليه القريبة لمرسيليا، وجاءوا لها بالمعلمين من عرب الأندلس ويهودها المستعربين، فكانت تلك المدرسة أقدم المدارس في أوروبا بعد مدرسة ساليرن القريبة لنابولي، ولم تزل مدرسة مون بيليه عامرة يقصدها طلبة العلم من الأستانة ومصر وغيرهما من بلاد الشرق، ثم في سنة 1323 أنشأ أدباء الإفرنج في مدينة طولوز التي فتحها العرب سابقا جمعية أدبية لم تزل زاهرة إلى يومنا هذا، وتسمى جمعية «لعب الأزهار»، وتفرق في كل سنة على نوابغ الشعراء عشر جوائز مصوغة من الذهب والفضة على هيئة الأزهار، وكان لفيكتور هوكو منها أوفر نصيب كما تقدم، ومعلوم أن العرب أقاموا مدة بتلك الأصقاع، وحرثوا أرضها، وتزوجوا بناتها وعمرت بهم مدينة أربونة (ناربون) وقرقشونة (قرقسون) وفراقسنة، وكانت مستعمرة للعرب في شرق مرسيليا، وقسطل سارازين ومعناها قلعة العرب، وهي في الشمال الغربي من طولوز.
فتعلم الإفرنج من العرب القوافي، ورقة الغزل، وآداب النظم والنثر، وتلحين الأغاني والشعر ونقلوا عنهم القصص والحكايات والنوادر، وضروب الأمثال، والحكم المنقولة عن الفرس والهنود كما هو مفصل في تواريخ الأدب الفرنساوي، وإلى ذلك أشار الموسيو رينه دوميك في كتابه المتداول بأيدي طلبة العلم في عموم المدارس الفرنساوية، وبعد أن اطلع الإفرنج من كتب الإسلام على ما عند اليونان من الفلسفة والحكمة أقبلوا على درس اللغة اليونانية، ولم يهملوا كتب أدبها كما أهملها العرب من قبلهم، بل تهافتوا على درس أدب اليونان واللاتين وعلى حفظ أشعارهم والتمثل بها، وهاموا في قص قصصهم وفي تشخيص رواياتهم؛ لأن فن التشخيص أو التمثيل كان شائعا عند اليونان والرومان وألف أدباؤهم كثيرا من الروايات واشتهر منها مؤلفات أوريبيد وسيما رواية «أندروماق» التي نسج راسين على منوالها، ولا يزال السياح يشاهدون في أتينة على سفح الجبل تحت قلعة الأقروبول آثار المرسحين العظيمين اللذين هما من بقايا التمدن القديم.
وكان أسبق أمم أوروبا إلى تحصيل فنون الأدب الإسبانيول، والطليان المجاورون للعرب، فظهر في الأولين من فحول الشعراء لوب دوفيكه، ونظم نحو ألف وثمانماية رواية تمثيلية، وظهر فيهم أيضا الشاعر قالديرون ولوقين وغيرهم، وفي الطليان ظهر الشاعر دانتي (1265-1321م)، وطار له ذكر في العالم، وهو يعد في مصاف أكبر شعراء الأمم القديمة والحديثة، وسبب شهرته كتابه الموسوم بالكوميدية الإلهية - ديفين كوميدي - ألفه في غضون سنة 1300م، وجعله على ثلاثة أبواب باب في جهنم، وباب في الأعراف، وباب في الجنة، وسمى الباب منها بالنشيد وقسمه إلى مائة غناء، كل غناء يشتمل على 130 أو 140 بيتا، وافتتح كتابه بباب جهنم، وصور نفسه مشرفا على غابة مظلمة تقشعر الجلود من سماع وصفها، وهم بدخولها لو لم يعترضه ثلاثة سباع كاسرة. وبينما هو بين أظفار المنية وإذ ظهر له فرجيل الشاعر اللاتيني، وعرض عليه أن يكون قائدا له في الأعراف والسعير فقط؛ لأنه لا يستطيع دخول الجنة ولا وطء عتابها لكونه من عبدة الأوثان، فقبل دانتي بقيادة فرجيل له وسارا معا في عالم أهل النار، وأطنب الشاعر في وصف أصحاب السعير، وصور عذاب الذين مر بهم من الظلمة والجبارين، وأتى على قصة أيكولين، وكان جبارا عنيدا في مدينة بيزا فوقع بأيدي أعدائه فوضعوه مع أولاده في برج، وسدوا عليهم جميعا فاشتد به الجوع وأكل أولاده ثم هلك.
فوصف دانتي جميع ذلك بصورة هائلة على الأسلوب المعروف بالدراماتيقي، ولما أدته خاتمة المطاف إلى الجنة وجد ببابها بياتريس، وكانت من ربات الجمال المشهورات بمدينة فلورانسا، وقيل كانت معشوقته فتلقته واخترقت به طبقات الجنة المسيحية، أو طباق السموات فلقي فيها كثيرا من الأبرار، والقديسين، والملائكة المقربين وباحثهم بالمسائل اللاهوتية والعلوم الإلهية والكلامية. وجمع دانتي في مؤلفه علوم العصر وآدابه ومعارفه، ووضع به أساس اللغة الطليانية، فكان كتابه كدائرة المعارف والآداب، ولم يزل يستوقف أنظار الأدباء بحسن ترتيبه وجودة سبكه وبما فيه من المهارة العجيبة في التنقل من مبحث إلى آخر، فالكوميدية أو المضحكة الإلهية أشبه برسالة الغفران التي حررها المعري قبل تأليف الكوميدية بأكثر من قرنين وقدمها جوابا لرسالة وردت عليه من أحد أصحابه الأفاضل في حلب، وانتقل فيها لذكر الجنة ونعيمها ولذكر من دخلها من الشعراء الذين يتبعهم الغاوون وفي كل واد يهيمون، وما كانوا يدخلونها إلا بعمل صغير كان له عند الله أجر كبير، فغفر لهم ما تقدم من الذنب وما تأخر، وقالت لهم الملائكة: طبتم فادخلوها خالدين.
واقتفت الأمم الأوروبية أثر الإسبانيين والطليان في العدول عن اللغة اللاتينية إلى وضع لغاتهم القومية وتدوينها، وأقبل الأدباء في إنكلترة على التأليف باللغة الإنكليزية. وأصلح الفرنساويون لسان رومان وهذبوه فأصبح اللغة الفرنساوية. واقتفى الألمان أثر من ذكر من الأمم، ودونوا لغتهم الألمانية، وكان فن الأدب منحصرا في الخواص شأنه عند العرب ولا نظر للعوام فيه؛ ولذا اختار الأدباء اصطلاحات مخصوصة من اللغة وتصنعوا في كلامهم وتعملوا له؛ لأن الخواص من الناس يأنفون من استماع الكلام السوقي المبتذل، ويألفون الغوص على المعاني وإعمال الذهن في استخراجها، ثم ظهر في فرنسا ألكسندر هاردي، وهو أول من أصلح فن التمثيل واللعب على المراسح، واتخذ الروايات الإسبانية نموذجا له، ونظم على منوالها كثيرا من الروايات الفرنساوية وشخصها على مرسح باريس في حدود سنة 1600م. وفن التمثيل كما لا يخفى هو من أكبر العوامل على ترقي فنون الأدب وإصلاح طرق النظم والنثر؛ لأن الأديب يخاطب بهذا الفن الجمهور، وأصناف الناس فيتحرى في كلامه التعبير الذي يستطيعون فهمه، والأساليب التي لها وقع في نفوسهم بخلاف من يؤلف كلامه للخواص، فإنه يتعمل في التأليف ويتصنع ليظهر تفننه واقتداره على إيراد النكت والدقائق التي لا يفهمها إلا أصحاب الغوص على المعاني.
والتمثيل كما لا يخفى مشتق من ضرب المثل، فإن الرواية التمثيلية ما هي إلا ضرب مثل جامع للأطراف والتفاصيل، وأحسن ضروب الأمثال وأبدعها وردت في القرآن الكريم الذي تحدى به النبي - عليه السلام - العرب، وقال أتوني بسورة من مثله فقالوا: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فذاك يمكنك ما لا يمكنا، قال: فهاتوها مفتريات. فالرواية هي أسلوب من أساليب المفتريات، وأساس فن التمثيل عند الأوروبيين مستفاد من أعمال المتعبدين في الكنائس، ومن تشخيص ما شبه لهم في المسيح ابن مريم - عليهما السلام - من القتل والصلب، ومن تمثيل آلام الذين اقتدوا به من القديسين والشهداء في سبيل النصرانية، ولما درس الإفرنج اليونانية واللاتينية وانتشقت أساليب هاتين اللغتين في نفوسهم حذوا حذو شعراء اليونان والرومان، واتخذوا رواياتهم منوالا نسجوا عليه أمثالها من كلمات أخرى فرنساوية، وربما ترجموا أبيات شعرهم وسرقوا معانيهم وصاغوها في ألفاظ فرنساوية من الطبقة العليا وتأنقوا فيها نهاية التأنق، وراعوا قواعد النحو والصرف والعروض، وبقية علوم الآلات المدرسية والأساليب المتعارفة، فجاءت أبياتهم متينة وقوافيهم عامرة وكل بيت منها كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه.
ولم تحصل الملكة في ذلك إلا لمن هو على جانب من العلم، وله الحظ الأكبر من الذوق السليم لاحتياجه إلى تلطف كثير في استحصال الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له، وبلغ الأدب الفرنساوي في عصر لويس الرابع عشر؛ أي من سنة 1600 إلى سنة 1715 أوج الكمال ومنتهى البلاغة، وأصلح الأدباء فنون الأدب ورتبوها على القواعد، وهذبوها ووضعوا المؤلفات الجليلة والروايات البديعة، وظنوا بأنهم لم يتركوا شيئا للمتأخرين. فكان عصر لويس الرابع عشر في الأدب عصرا مدرسيا (كلاسيك) أشبه بعصر أغسطوس عند الرومان، وبعصر بيرقلس عند اليونان. ونبغ من شعراء الفرنساويين في فن الفاجعات (تراجيدي) الأديب بيير قورنيل، والشاعر المفلق راسين، ونبغ في فن المضحكات (كوميدي) الأديب مولير، ونبغ في فن الهجويات (ساتير) الأديب المدقق بوالو، فهؤلاء من نوابغ العصر المذكور الذي بلغ اللسان فيه منتهى الفصاحة والبلاغة، ومن أحسن مؤلفات بيير قورنيل رواية السيد، والكلمة عربية لقب بها أحد أبطال الإسبانيين في القرن الحادي عشر للميلاد، وبيان ذلك: أن العرب بعد استيلائهم على جزيرة الأندلس
16
التجأت بقية السيوف من القوط إلى جبال أستوريا، وتحصنوا فيها ولموا شعثهم وشكلوا حكومات، وإمارات صغيرة فلم يعبأ بهم العرب وحسبوهم من قطاع الطرق المتشردين في الجبال، وتشاغلوا عنهم بإعمار تلك السهول وتمنعوا برياضها الغناء، فمن الإمارات التي أسسها القوط في شمال الأندلس أستورية، وليون، وقشتالة، وكان المالك عليها في ابتداء القرن الحادي عشر للميلاد فرديناند الأول فأوصى بتقسيم الملك بعد وفاته بين أولاده ، فكان ابنه ألفونس السادس على ليون الإسبانية، وابنه الثاني سانش على قشتالة، فالسيد صاحب الرواية ولد سنة 103 وسمي رودريك، وكان أبوه الدون ديغوا من أشراف القوط فأدخله في سراي فرديناند الأول، وبعد وفاته دخل في خدمة ابنه سانش، ولما اقتتل الأخوان وانهزم سانش في إحدى المواقع قوى السيد عزمه، وأشار عليه بالمشورات الحسنة فاتبع رأيه، وانتصر على أخيه وحبسه وتفرد بالملك على ليون وقشتالة، فكان السيد له نديما ووزيرا وناصحا ومشيرا، ثم حدثت فتنة وقتل سانش في محاصرة زامورة وخلفه أخوه ألفونس السادس، فأمن السيد وأقسم له الأيمان المغلظة بأنه لا مدخل له في قتل أخيه سانش، وقربه منه وزوجه بواحدة من قريباته، وكانت على رواية التاريخ عجوزا شنعاء، ولم يتزوجها السيد إلا طمعا في مالها. وبعد أن تم الأمر لألفونس السادس وأمن غوائل الرقباء فعل بالسيد ما يفعله المستبدون من الملوك، وصادره وأراد الفتك به ففر من ملكه إلى الحدود الإسلامية، وعمر قلعة بالقرب من سرقسطة (ساراغوس) بين دارقة والقنيز، ولم يزل أثر تلك القلعة على صخرة عالية تسمى صخرة السيد كما تنسب الصخرة التي في رونسيفو؛ أي في مدخل جبال البيرينة إلى رولان.
واستقل السيد بحكمه في تلك القلعة، وكان يتعيش هو ورجاله من النهب والغارة على القرى المجاورة، ومن قطع الطرق على القوافل الإسلامية والمسيحية، فاشتهر خبره وتحدثت الركبان بشجاعته ثم اتفق مع أمير سرقسطة وأمير البراسين، وهما من أمراء المسلمين، وقاتل معهما أمير أراغون المسيحي، وحارب كذلك عسكر ألفونس السادس والمتفقين معه من أمراء المسلمين؛ لأنهم كانوا متفرقي الكلمة يقاتل بعضهم بعضا، فجاءهم يوسف بن تاشفين بعساكر المرابطين من إفريقية ووحد كلمة الإسلام في عموم جزيرة الأندلس مع أنه كان أميا بربريا، فوقف السيد أمام المرابطين ودفع هجماتهم عن بلنسية، ولم يمكنهم من الاستيلاء عليها إلا بعد وفاته في سنة 1099م. فتحدث القريب والبعيد بشجاعة السيد وثبات عزمه وطار له ذكر بين الفرسان، ونظمت فيه القصائد العنترية أو الهلالية بلسان رومان، ثم جاء قورنيل ونظم فيه روايته المشهورة بدون التفات للتاريخ ولا تعمق فيه، بل نسج على منوال القصائد الرومانية وتخيل فيها تخيلاته الشعرية، وجعل تلك المرأة التي تزوجها السيد بديعة الحسن والجمال، ولما عشقها وعشقته اتفق أن والدها أهان والده، فانقض عليه السيد وقتله، وتمكن من تسليط إرادته على عشقه، أما اسم السيد فأطلق عليه حينما كان متفقا مع أمير سرقسطة وأمير البراسين وحارب معهما، ولم نتعمق في التاريخ لنفهم هل دخل السيد في الإسلام أم لا، ومن أبيات قورنيل في روايته المذكورة قوله: «كلاهما سمياك سيدهما بحضوري؛ لأن السيد بلسانهم تعادل كلمة سنيور.»
أما ما ألفه راسين من الروايات الموافقة تماما للقواعد المدرسية، فأحسنها رواية «أندروماق»، ونسجها على منوال سميتها الرواية اليونانية المؤلفة قبل الميلاد بأربعة قرون، وتخالف رواية السيد في وحدة الزمان وفي أخلاق بطلها لتغلب العشق عليه، وانتصاره على إرادة العاشق. ومن روايات راسين «أستير» الإسرائيلية ويشخصها أحيانا طلبة المدارس في بيروت، ورواية «أتلي» وهي من الإسرائيليات أيضا؛ قال فولتير: إنها أحسن محصولات العقل البشري. ومن أحسن ما ألفه مولير في المضحكات رواية «تارتوف»، وهو رجل مراء في نسكه وعبادته أغفل بخبثه أحد المتولين من البسطاء، واستولى على أمواله وعياله فصار اسم تارتوف كناية عن الرياء والخبث، وقد أتى المعري بأبيات كثيرة تشتمل على مضمون هذه الرواية كقوله:
وليس عندهم دين ولا نسك «فلا تغرك أيد تحمل السبحا»
وكم شيوخ غدوا بيضا مفارقهم
يسبحون وباتوا في الخنا سبحا
وألف بوالو كتاب الهجويات (ساتير) ووضع في قواعد الشعر كتابا سماه الفن، أو الصناعة الشعرية (آربويتيك) وأنكر الشعر والشعراء في المتقدمين، وقال: لم تأت فرنسا بشاعر قبل «ماليرب»؛ أي إن الشعراء الذين جاءوا قبل دخول القرن السابع عشر لا يستحقون الذكر في مصاف الشعراء؛ لعدم إتيانهم بالكلام المدرسي المنتظم المعقول، ولتهافتهم على التصنع البارد في الكلام وإظهار الرونق الكاذب فيه، وبيان مهارتهم وعلمهم بكل ما هو من فضول الكلام؛ ولذا فكلامهم لا طعم له وفيه كثير من الغرور والإعجاب. فبوالو بالغ في كلامه وحط كثيرا من كرامة المتقدمين، ولكنه أصلح أساليب الشعر الفرنساوي كما أصلح باسكال أساليب النثر، وكان باسكال إماما في العلوم الرياضية والطبيعية، واقتفى أثر بوالو في انتقاد كلام المتقدمين لوزير ضيا باشا، وألف مجموعة سماها الخرابات خرب فيها كثيرا من أشعار الفرس والترك والعرب المتقدمين عليه، وكانت وفاته في بروسة سنة 1295ه فجاء كمال بك إمام الأدب في اللسان العثماني، وكتب عليه انتقادا سماه تخريب الخرابات، ونشره في مطبعة أبو الضياء فالغاية التي يتطلبها أئمة الأدب العثماني كاللذين ذكروا عبد الحق حامد بك مستشار سفارة لوندره، وأكرم بك، وسعيد بك من أعضاء الشورى، والمعلم ناجي أفندي المتوفى منذ بضع سنين وبقية النشأة الجديدة؛ هي تخليص لسانهم من مبالغات الفرس الأعاجم والسلوك فيه منهج بوالو، وراسين، وقورنيل، ومولير وبقية أدباء عصر لويس الرابع عشر؛ لأن هؤلاء الأدباء يذهبون إلى أن التخيل الشعري ينبغي أن يكون مقرونا بالتعقل، فعندهم أن الشعر ليس أعذبه أكذبه، بل أحسنه أصدقه كما قال حسان:
وإن أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
واشترطوا في الروايات التمثيلية ثلاثة شروط:
وحدة الزمان.
وحدة المكان.
وحدة العمل.
أي إن الحادثة الممثلة على المرسح يشترط تصور حدوثها في زمن واحد؛ أي في ظرف 24 ساعة مثلا؛ ليكون التمثيل أقرب إلى الحقيقة، وأشبه بالواقع؛ لأن حوادث الأربعة والعشرين ساعة يمكن اختصارها وتمثيلها في ساعتين، فراسين راعى هذا الشرط في رواية أندروماق، وقورنيل خالفه في رواية السيد، ونقل بطل الرواية من سنة إلى أخرى، فالقائلون بهذا الشرط تنقبض نفوسهم من تمثيل الحوادث التي حدثت في أزمان متطاولة، وقصدهم من وحدة المكان اشتراط وقوع الحادثة في مكان واحد؛ لئلا ينتقل ذهن السامع من مكان لآخر، فيبتعد بذلك عن الحقيقة؛ ولذا كانت مراسح القائلين بهذا الشرط ثابتة المناظر من أول اللعب إلى آخره، بحيث إذا رفع الستار عن مكان يبقى المكان بعينه في الفصل الثاني وما بعده من فصول الرواية لمراعاة شرط وحدة المكان، والمراد من الشرط الثالث أن يكون بطل الرواية واحد وعروسها واحدة، ثم السعي وراء عمل واحد، وهو الحب مثلا وينتهي بفناء المحبين، أو أحدهما، أو انتصارهما أو تغلب إرادة العاشق على عشقه كما فعل السيد، وقتل أبا معشوقته أخذا بثأر أبيه، أو بالعكس كما قتل سفير اليونان زوج محبوبته في رواية أندروماق وخان بذلك وطنه، ولم يرع عهد من ائتمنه، كل ذلك مرضاة لمعشوقته.
فمصدر هذه الشروط والقيود وأمثالها هو التعقل في الكلام الأدبي، وتحكيم الذوق السليم في فنونه، ولم يكن الأدباء قبل عصر لويس الرابع عشر يتعقلون في نظمهم ونثرهم، ولا يحكمون الذوق السليم فيها؛ ولذا كانت فنون أدبهم مشحونة بالخرافات والأباطيل، وبما هو خارج عن الطبيعة والاعتدال وخارق للعادة، ومشتمل على المبالغات العجمية وعلى زخرف القول، فلما تعقل الأدباء في كلامهم وجدت الطريقة المدرسية التي قيل لها: «كلاسيك»، والكلمة كما هو معلوم مشتقة من الصف والدرس والمدرسة؛ لأن السالكين هذه الطريقة لا بد لهم من درس آثار الواضعين لقواعدها والارتياض في كلامهم لتحصل لهم ملكة في النظم والنثر، وإمام الطريقة المدرسية وشيخها الأكبر راسين. (7) الطريقة المدرسية عند الإفرنج
فروايات الأدباء والشعراء المتقدم ذكرهم يقال لها روايات مدرسية، كما يقال للكتاب الذي يدرس في المدارس: كتاب مدرسي، ويقصد به الكتاب الأقرب إلى مرتبة الكمال في الفن الذي هو مؤلف فيه، فرتبة الكمال يمكنا تصورها والإحاطة بها في العلوم المدرسية كالنحو والصرف، والبيان، والمعاني، والعروض أو الفقه والحساب.
ولكن في الأدب وفي الروايات التمثيلية ليت شعري ما هي مرتبة الكمال؟ ففي جواب هذا السؤال وقع الاختلاف بين مشايخ الطرق الأدبية من مدرسية ورمانية وحقيقية، أو طبيعية وفي نهايتهم الطريقة الإنسانية، وهي موضوع حديث القوم في يومنا بسبب كتاب نشره الموسيو فيكتور بيرار مستشار نظارة البوستة والتلغراف، وبحث فيه عن الأوديسة التي نظمها أوميروس الشاعر اليوناني، وكان الموسيو بول آدم بحث عن هذه الطريقة الأدبية الجديدة في مقدمة قصته التي عنوانها «أسرار الجمهور» (مستير دوفول)، وبول آدم يحرر اليوم في جريدة الجرنال الباريسية.
فأصحاب الطريقة المدرسية يذهبون إلى أن مرتبة الكمال في الأدب ، هي «أولا» تمام النسبة التي بين أساس الفكر وبين شكل التعبير؛ أي بين المعاني التي يختلقها الشاعر وبين قوالب الألفاظ التي يسكب تلك المعاني فيها، فعلى مذهبهم لا يكفي أن يكون المعنى حسنا بل ينبغي أن يكون الحسن أيضا في كيفية أداء هذا المعنى، فالكلام الجاري على الطريقة المدرسية هو معنى بديع في لفظ حسن،
17
فهذه الموازنة التي بين أساس الفكر وشكل التعبير، هي الخاصة المميزة لمؤلفات العصور المدرسية كعصر لويس الرابع عشر، وعصر أغسطوس، وعصر بيرقلس. والعصر المدرسي لا يوجد عند جميع الأقوام، بل بعض الأمم ليس لهم عصر مدرسي ولا أدب مدرسي مطلقا، ولا يتيسر لهم الوصول إلى مرتبة الكمال في الأدب أبدا؛ لأنهم إذا تمكنوا من الإتيان بالمعاني البديعة، فلا يتمكنون من أداء هذه المعاني بالألفاظ الحسنة، ولا يقدرون على الترجمة عن أفكارهم حق الترجمة لأحد السببين:
إما أن اللسان الذي يتكلمون به لم يزل على خشونته، ولم يكتسب بعد الشكل البديع.
وإما أن تكون أساليب الفن ولوازم الصناعة الأدبية لم تعرف بعد عند المتكلمين به.
ثم إنهم يشترطون في التأليف المدرسي أن يكون ظهوره في الزمن الذي بلغت اللغة فيه أوج الكمال، ويقولون لا بد من هذا الشرط، ويعترضون على أصحاب الطريقة الرومانية؛ لأنهم تجاوزوا النسبة التامة التي بين أساس الفكر وشكل التعبير، ولم يكتفوا بالتعبير البسيط الذي يؤدي معانيهم تمام الأداء، بل أرادوا زيادة عن هذه النسبة التامة، بل تطلبوا أزيد من ذلك أيضا، فأرجعهم تهافتهم إلى الوراء، وساقهم إلى الأساليب الأجنبية، وأوصلهم إلى طريقة لوب دوفيكه الإسباني، وإلى طريقة بايرون، وشكسبير الإنكليزيين.
ويذهب أصحاب الطريقة المدرسية إلى أن مرتبة الكمال في الأدب هي، «ثانيا» وجود موازنة بين التخيل الشعري وبين التعقل، بل يشترطون وجود هذه الموازنة بين جميع الحواس، فإذا كان التخيل الشعري في التأليف الأدبي منافيا للعقل، فلا يعتبرون ذلك التأليف على نهج الطريقة المدرسية، مثال ذلك مبالغات شعراء الفرس ومن خالطهم من شعراء الترك والعرب. ومبالغات العرب أقل من غيرها لا سيما في كلام الجاهلية، وأهل الطبقة الأولى من الإسلاميين الذين لم يكثر اختلاطهم بالأعاجم، ولا حصلت لهم ألفة بفنون أدب الفرس ولا بتعبيراتهم، ومن هذه المبالغات قول المتنبي في صباه يصف ما فعل به العشق:
أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني ...
إلى أن قال:
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فهذه المبالغة لا تنطبق على العقل ولا تحدث في العادة، والمتنبي ولد في الكوفة وذهب إلى فارس واختلط بأدباء العجم. ومن مبالغات نفعي كبير شعراء الترك المتقدمين (القرن الحادي عشر للهجرة) قوله بالألفاظ الفارسية، والتركيب، والتركي يصف يوما شديد الحر: «... كيم برمور بردم كرم أيله إيلريدى درياي سراب»، ومعناه: أن النملة بنفس حار تجعل السبع البحور سرابا، ومن قرأ ديوان نفعي حسب ناظمه من زمرة عوج بن عناق وظن تمثال رودس الذي كانت المراكب تمر من بين ساقيه صورة له، ومنها قول ضيا باشا - وهو في مقدمة أدباء النشأة الجديدة العثمانية، وله وقوف على الفرنساوية - باللسان العثماني الجديد الذي يكثر فيه استعمال الألفاظ العربية، «سرولر أفلاكه سرچكمش مثال قديار»، ومعناه مثل قد الحبيب كأشجار سرو تناطح برءوسها الأفلاك، ويذكرني هذا ما قاله أحد الواعظين في جامع أيا صوفيا بأن من صام كذا، وصلى كذا، وسبح كذا في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، رزقه الله في الجنة حورية طولها ما بين بعد المشرقين، فإن كنا نستهجن طول الآنسة إيلابوين أطول نساء العالم، ولا تتوق النفس إلى قربها وهي لا تزيد عن الطول المعتاد بأكثر من قدمين، فما بالك أن زاد قد عروسنا الميال عن ذلك.
ويقسم علماء المعاني المبالغة إلى ثلاثة أقسام: وهي ما كان وقوعها جائزا عقلا وعادة ويقال لها: التبليغ، ومعقولة وهي ما كان وقوعها جائزا عقلا لا عادة ويقال لها: الإغراق، وغير معقولة وهي ما لا يجوز وقوعها العقل ولا العادة، ويقال لها: الغلو، فأهل الطريقة المدرسية يرفضون الغلو والإغراق في الكلام، ويقولون: بأن بعض الأمم أو بعض العصور في الأمة الواحدة لها تخيل شعري وليس لها تعقل.
وقد جاءت هذه الأمم، أو هذه العصور بكثير من المؤلفات البديعة التي لا تخلو من الفوائد، ولكن مؤلفاتهم ليست بمدرسية لوجود التخيل الشعري فيها بدون تعقل، كما هو الحال في ماها بهاراته، ورامايانه من أشعار الحماسة الهندية وفي الشعر الفارسي والتركي القديم وبعض أشعار العرب المخالطين للعجم. فمن خصائص العصور والآداب المدرسية تحكيم الذوق السليم في مؤلفاتها والذوق السليم لا يميل طبعا إلا للجمال، والتناسب، والقياس، ولا وجود لما ذكر في زمن تشكل اللسان، ولا في زمن انقراضه.
ولأصحاب الطريقة المدرسية مسألة ثالثة أيضا، وهي محبتهم الصدق والحقيقة، فهم يذهبون إلى أن أحسن الشعر أصدقه لا أكذبه، ولكنهم لا يقصدون باتباع الحقيقة تصوير الحقيقة بعينها تصويرا تاما كما ذهب إليه أصحاب الطريقة الحقيقية، وورد في مؤلفات إمامهم إميل زولا، كل بل يقولون فقط بلزوم ارتباط التصوير الذهني بالشيء الحقيقي، وبأن التصوير الذهني وحده في الشعر لا يكفي.
وعندهم أيضا أن التآليف المدرسية يجب أن تكون منحصرة في تصوير الجميل والبديع، فالتآليف المغايرة للآداب الأخلاقية ، والموجبة لاشمئزاز النفس يندر فيها الجمال فلا تكون مدرسية، فهم لا يطالبون الكاتب الذي يسلك طريقتهم بأن لا يحرك قلمه إلا في المواعظ الحسنة والأخلاق المستحسنة، ولا يصور فيها شيئا غير الجمال، ولكنهم ينذرونه بسقوط مؤلفاته إن ملأها بوصف الأشياء القبيحة والأفعال الشنيعة، كما فعل زولا في كتاباته، وصور فيها بؤس المعيشة وسفالة الحياة.
ونظم أحد الأدباء في العام الماضي رواية صور فيها الأمراض الزهرية، والعلل الإفرنجية التي تحدث من الانهماك في العهر وشرح ذلك على مرسح اللعب شرحا أليق أن يكون في غرفة الطبيب المخصصة لمعاينة الأمراض السرية، فمنع المراقب تمثيلها في باريس كما منع رقصة الشربة والشمعة من المرسح المصري في المعرض الأخير، ويقال: بأن الرواية المذكورة في غاية من البلاغة وباعثة على التعفف.
ويشترطون في الطريقة المدرسية شرطا أخيرا وهو أن تكون المؤلفات فيها ملية قومية؛ أي مصورة لأفكار القوم الفلسفية ولأحوالهم الاجتماعية، فإن كان التأليف الأدبي وضع تقليدا للأجانب فلا يكون مدرسيا، فبناء عليه يكون هذا الشرط مرعيا في المؤلفات التي استخرج صاحب مجاني الأدب زبدتها في كتابه؛ لأنها من المؤلفات المختصة بالعرب قبل الإسلام وبعده، بخلاف المؤلفات العربية الموضوعة في زماننا على الأسلوب الإفرنجي، وربما كانت مترجمة عن لسان من الألسنة الأجنبية، فإنها ليست على وفق الطريقة المدرسية، مع ما فيها من الفوائد التي سنذكرها في بحث الطريقة الرومانية.
فهذه زبدة الأقوال وخلاصة القواعد التي أسست عليها الطريقة المدرسية، فكان من أتى من الأدباء بعد عصر لويس الرابع عشر، وهو القرن السابع عشر الذي بلغ اللسان الفرنساوي فيه درجة الكمال، لا يخرجون في النظم والتأليف عن الأساس الذي وضعه مشايخ الطريقة المدرسية، ولا عن الأساليب التي راعوها، ويتكلفون لذلك الصعاب ويعانون طول الدرس ومراعاة القواعد؛ ليتمكنوا من تحسين العبارة، ومن تطبيقها على ما يتخيلونه من التشابيه والاستعارات ويلتزمون عدم الخروج عن أوزان العروض المصطلح عليها بين قومهم وجماعتهم، ويجعلون كل بيت في الغالب كلاما تاما، ولا يأتون بشيء من الكلام السوقي المبتذل ولا يصورون رذيلة من الرذائل، ولا سوأة من سوآت الإنسان وعوراته، ولا يصفون شيئا من بؤس المعيشة، أو سفلة الحياة الدنيا، وينتخبون مواضيع مؤلفاتهم من تواريخ القرون الأولى أي: من تاريخ اليونان، والرومان، والعبرانيين، فكان كلامهم مشتملا على التخيل الشعري وعلى التعقل المشروط وجودهما في الطريقة المدرسية، ولكنه بارد ممل بسبب ما فيه من التصنع والتعمل، ومن مراعاة تلك الشروط والقيود التي قيدت عقول أصحابه ومنعتهم عن الخوض في مضمار الوسط الذي هم فيه، ويشعرون به ويريدون البحث عنه فيمنعهم مراعاة تلك القواعد والأساليب الإنشائية، فمؤلفاتهم مع استيفائها للشروط المدرسية لم تحدث تأثيرا على النفس، ولا تهييجا للعواطف كمؤلفات الطريقة الرومانية لعدم مراعاة شرط الإحساس القلبي فيها؛ ولذا قالوا: بأن راسين، وقورنيل، ومولير وأهل طبقتهم لو أطلقوا العنان لأقلامهم ولم يقيدوها بسلاسل تلك الشروط المدرسية لأتوا بأحسن مما جاءوا به من درر الألفاظ، وغرر المعاني.
فهذا ما كان عليه فن الأدب الفرنساوي قبيل الانقلاب الكبير؛ ولذا كان الكثير من الكتبة لا سيما النشأة الجديدة يتذمرون من تقيدهم بتلك القيود المدرسية، ويرون أنفسهم كالمقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه، فكان مثلهم كمثل غلام في مكاتبنا أراد التحرير لوالديه فلم ير أمامه من نموذج الإنشاء سوى ما طبع في الأستانة من رسائل الخوارزمي، والبديع الهمذاني، وكانت هذه النشأة الجديدة ترى أيضا قصور الطريقة القديمة عن حقيقة البلاغة، وهي مطابقة الكلام للواقع ومقتضى الحال؛ لأن أصحاب الطريقة المدرسية مع محافظتهم على التعقل في الكلام كادوا بكثرة تشابيههم واستعاراتهم لا يسمون الأشياء بأسمائها الحقيقية، ويستعملون الحشو ويتكلفون للعبارات التي لا لزوم لها، فإذا أراد أحدهم أن يعين الوقت وهو يكتب قصة أو رواية، ويقول مثلا قبل مرور ساعة من الزمان دبج عباراته وكثر استعاراته، وقال: «قبل أن يتم العقرب خطاه المنظومة، وينقل على مينا الساعة المجلاة ستين خطوة موزونة ...» إلخ.
كما فعل الشاعر الفرنساوي أندره شينيه، وهو خاتمة الشعراء السالكين منهج الطريقة المدرسية وأبلغهم كلاما، وكانت ولادته في الأستانة وأمه رومية، فارتحل إلى باريس وصار فيها إمام أهل طبقته، فلما قتل سنة 1794م مع من قتل من أفاضل الرجال وأكابرهم بآلة الكيليوتين انقرضت الطريقة المدرسية بعد أن كانت قواعدها وأساليبها هي المرعية بين الأدباء، يتبع فيها الخلف أثر السلف، ومع اعتراف النشأة الجديدة بما فيها من القصور والخلل لم يقدم أحد منهم على تركها، ولا الخروج عنها لأوائل القرن التاسع عشر.
فقبل هذا التاريخ كان جمهور الناس، وعوام الأمة في تسيب وغفلة لا يقيدون على المصالح انتظمت أو لم تنتظم، ويدعون الأمور تجري في مجراها حسنا كان، أو قبيحا، نافعا أو مضرا، كما يجري الماء في الأرض الطيبة بدون حفر النهر ولا كريه، وكانوا يستعملون هذا التعبير «ليسه أله» كما نستعمل تعبير «طيب معليش»، ولا يهتمون بالمسائل العمومية والاجتماعية كأنها لا تعنيهم ولا يعود خيرها وشرها عليهم، فلما حدث الانقلاب الكبير في فرنسا سنة 1779م تغيرت البلاد، ومن عليها في بضع سنين، وانقلبت أفكار الناس وعاداتهم وأخلاقهم، وزال عنهم التسيب والغفلة والكسل والرخاوة، وشغفوا بحب الانتظام والدقة، فتقيدوا بالمسائل وتبصروا بالأمور، وكانوا صامتين ناصتين، مفكرين متعقلين لا يضيعون أوقاتهم في ما لا فائدة فيه، ولا يشتغلون بالعبث من اللهو واعتادوا على الآداب العسكرية في انتظام الحركات والسكنات؛ لأن الأمة بأسرها حتى النساء والصبيان كانوا بأجمعهم تحت السلاح الكامل يكرون ويفرون من غرب أوروبا إلى شرقيها، ومن قارة إفريقيا إلى قارة آسيا؛ أي من مصر إلى سوريا، فكان الواحد منهم لا يهمل في قيامه وقعوده أمرا ولا يغفل في ملابسه عن زر، ولا يترك فيها فتقا بغير رتق وإذا وقف استقامت قامته؛ لأن الإنسان مستقيم القامة، وإذا مشى أو ركب لا يتوكأ على الخدم كما تفعل أكابر بعض الأمم دلالا وعظمة، بل اعتمد في حركاته على نفسه، وانتزع من عقولهم أكثر الخرافات والأباطيل التي تتولد في الإنسان عادة، ويكبرها الوهم في مخيلته ما دام في مكانه لا يخرج منه، ولا يسيح في الأرض فينظر كيف كانت عاقبة المتقين.
فانقلاب الأخلاق، والعادات، والأطوار استلزم انقلاب اللهجة وتغيير التعبيرات؛ ولذا كان العصر الجديد مفتقرا لأسلوب جديد في النظم، والنثر وكان رجال العصر يترقبون حصول انقلاب في الأدب كما حصل في السياسة والعادات، فولد فيكتور هوكو وللعصر الجديد سنتان، وصار رجل هذا الانقلاب الأدبي. (8) الطريقة الرومانية
أسلوب الطريقة الرومانية ابتدأ ظهوره في مؤلفات شكسبير إمام الأدب وأمير البلاغة، ثم نسج على منوال هذه الطريقة أدباء الألمان وراجت بضاعتهم فيها، ثم جاء فيكتور هوكو وكشف أساس الطريقة، وأوضح مزاياها وصار إمامها المشار إليه بالبنان.
الأدب عند الإنكليز
فالإنكليز كانوا في مقدمة الأمم الأوروبية التي انتبهت من غفلة القرون الوسطى، وبادرت إلى إصلاح لسانها ووضع فنون الأدب والعلم فيه، وقبل ظهور الأدب الإنكليزي كان الإنكليز أنفسهم يعتنون بأشعار المداحين، وشعراء الربابة من الفرنساويين، وكانت اللغة الفرنساوية لسانهم الرسمي على عهد ملكهم كليوم الفاتح (1027-1087)، ومن خلفه عليهم من السلالة النورماندية؛ ولذا بقيت الكلمات الفرنساوية مستكثرة في اللغة الإنكليزية شأن الكلمات العربية في التركية والفارسية، ثم اشتغل الإنكليز بتهذيب لغتهم وإصلاحها، فأصبحت اليوم من أغنى اللغات الجديدة أدبا بعد اللسان الفرنساوي، ونبغ فيهم وليم شكسبير (1564-1616م)، وجمع في مؤلفاته ما تفرد به قورنيل، وراسين من فن المبكيات وما اختص به مولير وبومارشه
18
من فن المضحكات، وصار إماما في كثير من الفنون الأدبية كفن التراجيديا التاريخية، والدرام، والكوميديا، والأغاني المعبر عنها بالشعر الموسيقي (ليريك)، فكان في أفانين الأدب كما قال الشاعر:
وليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
وألف شكسبير نحوا من 35 رواية ترجمت لجميع اللغات الأوروبية، وترجمها للفرنساوية فرانسوا بن فيكتور هوكو وطبعت في 18 مجلدا. ولم تزل رواياته تمثل على مراسح الفرنساويين، والطليان وغيرهما من الأمم، وتمثل أحيانا في الأستانة، وأزمير، ومصر، والإسكندرية أيضا، وأشهر ما يمثل منها «روميو وچوليت»، وهما فتى وفتاة تحابا حبا شديدا، وقاسيا تباريح الجوى بسبب العداوة التي بين أهل الفتى المحب وبين أهل محبوبته، على مثال ما يقع بين قبائل العرب من العداوات التي تحول بين العاشق والمعشوق، بل على مثال ما يحدث في سوريا وفلسطين بين العائلات والبيوت القديمة من العداوات الجاهلية المانعة لوصال المتحابين ليومنا هذا.
ففي أواخر القرن التاسع عشر للميلاد حدث في طرابلس حادثة هائلة تشابه عشق روميو وچوليت من وجوه، لا سيما في اقتران المحبين سرا بمعرفة فقيه من المشايخ، كما اقترن روميو بچوليت على يد الراهب لورانس، وأفضى الأمر إلى هلاك المحبين في الحادثتين هلاكا تذرف الدموع لقص خبره، وتنفطر القلوب لمشاهدة تمثيله. فالتهويل بالموت في الحادثة الممثلة مما يجعلها من فن المبكيات. وتزيين المجلس بظرف الراهب، أو لطف الفقيه مما يقرب الحادثة الممثلة لفن المضحكات الذي مثلناه فيما سبق برواية تارتوف؛ لأنها أحسن نموذج لهذا الفن، ولكن الفرق عظيم بين تارتوف وبين لورانس؛ لأن تارتوف تمثال مجسم للرياء، والمكر يخدع الناس بحمل السبحة بيده ويصيد قلوب المغفلين بإظهار النسك وكثرة العبادة، وليس فيه شيء من الظرف والمجون، ولا العلم والأدب المتصف بهما أبو زيد السروجي بطل مقامات الحريري. بخلاف الراهب لورانس أو الشيخ ... فاتيما من ذوي الناموس والوجدان. ولم يتداخل كل منهما في الحادثة التي تخصه إلا لإصلاح ذات البين، فيظهر الواحد منهما على المرسح بهيئة الكمال والوقار، وعيون المتفرجين ترمقه بالاستحسان والاعتبار، ومع ذلك فوجوده في الرواية مما يقربها لفن المضحكات.
ومن روايات شكسبير المشهورة أيضا هاملت، وهو اسم ولد لملك من ملوك الدانيمارك في قديم الزمان، وخلاصة الرواية أن أم هاملت اتفقت مع عمه، وهو أخ الملك وكان شابا حسن المنظر فسقى الملك سما وتولى مكانه وتزوج أم هاملت فانتقم هاملت من عمه وقتله. وكان لهاملت معشوقة بديعة الحسن تلاهى عنها بتدبير الحيل في طلب الانتقام فماتت كمدا. وأبلغ ما في الرواية حديث هاملت مع حفار القبور وهم يحفرون قبر معشوقته ويشربون من القرعة ويتنادمون.
فالنكات الفلسفية التي يفوه بها حفار القبور مما يقرب الرواية لفن المضحكات، مع أنها من أبكى المبكيات، وقتل الملك على الوجه المتقدم له أمثال في التاريخ، منها قتل أم خالد بن يزيد لمروان بن الحكم في الدولة الأموية. ولم تزل الممثلة الشهيرة سارة برنار تمثل على المراسح دور هاملت بطل هذه الرواية، وتلبس لباس الرجال كما تمثل دور النسير، وهو ابن نابوليون الأول، وحفيد إمبراطور النمسا في رواية «ليكلون» التي نظمها شاعر العصر أدمون روستان.
ومن روايات شكسبير أيضا «ماقبت»، وهو قائد لجيوش دونقان ملك أيقوسيا من بلاد الإنكليز، قتل سيده وتغلب على ملكه وحكم من سنة 1049 إلى سنة 1057م، فصور الشاعر قصته في تلك الرواية، وخلاصة الكلام فيها: أن ماقبت اجتاز يوما مع رفيق له بمفازة مقفرة، فمرا بثلاث عجائز ساحرات كأنهن جنيات، فقالت إحداهن: السلام عليك يا ماقبت يا أمير غلاميس.
وقالت الثانية: السلام عليك يا ماقبت يا أمير قاودور.
وقالت الثالثة: السلام عليك يا ماقبت يا من سيكون ملكا على أيقوسيا.
فقال رفيقه بانقو: أعوذ بالله منكن، أي النسوة أنتن؟ أمن الإنس أم من الجان؟ تفاءلتن بكل خير لرفيقي ولم تنبئنني بشيء.
فقالت كبراهن: أما أنت فنخبرك بأحسن مما أخبرنا به رفيقك؛ لأن عاقبته مشئومة ويموت بلا ولد يخلفه في الملك، وأما نسلك فسيملك على أيقوسيا ويمتد الملك فيهم، قلن ذلك واختفين كلمح البصر، وكان الأمر كما تنبأن به.
ففي يوم من الأيام نزل الملك دونقان مع بعض خواصه عند ماقبت، فبالغ لهم في الضيافة والإكرام، وفرش للملك في مخدع، ولقرنائه في الغرفة المجاورة، وكانت زوجة ماقبت حريصة على تحقيق ما أخبرت به الساحرات، فحرضت زوجها على قتل ضيفه وسيده، فدخل في ظلام الليل الحالك وأخذ خنجرا لأحد القرناء وهم غارقون في النوم وغطسه في صدر الملك، فلما قتله أخذته الرهبة واستولى عليه الخوف والدهشة من هذا الجرم وغاب عن رشده. فتداركت زوجته الأمر ودخلت المخدع وغرفت بيدها من دم المقتول، ولطخت وجوه قرنائه وأيديهم لاتهامهم بإيقاع الجرم.
فتمت الحيلة وجلس ماقبت وزوجته على سرير الملك، ولكن لم يهدأ روع ليدي ماقبت ولا استراح ضميرها، فصور الشاعر ندامتها في الفصل الأخير من روايته بأبدع أسلوب وأبلغ تعبير، وأخرجها على المرسح حاملة مشعلا وهي لا ترى في عينيها إلا الظلام، وتفرك بيديها كأنها لم تنق من لطخ الدماء، ولا ذهبت الرائحة منها مع ما تطيبت به من طيب جزيرة العرب وعطرها المشهور، وتحسب زوجها معها فتقول له: اغسل يديك والبس ثوب النوم وقلل من اصفرار لونك ... إلخ.
ومن روايات شكسبير أيضا «أوتيلو» بين فيها غيرة الزواج وشدته على زوجته، وترجمها نظما للفرنساوية ألفرد دوفينيه، وله غير ذلك من الروايات.
وجل شكسبير في تصوير أخلاق الرجال وتوصيفهم، وبيان المزايا الخاصة بكل فرد من أفرادهم، فسلك في الأدب طريقة مستحدثة حاد فيها عن لهجة القدماء المؤسسة على أساليب اليونان والرومان، ونبذ وراء ظهره قواعد الطريقة المدرسية، ولم يلتفت في الرواية إلى وحدة الزمان والمكان، ولا تصنع في الإنشاء، ولا تقصد فيه إيراد البديع من الكلام، ولا تهافت على التشابيه والاستعارات، بل أخذ ما يلهمه إياه الوجدان ويمليه عليه الضمير ويصور الإحساسات الباطنية والآداب الاجتماعية بلهجة مألوفة للعموم آخذة بمجامع القلوب يتقلب فيها من طور الحلم، والجود، والكرم، إلى طور الغضب ، والبطش، والاستبداد، وبين عوامل الحب، والبغض، واليأس، والقنوط، والحسد، والطمع، وحب الانتقام، والتكبر، والتجبر، والتفاخر، والتكاثر، إلى غير ذلك مما هو مغروس في طينة الإنسان من الأخلاق والطبائع، ويظهر تأثيرها على النفس بعبارات سلسة جلية ليس فيها تصنع ولا تعمل.
ثم نبغ في الإنكليز الشاعر ميلتون 1608-1674م، وكان كاتبا لقرومويل الشهير فلما مات وانقرضت دولته غدر الزمان بالشاعر وعمي بصره، وذهب ماله فأملى على زوجته وبنتيه كتاب «الجنة الضايعة»، وهو في الحماسة المسيحية نظمه سنة 1658 بشعر لا قافية له، ورتبه على اثني عشر غناء فجاء من أحسن أبنية الشعر الإنكليزي، ومن أبدع ما ألفه شعراء الأمم الأوروبية بعد كتاب «المضحكة الإلهية» المشابه لرسالة الغفران.
فتحسنت اللغة الإنكليزية واتسعت دائرة الأدب والتخيلات الشعرية فيها، ومال أدباؤها لقراءة الأشعار القومية الدارجة التي نظمها في القرون الوسطى التروبادور، والزوفير وهم من شعراء الربابة المعاصرين لعرب الأندلس، وأوجدوا للشعر شكلا جديدا وأسلوبا مبتكرا، ونبغ فيهم مثل شلي (1792-1822م) وزوجته، واللورد بايرون، وكان ذا نفس عال وتخيل واسع، فنظم القصائد المعروفة بالشرقيات، وتشيع فيها لليونان تشيع العجم للسادات، وتفانى في حبهم ولم يزل غرام العشق يلعب برأسه أثناء حرب المورة إلى أن حطه العشق والهيام من أعلى قصور لوندره إلى أسفل أكواخ ميسولونكي، وهي قرية على ساحل خليج قورنت الفاصل بين شبه جزيرة المورة وبقية بلاد اليونان، وبسبب وخامة تلك القرية وعدم نظافتها كان هواؤها فاسدا، فأصابت الحمى الشاعر الإنكليزي، وعجلت بروحه إلى الآخرة ونقلت جثته إلى إنكلترا، وأقيم له في ميسولونكي تمثال يشاهده السائح في تلك البقاع.
فاللورد بايرون هو مؤسس الطريقة الرومانية باللغة الإنكليزية، وله في الشعر الدراماتيقي رواية ما تفرد نظمها في إيطاليا على نسق رواية فوست، وذكر فيها السحر والأرواح وخوارق الطبيعة، وله أيضا رواية «دون جيان» نظمها على أسلوب مبتكر، وكلتا الروايتين تمثلان الآن على المراسح الباريزية.
ومن مشاهير أدباء الإنكليز والترسقوت (1771-1832) كتب بالإنكليزية أكثر من سبعين قصة تاريخية بين سني 1814 و1832 كلها في غاية التدقيق عول عليها المؤرخون، ومنهم ميشله المؤرخ الشهير ؛ لأن صاحب القصص له في الوقائع التاريخية نظر دقيق، وشروح وافية قلما يتيسر للمؤرخ الإحاطة بها ونسج على منوال والترسقوت في القصص التاريخية وليم غودوين، ثم ظهر في عالم التحرير المؤلف التحرير والديبلومات الشهير بنيامين الإسرائيلي صاحب القصص السياسية، وهو اشتهر في التاريخ باسم اللورد بيونسفيلد، ونبغ في فنون الأدب والسياسة، وساح سنة 1829 في إيطاليا، واليونان، وبلاد الأرناؤوط، وبر الأناضول، وسوريا، ومصر، والحبشة ونشر كتب سياحاته على طرز قصصي وبين فيها آراءه السياسية، وعرب المقتطف بتصرف، قصة سياحته في سورية وفلسطين، وله قصة أخرى عنوانها «إسكندر بك الأرناؤوط»، وصار هذا الإسرائيلي رئيسا لوزارة المحافظين، وكان مخالفا في السياسة لغلادستون رئيس حزب الأحرار، فثبت بيقونسفيلد أمام مطامع روسيا وعارض في إجراء معاهدة أباستافانوس سنة 1877، ولكنه طمع في الأجرة على هذه الخدمة وربح أكثر من اللازم في تجارته، وتوفي سنة 1881.
فيفهم مما تقدم أن أول واضع لأساليب الطريقة الرومانية وليم شكسبير، ولكن أول ناسج على منوال هذه الطريقة، ومظهر لمزاياها هم شعراء الألمان، وجميعهم من إنكليز، وألمان، وفرنساويين اقتبسوا أفانين الأدب من الإسبانيين، والطليان المخالطين للعرب في القرون الوسطى. (9) الطريقة الرومانية عند الألمان والفرنساويين
أما الألمان فأقدم تأليف أدبي لهم أغاني هيلدبراند نظمت في القرن التاسع للميلاد بلسان الألمان، كما نظمت أغاني رولان بلسان رومان، وفي القرن الثالث عشر جمع ديوان نيبلونجن كما جمعت قصة عنتر، وذكر فيه الحروب التي حدثت بين قبائل نيبلونجن، وبين أتيلا الذي هجم عليهم من الشرق وأبادهم. فهذا الديوان هو كتاب الحماسة الألمانية، ثم حدث الانقلاب الديني وظهر لوتر مؤسس أحكام الديانة البروتستانتية، وترجم للألمانية الكتب المقدسة فاتسعت بذلك اللغة وتهذبت نوعا ما وظهر نفر من الكتاب والشعراء والعلماء، ومع ذلك استمر الألمان للقرن الثامن عشر للميلاد محرومين من فنون الأدب المعتبرة عند الأدباء، وكان الأمراء والأعيان في ألمانيا مكبين على تحصيل الأدب الفرنساوي، وعلى حفظ الأشعار الفرنساوية والتمثل بها، والتكلم بالفرنساوية في نوادي سمرهم، ومجتمعاتهم، وضيافاتهم تشبها بملوك بروسيا وبما في القصر الملوك ببرلين إذ الناس على دين ملوكهم، وكان لفريدريك الثاني ملك بروسيا إعجاب شديد بالشاعر الحكيم فولتير الفرنساوي، فقربه إليه وأحله في قصره محلا رفيعا. والحاصل كانت بضاعة الأدب الفرنساوي رائجة عند الألمانيين كرواجها عند الروس، وكرواجها أيضا بعد حرب القرم في الأستانة العلية، ومصر القاهرة.
حضرت يوما في مدرسة العلوم السياسية بباريس امتحان طالب تركي إستانبولي أجاب جوابا مقبولا عن أكثر الأسئلة التي ألقيت عليه بما يتعلق بأحوال فرنسا وشئونها الداخلية اللازم معرفتها لأبنائها، فلما انتبه له المعلم وسأله عن البوسنة والهرسك، وعن أحوال مسلميها وجده لا يعرف شيئا عنهما، ولا يدري إن كان فيهما مسلمون أم لا.
ورأيت في باريس تلميذا مصريا يحسن التكلم والكتابة بالفرنساوية ويتكلم العربية ولا يكتبها، وله والدة تركية تحرر له المكاتيب باللغة العثمانية، ولم يكن هو يعرف اللغة العثمانية لا تكلما ولا كتابة سوى بعض عبارات متعارفة ربما كانت والدته تعرف قدر ذلك من العربية، فيتيسر لهما التفاهم والتكالم باللغة العربية التركية، وأما المخابرة التحريرية فلم يتمكنا منها إلا بواسطة الترجمان والكاتب مع أن كليهما ليسا بأميين، بل هما على جانب من العلم والأدب، فالانهماك باللغة الأجنبية أدى إلى أن الولد أصبح لا يعرف لغة أمه كما تجب معرفتها أدبيا وطبيعيا؛ لأن لغة الأم هي اللغة الطبيعية التي يسميها الفرنساويون «لانغ ماترنيل»، ويسميها الأتراك «لسان مادر زاده» ومادر هي الأم بالفارسية.
وهكذا كانت الحال في ألمانيا بسبب تهافتهم على أدب اللغة الفرنساوية، ففي الثلث الأخير من القرن الثامن عشر؛ أي ما بين سنة 1770-1780م جاء أدباء الألمان بطرز جديد من الأدب كان له رواج على مراسح اللعب، وأقبل الناس عليه إقبالا عظيما، مع أن الطرز الجديد الذي جاءوا به كان عاريا عن تلك الصور والأساليب البديعة التي في مؤلفات أهل الطريقة المدرسية، وخاليا عن ذاك التصنع أو التعمل الذي كانوا يتكلفون له، ومجردا عن تلك المحاسن التي كانوا يؤلفونها تأليفا، وإنما كان كلام الأدباء الألمانيين في هذا الطرز الجديد صادرا عن تأثر وتهيج وانفعال في النفس، وعن إحساس في القلب، فنفخ هذا الانفعال والإحساس الروح في كلامهم، وصيره كلاما حيا تألفه أرواح المستمعين وتحن إليه، ولم يقصد أدباء الألمان فيما ألفوه الامتياز بالفضل والعلم بين الخواص، وإنما كانت غايتهم إفهام كلامهم لعوام الناس ولجميع الأصناف من أولاد البلد الذين يقال لهم: «بورجوا»، فمن أجل هذا عدلوا عن الأخذ بعالي الطبقة من الإنشاء المصنع، واستعملوا اللهجة المألوفة بين قومهم وأبناء بلدهم، وجعلوا اهتمامهم في نفخ روح الحياة في كلامهم وأدخلوا فيه كل ما يحدث انفعالا في النفس، وتهيجا في العواطف بغير تهافت على البديع من الألفاظ ولا على رعاية القواعد، وصوروا في كلامهم الغرائب والعجائب التي تتشوق الأسماع لاستطلاع حقائقها، ولا تطمئن القلوب إلا بعد الوصول لنهايتها. فإن الأذن تعشق بطبعها الأخبار؛ ولذا نرى عوامنا في كل قطر وبلد يدورون وراء القصاص (الحكواتي) من قهوة إلى أخرى، ويتلذذون بسماع ما يتلوه عليهم من أخبار عنترة بن شداد، والزير أبي ليلى المهلهل، والزناتي خليفة، وعلي الزيبق عايق زمانه، وقصة الملك سيف، والملك زاد بخت بن شهرمان وجميع ما ورد في ألف ليلة وليلة من الحكايات. وإذا بات بطل الرواية في ضيق وكرب لا يهدأ بالهم ولا تنام أعينهم، إلا بعد تمام الخبر وفهم ما جرى له.
وكان أدباء الألمان إذا ألفوا رواية فاجعة أخذوا موضوعها مما يرونه في قومهم ويشاهدونه في بلادهم، وإذا بحثوا عن الوقائع التاريخية اختاروا مباحثهم من تواريخ القرون الوسطى لا سيما من القصص والحكايات الدارجة على ألسنة الأمم الألمانية، والجرمانية ترجيحا لها على تواريخ القرون الأولى وعلى قصص اليونان والرومان، كما فعل كوته 1749-1833م شيخ أدباء الألمان، فإنه اختار فوست بطلا لروايته الشهيرة بهذا الاسم، وتداول اسم فوست على ألسنة العامة في ألمانيا وفي إنكلترة قبل تأليف هذه الرواية الألمانية، واشتهرت سيرته بين الناس بأنه من السحرة الذين باعوا الدنيا بالآخرة، واشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ولا كانوا مؤمنين، واختاروا بطلا لرواية أخرى «أكمون»، وهو أمير في البحر هولاندي الأصل اشتهر في تاريخ الألمان بخدمته لشارلكين وانتصاره على الفرنساويين وعلى ملكهم فرانسوا الأول المستنجد بالسلطان سليمان القانوني. ومن بديع ما ألفه أيضا الشاعر كوته قصة وارتر، ثم ديوان الشرقيات «ديفان أورينتال»، وهو مجموع أشعار نظمها على أسلوب غريب قلد فيها ديوان الحافظ الشيرازي أحد مشاهير شعراء العجم المتوفى سنة 794ه، أو 791 هجرية، وكان الحافظ ممن اجتمع بتيمورلنك حينما ضبط شيراز، وجرى بينهما لطائف مشهورة.
وقد ترجم ديوان الحافظ للغات الأوروبية كما ترجمت مؤلفات الأكابر من شعراء الفرس مثل الفردوسي صاحب الشهنامة المتقدم ذكرها، ومثل الشيخ مصلح الدين سعدي صاحب الكلستان والبستان، وترجمه إلى الفرنساوية الموسيو باربيه دومينار مدير مدرسة الألسنة الشرقية بباريس. والكلستان مترجم إلى العربية والتركية، ويدرس في عموم المكاتب العثمانية، وكان الصليبيون قد أسروا مؤلفه وحبسوه في طرابلس الشام، وشغلوه في بناء الأبراج المحيطة بها من جهة البحر، فرق له أحد الأغنياء من أعيان حلب وافتداه بمال وخلصه من الأسر، وكانت وفاته سنة 691ه. فإفرنج زماننا يحترمون سعدي قدر ما احتقره أسلافهم، وذكره فيكتور هوكو في مؤلفاته ونقل عنه.
ومن مشاهير أدباء الألمان شيلر (1759-1805م) وكان معاصرا لكوته ورفيقا له، فاتخذ وليم تل بطلا لروايته المشهورة بهذا الاسم، وكان وليم تل المذكور رئيسا للعصبة التي خرجت في بلاد السويس على حكامها من النمساويين، وحررت البلاد من قيد أسارتهم سنة 1307م. والمذكور من خبره في التاريخ أن الدوق؛ أي والي بلاد السويس المعين من قبل إمبراطور الألمان نصب ذات يوم عمودا في ساحة المدينة، ورسم في رأسه تاج الدوقية، وأمر الناس بالخضوع أمامه، فرفض وليم تل الانقياد لهذا الأمر الذي فيه التحقير والإذلال لنوع الإنسان مع ما اختصه الله به من الكرامة، وورد في القرآن الشريف:
ولقد كرمنا بني آدم ،
19
وكان وليم تل من أشد الأبطال بأسا وأمهرهم رميا بالنبل، فغضب عليه الوالي وأحضره بين يديه وحكم عليه بوضع تفاحة على رأس ولده، وفلذة كبده ورميها بالقوس والنشاب، ففعل ذلك وقلبه يتميز من الغيظ وأصاب الهدف بعد أن كان الخطاء أقرب إليه من الصواب، فصور الشاعر هذه القصة التاريخية ، وبين فيها عوامل الاستبداد وعدم صبر النفس الأبية على الظلم والجور والاستعباد، وكان شيلر يلقب بشاعر النساء والشبان لتأثير أقواله فيهم أكثر من تأثيرها في المتأدبين من الرجال المائلين إلى التعمل والتصنع في الكلام وإلى الإنشاء العالي الطبقة؛ لأن كلامه كان سهلا بسيطا خاليا مما في الطريقة المدرسية من أصول الصك والسبك، ومن أنواع البديع والاستعارات، وفيه كثير من الألفاظ العامية والتراكيب المتداولة، ولكنه كان على السامع أشد تأثيرا وأخذا بمجامع القلوب.
فبعد أن كان الألمان في الأدب عيالا على الفرنساويين وليس عندهم من المؤلفات الأدبية إلا ما هو ترجمة، أو تقليد لما حرر بالفرنساوية على نهج الطريقة المدرسية صاروا أئمة في الأدب يقتدى بهم وينسج على منوالهم، واشتهرت الطريقة التي سلكها كوته، وشيلر، وليستغ ومن اقتفى أثرهم بالطريقة الرومانية نسبة للغة رومان - وهي اللاتينية الدارجة التي جاء بها جنود الرومانيين وموظفوهم إلى بلاد الغولوا، والسلت؛ أي لفرنسا فتحرفت فيها وامتزجت بلسان الفرانك، وانقلبت إلى اللغة الفرنساوية الحالية. فكلمة رومان كانت تطلق في القرون الوسطى على ما دون بلسان رومان من فني المنظوم والمنثور، وذلك مثل يمين ستراسبورغ وهو أقدم الأبنية في لسان رومان، ومثل رومان رولان ويقال لها أيضا: أغاني رولان ورومان أرثور، ورومان المائدة المستديرة، ورومان الثعلب، ورومان السيد وكثير غير ذلك فكانت المحررات الرومانية؛ أي المدونة بلغة رومان تعتبر من التآليف الجاهلية بالنسبة للمحررات اللاتينية، وهي ما حرر باللغة اللاتينية من التواريخ المقدسة وسير الصالحين، والقديسين، والصلوات الدينية، فاللسان اللاتيني كان إذ ذاك لسان المدارس والكنائس والمعول عليه في العلم والدين، وكان في سبكه تصنع وتعمل ومراعاة لقواعد الغراماطيقي والعروض وبقية علوم الآلات المدرسية، ويبلغون علوم الآلات في العربية إلى اثني عشر علما كما لا يخفى.
فلغة رومان لم يكن فيها شيء من ذلك بل كانت على فطرتها الطبيعية، وليس في سبك عباراتها أدنى تصنع ولا تهذيب، فلما اختار أدباء الألمان مواضيع رواياتهم من رومان القرون الوسطى، ورجحوه على مؤلفات اللاتين واليونان سميت طريق أدبهم بالطريقة الرومانية ، وأطلقت كلمة «رومانتيك» الفرنساوية على الأدب المستحدث تسمية له باسم أجنبي، كما أطلقت كلمة «فرانك» الجرمانية على قبائل الغولوا والسلت، وقيل لهم فرنساويون.
فطريقة رومانتيك المنسوبة لفيكتور هوكو تولدت في ألمانيا، واشتهرت برقابتها للطريقة المدرسية، وبميلها لإظهار قريحة القرون الوسطى، وتصوير أخلاق أهلها وعوائدهم وحماسة فرسانها وصلابتهم في الدين، وتعصبهم للمذهب وتهورهم في المسائل، ومبالغتهم في الأخبار، وتصديقهم بالخرافات والخزعبلات، وأراد أهل الطريقة الرومانية الفوز على أهل الطريقة المدرسية - لا بانتقاء الألفاظ، وسبك العبارات وانسجام المعاني ومراعاة القواعد - بل بالإتيان بكل ما يحدث انفعالا في النفس، ويفتح مجالا للتصور والخيال؛ ولذا عمدوا إلى القصص الدارجة على الألسن والمنقولة عن الأسلاف والجدود، ووضعوها في قالب شعري وألفوا بها رواياتهم، وأهملوا أساطير القرون الأولى من الإسرائيليات، والخرافات اليونانية والرومانية، وجاء الفيلسوف الألماني هكل وفسر تفسيرا فلسفيا حقيقة الطريقة الرومانية، وهو يبحث في الصور المختلفة التي تغلب فيها العقل البشري، فوجد فيها ثلاث طرق في صناعة الأدب منذ نشأته الأولى إلى زمانه وهي: (1)
الطريقة الرمزية (سيمبوليك). (2)
الطريقة المدرسية. (3)
الطريقة الرومانية كما سنذكره.
ويظهر الفرق بين الطريقة المدرسية، والطريقة الرومانية لكل مدقق حضر تمثيل رواية مؤلفة على نهج الطريقة المدرسية مثل مؤلفات راسين، ومنها رواية «أندروماق» اليونانية، و«أستير» و«أتالي» الإسرائيليتين، ومثل مؤلفات قورنيل، ومنها «هوراس» وهي رواية الإخوة الثلاثة الرومانيين، ثم حضر في مراسح الأستانة وأزمير أو مراسح مصر، وأوروبا تمثيل رواية فوست مثلا. فأول ما يشاهد عند رفع الستار شيخ عليه الهيبة والوقار جالس على كرسي في غرفة المطالعة، وأمامه مائدة تراكمت فوقها الكتب، والدفاتر، والأقلام، والمحابر وهو يفكر فيما يكون إليه المرجع والمآب، ويقلب على ضوء السراج أوراق الكتاب الذي خط فيه جابر ومسلمة علوم السحر والكيمياء، ويتلهف على أيام الشباب وزمن التصابي، ويقول:
إذا كان علم الناس ليس بنافع
ولا دافع فالخسر للعلماء
وبعد أن يستولي اليأس على هذا الشيخ الفاني ينفخ في رأسه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ويحرضه على دعوة الشيطان إليه وتلاوة العزائم عليه فبأسرار التلاوات وخواص الطلسمات يظهر صاحب الاسم والعزيمة المتوسل بها، وهو خادم من الجنة ويعلمه ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، وهكذا يقول الخادم للشيخ فيبيع الآخرة بالدنيا ويشتري الضلالة بالهدى، ويتعلم منه ما يعيد الشباب والغناء، ولعل ذلك بواسطة الأكسير الذي من خواصه إعادة الشباب وقلب المعادن إلى الذهب على زعم المتقدمين، فينهمك الشيخ فوست في اللذات، ويغرق في الهناء والمسرات، ويعشق بنتا يقال لها: مارغريت فيراودها عن نفسها ويفرق بسحره بينها وبين أمها، ويستهويها بالجواهر واللآلي ويطغيها الشيطان ... فتستحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فيغتاظ أخو مارغريت من عهر أخته ويقف لعاشقها بالمرصاد ويبارزه بالسيف، فيقتل بوخزة خفية من ذاك الخادم الجني المرافق لفوست، فتستحيي مارغريت من هذه الفضائح ويذهب الرشد منها فتقتل الولد الذي حملت به من فوست، ويأخذها حاكم البلد بما جنت يداها ويلقيها في السجن فيأتي عاشقها لتهريبها، وهذه أشد ساعة على مارغريت حيث يتنازع قلبها عوامل الحب من جهة، وعوامل الندامة من أخرى فلا تجد لها ملجأ غير رحمة الله التي وسعت كل شيء فتحول وجهها عن عاشقها، وتتوب إلى الله توبة خالصة.
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ،
20
فيغفر الله لها ما تقدم من الذنب وما تأخر، ويقبضها إليه فتخر ميتة، وتذهب نفسها الناطقة الخالدة إلى عالم الأرواح على شكل الحمامة التي وصفها ابن سينا بقوله:
هبطت إليه من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
وتنشق في آخر الليل سماء المرسح وتظهر مارغريت بأبهى الحلي والحلل في أعلى عليين بجانب أخواتها تحف بهن الملائكة المربون، وفوست ينظر إليها والعبرات تسيل من عينيه، واختلفوا في فوست فقالت طائفة: بأنه من الهالكين، ومقره في الدرك الأسفل من النار، وقالت طائفة أخرى: لا بل استشهد في الحب وتاب إلى الله فتاب الله عليه والله خير التوابين،
واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما * إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما .
21
ويرى المتفرج على هذه الرواية أفعال السحر والسحارات المكارات اللواتي يطبخن المواد السحرية في القدر، ويصببنها بين المفارق ليسحرن المارين في الطرق، ويرى أيضا أعمال الشيطان الرجيم وغوايته لمن يتبعه من الإنس ومقدرته على خرق العوائد، وإظهار العجائب وحكمه في هذه الدنيا الدنية الفاسدة، وكيفية استعاذة النصارى منه بالصليب؛ ولذا جعل أهل القرون الوسطى قبضات سيوفهم على شكل الصليب؛ ليتعوذوا بها من شر الشيطان الرجيم، وبهذا يكون السيف قاطعا بقبضته في الروحانيات، وبحده في الماديات.
ولما ذهب نابوليون الأول بعساكره إلى بروسيا اجتمع في برلين بالشاعر كوته مؤلف رواية فوست المذكورة وحادثه طويلا، وعجب به وأحسن عليه بنيشان الافتخار فاتجهت نحو مؤلفاته أفكار الأدباء من الفرنساويين، كما اتجهت قبلا أفكار أدباء الألمان نحو مؤلفات فولتير حينما كان في سراي برلين من المقربين، وكانت أساليب الطريقة الرومانية دخلت فرنسا على عهد نابوليون الأول بواسطة شاتوبريان وما دام دوستايل.
أما الأول فهو الإمام الذي اقتدى به في الأدب فيكتور هوكو، وقال: «إما أن أكون شاتوبريان أو لا شيء»، واسمه فرانسوا رينه فيقونت دو شاتوبريان نسبة لشاتوبريان أي: لقصر بريان المشيد على نهر لوار بالقرب من نانت، وحيث كان من أشراف العائلات ذهب أيام الانقلاب الكبير إلى أميركا وساح بين أهاليها المتوحشين، وعاد منها لإنكلترة ثم لفرنسا ونشر قصة «أنلا» وذكر فيها ما شاهده في سياحته من عجائب الأمم المتوحشة، ثم نشر قصة «رينه» وقص فيها أخبار نفسه وبين أفكاره وانفعالاته بسبب ما كشف له من الحقائق المزعجة، وامتاز بين الكتاب برونق الإنشاء، وكثرة التصورات والإحساسات، وبشدة الهيام، وفصاحة الكلام فراجت بضاعته في الأدب ونشر حينئذ «حكمة الديانة المسيحية»، وأقبل على تدقيق هذا الدين وخرج لمشاهدة الأماكن التي ظهر فيها، والبلاد التي انتشر بين أهاليها، فساح في أقطار فلسطين، وسوريا، ومصر، وبر الأناضول. ونشر سنة 1809 كتاب الشهداء وبين فيه كيفية ظهور الدين المسيحي على الدين الوثني، ونشر سنة 1811 «دليل السياحة من باريس إلى القدس»، وعرف الفرنساويين بشئون القرون الوسطى بعد أن كان أدباؤهم مشغوفين بتعريف القرون الأولى وبتقليد أدباء اليونان والرومان، وكانت جريدة الديبا المشهورة بحسن الإنشا وجودة التحرير حديثة الظهور، فأقبل على التحرير فيها وبرع في قوة التصوير والوصف والتلوين، وكان لكلامه تأثير على النفوس فصار لمؤلفاته دخل كبير في ظهور أساليب الطريقة الرومانية، ودخل شاتوبريان الوزارة الخارجية وتعين سفيرا، ثم ناظرا للخارجية.
أما المادام دوستايل فهي بنت الوزير نيكر الشهير، اشتغلت بالعلوم والمعارف كما هي عادة سيدات النساء في ذاك العصر، ونبغت في فنون الأدب، وأصبحت عالمة فاضلة يشار إليها بالبنان، فحررت سنة 1810م كتابا مفيدا عن ألمانيا، وكتبت عن الأدب باعتبار ما له من العلائق بتشكيل الهيئة الاجتماعية، فدرست درسا فلسفيا أدب اليونان واللاتين، وبينت مدخل الدين المسيحي في تقريب عقول أهل الشمال من عقول أهل الجنوب، وذكرت الخواص المميزة لكل من الأدب الطلياني، والإسباني، والإنكليزي، والألماني، وما لكل منهم من العلائق بالفكر السياسي والأدبي، وشرحت تأثير الدين والأخلاق والشرائع على فنون الأدب، واستنتجت من تدقيقاتها العميقة أن الفكر البشري تابع لناموس الارتقاء مع المعاني الأخلاقية، والفلسفية، والعلمية، والسياسية ... إلخ ولكنه لم يتبع ناموس هذا الارتقاء في التخيلات الشعرية ولا في التصورات الخيالية، فعندها أن الشاعر كوميروس مثلا لا يذهب رونق كلامه وطلاوته ولا في عصر من العصور، ولا يسمح به الدهر مرة أخرى.
ثم ظهر لامارتين الشاعر السياسي الشهير، ونظم ديوان «التفكرات الشعرية»، فكان أول بناء من أبنية الشعر الجديد الموسيقي (ليريك)، وخالف فيه أساليب من تقدمه، كما خالف المتنبي أساليب الشعراء الجاهلية، واشتمل ديوان لامارتين على تمجيد الله الذي شرف عن التمجيد وعلى استغراقات في الحب وتجليات لطيفة، ووصف مظاهر الكون وعالم الطبيعة وصفا بديعا.
ومن أحسن ما نظمه قصيدة «البحيرة» التي ترجمها نظما للسان العثماني سعد الله باشا سفير الدولة العلية في فيانا، وباريس سابقا، وفهمت بأن أحمد بك شوقي شاعر الحضرة الخديوية ترجم القصيدة المذكورة للعربية.
وساح لامارتين في الشرق وأحسن عليه ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان بمزرعة «جفلك» في ولاية أزمير، فمكث فيها وفي ربى لبنان، وحرر سياحته الشرقية وتاريخ الدولة العثمانية في ثمانية مجلدات، ونظم ديوان الألحان الشعرية والدينية وغيرها. (10) ظهور فيكتور هوكو
فجميع من ذكرناهم من الشعراء الفرنساويين وغير الفرنساويين تقدموا على فيكتور هوكو أو عاصروه، ومهدوا له طريق الأدب الجديد، وكانت النفوس في ابتداء القرن التاسع عشر تائقة لرؤية أسلوب مستحدث في النظم والنثر، ولحصول انقلاب في الأدب كما حصل انقلاب في السياسة؛ لأن النشأة الجديدة من الخواص كانوا نافرين من قيود الطريقة المدرسية، وجمهور العوام كانوا متألمين من استبداد أصحاب الانقلاب الكبير باسم الحرية، فإن رؤساء هذا الانقلاب لم يكتفوا بتغيير شكل الحكومة بل هدموا أساس الدين، وسببوا حدوث الفوضوية في الأمة؛ أي إنهم فرطوا في جانب الدين، والسياسة كما فرط قبلهم ذوو التيجان من الملوك المستبدين، فكان الجمهور يترقب ظهور إمام في الأدب يعيد لهم الرجاء والأمل بالله، والشعراء يترقبون ظهور هذا الإمام ليخلص فن الأدب من القيود الذي قيده بها بوالو في كتابه المسمى «آربوثتيك» أي صناعة الشعر، فكانوا يتمنون كسر هذه القيود وإعطاء الحرية التامة للفكر، كما كسرت سلاسل الاستبداد وهدم بيت المظالم، ألا وهو حبس الباستيلية الشهير، وأطلق سراح المحبوسين فيه ظلما وعدوانا.
فظهر فيكتور هوكو وبرع في اللغة الفرنساوية وفي طرق الإفادة بها، وفضلا عن معرفته بالمفردات والتراكيب اللغوية، صار له خبرة بما للكلمات من القيمة الموسيقية؛ أي بالنغمة التي تحدثها كل كلمة والتأثير الذي يحصل من جمع نغمات الكلمات وألحانها؛ لأن الكلمة عند خروجها من الفم لها نغمة مخصوصة، ولحن بحسب مخارج الحروف، وتختلف المخارج باختلاف الألسنة؛ ولذا ورد في الحديث الشريف «اقرءوا القرآن بلحون العرب».
وقد عبر أئمة البلاغة من العرب عن هذه القيمة الموسيقية «بأجراس الكلم»، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الحلاوة؛ لأن الصوت يرن بالألفاظ رنة الجرس، وصار لفيكتور هوكو أيضا مهارة بعلم القوافي، فقوافيه عامرة مختلفة ليس فيها ما هو مكرر أو مبتذل، بل جميعها ترد على غير ما ينتظره السامع.
والخلاصة كان يعرف أي كلمة يلزم وضعها في أي بيت وأي بيت يقتضي انتقاؤه لأي موضوع، وساعده الحظ في السفر إلى رياض الأندلس التي تتغذى القرائح بنفحات أزهارها، وتقر العيون بحسن مناظرها، فصار ذهنه كأنه آلة بديعة تفي بوظيفة السينماتوغراف والفوتوغراف معا، فيصور ما يمر به من مشاهد الكون ويطبع ما يسمعه من حوادث الدهر، ويعرضه على القراء والمستمعين بدون أن يضيع منه خبرا أو يغفل منظرا، فصور في أشعاره الخمائل وهي الشجر المجتمع الكثيف، وكيفية تلاعب النسيم بأوراقها والأغصان الملتفة، وما ترسمه على بساط المرج الأخضر من الظل الظليل والجبال الراسية وما ينحدر عنها من الماء السلسبيل والأنهار الجارية، وما ينعكس على مرآة سطحها من ضياء القمر وشعاع الشمس، ووصف صفير البلابل وهديل الحمام وبغام الظباء، وسجع اليمام وذكر غدوها ورواحها ما بين الرياض المزهرة والأشجار المثمرة، والجداول المنحدرة وصور غير ذلك أيضا تصويرا حقيقيا بأوضح بيان، وأفصح تعبير حتى يخال لمن يقرأ أشعاره أنه ينظر إلى لوح من الألواح المصورة بقلم الرسام وفرشاته، ويسمع خرير الماء وصوت مزمار الراعي وهو يتناقص كلما ابتعد مع محبوبته في جوف الغابة، وجعل الألفاظ تلبس المعاني كما يلبس على الجسم، فجاءت ألفاظه طبقا على معانيه، وكان بمجرد نظره في المواد تتفجر المعاني من قريحته، فيزنها بميزان الحس ويصوغ لها على قدرها قوالب من الألفاظ والتراكيب كأحسن صائغ للحلي وأمهر سباك للمعادن، فكانت طريقته بادئ الأمر عبارة عن وصف الطبيعة ومناظرها البديعة، ثم هجم على قواعد المتقدمين وأساليبهم هجمة الأمة المستيقظة من غفلتها، وكسر القيود التي قيد بها بوالو عقول الشعراء، ونبذ قواعد الطريقة المدرسية وراء ظهره، وأصلح عروض الشعر الفرنساوي وغير تركيبه بمقاطيع مختلفة وجوز تكميل معنى البيت بالبيت الذي بعده، فوضع الجملة الواحدة في بيتين مما لم يجوزه المتقدمون، وجعل نظم الشعر موافقا لاحتياجات الفكر، وفتح لإخوانه من ذوي النشأة الجديدة طريقة مستحدثة في الأدب كانوا هائبين اقتحامها والولوج فيها.
فأوجد فيكتور هوكو بذلك الطريقة الرومانية، وحاد فيها عن استعارات الطريقة المدرسية وتشبيهاتها القديمة، ولم يتخذ كلام المتقدمين منوالا لينسج عليه كما فعل أندره شينيه خاتمة أهل الطريقة المدرسية، بل اتخذ السوق الطبيعي والإحساس الباطني دليلا له في النظم والنثر كما فعل المتنبي والمعري، وأهل طريقتهما الخارجين عن أساليب العرب المتقدمين، فكلما شعر فيكتور هوكو بشيء صوره بقلمه كما يحس به في قلبه بدون تهافت منه على ترصيع الكلام بجواهر البديع وتدبيجه بحلل المجاز والتشابيه، فإن أتى بشيء منها في كلامه عفوا بلا تصنع ولا تكلف فنعم، وإلا فهو لا يهتم إلا بالمعاني وبما يتخيله فيها من حقائق الشعر. وإذا أراد تعيين الزمان مثلا لم يتكلف ترتيب تلك الجمل المصنعة، ولم يذكر حركات العقرب على مينا الساعة، ولا شبه ذلك بدوران الفلك ولا بمنازل الشمس، بل قال بسوقه الطبيعي: «غدا اليوم الخامس والعشرون من حزيران سنة ألف وستمائة وسبع وخمسين ...» كما ورد في مطلع رواية قرومويل وهي من الروايات التشخيصية المنظومة شعرا، فهذا مقتضى البلاغة في تعيين الزمان، وهذه الشطرة المطابقة الحال أبلغ من سواها، ومن المثال السابق الذي مثلنا به من كلام أندره شينيه، فكان السالك نهج هذه الطريقة إذا عطش قال: هات اسقني كما قال أبو نواس:
ألا فاسقني خمرا وقل لي: هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وأما السالك نهج الطريقة المدرسية، فكان يحيد عن السوق الطبيعي ويصنع كلامه، ويقول: «ألا ماء بارد نطفي به حرارة جوفنا»، كما قال ذاك البارد المتنحي.
فإيضاحا لحقيقة الطريقة الرومانية لا نرى بدا من تلخيص القواعد التي أوردها بوالو في صناعة الشعر، ثم تلخيص القواعد التي ذكرها فيكتور هوكو في مقدمة رواية كرومويل، وعارض فيها بوالو وجميع المنتسبين للطريقة المدرسية. (11) طريقة بوالو
نظم الشاعر الفرنساوي بوالو كتابه الموسوم بصناعة الشعر سنة 1674م، وهي أرجوزة طويلة محكمة البناء عالية النفس جامعة لقواعد الشعر وأنواعه، اعتنى الشاعر في إنشائها كثيرا وفكر فيها طويلا لتكون قاعدة ونموذجا في الشعر، واقتفى في نظمها وتأليفها أثر الشاعر اللاتيني هوراس، وهو نقل عن أرسطوطاليس في كتابه الموسوم بصناعة الشعر ولأرسطوطاليس في الشعر كتاب آخر لخصه القاضي أبو الوليد بن رشد، وطبع التلخيص المستشرق فوستولازينو في مدينة فلورانسه من إيطاليا سنة 1873، ولا نظن بوالو اطلع على قصيدة ابن رشيق ولا على مؤلفاته في هذا المبحث؛ لأن الإفرنج لم يكن لهم ألفة بأدب العرب في القرن السابع عشر، وإنما كانت عنايتهم باللغة العربية قبل ذلك حينما ترجموا كتب علمها إلى اللاتينية، ولم يعودوا لدرسها إلا في أواخر القرن الثامن عشر حينما نبغ شيخ المستشرقين سيلفستر دوساسي في باريس، وشرح مقامات الحريري وألف الكتب المعتبرة.
ولما ظهر ضيا باشا من متأخري الأدباء العثمانيين، وقرأ العربية ثم الفرنساوية اقتفى أثر بوالو ونظم بالتركية كتابه المعروف بالخرابات، وانتقد فيه على كثير من شعراء الترك والفرس والعرب، فجاء كمال بك وانتقد عليه في رسالة سماها تخريب الخرابات وخطأه في كثير من مباحثه.
فالفصل الأول من كتاب بوالو في صناعة الشعر يشتمل على تفصيل القواعد التي جملناها في الكلام على الطريقة المدرسية، وأكثر المؤلف في هذا الفصل من الحض على مراعاة قواعد النحو والصرف والمعاني وغير ذلك من علوم الآلات، وحذر كثيرا من الابتعاد عن سلامة الذوق ولو قدر شبر. وشرع في الفصل الثاني والثالث في تطبيق هذه القواعد العمومية على أفانين الشعر المختلفة، وعرف كل فن منها على حدته، وبلغت فنون الشعر عنده إلى نحو أربعة عشر فنا، منها أنواع الغزل والتشبيب والمرقصات والمطربات، وما احتوى على ذل العشق ورقة الكلام والأدوار المنسوجة على منوال شعراء التروبادور المعاصرين للأندلسيين، ومنها أنواع المدح وأنواع الهجاء والهزل والسخرية والذم المشابه للمدح، ومنها أنواع الرثاء ونحو ذلك.
وتكلم أيضا عن الروايات التمثيلية وهي «التراجيديا» أي: الفاجعات و«الكوميديا» أي: المضحكات، وعرف كلا منهما وبين الشروط المقتضى مراعاتها في تأليف الرواية التمثيلية، ولزوم وحدة الزمان والمكان والعمل، وعرف الشعر الموسيقي وهو النشيد والتلحين المسمى عندهم «ليريك» من كلمة لير وهي العود الذي يغنى عليه، وعرف أيضا الشعر الحماسي المسمى عندهم «إيبوبه»، ومعناها في الأصل الخطبة التي يقولها الخطيب.
فالشعر الموسيقي يمتاز عن الشعر الحماسي بخاصته الشخصية أو الفردية؛ أي المتفردة في ذات صاحبها، وذلك أن الشاعر يرى الحسناء فيشعر بالحب وبأمل الوصال، ويظهر له رقيب فيشعر ببغضه وبانقطاع رجائه من الوصال، وينال معروف الكريم فيشعر بالشكر له، ويموت صديق له فيشعر بالتفجع عليه، فبسبب هذه المشاعر تفيض نفس الشاعر بالغزل والنسيب والمدح والهجاء والرثاء، ويشاهد أيضا بدائع المخلوقات وينظر في خلق الأرض والسموات، فتفيض نفسه بالتسبيح والتهليل والتقديس والترتيل، فكل واحد مما ذكر فن من أفانين الشعر الموسيقي، ويختلف عروض كل منها وقوافيه باختلاف المشاعر التي يشعر بها، واختلاف الإلهام الذي يهبط عليه، ويعتريه من ذلك دهشة أو انذهال وحيرة وسرور وانشراح أو انقباض وحزن، فيظهر أثر ما ذكر في نظمه وشعره.
وأما الشعر الحماسي فهو رواية الوقائع العجيبة التي يقوم بها الشجعان، فقولنا: رواية أي خبر يفصل هذا النوع من الشعر عن الشعر الموسيقي؛ لأنه نشيد وغناء، وعن الشعر الدراماتيقي أي الدرام؛ لأن أساسه العمل. ولا يلتبس بالتاريخ الذي هو خبر ورواية أيضا؛ لأن موضوع التاريخ الوقائع الصحيحة بلا إطراء ولا غلو، وأما الشعر الحماسي فموضوعه الوقائع الملفقة المشتملة على غرائب الشجاعة ونوادر الفروسية، وأشهر كتب الحماسة «الإيلياذة والأوذيسة» لهوميروس اليوناني، و«أنيبد» لفرجيل اللاتيني، و«الكوميدية الإلهية» لدانتي الطلياني، و«الجنة الضائعة» لملتون الإنكليزي، و«تخليص أورشليم» لطاسو الطلياني و«هانرياد» لفولتير الفرنساوي و«الحماسة النابوليونية» لفيكتور هوكو.
وعند أهل الشرق «ماهابهاراته ورامايانه» للهنود و«الشهنامه» للفرس، وكتب الحماسة للعرب وأشهرها كتاب «الحماسة» لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وقد طبعه مع شرح أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي عليه المستشرق الألماني فريتغ سنة 1828 في مطبعة مدينة بونه، والجزء الأول من عكاظ الأدب هو في الحماسة الحميدية فهو «إيبوبة» الحرب اليونانية الأخيرة، كما حرر فيكتور هوكو الإيبوبة النابوليونية، ومن أمعن النظر في الشعر العربي وجد أكثره من قبيل الشعر الموسيقي؛ أي النشيد والأغاني وهو الممتاز بخاصته الشخصية، وبإظهار الحواس الباطنة، ووجد فيه أيضا من الشعر الحماسي، وهو الذي روى فيه أخبار الحروب وأطنب بشجاعة الشجعان، ووجد المقامات تشابه ما عند الإفرنج من فن الكوميديا، غير أن صاحب المقامات جعل اهتمامه في انتقاء الألفاظ وبلاغة التعبير، ولم يلتفت كصاحب الكوميديا لدرس أخلاق الرجال، وبيان المزايا الخاصة بأفراد القوم أو الهيئة الاجتماعية.
وكان الباحثون في أدب العرب لا يجدون فيه مثالا «للدرام» الآتي تعريفه، فجاء عبد الرحيم أفندي أحمد، وعرض على المستشرقين في المؤتمر الحادي عشر المنعقد سنة 1897م في باريس رسالة الغفران للمعري، وبين مشابهتها بالكوميديا الإلهية ووعد بنشرها، وكان يوسف ضيا باشا الخالدي استنسخ رسالة الغفران المذكورة سنة 1307ه من النسخة القديمة المحفوظة الآن بمكتبة الكوپريلي، وهي تجاه نظارة المعارف وتربة السلطان محمود في الأستانة، وهم إذ ذاك بطبعها فحال دونه سفره لبلاد الأكراد واشتغاله السنين الطوال بترتيب القاموس الكردي، وتدوين قواعد هذا اللسان الذي نبغ من أبنائه أمثال صلاح الدين الأيوبي صاحب الفتح القدسي. فإذا نشرت رسالة الغفران كما تطبع ترجمة الإيلياذة الآن في مطبعة الهلال تمكن قراء العربية من الاطلاع على فن جديد في أدب العرب غير الشعر الموسيقي والشعر الحماسي، والمأمول ممن ينشر رسالة الغفران أن يقابل بين النسخة المصرية والنسخة الإستانبولية؛ لكيلا يقف ذهن المطالع كما حصل في المثال المنقول سابقا من كتاب إعجاز القرآن للباقلاني بسبب وجود بياض في الأصل، ومن دقق النظر في لزوميات المعري عرف ما هو عليه هذا الشاعر الحكيم من علو الفكر، واتساع القريحة ولم يشتبه في أن كتابه الموسوم بالأيك والغصون لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من فنون الشعر والأدب إلا أحصاها.
وقد أطنب المؤرخون في كلامهم على كتاب الأيك والغصون، وزعموا أنه في ماية مجلد، ولكن إذا نظرنا في قولهم: إن اللزوميات في خمسة مجلدات ثم رأيناها مطبوعة في الهند في مجلد واحد وفي مصر في مجلدين حملنا ذلك على الظن بأن المائة مجلد من كتاب الأيك والغصون هي بمثابة عشرين مجلدا من اللزوميات طبعة الهند أو أربعين مجلدا طبعة مصر. وعلى كل فهو من أعظم دوائر المعارف الأدبية في لسان العرب، ولا يعجز عن الإتيان بمثلها رهين المحبسين. والأيك هو الشجر الكثيف الملتف، فكأنه أشار بهذا الاسم إلى أن الكتاب شامل لأصول الأدب وفروعه.
ثم إن بوالو بعد ما فرغ من بيان القواعد العمومية للشعر وبيان فنونه، ولزوم اتباع الصدق والحقيقة فيه ذكر في الفصل الرابع من كتابه في صناعة الشعر ما ينبغي أن يتخلق به الشاعر من الأخلاق الحميدة، وما يجب أن يحض عليه من الخير والمعروف، فاعترضوا عليه بذلك، وقالوا: بأن هذا الفصل من مباحث علم الأخلاق لا من مباحث الشعر والأدب، ولاموه أيضا على اعتباره الشعر في مجرد قوالب الألفاظ، وعلى تحديده بالحدود والتعاريف، وإلزام الشاعر بمراعاة هذه الحدود في كل فن من فنونه وعدم الخروج عنها، وقالوا: بأن الشعر هو إلهام من الله والطبيعة، ونور يفيض على القريحة التي فيها استعداد طبيعي لقبوله، ولا يمكن تعليم ذلك ولا تحديده بالحدود والتعاريف.
والصحيح أن بوالو يعترف بأن أساس الفكر؛ أي المعاني الشعرية لا يمكن تعليمها بالقواعد، ويقول بأنها هبة من الله واستعداد فطري وغريزي في قريحة الشاعر، وإنما الذي يدخل عنده تحت القواعد المذكورة هو شكل التعبير؛ أي قوالب الألفاظ التي تقاد بها تلك المعاني الشعرية. (12) هوكو والأدب الفرنساوي
ولما ألف فيكتور هوكو رواية كرومويل التمثيلية سنة 1827، وضع لها مقدمة بين فيها ما هو الأساس الذي أنشأ عليه أبنية أوراقه، وما هو أصل الشجرة التي أثمر فرعها فاكهة روايته، كما وضع المعري مقدمة للزوم ما لا يلزم وافتتحها بقوله: «كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق توخيت فيها صدق الكلمة، ونزهتها عن الكذب والميط.» ثم ذكر القواعد التي راعاها في تأليف هذا الكتاب، وبين اللوازم التي تلزم القافية بدون أن يفتقر إليها حشو البيت وأتى لها بالأمثال والشواهد المعتبرة من كلام الحكمة والموعظة الحسنة، كما هو مفصل في بابه. فخلاصة مقدمة كرومويل أن الإنسان منذ النشأة الأولى إلى الزمان الحاضر تقلب باعتبار التمدن؛ أي الحضارة والعمران في ثلاث أدوار: (1)
القرون الابتدائية. (2)
القرون القديمة. (3)
القرون الأخيرة.
وحيث كان الشعر سابقا على الاجتماع الإنسان وملازما له، فقد تقلب معه أيضا في ثلاثة أشكال: (1)
الشعر الموسيقي؛ أي الغناء
22 (ليريك). (2)
الشعر الحماسي؛ أي الحماسة (إيبيك). (3)
الشعر الدراماتيقي؛ أي الهائلة (دراماتيك).
وذلك أن الإنسان لما انتبه في القرون الابتدائية لعوالم الموجودات - وكانت قريبة عهد بالحدوث - انتبه معه الشعر، فانبهر من رؤية بدائع المخلوقات وأسكرته الدهشة حتى لم يكن أول كلامه إلا «هيللة»، وكان تفكره تجليا وجذبا وتصوره وحيا لقربه من موجد الكائنات وهو الله، فكان يناجي بقلبه ويهلل بلسانه كما يتنفس برئتيه. ولم يكن لعوده إلا ثلاثة أوتار الخالق والنفس والمخلوقات،
23
غير أن هذا السر المثلث يشمل كل ما في الوجود، وكانت الأرض مقفرة تقريبا وليس عليها من بني آدم إلا بطون وفصائل، ولم توجد بعد القبائل ولا الشعوب وكان لهم آباء لا ملوك، وكل عرق من عروق البشر متمتع ببقائه ولا معرفة لأفراده بالملكية ولا بالشريعة، ولا بالخصومة ولا بالحرب، بل الكل لكل واحد وللكل، فكان الاجتماع الإنساني شركة لا شيء فيها يضايق أفراد الإنسان، فكانوا يعيشون عيشة الرعاة والبداوة التي ابتدأ منها كل تمدن وعمران، وهذه المعيشة أوفق ما يكون لسائحات الفكر وهواجس القلب، فكانت نفس الإنسان سائحة على جناح الأهواء سابحة في بحر الخيالات وفكره أشبه بسحابة تسيرها الرياح، وتغير شكلها ووجهتها بحسب مهبها. فهذا هو الإنسان الأول، وهذا هو الشاعر الأول، فهو شاب وموسيقي، ودينه الصلاة بمعناها اللغوي فقط وهو الدعاء وشعره الغناء، فهذا الشعر وهذا الغناء الذي للقرون الابتدائية هو «سفر التكوين».
ثم زال عن الإنسانية هذا الشاب رويدا رويدا، واتسعت فيها جميع الدوائر، وصار البطن قبيلة والقبيلة شعبا وأمة، واحتشد كل مجتمع من هذا الاجتماع الإنساني العظيم حول مركز مشترك وتأسست الممالك، وحلت طبيعة العمران محل طبيعة البداوة، وتبدلت الخيام بالقصور ومحطات الرجال بالمدائن وتابوت العهد بالهيكل، وأصبح رؤساء هذه الدول المستحدثة رعاة - للمواشي - بل للشعوب والأمم، وتبدلت عصا الرعاية بصولجان الملك، ووقف كل شيء وتعين، وأخذ الدين شكلا مخصوصا وانقلبت الصلاة من المعنى اللغوي إلى المعنى المصطلح عليه عند أهل كل مذهب، وتعينت أقوالها وأفعالها بحسب ذاك المذهب، وضرب الاعتقاد نطاقه على العبادة، وعلى هذا الوجه اقتسم الكاهن والملك أبوة الشعب، وعلى هذا الوجه قامت مقام الشركة الأبوية الجمعية الثيوقراتية وهي الدولة الجامعة أحكامها بين الديانة والسياسة.
وازدحمت الشعوب والأمم على سطح الكرة، فتضايقوا وتخاصموا وانتشبت بينهم الحروب واصطدمت الممالك بعضها ببعض، وطغى قوم على قوم فأوجب هذا الطغيان مهاجرة الشعوب والأمم، وتغريبهم ورحلاتهم وتصور الشعر هذه الوقائع العظيمة، وانتقل بذلك من الأفكار إلى الأشياء وتغنى بالقرون والشعوب والممالك وصار حماسة وولد هوميروس. فهذا الشاعر في الحقيقة أحسن معرف للاجتماع الإنساني في القرون القديمة، وكل ما في هذا الاجتماع بسيط وحماسي، والشعر عندهم دين والدين شريعة؛ أي قانون، فبعد بكارة الدور الأول ظهرت طهارة الدور الثاني من أدوار الإنسانية، واستولى نوع من الوقار والاحتشام على الأخلاق البيتية والأخلاق العمومية، ولم تحفظ الشعوب من عوائد بداوتها إلا حرمة الغريب ورعاية ابن السبيل، وصار للعائلة وطن يربطها ونشأت محبة الوطن والدار وزيارة القبور، فالتعبير عن مثل هذا التمدن لا يمكن أن يكون بأشعار الحماسة.
وتقلبت أشعار الحماسة في أشكال كثيرة بدون أن تضيع خاصتها المميزة لها، فإذا تأملنا كلام الشاعر اليوناني بندار، وهو من أهل القرن الخامس قبل الميلاد والملقب بأمير الشعراء الغنائين لجودة قريحته في الشعر الموسيقي نجد كلامه كهنوتيا أكثر مما هو أبوي وحماسيا أكثر مما هو موسيقي، وفي هذا الدور الثاني من أدوار العمران ظهر المؤرخون، وجمعوا الآثار وأرخوا القرون ومع ذلك فظهور التاريخ لم يستلزم محو الشعر من الوجود، بل استمر التاريخ حماسة وكان المؤرخ هيرودوس كأنه هوميروس ثان، ومن نظر في روايات التراجيديا القديمة التي ألفها شعراء اليونان ومثلوها على مراسحهم تبينت له جليا أساليب شعر الحماسة ، ورأى علوهم في كل شيء وتجاوزهم الحد في العظمة والجبروت والهيبة والفخامة، فالأشخاص الممثلة في هذه الروايات هم من الجبارين وأنصاف الآلهة والآلهة، ومواضيع الروايات أحلام وهواتف ومقدرات وألواحها تعداد نفوس وتشييع جنازات وحروب وغارات، وما كان ينشده الرواة من الأشعار كان يشدو به الممثلون، ففن التمثيل عند اليونان كان مقتصرا على هذا فقط.
وكانوا يبنون مراسحهم على سفح الجبل بلا سقف يقي حر الشمس ومطر السماء، وإنما هي درجات بعضها فوق بعض على شكل نصف الدائرة المسمى عندهم (أمفيتياتر)، وموضع التمثيل على الأرض في صحن المرسح وهو غاية في السعة والجسامة، ويستوعب تمثيل معبد بفنائه وسراي بدوائرها وقصورها وأبراجها ومدينة بأسواقها، ومعسكر بمهماته وكذا محل المتفرجين يستوعب ثلاثين ألف متفرج، مع أن مراسح الأوروبيين لا تستوعب الأربعة آلاف، والمرسح الفرنساوي في باريس لا يستوعب إلا 1400 ومرسح الأوبرة فيها يستوعب 2200، ومرسح الشاتلة وهو أكبر المراسح في باريس يستوعب 3600، وكان التمثيل عند اليونان يبتدئ في الصباح، ولا ينتهي إلا في المساء، وربما مثل في المرة الواحدة روايتين أو أكثر، وكان الممثلون يفخمون أصواتهم، ويعظمون قيافاتهم ويتبرقعون بالبراقع المناسبة للرواية حتى يحاكي الواحد منهم الجبار العنيد، أو البطل الصنديد الذي يمثل دوره، فيمثل برومته بن تيتان وهو مقيد بالسلاسل فوق جبل قفقاس والنسر يأكل في أحشائه؛ لأنه صور من طين الأرض على هيئة الإنسان ثم أراد أن يأخذ من نار السماء أو نورها؛ لينفخ فيه الروح فأغضب الآلهة وجازاه كبيرهم بذاك الجزاء على ما اقترفت يداه.
ويمثل أيضا أنتيغون وهي في أعلى الأبراج تفتش عن أخيها الذي كان في معسكر الأعداء من الفينيقيين، وقد ذكر خبرها الشاعر سوفوقل في رواية نظمها قبل الميلاد بأربعمائة سنة، وسماها «أديب الملك»، ونسج على منوالها الشاعر الفرنساوي فولتير، وسمى روايته الفرنساوية بهذا الاسم أيضا، وأديب هذا ابن ملك من ملوك اليونان قتل أباه وملك على قومه، وتزوج بأمه بدون علم منه، فلما وقف على حقيقة الأمر لم يتحمل هذه المصيبة، فقلع عيني نفسه بيديه وخرج من ملكه هاجا وابنته أنتيغون تقود به.
ويمثل الممثلون أيضا على مراسح اليونان مركبا كبيرا ينزل منه خمسون أميرة بما يتبعهن من الخدم والحشم، كما في الرواية التي ألفها الشاعر أيشيل قبل الميلاد بخمسة قرون، فكان يجتمع على مراسحهم فخامة البناء مع فخامة الكلام، ويمتزج التاريخ بالدين، وكان أول المضحكين عندهم من الكهان، وكانت ألعابهم احتفالات دينية ومواسم أهلية.
فجميع الروايات المحزنة اليونانية هي من أشعار الحماسة، وجميع الشعراء المتقدمين عيال على هوميروس ورواياتهم مستنتجة من الإلياذة والأوذيسة، ومواضيع الجميع منها يعود إلى محاصرة تروادة. (13) الديانة المسيحية والأدب
ثم أخذ هذا الدور الثاني من أدوار الشعر يتقلص، ويعتق كما تعتق العمران القديم، وجاء الرومانيون، ونسجوا على منوال اليونانيين، ونسخ شاعرهم فيرجيل عن هوميروس وانتهى دور الشعر الحماسي وفتح دور جديد للشعر والتمدن بظهور الديانة المسيحية، فالديانة الوثنية مادية ظاهرية والديانة المسيحية روحانية باطنية، فلما حلت إحداهما محل الأخرى، ودخل الإيمان بالمسيح قلب التمدن القديم قتله، ووضع في جنازته المتعفنة جرثومة التمدن الحديث، وثبت بتعاليمه دعائم الأخلاق، وأول حقيقة جاء بها هذا الدين هي القول؛ بوجود حياتين للإنسان: إحداهما فانية والثانية خالدة. إحداهما على الأرض والثانية في السماء، وأعلم الإنسان بأنه مركب من حيوانية ونطق؛ أي من جسد ونفس، وأنه نقطة الفصل المشترك وهو في علم الهندسة النقطة المشتركة بين خطين، والخط المشترك بين سطحين، والسطح المشترك بين جسمين، أو بأنه الحلقة المشتركة بين سلسلتين من المخلوقات إحداهما تتألف من الماديات، والثانية من الروحانيات، إحداهما تبتدي من الجماد وترتقي للإنسان، والثانية تبتدي من الإنسان وتصعد إلى الله.
ربما فقه بعض الحكماء المتقدمين شيئا من هذه الحقائق، ولكن من أوضحها وجلاها الإنجيل الشريف. فأصحاب الديانة الوثنية خبطوا خبط عشواء وساروا في ظلام الليل على غير هدى، ولم يفرقوا في طريقهم بين الحق والباطل، والبعض من فلاسفتهم أفاض من نبراس حكمته على الأشياء نورا طفيفا لم يضئ منها إلا الجانب الأصغر، وزاد في الظل الممتد وراء جانبها الأكبر، فنشأ من ذلك جميع تلك الأشباح والخيالات التي وردت في فلسفة المتقدمين وأساطيرهم؛ لأن إضاءة تلك الأشياء بتمامها لا يتيسر إلا بنور الحكمة الإلهية، فلما جاء أمر الله قام النور الإلهي مقام هاتيك الأنوار المرتجة التي أتت بها الحكمة الإنسانية؛ وكان فيثاغورس وبقراط وسقراط وأفلاطون سرج الليل، فجاء المسيح ابن مريم (عليهما السلام) ضوءا للنهار، فحيث كانت عبادة الأوثان ديانة مادية لم يخطر على بال الأقدمين التفريق بين الروح والجسد كما في الديانة المسيحية؛ بل أوجدوا شكلا وهيئة لغير الماديات وشخصوا المعنويات، فكل شيء عندهم مرئي، محسوس، متجسد، وآلهتهم مفتقرون لسحابة يختفون فيها عن الأبصار، فهم يأكلون ويشربون وينامون، وتصيبهم الجراح فتسيل منهم الدماء، ويلقى بهم من السماء إلى الأرض فيتحطمون كما حدث لفولكين إله النار حينما حملت به أمه من «جوبيتر» المشتري كبير الآلهة، ووضعته في أشنع صورة فاستنكفت منه أن يكون ابنها، ورمت به إلى الأرض فهبط على جزيرة ليمن من جزر الممالك العثمانية وانكسرت رجله، وذهب لبركان أتنا ووضع فيه كور الحديد؛ فهو يعرج من وقعته ويشتغل في صنعته أبد الآبدين ودهر الداهرين.
ومن هؤلاء المعبودات ما هم آلهة، ومنهم ما هم أنصاف آلهة فقط، ودنياهم معلقة بسلسلة من الذهب يمسكها كبير الآلهة، وشمسهم يجرها في مركبه أربع رءوس من جياد الخيل، وجهنمهم هاوية عميقة يعين الجغرافيون فوهتها على سطح الكرة، وجنتهم على جبل أوليمبوس في تساليا يسكنها الآلهة ويتلذذون بنعيمها، فالديانة الوثنية عجنت جميع المفتريات من أساطيرها في طينة واحدة، وصغرت آلهتها وكبرت أوادمها حتى تشابه الفاني بالحي الذي لا يموت، فالأبطال الذين تكلم عنهم هوميروس في أشعاره كادوا يكونون أقرانا للمعبودين.
فأبو الفوارس أجاكس غضب على جوبيتر وهو راجع من محاربة تروادة، وأعلن الحرب عليه وعلى جماعته، وأشيل عنترة الحروب اليونانية يضاهي في القوة والشجاعة المريخ (مارس) إله الحرب وجلاد الفلك، بخلاف الدين المسيحي فإنه فرق بين المادة والروح، وحفر واديا عميقا بين الجسد والنفس، وواديا آخر بين الإنسان والآلهة، فبظهور النصرانية وبنشر تعاليمها دخل قلب الناس شعور جديد لم يكن معروفا للمتقدمين، واتسعت دائرة هذا الشعور عند المتأخرين اتساعا غريبا. فهذا الشعور هو الماليخوليا؛ أي السوداء، وهي أشد من الوقار المستولي على قلوب القدماء وأخف من الحزن. فالنصرانية وضعت في طبع المتدينين بها المزاج السوداوي، وجعلت الصلاة للفقير كالغنى للغني، وأسست بين الناس المساواة والشفقة والحرية، فمنذ أدخل الإنجيل النفس بين الحواس ووضع الخلود وراء الحياة أصبح المتمسكون به يرون الأشياء بشكل جديد.
وعدا هذا ففي التاريخ الذي انتشرت فيه الديانة المسيحية حدث في العالم انقلاب كبير لم يتيسر معه أن لا يحصل انقلاب في العقول؛ لأن الانقلابات التي حدثت قبل ذاك التاريخ كانت عبارة عن سقوط دولة، وقيام أخرى ولم يكن لذلك تأثير كبير في قلوب العموم؛ بل المصيبة الحاصلة من تلك الانقلابات كانت كالصاعقة لا تصيب إلا الأماكن العالية، والمقامات المرتفعة فعبروا عنها بأشعار الحماسة.
ففي الاجتماع الإنساني القديم كان الفرد سافلا حتى كانت المصائب لا تؤثر عليه؛ إلا إذا نزلت بيته وأصابت أهله، ولا يعرف الواحد من أهل تلك القرون الخالية البؤس ولا التعاسة خارج الآلام البيتية، ولا كان يسمع في تلك الأجيال بأن المصائب العمومية الحادثة في المملكة تمس المعيشة الفردية؛ فلما حدثت تلك الانقلابات الكبيرة إبان انتشار الديانة المسيحية، وأصبحت الأمم الأوروبية في هرج ومرج يتلاطمون كالأمواج في البحر العجاج، وانقرض التمدن القديم باستيلاء الأقوام البربرية على ممالك الرومان حدث من ذلك تأثير في قلوب العامة، وانفعال في نفس كل فرد من أفرادهم، وأخذوا يفكرون في مصائب الدهر ومرارة الحياة، وعرفوا بأن هذه الدنيا الفانية ما هي إلا هزر ولعب وكدر وتعب لا ينبغي للعاقل أن يغتر بها. فهذا الشعور الذي ولد اليأس في قلوب المشركين كما علم من حال الأديب الروماني قاتون، ولد في قلوب المنتصرين الماليخوليا وهي السوداء.
وفي ذاك التاريخ أيضا تولد فكر التجسس والاختبار؛ لأن تلك الوقائع العظيمة كانت أشبه برواية كبيرة مثلت على مرسح الدنيا، وشهد المتفرجون عواقبها المدهشة، فهذه الوقائع عبارة عن وثبة وثبها الشمال على الجنوب، وتغير بسببها شكل العالم الروماني، فأصبح يقاسي نزاع الموت وبلغت روحه التراقي، فلما مات هذا العالم قام جمهور من النحويين والبيانيين والسفسطائيين يتقاتلون على جنازته، ويقلبون جسده الذي لا حراك به، ويشرحون ويفسرون ويعبرون ويحللون ويناقشون، ويجادلون كأنهم ذباب يتساقط على جيفة التمدن القديم، فمن سعادة هؤلاء المشرحين للعقول، وحسن حظهم أنهم وجدوا جيفة يجرون عليها أول تجاربهم، ويسبرون قروحها بمسبارهم، فكان أول جسد شرحوه جسد أمة ميتة.
وعلى هذا الوجه نرى الآن ظهور جنية الماليخوليا، والتفكر بجانب عفريت التحليل والتضاد، ونجد في أحد طرفي هذا الدور الانتقالي البياني الشهير لونجين (210-273م)، ولد في حمص من سوريا، وألف باليونانية في علم البيان رسالة الإعجاز التي ترجمها بوالو للفرنساوية.
ونجد في الطرف الآخر القديس أوغوستين (354-430م) صاحب المؤلفات اللاتينية، فجميع أدباء القرون الوسطى استقوا أفانين العلم والأدب من حياض الروم في القسطنطينية، ولا يجوز لنا احتقار هذا الدور الانتقالي من أدوار الأدب؛ لأن فيه النطفة التي تخلقت وولدت وكبرت حتى صارت عروسا نتمتع اليوم ببديع جمالها. فكتبة ذاك الدور - ونرجو هضم هذا التعبير الحر مع أنه سوقي مبتذل - زبلوا رياض الأدب ليجتني المتأخرون ثمارها.
فحيث كان هناك دين جديد، وأمة جديدة اقتضى أن ينشأ على هذين الأساسين أبنية جديدة في الشعر؛ لأن شعر المتقدمين كان حماسة صرفا، وبسبب تأثير الدين الوثني والفلسفة القديمة كان الشعراء لا يدرسون من الطبيعة الواجب عليهم تقليدها إلا وجها واحدا وهو وجه الجمال، وينبذون وراء ظهورهم جميع ما لا علاقة له بشيء من نموذج الجمال بدون أن تأخذهم رأفة على صناعة الأدب المقتضى لها تقليد ما في الطبيعة من خير أو شر، فهذه الطريقة كانت في بادئ أمرها معتبرة. ولكن باضطرادها على قياس واحد زال رونقها وذهبت طلاوتها، ونقصت قيمتها كما هو شأن كل ما اضطرد على وتيرة واحدة، فلما ظهر الدين المسيحي جر الشعر إلى الحقيقة ووضعه في مكانه، وصارت قريحة الشاعر النصراني ترى الموجودات بعين أوسع وأرق مما كانت تراها قريحة الشاعر الوثني، فشعرت هذه القريحة الجديدة بأن المخلوقات ليست كلها جميلة باعتبار الإنسان، بل الشنيع منها بجانب الجميل والمستظرف بقرب المستقبح، والشر أكثر من الخير، والظلام سابق النور، والجد مخلوط بالهزل، وكلام السخرية وراء الإعجاز بالفصاحة، فقالت القريحة في نفسها:
أحكمة الشاعر النسبية الجزئية أحسن من حكمة الخالق المطلقة الكلية؟
أبلغ من حد الشاعر أن يقوم ما اعوج على زعمه من خلق الله؟
وهل الأبتر والأجدع والأجذم أجمل من كامل الأعضاء؟
وهل يحق لصناعة الأدب أن تنزع بطانة الثوب الذي تردت به الإنسانية، والحياة والمخلوقات؟
وهل يجوز نزع عضلة من الجسم، أو لولب من الدولاب إن أريد انتظام دورانه؟
وهل من الواجب على المطرب أن لا يعرب؟
ثم نظرت هذه القريحة الجديدة في وقائع العالم فوجدتها مضحكة مرهبة معا، واعتراها المزاج السوداوي بسبب الاعتقاد المسيحي، وأثر عليها أيضا الانتقاد الفلسفي المستفاد من ذاك الدور الانتقالي، فخطت في الأدب خطوة كبرى زلزلت بها العالم العقلي، وقلبت عاليه سافله وحذت في الشعر حذو الطبيعة، وخلطت في اختلاق المعاني النور مع الظلام، وكلام السخرية مع الإعجاز بالفصاحة بدون أن تمزج أحدهما بالثاني، وبتعبير آخر جمعت في الشعر بين النفس والجسد وبين الحيوانية والنطق؛ لأن الشعر والدين متلازمان، والنقطة التي يسير منها أحدهما يسير منها الآخر؛ فأوجدت في الشعر نموذجا جديدا وأسلوبا غريبا بالنظر للمتقدمين، وشرطت فيه شرطا قلب شكله وأصلح قالبه، فهذا النموذج وهذا الشرط هو كلام السخرية الذي يظهر في قالب الكوميدية، فهذا هو الفرق الذي يفرق في نظرنا بين صناعة الأدب الجديدة، وصناعة الأدب القديمة، وبين الشكل الجديد الحي، والشكل القديم الميت، أو بتعبير أشهر من هذا ولو كان مبهما، هذا هو الفرق بين أدب الطريقة الرومانية، وأدب الطريقة المدرسية.
فيقول لنا حينئذ أهل الطريقة المدرسية: ها نحن أمسكناكم، وأخذناكم بألسنتكم، أنتم تتخذون من القبيح نموذجا للتقليد ومن كلام السخرية أسلوبا لصناعة الأدب؟ ولكن أين اللطافة في ذلك أين حسن الذوق؟ أما تدرون أن صناعة الأدب ينبغي لها أن تقوم ما اعوج من الطبيعة؟ أما تعلمون أن الواجب عليها إعلاء شأن الطبيعة؟ أما تعلمون أن الأجدر بها انتخاب الأحسن مما في الطبيعة؟ هل أدخل المتقدمون القبيح أو السخرية في كلامهم؟ هل مزجوا الكوميديا بالتراجيديا؟ فاتبعوا يا سادة أساليب المتقدمين، واقتفوا في فنون الأدب أثر أرسطو وبوالو ولاهارب ... إلخ.
وفي الواقع أن حجج أهل الطريقة المدرسية دامغة، ولكن لسنا مكلفين بالرد عليهم؛ لأننا لا نريد وضع قواعد جديدة ولا تقييد العقل بالعقال كما قيدوه؛ إذ حمانا الله من القواعد ... وإنما نحن حققنا وجود أمر، فنحن مؤرخون ولسنا منتقدين ولا مشرعين، فهذا الأمر موجود سواء أعجبهم أو لم يعجبهم، فقريحة الشعر الجديد تولدت من انضمام نموذج السخرية بالكلام إلى نموذج الإعجاز بالفصاحة، وهي غريزة المنبع في ابتكاراتها مختلفة الأشكال في تصويراتها، بخلاف الشعر القديم فإنه وحيد الشكل وحيد الأسلوب لبساطته واضطراده على وتيرة واحدة، فهذا هو الفرق الحقيقي والأساسي بين أدب الطريقتين الرومانية والمدرسية.
نعم إن المتقدمين لم يجهلوا بالكلية حقيقة الكوميديا، ولا السخرية التي نحن بصددها إذ لا بد لكل شيء من أصل، وجرثومة الدور الثاني لا بد أن تكون في الدور السابق عليه، ففي الإيلياذة كل من «فولكين» و«نيرميت» نموذج لهذه السخرية والكوميديا، والأول مثال للآلهة وقد مر ذكر السبب في عرجه، وليس على أعرج من حرج، والثاني مثال للبشر، ووصف هوميروس في الفصل الثاني من الإيلياذة هذره في المنطق، وهذيانه في الكلام، وبين كثرة جلبته واستهزائه بجميع الناس حتى بالملوك، فكان في محاربة تروادة مضحكة اليونان يسخر بهم ويسخرون منه؛ لأن فيه جميع النقائص والعيوب، ومن أمثلة السخرية أيضا مكالمة منيلاس مع بواب القصر في رواية «هيلانه» التي نظمها الشاعر اليوناني أوريبيد في القرن الخامس قبل الميلاد.
ومن السخرية أيضا ما نراه عند اليونان من الأشخاص الخارقة للطبيعة كالذي نصفه الواحد إنسان ونصفه الآخر سمكة، والذي بعين واحدة في جبهته، وعرائس الجن اللواتي يظهرن على الإنس كأنهن حور الجنان، كل واحد من ذلك نموذج للسخرية، غير أن أدباء اليونان الأقدمين لم يتمكنوا من إيفاء هذا الموضوع حقه بسبب ما في أشعار حماستهم من الفخامة، وما في رواياتهم من العظة والجلالة، فالسخرية في كلامهم ليست في موقعها؛ لأنها مستورة بجلالة الشكل الحماسي، وأسلوب الحماسة يفوق فيها على أسلوب السخرية ويمنعها من الظهور والبيان، بخلاف الأدباء المتأخرين فإن أسلوب السخرية له في شعرهم ورواياتهم موقع مهم، وهو في كل موضع من كلامهم. ويصورون بهذا الأسلوب الشناعة والفظاعة من جهة، والهزر واللعب من جهة أخرى، ويلحقون به في الدين ألف وسوسة وأباطيل غريبة، وفي الشعر ألف معنى مبتكر وتصور بديع فأسلوب السخرية هو الذي أوجد في القرون الوسطى جميع هذه المخلوقات التي اعتقد الناس وجودها بين الإنسان، والله من عوالم الجن والروح والملك، وملئوا بها الهواء والماء والأرض والنار فلم يبق محل في الفضاء إلا وهي ساكنة فيه. ومنها من هو على أكتافنا يكتب أعمالنا، ومنها من يأكل ويشرب معنا من طعامنا وشرابنا، ومنها من يلبسنا لبس الجلد على اللحم، ولا يخرج منا إلا بالضرب الشديد والتعذيب، وهذه السخرية هي التي جعلت لشيطان النصارى قرون التيس، وأرجل الخنزير وأجنحة الخفاش، وجرت الشاعر دانتي الطلياني وملتون الإنكليزي إلى تصوير تلك الصور الجهنمية العجيبة ووصفها بالأوصاف الهائلة والأشكال المخيفة، حتى جاء في القرن السادس عشر المصور الشهير ميكل أنجلو ونقش على جدار كنيسة في الفاتيكان الذي يسكنه البابا صورة مفخة بديعة سماها اليوم الآخر وهو يوم العرض والحساب، ولو قرأ القرآن الكريم لصور جهنم ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر.
ومن أمثلة هذه السخرية أيضا الخادم الجني ميفستوفلس المرافق لفوست في الرواية المتقدم ذكرها، ومنها الساحرات التي مركزهن في رواية ماقبت وأنواع كثيرة من الخدام والرصد القائمين على حفظ الكنوز المخفية، والعيون الجارية والأشجار الكبيرة، وكذا الحوت الذي يظهر في البحر كالجزيرة المعشبة، والثعابين التي تحاكي في الضخامة الفيلة، وتحرق بنفسها كل مخضر ونحو ذلك. فالمتأخرون عبروا عن جميع ما ذكر بكلام أفصح، وأبلغ من كلام المتقدمين.
فأسلوب السخرية ما هو في نظرنا إلا ضد قام بجانب أسلوب الإعجاز بالفصاحة ليميزه ويظهره؛ لأن الأشياء تتميز بضدها، فهو أغزر المنابع التي فتحتها الطبيعة لصناعة الأدب، فطريقة المتقدمين أورثت الملل والكلال باضطرادها على نسق واحد، ومراعاتها لأسلوب واحد وهو أسلوب الإعجاز؛ لأن الإعجاز على الإعجاز، والبلاغة وراء البلاغة، والبيان تلو البيان متعب للفكر مجهد للذهن، فإذا فصل بينهما بكلام السخرية تفكه العقل وارتاح مما أجهده وأضناه، واستأنف السير نحو الإعجاز وهو في نشاط وارتياح بسبب توقفه بكلام السخرية والهزل، ثم لا يخفى أن الجميل إذا قرن بالقبيح زاد جماله رونقا وصفاء، وتلألؤا واعتلاء؛ ولذا كانت الجنة التي وصفها ميلتون ألذ وأشهى من جنان الإيليزة التي وصفها هوميروس وفرجيل؛ لأن ميلتون صور تحت جنة عدن جهنم أشد دهشة ونكالا من «تارتار» المتقدمين، ولو لم يصف لنا دانتي حبس ذاك الجبار العنيد في برج مدينة بيزه، وسد باب البرج عليه حتى هلك جوعا بعد أن أكل أولاده لما وجدنا طلاوة لحسن فرانسواز دوريمني، ولا لجمال بياتريس التي دخلت به جنان النعيم، إذ لو لم يكن في كلامه تلك الشدة والقسوة والعذاب الأليم لما كان فيه تلك الحلاوة الرائقة والعذوبة السائغة.
ففي شعر المتأخرين الإعجاز بالفصاحة يشبه النفس الناطقة المطمئنة بتعاليم النصرانية، والسخرية؛ أي الهذر بالكلام يشبه الجسد الحيواني الذي في الإنسان، فالنموذج الأول بتجرده من الهذيان، وسلامته من العيوب حاز كل الحسن والجمال والرشاقة والاعتدال والجذب واللطافة والرقة والحلاوة، وأخرج من خدور الأفكار عرائس مثل جوليت وأوفيليه اللتين صاغهما شكسبير في رواية روميو وجوليت ورواية هاملت، ولعلهما تشبهان ليلى التي افتتن بها قيس العامري على عهد الدولة الأموية، ولقب لأجلها بمجنون ليلى، وفاطمة التي هام بحبها أمرؤ القيس، وقال لها: «أفاطم مهلا بعض هذا التدلل».
والنموذج الثاني ظهرت فيه جميع العيوب، والعلل واتصف بالبشاعة، والشناعة، والهذيان، والانهماك في الشهوات الحيوانية، والرذائل الدينية وفي جر المنافع ولو بإيقاع المفاسد والجنايات، فهو فسيق، دني، شره، مهذار، بخيل، طماع، مرائي، مفسد، مفتن، قواد، غدار، كذاب، محتال، ويتمثل في صورة باصيل وفيغارو وتارتوف وهارباغون، والأول اسم راهب يحب مسايرة العاشقين على أهوائهم ولكنه كثير الطمع في أموالهم، والثاني اسم خادم نشيط ظريف قواد لسيده أوصله إلى معشوقته، ومكنه من وصالها بمهارة حيله ودسائسه، وهما من الأشخاص التي أوجدها مارشه في رواية «حلاق إشبيليه» و«زواج فيغارو»، ونكت بها على أخلاق المعاصرين من الفرنساويين قبل الانقلاب الكبير؛ أي في عهد لويس السادس عشر، والخامس عشر، وبين إسرافهم واستهزأ بأفعالهم، وفي سنة 1854؛ أي في عهد الإمبراطورية الثانية أنشأ أحد الكتبة جريدة هزلية سماها «فيغارو» إشارة إلى أنها تخدم خدمة فيغارو مع التنكيت والتبكيت، وعدم المبالاة بشيء ولا التعصب لأمر، فأصبحت جريدة الفيغارو اليوم من أعظم الجرائد اليومية في باريس، و«تارتوف» نموذج الرياء، و«هارباغون» نموذج البخل وهما من أشخاص روايات مولير، ويمكن أن يعد من هذا القبيل أيضا أبو زيد السروجي في وعظه للناس بالمواعظ الحسنة، ثم جمعه الفلوس واشترائه اللحم والخمر والجلوس للمنادمة مع غلامه كما هو موضح في مقامات الحريري.
فالجميل ليس له إلا نموذج واحد، والقبيح له ألف نموذج؛ لأن جمال الجميل ما هو إلا نسبي بالنظر إلى الإنسان وباعتبار تركيب أعضائه، والقبيح له نسبة وعلاقة مع غير الإنسان، فهو جميل بالنسبة إلى عموم المخلوقات، وقبيح بالنظر للإنسان وحده.
ففي القرون الوسطى نرى لكلام السخرية موقعا بجانب الإعجاز بالفصاحة، وكثر استعمال السخرية في الأدب في الرسم والتصوير والحفر، وفي الأخلاق والعادات كالرسوم التي أحسن في تصويرها المصور الشهير ميكل أنجلو الطلياني، والمصور مويلو الإسباني وأبدع ما أتت به قريحته الراسمة التي نقش فيها كيفية الصعود إلى السماء، ثم ظهر شكسبير وصار ملك الشعراء كما قال دانتي عن هوميروس، ومزج كلام السخرية بكلام الإعجاز وصاغ منهما الدرام، فشكسبير هو أبو الدرام والدرام هو الخاصة المميزة للدور الثالث من أدوار الشعر والأدب العصري، وهو جامع للمرهب والمضحك من الكلام؛ أي للكوميديا وللتراجيديا. (14) الإجمال
فإجمالا لما تقدم لنا ذكره نقول: إن الشعر له ثلاثة أدوار وهي الغناء والحماسة والدرام، ولكل منها مناسبة بدور من أدوار الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، فالقرون الابتدائية غناءة، والقرون القديمة حماسية، والقرون الجديدة درامية، والغناء يترنم في الأزل، والحماسة تحتفل بالتاريخ، والدرام يصور حياة الإنسان، وخاصة الأول السذاجة، وخاصة الثاني البساطة، وخاصة الثالث الحقيقة.
فرواة اليونان - ويسمونهم رايزود، وهم أشبه برواة العرب الذي جاء منهم حماد الراوية، وكانوا يطوفون القرى ويروون أشعار بندار وهوميروس وأيشيل - يدلون على دور الانتقال من الشعراء المغنيين؛ أي الناظمين لشعر الأغاني إلى الشعراء الحماسيين. والرومانيون؛ أي مؤلفو الرومانات وهي الأقاصيص الموضوعة يدلون على دور الانتقال من الشعراء الحماسيين إلى الشعراء الدراميين، وبظهور الدور الثاني ظهر المؤرخون، وبظهور الدور الثالث ظهر الباحثون في حكمة التاريخ وبيان أسباب الوقائع وعللها.
وأشخاص شعر الأغاني عظام الأجسام طوال القامات والأعمار مثل آدم، وقابيل، وهابيل، ونوح، ويدخل في زمرتهم عوج بن عناق، وأشخاص شعر الحماسة من القوم الجبارين وهم أقوياء أشداء؛ مثل أشيل بطل الحروب اليونانية، وأستره آلهة العدل، وأوريست بن أغا ممنون الذي ألف فيه شعراء اليونان رواياتهم ثم جاء فولتر ونسج على منوالها روايته المشهورة باسم أوريست. ويدخل في زمرتهم عنترة بن شداد. وأشخاص الدرام هم بشر على الصورة الحقيقية للإنسان مثل هاملت، وماقبت، وأوتيلو الذين صورهم شكسبير في رواياته المشهورة بهذه الأسماء، وربما دخل في زمرتهم أبو زيد السروجي في مقامات الحريري، والشيخ علي بن منصور الحلبي في رسالة غفران المعري، ومنبع الأغاني الوهم والخيال ومنبع الحماسة العظمة والفخامة، ومنبع الدرام الحقيقة، وتتفجر هذه الينابيع الثلاثة من ثلاثة بحور كبيرة التوراة وهوميروس وشكسبير.
فهذه هي أشكال الفكر المختلفة بحسب اختلاف القرون التي تقلب فيها الإنسان والعمران، وهي في ثلاثة أدوار الشباب والكهولة والشيخوخة، فسواء نظرنا في أدب أمة على حدتها، أو في أدب البشر على وجه العموم، فالنتيجة التي نستنتجها من جميع ذلك واحدة؛ وهي تقدم الشعراء المغنين أو الغنائيين، وهم الناظمون أشعار الأغاني على الشعراء الحماسيين؛ أي الناظمين شعر الحماسة وتقدم الشعراء الحماسيين على الشعراء الدراميين، ففي فرنسا ماليرب (1555-1628م) سابق على شابلين (1595-1674م) وشابلين سابق على قورنيل (1606-1684م)، والأول هو الشاعر الغنائي «ليريك» الذي أصلح اللغة الفرنساوية، وقال فيه بوالو: «وفي النهاية أتى ماليرب ...» فذهبت مثلا.
وأما الثاني فانتقد عليه بوالو في الشعر وسخر به حتى جعله أعجوبة وهزءا، ويلقب الثالث بأبي التراجيديا وهي الروايات الفاجعات، وكذا الحال عند قدماء اليونان، فشاعرهم المسمى «أورفيوس» متقدم على هوميروس، وهوميروس متقدم على «أيشيل» الملقب بأبي التراجيديا اليونانية. وفي كتاب العهد القديم؛ أي التوراة سفر التكوين متقدم على سفر الملوك، وسفر الملوك متقدم على سفر أيوب - عليه السلام - وإذا نظرنا في أدب البشر على وجه العموم نرى التوراة قبل الإيلياذة، والإيلياذة قبل شكسبير.
ولا غرو في ذلك فإن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم يبتدئ في الترنم بما يتخيله، ثم يقص ما يعمله، ثم يصور ما يفتكره، فالدرام بجمعه بين الأوصاف المتضادة كان أوعب للأفكار الفلسفية والتصورات العميقة، وكل ما في الطبيعة وما في الحياة يتقلب في هذه الأشكال الثلاثة، وهي الغناء والحماسة والدرام؛ لأن كل ما في الوجود يولد ويعمل ويموت. ولو أبيح التعبير عن الحقائق البرهانية بالتخيلات الشعرية لقال الشاعر بلسان الشعر: إن الشمس عند طلوعها ترنم بالغناء، وعند القائلة؛ أي الظهيرة تفاخر بالحماسة، وعند الغروب تفجع بالمصيبة وهي الدرام، فهذا التعبير هو من باب الشعر، وربما كان ضربا من الجنون، انتهى كلامه ببعض تصرف وزيادة.
ثم شرع صاحب مقدمة كرومويل في الرد على أصحاب الطريقة المدرسية في تقسيمهم الشعر إلى الأجناس، التي سبق ذكرها في الكلام على بوالو وفي تحديدهم كل جنس منها بالحدود والتعاريف، وفي تفريقهم بين التراجيديا والكوميديا، وأبطل قولهم: بلزوم وحدة الزمان والمكان في الروايات التمثيلية، ولم يقبل من وحداتهم الثلاثة إلا وحدة العمل. وقد ضربنا صفحا عن إيراد كلامه في هذه المباحث لعدم التطويل؛ ولأن الروايات التمثيلية على ما فيها من الفوائد الجليلة في أساليب البلاغة لم تشتهر لهذا الزمان بين المتكلمين بالعربية، ولا اعتنى فحول أدبائنا في تأليف الروايات لا بالنظم، ولا بالسجع، ولا بالنثر كما فعلت النشأة الجديدة من أدباء اللسان العثماني.
وقد حض فيكتور هوكو في تلك المقدمة على تأليف روايات «الدرام» بالشعر لا بالنثر، وقال: بأن بيت الشعر يحيط بالمعنى إحاطة الثوب الإفرنجي بالبدن، ويضيق عليه ويوضحه معا، ويعطيه شكلا ألف وأدق وأتم من شكل النثر، ويديره علينا كأنه نوع من أنواع الأكسير الذي استخرجه الكيميائيون من خمير الذهب، وزعموا أن فيه لذة للشاربين وشفاء للأجسام من جميع العلل والأسقام، فبيت الشعر على رأي فيكتور هوكو هو القالب الشفاف للمعنى، وإذا تلطف الشاعر في نظمه وإنشائه أكسب المعنى رونقا لولا بيت الشعر لمر ذاك المعنى غير ملتفت إليه.
فالشعر هو العقدة التي تربط سلك المعاني، أو المنطقة التي تضم حواشي الهدم على الجسم وتطويه طيات متناسبة بالهندام. والشعر يزيل من الألفاظ ما هو سوقي مبتذل، أو عامي سخيف ويكسب المعاني حلاوة وطلاوة ورشاقة، سيما إذا اقتصر الشاعر على استعمال الألفاظ المتعارفة بين الناس المتداولة على الألسن، وترك ما كان وحشيا غريبا في اللغة.
وعرض فيكتور هوكو بالذاهبين إلى أن «أعذب الشعر أكذبه» بقوله: ليت شعري ما الذي يضيع من الشعر إن دخلت فيه الطبيعة والحقيقة؟ وهل تنقص الخمر صفة من أوصافها إن وضعت في أباريق الزجاج وختم عليها؟ كلا بل تصير رحيقا معتقة ختامها مسك يتنافس بها المتنافسون. وختم المؤلف مقدمة كرومويل ببيان المقتضى للشاعر من النسج على منوال الطبيعة (لأن كل ما في الطبيعة هو في صناعة الشعر)، وإن كان الشاعر جيد القريحة فلا حرج عليه في شيء من القواعد، وله الحرية المطلقة في التصرف بجميع أفانين الشعر على حسب ما يرتئيه.
فهذه خلاصة مقدمة كرومويل الشهيرة بين الأدباء على اختلاف لغاتهم وتباين مذاهبهم، ومنها يفهم أن الطريقة الرومانية أرجعت الشعر إلى الحقيقة، والطبيعة، والحياة وتركت فيه التصنع وزخرفة الكلام وأجراس الألفاظ، ولم تلتفت إلى زعم أهل الطريقة المدرسية بأن زخرف القول من مقتضى الذوق السليم للشاعر، وأزالت جميع الحواجز التي تعرض أما سجية الطبع، وتصد الفكر عن تصور الحقيقة والطبيعة، وتوصيف الموجودات بحسب ما هو مغروس في جبلة كل منها سواء كان من صفات القبح، أو صفات الجمال بلا تفريق بينهما؛ ولذا نكتت بعض الجرائد بقولها على سبيل التقريظ والتبكيت: «فليعش الإنكليز والألمان، فلتعش الطبيعة الهمجية الوحشية التي نشاهد جمالها في أشعار فيكتور هوكو وإخوانه من أهل الطريقة الرومانية.» إشارة إلى أن أساليب هذه الطريقة أول ما ظهرت في أدب الإنكليز والألمان، كما تقدم بيانه، وعرف بعضهم الروماني؛ أي السالك نهج الطريقة الرومانية «بأنه رجل ابتدأ عقله في الاختلال.»
فمن أمعن النظر في المبحث الأخير من تلك المقدمة وجده مطابقا لما ذكره أئمة البلاغة والأدب في لسان العرب، كأبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وابن خلدون وأمثالهم، ولا حاجة لإيراد أقوالهم في هذا الباب، فإنها معلومة ومحصلها وجوب نصرة المعنى على اللفظ؛ لأن الألفاظ خدم المعاني، قال الباقلاني: «والشعر وإن ضيق نطاق القول فهو يجمع حواشيه، ويضم أطرافه ونواحيه، فهو إذا تهذب في بابه، ووفى له جميع أسبابه، لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب.» وقول فيكتور هوكو: بأن الخاصة المميزة لأدب الطريقة الرومانية عن غيره هي الجمع بين نموذج السخرية ونموذج الإعجاز بالفصاحة أشبه بقول المتنبي: «وبضدها تتميز الأشياء»، ولعل السبب الذي حمل المتنبي والمعري على ترك أساليب الجاهلية، والنسج على منوال جديد هو الذي ذكره فيكتور هوكو من أن أساليب المتقدمين كانت معتبرة في بادئ أمرها، ثم باضطرادها على قياس واحد مراعاة للقوانين ثقلت على السمع وملها الطبع، وسترى حقيقة ذلك في التعريف الآتي للطريقة الرومانية.
أما عدم تعرض فيكتور هوكو لأدب العرب كما تعرض لأدب الأمم الأوروبية ولأدب الفارسية العذبة؛ فهو لجهله - سيما في ذاك التاريخ الذي ألف فيه مقدمته - بفصاحة العرب، وإعجاز القرآن، وحضارة الإسلام، فإن التمدن العربي لم يدرس حق درسه ليومنا هذا. ولم يزل صاحبنا المستشرق البودابستي العلامة كولدزير يحض المستشرقين من كل أمة على التعاون، والاشتراك في تأليف دائرة للمعارف الإسلامية، فإن تم هذا المشروع وأنجزت ترجمة المهم من كتب الأدب العربية ربما تيسر بعد ذلك للباحث الاطلاع على كنه العلوم والآداب الإسلامية، ولم يزل المستشرقون يترجمون في الصوربون القرآن الكريم، وتفسير البيضاوي ترجمة صحيحة مدققة، ولا يكملون في كل سنة أكثر من بضع صحائف، ولم يترجم من كلام المعري سوى وريقة فيها نحو مائتي بيت نشرت بالألمانية في فيينا عاصمة النمسا سنة 1888م، فهم يتقربون من فهم حقيقة الأدب العربي رويدا رويدا.
وقد رأينا فيما تقدم أن صاحب أغاني رولان يعتقد بأن الإسلام فرع من عبادة الأصنام، ويحسب أبولون من جملة أوثان المسلمين، ولو علم فولتير من أحوال الشرق ما يعلمه علماء هذا العصر لاستحى من نفسه، ومزق الرواية التي حررها باسم «محمد النبي» - عليه السلام - وقدمها للبابا بنوا الرابع عشر بعد أن سجد لديه وقبل قدميه.
24
ولما ذهب فيكتور هوكو لإسبانيا رأى آثار العرب في المباني والقصور والقناطر، وقدرها حق قدرها ولكنه لم يفهم من الآيات والأبيات المنقوشة على جدرانها أكثر مما نفهمه من أحرف الصين المنقوشة على البضائع الصينية، وسيما على علب الشاي. ولما ظهر رينان وصار شيخ العلماء في عصره درس أدب العرب الأندلسيين من حيث الفلسفة، ولخص ما حققه في كتاب سماه «ابن رشد»، فقام اليوم البارون قرادوفو معلم العربية في الأنستيتو الكاثوليكية بباريس، ونشر كتابين أحدهما «ابن سينا»، والثاني «الغزالي»، ودرس في الأول أدب العرب وفلسفتهم الشرقية، وفي الآخر علومهم الكلامية والإلهية، فالكتب الثلاثة المذكورة من أحسن ما حرر في هذا الصدد، ولكن الموضوع محتاج إلى تعميق وتدقيق، ولا يتيسر ذلك إلا بعد استخراج الكتب العربية وفهمها، وقد خبط رينان في بعض ما حرره عن الإسلام خبط عشواء، وفتح لشارل ميزر وأمثاله بابا للاعتراض عليه، كما أن البارون الكاثوليكي تعصب على ابن سينا والغزالي في ما حرره، ومع هذا قال رينان في الخطاب الذي نشره سنة 1883: «بأن أوروبا ظلت منحطة في العلم والأدب عن العالم الإسلامي وخاضعة فيهما إليه حتى أوائل القرن الثالث عشر، وفيه أخذ العالم المسيحي يرقى درجات العلم والعمران، والعالم الإسلامي يهبط في الدرك الأسفل من الجهل وانحطاط الحضارة، واندثرت علوم العرب بعد ما لقحت جراثيم الحياة في جسم العالم اللاتيني الغربي، واستمر المترجمون من سنة 1130م إلى سنة 1150 يترجمون في مدينة طليطلة كتب العلم من العربية إلى اللاتينية، وهم تحت حماية الأسقف ريموند، وفي السنين الأولى من القرن الثالث عشر شرعت مدرسة باريس الكلية في تدريس كتب ابن رشد أرسطوطاليس العرب، أما ارتحال البابا سيلفتر الثاني لطلب العلم في إشبيلية؛ وإن كان مشكوكا فيه فقسطنطين الإفريقي علامة عصره لا شبهة في أخذه العلم عن المسلمين.» ا.ه.
وقسطنطين الإفريقي الذي يذكره رينان ولد سنة 1015م في قرطاجنة، وبعد أن حصل علوم الطب والحكمة صار كاتبا لأحد الأمراء، ثم دخل سلك الرهبنة في إيطاليا وأدخل فيها علوم العرب، وله مجموعتان كبيرتان باللاتينية طبعتا في بال سنة 1539م.
ودام قول فيكتور هوكو هو المعول عليه في الطريقة الرومانية إلى أن اشتهرت الطريقة الطبيعية (ناتوراليزم) في سنة 1860 على عهد الإمبراطورية الثانية، وقام أصحابها يناقشون فيكتور هوكو وشيعته وينتقدون عليهم، على أن الرجل وإن ظهرت له معجزات في آيات البيان، فهو ليس بنبي ولا تجب له العصمة عن الخطأ والنسيان، ومن هو الرجل الذي تحمد كل سجاياه؟ ومن هو المبرأ من كل عيب؟ وكفاه نبلا أنه خطا في الأدب خطوة للأمام ومهد الطريق لمن أتى بعده، ولولا ظهور الطريقة الرومانية لما ظهرت الطريقة الطبيعية، ولا حصل ارتقاء ونهضة في الأدب، ثم إن مقدمة كرومويل وإن بحث فيها المؤلف عن تاريخ الأدب، وبيان الخاصة المميزة لأدب الطريقة الرومانية عما سواه، فهي أحق بأن تكون تعريفا لنوع الدرام وحده، وهو فن من فنون الشعر والأدب.
وأما التعريف الشامل لجميع ما حرر من فنون الأدب على نهج هذه الطريقة المستحدثة منظوما كان أو منثورا، فهو ما يأتي: إذ من شرط التعريف أن يكون جامعا للأفراد مانعا من دخول الأغيار فيه، ولا يكفي أن يكون منطبقا على فرد من الأفراد فقط.
وتعريف الطريقة الرومانية تعريفا جامعا مانعا ليس بالأمر السهل، ولا يتيسر إلا بالنظر في الخواص الظاهرة والمشتركة بين جميع فنون الأدب المنسوجة على أساليب الطريقة الرومانية والمنشأة في قوالبها. (15) تعريف الطريقة الرومانية
الطريقة الرومانية هي أدب يبحث فيه عن مشاعر النفس وبدائع المخلوقات، وهذا الأدب من قسم الشعر الموسيقي أو الغنائي الممتاز بخاصته الشخصية كما سبق تعريفه، وبيان الفرق بينه وبين شعر الحماسة والدرام، فإذا نظرنا في أعراض النفس نجدها على نوعين أحدهما أعراض قائمة بالنفس كالشعور بالحب والرجاء، والشعور بالبغض واليأس، والشعور بالفرح والطرب والابتهاج، أو بالحزن والغم والانقباض ... والثاني انفعالات تحصل للنفس بواسطة الحواس الخمس وهي البصر، والسمع، والذوق، والشم، واللمس، فهذه الحواس منها ما هو حائز على الصفة التمثيلية للعالم كالبصر والسمع وهما بهذه الصفة آلات يبني الإنسان بها العالم الخارجي الذي يحمل صورته في نفسه، ومنها ما لم يحز على هذه الصفة التمثيلية بسهولة وبلا واسطة، كبعض الانفعالات العضلية وحاستي الشم والذوق عند أكثر الناس.
فأهل الطريقة الرومانية اكتفوا بالتعبير عن النوع الأول وعن القسم الأول فقط من النوع الثاني، وصوروا بدائع المخلوقات بصور يخال منها للقارئ أنه يسمع ويرى، كما يتضح لمن طالع وصفا من أوصاف فيكتور هوكو في مناظر الطبيعة وأصواتها، وفي بيان حنين النفس وانفعالاتها، وتركوا التعبير عن القسم الثاني من النوع الثاني؛ أي عن الحواس التي لم تحز الصفة التمثيلية لخلفائهم من المتأخرين، وهم أهل الطريقة الطبيعية الذين قادهم إميل زولا، فصور هذا الإمام في الأدب حقيقة كل ما بحث فيه وتكلم عنه ومثله تمثيلا حقيقيا، وعبر عن حاسة الشم بما كتبه عن الهال وهو سوق الخضر في باريس، وجعل القارئ يشم ما فيه من روائح السمك والقديد، فضلا عما يسمعه من جلبة البائعين والمشترين، ويراه من السلع والمركبات، وانهماك الغادي والبادي في الأخذ والعطاء.
ثم إذا نظرنا فيما حرره الشعراء والأدباء من أية أمة، وفي أي لسان نجد منهم من يتكلم عن شعور وتصور، ومنهم الذين يقولون ما لا يفعلون، وينظمون قصائد الغزل والرثاء، وهم لا يشعرون بشيء من الغرام أو التفجع، ويمدحون الممدوح قبل معرفته، ويصفون الحبيب قبل مشاهدته، ويهيمون في ذكر الطلول والرسوم وفي التشبيه بالشمس والقمر والترشيح بكثرة الرماد، وطول النجاد حتى يلتبس الأمر على السامع، فلا يدري هل القائل من أهل القرن الرابع عشر للهجرة أم من الذين مضوا قبل البعثة، فمن شرط السالك نهج الطريقة الرومانية أن يتكلم عن مشاهدة وتصور وشعور وإحساس وانفعال، وتأثر واعتقاد واقتناع، وإذا سمع العامي شيئا من كلامه في الحب مثلا قال: هذا كلام عاشق محروق.
وإلى ذلك أشار ابن رشيق فيما نقل عنه من كتاب العمدة بأن من بواعث الشعر العشق والانتشاء، ومن شروطه الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا المسموع من غناء البلابل وطنين الأوتار، فاهتمامنا بانفعالات الشاعر التي ليست بانفعالاتنا، وبإحساسه الذي ليس بإحساسنا إنما هو لكوننا بشرا، والشاعر بشر مثلنا، فبيننا وبينه مشاركة في الطبيعة وفي منبع الحس والانفعال، ويزيد الشاعر عنا باقتداره على الإبانة عن المعاني الكامنة في نفسه ونفوسنا؛ لأن له سجية الشعر وملكة راسخة في التعبير عن شعوره وإحساسه. ولعل هذا مقصد ابن خلدون في قوله: «المعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا يحتاج إلى صناعة، وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة، فالذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر.» قال الفيلسوف الألماني هيكل: «لا تكون شهوات النفس وعواطف القلب من معاني الشعر إلا إذا كانت عامة، متينة، دائمة.» بحيث يكون الشعر المشتمل على شهوة من شهوات النفس، أو عاطفة من عواطف القلب مؤثرا في كل من قرأه أو سمعه، ويكون هذا التأثير دائما في جميع الأزمان مثل الإيلياذة والأوذيسة وماها بهاراته ورامايانا المؤلفة قبل الميلاد بقرون كثيرة، ولا يكفي أن يكون الشعر مؤثرا على فرد أو أفراد معدودة في مجلس أو مجالس محدودة، وقول امرئ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» يؤثر على جميع الخبيرين بلسان العرب في عصرنا هذا وفي العصور الآتية، كما أثر على آبائنا الأولين في العصور الحالية، فالكلام العالي المتين المنسوج على منوال الطريقة الرومانية هو الذي تشخص فيه الإنسانية، وتأثيره على السامعين إنما هو من جهة عمومه وشموله في تصويره ما في سويداء القلب من العشق والغرام والهموم والأحزان، وفي وصفه المناظر المبهجة التي في الطبيعة، وبيان ما لها من الأشكال الغريبة البديعة، وفي استطلاعه حالة الإنسان وحظه من هذا العالم على حد قول الشاعر العربي:
سبحان من قسم الحظوظ
فلا عتاب ولا ملامه
أعمى وأعشى ثم ذو
بصر وزرقاء اليمامة
فالسالك نهج الطريقة الرومانية لا يكتفي بقوله: لا عتاب ولا ملامه؛ بل يسأل في كل موضع من كلامه من نحن؟ إلى أين ذاهبين؟ ويفكر في هذا السراج الذي يضيء فينا مدى العمر ثم ينطفئ بالموت، وفي أمر هذه الحياة التي تجري كالسيل ثم تنقطع، فيستفهم عن هذه الأنانية المختفية فينا وعن معنى «أنا»؟ ويقول: ما هو هذا الموت الذي يطفئ سراج العمر ، ويقطع مجرى الحياة؟ هل هو نهاية، أو وقفة، أو باب تمر به من برزخ لبرزخ؟ ماذا يوجد وراء ذلك؟ والحاصل ما هو السبب؟ ما هو سبب «أنا» الموجود؟ ما هو سبب هذا العالم الذي أعكسه في نفسي؟ فإن كان المفكر بما ذكر قادرا على تأليف شيء موافق لأساليب الطريقة الرومانية، فهو يفتش عن هذا الشيء في خفقان قلبه، وفي مناظر الطبيعة. فأدب الطريقة الرومانية تشف معانيه عن الخشية الحاصلة لأصحابه مما وراء الطبيعة، وهذه هي الخاصة المميزة له والمظهرة لعظمته واعتلائه، وفي تصويره الإحساس الباطني، وتوصيفه مناظر الطبيعة يعطي الإنسان فكرا عن الأمر الكلي ويرمز له عن المجهول.
فموضوع أدب الطريقة الرومانية هو مجموع هذه الانفعالات الشخصية المختصة بكل فرد من أفراد الإنسان، وتلك الشروط الضرورية للمجتمع الإنساني، فهذا جل ما يبحث فيه السالكون نهج الطريقة الرومانية، ويبقى عليهم ما ذكرناه في قواعد الطريقة المدرسية من تمام النسبة بين أساس الفكر وشكل التعبير؛ أي فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى، ووجود الموازنة بين التخيل الشعري وبين التعقل، واتباع الصدق والحقيقة في الشعر. فأهل الطريقة الرومانية لا يهتمون لا بالقواعد التي وضعها علم الروح (بسيكولوجي) ولا بالحقائق العلمية، وليس لهم عناية لا بصناعة التفكر ولا بصناعة التعقل؛ وإنما دليلهم في النظم والنثر الإحساس، بخلاف أهل الطريقة المدرسية فإن دليلهم في ذلك العقل والذوق السليم، وهذا ما جعل لمؤلفاتهم التي ألفوها في القرن الثامن عشر، وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر فائدة وقيمة وندرة، فالطريقة الرومانية تتميز عن الطريقة المدرسية بأمرين أحدهما نفي، والثاني عكس قضية:
أما النفي فهو عبارة عن حذف القواعد التي أسست عليها المؤلفات الأدبية ونفيها عن الأدب، وكانت هذه القواعد على ثلاثة أنواع: (1) تعريف كل من الفنون الأدبية على حدته كالغزل والمدح والرثاء والهجاء ... إلخ والتفريق بينهما تفريقا لا اتصال فيه. (2) وضع قواعد لكل فن من هذه الفنون من شأن هذه القواعد توحيد النموذج وتغليبه على جميع الأمزجة المختلفة. (3) قواعد الذوق وهي التي تعين حدا للشاعر في اختيار أساليب التقليد، وكيفيات التعبير وتحصر فكره.
وأما عكس القضية فهو عبارة عن العمل بضد ما عمل به أرباب الطريقة المدرسية، فأدب القرن الثامن عشر في جميع أوروبا كان على أساليب أدباء الفرنساويين الذين نبغوا في عصر لويس الرابع عشر؛ أي في القرن السابع عشر مثل قورنيل، وراسين، وبوالو، ومولير وهؤلاء نسجوا على منوال المتقدمين من اليونان والرومان، واختاروا مواضيعهم من القرون القديمة، كما هو الحال في رواية «استير» و«اتالي» و«اندروماق» إلخ. وأما أهل الطريقة الرومانية، فاتخذوا مواضيعهم من القرون الوسطى والبلاد الأجنبية، وتاريخ النصرانية كما هو الحال في رواية «فوست» و«كليوم تل» وجميع روايات فيكتور هوكو التمثيلية.
فالطريقة الرومانية وسعت أولا دائرة الأدب، أو بالحري نقلت هذه الدائرة من مركزها لمركز آخر، ثم مزجت أساليب الفنون الأدبية من تراجيديا وكوميديا بعضها ببعض؛ فنشأ عن ذلك تشويش في بادئ الأمر ثم ظهر من هذا التشويش ترتيب جديد، وجاء الأدباء بشعر موسيقي وأدب مبهج وتاريخ حي، فالطريقة الرومانية أزالت تلك الأساليب المعينة المحدودة التي من شأنها أن تمنع الشاعر من أن يتصرف فيها بفكره واختياره، كما أنها أزالت عن السبك والإنشاء هاتيك العوائد الاستبدادية التي من خصائصها أن تصفي إلهامات الشاعر وترفع منها الغرابة، فبتغييرها أساليب الفنون والقواعد والذوق واللغة والعروض، وضعت الأدب في قالب غير معين، وساقت أدباء العصر الجديد للتحري بكل حرية على أساليب وقواعد وفنون جديدة، فعثروا أول الأمر على قواعد الطريقة الطبيعية، وهم الآن شارعون في وضع قواعد للطريقة الإنسانية، ويقربون بذلك إلى الكمال شيئا فشيئا، ويرقون معارج البلاغة درجة فدرجة.
فإذا تأملنا كلام المعري ومن سلك مسلكه من الشعراء نجد فيه اهتماما زائدا بأمر الآخرة وبما بعد الموت، وتفكرا عميقا في خلق السموات والأرض، ودهشة مقلقة وحيرة زائدة وانفاعالا نفسانيا وإحساسا غريبا، فكان كلامه يدخل تحت التعريف المتقدم ذكره للطريقة الرومانية، ولكن بسبب فقده حاسة البصر التي لها المكان في هذه الطريقة لم يتيسر له وصف الطبيعة وصفا لائقا بها وبفصاحة لسانه، ولا حاجة لإيراد مثال من كلام المعري، فإن كل كلمة من اللزوميات تشعر بهذه الدهشة والخشية والحيرة والانفعال والإحساس والتألم ألما يهون معه الموت، ولا يحسب بجانبه مصيبة، وهذا بخلاف الجاحظ الذي يقول في أول كتاب الحيوان: «جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة سببا، وبين الصدق نسبا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة.» فهو بعيد عن القلق والحيرة متثبت في الفكرة، وتأليف الكلام على هذا النمط يسمى طريقة الجاحظ وهي مخالفة لطريقة السجع.
وقد تصدى ابن رشيق (390-469ه) لما تصدى إليه بوالو ووضع كتابا في قواعد الشعر سماه «العمدة». قال ابن خلدون: «وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله»، فليت شعري هل اطلع على شيء من مؤلفات اليونان في قواعد الأدب والبيان، كالذي ألفه أرسطوطاليس، وترجم شيئا منه ابن رشد في القرن السادس للهجرة، والذي ألفه البياني لونجين الحمصي، وترجمه بوالو للفرنساوية وسماه «رسالة الإعجاز »، فإن أدباء العرب كان لهم عناية بالقواعد الأدبية باعتبار أنها من جملة المنطق والفلسفة؛ وإن لم يعتنوا بأشعار اليونان ورواياتهم التمثيلية. وكان ابن رشيق في القيروان فلما حدثت فيها الفتنة فر منها إلى جزيرة صقلية ونزل مدينة «ميزر»، وأقام بها إلى أن توفي ودفن بمقبرتها. وكان الإفرنج مستولين على بعض الجزيرة والمسلمون في بعضها الآخر، ولعل ذلك كان على عهد رجار الأول (روجر)، ونظن البعوض آذى ابن رشيق أيام فراره ومحنته حتى قال:
يا رب لا أقوى على دفع الأذى
وبك استعنت على الضعيف الموذي
ما لي بعثت إلي ألف بعوضة
وبعثت واحدة إلى نمروذ
وله غير كتاب العمدة أيضا «الأنموذج» وكتاب «الشذوذ»، وهو جامع لشواذ اللغة و«قراضة الذهب»، وقد تصدى لوضع قواعد الشعر وبيان أساليبه كما يفهم من القصيدة الآتية المفردة له، وهي أشبه شيء بقصيدة بوالو التي جمعت فأوعت قال:
لعن الله صنعة الشعر ماذا
من صنوف الجهال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما
كان سهلا للسامعين متينا
ويرون المحال معنى صحيحا
وخسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه ولا يد
رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو
ن وفي الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظم
وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا
وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما
تتمنى ولم يكن أو يكونا
فتناهى من البيان إلى أن
كاد حسنا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه
والمعاني ركبن فيها عيونا
فإذا ما مدحت بالشعر حرا
رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلا قريبا
وجعلت المديح صدقا مبينا
وتعليت ما يهجن في السمع
وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما عرضته بهجاء
عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء
وجعلت التعريض داء دفينا
وإذا ما بكيت فيه على العا
دين يوما للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وذللت ما كا
ن من الدمع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبا جئت بالوع
د وعيدا وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه
حذرا آمنا عزيزا مهينا
وأصح القريض ما قارب النظم
وإن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرا
وإذا ريم أعجز المعجزينا
فذكر ابن رشيق من صنوف الشعر أو فنونه المدح، والنسيب، والهجاء بالتصريح أو بالتعريض، والرثاء، وفرقة الأحباب، والعتاب بالوعد أو بالوعيد ... وذكر غيره من هذه الصنوف بكاء الديار وأهلها، فقال:
وإذا بكيت به الديار وأهلها
أجريت للمحزون ماء شوونه
فبوالو ذكر هذه الأجناس أو الأنواع في قصيدته «صناعة الشعر»، وزاد عليها التراجيديا، والكوميديا، والأيبوبة، وعرف كل نوع منها وجعل له أحكاما وقواعد كما مر، وتوسع في هذا البحث حتى تألف من كلامه رسالة مطولة. (16) مؤلفات فيكتور هوكو
طبعت مؤلفات فيكتور هوكو مرارا عديدة في قطع متفاوت في الصغر والكبر، ومنها ما هو مزين بالتصاوير والرسوم البديعة ومنها ما هو على أجمل ورق تمكنت المعامل الأوروبية من طبخه وصقله، وآخر طبعة طبعت للجمهور في أجزاء صغيرة الحجم (قطع 32) يقرب عددها من ثلاثمائة جزء ثمن الجزء 25 سنتيما، وأواسط هذه الطبعات ما كان بالقطع المثمن في 48 مجلدا ثمن المجلد عشرة فرنكات يضاف إليها اثنا عشر مجلدا طبعت بعد وفاة المؤلف، فيبلغ بذلك عدد المؤلفات ستين مجلدا، منها 16 مجلدا في الشعر وهي: (1) المدائح والمطربات. (1) الشرقيات. أوراق الخريف. (1) أغاني الشفق. الأصوات الداخلية. الأشعة والظلال. (1) القصاص. (2) التأملات أي سانحات الفكر. (4) سير الدهور. (1) أغاني الشوارع والأحراج. (1) السنة المهولة. (1) صناعة كون الإنسان جدا. (1) البابا. الرحمة العالية. الأديان والدين. الحمار. (1) رياح العقل الأربع.
ومنها خمسة مجلدات في الروايات التمثيلية المنظومة وتسمى «درام» وهي: (1) هان الاسلاندي. (1) كرومويل. (1) إيرناني. ماريون دولورم. الملك تيسلي. (1) لوكريس بورجيا. أنجلو. ماري تيدور. (1) روى بلاس. أسميرالده. بورغراف. (1) توركماده. امي روبار.
ومنها أربعة عشر مجلدا في القصص، وتسمى «رومان» وهي: (1) هان الإسلاندي. (1) بوغ جارغال. آخر يوم من أيام المحكوم عليه أو قلودكو. (2) نوتردام دوباري أو كنيسة باريس الجامعة. (5) البؤساء. (2) المشتغلون في البحر وفي مقدمته أرخبيل بحر المانش. (2) الإنسان الضاحك. (1) ثلاث وتسعون.
ومنها ثلاثة مجلدات في التاريخ وهي: (1) نابوليون الصغير. (2) تاريخ جرم .
ومنها مجلدان في السياحة عنوانهما «نهر الرين».
ومنها مجلدان في الفلسفة أحدهما أدب وفلسفة، والآخر وليم شكسبير.
ومنها ستة مجلدات في الأقوال والأعمال وهي: (1) قبل النفي. (1) مدة النفي. (1) بعد النفي. (2) فيكتور هوكو تاريخه.
هذا ما سلمه الشاعر بعد التنقيح والتهذيب للطبع فنشر في حياته، وله مؤلفات أخرى جمعت من التساويد التي سودها، والأوراق التي تركها، وطبعت بعد وفاته بغير تصحيح في اثني عشر مجلدا، وهي: (1) الأشياء المرئية. (1) الله. (1) عاقبة الشيطان. (3) كل العود. (1) المرسح الحر. (1) التوائم. (1) مراسلات الخطيبة. (1) السياحة في فرنسا والبلجيك. (1) السياحة في جبل الألب وفي جبل البيرينة. (1) السنون المشئومة.
فما ينشر بعد موت المؤلف يسمى
، ويجوز فيه التنقيح والتهذيب عند إعادة طبعه، والذي ينشر في حياة المؤلف يسمى
ne Varietur
أي الذي لا يتغير ولا يجوز التبديل فيه بعد وفاة صاحبه، ولا تحريف الكلم عن مواضعها، ولو وجد من يتحرى في أوراق فيكتور هوكو لربما تمكن من استخراج مجلد أو مجلدين أيضا. كما جمعت أخيرا المكاتيب التي حررها العلامة رينان لأمه وهو في المدرسة حديث السن وطبعت في مجلد. ولعل القارئ يستكثر عدد هذه المؤلفات التي لا يجد الإنسان وقتا لمطالعتها فضلا عن تحريرها، وسبك إنشائها سيما ما يحتاج منها لدقة وتلطف؛ كقرض الشعر ونظم الروايات التمثيلية، ولكن إذا تأمل في همة رجال العلم والأدب، وإقدامهم زال استغرابه، وعلم أن ملكتهم رسخت في النظم والإنشاء حتى صار التحرير طبيعة ثانية لهم كالكلام. وإنا نشاهد المبعوثين في مجلس نواب الأمة يتكلم الواحد منهم الساعات الطوال بدون أن يتلعثم، ويضبط كلامه بالأصول المعروفة بالاستنوغرافيا، وينشر في جرائد المساء فيملأ الأعمدة الكثيرة والصحائف الكبيرة. وقد بلغنا عن مبعوث في بلاد المجر أنه تكلم في موضوع اثنتي عشرة ساعة، بحيث إنه بدأ في الصباح وبعد استراحة الظهر عاد لموضوعه، وأكمل بحثه في اليوم الثاني، فتألف من كلامه مجلد ضخم، ولو قرأنا فهرست الكتب التي ألفها الكندي، والرازي، وأصحاب المعاجم والتآليف الضخمة لوجدناها تقارب هذا المقدار أو تزيد عليه، ورأينا فيما تقدم ما ألفه العرب في أفانين الأدب من المؤلفات الكبيرة ككتاب الأيك والغصون للمعري ونحوه. على أن لفيكتور هوكو معينين في أعماله، فتاريخ فيكتور هوكو في مجلدين حررته زوجته الشرعية الشاهدة على حياته، وكانت الممثلة البارعة جوليت دروه تنسخ له وهو يملي عليها. وربما كتب له أيضا الشاعر أوغوست فاكيري، وحرر ابنه فرانسوا من جزيرة كيرنزي لأحد أصحابه في فرنسا يقول:
نحن كلنا نشتغل، والدي يتمم نظم الحماسات الصغيرة، وشارل يصنف رومان، وأنا أتحف فرنسا بشكسبير وأجتهد بأن أكون ترجمانا صادقا لهذه القريحة الواسعة.
وفي الحقيقة أن فرانسوا هوكو ترجم مؤلفات شكسبير أحسن ترجمة، فطبعت في ثمانية عشر مجلدا بعد أن عرضها على أبيه، واستكتبه عليها المقدمات والحواشي، فجميع المؤلفات كانت تعرض على فيكتور هوكو، وبعضها يطبع باسمه؛ لأنه كان رأس هذه العصبة ومدير هذه الجمعية المؤلفة من زوجته وصاحبته وأولاده وأصحابه، ولم يزل صغار الكتبة والشعراء في أوروبا ينسبون مؤلفاتهم وأشعارهم إلى مشاهير الرجال ترويجا لها وإنفاقا لبضاعتهم في سوق العلم والأدب. فإن المؤرخ الشهير الفرنساوي ميشله المستند في مؤلفاته على القصص التاريخية، التي ألفها والترسقوت الإنكليزي نسب لنفسه في التاريخ الطبيعي الكتب الأربعة التي عنوانها الطير، الحشرة، البحر، الجبل مع أن المحرر الحقيقي والمصنف لهذه الكتب النفيسة على ما يقال هي زوجته المادام ميشله، وكانت من الفاضلات. ووجد المحققون في تاريخ الكيمياء أن بعض كتبها القديمة حررها أصحابها في القرون الوسطى، وعزوها إلى جابر وهرمس تقوية لسندها وإقناعا بصحتها، فانتحال الشعر أو الكتاب المصنف شائع بين الكتاب والشعراء، وتارة يكون برضاء المؤلف الحقيقي، وتارة يكون بغير رضائه وهو السرقة. وقد يكون السارق المنتحل أشعر وأقدر من صاحب الشعر والتصنيف، ولكن وقته لم يسمح له بالإتيان بمثل ذاك المؤلف؛ ولذا اتهمت الأكاديمية فيكتور هوكو بسرقة القصيدة التي عرضها على لجنة التحكيم والمسابقة، وسماها «فوائد المطالعة» ولم يعطوه الجائزة التي استحقها.
وكان يحدث أمثال ذلك في أيام العرب وفي حضارة الإسلام كما اتهم الحريري في مقاماته، وكان قد عمل مقامة واحدة على مقامات البديع الهمذاني ، وعرضها على أنوشروان بن خالد بن محمد وزير السلطان محمود السلجوقي، وكان الحريري خصيصا به، فأمره الوزير بإنشاء المقامات وإتمامها فصنف أربعين مقامة، وأتى بها من البصرة محل تحصيله العلم إلى بغداد ونزل في الحريم، وهي سرة العاصمة والمحلة المشتملة على دار الخلافة وقصور الأمراء والأعيان، وكان ذلك في خلافة المقتدى بالله سابع وعشرين الخلفاء العباسيين، فاستحسن الأدباء طرز المقامات، وحسدوه عليها واتهموه بسرقتها، ولما امتحن سد عليه ولم تجد قريحته بشيء، وهو في الحريم وسط تلك العاصمة الكثيرة الزحام والجلبة فنفي إلى المشان، قرية بقرب البصرة مشتملة على نخل وزرع، ولكن هواءها فاسد بسبب المستنقعات، وكان إذا غضب على شخص نفي إليها، فألف الحريري في المشان عشر مقامات أخرى، وكملت مصنفاته خمسين مقامة فقال فيه ابن جكينا يهجوه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس
ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد
ألجمه في الحريم بالخرس
وكان الحريري ينتسب إلى ربيعة الفرس وهي قبيلة من قبائل العرب على حدود فارس، وكان أولع بنتف لحيته والعبث بها، ووعده أحد الأمراء يوما بولاية على شرط أن يترك نتف لحيته، فامتثل برهة ولم يستطع الصبر، فقال: «أحب إلي أن تعاد لي الولاية على لحيتي من كل ولاية.» ونشأ الحريري في مجمع العلماء والأدباء، وإليهم نسبت الأقوال الكثيرة في النحو، فقيل: مذهب البصريين ومذهب الكوفيين وكانت ولادته في البصرة، وقيل: لا بل ولد بالمشان المجاورة لها (446-515ه). وكانت السلطة والنفوذ في ذاك العصر للدولة السلجوقية التي ظهرت في العراق العجمي، واتخذت مدينة الري عاصمة لها ويقال للمنسوب لها: الرازي وقد صار علما على كثير من العلماء والفلاسفة، ولم تزل خرابات الري مشاهدة بظاهر طهران عاصمة الدولة الإيرانية، ويقال لها عبد العظيم نسبة لأحد الأولياء المدفون فيها، وهناك كان مقتل الشاه السابق، وسميت ملوك هذه الدولة السلجوقية بسلاجقة إيران تمييزا لهم عن سلاجقة الروم الذين اتخذوا قونية عاصمة لهم، وعن سلاجقة كرمان الذين حكموا في الجنوب الشرقي من بلاد العجم، وظهر في سلاجقة إيران 14 ملكا في ظرف 161 سنة، وأعظمهم ثالثهم ملكشاه (445-447ه) ابن ألب أوسلان ويسمى أبا الفتح جلال الدين، وإليه ينسب التاريخ الجلالي الذي وضعه عمر الخيام الأديب الفلكي الشهير، وكان وزيره نظام الملك صاحب المدرسة النظامية في بغداد، فيفهم من ذلك أن ملوك هذه السلالة ووزراءها، وأمراءها كلهم حريصون على تعزيز جانب العلم والأدب، ولا غرو أن أتى الأدباء في زمانهم بمثل المقامات الحريرية، وألف كمال بك إمام الأدب في اللسان العثماني رواية بليغة سماها «جلال»، وجعل لها مقدمة يعدها الأدباء من أبلغ ما حرر في اللسان العثماني على الأسلوب الجديد.
فيتضح مما سبق أن مؤلفات فيكتور هوكو على نوعين؛ منظوم ومنثور، وكل واحد منهما يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام، فالمنظوم منه ما هو شعر ويشتمل على فنون كثيرة مثل الأود والبلاد والإيليجي ... إلخ ولكل منها عروض مخصوص، ومنه ما هو روايات تمثيلية تتلى على المراسح كما يتلى النثر المرسل بغير التفات إلى أوزان النظم ولا قوافيه؛ أي بلا ترنم ولا تطريب ولا تغريد ولا ترخيم في الصوت، ولا وقوف على القافية، ونظمت هذه الروايات التمثيلية التي يقال لها درام على عروض البحر الإسكندري في الغالب، وهو المبني على اثني عشر هجاء.
فإذا جرى التوقيع بالروايات الدراماتيقية على آلات الطرب، ولحن فيها على طريق الصناعة الموسيقية سميت «أوبرة»؛ ولأجلها بنيت المراسح الكبيرة التي يقال لها أوبرة؛ كالأوبرة الخديوية في القاهرة، والمرسح الذي بني في الأستانة، ثم احترق ولم يجدد بناؤه، ويقال لأوبرة باريس أكاديمية الموسيقى؛ لأنها شعبة من شعب أكاديمية الصنائع النفيسة التي هي في عداد الأكاديميات الخمس الشهيرة في باريس، ومثال ذلك أوبرة فوست التي صنف قصتها الدراماتيقة الأديب الألماني كوته، ثم جاء الملحن الفرنساوي كونو ووفق ترجمة كلامها على صناعة الألحان، وكذا رواية عائدة (آيده) التي وضعها على صناعة الألحان الملحن الشهير الطلياني فردي، ثم نظمها بالفرنساوية أديبان من أدباء الفرنساويين، وأول ما مثلت هذه الرواية الأخيرة في الأوبرة الخديوية بالقاهرة سنة 1871، ثم مثلت في باريس على المرسح الطلياني سنة 1876، وتمثل اليوم على جميع المراسح الفرنساوية في العاصمة والإيالات، وفي أكثر المدن الأوروبية ولعل هذه الرواية هي التي ترجمت للعربية باسم «عائدة».
فالأوبرة هي تأليف دراماتيقي اجتمع فيه الشعر والموسيقى؛ ولذا فهي تشتمل على أوزان العروض وأنغام المزامير وأقاويل الشعر؛ أي ما فيه من التشبيه والتخييل، فإن دخل في الأوبرة مع الكلام المنظوم كلام منثور أيضا سميت أوبرة «كوميك كرواية كرمن»، وإن لم يكن موضوع الرواية دراما؛ أي فاجعة، بل كان كوميديا مضحكة سميت «بوف» و«بوفون» و«أوبيريت» تصغير أوبرة. واجتهد بعض الأدباء الترك في التأليف بين الشعر والموسيقى في اللسان العثماني، فترجموا رواية كرمن نظما للتركية، وشخصوها مع الأنغام الموسيقية على المراسح المتخذة من الأخشاب في محلة أقسراي، وفي متنزهات ضواحي الأستانة، ومع أن مشروعهم ابتدائي فالتمثيل كان لا بأس به رغما عن حداثة نشأته، فلو حصلت عناية في تنشيط هذا المشروع بقوة المال، وهمة الرجال لنجح ولا شك باللغة التركية، وباللغة العربية أيضا. فإن دوائر البلدية في مدن أوروبا الثانوية فضلا عن العواصم تنفق النفقات الباهظة في كل سنة لإعانة المراسح؛ لأن ما يجمع من أجرة الدخولية لا يكفي لتحسين المراسح إلى الدرجة التي بلغتها مراسح أوروبا، وكان لعلماء العرب وفلاسفتهم المتقدمين اهتمام بعلم الموسيقى، وللفارابي فيه اليد الطولى ومما ألفه كتاب الموسيقى الكبير، ونقل صاحب الأرز في ما نشره من الأزجال والموشحات عبارة عن ابن رشد وردت له في تلخيصه كتاب أرسطوطاليس في الشعر الذي طبعه المستشرق فوستو لازينو في مدينة فلورنسه سنة 1873 قال ابن رشد: «المحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء، من قبل النغم المتفقة ومن قبل الوزن ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوجد كل واحد منها مفردا عند صاحبه مثل وجود النغم في المزامير والوزن في الرقص والمحاكاة في اللفظ، أعني الأقاويل المخيلة الغير الموزونة، وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة؛ أي الأندلس » ا.ه. ولا شبهة في أن أعاريض الموشحات والأزجال من أنسب العروض لنظم روايات الأوبرة لسهولة التوقيع بها على آلات الطرب بخلاف البحور الستة عشر في العربية، أو البحور الثمانية عشر بالفارسية والتركية، ولا نطيل الكلام في هذا المبحث، فإن أهله أولى بالبحث فيه والتفتيش عن دقائقه وخوافيه ونعود للصدد الذي كنا فيه.
وأما النثر الذي ألفه فيكتور هوكو، فكله من قبيل المرسل وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا، ولا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها، وليس عند الإفرنج سجع، وهذا المنثور على أقسام وفنون شتى منها القصص التي يقال لها «رومان» وهي ما صور فيها مؤلفها غرائب الوقعات، وعجائب الاتفاقات، واستلفت نظر القارئ أو السامع بمفترياته واختلاقاته وتخيلاته البديعة، وسميت هذه القصص رومان أو رومانس باسم اللغة القديمة التي كتب فيها رومان رولان، وأمثالها من القصص والحكايات المنظومة والمنثورة والرومانات على أقسام كثيرة منها الرومان التاريخي والغرامي، أو الإحساسي والروحاني والفني والسياسي إلخ، ومن منثور فيكتور هوكو أيضا التاريخ والسياحة والفلسفة والأقوال والأعمال والرسائل والخطب والسياسات وغير ذلك. (17) نظم فيكتور هوكو
قرض فيكتور هوكو الشعر في أعاريض مختلفة، منه ما هو على وزن البحر الإسكندري المنسوب لأحد الشعراء اليونانيين، أو المدينة الإسكندرية التي زهت فيها العلوم والمعارف والآداب اليونانية على عهد البطالسة. ويتألف عروض البحر الإسكندري من اثني عشر هجاء إذا كانت القافية مذكرة، ومن ثلاثة عشر إذا كانت مؤنثة، ويقسم كل بيت إلى شطرين بوقفة
Césure
تأتي بعد الهجاء السادس المساواة للشطرين، والنظم في هذا البحر صعب يحتاج إلى نفس عال وتلطف كثير ومهارة زائدة، وبه تظهر قوة الشاعر واقتداره على التصرف في الكلام؛ ولذا اختص بالمواضيع الجدية العالية لقصائد الحماسة وروايات الفاجعة. واختاره فيكتور هوكو لنظم روايات الدرام التمثيلية المذكورة في الكتب الخمسة المتقدم بيانها ولنظم غيرها من الأشعار الحماسية والتاريخية، ولكنه غير فيه كثيرا ولم يراع الوقوف على الهجاء السادس بل قسم البيت إلى شطرين غير متساويين، وجوز تكميل معنى البيت الأول بألفاظ من البيت الثاني، مع أن العرب يشترطون أن يكون كل بيت من أبيات الشعر تاما في بابه مستقلا في معناه، ويمكن تشبيه البحر الإسكندري بالبحور العربية الستة عشر، أو البحور الفارسية الثمانية عشر.
ومن شعر فيكتور هوكو ما هو على أوزان متخالفة متألفة من ستة أو ثمانية أو عشرة هجاءات نظمت أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا، وجعل لها أدوارا ولازمات على نسق ما استحدثه الأندلسيون، وبقية شعراء العرب المتأخرين من الموشحات والأزجال، وهي أسهل طريقة وأقرب تناولا من البحر الإسكندري كما أن الموشحات والأزجال العربية أسهل من بقية البحور، ولها عند الإفرنج أسماء بحسب أجناسها مثل أود وبالاد وروندو وإيليجي إلخ، ولها أدوار تسمى قوبله وستروف ولها أيضا لازمات
refrain
إلخ. واقتبس الفرنساويون هذه الأعاريض من شعراء تروبادور تلقوها عن عرب الأندلس، كما أخذوا عنهم علو القوافي ، فإن شعراء الإفرنج على الإطلاق لم يكن لهم معرفة بالقوافي، وإنما كانوا يعتاضون عنها في أشعارهم بما يسمونه «أسونانس»، وهو شبه القرادي والعتابي كما مر ذكره، ومثلنا فيما سبق للقافية بكلمتي «ساج» و«باج»، ولما يسمونه أسونانس بكلمتي «ساج» و«ترم». والإفرنج لا يلتزمون في القصيدة أو المنظومة قافية واحدة أو رويا واحدا كما يفعل العرب، ففيكتور هوكو لم يلتفت كثيرا لأوزان العروض التي نظم فيه من تقدم عليه من الشعراء، بل تساهل جدا في جانب الألفاظ واستحدث من عند نفسه أنواعا جديدة، ووضع هذه القاعدة، وهي «أن الشعر ليس في قوالب المعاني، وإنما هو في المعاني نفسها، فالشعر هو الأمر الباطني لكل شيء في الوجود.»
فهذه القاعدة ليست مجهولة بالتمام عند أدباء العرب، ولعل ابن رشد أشار إليها في العبارة السابقة بقوله عن المحاكاة في اللفظ: «أعني الأقاويل المخيلة الغير الموزونة.» وحكي عن حسان بن ثابت حينما أتاه ابنه عبد الرحمن وهو صبي يبكي، ويقول: لسعني طائر.
فقال حسان: صفه يا بني.
فقال: كأنه ملتف في بردي حبرة، وكأن لسعه زنبور.
فقال حسان: قال ابني الشعر ورب الكعبة.
فمقصود الصبي أن الطائر الذي لسعه يشبه في أجنحته وشكله المنقش العجيب الشخص الملتف برداء موشى ومصبغ، وقول حسان حجة على أن الشعر لا ينحصر في الكلام المقفى الموزون، وإنما حقيقة الشعر في المعاني والتخيل، وفيما يحدثه على النفس من التأثير، ولكن درج تعريف الشعر على الألسنة بأنه كلام مقفى موزون، وسبق لنا ذكر تعريف ابن خلدون للشعر بأنه «الكلام البليغ المبني على الاستعارة أو الأوصاف، المفصل أجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة.» وعلى هذا التعريف يكون كلام المتنبي والمعري ليس من الشعر في شيء. وقال أبو الفداء عن المعري: «وطبق الأرض ذكره ... وأكثر مصنفاته ركيكة فهجرت لذلك.» والصحيح أن كلا منهما إمام مجدد في الأدب خرجا بالكلام عن تلك القيود المدرسية، وأطلقا للقريحة عنان الحرية، وكان النوع المعروف بين الأدباء هو نوع القصيد، وله أساليب معروفة عندهم تختص بمطلع القصيدة، وبيت التخلص والختام وذكر الأطلال والرسوم والراحلة والسفر، فالمعري والمتنبي خرجا عن هذه الأساليب، ولكنهما أفرطا في إيراد التشابيه الغامضة، والألفاظ اللغوية واحتاج شعرهما إلى شرح طويل وتفسير، ثم صار هو أيضا شعرا مدرسيا بسبب نسج المتأخرين على منواله، وتهافتهم على التشابيه الغامضة. وقال فيكتور هوكو في كتابه المسمى أدب وفلسفة:
لا يكفي أن يكون للشعر قالب حسن للألفاظ، بل يلزم أن يحتوي على معنى، أو تشبيه أو إحساس؛ ليكون له رائحة ولون وطعم، تسعى النحلة في بناء الواجهات الست لبيوتها من الشمع، ثم تملأها بالعسل، فهذه البيوت أو الخلايا هي أبيات الشعر، والعسل هو الشعر ا.ه.
فشبه الشعر بالشهد وهو العسل في شمعه، وبالخمر أيضا ولها أوصاف ثلاثة: رائحة تفوح منها كما يفوح المسك، وتسمى باصطلاحهم «بوكه»، ولون كأنه ياقوتة سيالة أو صفراء فاقع لونها، وطعم يعرفه أهل الذوق كما تعرف طعوم المآكل، ويميزون فيه بين الحسن والأحسن والضار والنافع والأنفع. ورأيت في أهل الذوق من رسخت لهم ملكة حتى أصبحوا يعرفون الخمر من أي كرم وقرية، ومن محصول أي سنة بمجرد معاينة أوصافها الثلاثة بالحواس الثلاث حاسة البصر، وحاسة الشم، وحاسة الذوق. وتشبيه الشعر بالخمر والعسل معروف عند العرب، ويقولون فلان من أهل الذوق في الكلام وتقول العامة «كلام بلا طعم». ومما يؤيد أن الشعر في المعاني قول أبي محمد الخازن من أدباء أصفهان، وكان ينتسب للصاحب بن عباد ويراسل أبا بكر الخوارزمي قال:
لا يحسن الشعر ما لم يسترق له
حر الكلام وتستخدم له الفكر
انظر تجد صورة الأشعار واحدة
وإنما لمعان تعشق الصور
ثم إن تقسيم الشعر عند الإفرنج إلى أود وبالاد وإيليجي ... إلخ، هو تقسيم باعتبار الشكل الخارجي؛ أي باعتبار قوالب الألفاظ وبحور العروض والأدوار ... إلخ. وأما باعتبار المعنى، فيقسم إلى ثلاثة أقسام غرامي وحماسي ودرامي؛ فالغرامي؛ ويسمى الموسيقي أيضا؛ لأن الأصل فيه الإنشاد على نغمات الأوتار؛ هو كل شعر أعرب عن الحواس الشخصية، فمؤلفه يبين فيه إحساسه وعواطفه وحبه وبغضه وشقاءه وسعادته، فإذا جرى التوقيع به على آلات الطرب كان أشد وقعا وتأثيرا على النفوس، والشعر الحماسي هو ما وصف به شجاعة الشجعان، وذبهم عن الحريم والأوطان وفيه أحاديث الشهامة والغيرة والحمية فهو بهذه الصفة تاريخي، والدرام هو ما صور فيه الحياة الإنسانية وتقدم تفصيل الكلام عليه.
فالأود والبالاد والأيليجي ... إلخ يقابلها في العربية المدح، والغزل والرثاء ... إلخ غير أن هذه الأقسام في العربية من الأقسام المعنوية، وأما عند الفرنساويين فهي من الأقسام اللفظية التي لكل منها عروض مخصوص وشكل معروف. ومن هذه الأقسام اللفظية أيضا الشعر الفاجع؛ وهو ما صور فيه الشاعر حادثة مهمة من شأنها تهييج العواطف، وتحريك الغضب واستجلاب الشفقة والرحمة، وتنتهي الرواية الفاجعة في الغالب بمصيبة. فروايات المتقدمين التي على هذا الطراز تسمى تراجيديا، وروايات أصحاب الطريقة الرومانية التي على أسلوبها تسمى درام.
وأما الكوميديا فهي مصورة لأخلاق الهيئة الاجتماعية بمساويهم ومعايبهم بصورة هزلية مضحكة، كروايات مولير ومنها رواية تارتوف وهي مترجمة للتركية، ومنشورة في مطبعة أبو الضياء، وأشعار الهجاء عند الإفرنج تشتمل على الهجو والذم والانتقاد والتعريض والاستهزاء ، وخلط الجد بالهزل ونحو ذلك.
ومن أنواع الشعر عندهم أيضا الشعر البدوي المصور لأخلاق البدو والرعاة، وهم في البادية والجبال، ولقد أحسن لبيد بن ربيعة العامري في تصوير أخلاق البادية والمعيشة البدوية قبل الإسلام، وديوانه مطبوع في فينا عاصمة النمسا.
ومن الشعر ما تقص فيه الحكايات، وتضرب الأمثال على ألسنة الحيوانات كحكايات لافونتين، ومنه أيضا الشعر الذي على نهج الرسائل والمكاتيب ... وله أمثال عند العرب، ومن شعراء دمشق المتأخرين من نظم حجة شرعية بجميع ما يلزمها من القيود والشروط.
وجل مهارة فيكتور هوكو في الشعر الغرامي أو الموسيقي المعرب عن الإحساس الشخصي، ولشعره نغمة مطربة وقواف عامرة، وألحان تحن لها القلوب وترتاح لسماعها النفوس، وهو الذي أوجد عند الفرنساويين الهجو الموسيقي في المنظومات التي هجا بها نابوليون الثالث، ولم تزل هذه الأنغام والقوافي والألحان هي الباعثة على رواج أشعاره وإقبال الجمهور عليها.
وكما أن فيكتور هوكو غير أفاعيل الشعر وتفاعيله، وأصلح عروضه على المثال المشار إليه آنفا، أصلح كذلك ألفاظ الشعر ومعانيه، وأبطل جميع اصطلاحات الأدباء؛ أي الأساليب والتعبيرات المصطلح عليها بينهم، والتي لا يفهمها إلا أهل الغوص على المعاني وهم خواص الناس، وقال بأن جميع الألفاظ سواء، لا فرق فيها بين اللفظ الذي وقع اختيار الآدباء عليه، وبين اللفظ الذي رفضوه وقالوا عنه: سوقي مبتذل، وجوز للكتبة والشعراء الأخذ بكل واحد من نوعي الألفاظ المختارة والسوقية، واستعمالهما بلا فرق في النظم والنثر
25
على شرط توافقهما لقواعد النحو والصرف. وأبطل أيضا ما كان يستعمله الأدباء في كلامهم من المقدمات والدوارات، التي من شأنها تغطية المعنى، والتثقيل عليه وكذا التعبيرات العمومية والإجمالية التي يتلاشى بها المعنى، ويستبهم كما يفعل أدباء العرب في خطبة الكتاب المصنف وفي مقدمته، ولم يرض من جميع ذلك إلا بالتعبير الأصلي، والمعنى الحقيقي الدال على خصوصية الموضوع؛ لأن الغرض من تأليف الكلمات وتصنيف الكلام إنما هو تشخيص الموضوع وبيان مزيته وغرابته، فلا حاجة للاستعارة ولا للمعنى المجازي، ويقوم مقام الاستعارة التشبيه، أو التخيل الذي هو نوع من الإحساس لا التشبيه والتخييل المستفاد من طرز الكتابة، فالواجب على الكاتب أن لا يشغل نفسه بالاستعارات وأنواع البديع، وأن لا يتصنع ولا يتعمل في الكلام، بل ينبغي له أن يهتم ببيان الموضوع الذي هو فيه، وإيضاحه ووصفه بالأوصاف السديدة المظهرة له ظهور الشمس في رابعة النهار، ويوضح انفعالاته النفيسة في ذاك الموضوع؛ ليكون أشد تأثيرا على السامع، فتأثير الكلام يكون من جهة الانفعال النفسي والتصوير الطبيعي لا من جهة الاستعارات.
غير أن فيكتور هوكو وأهل طريقته لم يمنعوا أنفسهم من استعمال الاستعارات المدرسية، والتعبيرات المصنعة لرسوخ ملكتهم فيها، ومن الاستعارات التي وردت لفيكتور هوكو على الطراز القديم قوله: «نجوم المركبة»، ويريد المصابيح التي تنار بها المركبات ليلا وتظهر عن بعد كالنجوم.
فأدباء العرب قالوا: بأن جل محاسن الكلام إن لم تكن كلها متفرعة عن التشبيه والتمثيل والاستعارة والكناية، وجعلوها أقطابا تدور عليها المعاني؛ ولذا تجد غزلهم مثلا يدور دائما حول التفنن في تشبيه القدود بالأغصان، والنهود بالرمان، والخدود بالورد والجلنار، والعيون بالنرجس ونحو ذلك، على حد قول الشاعر:
قلبي على قدك الممشوق بالهيف
طير على الغصن أم همز على الألف
وهل سويداؤه خال بخدك أم
خويدم أسود في الروضة الأنف
وهي قصيدة غراء من كتاب ريحانة الألباء المطبوع في بولاق، والمراد تشبيه قد المعشوق بالغصن أو بالألف، وقلب العاشق بالطير أو بالهمزة، وفي البيت الثاني تشبيه سويداء القلب، وهي الجنة السوداء التي فيه بالخال الذي على خد المحبوب، وتشبيه الخال بالخادم الصغير الأسود، وهو في الروضة؛ لأن جسد الحبيب في اصطلاحهم بستان فيه جميع الأزهار والفواكه والأشجار والأنهار والتلال والوهاد والأغوار والأنجاد؛ فكأن جميع المخلوقات الطبيعية تتشخص في هذا الجسد، فجميع أشعارهم في الغزل، وجميع تفنناتهم فيه يدور ويرجع لأصل واحد، وأحسن مثال له القصيدة الآتية:
نالت على يدها ما لم تنله يدي
نقشا على معصم أوهت به جلدي
كأنه طرق نمل في أناملها
أو روضة رصعتها السحب بالبرد
خافت على يدها من نبل مقلتها
فألبست زندها درعا من الزرد
مدت مواشطها في كفها شركا
تصيد قلبي به من داخل الجسد
وقوس حاجبها من كل ناحية
ونبل مقلتها ترمي به كبدي
وعقرب الصدغ قد بانت زبانته
وناعس الطرف يقظان على الرصد
إن كان في جلنار الخد من عجب
فالصدر يطرح رمانا لمن يرد
وخصرها ناحل مثني على كفل
مرجرج قد حكى الأحزان في الخلد
إنسية لو رأتها الشمس ما طلعت
من بعد رؤيتها يوما على أحد
سألتها الوصل قالت أنت تعرفنا
من رام منا وصالا مات بالكمد
وكم لنا عاشق في الحب مات جوى
من الغرام ولم يبد ولم يعد
فقلت أستغفر الرحمن من زلل
إن المحب قتيل الصبر والجلد
وخلفتني طريحا وهي قائلة
ما تنظرون فعال الظبي بالأسد
قالت: لطيف خيال زارني ومضى
بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: خلفته لو مات من ظمأ
وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب شيمته
يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
واسترجعت سألت عني فقيل لها:
ما فيه من رمق دقت يدا بيد
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضدت على العناب بالبرد
ونشدت بلسان الحال قائلة
من غير كره ولا مطل ولا مدر
والله ما حزنت أخت لفقد أخ
حزني عليه ولا أم ولا ولد
فأسرعت وأتت تجري على عجل
فعند رؤيتها لم أستطع جلدي
وأغمرتني بفضل من عواطفها
فعادت الروح بعد الموت للجسد
هم يحسدوني على موتي فوا أسفي
حتى على الموت لا أخلو من الحسد
فهذه القصيدة اشتملت على كثير من التشابيه وعلى شيء قليل من المعاني، وعلى شيء أقل من الإحساس، فشبه النقش الذي تنقشه الماشطة على يد العروس بطرق النمل، وهم ذاهبون لمساكنهم قطارا بجانب قطار، وبالبرد النازل على روضة البقل وبدرع الزرد، وبشرك الصيد؛ أي شبكته، وشبه الحاجب بالقوس، والأهداب بالنبل، والكبد بالهدف، وشبه الشعر الأسود على الصدغ بالعقرب وطرفه الملوي بالزبانة، وزبانتا العقرب قرناها، وشبه الخد بالجلنار وهو زهر الرمان وبالورد أيضا والثدي بالرمان، وشبه نفسه بالأسد، وشبهها هي بالشمس والظبي، وشبه دموعها باللؤلؤ وعينيها بالنرجس وأناملها المصبوغة بالحنا الأحمر بالعناب وأسنانها بالبرد، وردفها بالحزن وهو ما غلظ وارتفع من الأرض، ويسمى الرابية والكثيب أيضا.
وأما المعاني التي في هذه القصيدة فهي سؤاله الوصل وجوابها بالرد، وصبره وجلده على البعد ووفاه في الحب حتى لم يبق فيه رمق، فشفقت عليه وبكت وحزنت حزن الأخت لفقد أخيها والأم على ولدها، وأتت إليه تجري على عجل، وتعطفت عليه وأنعشته فحسده العوازل.
فأدباء العرب يستعذبون هذا الكلام المصنع المرصع، كما يستحسنون النقش على اليد والصبغ الأحمر على البنان، والفرق بين اليد البيضاء الطبيعية والأنامل المنظفة بالمبرد والمقص وبقية آلات التنظيف، وبين اليد المنقوش عليها نقشا وحشيا والأنامل المخضبة بالحناء لا يخفى على أهل النظر والذوق، والأمم المتوحشة لا يستحلون العرائس إلا إذا كثر على أجسادهن النقش والوشم ، وشرحت خدودهن وكسرت أسنانهن ليحصل فيها الفلج، وثقبت أنوفهن وشفاههن وآذانهن ليعلق فيها الأقراط والحلقات فهم يبدلون خلقة الله بما يرونه حسنا بحسب أذواقهم. وكذلك الأدباء يعدلون بالكلام عن السوق الطبيعي إلى تلك التشابيه والاستعارات، وإذا نظرت إلى مدحهم رأيته أيضا يدور حول طول النجاد، وكثرة الرماد كقوله:
طويل النجاد رفيع العماد
كثير الرماد إذا ما شتى
فهذا البيت يليق مدحا حقيقيا بشيخ قبيلة بدوية، أو بملك أمة متوحشة من أمم أواسط أفريقيا لا في كل ممدوح؛ وإذا مدح به ملك أمة لها حظ من الحضارة ينقلب المدح ذما، وهكذا يقال في بقية فنون الكلام وضروبه مثل الهجاء، والرثاء، والاستماحة، والشفاعة، والشكر، والاستعطاف، والافتخار، وبث الشكوى، والمواعظ، والحجج لا سيما الوصف وهو أعمها وأكثرها ضروبا، فإن كل فن من هذه الفنون يدور حول تشابيه معلومة، وأساليب مدرسية يندر فيها الإحساس الشخصي، والإنفعال النفسي؛ وإنما هي تقاليد يتبع فيها الخلف السلف.
ففيكتور هوكو، وأهل طريقته لا يرون شيئا من الحسن في هذه التشابيه والاستعارات المدرسية، ولا يستعذبون معنى من تلك المعاني التي ليست بطبيعية؛ بل يجدونها من المعاني السخيفة الغير المعقولة، خرج بها أصحابها عن الذوق السليم وعن دائرة الطبيعة، وشوهوا وجه الكلام بتلك الاستعارات كما سخموا وجه العروس وبدنها بالنقش والوشم والصبغ، ثم جاءوا يقولون: «نالت على يدها ما لم تنله يدي»، ورأينا في معرض بارنوم الذي يطوف به صاحبه مدن العالم القديم والجديد شخصا من المتوحشين وشم جميع بدنه فكان يتجلى أمام الناظرين، كأنه لابس ثوبا مبرقشا، والوشم هو أن يغرز الجسد بإبرة ثم يذر عليها النئور وهو النيلج (نبات النيلة)، وفي الحديث: لعن الله الواشمة والمستوشمة.
المدائح والمطربات
هو أول ديوان نشره فيكتور هوكو في الشعر، وافتتحه بمقدمات نثرية بليغة ترجمنا إحداها لمناسبتها المقام، ومنها يعلم أن تعبيرنا عن الأود والبالاد بالمدائح والمطربات فيه تساهل؛ لأن قصائد هذا الديوان لا تقتصر على المدح والغزل، بل فيها أيضا الرثاء والهجاء ممزوجة بعضها ببعض.
قال فيكتور هوكو:
هذا ديوان في الشعر الموسيقي (الغرامي)، فيه نوعان من أفانين الشعر أحدهما «أود» ويدخل تحته جميع المنظومات المشتملة على إلهامات دينية أو مطالعات قديمة، أو المترجمة عن واقعة عصرية، أو عن تأثر شخصي. والثاني «بالاد» وهو نوع مخالف للفرع المتقدم، ومنظوماته إنما هي مسودات فن هوائي، وهي عبارة عن ألواح مصورة وخيالات وأحلام ومناظر بديعة، وحكايات دارجة وأحاديث خرافة وأساطير ووسوسة، والقصد من نظمها إعطاء فكر عن ماهية الأشعار والقصائد التي نظمها في القرون الوسطى شعراء التروبادور المتقدمون الذين هم رواة الشعر في عالم النصرانية. وكانوا لا يملكون من الدنيا إلا السيف والرباب، ويطوفون على الأمراء في قلاعهم وقصورهم، ويتضيفون على موائدهم وينشدونهم الأشعار استجداء لإحسانهم. ولو لم يكن في التعبير فخفخة لقال المؤلف: بأنه وضع روحه في الأود وتخيله في البالاد، على أنه لا يعبأ بتقسيم الشعر إلى أنواع وأفانين، ولا بتصنيفه أصنافا متباينة؛ لأن حقيقة الشعر واحدة مهما اختلفت عروضه وأدواره؛ ولذا فهو لا يبالي باعتراض من يزعم أن ما ورد في هذا الكتاب ليس هو في شيء من الأود ولا من البالاد - كما قيل عن شعر المتنبي والمعري؛ لأنهما لم ينسجا على منوال شعر الجاهلية، ولا حافظا على الأساليب القديمة - فدعهم يقولون ما يشاءون ويسمونها بما يشتهون من الأسماء.
فإن العبرة للمسمى لا للاسم، ونسمعهم يتشدقون كل يوم بصلاحية الفن الفلاني من فنون الشعر، وأوفقية الفن الآخر، ويقولون بمحدودية هذا وبوسعة ذاك.
ويمنعون في فن التراجيديا ما يجيزونه في فن الرومان، ويسمحون في نوع الغناء بما يحظرونه في نوع الأود ... إلخ، فمن سوء حظ هذا أنه لا يفهم شيئا مما يقولونه، ويفتش في كلامهم عن المعاني ولا يرى فيه إلا التشدق بالألفاظ، فالذي يظهر له أن ما هو في الحقيقة ونفس الأمر جميل صحيح يكون جميلا وصحيحا في كل مكان، وما كان دراماتيقيا؛ أي فاجعا في قصة من القصص يكون دراماتيقيا أيضا في رواية ممثلة على المرسح، وما كان موسيقيا؛ أي غراميا في دور (قويله) من أدوار الشعر يكون موسيقيا أيضا في سمط (سنروف) من أسماط الشعر المنظوم أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا، والحاصل التمييز الوحيد الحقيقي في محصولات الفكر إنما هو التمييز بين الحسن والقبيح، والفكر أرض مخصبة لم تفتلح تبغي محصولاتها النماء فيها بحرية، أعني حسب التصادف بدون أن تصنف صنفا صنفا، أو تجعل صفا صفا في أحواض مصنعة كما جعلت الأزهار في البستان الصناعي، أو كما جمعت نوابغ الكلم في رسائل البيان، وقيدت المنتخبات في سفائن الأشعار.
ومع ذلك فلا ينبغي لك أن تظن هذه الحرية مستلزمة للتشويش، كلا بل هي بالعكس باعثة على حسن الانتظام. وإيضاحا لذلك نقول: تأمل في الحديقة الملوكية التي في قصر فيرسايل بالقرب من باريس تجدها في غاية من التسوية، والتعشيب، والتقضيب، والتنظيف، والجرف، والكري، والترميل مشتملة على كثير من الشلالات الصغيرة، والبحيرات الصغيرة، والروضات الصغيرة، وفيها من التصاوير النحاسية ما هي على هيئة آلهة البحر، نصفها سمكة والنصف الآخر إنسان، وهي سابحة على الماء، ومتجمعة فوق بحار صناعية جلبت من نهر السين بصرف النفقات الباهظة، وفيها من تماثيل المرمر والرخام ما هو على صورة آلهة اليونان والرومان، وهم يغازلون حور الجنان، ويعزفون بالمزامير والعيدان، وقد أحدقت بهم أشجار السرو العالية على هيئة رمزية، وترى شجر اللبان في شكل أسطواني، وشجر الليمون في شكل كروي، وشجر الآس في شكل منحرف، وأشجارا كثيرة لم تكن في أصل خلقتها الطبيعية على أشكال منتظمة، ولكنها اقتضبت بمقص البستاني وهندمت بآلاته الزراعية، ثم قايس بفكرك بين هذه الحديقة المصنعة وبين غابة عذراء من غاب العالم الجديد تجد فيها أشجارا ونباتات على سائر الأشكال من غياض، وآجام، وآيك، ودوح، وكلاء،
26
وحشيش، وعشب طويل، ونبات متعرش بلبالب وشوك وأوراق مختلفة، وفيها مروج نضرة كأنها بين تلك الأشجار الصلبة الشامخة شوارع، أو طرق واسعة لا يسقط فيها نور الشمس، ولا يمتد ظل الشجر إلا على بساط من الخضرة، ويطير في تلك الغابة ألف نوع من الطير بألف لون من الريش، وتجري فيها أنهار كبيرة تقتلع الأشجار وتسحب جزرا مكللة بالأزهار ، وتتدفق المياه الجارية من مكان أعلى إلى مكان أسفل فتحدث الشلالات، ويتخلل الضياء بين تلك المياه الساقطة فينقلب إلى قوس قزح، ويتألف من هذا الهدير والخرير والتغريد والزئير ألحان وحشية لا مثيل لها؛ فنحن لا نقول أين العظمة؟ أين العزة والجبروت؟ أين الجمال الحقيقي؟ بل نسأل فقط أين الانتظام وأين عدم الانتظام؟ فهناك مياه حبست وحولت عن مجراها الطبيعي؛ لتتدفق من ينابيع صناعية وتركد في حياض محتفرة ثم تنتن فيها. وهناك أيضا آلهة تحجرت، وأشجار قلعت من الأرض التي أنبتت فيها، ونقلت من الإقليم الذي ربيت فيه، وحرمت من شكلها الطبيعي، ومن ثمارها الطيبة، وأكرهت على تحمل منجل البستاني يفعل فيها حسب أهوائه ومشيئته، ويدبرها كيف دار حبل استقامته، فالانتظام الطبيعي مضاد، معكوس، مقلوب، مخروب.
وأما هنا فبالعكس كل شيء خاضع لناموس لا يتغير، وفي كل شيء آية على وجود إله حي،
27
وقطرات الماء تنحدر في مصبها، وتجري أنهارا تجتمع وتصير بحارا، وبذور النبات يختار الأرض الصالحة له أو يصير أحراجا، وكل نجم
28
وكل شجرة صغيرة أو كبيرة تنبت في فصلها، وتنمو في أرضها وتثمر ثمرتها فتنضج في أوانها، فكل ما في هذه الغابة جميل حتى الشوك، فنسأل أيضا أين الانتظام؟
فاختر إذن بين أحسن ما أتت به الصناعة البستانية وبين مصنوعات الطبيعة، بين ما هو جميل بحسب الاصطلاح وبين ما هو جميل بغير القواعد الاصطلاحية، بين أدب مصنع مرصع، وبين شعر مبتكر لم ينسج على منواله أحد.
ربما قال معترض بأن الغابة العذراء البعيدة عن الناس قد يربض فيها ألف حيوان مفترس، وأما حياض الحديقة الصناعية التي استنقعت المياه فيها، فلا تحتوي في الغالب إلا على قليل من الضفادع المستقذرة، فهذا الاعتراض وارد مع الأسف. ولكن إذا خيرنا فنحن نفضل التمساح المفترس على الضفدع القذر، كما نفضل بربرية الشاعر الإنكليزي شكسبير على خسافة عقل الشاعر الفرنساوي قاميسترون (ولد في طولوز 1656-1723م).
ومن المسائل المهمة المقتضى بيانها هو أن الانتظام يمتزج بالحرية في الأدب، كما يمتزج بها في السياسة؛ لا بل الانتظام نتيجة للحرية فيهما جميعا، ولكن ينبغي التفريق بين الانتظام وبين رعاية القواعد، فرعاية القواعد أمر لا يتعلق إلا بالشكل الخارجي، وأما الانتظام فينتج في باطن الأشياء؛ أي من ترتيب العناصر الأصلية التي في الموضوع المبحوث عنه ترتيبا يستحسنه الذوق، فرعاية القواعد هو تأليف مادي ووضع إنساني، وأما الانتظام فهو أشبه بالأمر الإلهي، فهاتان الخاصتان المتخالفتان في ذاتهما كثيرا ما توجد إحداهما بدون الأخرى، فالكنيسة المبنية على القالب القوطي يظهر لنا فيها انتظام بديع رغما عن سذاجتها وعدم رعاية قواعد البناء فيها، وأما الأبنية الفرنساوية الحديثة التي بنيت على قوالب أبنية اليونان والرومان، وقلد البناءون في بنائها تقليدا أعجميا بغير ذوق، ولا مهارة فتظهر لنا غير منتظمة رغما عما في بنائها من رعاية القواعد المعمارية، فالمؤلف العادي لا يتعذر عليه تصنيف تأليف على حسب القواعد، وأما وضع الانتظام في التأليف فلا يتيسر إلا لذوي العقول الكبيرة من المؤلفين؛ لأن الخلاق
29
الذي ينظر من الأعلى ينظم، والمقلد الذي ينظر من القرب يطبق على القواعد، فالأول يعمل بمقتضى ناموس طبيعته، والثاني يتبع قواعد طريقته، فالصناعة إلهام للأول، وعلم للثاني، والحاصل رعاية القواعد هي ذوق التوسط،
30
والانتظام هو ذوق القريحة؛ ومن هنا يفهم الفرق بين أدب الطريقة الرومانية وبين أدب الطريقة المدرسية.
واعلم أن الحرية في هذا المقام لا ينبغي أن تصل إلى الفوضوية، وأن الخروج عن الأسلوب لا يقتضي أن يكون وسيلة لتجويز التخن والغلظ، فبقدر ما يتهور المؤلف في الخروج عن الأسلوب يلزم أن لا يكون في تأليفه لومة للائم؛ لأنه إذا أراد التفوق في حق واحد على غيره يجب أن يكون معه عشرة حقوق زائدة عليه، وبقدر ما يهمل علم البيان والمعاني يجب عليه أن يراعي علم النحو والصرف، ولا يجوز له خلع أرسطوطاليس البياني
31
إلا إذا أجلس مكانه فوجيلاس النحوي،
32
وتنبغي محبة «صناعة الشعر» التي ألفها بوالو لأجل إنشائها على الأقل إن لم يكن لأجل ما فيها من القواعد. فالكاتب الذي له أقل اهتمام بما يكتبه يجتهد دائما بأن يصفي منطقه بدون أن يمحو الصفة الخصوصية التي يفصح بها تعبيره عن شخصية فكره، فإدخال التعبيرات الجديدة في الكلام ما هو إلا دليل على عدم المقدرة. واللحن في الإعراب لا يأتي بمعنى جديد،
33
فالإنشاء مثل الزجاج كلما صفا تلألأ.
ربما أوضح مؤلف هذا الكتاب في غير هذا المحل كلما أشار إليه هنا، ولكنه قبل أن يختم كلامه يستميح القراء في بيان أن رأي التقليد (أي: رعاية الأسلوب) الذي وصى به المتقدمون باتباعه حفظا للطرق الأدبية، ظهر له دائما بأنه بلاء على صناعة الأدب، فهو لا يجوز للكتبة التقليد ولا لأساليب الطريقة الرومانية فضلا عن الطريقة المدرسية؛ لأن الذي ينسج على منوال شاعر من شعراء الطريقة الرومانية يصير بالضرورة مدرسيا ما دام أنه يقلد، فسواء عليك كنت صدى الشاعر الفرنساوي راسين، أم كنت انعكاسا لنور الشاعر الإنكليزي شكسبير، فما أنت أبدا إلا صدى وما أنت إلا انعكاس، ولو تيسر لك النسخ بالتمام على صورة شاعر من ذوي القريحة، تفوتك دائما غرابته
34
أي: قريحته، فلنعجب بأكابر الشعراء ولا نقلدهم، ولنعمل بطريقة أخرى فإن نجحنا فنعم؛ وإن سقطنا فما الأهمية؟
يوجد مائعات للتصبير إذا غطست فيها زهرة ، أو ثمرة، أو عصفورة وتركتها مدة تكسوها قشرة سميكة حجرية، وتحفظ في الحقيقة أشكالها الأصلية، ولكن رائحة العطر، ولذة الطعم، وحركة الحياة فقدت، فالتعاليم المتشدق بها، والقياسات المنطقية الاسكولاستيقية، وسريان داء العادة، وجنون التقليد ينتجن عين هذه النتيجة، فإذا دفنت فيهن قواك الغريزية وتخيلك وفكرك، فلا تخرج منهن أبدا، وما تستخرجه منهن ربما تجده محافظا على شيء من ظاهر العقل والقريحة والذكاء، ولكنه يكون متحجرا كتلك الأشياء المصبرة.
فأصحاب الطريقة المدرسية يقولون: «يحيد عن طريق الحقيقة والجمال كل من لم يتبع الأثر الذي طبعه بأقدامهم السالكون قبله في هذا الطريق» فهذا خطأ، وأصحاب الطريقة المدرسية يخلطون بين العادة والدأب وبين صناعة الأدب، ويمشون على أثر العجلات توهما بأنها الطريق.
فالشاعر لا ينبغي أن يكون له إلا نموذج واحد وهو الطبيعة، ودليل واحد وهو الحقيقة، ولا ينبغي له أن يكتب مع ما كتب بل مع نفسه وقلبه، ومن جميع الكتب المتداولة بأيدي الناس ينبغي له درس كتابين فقط، أوميروس والتوراة، فهذان الكتابان المحترمان - اللذان هما أول الكتب تاريخا وقيمة، وكادا يكونان قديمين كالدنيا - هما في حد ذاتهما علنان للمعاني، ويجد فيهما الكاتب بنوع ما الخليقة بأجمعها مصورة في شكل مضاعف، ففي أوميروس مصورة بقريحة الإنسان، وفي التوارة بإلهام الله.
انتهى في أكتوبر سنة 1836
وبعد المقدمات النثرية البليغة ورد في هذا الديوان المنظومات، وهي تزيد على خمسين منظومة بديعة أظهر فيها من رقة الألفاظ، وجودة المعاني وقوة التخيل والتصور ما حمل أدباء العصر وشعراءه على الإقرار، والاعتراف له بالفضل والشاعرية، وبالقبض على زمام الصناعة الأدبية، وأحسن هذه المنظومات المنظومة التي عنوانها «فانده» وهو اسم أيالة على شاطئ البحر المحيط في شمال بوردو اشتهرت أيام الانقلاب الكبير بالحرب الأهلية، التي حدثت فيها بين حزب الجمهورية وبين المنتصرين للملوك من الأعيان والرهبان. وكذا المنظومة التي عنوانها «عذارى فيردون» وفيردون مدينة على الحدود الألمانية، ومشهورة في التاريخ قديما وحديثا، وأبدع فيكتور هوكو في رثاء الذين قتلوا ونكبوا في تلك الحروب الأهلية، وكان إذ ذاك على مذهب الكاثوليكيين وسياسة الملوكيين، ومن قصائد هذا الديوان ومنظوماته البديعة «لويس السابع عشر» و«إعادة تمثال هانري الرابع» و«موت دوق بري» و«ولادة دوق بوردو» و«تعميد دوق بوردو» و«جنازة لويس الثامن عشر» و«تتويج شارل العاشر» و«إلى عمود ميدان فاندوم» و«إلى والدي» و«حرب إسبانيا» ... إلخ.
الشرقيات
افتتح الشاعر هذا الديوان بمقدمتين، وختمه بشروح مفيدة، وأورد فيه إحدى وأربعين منظومة وقال: بأن الباعث على نظمها اتجاه أنظار الأدباء نحو الشرق بعد أن كانوا منذ عهد لويس الرابع عشر لا يبحثون إلا في آداب اليونان والرومان ومعارفهم، ففي القرن التاسع عشر أقبلوا على درس لغات الشرق وآدابه وتاريخه وعلومه، فوجدوا فيه الأفكار والتخيلات عبرانية، تركية، يونانية، فارسية، عربية، إسبانية؛ لأن إسبانيا جزء من أفريقيا وأفريقيا جزء من إسبانيا لوجود مشابهة وعلاقة بين كل منهما والأخرى، وشبه ما في هذا الديوان من المعاني والتخيل بمدن إسبانيا القديمة المشادة على نمط المدن الشرقية، ووصفها بأن فيها منتزهات لطيفة تظللها أشجار الليمون وتجرى من تحتها الأنهار، ويسطع نور الشمس على ميادينها الواسعة المعدة للاحتفال بالمواسم والأعياد، وأزقتها ضيقة موصلة بعضها مظلم، وبعضها غير نافذ ولا مستقيم، وأبنية دورها من جميع الأزمان وعلى سائر الأشكال، منها العالي والمنخفض والمسود والمبيض والمصبوغ والمنحوت والمنقوش، واتصلت العمارات بعضها ببعض من دور وقصور وفنادق وأديرة وثكنات للعساكر، وكل منها يختلف عن الآخر في طرز البناء والأسلوب المعماري، ويدل على نوع غريب قائم بذاته، وأسواقها غاصة بالأنام يعلو فيها الصياح والخصام. وإذا دخل الأحياء مقابرها وقفوا سكوتا كأنهم أموات، وفيها المراسح والكنائس والمشانق التي بقي أثرها من الأزمان الغابرة. وفي وسط كل مدينة كنيستها الجامعة مبنية على القالب القوطي المعروف، وهناك أيضا الجوامع قائمة بين أشجار النخيل والجميز، وفيها مغشاة بالنحاس والقصدير وأبوابها مصبغة وحيطانها مجلاة منقشة ونوافذها عالية، وعلى كل باب كتبت آية قرآنية، ورصفت الأرض ورصعت الجدران بالفسيفساء، فأصبح كل جامع من هذه الجوامع كأنه زهرة كبيرة تفتحت في نور الشمس وفاج طيبها في الجو.
وكان تأليف هذا الديوان في أثناء حرب المورة واستقلال اليونان؛ لأن الثورة ظهرت سنة 1821 في المورة، وسرت إلى بقية الولايات والجزر اليونانية، واستولى الثائرون على أثينا، وأسسوا فيها حكومتهم وعينوا ماورو قورداتو رئيسا عليهم، وكان من جملة زعماء الثورة ربان سفينة يونانية يدعى قناري هجم ليلة 18 و19 حزيران سنة 1822 على الأسطول العثماني الراسي على جزيرة ساقز وأحرق بعض مراكبه، فساقت الدولة العلية على اليونان رشيد باشا من الروم ايلي وإبراهيم باشا من مصر، وكانت العساكر المصرية مدربة على النظام الجديد، فخرجت بالمراكب إلى شبه جزيرة المورة وأخمدت ثورتها، واسترد رشيد باشا أثينه، وكادت الفتنة تنام لو لم توقظها أوروبا بإحراق المراكب العثمانية، وذلك أن الإفرنج لما رأوا انخماد ثورة اليونان قامت الجرائد والشعراء تهيج الأفكار العمومية في أوروبا على العثمانيين، وتنتصر لأرباب الفساد والعصيان من اليونانيين، فتداخلت في المسألة إنكلترة وروسيا وفرنسا، وبعثوا أساطيلهم فأحرقت الأسطول العثماني وأغرقته بدون إعلان حرب على الدولة العلية، ولا مراعاة للحقوق المتعارفة بل الملل والأمم، وجرت هذه الحادثة المؤلمة بتاريخ 20 تشرين أول سنة 1827 أمام فرضة نافارين في جنوب المورة، واشتهرت في التاريخ بواقعة نافارين، ثم انتشبت الحرب بين الدولة العلية وروسيا، وأخلت العساكر العثمانية بلاد اليونان وعاد إبراهيم باشا لمصر، وصارت اليونان أيالة ممتازة تحت سيادة الباب العالي، ثم أعلن استقلالها تماما.
فشعراء الإفرنج لم يقتصروا كشعراء العرب على مدح الأمراء والتغزل والرثاء، بل هم يبحثون في السياسة الداخلية والخارجية، ويروجون الرأي الذي يرونه؛ ولذا اتبع فيكتور هوكو في السياسة خطة أستاذه شاتو بريان وخطة اللورد بايرن. وهذا الشاعر الإنكليزي بعد أن خدم السياسة اليونانية بقلمه أراد أن يجرب فيها سيفه، ويثبت اقتداره في ميدان الحرب، كما أثبته في ميدان الأدب، فنزل من قصور لوندره إلى أكواخ ميسولونكي من بلاد اليونان ومات فيها بالحمى، وتهور في فعله وخاطر بنفسه كما خاطر المتنبي حينما خرج قاصدا الكوفة سنة 354، فلقيه أعراب من عشيرة فاتك بن الجهل الأسدي وأخذوا ما معه وانصرفوا، فقال له مفلح وكان من أتباعه ألست القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال: بلى؛ وأظهر الشجاعة حيث ينبغي إظهار الحزم والرأي، وكر على الأعراب كرة الفوارس فقتلوه وقتلوا ابنه معه.
وأسس الإنكليز جمعية دعوها جمعية بايرن (بايرن سوستي)، وغايتها حماية المسيحيين في الممالك العثمانية كما هو مقاصد هذا الشاعر وأمانيه، ولهذه الجمعية شعبة في الأستانة وأخرى في أثينه وغيرها، ولها علاقة بالمسألة المكدونية كما كان لها علاقة بالمسألة الكريدية.
وتوهم شعراء الإفرنج في انتصارهم لليونان أن الموجودين في هذه العصور هم من نسل أولئك الأبطال والفلاسفة الذين انقرضوا في القرون الغابرة، وأورثوا المسلمين علومهم وفلسفتهم، فهذا هو السبب الذي حمل فيكتور هوكو على التعصب لليونان على العثمانيين، وعلى تحريضه أمم النصارى على قتال المسلمين، ومناداته بالحرب الصليبية، وكان لم يزل في سن الشباب ، وعلى سياسة المذهب الكاثوليكي والحزب الملوكي، ولم يك بعد اهتدى للتوحيد الفلسفي، ومحبة الإنسانية ولا لاتباع الإنصاف الذي ذكره المعري بقوله:
والدين إنصافك الأقوام كلهم
وأي دين لأبي الحق إن وجبا
وفعل الإفرنج ما فعلوه من الانتصار لليونان بلا مشوق ولا مستصرخ فظن الأرمن، والبلغار في يومنا بأنهم يتمكنون من استمالة أوروبا إليهم بالاستصراخ والتصويت، والأناشيد الحماسية فعقدوا في أوروبا المجتمعات، وخطبوا فيها الخطب المهيجة على غير فائدة. وبعد انقضاء المعرض الأخير بباريس بعث المقدونيون شاعرهم المفلق ميخايلوفسكي مع وفد من أدبائهم لأمهات مدن أوروبا، فكان يكثر من إنشاد القصائد الشرقيات لفيكتور هوكو، ومن إنشاد أشعار بايرون الإنكليزي، ومن تنظير هذه القصائد والنظم على منوالها باللسان البلغاري، ثم ترجمتها للفرنساوية وتلاوتها على الحاضرين في المجالس بكل شوق وحماسة وطنية وهيجان عظيم، ومع ذلك لم تنفعل أوروبا ولا تأثرت الأفكار العمومية فيها كما تأثرت أيام استقلال اليونان لأسباب كثيرة منها أن الجمال لا يتكرر، والأمم أصبحت تنظر لمنافعها الاقتصادية والتجارية أكثر من التفاتها للحماسة الجاهلية.
وتوهم شبان مصر ما توهمه هؤلاء أيضا أيام بعثوا صاحب جريدة اللواء إلى باريس يحمل صورة عظيمة تمثل مصر، وهي في الأسر وتحتها أبيات عربية تستغيث فيها من مجلس النواب الفرنساوي كما هو معلوم ومطلع الأبيات: أفرنسا يا من نصرت البرايا ... انصري مصر إن مصر بسوء ... إلخ.
أما عنوان المنظومات التي في هذا الديوان، فهي «الصاعقة» و«قناري» سمى هذه المنظومة باسم أحد زعماء الثورة المتقدم ذكره، ووصف بها المحاربات البحرية، وصور فيها أعلام الدول وهي تخفق على المراكب الحربية، وقصيدة «رءوس السراي» نظمها سنة 1826 على أثر الإشاعة الكاذبة التي أشاعتها الجرائد عن موت قناري بقنبلة أصابته في محاربة ميسولونكي، وعن إرسال رأسه مع رءوس رفائقه إلى الأستانة. ووصف في هذه المنظومة السراي وما فيها من السراري والطواشية والبذخ والقصف، ورثى قناري ورفيقين له أفجع رثاء، وحرض أمم النصارى على قتال المسلمين، و«نافارين» صور فيها محاربة نافارين العدوانية، وأظهر الشماتة بحرق المراكب العثمانية ومن أبياتها قوله: «مضت ست سنوات ونحن نرى أفريقيا تركض لمساعدة آسيا على أمة تعلمت كيف تموت، وإبراهيم الذي لا يسكنه شيء طار من البرزخ إلى السطح كأنه صقر بلا وكر، كأنه ذئب يحكم في حظيرة الغنم، فهو يجري إلى حيث تستدعيه الغنيمة، فإذا عاد إلى خيمته رمى بيده الرءوس إلى السراي.»
ومن منظومات هذا الديوان أيضا «حض المفتي على الجهاد» و«كدر الباشا» صور فيها جلوس الباشا في دائرة الحرم حزينا، وارتباك رجال المعية والخدام والخصيان، وتساؤلهم عن سبب حزنه وعما ينقصه من النعم التي هو غريق فيها بين رقص الجواري، وغناء الغانيات في قصور عاليات مفروشة بالحرير والديباج تعبق فيها روائح المسك والعنبر ودهن الورد، فوجدوا كدره لا على خراب البلاد ونهب العباد، وكثرة الظلم والاستبداد؛ وإنما هو على موت خصيه الحبشي.
ومن هذه المنظومات أيضا «أغاني قرصان البحر» صور فيها كيف كانت المراكب تجري في البحر المتوسط، وتغير على ما في سواحله من بلاد الإفرنج، وتأسر البنات والغلمان، وتبيعهم في السرايات وللباشاوات، ومنها «الأسيرة» و«ضياء القمر» و«النقاب» صور في هذه المنظومة غيرة الإخوة على أختهم، وقتلها لانكشاف الحجاب عنها بسبب الهواء، وهي مارة في الطريق أمام باب الجامع، وبعد قتلها كفنوها، وقالوا لها: هذا حجاب لا يكشف ستره، ونحو ذلك من القصائد.
ولم يدع مدينة من مدن الشرق المشهورة إلا وذكرها في هذا الديوان، وأكثر من ذكر مدن إيطاليا وإسبانيا إدخالا لهما في الشرق، وكان لهذا الديوان رواج عظيم حينما نشر لعلاقته إذ ذاك بالمسائل السياسية الحاضرة، أما اليوم فقد ذهبت طلاوته وزال رونقه وقلت الرغبة فيه؛ لأن فيكتور هوكو فضلا عما كان عليه إذ ذاك من التغرض والتعصب الأعمى لم ير الشرق بعينه، ولا عرفه إلا بدرس الكتب ومطالع ما نظمه الشعراء مثل شاتوبريان وبايرون وكوتيه ناظم «ديوان أورينتال» وأمثالهم، وطالع أيضا ما ترجم من كلام الحافظ الشيرازي والشيخ سعدي صاحب الكلستان، ومن شروط أهل الطريقة الرومانية الكتابة والنظم عن رؤية وانفعال نفسي؛ ولذا يجدون شعور فيكتور هوكو في الشرقيات مبهما وكلامه مصنعا لا طبيعيا، بخلاف القسم المتعلق بالأندلس وإسبانيا من هذا الديوان، فلم يزل له رونق واعتبار عند أدباء الإفرنج؛ لأن الشاعر زار إسبانيا في صباه وقرأ مع أولادها في المدرسة، فساعدته ذاكرته على وصف ما فيها بأحسن صورة وأبدع أسلوب، ومنظومته التي عنوانها «غرناطة» هي السحر الحلال كأنها كتاب في الجغرافية أفرغ في قالب شعري، ومنها يتضح تبحر الشاعر في علوم الجغرافيا والتاريخ والآثار القديمة والفلسفة، وقد ترجمنا هذه القصيدة بالحرف لتعلم أساليب الشعر الإفرنجي ومناحيه.
غرناطة
لا توجد مدينة لا بعيدة ولا قريبة، لا عربية ولا إسبانية تنازع غرناطة الجميلة في تفاحة الحسن،
35
ولا تظهر أكثر منها أبهة شرقية ولا رشاقة تحت سماء ألطف من سمائها، قادس فيها النخل، مرسية فيها أشجار البرتقان، جيان فيها القصر القوطي ذو القلل الغريبة، أغريدة فيها الدير الذي بناه القديس أدمون، سيغوفه فيها الهيكل الذي تقبل أعتابه وفيها قناة قائمة على ثلاثة صفوف من القناطر تجر إليها المياه من قمة الجبل، ليير فيها الأبراج، برشلونه فيها عمود على رأسه منارة مطلة على البحر، تودله (تطيله) راعية لصداقتها لملوك أراغون، وهم في قبورهم العتيقة وحافظة لصولجانهم الحديد، طلوشه فيها سوق الحدادين المظلم كان دكاكينه في الدجا منافس على جهنم.
السمكة التي شفت في غابر الأزمان عين توبيا من العماء تلعب في جوف الخليج، الذي رقدت فيه «فونتارابي»،
36
اليقانت تمتزج فيها المآذن بالجرسيات، قومبو ستله فيها قديسها، قرطبة فيها الدور العتيقة وفيها الجامع الذي تحار العين في عجائبه، مادريد فيها نهر مانزانارس، بلباو تغطيها أمواج البحر ويكسي المرج الأخضر سورها المسود من الهرم، مدينة ذات الشجاعة العظيمة تخفي فقرها من كبرها تحت رداء دوقاتها، وليس لها شيء سوى شجر الجميز؛ لأن قناطرها الجميلة من بقايا العرب وقنواتها من بقايا الرومان، بلنسية فيها جرسيات كنائسها الثلاثمائة، القنطرة ذات التقى أسلمت لهبوب النسيم رايات الترك المعلقة على عواميدها،
37
سلمنكه تجلس وهي ضاحكة على ثلاث تلال، وتنام على نغمات الأوتار، وتستفيق مذعورة من جلبة أولاد المكاتب الصغار، طرطوشة غالية على القديس بطرس، بويسرده الغنية فيها المرمر مثل الأحجار، تويه تفتخر بقلعتها المثمنة الشكل، طراكونة تفتخر بأسوارها التي بناها أحد الملوك، سموره يجري من تحتها نهر دورو، طليطلة فيها القصر العربي، إشبيلية فيها جيرالدة، برغه وضعت ثروتها على قمتها، بيتافلور مركيزه، جيرونه دوقة، بيغاره كأنها زهدت في الحلي الفخيمة، بامبلونه المظلمه متهيئة دائما للحرب، وقبل أن تنام على ضوء القمر تقفل الأبراج المحاطة بها كالمنطقة.
فهذه المدن الإسبانية إما منثرة في السهول، أو مرتفعة على الجبال، وفي جميعها قلاع لم تضرب يد الأعداء فيها بالنواقيس، وفي جميعها كنائس جامعة لها جرسيات حلزونية الشكل،
38
ولكن غرناطة فيها الحمراء.
الحمراء وما أدراك ما الحمراء قصر زوقته الجن وملأته بالمحاسن كأنما هو في الحلم، بل وقلعة ذات شرف مخرمة، مقلبة إذا جن الليل سمعت منها أصواتا سحرية، وإذا طلع القمر من وراء أقواسها العربية الكثيرة، وانعكس نوره على الجدران أحدث عليها نقوشا بيضاء عجيبة، غرناطة فيها من العجائب أكثر ما في الرمانة من الحب الذي لونه كلون العقيق، وينبت الرمان في وديانها بكثرة، غرناطة اسم على مسمى، غرناطة إذا اشتعلت نار الحرب فقعت في وجوه أعدائها أشد من فقع القنبلة الحمراء بمائة مرة.
إذا أجابت «فيفاتوين» (فيقاقونلد) بدفها المزين بالأجراس، أو تتوجت (جنة العريف) بالنور وأمست كأنها خليفة، ورفعت في ظلام الليل قمتها المضيئة، فلا شيء أجمل من ذلك ولا شيء أعظم من ذلك، وتعزف الأبواق من «أبراج العقيق» كأنها جمهور نحل تسوقه الرياح، وفي القوافة نواقيس مهيئة دائما لإعلان الأفراح، وتطنطن في أبراجها الأفريقية لتوقظ من في البيضاء، غرناطة لا تجاريها الرقباء ولا في شيء، غرناطة تغني الأغاني الرقيقة بأرق مما هي، وتصبغ دورها بأبهى الألوان، ويقال: بأن النسيم تحبس أنفاسها إذا نثرت غرناطة في ليلة من ليالي الصيف نساءها وأزهارها في سهولها.
جزيرة العرب جدتها، والعرب الرحل المقتحمون إنما قطعوا آسيا وإفريقيا من أجلها فقط، ولكن غرناطة كاثوليكية، غرناطة ضحكت منهم، غرناطة تلك المدينة الظريفة لو أمكنها أن تكون اثنتين لكانت إشبيلية أخرى. انتهى.
فإن كان هذا وصف غرناطة عند فيكتور هوكو، فكيف يكون وصف إشبيلية، ولا يخفى ما في تعداد هذه المدن الإسبانية من الأهمية في تاريخ آداب العرب لانتساب الكثير من العلماء والأدباء إليها، كالشريشي شارح المقامات والشاعر الإشبيلي والشاطبي ناظم الشاطبية، وكثير من أمثالهم، وأما قوله: إذا أخرجت غرناطة نساءها وأزهارها للسهول تحبس النسيم أنفاسها، فهو من تشابيه أصحاب الطريقة المدرسية على حد قول العرب: إذا برزت الحسناء احتجبت الشمس خجلا ونحو ذلك.
أما غرناطة فهي في أسفل جبال نفاده (سيبرانفاده)، وعلى مجتمع نهري دارو وجنيل المنصب في الوادي الكبير، وهي مبنية على ثلاث تلال يمتد تحتها سهل واسع من أجمل السهول يسمى لافيكه، وغالب أبنيتها من القرميد الأحمر رصفت بعضها فوق بعض، فأشبهت الرمانة الملفوفة؛ ولذا سميت غرناطة ومعناها الرمانة. وأشهر أبنيتها الحمراء وهي على تلة يجري من تحتها نهر دارو، وفيها برج عظيم على رأسه شرف ولونه عقيقي؛ ولذا قيل له «ثورفيرمبل»، وتجاه الحمراء «البايسين» أي البيضاء وهي حارة من حارات غرناطة، وهي مشتملة على دور لطيفة للسكن، وبقرب الحمراء جنة العريف (جنراليف) وهي قصر للصيف من أبدع القصور مرتفع على قمة عالية، وسميت الحمراء؛ لأنها مبنية بالقرميد الأحمر، ومنظرها الخارجي ليس بعجيب فإذا دخل الزائر من بابها انبهر مما يراه داخلها من التزيين والنقش العربي (أرابسك) والتزويق والترصيع بالفسيفساء، والتصفيح بأنواع المرمر والقيشاني وكتبت عليه آيات قرآنية وعبارة «لا غالب إلا الله»، وفي كل زينة من تزيناتها أو تزويقة من تزاويقها دليل على سلامة الذوق والمهارة التامة في الصنعة وحسن الانتخاب.
ومشتملات الحمراء دوائر كثيرة وساحات ومخادع وأروقة، وجنات تجري من تحتها الأنهار، وفيها جامع وحمامات وأشهر مشتملاتها حوش السباع؛ وهي ساحة سماوية مبلطة بالرخام الأبيض يقرب طولها من 30 مترا، وعرضها 16 مترا وعلى جوانبها أروقة قائمة على عمدان من الرخام وأقواس بديعة، وفي وسط الساحة قصعة بيضاء قائمة على اثني عشر سبع من المرمر الأسود يتفجر الماء من أفواهها، ويجري في قنوات مكشوفة إلى البيوت والمخادع، ولكن الماء منقطع اليوم عنها. ومن مشتملاتها الظريفة قاعة السفراء وقاعة الأختين وغير ذلك، وقد مثلت الحمراء في كثير من المدن الأوروبية، ومثلت في معرض باريس الأخير أحسن تمثيل.
وتغزل شعراء العرب في غرناطة بأشعار كثيرة، ونظم رئيس كتابها عبد الله بن زمرك موشحات لطيفة منها:
لازمة
نسيم غرناطة عليل
لكنه يبري العليل
وروضها زهرة بليل
ورشفه ينقع الغليل
دور
عقيلة تاجها السبيكة
تطل بالمرقب المنيف
كأنها فوفه مليكه
كرسيها جنة العريف
تطبع من عسجد سبيكه
شموسها كلها تطيف ... إلخ.
وقال أيضا ووجه بها من فاس إلى غرناطة:
لازمة
أبلغ لغرناطة سلامي
وصف لها عهدي السليم
فلو رعى طيفها ذمامي
ما بت في ليله السليم
دور
أعندكم أنني بفاس
كابد الشوق والحنين
أذكر أهلي بها وناسي
والليل في الطول كالسنين
الله حسبي فكم أقاسي
من وحشة الصحب والبنين
لازمة
مطارحا ساجع الحمام
شوقا إلى الإلف والحميم
والدمع قد لج في انسجام
منتثرا عقده النظيم
دور
يا ساكن جنة العريف
أسكنتم جنة الخلود
كم ثم من منظر شريف
قد حف باليمين والسعود
ورب طود به منيف
أدواحه الخضر كالبنود •••
والنهر قد سل كالحسام
لراحة الشرب مستديم
والزهر قد راق بابتسام
مقبلا راحة النديم
ولد هذا الأديب في غرناطة واتصل بواسطة لسان الدين بن الخطيب الشهير إلى أميرها، وأحرز منه على رئاسة الكتاب، وترجمة لسان الدين في كتابه «الإحاطة»، وأثنى عليه وقيل: بأن ولده كتب هامشا على ترجمة عبد الله بن زمرك، وطعن فيه وقال بأنه تقرب للأمير بالإفساد والوشاية على والده لسان الدين، وتوفي ابن زمرك مقتولا سنة 755ه قتلته زوجته مع ولدين له. ومما قاله أيضا في غرناطة:
غرناطة منزل الحبيب
وقربها السؤال والوطر
تبهر بالمنظر العجيب
فلا عدا ربعها المطر •••
عروسة تاجها السبيك
وزهرها الحلي والحلل
لم ترض من عزها شريك
بحسنها يضرب المثل
أيدها الله من مليك
يملك المجد للدول
بدولة المرتجى المهيب
الملك الطاهر الأغر
تختال من بردها القشيب
في حلة النور والزهر •••
كرسيها جنة العريف
مرآتها صفحة الغدير
وجوهر العلي عن شنوف
تحكمه صنعة القدير
والأنس فيه على صنوف
فمن هديل ومن هدير
كم خرق الزهر من جيوب
وكلل القضب بالدرر
فالغصن كالكاعب اللعوب
والطير تشدو بلا وتر
وهي طويلة اقتصرنا منها على ما يناسب المقام، فجنة العريف التي أكثر الشعراء من ذكرها هي أشبه بقولنا اليوم بلديز. ونظم في باربة أيضا موشحات لطيفة، ووصف قصرها العجيب، فقال:
عليك بارية السلام
ولا عدا ربعك المطر
مذ حل في قصرك الإمام
فقربك السؤل والوطر •••
عروسة أنت يا عقيله
تجلى على مظهر الكمال
مدت لك ألف مستقيله
تمسح أعطافك الشمال
والبحر مرآتك الصقيله
يشف من ذلك الجمال
إلى آخره، وقال أيضا في هذا القصر من موشح آخر:
يا حبذا مبناك فخر القصور
بروجه طالت بروج السما
ما مثله في سالفات العصور
ولا الذي شاد ابن ماء السما
كم فيه من مردى بهيج وقور
في مرتقى الجو به قد سما
إلخ.
ومما ورد على منوال منظومة فيكتور هوكو القصيدة الشهيرة التي مطلعها «لكل شيء إذا ما تم نقصان» حيث ورد فيها:
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم
من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه
ونهرها العذب فيضان وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف
كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية
قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة
إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرحا يلهيه موطنه
أبعد حمص تغر المرء أوطان
وحمص هي إشبيلية وهي على الضفة اليسرى للنهر؛ أي الوادي الكبير المنصب في المحيط عند خليج قادس، وارتفع وراء المدينة جبل؛ ولذا قال فيها أحد واصفيها :
ذكرتك يا حمص ذكر هوى
أمات الحسود وتعنيته
كأنك والشمس عند الغروب
عروس من الحسن منحوته
غدا النهر عقدك والطود تا
جك والشمس أعلاه ياقوته
وهذا أشبه بقول الشريف العقيلي المنتسب لعقيل بن أبي طالب في مدينة الفسطاط قاعدة الديار المصرية في أوائل الإسلام:
تبدت عروسا ومقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
ونظموا في إشبيلية كثيرا من الأشعار؛ لأنها كانت دار أنسهم وسرورهم، ومركز عزهم وحضارتهم، وكان أهلها يزيدون على أربعمائة ألف نفس، وأما اليوم فلا يبلغ سكانها المائة وخمسين ألفا، وفيها القصر الشهير المعروف عند الإفرنج باسم «القازار»، وفيها منارة جيرالده وارتفاعها (94) مترا، وكان يرصد فيها الأفلاك، ومما قيل في بلنسية المعروفة بمدينة فالانس، وهي على شاطئ البحر المتوسط عند مصب «غواد الأفيار» وإليها ينسب كثير من الأدباء:
بلنسية جنة عاليه
ظلال القطوف بها دانيه
عيون الرحيق مع السلسبيل
وعين الحياة بها جاريه
قاله أبو العباس أحمد بن الزقان، ومدحها بأشعار كثيرة، ومما قيل في قرطبة أيضا:
بأربع فاقت الأقطار قرطبة
وهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة
والعلم أفضل شيء وهو رابعها
وقرطبة كما تقدم على نهر الوادي الكبير والزهراء مارة من حاراتها.
أوراق الخريف
افتتح الشاعر هذا الديوان بمقالة أدبية تاريخية سياسية نظر فيها نظرة عامة إلى الأحوال الجارية في سنة 1831 وإلى المسائل الخارجية، وشبه القرن السادس عشر للميلاد بصراط مرت عليه الأمم الأوروبية من الجامعة الدينية والسياسية إلى حرية الضمير، وحرية المدنية؛ أي استقلالها بإدارة بلديتها، ومن الفلسفة المنطقية الرهبانية إلى الفلسفة الحسية التحليلية المؤسسة على البحث والتفتيش، ومن الدين الكاثوليكي إلى الدين البروتستانتي، ومن أفانين الصناعة القوطية إلى أفانين الصناعة المدرسية، وهي المستفادة من درس آثار الرومان واليونان، قال: ولم يكن حينئذ في أوروبا إلا حروب دينية، وحروب أهلية، وحروب على الاعتقاد بالسر المقدس وعدم الاعتقاد به، ولم يكن يسمع فيها إلا صليل السيوف ولغط العلماء المتعصبين، فظهر لوتر مؤسس الدين البروتستانتي وظهر ميكل آنج مصور «اليوم الآخر» وهو شيخ المصورين وإمامهم ، وحدث انقلاب وتبدل في أوروبا، ولكن القلب الإنساني مثله كمثل الأرض، يتيسر لك حرثها وزرعها وبناء ما تريد بناءه عليها، ومع ذلك لا تنفك عن إنبات العشب المغروس في طبيعتها وبزوره في داخل جوفها، ولا يتمكن المحراث من الوصول إلى أعماقها ولا قلب سافلها لعاليها، وكذا القلب الإنساني لم يزل مغروسا فيه شيء من الأفكار العتيقة، ولا تزول هذه الأفكار تماما إلا بهدم القلب الإنساني؛ إذ لا يكفي أن يقلب عاليه سافله فقط، فالذي يهدم القلب الإنساني هو الشعر.
وترنم الشاعر في هذا الديوان بمحبة الوالدة، وبذكر المعاهد البيتية وأحوال الطفولية، وعبر عما يجده في نفسه، ويحس به في قلبه؛ ولذا كان تأثيره على نفوس القراء أشد من تأثير ديوان الشرقيات، غير أن الشرقيات أكثر سناء وضياء من أوراق الخريف.
أما المنظومة الأولى فمطلعها «كان لهذا العصر سنتان» يعني حينما ولد سنة 1802، فشخص كيفية ولادته وحضانة أمه وحنوها ورأفتها عليه، وذكر في القصيدة الثانية بيت أبيه، وكيفية الذهاب إليه وما في طريقه من المدن وما حوله من الرسوم والأطلال، وما أبقاه في ذهنه من التصور والخيال، وقال في منظومة أخرى: «حينما يولد الطفل تهتف العائلة بأصوات الفرح وتقر عيونهم جميعا برؤية لحظه اللطيف اللامع، وتتهلل وجوههم بالبشر مهما كانت حزينة أو عبوسة ... وأطنب في وصف ما يتعلق بالمولود ومحبة أمه له وخفقان قلبها عليه، وكيفية نومه وقعوده وبكائه وأكله، وصور جميع ذلك بأسلوب بديع يخال منه للقارئ كأنه في دار الولادة يسمع ويرى ما يحدث فيها من الاحتفال بالمولود. وعلى منوالها منظومة أخرى مطلعها «ما أجمل الطفل وهو يبتسم»، وكان تزوج وولدت زوجته، فاختبر لذة العائلة وعرف محبة الأولاد؛ ولذا خالف في هذا الموضوع المعري القائل:
على الولد يجني والد ولو أنهم
ولاة على أمصارهم خطباء
وزادك بعدا عن بنيك وزادهم
عليك حقودا أنهم نجباء
يرون أبا ألقاهم في مؤرب
من العقد ضلت حلة الأرباء
وله أيضا:
أبوك جنى شرا وإنما
هو الضب إذ يسدي العقوق إلى الحسل
وهو ولد الضب؛ ولذا كني أبا حسل ويقال في المثل: هو أعق من الضب.
وهو القائل في اللزوميات أيضا من قصيدة غراء مطلعها:
ترنم في نهارك مستعينا
بذكر الله في المترنمات
ومنها:
ولا ترجع بإيماء سلاما
على بيض أشرن مسلمات
إلى أن قال:
خمور الريق لسن بكل حال
على طلابهن محرمات
ولكن الأوانس باعثات
ركابك في مهالك مقتمات
صحبنك فاستفدت بهن ولدا
أصابك من أذانك بالسمات
ومن رزق البنين فغير ناء
بذلك عن نوائب مسقمات
فمن ثكل يهاب ومن عقوق
وأرزاء يجئن مصممات
وإن تعط الإناث فأي بؤس
تبين في وجوه مقسمات
يردن بعولة ويردن حليا
ويلقين الخطوب ملومات
ولسن بدافعات يوم حرب
ولا في غارة متغشمات
39
ودفن والحوادث فاجعات
لإحداهن إحدى المكرمات
وقد يفقدن أزواجا كراما
فيا للنسوة المتأيمات
يلدن أعاديا ويكن عارا
إذا أمسين في المتهضمات
يرعنك إن خدمن بغير فن
إذا رحن العشي مخدمات
40
ومنها:
وما الجارات إلا جاريات
بعيبك إن وجدن مهيمات
فلا تسأل أهند أم لميس
ثوت في النسوة المتخيمات
ولا ترمق بعينك رايحات
إلى حمامهن مكممات
إلى أن قال:
وساو لديك أتراب النصارى
وعينا من يهود ومسلمات
ومن جاورت من حنف وسرب
صوابي
41
فليبن مكرمات
فإن الناس كلهم سواء
وإن ذكت الحروب مضرمات
ومنها:
وواحدة كفتك فلا تجاوز
إلى أخرى تجيء بمولمات
إلخ.
وفي هذا المعنى أبيات من قصيدة لعلقمة بن عبدة من شعراء الجاهلية، مدح بها الحرث الغساني وأولها:
طحا بك قلب في الحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب
تكلفني ليلى وقد شط أهلها
وعادت عواد بيننا وخطوب
ومنها:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث وجدنه
وشرخ الشباب عندهن عجيب
فكأن فيكتور هوكو عارض المعري، وصور في هذا الديوان سرور العائلة بالأولاد، وكان لما نظمه في زهو الشباب، فالشاعران في هذا المبحث على طرفي نقيض، ولكنهما يتفقان «في تمجيد الله الذي شرف عن التمجيد، ووضع المنن في كل جيد»، وفي الحيرة، وهي مذهب الذين قالوا: رب زدني فيك تحيرا، كما قال ابن الفارض:
زدني بفرط الحب فيك تحيرا
وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
فأظهر فيكتور هوكو حيرته في منظومة عنوانها «ما يسمع على الجبل»، قال فيها: بأنه صعد على جبل مشرف على المحيط الغربي، ووقف صامتا ساكنا يرى السماء فوقه والماء تحته، ويسمع تلاطم الأمواج، وتضارب الرياح وامتزاج أصوات البر بأصوات البحر، وصعودهما إلى الملأ الأعلى، فالصوت الذي يصعد من البحر فيه جلالة وسرور وهو من تلاطم الأمواج والهدير، والصوت الذي يأتي من البر فيه كآبة وحزن، وهو من تضارب الرياح وتأفف الإنسان من مصائب الحياة، فالبحر يرتل آيات الفرح والسلام كترتيل المزامير في صهيون، ويحمد الخالق على ما أبدعه من جمال المخلوقات، فيصعد كلامه الطيب إلى الله، وكلما فرغت موجة من تسبيحها قامت وراءها موجة أخرى تسبح الله، وأما البر فينادي بأصوات الويل والحرب، ويصرخ ويشتم ويلطم؛ فهذا الصراخ والعويل إنما هو بكاء الأرض وصراخ الإنسان، وهذان الصوتان أحدهما يقول: «الطبيعة»، والثاني يقول: «الإنسانية»، قال الشاعر: وتأملت طويلا في هذا المنظر الباهر وفكرت في لج البحر الذي تعلوه الأمواج فانفتح في قلبي لجة عميقة لا قعر لها، وقلت في نفسي: لم نحن هنا؟ ما هو الغرض من كل هذا؟ ما تصنع النفس؟ أيهما أحسن البقاء أم الفناء؟ والله الذي يقرأ وحده في لوحه المحفوظ لأي سبب يمزج على الدوام غناء الطبيعة ببكاء الجنس البشري: قال المعري:
أرى الخلق في أمرين ماض ومقبل
وظرفين ظرفي مدة ومكان
إذا ما سئلنا عن مراد الهنا
كنى عن بيان في الإجابة كان
ونظم فيكتور هوكو في هذا المعنى قصيدة أخرى عنوانها «الشموس الغاربات» صور فيها غروب الشمس، وظهور الشفق، وتكاثف الغيام على الأفق، واستدل بنظره في المخلوقات على وجود الخالق،
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
فأولو الألباب من الشعراء لا سيما الذين نهجوا منهم نهج الطريقة الرومانية لا يفترون عن التفكير في هذا الأمر، ومما في منظومة الشموس الغاربات من لطائف الأبيات قوله: «هذه السحب المتلونة بألوان الرصاص والذهب والنحاس والحديد تسكن فيها الزوبعة والإعصار والصاعقة والجحيم وتدمدم دمدمة خفية، فهو الله الذي يعلقها جميعا في السموات العميقة كما يعلق الفارس على أوتاد البيت أسلحته المتصلصلة.»
42
ومما ورد لفيكتور هوكو في هذا الديوان من القصائد البديعة، التي سماها «الدعاء للجميع» قال: يا بنتي قومي للصلاة؛ انظري قد عسعس الليل، ونزل الضباب على الأفق، وطلع النجم من وراء السحاب كأنه دينار، أنصتي لم يبق إلا مركبة تكر في الظلام على بعد، والكل دخل ليستريح، والشجرة التي على الطريق نفضت غبار النهار بريح المساء «وهي الدبور».
زحزح الشفق على النجوم ستار الليل وفجر كل نجم كالشرارة الحامية، ورقق المغرب حاشيته الحمراء، وفضض الليل في الدجا وجه الماء، وامتزجت أتلام المحراث بالمسالك وبما حولها من الشوك، واختفى الجميع عن العيان، والتبست الطريق على ابن السبيل.
النهار للأذى والتعب والبغض، فلنشرع في الصلاة حيث دخل الليل، ما أصفى الليل وما أوقره! الراعي يعود والماشية تجأر، والريح تعزف في نوافذ البرج، والمياه تركد في المستنقعات، والجميع يتألم ويشكو؛ لأن الطبيعة من شدة تعبها أمست في احتياج للنوم والصلاة والحب.
هذه الساعة هي التي يتكلم فيها الأولاد مع الملائكة، وأما نحن فنهرع فيها لملاهينا الغريبة، فجميع الأولاد الصغار يدعون في آن واحد بدعاء واحد وهم راكعون على الأرض، وأعينهم شاخصة إلى السماء، وأيديهم مضمومة وأرجلهم حافية، ويطلبون لنا الرحمة من الله تعالى.
ثم ينامون - وحينئذ تتناثر أحلامهم الذهبية في حندس الليل بعد أن تتولد من هوشات آخر النهار، فإذا رأت عن بعد أنفاسهم متصاعدة وشفاههم محمرة طارت إلى ناموسياتهم كما يطير النحل إلى الأزهار ورفرفت حولها.
فيا عجبا لنوم السرير! ويا عجبا لدعاء الصغار! فهو صوت حنو ورأفة لا عدوان فيه، وما أحلى هذا الدين الذي يقر العين ويضحك السن! هذا مطلع النشيد في ليلة السعود، فينيم الولد عقله الصغير في الدعاء كما يضع الطير رأسه تحت جناحه. •••
يا بنتي قومي للصلاة - وادعي أولا وخاصة للتي هزت الليالي الطوال في سريرك، للتي التقطتك من عالم الذر وأنت نفس لطيفة، ووضعتك في الدنيا وصارت لك أما شفوقة وقسمت لأجلك نصيبها من هذه الحياة المرة إلى قسمين، فشربت الحنظل وأسقتك العسل.
ثم ادعي لي، فإني أحوج منها لدعائك؛ لأنها هي مثلك صالحة، بسيطة، صادقة، قلبها صاف، ووجهها راض، شفقت على كثيرين ولم تحسد أحدا، عاقلة، حليمة، صابرة على غصص الحياة، متحملة للشر بدون أن تعرف فاعله.
طالما قطفت الزهور ويدها الطاهرة لم تمس قشر الشجرة المنهي عنها،
43
ولم تقع بالفخ مع ضحكة سنها، وتنسى دائما كل ما سلف ومضى، ولا تعرف الأفكار الخبيثة التي تمر في الذهن كما يمر الظل على الماء.
تجهل - واجهلي مثلها دائما - ما في هذا العالم من الشقاء الملوث للنفس، والحظوظ الكاذبة، والأباطيل الفانية، وكل ما عاقبته الندامة وتبكيت الضمير، والشهوات التي ترغي على القلب كالرغوة، وخواطر الخجل والمرارة الباعثة على احمرار الوجه.
أنا أخبر بالحياة ويمكنني أن أقول لك: متى كبرت واقتضى تعليمك بأن الجري وراء السلطنة والسعادة والتفنن هو جنون ودناءة، وبأن كأس
44
الانتخابات تدور علينا وتسقينا الخزي بدلا عن الفخار، وبأن الإنسان يخسر نفسه في لعب هذا القمار.
كلما عاشت النفس تعطشت، والأمور وإن شفت بدايتها عن نهايتها وظهرت أسبابها في عاقبتها؛ فالإنسان مع ذلك يشيب على الرذيلة، وعلى الضلال المنفور منه، من كثرة المشي يتيه الإنسان ويداخل عقله الشك، والكل يترك شيئا على شوك الطريق التي سلكها، فالغنم تترك صوفها والرجل يترك فضيلته.
قومي إذن وادعي لي، وقولي في مقام كل دعاء: «يا الله يا الله يا ربنا أنت أبونا فارحمنا إنك أنت الرحيم، فارحمنا إنك أنت العظيم.» ودعي قولك يذهب إلى حيث ترسله نفسك، ولا تقلقي فلكل شيء طريق، فلا تقلقي على الطريق التي يذهب فيها.
لا شيء في هذه الدنيا إلا وله مجرى، فالنهر يجري ملتويا بين السهول حتى يصب في البحر، والنحلة تعرف الزهرة التي فيها العسل، وكل طائر يطير ويقع دائما على غرضه، فالنسر يطير ويرتفع نحو الشمس، والعقاب يهبط على المقبرة، والخطاف (السنونو) يطير في الربيع، والدعاء يصعد إلى السماء.
فإذا ارتفع صوتك إلى الله بالدعاء لي أكون كالعبد الذي جلس في الوادي بعد أن حط حمله على حافة الطريق، وأشعر بخفة نفسي؛ لأن دعاءك يأخذ بيده وهو صاعد جميع ما يثقل على عاتقي من الآلام والأوزار والخطايا.
قومي ادعي لأبيك؛ لأصير أهلا لرؤية طيف ملك يمر في المنام كطير الحمام، ولتشتعل نفسي مع اشتعال البخور، امحي خطاياي بنفسك الطاهر؛ ليصير قلبي معصوما نقيا كأنه صحن الهيل الذي يغسل في كل مساء. •••
ادعي أيضا لجميع من يمر على هذه الأرض من الأحياء، ولجميع الذين اندثرت مآثرهم بهبوب الرياح وتلاطم الأمواج عليها، وللأحمق الذي يفرح بلمعان الحرير وبسرعة عدو الخيل، ولكل من يتألم ويشتغل سواء كان غاديا أو باديا، سواء عمل خيرا أو شرا.
ادعي للمنهمك في اللذات والعاكف على القبلات إلى الصباح، ولمن يتخذ وقت الصلاة ليلهو بالرقص أو الجلوس على المائدة، ويشتغل بالفحشاء في الساعة التي تتلو النفس الزكية فيها دعاء المساء، وإذا فرغت من دعائها رجعت خائفة من أن الله لم يسمع رجاءها.
يا ولدي ادعي للعذارى المستورات، وللمحبوس في القلعة، وللعواهر اللواتي يبعن اسم الحب الغالي، وللعاقل الذي يستغرق في مطالعاته ويتفكر في الخلق، وللكافر الملعون الذي يطعن في الشريعة المقدسة - لأن الدعاء لا نهاية له؛ لأنك تؤمنين عن الذي يجحد والطفولية تقوم مقام الإيمان.
ادعي أيضا للذين هم راقدون تحت حجر القبر، يا لها من حفرة سوداء تفتح أمامنا في كل آن، جميع هذه النفوس الهالكة مفتقرة لمن يزيل عنها صداء الجسم
45
هل سكوتها دليل على أنها لا تتألم؟ يا أولادي لننظر تحت الأرض؛ لأن الشفقة على الأموات. •••
اركعي اركعي اركعي على الأرض؛ حيث وضع أبوك أباه، حيث وضعت أمك أمها، حيث يرقد كل من عاش عليها رقدة عميقة حفرة يمتزج فيها الغبار بالغبار، ويجد الإنسان تحت أبيه آباء، كاللج تحت اللج في بحر لا قعر له.
يا ولدي حينما تنامين تتبسمين، فيأتي الطيف وهو فرح في الظلام الذي غطست فيه، فيجفل من نفختك ثم يعود إليك أيضا، وفي النهاية تفتحين عينيك الإلهيتين اللتين أحبهما، في الوقت الذي يفتح فيه الفجر على الأفق جفنه، وله أهداب ذهبية فإن الفجر عين إلهية أيضا.
ولكن الأموات لو تعلمين أي نوم ينامون! فراشهم باردة وثقيلة على عظامهم؛ ولذا شنعتهم، والملائكة لا يسبحون وهم مجتمعون حولهم وطيف الخيال يثقل عليهم بجميع ما جنته أيديهم، ليلهم ليس فجر، والندامة تنقلب دودا في القبر وتفتت قلوبهم.
يمكنك بكلمة يمكنك بقول أن تجعلي ندامتهم تتخذ لها جناحا وتطير، وأن تبعثي بحرارة لطيفة تلذذ عظامهم، وأن تجعلي الشعاع يصيب أيضا أجفانهم الغامضة، وأن توصلي لهم خبرا من النور والحياة، وشيئا من الرياح والأحراج والمياه.
قولي لي حينما تذهبين وأنت طفلة متفكرة تدورين على شاطئ البحر المتلاطم، أو تحت الشجر الذي يملأ القلب مهابة بظله، وبتضارب الرياح عليه، ألا تسمعين صوتا يقول لك: يا بني حينما تدعين ألا تدعين لي؟
هذه شكوى الأموات! فالأموات الذين يدعى لهم ينبت على قبرهم نبات أشد اخضرارا وأكثر أزهارا، ولكنهم منسيون وا حسرتاه! حتى الشيطان لا يضحك لهم ولا ضحكة استهزاء، ليلهم بارد مظلم، وبعض الشجر الهائل الذي يظلل قبورهم يغرس دائما عروقه في قلوبهم بلا شفقة عليهم.
ادعي! حتى إن الأب والعم والأجداد الذين لا يطلبون منا إلا الدعاء فقط، يهتزون في قبورهم عند سماع ذكرهم، ويعلمون أن على وجه الأرض من يتذكرهم بعد، ويشعرون بحصول دمعة في عينهم الفارغة، كما أن ثلم المحراث يشعر بتفتح الزهرة. •••
يا حمامتي، لا ينبغي لي أنا أن أدعي لجميع الهالكين، ولا للأحياء المارقين من الدين، ولا لجميع الذين ضمهم القبر، والقبر أصل المعابد.
لا ينبغي لي أنا الذي نفسه فانية، مملوءة بالخطايا، وفارغة من الإيمان، أن أدعي للجنس البشري؛ لأن صوتي يكاد لا يكفي ليستغفر الله عن ذنوبي.
كلا بل لو أمكن أحد أن يدعي اليوم لهذه الأرض الفاسدة لكان أنت، أنت الذي صوتك يسبح، ودعاؤك الطاهر يا ولدي يمكنه أن يتكلف بالآخرين.
اسئلي هذا الأب العظيم الذي يبسم في أفقك لماذا الشجرة الكبيرة تخنق الشجرة الصغيرة؟ ومن الذي يميل بالعقل البشري عن الحق إلى الباطل.
اسئليه هل الحكمة لا تختص إلا بالأزلية؟ لماذا نفخته تحطنا؟ لماذا تحشر الإنسانية في القبر بلا انقطاع؟
الأولاد يسهرون في المكان المقدس على الذين أفناهم الإثم، فهم أزهار يعطرونهم وهم بخور يفوح عليهم، وهم أصوات ترتفع إلى الله.
فلنترك هذه الأصوات العالية تفعل، ولنترك الأطفال جاثين على الركب، أيها المذنبون كلنا ولنا ذنوب، كلنا على شفا جرف هار، فينبغي للطفولية أن تدعو لنا. ••• ... إلخ ... إلخ.
وقصيدة الدعاء للجميع طويلة ومشتملة على قواعد الإنسانية، والفلسفة الاجتماعية التي شرعها وأوضحها في كتاب البؤساء؛ لأن النثر أوسع مجالا من الشعر الذي يضيق عنه الكلام ولا يتيسر فيه إلا الرمز للمسائل والإشارة إليها، واللبيب تكفيه الإشارة، وإنما أوردنا منها ما ذكر لتعلم الأساليب الشعرية التي جرى عليها المؤلف في النظم على نهج الطريقة الرومانية ولتظهر أفكاره في الموجودات، وكان نظمه لهذه القصيدة، وهو في سن الشيخوخة؛ أي في سنة 1880 وهي معتبرة من أبلغ كلامه.
وعساه اتبع في هذا الدعاء الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام.
قيل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟
قال: أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك ثم أدناك.
ومما ورد في القرآن قوله تعالى:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .
وقال المعري في اللزوميات:
وأعط أباك النصف حيا وميتا
وفضل عليه من كرامتها الأما
أقلك خفا إذا أقلتك مثقلا
وأرضعت الحولين واحتملت تما
وألقتك عن جهد وألقاك لذة
وضمت وشمت مثل ما ضم أو شما
والنصف هو النصفة والإنصاف، وأقل بمعنى حمل، واحتملت تما؛ أي أتمت أيام حملها وولدت لتمام. ولو تتبعنا كلام المعري أو ما ورد على شاكلته من الشعر العربي لوجدنا فيه أكثر المعاني الواردة في قصيدة الدعاء للجميع.
أغاني الشفق
ويشتمل هذا الديوان على نحو خمسين قصيدة بديعة أبلغها المنظومة التي عنوانها «إلى العمود»، وهو المركون في ميدان فاندوم بباريس، وكان نصب على عهد الإمبراطورية الأولى تذكارا لانتصارات نابوليون الأول على النامساويين والروسيين، واغتنامه منهم الغنائم الكثيرة، وفي جملتها 1200 مدفع فبني العمود بالأحجار وصفح بنحاس المدافع المغتنمة بعد أن نقش عليه صور المحاربات على الأسلوب المعروف عند الرومان، وبقية الأمم الفاتحة القديمة التي نصبت المسلات والأعمدة والأهرام، وصورت الصور على جدران المعابد والقبور، وعدد الشاعر في هذه المنظومة مظفريات نابوليون ومآثره ومفاخره، وقال: بأن يد قدرته شيدت هذا العمود بالمجد والنحاس، والقصيدة من أبلغ أشعار الحماسة، وقد صدرت من أفصح شاعر في حق أعظم فاتح.
ومن قصائد هذا الديوان المنظومة التي عنوانها «نابوليون الثاني»، ومطلعها: ألف وثمانمائة وإحدى عشرة، وهي السنة التي ولد فيها الممدوح، وهذا المطلع من أساليب الطريقة الرومانية، وليس فيها تعمل ولا تصنع كما في مطلع القصائد المنظومة على نهج الطريق المدرسية، ونابوليون الثاني هو ابن نابوليون الأول وحفيد إمبراطور النامسا ويسمى دوق ريشتاد، وكانت نشأته في فيينا عند أمه، وألف فيه شاعر العصر أدمون روستان رواية بديعة سماها النسير (ليكلون) تصغير نسر، وتمثل في يومنا على المراسح.
وفي هذا الديوان أيضا منظومتان عنوانهما «قناري»، وهو بطل اليونان المتقدم ذكره في ديوان الشرقيات، وكانت ولادته سنة 1792 في جزيرة إبصاره المجاورة لجزيرة ساقز، ووفاته سنة 1877، وكان رئيسا على مركب صغير وبعد استقلال اليونان صار رئيسا للأسطول، وناظرا للبحرية ثم رئيسا للوزارة.
وفيه أيضا قطعة عنوانها «الرجاء بالله»، ومنها يعلم حسن اعتقاد الرجل وإن كان من أهل الحيرة. وهي: ضع يا ولد أملك في الغد، ثم في الغد أيضا، ثم في الغد دائما، ولنعتقد في المستقبل، ضع أملك وكلما طلع الفجر لنكن هناك حاضرين لنستغفر كما أن الله حاضر ليغفر، خطايانا ياحبيبي وملكي هي المسببة لآلامنا، فلعلنا إذا أطلنا القعود على الركب يغفر الله لنا بعد فراغه من الغفران لجميع المعصومين ولجميع التائبين.
الأصوات الداخلية
نقل المؤلف في مقدمة هذا الديوان عن شكسبير أنه قال في بعض مؤلفاته: بأن كل إنسان في داخله موسيقة فتبا لمن لا يسمعها، وأورد في هذا الديوان اثنتين وثلاثين قصيدة غراء، ومن أبلغها قصيدة «البقرة»، صور فيها قرية بما حولها من الدجاج والكلاب، ينبح هؤلاء والناس نيام، وتصرخ أولئك عند طلوع الفجر، فالديوك حراس النهار والكلاب حراس الليل، وفي تلك القرية بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين وقفت بكل هيبة ووقار لا تعبأ بالذين حولها، وجاء صبية بشعور مغبرة وأطمار بالية، وأسنان حادة وصحة تامة، وهم في صراخ وجلبة يزاحم بعضهم بعضا، وينادي كل فريق منهم رفاقه، واغتنموا فرصة غياب اللبان، وانقضوا على البقرة يعصرون ثديها بأصابعهم، ويلتهمون حلماتها الكثيرة بأفواههم ويمتصون حليبها، وهم متكأكئون حول أحشائها وهي غير مكترثة بما يفعلون، وشاخصة ببصرها تنظر إلى بعض النقاط حولها.
فمثل هذه البقرة كمثل الدنيا أم المخلوقات وملجأهم الوحيد يلتقطون العشب واللبن من تحت أحشائها الأبدية، قال المؤلف: فنحن معشر العلماء والشعراء تعلقنا بثديك المتين أيتها الطبيعة وارتوينا بما أدره علينا، فكان لبنك دما وروحا لنا، واستفدنا من نورك وحرارتك وأوراق شجرك ومن جميع ما عليك من الجبال الراسية والأنهار الجارية، والمروج الخضراء والسماء الزرقاء، وأنت تفكرين بربك ولا تنزعجين منا.
فبقرة فيكتور هوكو أشبه بأم دفر المعري حيث قال:
دنياك تكنى بأم دفر
لم يكنها الناس أم طيب
والدفر هو النتن والتعفن، ولا تخفى مناسبته في تكوين الحيوان والنبات، ولكن بقرة فيكتور هوكو تدر على أبنائها بلبن سائغ للشاربين، والمعري:
يحلف ما جادت الليالي
إلا بسم لنا قطيب
والقطيب الممزوج.
الأشعة والظلال
افتتح هذا الديوان بمقالة أدبية نثرية قال فيها:
كتب شاعر عن جنة عدن الضائعة، وكتب شاعر آخر عن النار، فالدنيا بين الجنة والنار، والحياة بين البداية والنهاية، والإنسان بين أول إنسان وآخر إنسان، فالإنسان موجود باعتبارين أحدهما بالنظر للجمعية، والثاني بالنظر للطبيعة، ووضع الله الشهوة في الإنسان، ووضعت الجمعية فيه العمل، ووضعت الطبيعة فيه الخيال، فمن الشهوة الممزوجة بالعمل؛ أي من الحياة في الحاضر ومن التاريخ في الماضي تولد «الدرام»،
46
ومن الشهوة الممزوجة بالخيال تولد الشعر بمعناه الأصلي، فإذا نزل توصيف الماضي إلى التفصيلات العلمية، وإذا نزل توصيف الحياة إلى التشريحات الدقيقة صار الدرام رومانا، فالرومان ما هو إلا درام مفصل تارة بالفكر، وتارة بالقلب تفصيلا لا يليق بالتمثيل على المراسح، وعدا هذا فالشعر فيه درام، والدرام فيه شعر، فالدرام والشعر ينفذ كل منهما في الآخر كما تنفذ الحواس في الإنسان، أو كما ينفذ النور في الأجسام، والعمل فيه أحيانا خيال، مثال ذلك ما قاله السيد في الرواية التي ألفها قورنيل: «هذا النور المظلم الذي يهبط من النجوم.»
لا أحد في هذا الكون يتخلص من السماء الزرقاء والشجر الأخضر، والليل المظلم والرياح العاصفة والطيور المغردة، وليس من مخلوق يقدر على التجرد من الخليقة - على حد قول المعري: أأخرج من تحت هذي السماء، فكيف الأباق وأين المفر - ومن جهة أخرى الخيال فيه أحيانا عمل ... لأن الواحد يتمم الآخر والشيء يكمل بعضه البعض، فالجمعية تقوم في الطبيعة والطبيعة تظرف الجمعية.
فالشاعر تنظر إحدى عينيه للإنسانية والأخرى للطبيعة، والعين الأولى تسمى الملاحظة، والأخرى تسمى التصور، فمن هاتين العينين الشاخصتين في موضوعهما يتولد في مخ الشاعر إلهام يقال له: القريحة ... إلخ.
ثم افتتح المؤلف هذا الديوان بقصيدة عنوانها «وظيفة الشاعر»، وكان تكلم على هذه الوظيفة في مقدمة الديوان الأول، وقال: ينبغي للشاعر أن يكون للأمة نورا يسعى بين يديها، ويريها طريق الصواب، ويقودها إلى المبادئ الحسنة، وهي الانتظام والشرف ومكارم الأخلاق؛ ولتكون سلطة الشاعر هينة على الأمة يلزم أن يهتز بين أصابعه جميع ألياف القلب الإنساني كما تهتز أوتار العود، ويلزم أن لا يكون كلام الشاعر صدى لكلام أحد سوى كلام الله تعالى، وينبغي للشاعر أن يذكر الأمة بأن لها دينا وأن لها وطنا، وهذا ما أغفل ذكره المتقدمون، وأن ينشر دائما بأشعاره ما يكون لبلاده من الإقبال والإدبار، وما في دينه من الزهد والاستغراق في الحب حتى ينال المتقدمون عليه والمعاصرون له شيئا من قريحته ومن روحه وحتى لا يقول عنه من يأتي بعده في المستقبل بأنه كان ينشد أشعاره بين قوم جاهلين.
وبين فيكتور هوكو في القصيدة التي عنوانها وظيفة الشاعر أفكاره، وشرحها أحسن شرح وشبه الطبيعة بعود كبير وشبه الشاعر بريشة إلهية يضرب بها على أوتار هذا العود، فالشاعر يلهم الشعر وهو يسبح بين غياض الأشجار، وعلى سواحل البحار ويسمع هدير الماء، وتلاعب النسيم بالأوراق.
وقال في آخر القصيدة الرابعة: انشر أيها الشاعر نشيدك الديني بين العائلات وبين الصبيان والبنات وبين الشيوخ، وأرد بإصبعك الساحل للذين سارت بهم السفن في لج البحر والأرياح متغيرة،
47
وأرد للعذارى العصمة وهي كوكب السعد والشرف، وأرد للجمهور المحراب الذي غطاه الكفر، وأرد للشبان المستقبل وللشيوخ الخلود، وصب دليلك في عقول الرجال والنساء، وأرد لكل منهم الصحيح من الجهة المقنعة حتى يجد عندك كل مفكر ما يفتش عليه، أغرس محبة الله في القلوب والق في كل نفس كلمة إلهية من جنس ما تشعر به ... إلخ.
وهذا ما أشار إليه المعري في مقدمة لزومياته، حيث قال: أنشأت أبنية أوراق توخيت فيها صدق الكلمة ونزهتها عن الكذب، فمنها ما هو تمجيد لله وبعضها تذكير للناسين، وتنبيه للرقدة الغافلين وتحذير من الدنيا الكبرى التي عبثت بالأول، واستجيبت فيها دعوة جرول إذ قال لأمه:
جزاك الله شرا من عجوز
ولقاك العقوق من البنينا
فهي لا تسمح لهم بالحقوق وهم يباكرونها بالعقوق ... إلخ.
فهذه صفة الشاعر الذي ينبغي الاقتداء به والنسج على منواله، لا الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وفي كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون حتى صار لهم الكذب خلقا، والتملق للأمراء سجية استجداء لمعروفهم وطلبا لإحسانهم.
وأرق ما في هذا الديوان المنظومة التي عنوانها «حزن أوليمبيو» كني بهذا الاسم عن نفسه، وقايس فيها بين جلال الطبيعة وجمالها، وبين قلة حظ الإنسان وقصر أيام سعادته وليالي أنسه، وانقضاء شهواته وفناء لذاته؛ إذ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الحلال والإكرام، قال فيكتور هوكو في آخر هذه القصيدة: يقرضنا الله المروج النضرة، والعيون الجارية، والأشجار الملتفة، والصخور الوعرة، والسموات الزرق، والبحيرات، والغدران، والسهول لنضع فيها قلوبنا وأمانينا وأشواقنا، وهذا القرض لأجل مسمى، ثم يسترد جميع ذلك منا ويطفئ سراجنا، ويغمس في الليل المغارة التي كنا مستنيرين ونحن فيها، ويقول للوادي الذي انطبعت عليه روحنا أن يمحى أثرنا وينسى ذكرنا، فلا حيلة، انسينا أيتها الدار والبستان والظل والخضرة، وابلي بأعتابنا، واخف بالشوك أثر أقدامنا وغردي يا طيور، واجري يا أنهار وانمي يا أوراق، فإن الذين نسيتموهم لا ينسونكم أبدا ... إلخ. وهي طويلة محزنة، وفي هذا المعنى أو ما يقاربه قصيدة المعري التي يقول فيها:
للمليك المذكرات عبيد
وكذاك المؤنثات إماء
فالهلال المنيف والبدر والفر
قد والصبح والثرى والماء
والثريا والشمس والنار والنثر
ة
48
والأرض والضحى والسماء
هذه كلها لربك ما عا
بك في قول ذلك الحكماء
خلني يا أخي استغفر الله
فلم يبق في إلا الذماء
ويقال: الكرام قولا وما في العص
ر إلا الشخوص والأسماء
وأحاديث خبرتها غواة
وافترتها للمكسب القدماء
وهي طويلة مدروجة في اللزوميات وكلها حكم، ونفس المعري ونفس فيكتور هوكو يتقاربان، ولكن الأول أعمى والثاني بصير يرى بهجة الطبيعة وزينتها، فيظهر وصفها في شعره، ويزيد فيكتور هوكو على المعري بأنه من أهل عصر جديد بزغت في أفقه شمس الحرية والمدنية، واتسع فيه نطاق العلوم، وأفانين الصناعات، فارتفعت مدارك الشاعر.
ويشبهون قصيدة «حزن أوليمبيو»
49
بقصيدة البحيرة التي نظمها الشاعر الشهير لامارتين، وترجمها للسان العثماني سعد الله باشا سفير الدولة العلية في ويانة وباريس سابقا. ورأيت في كتاب فرنساوي نشر حديثا بأن أحمد بك شوقي شاعر الحضرة الخديوية ترجم قصيدة لامارتين المذكورة للعربية، ومؤلف هذا الكتاب الفرنساوي فرديناند دي مرتينو وعبد الخالق بك ثروت، وعنوانه منتخبات من غزل العرب ترجما فيه من كلام الجاهلية، وأهل الطبقة الإسلامية ومن أقوال المعاصرين أيضا مثل حسن حسني ومحمود باشا سامي البارودي وإسماعيل باشا صبري وحفني بك ناصيف. •••
هذا ما نظمه فيكتور هوكو من الشعر الموسيقي في الدور الأول من حياته، وأما ما نظمه في الدور الثاني؛ أي في منفاه فهو أعلى طبقة وأحسن ديباجة، وأشد تأثيرا وإهاجة وأكثر توقدا وتوهجا؛ لأن قريحته نضجت في شمس الغربة، وهو معتزل عن الناس بتلك الجزيرة، واستبحر فكره بمجاورته المحيط الغربي؛ لأن للجوار حقا، فنظم أحسن مؤلفاته وهي ديوان القصاص وديوان التأملات وديوان سير الدهور، فأبلغ هجاء لفيكتور هوكو ما هجا به نابوليون الثالث في ديوان القصاص، وأفجع رثاء له ما رثى به بنته في ديوان التأملات، وأحسن شعر حماسي له ما ورد في ديوان سير الدهور، كما قرره العارفون بكلامه.
القصاص
ألف فيكتور هوكو ديوان القصاص بعد انقلاب الجمهورية الثانية إلى الحكومة الإمبراطورية، وذلك أن البرنس لويس نابوليون بونابرت ابن لويس بونابرت الذي كان ملكا على هولاندا وأخ نابوليون الأول انتخب رئيسا للجمهورية لأربع سنوات ختامها سنة 1850، فحلف أمام مجلس نواب الأمة، وبحضور فيكتور هوكو الذي كان عضوا فيه على أن لا يبدل القوانين الموضوعة، ولا يخالف أحكام القانون الأساسي، ولا يخون عهد الجمهورية، ثم صارت الأكثرية في المجلس لحزب الأورليانيين، وأرادوا تولية كونت باريس وهو شاب من العائلة الملوكية في فرنسا، وكان يعارضهم حزب الوارثين الذين يقولون بأن حق الوراثة في الملك إنما هي لكونت شامبور، فهو الذي ينبغي توليته على سرير الملك الفرنساوي، فاغتنم رئيس الجمهورية هذه الفرصة؛ وكان حق الوراثة في الإمبراطورية التي أسسها نابوليون الأول منتقلا إليه لوفاة نابوليون الثاني عند أهل أمه في فيينا، وهو الملقب بليكون؛ أي النسير ودوق ريشتاد. وكان لنابوليون الأول شهرة عظيمة واعتبار زائد في نظر أفراد الأمة، فأخذ رجال المعية وحاشية القصر يشوقون ابن أخيه على الاستبداد بالأمر كما يفعل المقربون من أولي الأمر في كل جيل وفي كل أمة، وكما فعلت بطانة هارون الرشيد ودسوا للمغنيين الشعر المهيج، واحتالوا على سماعه للخليفة تحريضا له على البرامكة، ومن هذا الشعر قولهم:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
فلما سمعها الرشيد قال: إي والله، إني عاجز حتى بعثوا إلي بأمثال هذا، وهكذا كانت بطانة البرنس بونابرت رئيس الجمهورية يغرونه على الاستبداد، ونكث العهد وقلب الحكومة.
ففي 2 ديسمبر سنة 1851؛ أي قبل حلول الأجل المضروب لانتهاء رئاسته نكث الأيمان الذي حلفها وغير القانون الأساسي الذي تعهد برعاية أحكامه وعدم تغيير مضمونه، وبدله بقانون أساسي آخر يخوله حق البقاء في رئاسة الجمهورية عشر سنين، ثم أبدله أيضا بقانون أساسي ثالث أعلن به الحكومة الإمبراطورية بدل الحكومة الجمهورية، وصدقت الأمة على هذين القانونين، وكان عدد أصوات المصدقين يزيد على 7 ملايين صوت، فأعلن لويس نابوليون إمبراطور على فرنسا، وتلقب بنابوليون الثالث، وشرع في اضطهاد المخالفين لسياسته وتعذيبهم، ففر فيكتور هوكو من بطشه وبعث يقول له بما معناه:
وحلفت أنك لا تميل مع الهوى
أين اليمين وأين ما عاهدتني
فأجاب لسان الحال عن نابوليون الثالث:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
وخرج مشير القصر الإمبراطوري يجول بالعساكر في شوارع باريس، ويقول بما معناه:
إن المعالي عروس غير وامقة
ما لم تخلق ردايها برشح دم
وكان أول هذا الملك من رجل
سعى إلى أن دعوه سيد الأمم
فهذا الرجل هو نابوليون الأول الذي لا يختلف في شجاعته ومهارته اثنان؛ ولكن عساكر الإمبراطورية الثانية لم تظهر البسالة على قول فيكتور هوكو إلا في طرق باريس وميادينها بقتل أحرار الرجال، بل النساء والأطفال ونفيهم من الأرض، وتغريبهم على الجواري المنشآت في البحر، ولما انتشبت الحرب بينهم وبين جيرانهم ولوا مدبرين؛ ولذا كان يقول لهم الشاعر متهكما: «أسد علي وفي الحروب نعامة». على أنا نحن معشر العثمانيين لا ننكر بسالة عساكر الإمبراطورية، ولا شجاعة ماقمهون حينما صعد على قلعة مالاكوف في مدينة سباستابول من شبه جزيرة القرم فقيل له بأن الروس وضعت تحت البرج بارودا لتطيره، فأجاب «أنا هنا واقعد هنا»، فذهبت مثلا وكان ذلك في الحرب التي حدثت بين الدولة العلية والروسيا سنة 1855، وكانت فرنسا وإنكلترة متفقتين مع العثمانيين.
يشتمل ديوان القصاص على نحو مائة منظومة تفجرت منها سهام السخط والغضب، وتساقطت كالرجوم والشهب على نابوليون الثالث، وعلى أشياعه وأحزابه ولم يدع منهم أحدا إلا وعرض به، ورماه بنبال هجوه فندد بأعضاء «مجلس المبعوثان»
50
و«مجلس الأعيان» لتصديقهم على لائحة القانون الأساسي للحكومة الإمبراطورية، وبالذين نفذوا هذا القانون من الوزراء وأمراء العسكر، وسائر رجال الدولة والمعية، وبالذين تملقوا لرجال القصر الإمبراطوري، وقبلوا أعتابهم جرا لمغنم أو دفعا لمغرم، وبالحكام الذين راعوا خواطرهم في الأحكام، وحكموا على أحرار الرجال بل والنساء بالحبس والنفي والإعدام، وبالأقسة والرهبان الذين دعوا في كنائسهم بتأييد عز الدولة الإمبراطورية، وسلق الجميع بألسنة حداد، وكلما ذكر سيئة أو رذيلة لنابوليون الثالث قارنها بحسنة أو فضيلة من حسنات نابوليون الأول وفضائله؛ ولذا لقب الأول بالكبير والثالث بالصغير فورد في أشعاره كثير مما يسميه أدباؤنا في فن البديع بالطباق، وهو الجمع بين متضادين سيما في الهجوية التي عنوانها الاستغفار، أو تكفير السيئات فإنه جعلهما فيه على طرفي نقيض، فأهاجي ديوان القصاص تتخللها أشعار المدح والحماسة.
وفي هذا الديوان أيضا «رثاء في الذين قتلوا في حادثة 4 ديسمبر»، وتحانين الذين أخرجوا من ديارهم ونفوا بعيدين عنها، وأناشيد «الذين سفروا على البحر ووصف حالة أولئك المصابين والمحكومين والمنفيين، وحنينهم إلى أوطانهم وشوقهم لمن تركوه فيها من الأرامل والأيتام ومن الأخوات والبنات، أو الآباء والأمهات اللواتي يبكين عليهم بكاء الخنساء على أخيها مما تنفطر له القلوب، وتتفتت الأكباد لا سيما من قرأ شعره وهو يتألم بلدغة الاستبداد».
فمما ورد في هذا الديوان من بدائع المعاني القصيدة الثالثة من الفصل الثاني، وعنوانها «تذكار ليلة 4»، وهي الليلة الثانية من جلوس نابوليون على تخت الإمبراطورية، نظمها الشاعر ليلة عيد الجلوس سنة 1852، وصور فيها ما شاهده في تلك الليلة وجسم الحادثة بكيفية بديعة، ومضمونها أن صبيا يتيما حسن الصورة حسن الأخلاق كان يلعب مع الصبيان أمام دارهم فأصابته رصاصتان من بنادق عسكر الإمبراطورية ، وهم يتجولون في شوارع باريس لإرهاب الناس وتسكينهم؟ ولم يكن لهذا الصبي المقتول إلا جد وجدة طاعنان في السن ليس لهما وارث سواه، فأدخلته جدته الدار والدم يسيل من جراحاته ومات بين يديها، فأخذت تنوح وتلطم وتقول: وا سوأتاه! وا حسرتاه! كيف أعيش بعدك يا ولدي ومهجة كبدي، لم تخلف لي أمك سواك، أفهموني أنتم يا حاضرون لماذا قتلوه؟ أريد أن تعرفوني السبب، الصبي لم يصرخ لتحي الجمهورية.
قال الشاعر: أما نحن فكنا واقفين صامتين مدهوشين وفرائصنا ترتعد أمام هذا المأتم الذي لا عزاء له ... إلى أن قال لها مخاطبا: أيتها الجدة إنك لا تفهمين السياسة أبدا، الموسيو نابوليون - وهذا اسمه الصحيح - فقير بل وأمير أيضا (برنس)، يحب القصور ويقتضي أن يكون له خيل وخدم، ونقود للعب القمار ولسفرة الطعام ولخزائن الملبوسات وللخروج للصيد، وبهذه الوسيلة يخلص العائلة والكنيسة والجمعية، ويريد أن يكون قصر سن كلو مملوءا بالورد طول الصيف لتأتي إليه ولاة البلاد وأعيانها ويسجدوا له، فهذا هو السبب الذي أوجب الجدات العجائز أن يخطن بأصابعهن المرتجفة من الهرم أكفان صبيان لم يتجاوزوا من العمر سبع سنين.
والقصيدة السادسة من الفصل الثالث عنوانها «الشرقية» قال فيها :
لما رأى عبد القادر وهو في سجنه قد دخل عليه ذاك الرجل الضيق العينان، الذي يسميه التاريخ نابوليون الثالث قال مزدريا: من يكون هذا الرجل؟ رأى وهو في نافذته رجل قصر الإيليزة الأحول يمشي وخلفه قطيع كالغنم في خدمته، أما هو فكان أسد الصحراء والسلطان الذي ولد تحت أشجار النخيل، وصاحب السباع الكاسرة، فهو الحاج النافر وعيناه هاديتان، والأمير المفكر الشديد الرحيم، وهو رجل عابس متشائم وشبح أصفر في برنس أبيض، وثب وهو خمران بمداومة الحرب ثم وقع في الظل على الركب، وهو الذي يصلي على قارعة الطريق، ويجلس في الخباء المرفوع الأطناب ويري النجوم يديه المصبوغتين بدم الإنسان وهو ساكن الجأش، وهو الذي يسقي السيوف ويجلس على الرءوس المقطوعة مفكرا في بديع خلق السموات، فلما رأى لحظ هذا الرجل الخائن المحتال وجبهته المظلمة من الخجل أحجم عنه هو العسكري الجميل، والشيخ المهيب الجليل ونفر من شاربي ذاك الشنيع.
51
فقيل له: انظر أيها الأمير بلطاة العساكر وهي مارة، فهذا الرجل هو قيصر الحرامي، اسمع هذه الشكايات المرة وهذا الصراخ المتعال، فهذا الرجل الذي لعنته الأمهات ولعنته الزوجات؛ لأنه رملهن وكسر قلوبهن، وأخذ فرنسا وقتلها وهو الآن يلغ في دمها، فحينئذ سلم عليه الحاج عبد القادر، ولكنه في الباطن احتقر هذا الدني الدموي. فهذا النمر الأشم الأنف شم ذاك الذئب وهو مستخف به ا.ه.
نظم فيكتور هوكو هذه الهجوية، وهو في جزيرة جرسي في نوفمبر سنة 1852، وكان الإمبراطور نابوليون بعد جلوسه يذهب للاصطياف في مدينة بو التي هي من أجمل المدن الفرنساوية على حدود جبال البيرينة، وفي مدينة بياريس التي على ساحل المحيط الغربي بالقرب من الحدود الإسبانية، فزار في إحدى سفراته الأمير عبد القادر الجزائري ولطفه وأطلق سراحه.
فإن هذا الأمير الخطير بعد أن ثبت أمام الفرنساويين 15سنة، وأظهر من البسالة والدراية في الحرب ما لا مزيد عليه اضطر سنة 1264 على تسليم نفسه، فسيره الدوق دومال والي الجزائر في ذلك الحين إلى فرنسا، فأنزل في قصر لا مانع من مدينة طولون، ثم نقل منه إلى قصر مدينة بو ويسمى قصر هنري الرابع، وهو من أحسن القصور بناء وزينة، ولم يزل السائح يشاهد فيه الدائرة التي سكنها الأمير عبد القادر سنة 1848م، ثم نقل منه إلى قصر إمبواز وهو بالقرب من مدينة تور، التي انتهت إليها فتوحات العرب في أوائل القرن الثاني من الهجرة، وفي سنة 1269ه حضر الأمير عبد القادر للأستانة، ونال التفات السلطان عبد المجيد وذهب يقيم في مدينة بروسه، ولما حصلت فيها الزلازل ارتحل عنها إلى دمشق سنة 1272ه، وتوفي سنة 1300ه في قصره الذي بقرية دامر فنقل نعشه إلى الصالحية، ودفن بتربة محيي الدين بن العربي - رحمهم الله جميعا - والأمير عبد القادر هو رب السيف والقلم، وله تآليف معتبرة مطبوعة وترجم إحداها للفرنساوية الموسيو دوغا، وكان الأمير عضوا فخريا في الجمعية العلمية الفرنساوية.
ومما في هذا الديوان من الأهاجي والمناجات البليغة المنظومة الثالثة من الفصل السادس، وعنوانها «دعاء المغربين»، وفيها توسلات إلهية ومخاطبات لحمام الوادي، ونسيم الصبا كأنها مترجمة عن العربية قال فيها:
يا الله يا كبير إليك ترتفع أكفنا، ونحوك تشخص أبصارنا، اللهم إن هؤلاء المكبلين بالحديد وعبراتهم تسيل على الخدود لهم أشد الممتحنين بلاء، مع أنهم أصلح الناس حالا، أيتها الطيور المارة إن هناك منازلنا، أيتها الرياح الجارية إن هناك أخواتنا وأمهاتنا يبكين ليلا نهارا، بلغيهم يا طير بؤسنا، واحمل إليهم يا نسيم الصبا أشواقنا، وأنت يا الله نرسل إليك فكرنا، ونسألك أن تنسى هؤلاء المحكوم عليهم بالقتل ظلما، ولكن أن تجعل مجدهم لفرنسا المهانة، وأن تتركنا نحن المظلومين نموت في هذا العذاب الأليم ... إلخ.
وهذا يذكرنا بقول ابن المعتز حينما أخد ليقتل:
يا نفس صبرا لعل الخير عقباك
خانتك من بعد طول الأمن دنياك
مرت بنا سحرا طير فقلت لها:
طوباك يا ليتني إياك طوباك
إن كان قصدك شوقا بالسلام على
شاطئ الفرات أبلغي إن كان مثواك
من موثق بالمنايا لا فكاك له
يبكي الدماء على إلف له باكي
ولا أدري إن كان لها بقية أم لا، ولكن الغالب في الشعر العربي أن يعلو به النفس، ثم ينقطع قبل أن يشفى غليل النفس بذكر الوسط الذي يقوم فيه الشاعر وشرحه وتوصيفه بجميع ما فيه، كما يفعل شعراء الإفرنج، نعم إن شعراء الجاهلية ومن نسج على منوالهم شرحوا أوصاف الفرس أو الناقة مثلا، وأطنبوا في ذلك، ولم يتركوا عضوا ولا حركة ولا هيئة إلا ذكروها، وتخيلوا فيها ولكنهم مع ذلك حصروا نظرهم في نقطة واحدة، ولم يلتفتوا يمينا وشمالا إلى ما حولهم من مناظر الطبيعة وبدائع المخلوقات.
وابن المعتز أشعر بني هاشم وهو ابن الخليفة العباسي المعتز بالله بن المتوكل، ويسمى خليفة يوم؛ لأنه ولي الخلافة يوما واحدا، ثم خانته الأيام وغدرت به السياسة فسلم لمؤنس الخادم فقتله. وتشبيهات ابن المعتز وأشعاره مشهورة ومن مؤلفاته كتاب الزهر والرياض، كتاب البديع، كتاب مكاتبات الإخوان بالشعر، كتاب الجوارح والعين، كتاب السرقات، كتاب أشعار الملوك، كتاب الآداب، كتاب حلي الأخبار، طبقات الشعراء، كتاب الجامع في الغناء، أرجوزة ذم الصبوح، ومن قوله:
سقى الحظيرة ذات الظل والشجر
ودير عبدون هطال من المطر
فطالما نبهتني للصبوح بها
في غرة الفجر والعصفور لم يطر
ومن كلامه البديع قوله: أنفاس الحي خطاه إلى أجله. وكان مستجمعا للكمالات الإنسانية، وقيل في رثاه:
ما فيه لولا ولا ليت فتنقصه
وإنما أدركته حرفة الأدب
قرأ على المبرد وثعلب، وتاريخ ولادته (247-296ه).
والفصل السابع من هذا الديوان هجوية عنوانها «هاتين قدوركن يا ساحرات شكسبير» إشارة إلى رواية ماقبت التي ألفها شكسبير وما فيها من خبر الساحرات اللواتي يطبخن السحر في القدور، ويفتحن للنساء الفال، فقال فيكتور هوكو: هاتين قدوركن يا ساحرات شكسبير، وخذن عني يا ساحرات ماقبت كل الإمبراطورية من قديمة وحديثة، وضعن في كانون واحد برجه السمين والكونت فروشو، وفلان وفلان ... وعددا كثيرا من رجال نابوليون إلى أن قال: واحنين رءوسكن وانفشن شعوركن وحملقن عيونكن، واكشفن نحوركن وانفخن بملء رآتكن على النار التي تحت القرعة، وانظرن؛ فإن الصغير يخرج من الكبير، وصيرن باروش وطالبران بخارا، وكذا ابن الأخ الذي يهبط بينما أن العم يعلو، فما الذي بقي في قعر الإنبيق؟ العار.
فكان فيكتور هوكو وهو في جزيرة جرسي كلما سمع بنفي المتهمين بالسياسة لبلاد الجزائر أو لأميركا؛ يفور غضبه، ويشتد غيظه، ويهدر كهدير البحر. وشبه السفن التي تحمل المنفيين بالبوم التي تنادي على خراب البلاد بإبعاد نخبة الشبان الأحرار منها، ولكنه مع ذلك لم ينقطع رجاه ولا خابت أمانيه، بل كلما نظر في المستقبل لاح له قبس الفلاح ولمع في عينيه نور الصباح، وراقت أشعاره وصفا كلامه؛ ولذا شبهوه بالبحر الذي يهيج تارة ويسكن أخرى، وله في البحر تشابيه واستعارات لم يسبق إليها.
وقال في خاتمة هذا الديوان بأنه سوف ينبلج صبح العدل، ويزهق ليل الباطل إن الباطل كان زهوقا، وأنذر باستيقاظ الأمة من رقدة الغفلة، ومجازاتها الظالمين المستبدين المجرمين، إن المجرمين في ضلال وسعر.
إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ، ولو اطلع السيد عبد الله نديم على ديوان القصاص لما حرر كتاب المسامير.
ديوان التأملات
وعرف هذا الديوان بتسميته أيضا «سانحات الفكر»، ولخص فيه أعمال ربع قرن من حياته، وما شعر به من فرح وترح، وقال في مقدمته: بأنه تاريخ حظ من الحظوظ البشرية في شقائه وسعادته، أو هو ديوان الحياة الإنسانية منذ خرجت من معمي المهد إلى أن نزلت في معمي اللحد، وأبواب هذا الكتاب هي: الفجر، النفس الزاهرة، التنازع والأماني، في المسير، على ساحل اللامتناهي، ومنها يفهم فكر الشاعر في ترتيب المنازل التي يقطعها المسافر في طريق الحياة، وأجاد في وصف المناظر الطبيعية وتصوير وجوه الأرض على حد قول أبي تمام:
يا صاحبي تقصيا نظريكما
تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارا مشمسا قد زانه
زهر الربا فكأنما هو مقمر
ومن ذلك أيضا قول القاضي عياض وقد تولى قضاء سبتة وغرناطة:
انظر إلى الزرع وخاماته
تحكي وقد ماست أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة
شقائق النعمان فيها جراح
وأبدع ما في هذا الديوان الرثاء الذي رثى بنته حينما أنشبت فيها المنية أظفارها ، وهي في ريعان الشباب وأشهر العرس، وأتى بالبدائع والعجائب في وصف قلب الوالد على ولده، وما يكابده بسبب موته من آلام الحياة وعذابها، ولعله تابع في النظم شعوره وإحساسه، فجعل أول المراثي تفجعا وبكاء، ثم ارتفع صوته بالنحيب والعويل، ثم زاد ألم الرزيئة عليه، وكبرت المصيبة في عينيه فصار يهدر كما يهدر المجنون، ولا يعي ما يقول فطورا يقاتل القضاء، وتارة يلعن القدر وانقطع من الدنيا وزال رجاؤه بالآخرة، ويئس من هذه الحياة الفانية.
ثم برد قلبه شيئا فشيئا، وهدأ باله رويدا رويدا، فصار يندب ميته ويعدد محاسنها، ويتذكر زمان طفوليتها وشبابها وعرسها، وكل ذاكرة منه تسيل من عينيه عبرة، وتودع في قلبه حسرة، ولم ير له ملجأ إلا في تسليم الأمر لله والرضاء بما قدره وقضاه فصبر على البلاء، ورجع بانكسار وتزلل إلى الله، وانكب على أعتاب مراحمه كأنه عمل بنصيحة الشيخ محمد عليش حيث قال:
الزم باب ربك واترك كل دون
واسئله السلامة من دار الفتون
لا يضيق صدرك فالحادث يهون
الله المقدر والعالم شئون
لا تكثر همك ما قدر يكون
نحن والخلائق كلنا عبيد
والإله فينا يفعل ما يريد
همك واغتمامك ويحك لا يفيد
القضا تحكم فالزم السكون
لا تكثر همك ما قدر يكون
ومنها أيضا:
مولاك المهيمن إنه يراك
فوض له أمورك وأحسن في الظنون
ومنها:
الرضا فريضة والسخط حرام
والقنوع راحة والطمع جنون
وأفجع رثاء وأحسن توسل لفيكتور هوكو ما جاء في المرثية التي عنوانها «إلى فيلكيه»، وهي المدينة التي غرقت بقربها ليوبولدين، وهي تتنزه مع زوجها في زورق على نهر السين، وقد أتينا على ترجمتها بالحرف بيانا لأسلوبه في التفجع والرثاء، قال فيكتور هوكو وكان خرج من باريس، وذهب إلى جبال البيرينة وسواحل المحيط الغربي:
إلى فليكيه
الآن باريس وطرقها وجدرانها وضبابها وسطوحها بعيدة عن عيني، الآن أنا تحت غصون الأيك وأستطيع التفكر في حسن السموات، الآن خرجت مصفرا من المأتم الذي أظلمت منه روحي، وشعرت بأن سلام الطبيعة الكبرى دخل قلبي.
الآن استطعت أن أجلس على شاطئ البحر متأثرا من هذا الأفق اللطيف الهادي، وأن أفحص في ضميري عن الحقائق الغامضة، وأن أنظر إلى الأزهار وهي في الحدائق.
الآن يا ربي، حصلت لي سكينة محزنة أستطيع بسببها أن أرى بعيني رأسي الحجر، الذي أعرف أنها نامت في الظل تحته نومة أبدية.
الآن قد رقت عواطفي بهذه المناظر الإلهية ما بين سهول وغابات، وصخور وأودية ونهر كالفضة.
ولما رأيت عجزي، ورأيت معجزاتك رجع لي عقلي أمام جلالك، فجئت إليك يا الله يا من يجب علينا الإيمان به، وأحضرت لك قطع هذا القلب الذي كسرته وهو مملوء بحمدك.
جئت إليك يا الله، معترف بأنك رءوف رحيم حليم وبأنك إله حي. وأقر بأنك وحدك تعلم ما تصنعه، وبأن الإنسان ما هو إلا ريشة في مهب الريح.
أقول: بأن القبر الذي ينغلق على الأموات يفتح الفلك الأعلى، وأن ما نحسبه في هذه الدنيا نهاية هو البداية.
أقر أيها الإله العظيم وأنا راكع بأنك وحدك مالك لما هو حقيقي، مطلق، لا نهاية له، أقر بأن انجراح قلبي هو خير وهو عدل؛ لأن الله أراد ذلك.
لا أعترض أصلا على جميع ما أصابني بإرادتك، فالنفس تتدحرج في الأبدية من مأتم لمأتم والإنسان يتدحرج من ساحل لساحل.
لا نرى من الأشياء إلا طرفا واحدا والطرف الآخر غاطس في سر ليل مرعب. فالإنسان يتحمل الأذى بدون أن يطلع على الأسباب، وجميع ما يراه قصير، زائل، لا فائدة فيه.
أنت تلقي الإنسان دائما في طريق الشك، ولم ترد أن يكون له على هذه الأرض يقين ولا سرور.
لا يملك الإنسان خيرا إلا ويسترده القدر منه، فهو لم يعط شيئا في أيامه السريعة الزوال؛ ليتمكن أن يتخذ له مسكنا، ويقول: هنا بيتي وأرضي وأحبائي. جميع ما تراه عيناه ينبغي أن يراه في مدة قليلة، ثم يهرم وتخور قواه، فما دامت هذه الأشياء واقعة وأنا أقر بأنها حدثت كما يلزم أن تحدث.
52
يا الله! العالم مظلم، والحانة التي لا تتغير مؤلفة من البكاء ومن الغناء أيضا، والإنسان ما هو إلا ذرة في هذا الظلام الغير المتناهي، فهذا ليل يصعد فيه الأبرار ويهبط الأشرار. أعرف بأن لك يا الله أشياء أخرى كثيرة تشتغل بها عوضا عن أن تشفق علينا جميعا، وبأن الولد الذي يموت ويخلف الحزن لأمه لا يضرك منه شيء.
أعرف بأن الثمر يسقط من الريح الذي يهزه، وبأن الطير يفقد ريشه والزهر يفقد رائحته، وبأن الخليقة دولاب كبير لا يمكنه أن يدور بدون أن يسحق أحدا.
الشهور، والأيام، وأمواج البحر، والعيون الذارفة بالبكاء تمر جميعا تحت السماء الأزرق. أعرف يا ربي أنه يلزم للعشب أن ينبت وللأولاد أن يموتوا، لعلك في سمواتك ما وراء طبقة الغيم، وفي أعماق هذه الزرقة النائمة التي لا تتحرك تصنع أشياء مجهولة يدخل فيها ألم الإنسان كأنه عنصر من عناصرها.
لعل هلاك الأشخاص الملاح بتيار المصائب فيه فائدة لمقاصدك التي لا تحصى، طوالع نحوسنا تسير تحت نواميس واسعة لا يغيرها شيء، ولا يرقق عواطفها شيء، وليس في الإمكان أن تأتي المراحم الإلهية فجأة وتغير ناموس العالم.
أتوسل إليك يا الله بأن تنظر لنفسي، وتعتبر بأني أتيت لعبادتك خاضعا خضوع الصبي ولينا لين المرأة.
واعتبر أيضا بأني منذ طلوع الفجر اشتغلت، وقاتلت، وافتكرت، وسعيت، وجادلت وأنا أفسر الطبيعة للناس الذين يجهلونها، وأنير كل شيء بنورك، وأني عملت الواجب علي في هذه الدنيا وأنا أقتحم المهالك والمخاطر، ولا يمكني أن أنتظر هذا الجزاء ولا أقدر أن أتأمل بأنك أنت أيضا تنزل يد بطشك على رأس المنحني، وبأنك أنت الذي ترى قلة حظي تأخذ أيضا ولدي على عجل، وأعتبر بأن النفس التي أصيبت بمثل هذه المصيبة هي مدفوعة على الشكوى، وبأني اجترأت على سبك وعلى رفع صوتي عليك كالولد الذي يرمي البحر بحجر، اعتبر يا ربي بأن المرء قد يشك في الله حينما يشتد عليه الألم، وأن العين التي تبكي كثيرا تعمى في النهاية، وأن الشخص الذي يلقيه مأتمه في أظلم هاوية لا يمكنه أن يضرع إليك وهو لا يراك.
اليوم وأنا ضعيف القلب كالوالدة أنحني على أعتابك تحت سمواتك المنكشفة، وأشعر في مرارة ألمي بأني استنرت بنظرة وقعت مني على العالم.
يا ربي، أنا أعترف بأن الإنسان إذا جسر على الشكوى منك فهو في حالة الجنون، فها أنا تركت الشكوى وتركت السب، فدعني أبكي، وا حسرتاه! دع الدموع تجري في جفوني؛ لأنك خلقت البشر لذلك، دعني أنحني على هذا الحجر البارد، وأقول لولدي: أتشعرين بأني هنا؟
دعني أكلمها في المساء حينما يسكن كل شيء وأنا منحن على ما بقي من جسدها، وهي كأنها ملك ينصت لي وكأنها تفتح في الليل عينيها السماويتين.
وا حسرتاه! لم يبق في الدنيا شيء يسليني، فالتفت نحو الماضي بعين الاشتياق، ونظرت إلى تلك اللحظة من حياتي فرأيتها تفتح جناحيها وتطير، وسأرى تلك اللحظة حتى مماتي، تلك اللحظة التي فاضت فيها دموعي وصرخت قائلا: ماذا إذن الولد الذي كان لي الآن فقدته بالكلية!
لا تغضب علي يا ربي إن قلت هذا؛ لأن جرحي سال دمه زمانا طويلا والضيق في نفسي لم يزل شديدا، وقلبي وإن خضع لكنه لم يسلم ولم يرض.
لا تغضب يا ربي! حيث يصعب علينا أن نخرج نفسنا من هذه الأكدار العظيمة، أنت يا ربي أعلم بأن أولادنا لازمون لنا، إذا رأى الإنسان ذات يوم في حياته وهو بين أكداره وأتعابه وفقره، والبلاء الذي رمته به أقداره قد ولد له ولد جميل ضاحك بشوش يخال أنه رأى باب السموات فتح له، فإذا رأى مدة سبع عشرة سنة ولده الذي هو قطعة من جسده يكبر وينمو ويعقل، وإذا عرف أن هذا الولد الذي يحبه هو نور في قلوبنا وضياء في بيوتنا، وأنه هو السرور الوحيد الذي لنا من جميع ما نتمناه في هذه الدنيا، فلا يخفى عليك يا ربي أنه إذا فقد منا يكون حزننا عليه عظيما ا.ه. فيلكيه في 4 سبتمبر سنة 1847.
وبعد أن طال رثاء فيكتور هوكو وندبه حصلت له ألفة بالموت واعتاد عليه، فانحنى على القبر كأنه يريد انتزاع السر المكنون فيه ونظم قصائده التي عنوانها «كلام على الكثيب» و«وقفة في المسير» و«ما هو الموت»، ولكن لم يتيسر له رفع الستر عن القبر ولا إزالة الحجاب عن هذا الباب، وأكثر في كلامه من توحيد الله وذكر الآخرة وخلود النفس.
ومن القصائد المشهورة في رثاء الأولاد القصيدة العينية، التي نظمها أبو ذؤيب الهذلي المتوفى سنة 27 للهجرة، وكان مات له في سنة واحدة خمسة أولاد في الطاعون الذي حدث بمصر، ومطلع قصيدته:
أمن المنون وريبه تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع
ومنها:
أودى بني فأعقبوني حسرة
عند الرقاد وعبرة لا تقلع
فالعين بعدهم كأن حداقها
كحلت بشوك فهي عور تدمع
وفي أشعار فيكتور هوكو ما يحاكي كلام أم حكيم زوجة عبيد الله بن عباس والي اليمن من قبل علي - رضي الله عنه - حينما أتاهما بشر بن أرطاة قائد عساكر معاوية، وذبح لها ابنين صبيين فلم تملك أمهما نفسها، ولا قدرت أن تقر في مكانها، بل كانت تحوم حوم الطير حول وكر صغارها، وقد ذهب عقلها وفرغ صبرها، فقالت تبكيهما وتولول:
ها من أحس بابني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بابني اللذين هما
قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بابني اللذين هما
مخ العظام فمخي اليوم مردهف
من ذل والهة حيرى مدلهة
على حبيبين ذلا إذ غدا السلف
خبرت بشرا وما صدقت ما زعموا
من إفكهم ومن القول الذي اقترفوا
أنحي علي ودجى ابني مرهفة
مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
ومثل ذلك مراثي شواعر العرب وجمع كلامهن أحد أفاضل العلماء ونشره في بيروت، وسيدة شواعر العرب الخنساء القائلة:
أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل
ألا تبكيان الفتى السيدا
ومن شواعر العرب برة بنت عبد المطلب جد النبي - عليه السلام - قالت في وفاة أبيها:
أعيني جودا بدمع درر
على طيب الخيم والمعتصر
على ما جد الجد واري الزناد
جميل المحيا عظيم الخطر
والبكاء على الأموات وندبهم من عادة نساء العرب؛ ولذا نبغت فيه الشواعر منهن سيما وأن قلب المرأة أرق وأحن؛ ولذا قال فيكتور هوكو: بأنه صار ضعيف القلب كالوالدة.
ومما ورد للعرب في هذا المعنى قول أبي بكر بن زهر الأندلسي:
ولي ولد مثل فرخ القطا
صغير تخلف قلبي لديه
وأفردت عنه فيا وحشتا
لذاك الشخيص وذاك الوجيه
تشوقني وتشوقته
فيبكي علي وأبكي عليه
وهذا الشاعر الرقيق اشتهر بفن الطب وعلم الأدب، وسارت الركبان بموشحاته وهو حفيد أبي العلاء بن زهر الطبيب المشهور، وكان صاحب هذه الأبيات بعث به إلى مراكش وسمم فيها فمات سنة 596ه، وله بنت وأخت ماهرتان في الطب والقيلة نفيتا أيضا إلى مراكش، وقتلتا مثل أخيهما بالسم، وأبقى ولده في الأندلس، فقال الأبيات المذكورة متشوقا.
سير الدهور
ديوان جليل ملأه الشاعر بالحكمة والفلسفة فأحوج مطالعه إلى الدقة والتبصر فيه، ومراجعة كتب التاريخ والفلسفة لفهم دقائق معانيه، كما يحتاج لذلك قارئ اللزوميات ورسالة الغفران، وأشباههما من كتب الأدب والفلسفة التي خفيت وقائعها على كثيرين فنسبوا لها الركاكة. ومن هذه الكتب أيضا ما ألفه الصفدي شرحا على الطغرائي صاحب لامية العجم والقصائد المعروفة في الكيمياء. ومنها أيضا ما ألفه أبو بكر بن الوحشية صاحب الفلاحة النبطية سنة 904م، ومنها نسخة في مكتبة أيا صوفيا، وزعم المستشرق الروسي شولسن
53
بأن لابن الوحشية معرفة بعلوم الأراميين والبابليين وفنون أدبهم، ومن منظوماته «الشوق المستهام» تكلم فيه عن خطوط المتقدمين وكتاباتهم، وله أيضا «سدرة المنتهى» بحث فيها عن مواضيع دينية فلسفية، ومثل ذلك أيضا «أزهار الأفكار في المعادن والأحجار» لشهاب الدين أبي العباس التفاشي، المتوفى سنة 1253م تكلم فيه عن المعادن والأحجار الثمينة، وطبعه المستشرق رافيوس
54
في أوتراخت من هولانده سنة 1784م ثم طبعه كليمان
55
موله سنة 1868م، ومن ذلك أيضا «ديوان شذور الذهب» لبرهان الدين بن أرفع رأسه من مدينة جيان في إسبانيا، المتوفى سنة 1197م في فاس. وغير ذلك.
وجمع فيكتور هوكو في هذا الديوان سيرا حماسية انتخبها من تاريخ البشر في القرون الأولى والوسطى والأخرى، وصورها في ألواح معظمة وسبكها في قوالب مكبرة، وقصها قصصا مفجعة شرح فيها سير الإنسان في مراقي العمران وخروجه من الظلمات إلى النور، ومن قيد العبودية إلى سراح الحرية، وجعل الحق للأمم والقوة للملوك الجبابرة المستبدين بالرعية، وبين كيفية تغلب الحق على القوة كلما خطا الإنسان خطوة في التاريخ، وارتقى درجة في سلم الحضارة. وبذلك قاعدة «الحكم لمن غلب» من بين الأمم شيئا فشيئا ويعلو الحق، وينتصر رويدا رويدا؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.
فنظم فيكتور هوكو في تصوير القرون الأولى قصيدة «تيتان»، وسلك فيها طريقة الشاعر اليوناني إيشيل مؤلف رواية «برومته»
56
المقيد بالسلاسل، وبين فيها ظلم الجبارين ومحاربتهم للآلهة، ثم سقوطهم في مهاوي الخزلان، أما تيتان
57
فورد ذكرهم في أساطير اليونان بأنهم من أولاد السماء والأرض، وقيل بأنهم عصوا على الآلهة وأرادوا أن يبنوا لهم صرحا؛ ليبلغوا به أسباب السموات؛ أي نواحيها، فعمدوا إلى الجبال ووضعوا جبلا فوق حتى كادوا يبلغون السماء الدنيا لولا أن كبير الآلهة جوبتير صعقهم بصاعقة دكت الجبال دكا. «ونظم فيكتور هوكو أيضا ضمير قاين»، ويعرف عندنا بقابيل الذي قتل أخاه هابيل، ثم ندم على ما فعل،
58
فصور الشاعر ندامته وعين الله ناظرة إليه بالغضب، وعظم هذه القصة وجسمها تجسيما لائقا برجال ذاك العصر الذين منهم عوج بن عناق، ولشعراء الترك والفرس مبالغات عجيبة في تصوير مثل هذا الموضوع، كالشاعر نفعي الذي وصف شدة الحر، وقال: بأن زفرة من زفرات النمل كافية لتنشيف البحور السبع وجعلها سرابا، ووصف شاعر آخر رستم عنترة الفرس، وقال: بأن النبل الذي رمى به من قوسه اخترق السموات السبع ودخل في اللامكان. واستخرج فيكتور هوكو من التوراة والإسرائيليات غير هذا الموضوع، وصوره كذلك في هذا الديوان.
ونظم في تاريخ القرون الوسطى عدة منظومات مثل لاديسلاس، وسيجسموند وغيرهما من الظلمة وقطاع الطرق الذين توصلوا بالقتل والنهب والحيل والدسائس إلى لبس تاج الملك، والجلوس على كرسي الإمبراطورية، وقارنهما بالسيد ورولان، وغيرهما من الفوارس الشجعان الذين جاهدوا بأنفسهم في سبيل النصرانية، وتفانوا في الغيرة والحمية الدينية. ورولان هو ابن أخ شارلمان وقائد جيوشه ، وشارلمان هو الإمبراطور المعاصر لهارون الرشيد، وتقدم ذكرهم وذكر السيد أيضا وهو عنترة الإسبانيين كما أن رولان عنترة الفرنساويين وكلاهما اشتهرا في الحروب مع مسلمي الأندلس. وصور فيكتور هوكو القرون الوسطى بما فيها من المظالم والجرائم الفظيعة، وإراقة الدماء، والاستبداد، والنخوة الجاهلية، والتعصب الديني وأطنب غاية الإطناب في توصيف ذلك وتعظيمه وتجسيمه.
ونظم في القرون الأخرى مقبرة أيلو، وهو مكان في ألمانيا انتصر فيه نابوليون على عساكر الروس وبروسيا، ونظم فصلا سماه جماعة الظلام وافتتحه بقصيدة عنوانها الحرية قال فيها: بأي حق تضع الطيور في الأقفاص؟ بأي حق تغتصب هؤلاء المغردين وتحرم منهم الغابات والأنهار والفجر والرياح؟ بأي حق تسلب هؤلاء الأحياء حياتهم؟ أتظن أيها الإنسان بأن الله خلق الجناح لتعلقه على مسمار في بيتك؟ ألا يمكنك أن تعيش سعيدا مسرورا بدون ذلك؟ ما الذي فعله هؤلاء المعصومون؛ ليوضعوا في الحبس؟ من يعلم كيف يمتزج حظهم مع حظنا؟ من يعلم إذا كان العصفور الذي ينهب من الأغصان، ومن يعلم إذا كان الأذى الذي تؤذى به الحيوانات، وإذا كان الاستعباد الذي يجري على البهائم بلا فائدة لا ينقلب على رءوسنا ظلما كظلم نيرون؟ من يعلم إذا كان زنجير الحبس لم يخرج مع إرسان الحيوانات ...؟
خذ حذرك من العدالة الإلهية؛ لأن الله ينظر إلى المكان الذي يبكي الأسير فيه ويصرخ، ألا تفهم أيها الإنسان بأنك ظالم؟ أطلق سراح هؤلاء المحبوسين ودع البلابل تطير في الحدائق، فميزان العدالة وإن اختفى عن الأعين، فله كفتان تزن الأعمال ... إلخ ... إلخ.
ونظم قصيدة أخرى عنوانها «الحرامي والملك»، وبين المشابهة بينهما وما يرجح به كل واحد على صاحبه، ونظم قصيدة أخرى عنوانها «للملوك» خاطبهم فيها بكلام ترتعد منه الفرائص، وتقشعر الجلود، فقال لهم: أتظنون أنتم بأننا نحن نحبكم! نحن الذين نشتغل في هذه الأرض ونستخرج ثروتها ونكد، ونجد في حر الشمس وبرد الشتاء ولا ننال من أتعابنا غير الجوع والعطش. وأنتم على سرر مرفوعة من العز والنعيم، وعلى جانب من التبذير والإسراف والفحش، نحن الخدم وأنتم الملوك . نحن الغنم وأنتم الذئاب، نحن الفريسة وأنتم المفترسون، تبنون القصور والسرايات من أموالنا وأتعابنا وترتعون فيها وتلعبون، ونحن نقاسي نزاع الموت على لقمة، لا شغل لكم إلا الأكل والنوم والسكر والفحش والقتل والظلم، فأنتم لا فرق بينكم وبين الأسود الكاسرة والوحوش الضارية ... إلخ ... إلخ.
وأطنب فيكتور هوكو في بيان الحرية، وتعريفها بأساليب كثيرة وصور مختلفة وأشكال متنوعة، ومن كلامه ما ورد على حد قول المعري في اللزوميات:
يكفيك حزنا ذهاب الصالحين معا
ونحن بعدهم في الأرض قطان
59
إن العراق وإن الشام مذ زمن
صفران ما بهما للملك سلطان
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مضر من الوالين شيطان
من ليس يحفل خمص الناس كلهم
إن بات يشرب خمرا وهو مبطان
تشابه النجر فالرومي منطقه
كمنطق العرب والطائي مرطان
أما كلاب فاغنني من ثعالبهم
كأن أرماحهم في الحرب أشطان
متى يقوم إمام يستقيد لنا
فتعرف العدل أجبال وغيطان
صلوا بحيث أردتم فالبلاد أذى
كأنها كلها للإبل أعطان
وقال أيضا:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وقال أيضا:
يا ملوك البلاد فزتم بنسء ال
عمر والجور شأنكم في النساء
ما لكم لا ترون طرق المعالي
قد يزور الهيجاء زير نساء
يرتجي الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقل
مشيرا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرحمة
عند المسير والإرساء
إنما هذه المذاهب أسباب
لجذب الدنيا إلى الرؤساء
غرض القوم متعة لا يرقون
لدمع الشماء
60
والخنساء
كالذي قام يجمع الزنج بالبصرة
والقرمطي بالإحساء
فانفرد ما استطعت فالقائل الصا
دق يضحى ثقيلا على الجلساء
ومما يحاكي بعض أبيات قصيدة الحرية المتقدم ذكرها قول المعري:
أعاذل إن ظلمتنا الملوك
فنحن على ضعفنا أظلم
توسط بنا سائرات الرف
اق لعل ركائبنا تسلم
إلى أن قال:
فلا تغبطن ذوي نعمة
فخلفهم وقعة صيلم
تسامت قريش إلى ما علمت
واستأثر الترك والديلم
وهل ينكر العقل أن يستبد
بالملك غانية غيلم
وما ظفر الملك في جيشه
سوى ظفر بالردى يقلم
وقوله:
وأقصاني من الرؤساء كوني
وكونهم لخالقنا عبيدا
وقوله:
قد عمنا الغش وأزرى بنا
في زمن أعوز فيه الخصوص
أن نصح السلطان في أمره
رأى ذوي النصح بعين الشصوص
وكل من فوق الترى خائن
حتى عدول المصر مثل اللصوص
وقوله:
لقد ساس أهل الأرض قوم تفتقت
أمور فما ألفت لهم يد راتق
61
هم هتكوا بالراح أستار عاذل
ولم يحفظوا بالنسك حرمة ناتق
إذا جرحوا دنا فلم يرج عندهم
قصاصا أجادوا قتل عذراء عاتق
وصاغوا بما تجني الولاة مراكنا
وزادوا على أسيافهم والمناتق
ولو كان للدنيا لدى الله قيمة
لما نظروا في آهلات الرساتق
وقال أيضا:
صاحب الشرطة إن أنصفني
فهو خير لي من عدل ظلم
من أراد الخير فليعمل له
فعليه لذوي اللب علم
حكم الناس غواة مثلما
حكمت قبل حصاة وزلم
لا تهاون بصغير من عدى
فقديما كسر الرمح القلم
ويعجبني ما قاله في هذا الباب شاعر العصر أحمد شوقي بك من القصيدة التاريخية، التي تلاها في مؤتمر المستشرقين في جنوه (جنيف) سنة 1894م قال:
إن ملكت النفوس فابغ رضاها
فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأس
ر فكيف الخلائق العقلاء
يحسب الظالمون أن سيسودو
ن وإن لن يؤيد الضعفاء
والليالي جوائر مثل ما جا
روا وللدهر مثلهم أهواء
أغاني الشوارع والأحراج
وهو ديوان كالذي سبق، ولا حاجة إلى إيراد مثال منه. وأما ما نظمه فيكتور هوكو في شيخوخته فهو:
السنة المهولة
هجا في بعض هذا الديوان نابوليون الثالث، وعد سقوط حكومته الإمبراطورية كفارة لما اقترفه من السيئات على زعمه في حادثة 2 ديسمبر، وبين في بعضه الآخر ما جاد به الفرنساويون من الغيرة والشجاعة في الدفاع عن الأوطان أثناء حرب السبعين الألمانية، وما قاموا به من الثبات في حصار باريس، واعتبر الحرب الفرنساوية الألمانية كأنها آخر حلقة لسلسلة الحروب التي أثارتها دول القرون الوسطى المعبر عنهم بالقيودالينة، وهم أشبه بما كان في بلادنا من أصول التيمار والزعامة، وبحكومة الأمراء الذين قيل لهم: «درة بك»، وعد انقطاع تلك السلسلة وزوال هاتيك الأفكار العسكرية بظهور الفكر الجديد والتقدم العصري، وتكلم في القسم الثاني من هذا الديوان على ويلات الحرب الأهلية، وما اقترفه الرعاع (كومين) في باريس من الفظائع الدموية، وأظهر حمقهم وجهالتهم في إحراق الديار وذبح الرجال وختمه بطلب العفو عن المجرمين المغلوبين.
صناعة كون المرء جدا
تكلم في هذا الديوان على الأطفال والأولاد، وشبههم بالملائكة، واعتبر وجودهم على الأرض دليلا على رحمة الله، وتأييدا لما يرجوه الناس من الحياة الآخرة، وكان فيكتور هوكو يطرب لبأبأة الأطفال ومناغاتهم، وللعب الصغار وهوشاتهم ويفرح لابتسامهم وضحكهم، وتبريق عيونهم وتهلل وجوههم، ويحصل له من جميع ذلك تجل واستغراق ظهر أثره في نظمه، وبعد ما أصيب في أولاده عكف على حب حفيده جورج وحفيدته حنه (جان)، وشغف بهما شغفا زائدا والتزم تربيتهما بنفسه، فكان يشاهد نشؤهما وتفتح الروح وانفتاق الذهن فيهما، وينظم مطالعاته وما يلهم به من الشعر، فنظم جميع ما يتعلق بالأطفال والأولاد من تهليل وترقيص وتلهية وتلعيب، وصور جميع حركاتهم وسكناتهم ونومهم وقيامهم وجريهم ونطهم ولعبهم، مثال ذلك القصيدة التي عنوانها «أغاني لترقيص الأولاد الصغار في الحلقة»، وكذا المنظومة التي عنوانها أيضا «حنه كانت في الغرفة المظلمة على الخبز الحاف»، وذلك أن مربيتها جازتها بهذا الجزاء تأديبا لها، فجاءها جدها من وراء الباب المقفل وأطعمها الحلواء خفية فقالت له: تبت وما عدت أدخل إصبعي في أنفي ولا أدع الهرة تخمشني، فذهب يتشفع لها عند مربيتها، فاعترض عليه أهل الدار، وقالوا له: أطعمتها كثيرا وأفسدت تربيتها، وكيف ينتظم أمر البيت إن لم يكن فيه وازع ورادع وقانون يتبع، فأقر بخطئه واعترف بأن كثرة المرحمة مضرة بمصلحة العائلة كضررها بمصلحة الأمة، وبعث على انحطاطها وهلاكها، وقال لهم: أنا المخطئ ضعوني مكانها في الغرفة المظلمة على الخبز الحاف، فقالوا له: أنت مستحق لذلك؛ لأن القانون ينبغي أن ينفذ على الكبير والصغير، فنظرت إليه حنه بعين الشفقة والمرحمة، وقالت له بصوت منخفض: «وأنا أجيب لك الحلواء »، فنظم الشاعر هذه القصة بصورة بديعة وألفاظ عذبة، وهي مثال لمواضيع قصائده، فكان كالصغير مع الصغار؛ ولذا انتقد عليه بعض الأدباء وقالوا: بأن في أشعاره ما هو أشبه ببأبأة الأطفال لا لذة فيه ولا طعم له.
ثم نظم أربعة دواوين صغيرة لخص فيها مسلكه الفلسفي، وجميع معارفه العلمية وأفكاره الدينية وإلهاماته الربانية، وسماها «الأديان والدين»، «البابا»، «الحمار»، «الرحمة العالية»، ونظم فيها شيئا كثيرا مما نقرأه في «لزوميات المعري» على حد قوله:
دين وكفر وأنباء تقص وفر
قان ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها
فهل تفرد يوما بالهدى جيل
وقوله:
جاء القرآن وأمر الله أرسله
وكان ستر على الأديان فانخرقا
ما أبرم الملك إلا عاد منتقضا
ولا تألف إلا شت وافترقا
مذاهب جعلوها من معايشهم
من يعمل الفكر فيها تعطه الأرقا
ولكن كلام فيكتور هوكو أوضح وأظهر وأجمع وأكثر تفصيلا وترتيبا، وإن كان الشاعران يتفقان كثيرا في أصل الفكرة، وتتوارد خواطرهما على المعاني الواحدة، ويظهر في كلامهما أثر الحيرة والدهشة من النظر في الكون، ولكن فيكتور هوكو لم يستول عليه اليأس، ولا القنوط الذي استولى على أفكار المعري، وأحرمه من نعيم الدنيا ولذائذ الحياة مع ما كان له من سعة الرزق، وكثرة المال، ومما أنشده في ذلك:
واتهامي بالمال كلف أن يطل
ب مني ما يقتضي التمويل
ويقول الغواة: خولك الله
كذبتم لغيري التخويل
عيشة ضاهت الهواذير ما فيها
مفيد وكلها تطويل
إن حباك القدير كالنيل تبرا
فليفضه العطاء والتنويل
إلى أن قال:
وإذا هولت علي المنايا
راقني من وعيدها التهويل
حوليني عن ظاهر الأرض فالقل
ب يسلي همومه التحويل
إلخ.
ووردت ترجمته في بعض الكتب الفارسية، وقيل فيها: بأنه كان من أهل الثروة واليسار مع زهد وتقشف.
الأديان والدين
ديوان مشحون بالحكم، ولكن ضيق الوقت منعنا عن تدقيقه ومقابلته بما ورد على مثاله من شعر العرب، وهو على خمسة أبواب: باب الجدل، باب الفلسفة، باب لا شيء، باب الأصوات، باب النتيجة، ونظم في باب المجادلات تسع منظومات : (1) يوم الأحد (2) أول التفكر (3) التيولوجي ونسميه المتكلم أو المتكلمون، وهم الباحثون في علم الكلام والتوحيد. (4) للتيولوجي؛ أي خطابا لهم ومطلعها: أيها الرهبان، أيها اللابسون الحرام والطيلسان، سواء عليكم أتعممتم بعمائم البز أو تتوجتم بالتيجان المرصعة بالجواهر واللآلئ، فحيث جعل لكم في هذه الدنيا حق بالحماقة، فأنتم تتجاوزون فيها الحد بشدة لا مثيل لها؛ لأن العلي الأعلى يغض بصره ويصم أذنه عنكم ... إلخ. (5) الاختراع. (6) الأيدي المرفوعة نحو السماء. (7) أحسن الصنع وبين فيها ما يقوله المتكلمون من النصارى في حق الله. (8) بقية. (9) مسائل.
ثم ذكر في الباب الثاني آراء الفلاسفة، وفي الباب الثالث آراء الملحدين الجاحدين الذين يقولون: بعدم وجود شيء، إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر ، وإنما مثلنا كمثل الزجاجة إذا انكسرت لا يعاد لها سبك، وأما الخاتمة فهي منظومة طويلة نظر بها في حسن السماء ونجومها التي هي زينتها، وفي الشمس والقمر ونورهما، وفي الكون بأجمعه وقال في ختامها: هو موجود! هو موجود! انظري أيتها النفس، فله أوج وهو الضمير، وله محور وهو العدالة، وله نقطة اعتدال وهي المساواة، وله فجر واسع وهو الحرية، وشعاعه ينير فينا ما تتصوره النفس فهو موجود! موجود! موجود! بلا نهاية، بلا بداية، بلا كسوف، بلا ليل، بلا فراغ من العمل، بلا نوم.
فارجع يا دودة الأرض عن خلق الشمس، أهو هذا على حد قولنا لا تتفكر في ذات الله وحقيقته، بل تفكر في خلقه ومصنوعاته.
الحمار
أراد المؤلف بنظم هذا الديوان بيان أفضلية الطبيعة، والسوق الطبيعي على العلم لا سيما على العلم الكاذب والأباطيل، وقايس فيه بين صبر الحمار وصلاحه، وبين خشونة الرجل وعبث الصبي؛ لأن الحمار وإن كان في عرفنا كناية عن البلادة والغباوة ومن أوصاف الذم، ولكنه في عرف المتقدمين رمز عن الصبر؛ ولذا سمي مروان الحمار وكان ذا شجاعة وحزم، وسمى اليونان بعض رجالهم وأظنه أشيل بالحمار أيضا. ففيكتور هوكو سمى حماره الصبر وقايس بينه وبين الفيلسوف كانت، وجعل بينهما مخاطبات فلسفية بديعة، وقال لكانت: ما الذي وجدته بعد خوض بحار العلوم، وما الذي استنتجته من سبر غورها، وإلى أين أوصلتك هذه الكتب والدفاتر، فهي لم تدون ولا وضعت في الكتيبات إلا لترعى في حواشيها الأرضة، وتتخزن فيها الرطوبة، فالعلم الحقيقي هو في وجه الطبيعة والطفولية، وفي الابتسام والصلاح والبشاشة ... إلخ.
الرحمة العالية
صور في هذا الديوان الظلم والاستبداد، وبكاء المظلومين، ولعنهم الظالمين وشخص القوة المستبدة أحسن تشخيص، وبين الحامل للمستبد في أمرهم على الشكوى، ولكن المفكر في باطن الأمر ونفس الحقيقة يرى أولئك الظالمين الملعونين في حاجة وافتقار للشفقة عليهم أيضا؛ لأن حمل الحكومة والدولة من أثقل الأحمال، سيما وأن أولي الأمر وأصحاب الاستبداد محاطون دائما بالمداهنين والمتملقين، فالظالم شنيع ولكن المغري له والمتبصبص أشنع فالمتملقون يفسدون أخلاق الملوك منذ حداثة سنهم، وهم يكررون عليهم في كل صباح ومساء «كل هذه الأمة هي لك»، فحب الملك خصلته كبقية الخصال الإنسانية والملوك يستوون في الخصال مع بقية الناس، ولكنهم يفرقون عنهم بأن الحقيقة تخفى عليهم بالكلية، ولا يطلعون على جلي الخبر فهم أحق وأولى بالرحمة العالية. (18) الدرام
استعملنا هذا الاسم لبينما يضع أدباء العرب اسما مقابلا له، أو يعربوه كما عرب المتقدمون كلمة موسيقى، أو أرتماطيقي ونحوهما من الكلمات اليونانية، والمقتضى لهم إيجاد كلمة تكون على وزن من أوزان الأسماء العربية، ويسهل النطق بها على اللسان؛ لأنا في عصر نحتاج فيه لإدخال كلمات جديدة في لغة العرب كما أدخل السلف فيها الكلمات اليونانية والفارسية، وغيرهما على عهد الخلفاء العباسيين.
كرومويل
أول درام ألفه فيكتور هوكو هو درام كرومويل، وتقدم ذكر مقدمة هذه الرواية في تعريف الطريقة الرومانية، أما كرومويل فهو من أشهر رجال الإنكليز في القرن السابع عشر للميلاد اشتغل بالسياسة حتى صار رئيسا للحزب الجمهوري وأحدث «الثورة» الانقلاب الذي قتل فيه شارل الأول ملك الإنكليز سنة 1649، كما قتل لويس السادس عشر ملك فرنسا سنة 1793م، واستبد أوليفيه كرومويل بالجمهورية، وصار صاحب الأمر والنهي كأنه ملك، ولم يقنع بما استحوذ عليه من السلطة والنفوذ، بل وسوس له الخناس الذي يوسوس في صدور الناس بأن يتملك على الإنكليز، فأخذ في تهيئة الأسباب وإعداد المعدات كما فعل نابوليون الثالث حينما تتوج بتاج الإمبراطورية، واستعدت بلدية لوندره لتقديم الصولجان له، وتهيأ البرلمان لإلباسه التاج وكاد الاحتفال برسم التتويج يتم في كنيسة وستمنستر حسب الأصول والتقاليد القديمة، ولم يبق بينه وبين الفوز بأمانيه إلا قاب قوسين أو أدنى، فحينئذ اكتشف على عصبة سرية من أصحاب الجمهورية يأتمرون على قتله، ولا يؤخرهم عن الفتك به إلا انتظار رسم التتويج؛ ليغمدوا سيفهم المسلول في قلب ملك لا في قلب رئيس للجمهورية، فخاف ورجع عما تشتهيه نفسه وأظهر ميله للمحافظة على قوانين الجمهورية، وكراهته في لبس التاج والتملك، وأخفى شوقه لعروس المملكة وحرصه الزائد على نيل وصالها؛ لأن الظلم من شيم النفوس.
وكان أوليفيه كرومويل ذا أخلاق غريبة، وطينة عجيبة، وطبيعة متقلبة اجتمع في خصاله الضدان من شهامة ودناءة، وجبن وشجاعة، وشدة ورحمة، ولين جانب وقساوة، وحرية أفكار ونفاق ومجاملة؛ ولذا اتخذه فيكتور هوكو بطلا لروايته وصور أخلاقه تصويرا بديعا وجعل مجرى الرواية في ويت هال سنة 1657، وافتتح الرواية بقوله: «غدا الخامس والعشرون من حزيران سنة ألف وستماية وسبع وخمسين»، وختمها بقول كرومويل: «إذن متى أصير ملكا؟» إشارة إلى شدة حرصه على الملك، فالأدباء الناهجون منهج الطريقة الرومانية يعتبرون هذا المطلع وهذه الخاتمة من أبدع المطالع والخواتم، وأبلغها مع بساطتها وخلوها عن التشابيه والاستعارات المدرسية. ويقولون: بأن إنشاء الرواية من أعلى طبقات الإنشاء، ولكن تمثيلها على المراسح متعسر لطولها وكثرة أشخاصها، فهي أشبه بكتاب تاريخي مدقق منها بالرواية التمثيلية، وعدا هذا فمؤلفها لم يحسن توصيف أخلاق الرجال، ولم يستطع إعطاء كل رجل صفته الحقيقية بدون إفراط ولا تفريط، بل اتبع في الوصف تصوراته وخيالاته، والمطلوب في الرواية التمثيلية تصوير الرجل بذاته وأفكاره بلا غلو ولا إطراء ولا مبالغة، ولكل رجل تاريخي أحوال مخصوصة تكتنف به ينبغي مراعاتها في تأليف الرواية، فنابوليون مثلا له تعبيرات، وأفكار وأطوار، لو خرج عنها مؤلف الرواية لأفسد تأليفه، وكذا الملك صلاح الدين الأيوبي مثلا. ولكنا لم نزل نجهل حقيقة تاريخنا فضلا عن معرفة أخلاق كل رجل وأطواره.
أما الإفرنج فلكثرة معلوماتهم وسعة اطلاعهم لو حضر أحدهم تمثيل رواية، وكان من أصحاب الذوق في الكلام لا يكتفي بالتبصر في محاسن الألفاظ، وتنسيق الكلام ورونق الأشعار وعلو الإنشاء، بل ينظر مع ذلك إلى الأهم وهو حسن الموضوع، وتصوير أخلاق الرجال واستنتاج النتائج الأدبية الفلسفية الأخلاقية، بخلاف من يتلو منا مقامات الحريري والهمذاني أو يستمع تلحين الأشعار وإنشادها على العود والقانون، فإن طربه في الغالب إنما هو لحلاوة التعبير ويلهو بها عما يحتويه من الفكرة والمعاني، فحلاوة التعبير هي كالديباج والحلي للأفكار والمعاني، وربما يلهو المرء بحلي الغانية وزينتها عن جمالها الحقيقي، كما نشاهد ذلك على المراسح في المشخصات المتوسطات في الحسن إذا برزن بزينة الأميرات وبأثواب الملكات.
إيرناني
وسماها المؤلف أيضا الشرف القشتالي وقشتالة أيالة في وسط إسبانيا، وصور فيها الدولة الإسبانية، وهي في ذرى مجدها وأوج عزها.
وذلك أن العرب بعد فتحهم إسبانيا، وتأسيسهم الدولة الأموية فيها فر بقية أمراء القوط إلى جبال أستوريا في الشمال الغربي من إسبانيا، وأسسوا فيها دولا صغيرة، فلم يعبأ بهم المسلمون وحسبوهم من المتشردين، فلم يستأصلوا جرثومتهم ولا أجلوهم إلى ما وراء جبال البيرينة كما كانت تقتضيه الحكمة السياسية من تحكيم الثغور في هذه الجبال، واتخاذها سدا مانعا لهجوم الأعداء على المملكة الإسلامية، ثم ظهرت ملوك الطوائف من المرابطين والموحدين وبني زيان، وبني هود وآخرهم بنو الأحمر، ومؤسس هذه الدولة عبد الله محمد بن أحمر سنة 633ه، وعدة ملوكها عشرون واستمر ملكهم 265 سنة، وكان آخرهم أبا عبد الله الصغير وكانت عاصمتهم غرناطة.
62
فلما ضعف أمر المسلمين وكثر النزاع والجدال بين أمرائهم قويت شوكة المسيحيين في شمال إسبانيا، وكان يوان الثاني حاكما على أراغون، وهي أيالة في شمال إسبانيا على ساحل البحر المتوسط وعلى صقلية، فزوج ابنه فرديناند بابنة حاكم قشتالة وهي إيزبلا، وتلقب فرديناند بالكاثوليكي، وخلف أباه في الملك واستولى على قشتالة بالوصاية عن زوجته ، وحارب المسلمين وأخذ منهم غرناطة وأخرجهم من إسبانيا، وأخذ من الفرنساويين مملكة نابولي في إيطاليا، وفي أيامه اكتشفت أميركا وحمل ما فيها من الذهب إلى أوروبا، وبعد وفاة إيزابلا انتقل ملك قشتالة بالإرث إلى بنتها حنه المجنونة، وكانت متزوجة بفيليب الجميل أرشيدوق أوستريا، وخلفت منه ولدا اسمه الدون قارلو، فانتقل إليه بالإرث ملك جده فرديناند وجدته إيزابلا، واجتمعت له المملكة الإسبانية بما فيها من الثروة الأميركية، ثم ورث من جده الثاني إمبراطورية ألمانيا، وصار انتخابه لها وتلقب بشارلكين وحاز على جميع الممالك المذكورة في الجدول الآتي:
جدول في بيان ما ورثه شارلكين أي: شارل الخامس من الممالك. (1) آل إسبانيا (2) آل أوستريا
فرديناند الكاثوليكي ملك أراغون ونابولي
تزوج
إيزابلا دي قشتالة ملكة إسبانيا والمستعمرات الإسبانية في أميركا
مكسمليان إمبراطور ألمانيا وأرشيدوق أوستريا
تزوج
ماري دي بورغونيا الوراثة من شارل الجسور (هولانده وارتوا وفرانش كولته)
حنه المجنونة
تزوجت
فيليب الجميل
الدون قارلو وهو شارل دوتريش الذي لقب فيما بعد شارلكين.
أما أوستريا فكانت إحدى الإمارات التي تتألف منها إمبراطورية ألمانيا.
أما إمبراطورية ألمانيا فكانت مجموع إمارات ومدائن حرة، وكانت الإمبراطورية فيها بالانتخاب لا بالوراثة، وذلك أنه عند موت الإمبراطور يجتمع أمراء الإمارات السبعة، وهم أكبر الأمراء الذين تتألف منهم الإمبراطورية؛ ولذا لقبوهم «المنتخبين السبعة»، وانتخبوا إمبراطور من أوستريا في الغالب؛ أي من العائلة التي تملك على إمارة أوستريا، فلما مات مكسمليان إمبراطور ألمانيا سنة 1519م انتخب حفيده شارلكين، وكان فرانسوا الأول ملك فرنسا صاحب عظمة وثروة ونفوذ وعسكر، فكان يسعى مع المنتخبين في انتخاب نفسه، ورشاهم بكثير من الأموال والهدايا، فأخذوا ماله وانتخبوا عدوه شارلكين فاشتدت الرقابة والعداوة بينهما، وكاد شارلكين يتفرد بالملك في أوروبا، ولم يبق له رقيب فيها سوى فرانسوا الأول ملك فرنسا، فحاربه وأسره وأحضره إلى مدريد عاصمة ملكه، وعقد معه معاهدة موافقة لسياسته، ثم أطلق سراحه، فلما وصل أرض فرنسا نقض العهد، واستمد السلطان سليمان القانوني، وكان أقوى ملوك الأرض قاطبة، وجرت محاربة بحرية في مياه تونس بين أسطول شارلكين وأسطول خير الدين باشا المشهور باسم بارباروس؛ أي ذي اللحية الشقراء، وانتصر فيها العثمانيون، وانتصرت العساكر الإنكشارية أيضا على العساكر الألمانية في محاربة أخرى برية وقعت على حدود النامسا وألمانيا، وكان شارلكين شديد الحرص على التفرد بالملك والسؤدد، فلما لم يستطع إدخال جميع أوروبا في حكمه، وتحت نفوذه استولى عليه اليأس وانقطعت آماله، فتنازل عن ملك إسبانيا لابنه فيليب الثاني، وتفرغ عن إمبراطورية ألمانيا لأخيه فرديناند، واعتكف هو في دير من الأديرة إلى أن مات حزنا وكمدا.
أما موضوع رواية إيرناني فهو أن الدون قارلو قبل أن يصير إمبراطور على ألمانيا، ويتسمى شارلكين كان يهوى في مادريد غانية اسمها الدونة سوله، وكان يهواها أيضا عمه الدوق روى غوميز، أما هي فكانت تعشق شابا من الأشقياء وقطاع الطريق اسمه إيرناني، وكان ثلاثتهم يترددون عليها بدون أن يشعر أحدهم بالآخر، فصادف الدون قارلو عند معشوقته هذا الشاب مرتين، ففي المرة الأولى مكنه من الخروج، ولم يتعرض له وفي المرة الثانية ضيق عليه بالحرس وحصره بالعسكر، وأباح لهم دمه وجعل جائزة لمن يأتيه برأسه ففر إيرناني بكل مشقة من بيت حبيبته واختفى عن الأبصار، فلما انقطع أمل هذه الغانية من الملك ومن حبيبها الشاب ألقت نفسها بين أيدي عاشقها الثالث، وكان شيخا هرما ففرح بها وحملها إلى قصره وأراد الدخول بها، ثم اهتدى إيرناني إلى حبيبته وجاء إليها، وبينما هو يغازلها ويعانقها وإذ دخل صاحب البيت وهو الدوق روى غوميز، ووجدهما متعانقين، ثم جاءهم الملك بغتة وأراد القبض على إيرناني، فامتنع الدوق من تسليمه وعد أخذه من بيته إهانة لشرفه، وأشار إلى صور آبائه وأجداده المعلقة على جدران الغرفة، وهم حماة الملهوفين ومغيثو المستجيرين، فترك الملك إيرناني وأخذ الغانية عوضا عنه وخرج بها من القصر، فلما نجا إيرناني من الهلاك طلب من الدوق أن يطلق سراحه؛ ليتعقب أثر محبوبته ويخلصها من أيدي الملك، وعاهده على أن يعود إليه متى طلبه، وأعطاه بوقا لينفخ فيه متى أراد أن يستدعيه، فإذا سمع صوت البوق حضر إليه بالحال.
ثم ينتقل مجلس التشخيص إلى إكس لاشابل في ألمانيا، وكانت عاصمة الإمبراطور شارلمان، وفيها قبره ثم جرت العادة بتتويج الإمبراطور في هذه المدينة، فإذا أرادوا تولية إمبراطور اجتمع المنتخبون وهم الملوك أو الأمراء السبعة الذين لهم حق الانتخاب، واختاروا أحدهم وألبسوه التاج وأطاعوه، وكان الدون قارلو مرشحا لهذا الأمر، فائتمرت عصبة على قتله وفيهم عمه الدوق روى غوميز، واختفوا في المحل الذي فيه قبر شارلمان وأخذوا معهم إيرناني ليطعنه بخنجره، فعلم بهم الدون قارلوس ودخل المقبرة، ونزل لقبر شارلمان وفاه بكلام هو من ملول الكلام، ومن أبلغ ما نظمه فيكتور هوكو، ثم أطلقت المدافع ودقت الأجراس إعلانا بانتخابه إمبراطور على ألمانيا وخليفة لشارلمان، وألقى القبض على المتآمرين وأراد قتل إيرناني؛ لأنه ليس من ذوي الرتب والشرف، ولكنه بين نسبه وظهر بأن اسمه الحقيقي هو جان داراغون دوق سيغورب وقاردونيا، فعفى عنه وزوجه بمعشوقته الدونة سوله، فلما أخذها وأراد الخلوة بها في قصره سمع صوت البوق فتذكر عهده، وفضل الموت على عدم الوفاء بالوعد فشرب السم وشربت حبيبته، ثم قتل الدوق روى غوميز نفسه أيضا من شدة حبه لتلك الغانية، فهذه الرواية ليس لها حقيقة تاريخية، وإنما هي من مختلقات الشاعر وتخيلاته، ولكنها في أعلى طبقة من البلاغة والانسجام وحسن الذوق.
روى بلاس
صور المؤلف في هذه الرواية التاريخية انحطاط دولة إسبانيا في أواخر القرن السابع عشر للميلاد، وذلك أنه بعد فيليب الثاني ابن شارلكين، المتقدم ذكره، جلس على كرسي المملكة الإسبانية ابنه فيليب الثالث، ثم فيليب الرابع ثم شارل الثاني آخر ملوك هذه السلالة النامساوية، ولما جلس سنة 1665م كان عمره أربع سنوات، وهو لا يستطيع المشي ولا الكلام فكانت الوصاية لأمه، ثم لأخيه وامرأته ووزراء دولته، وبعد أن كبر أيضا لم يلتفت لمصالح الملك، وأهمل إدارة مملكته وبيته وزوجته، وكان يقضي أيامه في الصيد والتجول في البراري والغابات وامرأته في هم وكدر من وحدتها، وتكلفها بمراسم التشريفات وبالتقاليد المرعية في قصر الملك، ولم يكن لشارل الثاني ولد فأوصى بالملك لحفيد لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وانتقلت دولة إسبانيا من آل أوستريا إلى آل بوربون سنة 1700 وزال نفوذها واعتبارها من بين الدول الأوروبية، ولم تزل في انحطاط لم تتخلص منه للآن، وترى بعين الحسد تهافت الدول الأوروبية على استعمار أفريقيا، ومدهم فيها السكك الحديدية وجرهم المنافع التجارية، وهي شاخصة ببصرها كالمقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، وأضاعت بالأمس آخر مستعمراتها في أميركا وهي جزيرة كوبه، ثم جزائر فيلبين، ولم تكسب اليوم من تقسيم البلاد المراكشية إلا جزاء موهوما على ساحل المحيط الغربي يسمى «ريو دورو» أي: نهر الذهب ويشاهد رسمه على الخريطة المرسومة بعد عقد المعاهدة بينها وبين فرنسا، ولا يرى أثر لحقيقة مسماه وجل ما يعلم عنه أن ليس هناك لا نهر ولا ذهب.
فصور الشاعر في هذه الرواية انحطاط المملكة الإسبانية، وشرح أسباب انقراض دولتها، فإذا رفع الستار عن المرسح ظهرت غرفة من غرف قصر الملك في مادريد وفيها وزير المملكة، وقد غضبت عليه الملكة وطردته من القصر؛ لأنه لم يقبل بأن يتزوج بنتا من حاشيتها بعد أن راودها وحظي بها، وقبل أن يخرج من القصر ليلتزم بيته صمم على الانتقام من الملكة، فاستدعى ابن عم له يسمى قيصر، وكان لفقره معاشرا للهمل وقطاع الطريق مع ما له من الحسب والنسب، وأراد أن يتخذه آلة لدسائسه، فاستنكف من ذلك ورد ما عرضه عليه من المال والجاه، فأمر بنفيه للهند فنفي إليها وألبس خادمه روى بلاس لباس الأشراف، ودعاه بابن عمه قيصر وقدمه لرجال الدولة وأعيانها بعد أن استكتبه أوراقا يعترف فيها بأصله، وخدمته له وكان روى بلاس يعشق الملكة، فتقرب منها وحظي لديها بالقبول، وصار من أعظم وزرائها وأكبر مستشاريها، وبينما هو حائز على رضاء الملكة وعلى أعظم مسند في المملكة، وإذ ظهر له سيده وأخذ يتهدد الملكة ويوبخها على هيامها في خادمه وعلى تفريطها بنفسها، وطلب منها إمضاء ورقة ليتخذها حجة عليها، ولا يبيح بسرها ما دامت مسلمة له زمام الملك، فكادت الملكة تقبل بذلك خوف الفضيحة والعار، ولكن روى بلاس اشتد غضبه حرصا على شرف الملكة محبوبته، وقتل سيده ثم شرب سما، ومات والملكة تندب عليه وتبكي، فهذا محصل الرواية.
وقال فيكتور هوكو في مقدمتها:
جمهور المتفرجين في المراسح على ثلاثة أصناف: أحدها النساء، والثاني الخواص، والثالث العوام، فالذي يتطلبه العوام من التأليف الدراماتيقي بدون استثناء تقريبا هو العمل،
63
والذي تتطلبه النساء قبل كل شيء هو الشهوة، والذي يتطلبه الخواص على الخصوص هو الأخلاق، فإذا أمعنا النظر في هذه الأصناف الثلاثة من المتفرجين نجد العوام هائمين بالعمل لدرجة يتساهلون فيها عند اللزوم بالأخلاق وبالشهوات، ونجد النساء مكترثات بالعمل أيضا، ولكنهن مستغرقات بتفاصيل الشهوة حتى يقل انشغالهن جدا بتصوير الأخلاق، ونجد الخواص يتلذذون بمشاهدة الأخلاق؛ أي بمشاهدة الرجال أحياء على المراسح، ويتلقون الشهوة كأنها عارض طبيعي في التأليف الدراماتيقي، ويحصل لهم انزعاج من العمل، والسبب في ذلك أن العوام إنما يتطلبون في حضورهم المراسح الهيجان، والنساء يتطلبن الخلجان، والخواص يتطلبون التفكر، والجميع يبغي لذة ولكن أولئك يبغون لذة النظر، وهؤلاء يردن لذة القلب، والآخرون يبغون لذة العقل، ومن ثم حصل في روايتنا - أي روايات فيكتور هوكو - ثلاثة أنواع مختلفة من التأليف، أحدها عامي سافل، والآخران رفيعان عاليان، ولكن في ثلاثتهم الكفاية لسد الاحتياج. فالعوام لهم الميلودرام (أي: ما كان فيه انتقام وقتل وإذلال وفضيحة)، والنساء لهم التراجيديا التي تشرح الشهوة، والخواص لهم الكوميديا التي تصور الأخلاق الإنسانية.
ربما يتداخل بعض هذه الثلاثة في بعض؛ لأن العوام ربما وجد فيهم من له شوق طبيعي لتطلب الجمال كما له ذوق في الأشياء التافهة، ومن له هيام في التصورات والتخيلات البديعة، كما له إقبال على الأشياء العادية المزدرى بها، وكل واحد من خواص الأدباء البالغين في الأدب رتبة الكمال ينبغي أن يتصف بصفة المرأة من جهة الإحساس القلبي، كما أن المرأة تتصف أحيانا بصفة خواص الأدباء المفكرين.
فإذا أمعنا النظر في أصناف المتفرجين الثلاثة نراهم جميعا محقين، فإن النساء معهم حق في ابتغائهم خلجان القلب، والخواص معهم حق في ابتغائهم التعلم والاستفادة، والعوام لا لوم عليهم في طلبهم التسلي، فمن هذا الشرح ينتج قانون الدرام.
فالقصد من الدرام والغاية منه هو تصوير الأخلاق؛ أي اختلاق رجال وتمثيلهم على المرسح بمقتضى الشروط المؤلفة من صناعة الأدب ومن الطبيعة، وإلقاء الشهوات في هؤلاء الرجال لبيان أخلاقهم وإيضاحها، ثم استخراج الحياة الإنسانية من تصادم هذه الأخلاق والشهوات بالنواميس الكبرى الإلهية؛ أي استخراج وقائع كبيرة، صغيرة، مؤلمة، مضحكة، هائلة، تشتمل على لذة للقلب يسميها الناس المنفعة، وعلى عبرة للعقل يسميها الناس محاسن الأخلاق، فيتضح من ذلك أن الدرام يخرج من التراجيديا بتصوير الشهوات، ومن الكوميديا بتصوير الأخلاق والصفات، فالدرام هو الشكل الثالث الكبير من أشكال الصناعة الأدبية، ويشتمل على الاثنين الأولين ويجمعهما ويفصلهما. فلو لم يوجد شكسبير بين قورنيل ومولير، ولم يعط يده اليسرى لقورنيل، ويده اليمنى لمولير لبقي كل منهما بعيدا عن الآخر، ولكن بوجوده التقت الكوميديا بالتراجيديا التقاء القطب المثبت بالقطب المنفي من الكهربائية، فحصل من التقائهما شرارة هي الدرام.
ثم انتقل فيكتور هوكو لبيان حقيقة الدرام بالنظر لفلسفة التاريخ، فقال:
إذا اقتربت مملكة من السقوط تمكن الناظر فيها من ملاحظة علائم كثيرة، ففي بادئ الأمر تميل الأشراف للانحلال، وبانحلالها تنقسم على الوجه الآتي: تضطرب المملكة وتنطفي السلالة المالكة، وتزول أحكام القانون، وتتجاذب الدسائس الوحدة السياسية فتمزقها شذر مذر، وتخمد كبار العائلات وتنقرض، ويشعر الجميع في الداخل والخارج بضعف مميت، وتسقط عظائم الأمور التي تقوم عليها الدولة ولا تبقى واقفة إلا على صغائر الأمور وحدها، ويصبح منظرها العمومي محزنا، ولا يبقى فيها لا ضابطة ولا عسكر ولا مالية، وكل واحد يحسب الساعة آتية لا ريب فيها، فمن ذلك يحدث في جميع الأذهان كدر من البارح وخوف من الغد، واحتراس من كل إنسان ويأس من كل شيء ونفرة زائدة، وحيث إن مرض الدولة في رأسها؛ فأعيان المملكة الذين هم أقرب إلى الرأس يكونون أول المصابين بهذا المرض، فماذا يحدث حينئذ؟ لا يبقى في قصر الملك من الأعيان المقربين إلا الذين هم أقل حياء وأسوأ أخلاقا، وجميعهم على وشك الانقراض، ويضيق الزمان وتنبغي العجلة ويلزم لهم الاستهلاك في جميع المال، والارتقاء لأعلى المراتب والاستفادة من الحال الحاضرة، ولا يفتكر الواحد منهم إلا بنفسه، ويجمع بلا شفقة على الوطن ثروة قليلة خاصة به في قرنة من الفقر العام الكبير، ويصير نديما ويصير وزيرا، ويتهالك على الوصول للسعادة وإنفاذ الكلمة، وينفتق ذهنه باستحضار الأجوبة الظريفة، وينافق ويداهن ويلاطف فينجح، وكلهم يستحوذون على مقامات الدولة ومناصبها، وعلى وساماتها ورتبها وألقابها وأموالها، ويأخذون الجميع، ويتطلبون الجميع، وينهبون الجميع، ولا يعيش الواحد منهم إلا بالحرص والطمع، ويخفون قلاقل المملكة واغتشاشاتها وسوء إدارتها الداخلية تحت مهابة ظاهرية، وتشره نفوسهم للعجب، وتتطاول أعناقهم للعظمة والكبرياء ، وحيث كان الشرط الأول في حياة هؤلاء المقربين هو نسيان جميع الحواس الطبيعية، فيصبح الواحد منهم كأنه وحش مفترس، ومتى جاء يوم سقوطه وإبعاده عن مناصب الدولة صار مدهشا عجيبا وانقلب إبليس.
فإذا يئست الدولة من حالتها أبعدت عن مراكزها النصف الثاني من أعيان المملكة، الذين هم أكرم نسبا وأحسن جرثومة، فيلتزمون بيوتهم ويدخلون قصورهم، ويذهبون لبلادهم ومعاقلهم ومصائفهم، وينفرون من مصالح الدولة، ولا يستطيعون تدبير أمر ولا بيدهم حيلة؛ لأن المملكة قد حان موتها ولم يبق في الأيام إلا ذماء، (الذماء بقية الروح في المذبوح) كيف العمل وماذا يجدي التحسر وما ينفع البكاء؟ فينبغي التغافل وإغماض العين، وتسلية النفس بالملاهي واللعب والأكل والشرب والتلذذ والتنعم، من يعلم؟ هل بقي للواحد منهم سنة أو سنتان أمامه؟ فإذا تفوه سادة المملكة وكبراؤها بذلك أو شعروا به، وأحسوا بشيء منه فقط أقبلوا على التهور في مصالحهم، والإفراط في أمورهم، فزادوا في مشترياتهم وفي حلي نسائهم وفي ضيافاتهم، وإتقان مطابخهم وموائدهم، وأسرفوا وبذروا وأهدوا وفرقوا وباعوا، واشتروا ورهنوا واستدانوا وسلموا أنفسهم لآكلي الربا، وأتلفوا مداخيلهم وأضرموا النار في الجوانب الأربعة من أملاكهم، فيصبح الواحد منهم يوما وقد حلت به المصيبة، ونزل عليه البلاء، وخرب هو قبل خراب المملكة رغما عن سرعة سيرها نحو الانقراض، فينفذ ماله ويحترق كله ولا يبقى من تلك الحياة الزاهرة والطهي والبهرجة، ولا الدخان لأنه طار أيضا، ولم يبق إلا الرماد ولا أكثر من ذلك، فيتركه جميع الناس وينسونه إلا أصحاب الديون، فتصير حالة هذا الشريف المسكين إلى ما يمكن أن تصير إليه، فيصبح بائسا سفيلا من الرعاع ويدور مع الهمل، ويختلط بجمهور العامة ويغيب بين أفواجهم المزدحمة.
ولم يكن خالط العوام قبل ذلك ولا رآهم إلا على أبوابه وأعتابه، فيغطس الآن بينهم ويلتجئ إليهم، ولم يبق معه نضار وإنما بقيت له «الشمس» أي نضارة الحياة وهي ثروة من لا ثروة له، وبعد أن أقام في أعلى طبقات الجمعية، فهو الآن يقيم في أسفل طبقاتها، ويدرب نفسه على الذل بعد العز، ويهزأ بالذين اشتد بهم الحرص والطمع حتى نافقوا وتقربوا من أولي الأمر، وصاروا من الأغنياء النافذي الكلمة، وأما هو فيصير فيلسوفا لا يبالي بالإقبال والإدبار، ويشبه من حوله من رعاع الناس وأوباشهم بحاشية القصر ورجال المعية، ويتخذ منهم جماعة وأخدانا ويترأس عليهم ويراعي النخوة والشهامة في جانبهم، وعدا هذا فهو طيب العنصر جسور القلب مفطور على النجابة والفطنة جمع في أخلاقه وخصاله بين ذوق الأديب الشاعر، ودناءة الصعلوك الفقير، وشهامة الرئيس الأمير، لا يبالي بأمر ويسخر من كل شيء ويشوق رفاقه وأصحابه للسرقة، كما كان يبعث برجاله وأتباعه للنهب والغارة؛ ولكنه لا يتنزل لأن يسرق أو يستعطي بنفسه، تراه رث الظاهر سليم الباطن ذا كرم وسخاء كالأمير، وتهور كتهور اليائس الفقير، لم يبق له من الأصالة إلا شرف النسب الذي يحافظ عليه، والاسم الذي يخفيه والسيف الذي يشهره.
فهاتان الصورتان اللتان رسمناهما ووصفنا بهما قسم المقربين وقسم المبعدين من أشراف المملكة يوجدان في وقت من الأوقات في تاريخ جميع الممالك، ولكنهما في أواخر القرن السابع عشر للميلاد وجدتا في إسبانيا بصورة جالبة للنظر؛ ولذا شخصنا في هذه الرواية التمثيلية القسم الأول من كبراء إسبانيا في الدون سالوست المقرب من قصر الملك والمنعم عليه، والقسم الثاني في الدون قيصر (سيزار) الذي يرعى مع الهمل مع أن كلا منهما ابن عم للآخر، وعدا هذين الشخصين الذين يتمثل فيهما كبراء المملكة الإسبانية المقربين والمبعدين يوجد تحتهما شيء كبير مظلم مجهول يتموج في جنح الظلام، فهذا الشيء هو الشعب الذي له المستقبل وليس له الحاضر. فالشعب يتيم فقير ولكنه ذو قوة واستعداد وقابلية، يتطلب العلى وهو في الدرك الأسفل، وعلى ظهره علامة الخدمة والاستعباد، وفي قلبه شوق للمعالي، الشعب خادم للسادة الكبراء، وعاشق وهو في الذل والشقاء للصورة الوحيدة التي تتلألأ له وسط هذه الجمعية المنقرضة، كأنها نور إلهي ويتمثل له فيها الحاكمية والشفقة والنمو، فالشعب هو «روى بلاس» خادم الدون سالوست.
فإذا تصورنا هؤلاء الأشخاص الثلاثة على الوجه المشروح، فيقتضي إحياءهم وتمشيتهم أمام أنظار المتفرجين، وندير عليهم أعمالا ثلاثة تتلخص فيها جميع أحوال المملكة الإسبانية في القرن السابع عشر، ويوجد فوق هؤلاء الرجال الثلاثة مخلوقة صافية نيرة، فهذه المخلوقة هي امرأة وملكة، وهي في شقاء من حيث إنها امرأة؛ لأنها لم يكن لها زوج، وهي في شقاء من حيث إنها ملكة؛ لأنها كأن لم يكن لها ملك، ومتعطفة على من تحتها بعاطفة ملكة وقلب امرأة، وناظرة للدرك الأسفل بينما أن روى بلاس الذي تتشخص فيه الأمة ناظر للمقام الأعلى، فبقطع النظر عن الأشخاص الثانوية فهذه الرءوس الأربعة المجتمعة على هذا الوجه هي في نظر المؤرخ الفيلسوف النكات الأصلية لمملكة إسبانيا قبل 140 سنة، ويمكن لنا أن نضيف رأسا خامسا لهذه الرءوس الأربعة، وهو رأس الملك شارل الثاني، ولكن شارل الثاني ملك إسبانيا لم يكن شخصا، بل هو في نظر التاريخ ظل؛ ولذا بقي في الدرام ظلا لم يبن شخصه.
فما ذكرناه للآن إنما هو بيان لحقيقة هذه الرواية، وهي روى بلاس بالنظر لفلسفة التاريخ، ويمكننا النظر إليها باعتبار آخر؛ لأن الأشياء في هذا العالم تختلف أشكالها باختلاف النظر إليها، ومثل ذلك كمثل الجبل الأبيض، إن نظرت إليه من المحل المعروف باسم «فروا دو فليشر» تراه بهيئة غير الهيئة التي تراه فيها لو نظرت إليه من المحل المعروف باسم «سالانش»، ومع ذلك فهو دائما الجبل الأبيض، وكذا الحال في هذا الدرام فإنه يختلف شكله باختلاف النظر إليه، فلو نظرنا إليه باعتبار الإنسانية المحضة لرأينا الدون سالوست يتشخص فيه حب الذات والاهتمام، واشتغال الفكر والتغرض، والدون سيزار بعكسه يتشخص فيه عدم المبالاة وعدم الاهتمام، وراحة البال وعدم التغرض، وروى بلاس يتشخص فيه الذكاء والعشق واقتحام الأخطار والمهالك، والملكة يتشخص فيها الفضيلة المائلة للانتهاك بسبب الملل وضيق الخلق.
وأما باعتبار صناعة الأدب، فيجتمع في هذا التأليف الأنواع الثلاثة من الروايات التمثيلية، الدون سالوست هو الدرام، والدون سيزار هو الكوميديا وروى بلاس هو التراجيديا، فالدرام يعقد العمل والكوميديا تشوشه والتراجيديا تحسمه.
فالموضوع الفلسفي لهذه الرواية هو تطلع الأمة وتطلبها للمقامات العالية، والموضوع الإنساني هو رجل يحب امرأة، والموضوع الدراماتيقي؛ أي الفاجع أو الهائل هو محبة خادم الملكة، فجمهور العوام لا يرون إلا الموضوع الأخير أي: الدراماتيقي الذي هو الخادم، والحق معهم. وهكذا يقال في كل تأليف من هذا القبيل، فترتوف يضحك منه واحد ويرهب منه آخر، فإن ترتوف حية تسعى في البيت، فهو المرائي بعينه، فيكون تارة إنسانا وتارة معنى. وأوتلو هو في نظر البعض أسود يحب بيضاء، وفي نظر البعض الآخر هو وضيع تزوج بشريفة، وفي نظر الآخرين هو غيور أو هو الغيرة على النساء.
ثم إن هذه الرواية لها تعلق من جهة المعنى التاريخي برواية إيرناني، فإن حالة الكبراء في الروايتين تظهر بجانب حالة المملكة، ففي إيرناني لم تكن إسبانيا اكتسبت شكل الحكومة المطلقة؛ ولذا كان الكبراء ينازعون الملك في الأمر ويقوون عليه تارة بالنفوذ وتارة بالسيوف، ويخرجون عليه مرة ويطيعونه أخرى - كما كان الحال في المملكة العثمانية على عهد الجزار صاحب عكا وباشاوات مصر وبكوات تونس، ودايات الجزائر، وبقية الأمراء الذين يقال لهم: درة بك - ففي سنة 1519م كان الكبراء في إسبانيا يبتعدون عن قصر الملك، ويقيمون في الجبال وفي المعاقل والحصون، ويكونون تارة من قطاع الطريق مثل إيرناني وتارة من الأمراء المستقلين في إدارتهم الداخلية مثل روى غومز كما فصلت أحوالهم في تلك الرواية، ثم بعد مأتى سنة من ذاك التاريخ انقلبت القضية، فصار الكبير الذي كان أشبه بالمستقل في إدارته رجلا من رجال المعية ينافق لينفق، والبعض الآخر من الكبراء سقطوا في الفقر والمذلة، فهم يخفون أسماءهم لا للتملص من سطوة الملك، بل للتملص من أصحاب الديون وإلحاحهم، فالواحد منهم لا يصير قاطع طريق بل يصير نوريا أي: من الرعاع، فيرى من ذلك أن الحكومة المطلقة مرت عن هؤلاء الكبراء أعواما كثيرة، فأحنت رأس هذا وقطعت رأس ذاك.
ثم إن بين رواية إيرناني ورواية روى بلاس مضى على إسبانيا قرنان من الدهر حكم أخلاف شارلكين في غضونهما الدنيا، وكان من الحكمة الإلهية عدم زيادة ساعة، ولا تنقيص ساعة في هذين القرنين؛ لأن شارلكين ولد سنة 1500م، وشارل الثاني مات سنة 1700م، ففي سنة 1700م ورث لويس الرابع عشر شارلكين كما ورث نابوليون سنة 1800م لويس الرابع عشر، فالمؤلف عطف أنظاره نحو التاريخ ونحو ظهور هذه الدول المعظمة فيه، وملأ رواية إيرناني بضياء الفجر، ورواية روى بلاس بظلام الشفق، ففي إيرناني أشرقت شمس آل أوستريا، وفي روى بلاس غربت. انتهى.
باريس في 25 نوفمبر سنة 1838م
فيتضح من هذه المقدمة رغما عما فيها من ركاكة الترجمة؛ لعدم تنقيحها بسبب ضيق الوقت حقيقة الروايات التمثيلية، وكيفية تشخيصها للأخلاق الإنسانية وتصويرها الوقائع التاريخية، كما يظهر الفرق بين أنواع الروايات من درام وكوميديا وتراجيديا، فإن تأليف الروايات له شروط وقواعد وأساليب كما أن له غاية ومقصدا، ويتضح من ذلك أيضا وجه اعتراض الإفرنج على المقامات الحريرية التي أشبه بالكوميديا، ولعل أدباءنا ينهجون هذا المنهج الجديد في التأليفات الأدبية، ولا يقفون عند حد القصيد والرجز أو الرسائل والمقامات والخطب، فإن القرن العشرين مفتقر إلى تصوير الأخلاق الشرقية بأسلوب الروايات التمثيلية، ومحتاج إلى درس تاريخ الأمم الشرقية درسا مدققا ومعرفة خصال كل رجل من مشاهير رجاله، كصلاح الدين وموسى بن نصير وأمثالهما، ونظم الكونت دوليسل وهو خليفة فيكتور هوكو والمنتخب عوضا له في الأكاديمية قصيدة غراء سماها موسى الكبير، وصور فيها محاكمة موسى بن نصير ووقوفه بين يدي الخليفة الأموي، ومدافعته عما اتهم به كما أن عبد الحق حامد بك ألف باللسان العثماني رواية طارق بن زياد، وهي نثرية تمثيلية وفيها أشعار بديعة.
الملك يتسلى
صور فيها المؤلف فرانسوا الأول ملك فرنسا ومجنونه وتريبوله؛ لأن الملوك كان لهم مجانين ومهرجون ومضحكون، وأقزام قصار القامة ومساخر، ولم يزل يشاهد أثرهم وبقيتهم في بلاد الشرق. ولعهد قريب كان للولاة في بلادنا مساخر ومضحكون يسمونهم المهرج والسوطري، ولم يزل منهم من هو حي ليومنا.
وأما في أوروبا فاعتاضوا عن جميع ذلك بالمراسح وتفننوا في تنويعها، فجعل المؤلف فرانسوا الملك المتكبر الجبار وتريبوله المجنون المضحك الهزئة على طرفي نقيض في مرسح اللعب، ولكن تريبوله مع ما هو عليه من دناءة النفس والتلصص كان أبا حنونا شفوقا على أولاده، فكانت له خصلة حسنة من جهة الأبوة، وقد قام بحقها أحسن قيام وأظهر إحساسه الأبوي على بنته حينما أراد الملك أن يقع بها للتسلية.
لوكريس بورجيا
بورجيا عائلة إسبانية الأصل انتخب منها باباوات أشهرهم البابا إسكندر السادس، وصار لهذه العائلة نفوذ عظيم في رومية وإيطاليا، وجميع العالم الكاثوليكي، وكان للبابا إسكندر السادس أولاد منهم قيصر بورجيا المشهور بارتكاب الأفعال الدنيئة والجنايات الفظيعة، وكان أسقفا وله أخت تسمى لوكريس بورجيا.
فموضوع الرواية أن خمسة شبان من أولاد الكبراء اجتمعوا في البندقية (فينيسيا) في مرقص تستر فيه الراقصون والراقصات بالبراقع، ثم جلس هؤلاء الأصحاب يتسامرون وأفضى بهم الحديث إلى ذكر الفظائع، وتعداد الجنايات التي ارتكبتها عائلة بورجيا، وكان أحدهم القبطان جينارو نام على حديثهم، ثم استفاق على قبلة قبلته إياها في جبهته امرأة مستترة بالبرقع لم يعرفها، فهذه المرأة هي أمه لوكريس بورجيا، وسمعت قذف أولئك الشبان في حقها وحق عائلتها، ولم يكتف الشبان بالكلام بل مروا بباب دار زوجها الدوق دوفيرار، ومعهم جينارو فتطاول على تاج الدوقية المرسوم على بابه، وطعن في لوكريس بورجيا وفي أخيها وأبيها، فأمر الدوق بإلقاء القبض عليه وحبسه، وطلبت زوجته قتله، ثم لما علمت بأنه ولدها طلبت العفو عنه، فاغتش الدوق دوفيرار من ذلك وظنه واحدا من عشاقها، وأجبرها على سقيه السم، وبعد خروج زوجها من البيت سقت ولدها المسموم ترياقا نافعا ضد السم فشفي، وفتحت له الباب وهربته وهو لا يدري بأنها أمه، ثم أرادت الانتقام من رفاقه الخمسة الذين طعنوا فيها في مرقص البندقية، فاحتالت في دعوتهم عند الأميرة تغروني، وفي سقيهم السم القاتل وبينما هم منهمكون في اللذات على المائدة ومتنعمون بنعيم الضيافة، وإذا سمع النواح ودخل الرهبان بأثواب المأتم، وخلفهم خمس توابيت لحمل الموتى، وظهرت لوكريس بورجيا على المرسح شامتة في أعدائها الخمسة الذين قذفوا في عرضها، والسم يدور في بدنهم ولا يمهلهم إلا برهة قليلة، ولكن جينارو لحق برفاقه وأراد الموت معهم، وشرب من كأسهم ورفض من أمه الترياق الذي ناولته إياه؛ لتنقذه من السم وطعنها بخنجره، وهو لا يدري بأنها أمه فقالت له حينئذ لوكريس بورجيا: «أنا أمك» وختمت الرواية بموتهم جميعا، ومراد المؤلف من هذه الرواية بيان أن أشقى النفوس وأظلمها وأطغاها قد تتجمل بإحساس كالإحساس الناشئ من محبة الوالدة لولدها.
توركماده
وهي من روايات التمثيلية التاريخية، أما توماس توركماده فهو رئيس محاكم التفتيش الديني في إسبانيا، وقد اشتهرت هذه المحاكم بالظلم والعدوان والتعذيب بأنواع آلات العذاب كالضرب الشديد، وشد المعذبين بالمشدات حتى تتخلخل عظامهم، ونتف شعورهم وإلباسهم الطاسات المحمية، ووضعهم في صناديق مسمرة حتى إذا تحرك الموضوع فيها دخل المسمار في بدنه ومزق جلده ولحمه، وغير ذلك من أنواع العذاب والإحراق بالنار أو التغريق في الأنهار والبحار، وعرفت هذه المحاكم باسم «إنكيزيسيون»، وكان أول تأسيسها في قشتالة وأراغون من إسبانيا لمحاكمة المسلمين واليهود، والمشكوك في إيمانهم من النصارى الذين يتساهلون بفرائض الدين الكاثوليكي، وتوفي توركماده سنة 1498م؛ أي عقب إخراج المسلمين من إسبانيا.
بورغراف
وهي من الروايات التمثيلية أيضا، وهذا الاسم يطلق على ذوي الآراء السخيفة لا سيما في المسائل السياسية، والبورغراف هم أمراء البلاد، ومحافظو القلاع كما كان الجزار في عكا وأبو نبوت في يافه، ولم يزل له في يافه سبيل ينسب إليه، ويروى عن هؤلاء الولاة والأمراء الروايات الغريبة، والأقاصيص العجيبة، فصور فيكتور هوكو في رواية بورغراف أخلاق أمراء الألمان وغرائب أحوالهم.
ماري تيد
وهي ملكة الإنكليز (1516-1553م) بنت هانري الثامن، وكانت مخالفة للإصلاحات والنظامات الجديدة شأن المستبدين من الملوك، فألف الشاعر فيها هذه الرواية.
أنجلو
اسم ملك ظالم من ملوك بادو في إيطاليا اتخذه الشاعر موضوعا لروايته.
ماريون دولورم
غانية من غواني باريس كانت على عهد لويس الثالث عشر والكردينال ريشيليو الوزير الشهير، فصورها الشاعر في روايته.
أسمرالده
اسم نورية في باريس ولعلها من الأشخاص الموهومة، واتخذها المؤلف عروسا لهذه الرواية التمثيلية ولقصة «نوتردام دوباري».
امي روبسار
فهذا ما ألفه فيكتور هوكو في الروايات التمثيلية وسماه درام، وأكثر هذه الروايات منظوم ومنها ما هو نثر. (19) نثر فيكتور هوكو
المنثور من كلام فيكتور هوكو على فنون كثيرة، منها فن القصص المعبر عنها بالرومان، ومنها الأدب والفلسفة، والانتقاد الأدبي، والتاريخ، والرحلة والمراسلات، والأقوال والأعمال، والمشهودات ونحو ذلك: (1)
فأشهر القصص التي ألفها هي قصة البؤساء، وذكرنا فيما سبق أن العلامة الفاضل شمس الدين سامي بك الفراشري - وفراشر قرية في ولاية يانيه من بلاد الأرناؤد - ترجم جزءا كبيرا من هذه القصة للسان العثماني، وسماه السفلاء ونشره بمطبعة مهران في الأستانة. ولسامي بك تآليف كبيرة مفيدة مثل قاموس الأعلام في ست مجلدات ضخمة وقواميس صغيرة وكبيرة من التركية للفرنساوية ومن الفرنساوية للتركية، وغير ذلك من المؤلفات النافعة العصرية.
أما الباعث على تأليف هذا الكتاب، فهو ما ذكره المؤلف في مقدمته حيث قال: طالما وجد عذاب اجتماعي بفعل القوانين والعادات، طالما لم تحل الثلاث المسائل العصرية، وهي الحط من كرامة الإنسان بكثرة البؤساء، وسقوط المرأة في العهر بسبب الجوع، وفقر دم الأولاد باشتداد برد الليل، طالما وجد في الناس جهالة وفقر، فالكتب التي هي جنس هذا الكتاب لا تخلو من الفائدة ...
وموضوع الكتاب أن رجلا فقيرا يدعى جان فلجان كسر قفل الخباز، وسرق رغيفا ليطعمه لأولاد أخته الجياع فحكمت عليه المحكمة وفقا للقوانين بالأشغال الشاقة، وألقي في الحبس الذي هو جهنم الهيئة الاجتماعية ولاقى من الآلام والمحن ما لاقاه على زعم النصارى المسيح بن مريم - عليهما السلام - تخليصا للبشر من الخطايا، فكان جان فلجان فداء للأخلاق الإنسانية. وبعد تحمله الآلام والمشاق الكثيرة صعد إلى النور، وكان الأسقف ميريل وهو من أشخاص هذه القصة وعظ هذا الجاني بالصبر على المصيبة، ووضع في نفسه المظلمة شعاعا طفيفا فاستنارت ثم توقدت وتوهجت، فصور الشاعر ما اختلج في صدر هذا المحكوم عليه من الهيجان وعبر عن ذلك بحدوث زوبعة عاصفة في قرعة الرأس، ومن أشخاص هذه القصة وأبطالها البنت فوزيت والبوليس جافر وبين حالة العملة والشغال الذين يلجئهم الفقر والجوع إلى ارتكاب القبائح والجرائم، وحالة البنات الشغالات اللواتي صيرتهن المتربة من العواهر الفاجرات، وصور الفقر المدقع والجوع القتال أحسن تصوير، وفي هذه القصة أيضا أخبار كافروش وهو من رعاع باريس، وما جرى له مع البوليس جافر وقد اشتهر خبرهما حتى ضرب بهما المثل، ومما ذكره المؤلف بطريق العرض في هذه القصة محاربة واترلو التي غنمها نابوليون الأول، ووصفها بكلام نثري أشبه بالشعر الحماسي، وذكر أيضا الفتنة التي حدثت في باريس سنة 1832، أما البوليس جافر فجعله مثالا للطاعة والقيام بأعباء الوظيفة. (2)
نوتردام دوباري، وهي كنيسة باريس الجامعة سمى بها قصته لجريان حوادثها في هذه الكنيسة وفي أطرافها، وهي بنيان ضخم غليظ في وسط باريس بقرب نظارة الضبطية ونظارة العدلية أو الحقانية، وموضوع القصة عبارة عن عشق ضابط فرنساوي يدعى فوبوس لرقاصة نورية تدعى أسميرالده ورقاية راهب الكنيسة لهما وخطف أحد الأشقياء المدعو كازيمودو للبنت، فالموضوع بسيط عادي ومهارة المؤلف تظهر في تصوير الحالة التي كانت عليها باريس في القرون الوسطى، ووصف ما فيها من الأزقة المظلمة والطرق الغير مستقيمة، ووصف أهلها ما بين بائع وتاجر وصانع وتلميذ وجندي وشريف ووضيع، وهم يمرون أمام الكنيسة أفواجا أفواجا ويروحون ويغدون في فنائها ويستظلون بظلها، وصور جميع ذلك بصورة خيالية وهمية لطيفة تعجب القارئين، وهي مؤلفة على أسلوب اللغة الرومانية. (3)
هان الإسلاندي، وهي قصة مصورة للجمال الذي قد يكون في الشنيع، كما صور محبة الوالدة لولدها وتهافتها على إنقاذه من مخالب الموت في رواية لوكريس بورجيا رغما عن قساوة أخلاقها وسوء أفعالها، وكما صور هذا المؤلف أيضا في رواية الملك تسلي إشفاق الوالد على بنته وغيرته على ناموسها، وسعيه في تخليصها من أيدي الملك مع أن هذا الوالد لا يغار على ناموس نفسه، ولا على شرفها ولا يبالي في ارتكاب أنواع الدناءة والمجون، ومن بديع الحكم التي في قصة هان الإسلاندي ما ذكره في مقدمتها عن «نضج القريحة» قال:
في كل مصنف فكري مثل الدرام والشعر والرومان ثلاثة أشياء: ما شعر به المؤلف، وما نظر فيه المؤلف، وما تنبأ به المؤلف، فليكون الرومان (القصة) حسنا ينبغي أن يكون فيه كثير مما شعر به وكثير مما نظر فيه، وأما الشيء المتنبأ به فيلزم أن يظهر من تمام الشيء الذي شعر به، والشيء الذي نظر فيه بغير احتياج للحل، وإنما بالطبع والبداهة.
فإذا انقضى الفصل الأول من العمر وانحنت الجبهة على الكتاب والكتابة وشعر المرء باحتياجه لعمل شيء آخر خلاف الحكايات الغريبة التي يخوف بها النساء العجائز والأولاد الصغار، واحتك بالحياة احتكاكا خلق ديباج شبابه، يعلم حينئذ أن كل إيجاد وكل اختلاق وكل تنبؤ في هذه الصناعة ينبغي أن يكون أساسه مبنيا على الدرس والنظر، والتفكر والعلم والقياس والمقابلة والتعقل الصحيح، وكمال الدقة في تصوير الأشياء بحسب الطبيعة، ونقدها نقدا خاليا من الغرض والهوى، فالإلهام الحاصل من مراعاة هذه الشروط الجديدة لا يضيع شيئا من هذه الصناعة الأدبية، وإنما يكسب صاحبها نفسا عاليا وجناحا قويا، ويعرف الشاعر بالطريق التي يسلكها حينئذ، وجميع التخيلات الهوائية التي تخيلها في سني حياته الأولى تجمد على هيئة مخصوصة كما يجمد الجليد، ويتشكل منها فكرة ورأي. فهذا الدور الثاني من حياة المصنف المتفنن هو الزمن الذي يؤلف فيه أحسن مصنفاته ويكون فيه شابا نضيج الرأى، فهذه هي الصحيفة الثمينة والنقطة العليا التي هي الأوج والساعة التي يشتد فيها الحر والضياء من وسط النهار، واللحظة التي يقل فيها الظل إلى أقل ما يمكن، ويكثر فيها النور إلى أكثر ما يمكن ... ا.ه. (4)
بوغ جارغال، حرر فيكتور هوكو هذه القصة وهو في السادسة عشرة من عمره، وطبعها ثم صححها وأعاد طبعها، وموضوعها أنه في سنة 1791؛ أي في أثناء الانقلاب الكبير الفرنساوي كان في جزيرة سن دومينيك من جزر الانتيل الأميركانية عبد أسود يسمى بييرو يخدم عند أوروبي من أغنياء المستعمرين فأحب ابنته مارية حبا شديدا وكانت بديعة الحسن والجمال، ولها خطيب فأخفى العبد حبها ولم يبح لها بشيء، ولكنها كانت تلاحظ حنوه وإشفاقه عليها، وخطيبها كان يرى ذلك، ويعجب من جرأته على محبة خطيبته، ثم حصلت ثورة العبيد السودان على المستعمرين من البيضان، وفي أثناء معامع الثورة خطف أحد السودانيين مارية، وذهب بها إلى مكان بعيد فخرج خطيبها يفتش عنها، فقبض عليه الثائرون وأرادوا قتله، وأحضروه بين يدي بييرو وكان انتخب بوغ جارغال؛ أي: رئيسا للثائرين فحماه من شرهم وجمع بينه وبين خطيبته مارية، ثم إن بوغ جارغال ضحى بنفسه لسلامة معشوقته وخطيبها؛ ولتخليصهما من أيدي العبيد الثائرين، وسلم نفسه لأعدائه البيضان ليقلتوه وأداه حبه إلى فداء روحه في سبيل محبوبته، ومن هذه القصة يظهر اقتدار المؤلف في تصوير الوقائع مع حداثة سنه. (5)
آخر أيام المحكوم عليه بالقتل، ألف فيكتور هوكو هذه القصة سنة 1829، وصور فيها المحكوم عليه بالإعدام وهو في سجنه ينتظر حلول الساعة التي ينقضي فيها أجله وتزهق روحه، وعبر بأسلوب بديع عن بكائه واضطرابه وانزعاجه، وبين جميع ذلك بأساليب شعرية لا وصفية فقط، فكان المؤلف كأنه يشاهد جميع حركات هذا المسكين وارتجافه، واختلاج عضلاته اختلاجا طبيعيا لكسر سلاسل الحديد التي برجليه، والحبل المربوط بيديه، وكأنه يفهم ما يقوم في ذهنه ويخطر في باله من الأفكار المرعبة، والتصورات الهائلة المدهشة، فحرر جميع ذلك بكيفية مؤثرة محزنة يكاد القارئ يجن من تلاوتها. ففيكتور هوكو أجهد نفسه كثيرا في إبطال الجزاء بقتل النفس، وسعى في إلغاء هذا الجزاء بقلمه ولسانه، وخطب في هذا الموضوع خطبا كثيرة في مجلس النواب، وفي النوادي والمجتمعات، ولكنه لم يتوفق لرفع جزاء القتل من القانون الفرنساوي. (6)
المشتغلون بالبحر، ومقدمتها تبحث عن أرخبيل بحر المانش الفاصل بين فرنسا وإنكلترة، فصور المؤلف في هذه القصة ما يكابده الملاحون، والنوتية من العذاب الأليم، وما يقاسونه من الأهوال، والشدائد عند تخالف الهواء، وحصول الأنواء وتلاطم الأمواج وانكسار السفن، وإشراف من فيها على الهلاك ووقوعهم فريسة لحيوانات البحر، ومنها الحيتان الكبيرة ومنها ما يلتف على الإنسان كما يلتف الحبل ويشد وثاقه شدا محكما حتى لا يستطيع حراكا، ثم يعض بدنه كالعلقة ويمتص جميع دمه، ويسمى هذا الحيوان البحري
هبراو (ربيله)، ومن البلاء الذي يقع فيه الفلاحون وصيادو السمك أيضا رمال المستنقعات التي على سواحل البحار يحسبها الواحد منهم أرضا يابسة، فإذا وطئها غاصت رجلاه في الرمال وكلما تحرك حركة للتخلص منها زاد غطسا فيها إلى رأسه، ويستمر في هذا العذاب الأليم، وهو يشاهد الموت بعينه ولا سبيل للنجاة حتى يغرق ويموت خنقا، فوصف الشاعر مجاهدة المشتغلين بالبحر من أفراد الإنسان، والمعترك الذي يحصل بينهم وبين الطبيعة أتم وصف مما يذكرنا بقصة السندباد البحري، وما لاقاه في أسفاره. (7)
الإنسان الضاحك، ألف فيكتور هوكو هذه القصة سنة 1869، وجعل حوادثها تجري في إنكلترة على عهد ملكتها حنه (آن المعاصرة للويس الرابع عشر في أوائل القرن الثامن عشر للميلاد)، وموضوع القصة أن أحد مرقصي الدبب كان يتجول في جنوب إنكلترة، ومعه دب سماه هومر ومركبة يسكن فيها ويجر أثقاله عليها كما يفعل مرقصو الدبب ليومنا هذا في أوروبا، ولم يزل منهم في جنوب فرنسا، وأكثرهم عثمانيون من أهل البوسنة والهرسك يحملون الباسابورط، ويحتمون بقناصل الدولة العلية، فكان هذا الرجل يرقص دبه أمام الجمهور ويضحكهم ويسليهم، ويعتاش من إحساناتهم، وعطاياهم وكان صافي النية حسن الطوية مع كونه هزءة ومسخرة للناس، فالتقى ذات يوم بصبي مشوه الخلقة يحسبه الناظر إليه ضاحكا على الدوام، وكان هذا الصبي اختطفه سارقو الأولاد فشوهوا خلقته وتركوه وحده في البراري، فالتقى ببنت حسنة الوجه ولكنها عمياء كانت خرجت مع أمها، فنزل الثلج عليهم وماتت أمها من شدة البرد، فاصطحب الصبي بالبنت وأحبها، ثم إن ذاك الرجل التقى بهما وتبناهما وحملهما معه في مركبته، وطاف بهما البلاد وهو يسترزق من حرفته ويطعمهما، ولم يزل على ذلك إلى أن كبرا وبلغا أشدهما، فذهب بهما الرجل يوما إلى لوندرا، فتعرف أناس على الشاب وأخبروه بأنه هو ابن البارون فلانشارلي من أعيان إنكلترة ولورداتها، فاستلم هذا الإنسان الضاحك ثروة أبيه وملكه، وصار عضوا في مجلس اللوردات بعد تلك السفالة التي قضاها في سني صبوته، وصار لا يتكلم في المجلس إلا بالمحاماة عن البؤساء، والتقريع على الأعيان والكبراء الذين لا ينظرون إلى الضعفاء والمساكين، وكان ذا لهجة شديدة ولكنها غير منتظمة، فكان إذا أتم خطبته استولى الضحك على جميع الأعضاء، ولم يقرروا إجراء شيء من طلباته.
وأورد المصنف في هذه القصة كثيرا من الحكم والفلسفة من ذلك ما قاله عن الطبيعة والحياة: ... بعد كل شيء فالإنسان لا يعيش كثيرا والحياة قصيرة تمضي بسرعة، كلا! بل هي طويلة! لأن الطبيعة أظهرت - ولو بشيء قليل - عنايتها بالإنسان؛ لكيلا تفتر همتنا في غضون ذلك؛ ولكي يكون على بصرنا غشاوة، فنرضى بالبقاء ولا نغتنم الفرص المناسبة لشنق أنفسنا بما أعدته لنا من الحبال والمسامير؛ ولذا أنبتت لنا القمح وأنضجت العنب وأنطقت البلابل وهي مراثية بإنشادها أغاني السرور وإخفائها الكمد، وأرتنا في بعض الأحيان شعاعا من الفجر فهذا ما يسمونه بالسعادة، وما هي إلا طرف رقيق من الخير يحيط بكفن عريض من الشر، فهذا حظنا من الدنيا نسج الشيطان منه السداة واللحمة، ولم يطرز الرحمن فيه إلا أطرافه وحواشيه ا.ه.
قال المعري مخاطبا الدنيا:
يموج بحرك والأهواء غالبة
لراكبيه فهل للسفن إرساء
إذا تعطفت يوما كنت قاسية
وإن نظرت بعين فهي شوساء •••
فلا تغرنك شم من جبالهم
وعزة في زمان الملك تعساء
نالوا قليلا من اللذات وارتحلوا
برغمهم فإذا النعماء بأساء (8)
ثلاث وتسعون؛ سماه بذلك لأنه بحث فيه عن وقائع سنة 1793، وقص فيه قصصا حكيمة فلسفية موضحة لحقيق الانقلاب الكبير الفرنساوي، وللسبب الحامل لأصحابه على الثورة ومقاومة بعض الأهالي للثائرين؛ لعدم فهمهم المراد من الانقلاب، ومن الإصلاحات الجديدة ولاعتقادهم أن الملك قوة إلهية مفوضة للملك يفعل بمقتضاها ما يشاء برعيته، فهم عبيده يتصرف بهم تصرف المالك في ملكه. فبين المؤلف ذلك بأساليب بديعة يفهمها العوام والفلاحون، وعرفهم بأن القوة الحاكمة ينبغي أن تكون في الأمة، وأن سيد القوم يجب أن يكون خادمهم.
وأما ما ألفه في التاريخ فهو: (1)
نابوليون الصغير، كتبه المصنف بعد لبس نابوليون الثالث تاج الإمبراطورية، وكان هو يستشيط من ذلك غضبا فتهور في الطعن فيه والحط عليه، ولما طبع الكتاب جاء أحد المتبصبصين بنسخة منه للإمبراطور وكان في قصر سن كلو وهو في ضواحي باريس على نهر السين، فنظر فيه طويلا ثم التفت لمن حوله من الوزراء وأمراء العسكرية، وقال لهم باستهزاء وسخرية: انظروا يا سادة هذا نابوليون الصغير ألفه فيكتور هوكو الكبير، فلما بلغ الخبر مسامع فيكتور هوكو هجاه بقصيدة بليغة لم أر لها مثيلا في شعر أهل العصر إلا قصيدة كمال بك كبير الشعراء عن الأتراك. (2)
تاريخ جرم، وهو تاريخ حادثة نابوليون الثالث سنة 1851 ألفه المصنف في خمسة أشهر، ولم ينشر إلا بعد 25 سنة حينما سقط نابوليون الثالث، ويقسم هذا التاريخ إلى أربعة أيام: يوم المكيدة والكمين، يوم الحرب والنزال، يوم الذبح وقتل الأطفال، يوم الفوز بالنصر، ثم أتبعه بفصل خامس عنوانه يوم السقوط، فأوضح المؤرخ في هذا التاريخ صورة الجرم، ثم بين القصاص واستنتج من ذلك وظيفة الفرنساويين وهي العدل والحق. «الرين» وهو عنوان كتاب صنفه فيكتور هوكو في الرحلة والسياحة، وحرر فيه ما وجده في نفسه من التأثر والإحساس الباطني والانفعال بمشاهدة ضفاف الرين، وهو نهر في أوروبا ينبع من جبال الألب، ويمر من بحيرة قونستانس وبمدينة بال ومايانس وقوبلينتس وقولونيا، وأوترخت وليدن ويصب في بحر الشمال، ومما قاله في هذا التأليف عن الضمير والكائنات: ... لا شيء في يعارض كون الشجرة عالمة بثمرها، ولكن من المحقق أن الإنسان لا علم له بالمقدرة عليه، حياة الإنسان وعقله هما على خاطر، وكيف لا أدري أي ماكنة مظلمة يسميها البعض عناية إلهية، والبعض الآخر يسميها صدفة، فهذه الماكنة أو الآلهة تخلط وتمزج وتحلل كل شيء في الوجود، وهي تخفي دواليبها في الظلمات وتعرض نتائج محصولاتها في رابعة النهار، يحسب المرء نفسه يفعل شيئا وهو يفعل شيئا آخر، فالتاريخ مملوء بذلك ...
ولكن بين هذا الاختباط يوجد قوانين، فالاختباط ما هو إلا في الظاهر، والانتظام في الباطن، فبعد انقضاء مدة طويلة ترجع الحوادث المدهشة التي فتحت عيون أجدادنا كما ترجع النجوم ذوات الأذناب من أعماق التاريخ المظلمة، فالفخاخ هي دائما تلك الفخاخ بعينها والسقوط دائما عين ذاك السقوط، والغدر دائما عين ذاك الغدر، والمهالك هي دائما تلك المهالك بعينها، فالأسماء تتغير والأشياء ثابتة على ما هي عليه.
أما ما حرره فيكتور هوكو في الفلسفة فهو: (1)
أدب وفلسفة ممزوج بعضها ببعض، وقد ذكرنا من هذا الكتاب فيما سبق تعريف الشعر، وبأنه لا يكفي وجود الأسلوب الحسن والشكل الظريف في البيت، بل ينبغي أن يحتوي على فكر أو صورة أو إحساس، وشبه بيت الشعر ببيت النحل الذي يتخذه من الشمع والشعر فيه كالعسل.
وقال أيضا في تعريف الإنشاء:
الإنشاء هو الذي يخلد ذكر الشاعر ويبقى تأليفه؛ لأن حلاوة التعبير تزين الفكر كالميناء على السن.
وقال في تعريف الواجب:
ما دام الممكن لم يفعل فالواجب لم يؤد، فهذا فكر من أفكاره.
ومنها أيضا في الزواج:
الزواج هو تطعيم فيه إمساك جيد أو رديء.
وقال في التغير والتقلب:
إذا قلنا عن رجل: «رأيه السياسي لم يتغير منذ أربعين سنة» نكون مدحناه مدحا مذموما؛ لأن قولنا هذا يؤدي إلى أنه لم يحصل له تجربة في المسائل اليومية، ولا حصل لفكره انعكاس ولا إشعاع على الحوادث، فهذا من قبيل مدحنا الماء بكونه راكدا والشجرة بكونها ميتة، وتفضيلنا ما في الصدف من سمك البحر على النسر الطائر. فبالعكس كل شيء متغير في الرأي، وفي الأشياء السياسية لا شيء مطلق على إطلاقه إلا الأخلاق الباطنية لتلك الأشياء، فهذه الأخلاق هي من خصائص الوجدان وليست من خصائص الرأي ومتعلقاته، فرأي الرجل يمكن حينئذ أن يتغير تغيرا لا يمس بشرفه بشرط أن لا يتغير وجدانه، فالحركة سواء كانت تقدمية أو تأخرية هي في حد ذاتها حيوية، إنسانية، اجتماعية» ا.ه.
وهكذا يقال في صاحب الجريدة كما يقال في رجل السياسة، وقد رأينا في ما تقدم أن رقباء فيكتور هوكو عابوا عليه تقلبه في أحزاب السياسة، وتغير رأيه من الملكية إلى الإمبراطورية إلى الجمهورية. (2)
وليم شكسبير، ومما ورد له في هذا التأليف من الحكم ما ذكره عن التقدم والترقي، قال:
فظاظة التقدم تدعى انقلابات، فإذا تمت الانقلابات اعترف الإنسان بما يأتي وهو: أن النوع الإنساني تألم وترضرض ولكنه مشى.
فالتخريب هو الشغل والتعمير هو العمل (أي: البناء كما في بناء الدار فإن فيها تعميرا مثل رفع الجدران الجديدة، وتخريب مثل هدم الجدران القديم وحفر الأسس، فالتقدم يهدم باليد اليسرى، وأما باليد اليمنى فهو يعمر، فاليد اليسرى تسمى القوة واليد اليمنى تسمى العقل ا.ه.
ففيما ذكر من مؤلفات فيكتور هوكو كفاية لمعرفة ماهيتها ولا حاجة لذكر بقيتها.
هوامش
الخاتمة
لا ريب في أن فيكتور هوكو من أكابر الشعراء الذين نبغوا في العالم الإنساني كله في قديم الزمان وحديثه، وهو عند الفرنساويين شيخ الطريقة الرومانية، والشعر الغرامي المعروف باسم «ليريك»، كما أنه من فحول القصاصين ومؤلفي الروايات التمثيلية المشهورة باسم «درام».
غير أن الطريقة الرومانية التي كان لها المقام الأول في صناعة الأدب سقطت بظهور الطريقة الحقيقية التي أمامها إميل زولا.
وروايات فيكتور هوكو التمثيلية لم تبلغ درجة الإعجاز لا بالنظر إلى المؤلفات السابقة عليها، ولا إلى المؤلفات اللاحقة لها من هذا النوع، لعدم كشف فيكتور هوكو أسرار القلب الإنساني، وإظهار ما فيه من الإحساس الحقيقي، ومع ذلك فهو لم يزل أمام الشعر الغرامي، ومجدد أساليب النظم والنثر؛ ولذا لقبوه بأبي الشعر العصري واقتفى الشعراء أثره وسلكوا مسلكه، وكان الباعث على شهرته في العالم المتمدن كله من أوروبي وأميركي، وما يلحق بهما ثلاثة أمور: أحدها سياسي، وثانيها ديني، وثالثها علمي. نبغ فيكتور هوكو في عصر الانقلاب والتجدد وطال عمره وكثر عمله، وكان لقومه الحظ الأوفر من التقلبات السياسية والتبدلات الاجتماعية، واستوقفوا نحوهم أنظار العالم المتمدن بأسره، فكان هذا الشاعر لسان حال الأمة وترجمانها في كل انقلاب حدث فيها وتبدل طرأ عليها وغير حكومتها من ملكية مطلقة إلى جمهورية مفرطة، إلى إمبراطورية ديموقراطية، إلى ملكية مقيدة بقليل أو كثير من القيود، إلى جمهورية ثانية، إلى إمبراطورية ثانية، ثم إلى جمهورية ثالثة. فهذه التقلبات هيجت الأفكار العمومية، وكثرت الأحزاب السياسية، ودعت إلى استماع قول الشاعر الحكيم والتمثل بأشعاره في نوادي السمر الأدبية والسياسية على اختلاف الآراء وتبدل المشارب، ومتى تحدث أهل العاصمة بأمر سارت الركبان بحديثهم إلى الولايات وأطراف المملكة، ثم فشى في الممالك المجاورة، وجسمه البعد في المخيلات، فأصبح صداه في الخارج أشد من صوته في الداخل، وبعد أن استبد نابوليون الثالث بالحكم مال لأبهة الملك وعظمة السلطنة، وتفاخر بالصيت والشهرة واشتد حرصه على السمعة في البلاد الأجنبية، وانتشرت اللغة الفرنساوية على عهده في أكثر الممالك المتمدنة وصارت اللسان الرسمي المتداول بين الدول في المناسبات الديبلوماتية، وفي الاجتماعات السياسية والأدبية، وفي قصور الملوك والأمراء، وفي حفلاتهم وسهراتهم ومراقصهم، وعلى موائد ضيافتهم، وفي تحرير المراسلات والمعاهدات كما أصبحت اللسان الرسمي في نظارة الخارجية العثمانية، وفي كثير من دوائر الدولة العلية ومعاملاتها، ولم تزل إلى يومنا هذا.
فلما اقترن اسم فيكتور هوكو باسم نابوليون بسبب مدحه نابوليون الأول، وهجوه نابوليون الثالث زاد شوق الناس للاطلاع على أشعاره وقصصه في داخل فرنسا وخارجها، وراجت بضاعته في الأدب فلم يدع بابا من أبواب الشعر إلا طرقه ولا مسألة إلا بحث فيها، ثم ساعدته الظروف بالانتصار على نابوليون الثالث بعد حرب السبعين الألمانية وتشكل الجمهورية الثالثة فزاد ذلك من أهمية الشاعر، وفي انتشار شعره وبالغ رجال الجمهورية في الاحتفاء به ، والاحتفال له كاحتفال الإمبراطورية بشخص الإمبراطور.
أما السبب الثاني لشهرته فهو سهولة أشعاره ووضاحتها، وتصويرها المسائل العظيمة والأفكار الدقيقة، فأظهر بشعره فرحه وسروره بنعمة الحياة وابتهاجه بالمخلوقات، ورأى في أمنا الدنيا بقرة حلوبا تدور على أبنائها بلبن سائغ للشاربين، وتكلم على أفراح العائلة وزينة البيوت بالأولاد ولذة اجتماع الأهل على المائدة، ومحبة الوالدين وحنوهما، وحض على الإحسان للفقراء والمساكين والشفقة عليهم، وبين اعتقاده بالله الغفور الرحيم ورجاءه بتقدم نوع الإنسان في الحضارة، وبتحسن الحياة البشرية والمعيشة الإنسانية بسبب انتشار الأفكار الجديدة، وتغلب الحق رويدا رويدا على القوة، والنور على الظلمة حتى تتساوى الناس في الحقوق، ويرتفع عنهم الضغط والاستبداد، ويزول من بينهم الظلم والاستعباد، وينتشر العدل ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ...
فجميع ذلك مما يرغب الجمهور في تلاوة أشعاره، وتعليمها للأولاد ونشرها في البيوت بين النساء والبنات، بخلاف أشعار المعري التي لا يذكر فيها إلا بخل أم دفر على بنيها بالحقوق ومبادرتهم لها بالعقوق. ولا يرى بقرة فيكتور هوكو تجود إلا بسم قطيب؛ أي ممزوج بحلاوة، ومع غنى المعري وثروته لم يلتذ بالمال والبنين، ولا بشيء من زينة الحياة الدنيا وزهد في أكل اللحوم وشرب المكيفات، وعمى بصره عن مشاهدة المناظر الطبيعية والرياض النضرة، وحيث كان لفيكتور هوكو اعتقاد ثابت في الله، ورجاء كبير في حسن المستقبل، وارتقاء الإنسان إلى دار السعادة عرف وظيفة الشاعر وبين ما يترتب عليه وعلى كل عاقل مفكر في الأمر من نشر الحقائق بين قومه وأبناء لسانه، وزعم أن الشاعر ينبغي أن يكون رسولا للأمة، ونورا يسعى بين يديها ليهديها الصراط المستقيم، فكأني بالمعري يقول له:
وإخوان الفطانة في اختيال
كأنهم لقوم أنبياء
ولم يكن فيكتور هوكو يهوديا ولا نصرانيا، وتبرأ من أصحاب هذين الدينين، وقال: بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وأوصى بعدم دفنه على سنن واحد منهما وبعدم حضور أحد من رهبان النصارى ولا من أحبار اليهود في جنازته، كما أنه لم يكن يعرف حقيقة الدين الإسلامي، ولا أمعن نظره في آيات القرآن لما قدمنا ذكره من الأسباب وهو عدم توسع دائرة المعارف الإسلامية في عصره، والذي ذكره في شعره من القرآن هو بعض أمثال قليلة نقلها عن غيره بدون أن يبحث فيها بفكره، ومع ذلك ففيكتور هوكو موحد؛ اعترف في كثير من أشعاره باعتقاده بالله، وحسن رجائه باليوم الآخر، واهتدى للتوحيد بنظره في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار كما اهتدى إبراهيم جد الأنبياء - عليه وعليهم السلام:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين * وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين .
وهكذا قال فيكتور هوكو لقومه: إني بريء مما تعبدون، فلم يكن مشركا بالله ولا كان منكرا جاحدا إنكار الشاعر فولتير وجحوده، بل ربما كان حنيفا، والحنيف هو الذي يؤمن بالله ولا يتخذ شكلا مخصوصا للعبادة، وكان منهم أناس في جزيرة العرب قبل الإسلام مثل ورقة بن نوفل وغيره. فإذا أمعنا النظر في كلام فيكتور هوكو نراه من الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ونراه أيضا كثير البغض في الجبابرة المستبدين، ويدعو الناس إلى عدم اتخاذ أرباب من دون الله، وقد ورد في القرآن الكريم في سورة آل عمران وهي السورة الثالثة والآية 60
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون * يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين . انظر إلى بلاغة هذا الكلام وتأمل قوله، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله تجد جميع الأدباء من قديم وحديث ومن عربي أو أعجمي عالة عليه في هذه البلاغة التي وصلت أعلى الدرجات، وهي المعبر عنها في صناعة الأدب بالإعجاز، وقد ورد لفيكتور هوكو كلام متشابه يدل على حيرته والحيرة مقام من مقامات العلم بالله، ولكنه لم يفتر عن القول: بأنه موجود موجود موجود، ولما ماتت بنته واشتد حزنه سب الله عدوا بغير علم ثم رجع واستغفر لذنبه وشبه نفسه بالصبي الذي غضب ورمى البحر بحصاة، فهو لم يضر البحر في شيء ولكن فعله دليل على سفاهته وحمقه، فمثل الله كمثل البحر ولله المثل الأعلى، قال الحكيم الفيلسوف أرنيست رينان عن فيكتور هوكو وعن فولتير: بأنهما سارا على قطبين متخالفين ولم يتلاقيا إلا على محبة العدل والإنسانية.
والباعث الثالث على شهرة فيكتور هوكو هو كثرة علمه وغزارة معارفه، وعدا معرفته بدقائق اللغة الفرنساوية، وبعلم القوافي والعروض والموسيقى وما يلزم للشعر كان حكيما فيلسوفا يضع كل شيء في موضعه، وكل معنى في قالبه ولم يغب عن علمه شيء من التاريخ والجغرافيا، وأسماء البلدان وله اطلاع على العلوم الرياضية وجميع المسائل الاجتماعية، وكليات القوانين البشرية والسياسية، وله اقتدار عجيب في التخيلات والتصورات والاختلافات، وإذا نظر في شيء تمكن من رؤيته بعين لم يتيسر لغيره من الشعراء الرؤية بها، فوقف على كنه الأشياء وحقيقتها، وعلى جميع ما يعرض لها من الصور والأشكال والألوان وبقية الخواص الظاهرة والباطنة، وإذا ذكر إسبانيا مثلا لم يترك فيها مدينة إلا وصفها بالوصف اللائق بها سواء كان وصفا جغرافيا أو طبيعيا أو تاريخيا بالنظر لمن اشتهر فيها، أو لما ينبت في أرضها أو لمرآها الطبيعي ومنظرها الخارجي، وذكر كذلك كثيرا من مدن فرنسا وإيطاليا، وقال في جبل نارها فيزوف:
نابولي مرساها معطر بالأزهار يقف فيه فصل الربيع ولا يمر
وجبل فيزوف الملتهب بالنار يغطيه بتاج متوقد
كأنه فارس من فرسان الحرب كثير الغيرة والحسد شهد عرسا
فحسد أهله على أفراحهم ورمى بقلنسوته الحمراء وسط أزهارهم.
ولا يخفى أن ضباط العساكر الفرنساوية يزينون قلنسواتهم بالرياش الحمراء، وهي على هيئة جبل النار في حالة اشتعاله، وتصاعد الدخان واللهيب من جوفه، ومن عادة الإسبانيين إذا طربوا برؤية وجه حسن أو سماع نغم أو حضور مناطحة الثيران والبقر رموا بقبعاتهم إلى الأرض، ونخروا نخرة أو تأوهوا، وقد شاهدت هذه العادة في شباب بعض المدن الشرقية والسورية، ولعلهم أخذوها عن الإسبانيين بواسطة اليهود الذين لم يزالوا في بلاد الشرق يتكلمون اللغة الإسبانية رغما عن كل ما أجراه الإسبانيون فيهم من النفي والإجلاء والتعذيب في محاكم الانكيزيسيون، فهذه الأبيات على حد قول الشاعر العربي في حمص الأندلس وهي إشبيلية:
غدا النهر عقدك والطود تا
جك والشمس أعلاه ياقوته
وتقدم ذكر الأبيات فيما سبق.
فهذا مثال لأساليب فيكتور هوكو وتشبيهاته، وكان له ولع بالأمور العظيمة والمقامات العالية والمناظر الواسعة، والمعاني الدقيقة، فعرف لج البحر الذي لا يرى ساحله، وبعد الفضاء الذي لا تدرك نهايته، وقلد أصوات الأشياء ووصف الجمادات وصفا يخال منه للقارئ أنها حية تنطق؛ ولذا قالوا: بأن فيكتور هوكو أنطق الجماد ونفخ فيه بأساليبه الشعرية روح الحياة. وله ابتكارات بديعة وتشابيه ظريفة وتعبيرات لطيفة، ونجد لما ورد في كلامه من التشبيه والتخيل والبديع أمثالا كثيرة في الشعر العربي والأندلسي تكلم عليها الباقلاني في إعجاز القرآن، والجرجاني في أسرار البلاغة المطبوع في جريدة المنار، ومن سلك مسلكهما من علماء اللغة والبلاغة، ولكن فيكتور هوكو يفوق بسعة الاطلاع والإحاطة بالمسائل. وأكثر شعراء العرب انحصرت أقوالهم في الدائرة التي هم فيها، فلم يخرجوا منها ولا تعدوا الأساليب التي وضعها شعراء الجاهلية، والذين خرجوا عن تلك الأساليب، واتسعت مداركهم قليلون مثل المتنبي والمعري الذي تكلم على كثير من المسائل الاجتماعية والسياسية، ونادى بالحرية والمساواة بين أفراد البشر وبين ماهية الحق والعدل، وشرح كثيرا من المسائل الفلسفية، وأظهر شعوره وإحساسه بالوسط الذي ألقينا فيه، فكان سجنا لنا لا خلاص منه إلا بالموت. فهو متحير في هذه العقيدة التي ضلت الأدباء في حلها.
ثم إن أهل النقد الأدبي من بلغاء الإفرنج يقولون: نعم إن فيكتور هوكو أنطق الجماد وتوصل بأساليبه الشعرية إلى وصف المناظر الطبيعية، وتصوير العصور الخالية والهيئة الاجتماعية بأحسن تصوير وأبدع وصف، فهذا لا ينكر، ولكنه لم يتوصل إلى معرفة باطن القلب الإنساني ولا لإيجاد أوصاف حياة تامة ولا حياة طبيعية للأشخاص الذين اختلقهم، وأعاشهم على مرسح التمثيل؛ ولذا لم يكن أوحد الأدباء في تأليف روايات الدرام، فهو وإن أنطق الجماد لكنه أخرس البليغ، مثال ذلك أن أبدع ما في رواية إيرناني التمثيلية هو الفصل المنظوم على لسان الدون قارلو الذي انتخب إمبراطور لإسبانيا، وتلقب بشارلكين، فهذا الفصل هو بيت القصيد من هذه الرواية كما أن فصل القبلة أو النافذة هو بيت القصيد من رواية «سيرانو دو برجيراق»، التي اشتهر بتأليفها شاعر العصر أدمون روستان، وقد انتخب بالأمس عضوا في الأكاديمية الفرنساوية، وموضوع هذا الفصل أن المعشوقة وقفت في النافذة (البالكون) وعاشقها واقف تحت النافذة يغازلها، ويطلب منها قبلة وهو يتلعثم في كلامه ولم يدر كيف يكلمها بلسان الأدب، فالشاعر سيرانو دو برجيراق خاطبها عنه، وأفصح في تعبيره عن حقيقة اللثم والتقبيل حتى لانت بكلامه وانجذبت إليه، وهناك تظهر قوة البيان وإن من البيان لسحرا، فكلام شارلكين في رواية إيرناني هو من كلام الملوك، فينبغي أن يكون من ملوك الكلام، فلما حان زمن انتخاب الإمبراطور وترشح الدون قارلو لهذا المسند العظيم، وحصلت المؤامرة على قتله بدسائس فرانسوا الأول ملك فرنسا المتطلب أيضا لهذا المسند، واتفق المؤتمرون على الاجتماع في الغار الذي فيه قبر شارلمان بمدينة اكس لاشابل من ألمانيا، اكتشف الدون قارلو؛ أي شارلكين، على مؤامرتهم وسبقهم إلى ذلك الغار، وكان الهيام بمحبوبته آخذا كل مأخذ ومستوليا على جميع حواسه، فكان يتلهب شوقا وغراما إليها وقد قربت ساعة الوصال، ومعشوقة الملوك كما لا يخفى هي المملكة ولا يحبون أحدا سواها، ويضحون كل عزيز عليهم في سبيلها، إذ لا أعز منها عليهم لا دين ولا ولد ولا زوجة ولا أب، فكم قتل الوالد ابنه والابن أباه للتوصل للملك، كما أن معشوقة الراهب العابد هي الكنيسة، وزوج الراهبة العابدة، وحبيب قلبها هو السيد المسيح - عليه السلام - وكذا يقال في الهائمين بحب الله والمفتونين بجمال نبيه المصطفى - عليه السلام - ونظموا في ذلك القصائد والدواوين البديعة، ففيكتور هوكو شخص في روايته إيرناني جميع ذلك ، وعندما يرتفع الستار عن هذا الفصل من الرواية يرى الحاضرون الغار الذي فيه قبر شارلمان، وينزل إليه تحت الأرض بدرج متصل إلى بهو كبير عليه قبة، وفيه مخدع جعل فيه قبر شارلمان، ويظهر على المرسح شارلكين بلباسه الملوكي متمنطق بسيفه تلوح على وجهه علائم الاهتمام، فيزور القبر ويتكلم وحده بما يدور في خلده ويخطر في باله، وينظر إلى التاريخ نظرة عامة وإلى الذي ناله شارلمان بلبسه تاج قياصرة الرومان فتتوق نفسه وترتفع حواسه، ويرغي ويزبد كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج، فالحاضرون تشخيص الرواية لا يرون فيها عيبا ولا نقصانا، وأما أهل النقد الأدبي وهم أرباب الذوق في الكلام الذين اعتادوا التفريق فيه بين الغث والسمين كما اعتاد أرباب الذوق في الخمور التفريق بين خمر وأخرى لكثرة ذوقهم وطوافهم على معاصر الخمر وعلى الأقبية المخزون فيها أيضا بوظيفتهم وصنعتهم التجارية يقولون: نعم إن شارلكين في هذه الرواية هو بيت القصيد وهو من ملوك الكلام، ولا ننكر فصاحته وبلاغته وإنما عيبه عندنا هو عدم وجود الروح فيه، فهذه النفس الناطقة التي أرانا إياها الشاعر على مرسح اللعب والتشخيص هي نفس المؤلف؛ أي نفس فيكتور هوكو وليست نفس المشبه به وهو شارلكين، فالحماسة التي أظهرها المؤلف في شعره ليست بطبيعية، ولا هي حقيقية بل عندية؛ أي من عند الشاعر، ولم تبن على الحجج والبراهين الأدبية التي اشترطها أصحاب الطريقة الحقيقية، وسماها إميل زولا «دوكيمان»، فأصحاب هذه الطريقة الجديدة يلومون فيكتور هوكو على تعظيمه الأمور، ويشبهون قريحته بمرآة مكبرة تكبر الشيء المعكوس فيها وتجسمه تجسيما خارجا عن الحقيقة وعن العرف والعادة، ومن عادة فيكتور هوكو إرخاؤه العنان للقوة الواهمة والخيالية؛ ولذا نجد في مؤلفاته مثل كازيمودو، ومثل الرجل الضاحك من الأشخاص الموهومة التي لا توجد إلا في كتاب ألف ليلة وليلة، وما كان على نسقه.
ومما انتقد فيه على فيكتور هوكو من جهة الأخلاق تبدل رأيه السياسي، وتقلبه من ذات اليمين إلى ذات الشمال من حزب الملكية إلى حزب الجمهورية، ورأينا فيما تقدم جوابه على هذا الاعتراض بقوله: إن مدحنا الرجل بالثبات على رأى واحد في السياسة مدة طويلة ليس بمدح مستحسن، وإنما هو كمدحنا الماء الراكد وتفضيلنا إياه على الماء الجاري. والجواب الصحيح على هذا الاعتراض أن فيكتور هوكو مع ظهور معجزاته في المعاني ما هو إلا بشر غير معصوم تميل نفسه إلى شهواتها التي منها التقرب من الملوك وأولي الأمر، ولكنا نجده محافظا على الاعتدال في أمر الشهوات النفسية صبورا متجلدا عند الحاجة، وبينما نرى أمثاله وأقرانه من أدباء باريس لا يقنع أحدهم بعشر نسوة نجده اقتصر هو على اثنتين؛ أم أولاده والممثلة البارعة جوليت.
ومن غريب أمر هذا الشاعر أنه خالف القاعدة المطردة في عظماء الرجال، فكان في شبابه من حزب الملكيين المحافظين على بقاء الحال على ما كانت عليه، فانقلب من ذلك رويدا رويدا حتى صار في شيخوخته من حزب المفرطين في محبة الحرية المائلين للانقلاب، والارتقاء شديد العداوة للاستبداد وللمستبدين، وهذا خلاف المطرد في أخلاق الرجال، فإنهم كلما تقدموا في السن عدلوا عن حب التجدد والانقلاب والحرية، ومالوا للبقاء على حالتهم الراهنة.
ومن الأخلاق التي نهى عنها في شعره وأتى بمثلها في عمله أمر تربية الأطفال فإنه حرر كتبا، ونظم أشعارا كثيرة في حقهم، ولكنه لم يحسن ذلك بعمله وفعله، ومع علمه بأن عصى التأديب من الجنة لم يستعملها في تربية أولاده ولا أحفاده، وأطلق العنان لشهواتهم فإحدى بنتيه عرضت نفسها للخطر، فماتت هي وزوجها غرقا، والثانية تزوجت على غير رضاه وسافرت للهند فنكبت وأصيبت بعقلها، وحفيدته لم تطق معاشرة زوجها ولا قدرت أن تصبر على حكمه ففارقته وحكم بينهما بالطلاق، وابنه أفرط في اللذات فمات فجأة عند صاحبة له في بوردو، ولم يزل الناس يشيرون بالبنان إلى البيت الذي مات فيه.
ومما يشابه ذلك ما انتقد فيه على إمام الأدب عند العثمانيين وهو نامق كمال بك، وكان كثيرا ما يلهج بالإصلاحات والحرية، فلما عين متصرفا لجزيرة رودس انتقد عليه رقباؤه بأنه لم يجر فيها من الإصلاحات سوى رفع الكلاب من أزقتها وشوارعها، ومثل ذلك ما ينقل عن ضيا باشا وهو من مشاهير الأدباء العثمانيين، وكان رئيس الكتاب في المابين الهمايوني على عهد ساكن الجنان السلطان عبد العزيز، ثم نال رتبة الوزارة وعين واليا لإحدى الولايات، وله نظم كثير ودواوين شعر من ذلك نظمه قصة المولد الشريف و«ترجيع بند» في التصوف ومحاسن الأخلاق، وكان لأشعاره رواج في الزوايا والتكايا وفي المدارس والجوامع، واتفق أن أحد طلبة العلم الصلحاء في مدينة بروسه كان كثير الإنشاد لها والترنم بها، فعاهد نفسه إذا ذهب إلى الأستانة ليزورن هذا الشاعر الفاضل لا لطلب مأمورية أو إحسان منه، وإنما لمجرد التبرك بلثم يده والاسترشاد بنصائحه والاقتباس من فضائله، فلما جاء الأستانة زار الشاعر الوزير في بيته حتى إذا قارب غروب الشمس، ودخل وقت الكراهة فرأى ما لا يحب رؤيته العلماء المتعففون عن لذات الدنيا ونعيمها، فندم على سعيه وخرج وهو يقول: الشعراء يقولون ما لا يفعلون.
أما الثروة التي تركها فيكتور هوكو فقدرت بأكثر من ثلاثة ملايين فرنك ورث بعضها ولدا ابنه وهما حنه وجورج، والبعض الآخر ورثته بنته اديل (عادله) التي تزوجت على غير رضاه، وأصيبت بخلل في عقلها، وفوض أمر تنفيذ وصيته إلى أوغست فاكيري الشاعر، وهو أخ لزوج ابنته الثانية التي غرقت مع زوجها، وإلى الأديب بول موريس، وأوصاهما بنشر ما لم يطبع في حياته من مؤلفاته.
حررت هذا الكتاب في بوردو سنة 1902م وقدمته لأمي أيضا ببعض ما لها علي من الحقوق، ورجائي بأن لا تحسب اغترابي عنها من العقوق.
صفحة غير معروفة