بصر وزرقاء اليمامة
فالسالك نهج الطريقة الرومانية لا يكتفي بقوله: لا عتاب ولا ملامه؛ بل يسأل في كل موضع من كلامه من نحن؟ إلى أين ذاهبين؟ ويفكر في هذا السراج الذي يضيء فينا مدى العمر ثم ينطفئ بالموت، وفي أمر هذه الحياة التي تجري كالسيل ثم تنقطع، فيستفهم عن هذه الأنانية المختفية فينا وعن معنى «أنا»؟ ويقول: ما هو هذا الموت الذي يطفئ سراج العمر ، ويقطع مجرى الحياة؟ هل هو نهاية، أو وقفة، أو باب تمر به من برزخ لبرزخ؟ ماذا يوجد وراء ذلك؟ والحاصل ما هو السبب؟ ما هو سبب «أنا» الموجود؟ ما هو سبب هذا العالم الذي أعكسه في نفسي؟ فإن كان المفكر بما ذكر قادرا على تأليف شيء موافق لأساليب الطريقة الرومانية، فهو يفتش عن هذا الشيء في خفقان قلبه، وفي مناظر الطبيعة. فأدب الطريقة الرومانية تشف معانيه عن الخشية الحاصلة لأصحابه مما وراء الطبيعة، وهذه هي الخاصة المميزة له والمظهرة لعظمته واعتلائه، وفي تصويره الإحساس الباطني، وتوصيفه مناظر الطبيعة يعطي الإنسان فكرا عن الأمر الكلي ويرمز له عن المجهول.
فموضوع أدب الطريقة الرومانية هو مجموع هذه الانفعالات الشخصية المختصة بكل فرد من أفراد الإنسان، وتلك الشروط الضرورية للمجتمع الإنساني، فهذا جل ما يبحث فيه السالكون نهج الطريقة الرومانية، ويبقى عليهم ما ذكرناه في قواعد الطريقة المدرسية من تمام النسبة بين أساس الفكر وشكل التعبير؛ أي فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى، ووجود الموازنة بين التخيل الشعري وبين التعقل، واتباع الصدق والحقيقة في الشعر. فأهل الطريقة الرومانية لا يهتمون لا بالقواعد التي وضعها علم الروح (بسيكولوجي) ولا بالحقائق العلمية، وليس لهم عناية لا بصناعة التفكر ولا بصناعة التعقل؛ وإنما دليلهم في النظم والنثر الإحساس، بخلاف أهل الطريقة المدرسية فإن دليلهم في ذلك العقل والذوق السليم، وهذا ما جعل لمؤلفاتهم التي ألفوها في القرن الثامن عشر، وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر فائدة وقيمة وندرة، فالطريقة الرومانية تتميز عن الطريقة المدرسية بأمرين أحدهما نفي، والثاني عكس قضية:
أما النفي فهو عبارة عن حذف القواعد التي أسست عليها المؤلفات الأدبية ونفيها عن الأدب، وكانت هذه القواعد على ثلاثة أنواع: (1) تعريف كل من الفنون الأدبية على حدته كالغزل والمدح والرثاء والهجاء ... إلخ والتفريق بينهما تفريقا لا اتصال فيه. (2) وضع قواعد لكل فن من هذه الفنون من شأن هذه القواعد توحيد النموذج وتغليبه على جميع الأمزجة المختلفة. (3) قواعد الذوق وهي التي تعين حدا للشاعر في اختيار أساليب التقليد، وكيفيات التعبير وتحصر فكره.
وأما عكس القضية فهو عبارة عن العمل بضد ما عمل به أرباب الطريقة المدرسية، فأدب القرن الثامن عشر في جميع أوروبا كان على أساليب أدباء الفرنساويين الذين نبغوا في عصر لويس الرابع عشر؛ أي في القرن السابع عشر مثل قورنيل، وراسين، وبوالو، ومولير وهؤلاء نسجوا على منوال المتقدمين من اليونان والرومان، واختاروا مواضيعهم من القرون القديمة، كما هو الحال في رواية «استير» و«اتالي» و«اندروماق» إلخ. وأما أهل الطريقة الرومانية، فاتخذوا مواضيعهم من القرون الوسطى والبلاد الأجنبية، وتاريخ النصرانية كما هو الحال في رواية «فوست» و«كليوم تل» وجميع روايات فيكتور هوكو التمثيلية.
فالطريقة الرومانية وسعت أولا دائرة الأدب، أو بالحري نقلت هذه الدائرة من مركزها لمركز آخر، ثم مزجت أساليب الفنون الأدبية من تراجيديا وكوميديا بعضها ببعض؛ فنشأ عن ذلك تشويش في بادئ الأمر ثم ظهر من هذا التشويش ترتيب جديد، وجاء الأدباء بشعر موسيقي وأدب مبهج وتاريخ حي، فالطريقة الرومانية أزالت تلك الأساليب المعينة المحدودة التي من شأنها أن تمنع الشاعر من أن يتصرف فيها بفكره واختياره، كما أنها أزالت عن السبك والإنشاء هاتيك العوائد الاستبدادية التي من خصائصها أن تصفي إلهامات الشاعر وترفع منها الغرابة، فبتغييرها أساليب الفنون والقواعد والذوق واللغة والعروض، وضعت الأدب في قالب غير معين، وساقت أدباء العصر الجديد للتحري بكل حرية على أساليب وقواعد وفنون جديدة، فعثروا أول الأمر على قواعد الطريقة الطبيعية، وهم الآن شارعون في وضع قواعد للطريقة الإنسانية، ويقربون بذلك إلى الكمال شيئا فشيئا، ويرقون معارج البلاغة درجة فدرجة.
فإذا تأملنا كلام المعري ومن سلك مسلكه من الشعراء نجد فيه اهتماما زائدا بأمر الآخرة وبما بعد الموت، وتفكرا عميقا في خلق السموات والأرض، ودهشة مقلقة وحيرة زائدة وانفاعالا نفسانيا وإحساسا غريبا، فكان كلامه يدخل تحت التعريف المتقدم ذكره للطريقة الرومانية، ولكن بسبب فقده حاسة البصر التي لها المكان في هذه الطريقة لم يتيسر له وصف الطبيعة وصفا لائقا بها وبفصاحة لسانه، ولا حاجة لإيراد مثال من كلام المعري، فإن كل كلمة من اللزوميات تشعر بهذه الدهشة والخشية والحيرة والانفعال والإحساس والتألم ألما يهون معه الموت، ولا يحسب بجانبه مصيبة، وهذا بخلاف الجاحظ الذي يقول في أول كتاب الحيوان: «جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة سببا، وبين الصدق نسبا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة.» فهو بعيد عن القلق والحيرة متثبت في الفكرة، وتأليف الكلام على هذا النمط يسمى طريقة الجاحظ وهي مخالفة لطريقة السجع.
وقد تصدى ابن رشيق (390-469ه) لما تصدى إليه بوالو ووضع كتابا في قواعد الشعر سماه «العمدة». قال ابن خلدون: «وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله»، فليت شعري هل اطلع على شيء من مؤلفات اليونان في قواعد الأدب والبيان، كالذي ألفه أرسطوطاليس، وترجم شيئا منه ابن رشد في القرن السادس للهجرة، والذي ألفه البياني لونجين الحمصي، وترجمه بوالو للفرنساوية وسماه «رسالة الإعجاز »، فإن أدباء العرب كان لهم عناية بالقواعد الأدبية باعتبار أنها من جملة المنطق والفلسفة؛ وإن لم يعتنوا بأشعار اليونان ورواياتهم التمثيلية. وكان ابن رشيق في القيروان فلما حدثت فيها الفتنة فر منها إلى جزيرة صقلية ونزل مدينة «ميزر»، وأقام بها إلى أن توفي ودفن بمقبرتها. وكان الإفرنج مستولين على بعض الجزيرة والمسلمون في بعضها الآخر، ولعل ذلك كان على عهد رجار الأول (روجر)، ونظن البعوض آذى ابن رشيق أيام فراره ومحنته حتى قال:
يا رب لا أقوى على دفع الأذى
وبك استعنت على الضعيف الموذي
صفحة غير معروفة