فيكتور هوكو: علم الأدب عند الإفرنج والعرب
أدب كل لسان ما حصل فيه الإجادة من الكلام المنظوم والمنثور، ويشتمل على فنون الشعر والأغاني، والروايات والقصص، وضروب الأمثال والحكم والنوادر، والحكايات والمقامات، والتاريخ والسياسة والرحلة وغير ذلك. وقد جمع نخبة من كلام العرب المتقدمين كتاب مجاني الأدب المطبوع في بيروت، والأصل في الكلام للمعاني لا للألفاظ؛ لأن اللفظ قالب أو ظرف للمعنى يتخذه المتكلم أو الكاتب لسبك ما يصوره في نفسه، ويشكله في قلبه من المعاني فينقل بذلك مقصوده للسامع، أو القارئ حتى يعلمه كأنه يشاهده، قال الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس يسمى «الفصاحة» و«البيان»؛ لأن المتكلم يفصح عما في ضميره ويبينه بكلمات عذبة سلسة، وبعبارات جلية خفيفة على القلب واللسان، فالمتكلم على هذا النسق «فصيح» وكلامه ملفوظا كان أو مكتوبا «كلام فصيح»، وحيث كان المعنى سابقا للفظ وجب أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني وخادمة لها، وليس المعنى تابعا للفظ كما حكي عن بعض الأمراء أنه ولى أحدهم قضاء «قم»، وهي من مدن العراق العجمي بين طهران، وكاشان ثم كتب إليه بلا سبب موجب: «أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم» يعني بلفظ «قم». فقال القاضي: والله ما عزلني إلا محبة الأمير في التزام السجع.
فيكتور هوكو.
ولا يكمل علم الأدب للمتبحر فيه إلا بعد أن ينظر في أدب الأمم المتمدنة، ولو نظرة عامة يطلع بها على مجمل تاريخ أدبهم، وعلى بعض ما ترجم من مؤلفات المشاهير من كتبهم، فيقف على ما عندهم من سعة الفكر، وسمو الإدراك وبلاغة المعاني، ويعرف أساليبهم في النظم والنثر وتصرفهم في الكلام، ويميز بين طرق المتقدمين والمتأخرين منهم.
فإذا أحاط علمه بذلك فهم الغرض الذي يتطلبه أئمة البلاغة من أي لسان وملة، ورأى الهدف الذي يروم كل منهم إصابته، فيصوب نحوه القلم عسى أن يكون له مع الخواطئ سهم صائب؛ لأن البلاغة لا تختص باللسان العربي وحده، وكلما ارتقت الأمة في سلم الحضارة كان لسانها أبلغ وأدبها أوسع وأكمل لتهافت أدبائها على تنميق الكلام، وتهذيب مناحيه وفنونه؛ فيدركون بالتدريج حقائق المعاني التي ربما استعملها آباؤهم وأجدادهم في غير مواضعها بسبب الجهل الناشئ من ضيق العمران، وقلة العلوم، ويفرغون ما أوجدوه وما أصلحوه من المعاني في قوالب تناسبها من الألفاظ والتراكيب، «فالبلاغة» هي مطابقة اللفظ للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة المعنى المقصود الذي يقتضيه الحال والمقام، وفي المثل لكل مقام مقال، سواء كان المقال؛ أي اللفظ عربيا فصيحا بإعراب، أو حضريا بلا إعراب، أو أعجميا بأن كان عثمانيا،
1
أو إنكليزيا، أو فرنساويا، أو فارسيا، أو غير ذلك، فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى التركيب المفيد لمقصوده على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه قدر ما يتيسر له، فإذا لازم قراءة الطبقة العالية من كلام العرب الأقدمين حصلت له ملكة فيه، وسهل عليه التركيب على أسلوبهم حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى نبا عنه سمعه، وإذا كثر اشتغاله بالترجمة والكتب المترجمة كانت أساليبه أعجمية مع بقاء الألفاظ في كلامه عربية، كما يتضح لمن أمعن النظر في رسائل ابن رشد المطبوعة في أوروبا، ومنها ما طبع في مصر، وفي رسائل غيره من فلاسفة الإسلام وأهل المنطق، فإنه يرى فيها الأساليب الأعجمية واللهجة التي لم يلهجها أدباء الجاهلية.
صفحة غير معروفة