وفي أغاني رولان من المبالغات ما في قصة عنتر، وجسمت فيها الحرب التي حصلت بين الإفرنج وعرب الأندلس، وجعلت رولان عنتر زمانه وألحقته بنسب شارلمان وادعت بأنه ابن أخيه وذراعه اليمنى، وذكر في هذه الأغاني أن سبب هزيمة رولان هو خيانة غانيلون، وذلك أن رولان بعث بتابعه غانيلون إلى والي سرقسطة - مركز ولاية أراغون - بمهمة حربية، وكان في ذهابه إليها خطر على حياته، فاغتاظ هذا المأمور من آمره وانضم إلى المسلمين ودبر في قتل رولان وانهزامه، فلما رجع رولان ببقية الجنود إلى فرنسا، ووصل مضيق رونسيفو في جبال البيرينة هجم عليهم أهالي نافارا وغاسكونية المتفقون مع المسلمين في جيوش جرارة عدتها أربعماية ألف فارس، وكان لرولان مستشار ورفيق اسمه أوليفيه فنصحه بالاستمداد من شارلمان واستدعائه لنجدته، فلم يصغ في بادئ الأمر لمقاله، ولما أراد أن يعمل برأي أوليفيه العاقل ويتبع مشورته فات الوقت وذهب الأوان وغلبهم العدو بكثرة عدده، وأمسوا مختبطين في ظلام النقع وقتل بعضهم بعضا، وضرب أوليفيه صاحبه رولان بالسيف ضربة خطاء لا عمد فجرحته وسببت موته، فصورت تلك الأغاني موت رولان، ثم موت أوليفيه وطلب كل منهما السماح من الآخر ومباركة الأسقف توربين عليهما وغفران ذنوبهما.
وأراد رولان قبل موته أن يكسر سيفه المسمى «دوراندال»؛ لئلا يقع في أيدي أعدائه، أو يصل إلى مارسيل
Marcile
والي المسلمين في سرقسطة فلم يستطع كسر هذا السيف؛ لأنه من السيوف التي لا تكسر ولا تفل، ولعله من المعدن المسبوك منه صمصامة عنترة، وذو الفقار علي - رضي الله عنه - وهو الذي قيل فيه: لا سيف إلا ذو الفقار، وقد تهور الإفرنج في وصف «دوراندال» كما تهورت الشيعة في وصف ذي الفقار، وجعلوا القوة والشجاعة بأجمعها في السيف حتى لم يبق منها شيء لصاحب السيف، ولم يزل أثر الضربة التي ضرب بها رولان الصخرة بسيفه باقيا إلى يومنا هذا يشاهده السائحون والمارون بمضيق رونسيفو، كما يشاهدون تل العلائف في جوار قرية أريحا من فلسطين، وهو التل الذي أحدثه على زعمهم جيش أبي زيد الهلالي حينما مروا بقرية أريحا وأرادوا الصعود إلى جبل القدس، فنفضوا مخالي الشعير في أسفل العقبة فتكوم من الغبار الذي فيها هذا التل العظيم؛ لأنهم كانوا لا يحصون عدا لكثرتهم، هذا ما تتناقله الألسنة ويرويه الآباء عن الأجداد. ولعل الباحثين في الآثار القديمة لو حفروا في تل العلائف لوجدوا فيه أثرا من الآثار، كما لو بحث العارفون بطبقات الأرض وبشكل الجبال لذكروا سببا «لضربة رولان» في صخرة رونسيفو.
ولرولان حصان كأنه هو وأبجر عنترة بن شداد فرسا رهان، ولم يفت ناظم أغاني رولان ذكر الملائكة، وكيفية نزولهم واصطفافهم حوله لقبض روحه، فصور في منظومته الجهاد المسيحي وجعل فضائل المجاهدين الشجاعة العسكرية، والطاعة لأولي الأمر وهم «السوزيرين» من لم يعتقدوا بما أمر به وينتهوا عما نهى عنه بغضا لوجه الله لا لعداوة دنيوية، ولا لمال ودولة.
وهذه الأغاني مطبوعة ومترجمة للفرنساوية العصرية، ومنها يظهر اعتقاد الإفرنج إذ ذاك في الإسلام والمسلمين، فإنهم كانوا يحسبون المسلمين دعاة إلى عبادة الأصنام ويعدون من أصنامهم أبولون، ولم يزل الكثير من أهل القرى الفرنساوية يعتقدون هذا الاعتقاد إلى يومنا هذا، كما تبين لي من محادثة الكثيرين منهم، وكان لأغاني رولان شأن في عموم أوروبا وفي إنكلترة، وترجمت في القرن الثاني عشر للميلاد للغة الألمانية، ولغة السويد والنوروج.
ومما نظم على نسق أغاني رولان حج شارلمان إلى بيت المقدس، وقصائد وحكايات كثيرة في الحروب الصليبية ربما يعتني في المستقبل بترجمتها ومطالعتها المشتغلون بالتاريخ العربي، كما يعتني الإفرنج في زماننا في استخراج الكتب العربية وطبعها وترجمتها؛ ليقفوا منها على حقيقة تاريخية يوضحون فيها ما غمض من تاريخهم، وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر أقبل شعراء الشمال ينسجون على منوال شعراء الجنوب، ويقتبسون منهم المحسنات الشعرية ورقة الغزل والقوافي العربية، ووضعوا الألحان الموسيقية وتغزلوا بها وطبع من ذلك دواوين ورسائل كثيرة لا حاجة لذكرها.
ثم ظهرت الأشعار الهجوية، والهزلية، والملح، والفكاهات مما هو على نسق كليلة ودمنة وضروب أمثال لقمان، وبقية الحكايات المؤلفة على ألسنة الحيوانات، فمن ذلك «رومان الثعلب» و«أمثال أيزوب» و«رومان روز» وغير ذلك، وقيل للمنظوم من ذلك: «الأغاني» أو «أغاني القصص». (5) اقتباس الإفرنج العلوم عن العرب
ولما اختلط ملوك أوروبا وأمراؤها بملوك الشرق، وأمراء المسلمين في أثناء الحروب الصليبية رأوا بأعينهم أدباء العرب، وشعراءهم، ومؤرخيهم، وأطباءهم، وحكماءهم سيما من كان منهم بمعية صلاح الدين الأيوبي مثل القاضي الفاضل والعماد الكاتب وعمارة اليمني الشاعر، والطبيب الحاذق الذي طبب ريشار قلب الأسد فقدروا الأدب حق قدره، واعترفوا بلزوم وضع تاريخ لدولتهم، فألف بعض الرهبان السالكين طريقة القديس ديني
St. Denis
صفحة غير معروفة