وطبع ديوانه في بيروت وكان المتنبي يفضله على نفسه.
وممن اشتهر في الأدب أبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني وكلاهما من أدباء القرن الرابع للهجرة، ونشرت الجوائب رسائلهما، ونسج الحريري على منوال الهمذاني في تأليف مقاماته المشهورة، ولم تزل تدرس في الصوربون، وقد شرحها شيخ المستشرقين في فرنسا سيلفيستر دوساسي، وينتقد عليها أدباء الإفرنج من جهة قصر المقامات وعدم اعتناء المؤلف في تصوير الحكايات، وتشخيصها على نسق ما ألفه الإفرنج أو اليونان قديما، وإنما صرف الحريري عنايته إلى سبك الألفاظ وتصنيعها، وكانت ولادته في البصرة ثم نفي إلى مشان بقرب البصرة (446-515ه).
ومن المعلوم أن إيراد خلاصة تاريخ أدب اللسان العربي، وذكر المشاهير من الأدباء وتعيين طبقاتهم ليس بالأمر السهل؛ ولذا نكتفي بالإشارة إلى بعض من دون أخبار الشعراء، فمنهم ابن قتيبة المروذي (213-276ه) صاحب «أدب الكاتب»، وله «ديوان الكتاب» و«طبقات الشعراء» وغير ذلك، ومنهم المبرد الأزدي (210-286ه)، وله كتاب الكامل، والمقتضب، والروضة، ومنهم ابن المنجم (241-300ه)، وكان أبوه من كتاب المأمون ومن نسل يزدجرد آخر ملوك فارس فألف هو في تاريخ الأدب كتاب الباهر، أو البارع في أخبار الشعراء. ثم جاء أبو منصور الثعالبي (350-429ه)، وهو عربي النسب نيسابوري المولد، وكان يحترف بعمل فراء الثعالب، فوضع للكتاب المذكور ذيلا في 4 مجلدات سماه «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر»، وجمع فيه أخبار شعراء زمانه، ونوادرهم، وأشعارهم، ثم جاء أبو الحسن علي الباخرزي نسبة لباخرز ناحية بالقرب من نيسابور بخراسان، وكان من ذوي المراتب العالية وأهل الديوان، وتوفي مقتولا سنة 467ه فحرر ذيلا ليتيمة الثعالبي سماه «دمية القصر وعصرة أهل العصر» ومنه نسخة في الأستانة. وزاد عليه أبو الحسن بن زيد البيهقي - وبيهق ناحية بالقرب من نيسابور أيضا - ذيلا سماه «وشاح الدمية» ثم جاء عماد الدين الكاتب الأصفهاني (519-597ه) وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي، وألف كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» ومنه نسخة في الأستانة وأخرى في باريس، وفيه تراجم الشعراء وأشعارهم من سنة 500 إلى سنة 572ه. وألف أيضا كتاب «السيل على الذيل» وجعله ذيلا لخريدة القصر. ثم جاء الوراق وهو أبو المعالي سعد بن علي الأنصاري المتوفى سنة 568ه، وذيل ما تقدم بكتابه «زينة الدهر وعصرة أهل العصر».
فهذه المدونات من أهم الأجزاء في تاريخ الأدب العربي، ويمكن إتمامها باختيار ما يروق من مؤلفات أبي شامة (596-665ه) وأبوه المقدسي، نشأ هو في مصر، وكتابه «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية» يدرس في الصوربون وطبع في مصر، ومن مؤلفات الكاتب الدمشقي (700-759ه) وكتابه مسالك الأبصار في الممالك والأمصار، لا يقتصر على التاريخ والجغرافيا، بل فيه كثير من التراجم أيضا ومجلداته نحو ثلاثين وقيل أربعين، وهو مرقم في كتبخانة أيا صوفيا في الأستانة من عدد 3415 إلى 3439، ومنه نسخة في مكتبة باريس الأهلية والهمم جارية في طبعه.
ولما كنت في الصيف الماضي بالأستانة شاهدت في كتبخانة الكوبريلي - أحد المستشرقين من الإنكليز - يستنسخ بآلة التصوير الشمسي كتابا كبير الحجم حسن الخط ليس فيه من التراجم إلا حرف العين، فسألت فإذا هو «إرشاد الألباء في معرفة الأدباء» تأليف ياقوت الحموي الرومي (574-626ه) صاحب معجم البلدان، الذي طبعه المستشرق ووستنفلد في ليبزيك سنة 1869 في أربعة مجلدات، وطبع حاشية له في مجلد خامس. وللحموي من المؤلفات النافعة: معجم الأدباء، ومعجم الشعراء، وكتاب أخبار المتنبي، وعنوان كتاب الأغاني، ومجموع كلام أبي علي الفارسي ... فإذا كان حرف العين من ذاك السفر الجليل لم يكمل في مجلد ضخم، فما بالك في بقية أجزاء هذا الكتاب، ومما يمكن مراجعته من الكتب في هذا الموضوع: نزهة الألباء في طبقاب الأدباء لمحمد بن شاكر الأنباري ونسخته في الأستانة، وكتاب ريحانة الألباء المطبوع في بولاق، ونفحة الريحانة في طبقات الشعراء للمحبي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وفوات الوفيات للكتبي، والوافي بالوفيات لصلاح الدين بن بيك الصفدي، وأعيان العصر وأعوان النصر له أيضا، ثم تاريخ المحبي في أعيان القرن الحادي عشر، والمرادي في أعيان القرن الثاني عشر، وهكذا ينتهي الباحث إلى العصر الذي نحن فيه فيجد شيئا من آثار المعاصرين في الجزء الأول من عكاظ الأدب المطبوع في الأستانة عقب الحرب مع اليونان.
وقد استعار صاحب عكاظ، وهو أبو النصر السلاوي باشا لكل واحد من شعراء العصر لقبا من ألقاب المتقدمين، وسمى به أصحاب معلقات هذا القرن الرابع عشر للهجرة، فامرؤ القيس الثاني لنقيب الأشراف السيد توفيق أفندي البكري، وأبي العلاء الثاني للأستاذ عبد الجليل أفندي براده المدني، ونابغة العراق لجميل أفندي الزهاوي، ونابغة مصر لأحمد بك شوقي، وزهير البلاغة لمحمد ولي الدين بك يكن، وصاحب المعجز لأحمد محرم أفندي، وحسان الموصل لشاعر العراق عبد الباقي أفندي العمري، وشيخ الأدباء لأحمد عزت باشا الفاروقي الموصلي، ولبيد العصر للفيلسوف يوسف ضياء الدين باشا الخالدي، ودريد الحكم لحسن حسني باشا الطويراني، وأبو الثناء للشيخ محمود قبادو التونسي.
وأما اللغويون والنحاة فأحسن جامع لأخبارهم ما ألفه جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911ه، وسماه «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة»، ورأيت نسخة منه في مكتبة يكي جامع، وهي عند الجسر في الأستانة العلية، وطبع في مصر وسوريا وأوروبا كثير من مؤلفات الأصمعي وأبي زيد الأنصاري البصري، وأبي عبيدة النحوي، وابن السكيت وغيرهم من اللغويين الأفاضل. •••
لما حدث الانقلاب الكبير في انتقال الخلافة الإسلامية من الأمويين إلى العباسيين، وترجمت كتب العلم والحكمة إلى لسان العرب قرأ أدباء المسلمين كتاب المنطق لأرسطو، ورأوا فيه ذكر أوميروس الشاعر والثناء عليه فلم يحفلوا بشعره، ولا بشعر أحد من الأعاجم، ولا التفتوا إلى أساطير اليونان ولا لما وضعوه من الروايات الشخصية، ولا قدروا حرية فكرهم ولا ذوقهم في الكلام حق قدره؛ لاشتغالهم عن ذلك بما لديهم من فنون الشعر، وأنواع الخطب، والرسائل، والدواوين، والمعلقات سيما ما أدهشهم من كلام الحديث والقرآن فترجموا كتب المنطق، والنجوم، والطبيعيات، والطب، والهندسة، ولكنهم لم يترجموا لأديب من أدباء اليونان، ولا أدباء الرومان لا قصيدة ولا خطبة ولا رواية ولا حكاية من حكايات أساطيرهم. ولعلهم خافوا على الناس من الرجوع إلى عبادة الأوثان إن بحثوا لهم في آلهة اليونان، ومع ذلك فترجمة كتب العلم، والحكمة إلى لسان العرب ظهر لها تأثير في توسيع أفكار الشعراء الإسلاميين، وظهر فيهم طبقة جديدة هي طبقة المتنبي، والمعري في الشرق، وابن هاني في إشبيلية وهو المسمى بمتنبي الغرب، فحيث كان لأهل هذه الطبقة نظر في كتب العلم والحكمة، فكلامهم أبلغ معنى وأكثر فوائد لاشتماله على آراء فلسفية، وسياسية ومباحث عقلية، وعلمية غير أنهم خرجوا عن أساليب الشعر القديم ووضعوا من عندهم أساليب مخصوصة، فقام عليهم المتعصبون لأساليب العرب الأقدمين وسلقوهم بألسنة حداد، وشددوا عليهم النكير كما فعل أصحاب طريقة كلاسيك مع فيكتور هوكو حينما شهر طريقة «رومانتيك».
فالمتمسكون بالأساليب القديمة من أدباء العرب يقولون: إن نظم المتنبي والمعري ليس من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أساليب العرب المخصوصة، إذ ليس كل كلام منظوم عند العرب يسمى شعرا، بل الشعر هو «الكلام البليغ والمبني على الاستعارة والأوصاف والمفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، ومستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة»، فلا بد أن تجتمع هذه القيود في الكلام المنظوم حتى يسمى شعرا، فما خلا عن الاستعارة، والأوصاف مثل منظومات المتون العلمية المدرسية، والأرجوزات الأخلاقية، وقول العامي: «أغلق الباب وائتني بالطعام»، أو ما خلا عن تساوي الأوزان واتحاد الروي كقولهم: «رب أخ كنت به مغتبطا أشد كفي يغري صحبته تمسكا مني بالود، ولا أحسبه بغير العهد ولا يحول عنه أبدا فخاب فيه أملي ...» لأن الوزن لم تتساو أجزاؤه في الطول، والقصر، والسواكن، والحركات، أو لم يجر على أساليب العرب المعروفة فهو حينئذ لا يكون شعرا، وإنما هو كلام منظوم. أما الأسلوب في عرفهم فهو القالب الذي يفرغ فيه الشعر، أو المنوال الذي ينسج عليه ، وذلك أنهم يقولون: إذا أراد الطالب قرض الشعر ينبغي له أن يكثر من مطالعة أشعار العرب الأقدمين، وأن يحفظها ويرتاض فيها حتى تصير له ملكة في كلامهم فحينئذ يحصل في ذهنه قالب كلي من التراكيب التي رآها في كل شعر من أشعارهم، وهذا القالب الكلي ينطبق على جميع تلك التراكيب، فسؤال الطلول قالب كلي يكون بخطاب الطلول كقوله: «يا دار مية بالعلياء فالسند»، ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله: «قفا نسأل الدار التي خف أهلها»، أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله: «ألم تسأل فتخبرك الرسوم»، وكذا تحية الطلول قالب كلي يكون بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله: «حي الديار بجانب الغزل»، أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
9
صفحة غير معروفة