روحي الخالدي
فيكتور هوكو: احتفال الفرنساويين له باليوبيل القرني
تذكار فيكتور هوكو لمائة عام مرت من ولادته، احتفلوا بتدشينه في 25 فبراير سنة 1902 في ميدان فيكتور هوكو بباريس.
احتفل الفرنساويون في أوائل سنة 1902 للشاعر فيكتور هوكو في البانتيون، كما احتفلوا في أواخر العام السابق بيوبيل الكيماوي برتلو في الصوربون، والبانتيون هيكل فخيم على رابية من روابي باريس بالقرب من الصوربون، وهو اليوم مدفن أعاظم الرجال الذين يعترف لهم الوطن الفرنساوي بالفضل والحسنى.
ففي السادس والعشرين من شباط الماضي (فبراير) الموافق لختام القرن الأول من ميلاد فيكتور هوكو ابتدأ موسم الاحتفال بيوبيل هذا الشاعر، واجتمع في البانتيون الرؤساء والسفراء والعلماء والشعراء والمشخصون والمشخصات، وكل من اشتهر في باريس من الرجال والنساء، وأكثرهم بالألبسة الرسمية والعسكرية والكساوي العلمية والقضائية موشحون بوسامات الافتخار، أو متمنطقون بمناطق الحرير المثلثة الألوان، أو مكتفون بتزيين صدورهم بأزرار الوسامات، وإشارات المداليات على اختلاف درجاتها وأشكالها، وافتتح هذا الاحتفال الموسيو جورج ليغ ناظر المعارف الفرنساوية بخطبة شائقة.
وتلاه في الخطابة السياسي الشهير الموسيو غابريل هانوتو بالنيابة عن الأكاديمية الفرنساوية، فاختلب الأسماع بجواهر لفظه، واجتذب القلوب ببلاغة معانيه، فانتقل كلامه بالتلغراف والتلفون لجميع المدن الفرنساوية، وربما تجاوزها إلى كثير من البلاد الأجنبية؛ لأن الموسيو هانوتو بعد أن حاز قصب السبق في ميدان السياسة، وحل عقدة ماداغشكر وألحقها ببلاده، وفك العراقيل السياسية في أفريقيا الغربية ونهر النيجر، تنحى عن كرسي الوزراة وقد شغله مدة تزيد على أربع سنوات، وجلس على كرسي الأكاديمية وأقبل على نشر الكتب، وطبع المقالات التي اشتهرت في العالم كله، وكان لها شأن في مصر وغيرها من بلاد الشرق، وهو على رفعة قدره وعلو شأنه لم يزل كما كان في صباه مقيما في الطابق الخامس من بيت يستطرق بابه على بولفار سن جرمن، ويصعد إلى مسكنه بدون مصعدة (أسانسور) مائة درجة.
ثم أنشد بعض المشخصين والممثلات شيئا من قصائد فيكتور هوكو، وتلوا جزءا من أحاديثه وانفض الجمع ليستأنفوا الاحتفال في مواضع أخرى من باريس؛ لأن حفلة البانتيون لم تكن إلا افتتاح موسم أدبي في عموم البلاد الفرنساوية، ودامت الزينات والأفراح فيها سبعة أيام بلياليها، وهم في كل يوم وليلة يرفعون الأعلام، ويضيئون الأنوار، ويجمعون الجموع، ويلقون الخطب، ويأدبون المآدب، ويشربون النخب، ويمثلون على المراسح الروايات، وينشدون الأناشيد، ويحررون المقالات المبتكرة، ويصورون الرسوم البديعة، ويعملون أنواعا كثيرة من المظاهرات والزينات احتفالا بهذا الموسم.
وقرر مجلس نواب الأمة إنفاق ثمانين ألف فرنك لهذا الاحتفال عدا ما تنفقه مجالس البلدية والجمعيات الخيرية والعلمية، مما يفوق أضعاف هذا المبلغ، فجاء هذا الاحتفال على أتم منوال وأحسن نظام؛ لأن الفرنساويين أقدر الأمم المتمدنة على إتقان الزينات، وإتمام معدات الاحتفال للطافة أذواقهم، وخفة أرواحهم، وميلهم إلى البهرجة والزينة، وهم يتهافتون على تعظيم رجال العلم والأدب ويبالغون في إجلالهم حتى كادوا يعبدونهم من دون الله، ويتنسكون في ادخار آثارهم وجمع مناقبهم، وحفظ أخبارهم، ورفع الهياكل والتماثيل والأنصاب لهم، كان الواحد منهم معبود من معبودات قدماء المصريين، أو إله من آلهة اليونان أو الفينيقيين، وهم - والله أعلم - يعتاضون بهذه الاحتفالات عما فاتهم من الاحتفال بتتويج الملوك ويوبيل القياصرة، وقد رفعوا لفيكتور هوكو تمثالا عظيما بل تماثيل، وسموا باسمه الشوارع والميادين، واتخذوا داره متحفا سموه باسمه، وسيجمعون فيه متاع الشاعر وأثاث بيته وكل ما له أدنى علاقة به أو ذكر في أشعاره، ولم يفرطوا بشيء من ذلك ولا أضاعوا له قلما ولا دواة ولا ورقة من الأوراق التي تعلم بها، وهو في المدرسة، وقد كتب على واحدة منها: «أريد أكون شاتوبريان أو لا شيء»، ولا الأوراق التي كان يلاعب بها أولاده، ورسم لهم فيها الرسوم الهزلية والمضحكة، ولا الكيس الذي وضع فيه مبلغ المائة وخمسة وعشرين ألف فرنك ثمن المجلدين الأولين من تأليفه المسمى ميزيرابل .
ولو أردنا وصف هذه الاحتفالات، وإيراد الخطب التي تليت فيها، والإتيان على ما حررته الجرائد من الفصول الطوال لاستغرق الكلام مجلدا ضخما؛ لأن هذه الاحتفالات كان لها رنة عظيمة في أوروبا كلها. وقد نشرت جريدة التيمس الإنكليزية ترجمة هذا الشاعر بالفرنساوية إعظاما لشأنه؛ لأن شهرة فيكتور هوكو ليست في فرنسا وحدها، بل هي طائرة في آفاق العالم المتمدن، وقد وصلت إلى بلادنا الشرقية منذ سنين. أتذكر أني قرأت في «المقتطف» وهو لا يزال في سورية أبياتا لفاضل من الأدباء لخص فيها فكرا من أفكار فيكتور هوكو المذكورة في كتابه المشار إليه، وصف بها حالة البائس المسكين الذي اشتدت حاجته، واضطره الجوع حتى كسر قفل الخباز، وأخذ رغيفا لسد رمقه فانتبه له الخفير، وانقض عليه انقضاض البازي على العصفور، وقاده إلى حبس التوقيف، ثم رفعه إلى محكمة العدل فلم يشفق عليه حكام العدلية، ولا رحمه قضاة الحقانية فارتعدت نفس الشاعر من هذا الظلم القاهر حتى صرخ قائلا: «أين العدالة في أوهام شرعكم؟»
ثم لما أتيت الأستانة وجدت أدباء الأتراك وشعراءهم ترجموا كثيرا من نظم فيكتور هوكو، ونثره فيما نشر من مؤلفات كمال بك، وعبد الحق حامد بك، وأكرم بك، ومدحت أفندي صاحب جريدة «ترجمان حقيقت» سابقا، وفي «مجموعة أبو الضيا»، و«كتبخانة أبو الضيا»، وترجم شمس الدين سامي باشا صاحب قاموس الأعلام جزءا كبيرا من كتاب «ميزيرابل»، وسماه بإضافة أداة الجمع التركية على كلمة «سفيل» العربية، فقال: «سفيللر» أي: السفلة من الناس، ثم بلغني أن بعض أدباء مصر شرع في ترجمة هذا المؤلف الجليل وسماه «البؤساء» أو نحو ذلك، فجمعت شيئا من أخبار فيكتور هوكو؛ ليحصل لنا علم إجمالي بترجمة حياته، وحقيقة فلسفته، وسبب شهرته.
صفحة غير معروفة