وكان عبد الملك ومصعب قبل ذلك متصافيين وصديقين متحابين، فبعث إليه عبد الملك أن ادن مني أكلمك، فدنا كل واحد من صاحبه، وتنحى الناس، فسلم عبد الملك عليه ، وقال له: «يا مصعب، قد علمت ما أجرى الله بيني وبينك منذ ثلاثين سنة، وما اعتقدته من إخائي وصحبتي، والله أنا خير لك من عبد الله، وأنفع منه لدينك ودنياك، فثق بذلك مني، وانصرف إلى وجوه هؤلاء القوم، وخذ بيعة هذين المصرين - البصرة والكوفة - والأمر أمرك لا تعصى ولا تخالف، وإن شئت اتخذتك وزيرا لا تعصى»، فقال له مصعب: «أما ما ذكرت في من ثقتي بك ومودتي وإخائي فذلك كما ذكرته، ولكن بعد قتلك عمرو بن سعيد لا يطمأن إليك، وهو أقرب رحما مني إليك وأولى بما عندك فقتلته غدرا، ووالله لو قتلته في ضرب وحرب لمسك عاره ولما سلمت من إثمه، وأما ما ذكرته من أنك خير لي من أخي فدع عنك أبا بكر، وإياك وإياه، لا تتعرض له، واتركه ما تركك، واربح عاجل عافيته، وارج الله في السلامة من عاقبته»، فقال عبد الملك: «لا تخوفني به، فوالله إني لأعلم منه مثل ما تعلم، إن فيه ثلات لا يسود بها أبدا: عجب قد ملأه، واستغناء برأيه، وبخل التزمه.»
فلما يئس عبد الملك من مصعب رجع إلى مقره، وكتب إلى رؤساء العراقين - البصرة والكوفة - الذين هم أمراء جيش مصعب يفسدهم عليه، ويدعوهم إلى نفسه، ويوعدهم خيرا إن أطاعوه، ويهددهم شرا إن هم عصوه، وجعل لهم أموالا عامة وعهودا وشروطا، وكتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي قائد مقدمة مصعب يجعل له وحده مثل جميع ما جعل لأصحابه على أن يخلعوا عبد الله بن الزبير، فأجابه أكثرهم، وشرطوا عليه شروطا، وسألوه الولايات؛ لأن نياتهم كانت قد فسدت على ابن الزبير، حتى قيل: إن أربعين زعيما منهم سألوه ولاية أصبهان، فقال عبد الملك لمن حضره: «ويحكم ما أصبهان هذه؟!» تعجبا ممن طلبها، كل ذلك جرى ومصعب لا يتصور الغدر في أصحابه. فجاءه أحدهم وهو إبراهيم بن الأشتر فأراه كتاب عبد الملك، وأكد له أنه كاتب غيره، ونصحه أن يستوثق منهم أو يقتلهم؛ لئلا يكونوا سببا لفشله، فقال مصعب: «ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي ذلك من أمرهم»، قال إبراهيم: «فأخرى»، قال: «وما هي؟» قال: «احبسهم في السجن حتى يتبين ذلك»، فأبى مصعب، فقال إبراهيم: «عليك السلام ورحمة الله وبركاته»، وكان إبراهيم هذا قد قال لمصعب قبل ذلك: «دعني أدعو أهل الكوفة بدعوة لا يخلعونها أبدا، وهي ما شرط الله»، فقال مصعب: «لا، والله لا أفعل، لا أكون قتلتهم بالأمس وأستنصر بهم اليوم.»
وعلى إثر ذلك اشتبكوا في القتال، والتحم الجيشان، فلما حمي وطيس الحرب حول هؤلاء الرؤساء برءوسهم ومالوا إلى عبد الملك وانضموا إليه بجموعهم، ومصعب ينظر إليهم وقد ندم على عدم سماعه النصيحة من إبراهيم، ولات ساعة مندم، وبقي في شرذمة قليلة من المخلصين له. فلما غدر أهل العراق بمصعب وانجلت خيانتهم قال لابنه عيسى: «يا بني، انج بنفسك، فلعن الله أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق»، فقال عيسى: «لا خير في الحياة بعدك يا أباه»، وظل يقاتل مع أبيه قتالا شديدا حتى قتل هو وإبراهيم بن الأشتر وجماعة من أنصار مصعب، وحمل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على مصعب، فقال: «أيها الناس، أيها الأمير»، فقال مصعب: «غدركم يا أهل العراق»، فرفع عبيد الله سيفه ليضرب مصعبا فبدره مصعب بالسيف على البيضة، فنشب فيها، فجعل يقلب السيف ولا ينتزع من البيضة، فجاء غلام لعبيد الله فضرب مصعبا بالسيف فقتله، ثم حز رأسه عبيد الله وسار به إلى عبد الملك، فلما رآه سجد شكرا لله، وذلك في جمادى الآخرة سنة 72ه، ودفن مصعب في محل المعركة، ولم يكن لفشله سبب غير غدر أهل المصرين - البصرة والكوفة. (8-5) إمارة خالد
وعلى إثر ما تقدم بايع أهل العراق لعبد الملك بن مروان، فدخل الكوفة باحتفال عظيم فبايعه أهلها، ولما سكن الحال ولى على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وبعد أن دبر عبد الملك شئون البلاد العراقية جهز الحجاج بن يوسف الثقفي بجيش كبير - قيل: أرسل معه ألفا وخمسمائة من أهل الشام عدا أهل العراق - وسيره لقتال عبد الله بن الزبير بمكة ، فانتصر الحجاج، ومات ابن الزبير قتيلا في سنة 73ه وانتهت الخلافة، ولم يبق أمام عبد الملك من مناظر، وكانت مدة حكم ابن الزبير على البصرة ثمانية سنوات (64-72ه)، أما أمير البصرة الجديد خالد بن عبد الله، فإنه عزل المهلب بن أبي صفرة عن حرب الخوارج، وولاه الأهواز، وأرسل أخاه عبد العزيز بن عبد الله على حرب الخوارج، فهزموه هزيمة منكرة، فلما بلغ خالدا خبر الهزيمة كتب إلى عبد الملك يخبره بها، فكتب إليه يقول: «أما بعد؛ فقد قدم رسولك بكتابك تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال الخوارج، وبهزيمة من هزم وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب، فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج وهو الميمون النقية الحسن السياسة البصير بالحرب المقاسي لها ابنها وابن أبنائها، انظر، ينهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز، وقد بعثت إلى بشر أن يمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا لقيت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب وتستشيره فيه إن شاء الله.» فخرج خالد بجيش البصرة، وجاءه المدد من الكوفة - خمسة آلاف مقاتل - فسار حتى وصل الأهواز، ففشلت جيوشه. فلما علم بذلك عبد الملك ورآه غير ممتثل لأمره عزله، وضم البصرة إلى أخيه بشر بن مروان، وذلك في سنة 72ه، وصارت له إمارة المصرين - البصرة والكوفة، وفي أيام إمارة خالد في سنة 72ه اجتمع الزنوج بفرات البصرة ونهبوا وسلبوا ودمروا بعض القرى المجاورة للبصرة، فجمع لهم خالد جيشا فهزمهم، وقبض على جماعة منهم فقتلهم، وعلى إثر ذلك اجتمع الزنوج وأمروا عليهم رباح الملقب ب «شيرزنجي»، وساروا لقتال البصريين فحدثت بين الفريقين عدة معارك انجلت عن تمزيق الزنوج.
ولما ضم عبد الملك البصرة إلى أخيه بشر في سنة 72ه استخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وسار إلى البصرة، فورده كتاب عبد الملك يقول فيه: «أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة - الخوارج، ولينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين.» فدعا بشر المهلب، وتلا عليه كتاب عبد الملك، فلبى الأمر، وشرعا بتجهيز الجيوش، وجاءتهم نجدة من الكوفة، فسار المهلب بالجيوش حتى وصل رامهرمز وبها الخوارج، وقبل الاشتباك بالحرب جاءهم نعي بشر بن مروان من البصرة وخبر إسناد إمارة البصرة إلى خالد بن عبد الله بن أسيد، فرفض القتال كثير من أهل البصرة والكوفة، فكتب إليهم خالد يأمرهم بالعودة ويحذرهم المخالفة، فلم يجد ذلك فيهم نفعا، وذلك في سنة 73ه. وفي أيام بشر كثرت الخوارج في أطراف البصرة، وأغاروا على القرى، وخربوا عدة منها، وقتلوا ونهبوا، فجهز لهم بشر فمزق جموعهم. (8-6) إمارة الحجاج
دخلت سنة 75ه الموافقة لسنة 695م فولى عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي العراقين - البصرة والكوفة،
41
فوصل الحجاج الكوفة في اثني عشر راكبا على النجائب، وأرسل إلى البصرة الحكم بن أيوب الثقفي أميرا من قبله، وبعد أيام قليلة سار الحجاج إلى البصرة، فاستقبله الناس، فلما وصلها دخل مسجدها، وخطب خطبة تشابه خطبته بالكوفة، وبعد أن هددهم وتوعدهم قال: «إن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم - يعني الخوارج - مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذه عطاءه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه»، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون، فجاءه رجل يشكري فقال: «أيها الأمير، إن بي فتقا، وقد رآه بشر بن مروان فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال.» فلم يقبل الحجاج عذره وقتله، ففزع لذلك البصريون، خصوصا وأنهم كانوا قد حقدوا عليه، وأضمروا له الشر منذ أغلظ لهم القول في خطبته وتهددهم، فخرجوا حتى تداركوا على العارض بقنطرة رامهرمز، وخرج الحجاج حتى نزل رستقاباذ ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام الحجاج في الناس، فقال: «إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم لست أجيزها»، فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي، وقال: «إنها ليست بزيادة ابن الزبير، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، أثبتها لنا»، فكذبه الحجاج وتوعده، وذلك في أوائل شعبان سنة 75ه.
ثم وجه الحجاج المهلب لقتال الخوارج، ووجه معه البصريين والكوفيين، وظل المهلب يطارد الخوارج مدة حتى قهرهم بعد أن جرت له معهم حروب عديدة لا محل لذكرها هنا، وظل البصريون يضمرون الشر للحجاج حتى اجتمعوا سرا فبايعوا عبد الله بن الجارود بالإمارة، فخرج ابن الجارود في سنة 77ه، وتبعه وجوه البصرة، فتجهز الحجاج لقتالهم، وبعد عدة معارك خاف أصحاب ابن الجارود من أن يمد عبد الملك الحجاج بالجيوش؛ فانضمت إليه جماعة بعد أخرى، حتى انحاز أكثرهم إلى الحجاج، وظل ابن الجارود بشرذمة قليلة فانتصر الحجاج، وقتل زعيم الثورة ابن الجارود وجماعة من أصحابه، ودخل البصرة ظافرا. ثم حدثت الحروب المشهورة بين الحجاج وشبيب بالكوفة، كان النصر في آخرها للحجاج. (8-7) استيلاء ابن الأشعث على البصرة
ولما بعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث إلى سجستان لقتال الثائرين هناك جهز عشرين ألفا من البصرة ومثلهم من الكوفة، وسيرهم معه إلى سجستان. فلما صالح ابن الأشعث الثائرين عزله الحجاج، فاتفق ابن الأشعث مع رؤساء جيشه على الخروج على الحجاج، فعادوا من سجستان، فلما كانوا في فارس خلعوا عبد الملك بن مروان، وبايعوا ابن الأشعث، فسار بهم إلى العراق قاصدا قتال الحجاج ونفيه من البلاد، وبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عبد الملك يخبره ويسأله أن يوجه إليه الجنود من الشام ، فبادر عبد الملك بإرسال الجنود، والحجاج مقيم بالبصرة، وبعد قليل وصل ابن الأشعث العراق، فالتقى جيشه بجيش الحجاج في «تستر»، فانكسرت مقدمة الحجاج وجاءته الهزيمة، فرجع ونزل الزاوية، وجاءت جيوش ابن الأشعث حتى نزلت البصرة، فبايعه أهلها، وكان دخوله فيها في آخر ذي الحجة سنة 81ه.
صفحة غير معروفة