صلى الله عليه وسلم
كان أفصح العرب، فلم يكن يتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز وتعليم ذلك له من غير معلم. والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبا بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك ولا صحب من له التمييز. وقد قال لنا بدر الدين بن جماعة - وكان ممن أخذ عن ابن مالك: قلت له: يا سيدي، هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما نعلم أنه ليس من لفظ الرسول! فلم يجب بشيء. قال أبو حيان: وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة؛ لئلا يقول مبتدئ: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما، فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث. ا .ه. من «خزانة الأدب» للبغدادي.
قال الشاطبي: الحديث على قسمين: قسم اعتنى ناقلة بمعناه دون لفظه، فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان، وقسم عرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته
صلى الله عليه وسلم ؛ ككتابته لهمذان، وكتابته لوائل بن حجر، والأمثال النبوية، فهذا يصح الاستشهاد به في العربية. وتبعه السيوطي في «الاقتراح» فقال: وأما الحديث فيستدل منه بما ثبت أنه قاله - عليه الصلاة والسلام - على اللفظ المروي، وذلك نادر جدا، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها كما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ؛ ولهذا نرى الحديث الواحد مرويا على أوجه شتى بعبارات مختلفة. قال الدماميني في «شرح التسهيل»: قد أكثر المصنف من الاستدلال بالأحاديث النبوية، وشنع أبو حيان عليه، وقال: إن ما استند إليه من ذلك لا يتم له لتطرق احتمال الرواية بالمعنى، فلا يوثق بأن ذلك المحتج به لفظه - عليه الصلاة والسلام - حتى تقوم به الحجة، وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا فصوب رأي ابن مالك فيما فعله بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما توقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كاف. ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك الموكول المحتج به لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين، ومن يقل منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه؛ فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون مع قولهم بجواز النقل بالمعنى. فيغلب الظن من هذا كله أنها لم تبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحا فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها. ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم، قال «ابن الصلاح» بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى: «إن هذا الخلاف لا نراه جاريا ولا أجراه الناس - فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت فيه لفظا آخر.» ا.ه.
وتدوين الأحاديث والأخبار بل وكثير من المرويات وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين على تقدير تبديلهم يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال، ثم دون ذلك المبدل على تقدير التبديل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى كما قال ابن الصلاح، فبقي حجة في بابه ولا يضر توهم ذلك السابق في شيء من استدلالهم المتأخر، والله أعلم بالصواب. ا.ه. كلام الدماميني من «خزانة الأدب».
الفصل السادس
في بعض ما اشتهر من كتب اللغة
(1) مرجع التأليف في اللغة
قبل الخوض في بيان بعض الكتب المصنفة في اللغة، نذكر ما جاء في «كشف الظنون»، وهو بنصه:
إن مقصد علم اللغة مبني على أسلوبين؛ لأن منهم من يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى بأن يسمع لفظا ويطلب معناه، ومنهم من يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ. فلكل من الطريقين قد وضعوا كتبا ليصل كل إلى مبتغاه إذ لا ينفعه ما وضع في الباب الآخر؛ فمن وضع بالاعتبار الأول فطريقته ترتيب حروف التهجي، أما باعتبار أواخرها أبوابا وأوائلها فصولا تسهيلا للظفر بالمقصود كما اختاره الجوهري في «الصحاح»، ومجد الدين في «القاموس»، وأما بالعكس؛ أي باعتبار أوائلها أبوابا وأواخرها فصولا كما اختاره ابن فارس في «المجمل» والمطرزي في «المغرب»، ومن وضع بالاعتبار الثاني فالطريق إليه أن يجمع الأجناس بحسب المعاني، ويجعل لكل جنس بابا كما اختاره الزمخشري في قسم الأسماء من مقدمة الأدب. ثم إن اختلاف الهمم قد أوجب إحداث طرق شتى، فمن واحد أدى رأيه إلى أن يفرد لغات القرآن، ومن آخر إلى أن يفرد غريب الحديث، وآخر إلى أن يفرد لغات الفقه، كالمطرزي في «المغرب»، وأن يفرد اللغات الواقعة في أشعار العرب وقصائدهم وما يجري مجراها كنظام الغريب، والمقصود هو الإرشاد عند مساس أنواع الحاجات. ا.ه. (2) كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي ومختصره للزبيدي الإشبيلي
صفحة غير معروفة